الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال - الصفحة 2 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         كتاب(السبت والجمعة في اليهودية والإسلام) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 188 )           »          جارة أمّ عقبة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 134 )           »          (مالكم لا ترجون لله وقارا) من أعظم التوقير إحسان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 63 )           »          يا ليتني مت قبل هذا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 108 )           »          صلاة الضحى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 73 )           »          أربع ركعات قبل العصر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 72 )           »          العقيقة التي تقام لأطفال زادت أعمارهم عن السنتين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 205 )           »          الحوار السلبي بين الزوجين .. ألوانه ومؤشراته (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 333 )           »          النفس في القرآن الكريم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 314 )           »          أثر المرأة في حياتي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 404 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العام > ملتقى الحوارات والنقاشات العامة
التسجيل التعليمـــات التقويم اجعل كافة الأقسام مقروءة

ملتقى الحوارات والنقاشات العامة قسم يتناول النقاشات العامة الهادفة والبناءة ويعالج المشاكل الشبابية الأسرية والزوجية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #11  
قديم 24-03-2024, 01:18 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 141,019
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (11)




قصة بناء الكعبة (9)
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
قوله -تعالى-: (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا ‌بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ . وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (البقرة:125-126).
قال الإمام ابن كثير -رحمه الله-: "وقال ابن جرير -رحمه الله-: فمعنى الآية: وأمرنا إبراهيم وإسماعيل بتطهير بيتي للطائفين. والتطهير الذي أمرهما الله به في البيت هو تطهيره مِن الأصنام، وعبادة الأوثان فيه، ومِن الشرك". ثم أورد سؤالًا فقال: فإن قيل: فهل كان قبل بناء إبراهيم عند البيت شيء من ذلك الذي أمر بتطهيره منه؟ وأجاب بوجهين: أحدهما: أنه أمرهما بتطهيره مما كان يعبد عنده زمان قوم نوح من الأصنام والأوثان ليكون ذلك سنة لمن بعدهما؛ إذ كان الله -تعالى- قد جعل إبراهيم إمامًا يُقتدَى به كما قال عبد الرحمن بن زيد: (أَنْ طَهِّرَا ‌بَيْتِيَ) قال: مِن الأصنام التي يعبدون، التي كان المشركون يعظمونها.
قلتُ: -أي: ابن كثير-: "وهذا الجواب مفرَّع على أنه كان يعبد عنده أصنام قبل إبراهيم -عليه السلام-، ويحتاج إثبات هذا إلى دليل عن المعصوم محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-.
الجواب الثاني: أنه أمرهما أن يخلصا في بنائه لله وحده لا شريك له، فيبنياه مطهرًا من الشرك والريب، كما قال -جل ثناؤه-: (‌أَفَمَنْ ‌أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ) (التوبة:109)، قال: فكذلك قوله: (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا ‌بَيْتِيَ) أي: ابنيا بيتي على طُهرٍ مِن الشرك بي والريب، كما قال السدي: (أَنْ طَهِّرَا ‌بَيْتِيَ): ابنيا بيتي للطائفين.
وملخص هذا الجواب: أن الله -تعالى- أمرَ إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام-، أن يبنيا الكعبة على اسمه وحده لا شريك له للطائفين به، والعاكفين عنده، والمصلين إليه مِن الركع السجود، كما قال -تعالى-: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ ‌مَكَانَ ‌الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (الحج:26)، الآيات.
(قلتُ: وهذا الجواب الثاني أظهر؛ لعدم صحة دليل على عبادة الأوثان عند الكعبة، وإنما أُمِرَ أن يطهِّره مِن الشرك الذي كان موجودًا في الأرض، ولا يلزم أن يكون عند الكعبة -عند موضعها-).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "وقد اختلف الفقهاء: أيهما أفضل: الصلاة عند البيت أو الطواف؟ فقال مالك -رحمه الله-: الطواف به لأهل الأمصار أفضل مِن الصلاة عنده، وقال الجمهور: الصلاة أفضل مطلقًا.
(قلتُ: الأظهر أن الغُرَبَاء يكثِرون من الطواف والصلاة معًا؛ لأن الله جمعَ بين العبادات كلها بالواو، فتقتضي مطلق الجمع، والطواف بالبيت صلاة كما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلا يخلو الزائر مِن الطواف والصلاة؛ قائمًا وراكعًا وساجدًا).
والمراد مِن ذلك: الرد على المشركين الذين كانوا يشركون بالله عند بيته، المؤسَّس على عبادته وحده لا شريك له، ثم مع ذلك يصدُّون أهله المؤمنين عنه، كما قال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ ‌وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) (الحج:25).
ثم ذكر أن البيت إنما أُسس لمَن يعبد الله وحده لا شريك له؛ إما بطواف أو صلاة، فذكر في سورة الحج أجزاءها الثلاثة: قيامها، وركوعها، وسجودها، ولم يذكر العاكفين؛ لأنه تقدَّم (سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ ‌وَالْبَادِ)، وفي هذه الآية الكريمة: ذكر الطائفين والعاكفين، واكتفي بذكر الركوع والسجود عن القيام؛ لأنه قد عُلِم أنه لا يكون ركوع ولا سجود إلا بعد قيام. وفي ذلك أيضًا رَدٌّ على مَن لا يَحُجُّهُ من أهل الكتابين: اليهود والنصارى؛ لأنهم يعتقدون فضيلة إبراهيم الخليل وعظمته، ويعلمون أنه بنى هذا البيت للطواف في الحج والعمرة وغير ذلك، وللاعتكاف والصلاة عنده وهم لا يفعلون شيئًا مِن ذلك؛ فكيف يكونون مقتدين بالخليل، وهم لا يفعلون ما شرع الله له؟ وقد حج البيتَ موسى بن عمران وغيره من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، كما أخبر بذلك المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
(قلتُ: وقد ثَبَت بالنص حج يونس بن متى، وثبت في صحيح مسلم وغيره قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (والَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ، لَيُهِلَّنَّ ابنُ مَرْيَمَ بفَجِّ الرَّوْحاءِ، حاجًّا، أَوْ مُعْتَمِرًا، أَوْ لَيَثْنِيَنَّهُما) (رواه مسلم)، فمَن لم يحج بيت الله الحرام؛ فليس مِن إبراهيم، ولا إبراهيم منه، والأنبياء جميعًا من بعده امتثلوا أمر الله -سبحانه وتعالى- بالحج ما أمكنهم ذلك).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "وتقدير الكلام إذًا: (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ) أي: تقدمنا لوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل، (أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) أي: طهراه من الشرك والريب، وابنياه خالصًا لله، معقلًا للطائفين والعاكفين والركع السجود. وتطهير المساجد مأخوذ من هذه الآية، ومن قوله -تعالى-: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ) (النور:36)، الآية.
ومِن السُّنَّة مِن أحاديث كثيرة، مِن الأمر بتطهيرها وتطييبها وغير ذلك مِن صيانتها مِن الأذى والنجاسات وما أشبه ذلك؛ ولهذا قال -عليه الصلاة السلام-: (إِنَّمَا بُنِيَتِ الْمَسَاجِدُ لِمَا بُنِيَتْ لَهُ) (رواه مسلم).
(قلتُ: ومن ذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم- للأعرابي الذي بال في المسجد: إن المساجد لا يصلح فيها شيء من هذا القذر، إنما هي للصلاة، ولذكر الله، وتلاوة القرآن، وهو ثابت في الصحيح، فيجب تطهير المسجد الحرام وجميع المساجد مِن الرجس المعنوي بالشرك، وتكذيب الأنبياء، وتكذيب كتب الله ورسله، ومِن الشرك الحسي مِن القذارات والنجاسات، ما ينفِّر الناس عن العبادة فيها).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "وقد اختلف الناس في أول مَن بَنَى الكعبة، فقيل: الملائكة قبل آدم. وروي نحوه عن ابن عباس، وكعب الأحبار، وقتادة، وعن وهب بن منبه: أن أول مَن بناه شيث -عليه السلام-، وغالب مَن يذكر هذا إنما يأخذه مِن كتب أهل الكتاب، وهي مما لا يصدق ولا يكذب، ولا يعتمد عليها بمجردها، وأما إذا صح حديث في ذلك؛ فعلى الرأس والعين" (انتهى باختصارٍ مِن ابن كثير).
وقد أحسن -رحمه الله- في ردِّ هذه الآثار، والذي عندنا أن مكان البيت مُحَرَّمٌ منذ خَلَقَ الله السموات والأرض؛ للأحاديث الثابتة في ذلك، وأظهر الله -عز وجل- التحريم على لسان إبراهيم هو الذي رفع القواعد من البيت، فهناك قواعد موجودة ثابتة لما بَنَى عبد الله بن الزبير الكعبة وَصَلَ في الحفر إلى صخور كأسنان الإبل متصلة بعضها ببعض ممتدة تحت مكان الكعبة الحالية، وبإضافة عدة أذرع من الحجر كما وصف النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولما حاولوا كسرها أو إزالتها ارتجَّ عليهم المكان فبنوا عليها الكعبة كما أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بزيادة عدة أذرع من الحجر فيها، لكن هدم الحجاج بعد قتل ابن الزبير ما بناه وردها الي المساحة التي كانت عليها أيام النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد تمنى عبد الملك ابن مروان لما بلغه الحديث عن عائشة -رضى الله عنها- أن يكون قد ترك ابن الزبير وما تولاه، لكن قدَّر الله وما شاء فعل. والله أعلى وأعلم.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #12  
قديم 24-03-2024, 01:19 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 141,019
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (12)




قصة بناء الكعبة (10)
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقوله -سبحانه وتعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (البقرة:126).
قال الإمام ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره: "رَوَى الإمام أبو جعفر بسنده عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّم بَيْتَ اللَّهِ وأمَّنَه وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا فَلَا يُصَادُ صَيْدُهَا وَلَا يُقْطَعُ عِضَاهُهَا) (رواه مسلم).
وروى ابن جرير -أيضًا- عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ عَبْدَ اللَّهِ وَخَلِيلَهُ وَإِنِّي عبدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّم مَكَّةَ وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا، عِضَاهَها وصَيْدَها، لَا يُحْمَلُ فِيهَا سِلَاحٌ لِقِتَالٍ، وَلَا يُقْطَعُ مِنْهَا شَجَرَةً إِلَّا لِعَلَفِ بَعِيرٍ". و(لَابَتَيْهَا): الحجارة السُّود على طرفي المدينة، "العِضَاه": شجر البادية.
وهذه الطريق غريبة، ليست في شيء من الكتب الستة، وأصل الحديث في صحيح مسلم، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "كانَ النّاسُ إذا رَأَوْا أَوَّلَ الثَّمَرِ جاؤُوا به إلى النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَإِذا أَخَذَهُ رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، قالَ: (اللَّهُمَّ بارِكْ لَنا في ثَمَرِنا، وَبارِكْ لَنا في مَدِينَتِنا، وَبارِكْ لَنا في صاعِنا، وَبارِكْ لَنا في مُدِّنا، اللَّهُمَّ إنَّ إبْراهِيمَ عَبْدُكَ وَخَلِيلُكَ وَنَبِيُّكَ، وإنِّي عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ، وإنَّه دَعاكَ لِمَكَّةَ، وإنِّي أَدْعُوكَ لِلْمَدِينَةِ بمِثْلِ ما دَعاكَ لِمَكَّةَ، وَمِثْلِهِ معهُ، قالَ: ثُمَّ يَدْعُو أَصْغَرَ وَلِيدٍ له فيُعْطِيهِ ذلكَ الثَّمَرَ). وفي لفظ لمسلم: (بَرَكَةً مع بَرَكَةٍ، ثُمَّ يُعْطِيهِ أَصْغَرَ مَن يَحْضُرُهُ مِنَ الوِلْدانِ).
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأبي طلحة: (اِلْتَمِسْ لي غُلامًا مِن غِلْمانِكُمْ يَخْدُمُنِي) فَخَرَجَ بي أَبُو طَلْحَةَ يُرْدِفُنِي وَراءَهُ، فَكُنْتُ أَخْدُمُ رَسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- كُلَّما نَزَلَ. وَقالَ في الحَديثِ: ثُمَّ أَقْبَلَ حتّى إذا بَدا له أُحُدٌ، قالَ: هذا جَبَلٌ يُحِبُّنا وَنُحِبُّهُ، فَلَمّا أَشْرَفَ على المَدِينَةِ، قالَ: (اللَّهُمَّ إنِّي أُحَرِّمُ ما بيْنَ جَبَلَيْها مِثْلَ ما حَرَّمَ به إبْراهِيمُ مَكَّةَ، اللَّهُمَّ بارِكْ لهمْ في مُدِّهِمْ وَصاعِهِمْ). وفي لفظ لهما: (اللَّهُمَّ بارِكْ لهمْ في مِكْيالِهِمْ، وبارِكْ لهمْ في صاعِهِمْ، ومُدِّهِمْ)، زاد البخاري: (يَعْنِي أهْلَ المَدِينَةِ).
ولهما -أيضًا- عن أنس: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (اللهمَّ اجْعَلْ بالمدِينَةِ ضِعْفَي ما جعَلْتَ بِمَكَّةَ مِنَ البَرَكةِ)".
ثم قال: "والأحاديث في تحريم المدينة كثيرة، وإنما أوردنا منها ما هو متعلق بتحريم إبراهيم -عليه السلام- لمكة؛ لما في ذلك من مطابقة الآية الكريمة، وتمسك بها مَن ذهب إلى أن تحريم مكة إنما كان على لسان إبراهيم الخليل. وقيل: إنها محرمة منذ خُلقت مع الأرض. وهذا أظهر وأقوى، والله أعلم.
وقد وردت أحاديث أخرى تدل على أن الله -تعالى- حرَّم مكة قبل خلق السماوات والأرض، كما جاء في الصحيحين، عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم فتح مكة: (إنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمه اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَإِنَّهُ لَمْ يحِل الْقِتَالُ فِيهِ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَمْ يَحِلَّ لِي إِلَّا ساعة من نهار، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. لَا يُعْضَد شَوْكُهُ وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلَا تُلْتَقَط لُقَطَتُه إِلَّا مَنْ عرَّفها، وَلَا يُخْتَلَى خَلاهَا، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رسول الله، إلا الإذْخَر فإنه لقَينهم ولبيوتهم. فَقَالَ: إِلَّا الْإِذْخِرَ) (وهذا لفظ مسلم).
(قُلْتُ: والحديث يدل على أن تحريم مكة يوم خلق الله السماوات والأرض، وليس كما ذكر ابن كثير قبل خلق السموات والأرض. وقوله: (لَا يُعْضَد شَوْكُهُ) يعني: لا يُنزع شجر الشوك ولا يقطع. (وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ) يعني: لا يُهيَّج؛ فضلًا عن صيده، (وَلَا تُلْتَقَط لُقَطَتُه إِلَّا مَنْ عرَّفها) أي: إلى الأبد لا إلى سنة، (لَا يُخْتَلَى خَلاهَا) أي: لا يقطع حشيشها إلا الإذخر).
وروى البخارى مُعلقًا، وابن ماجة متصلًا عن صفية بنت شيبة، قالت: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَخْطُبُ عَامَ الْفَتْحِ، فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّ اللهَ حرَّم مكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السماواتِ وَالْأَرْضَ، فَهِيَ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُها، وَلَا يَأْخُذُ لُقَطَتَها إِلَّا مُنْشِد) فَقَالَ الْعَبَّاسُ: إِلَّا الْإِذْخِرَ؛ فَإِنَّهُ لِلْبُيُوتِ وَالْقُبُورِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (إِلَّا الإذْخَر).
وعن أبي شريح العدوي أنه قال لعمرو بن سعيد -وهو يبعث البعوث إلى مكة- (يعني: الجيوش لقتال ابن الزبير): ائذن لي أيها الأمير أن أحدثك قولًا قال به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الغد من يوم الفتح، سَمِعَتْه أذناي ووعاه قلبي، وأبصَرَتْه عيناي حين تكلَّم به، إنه حَمِد الله وأثنى عليه، ثم قال: "إِنَّ مَكَّةَ حرَّمها اللهُ ولم يُحرِّمْها النَّاسُ، فلا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بها دمًا، ولا يَعْضِدُ بها شجرةً، فإن أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقُولُوا: إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ -صلى الله عليه وسلم- وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ. وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ، فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهدُ الغَائِبَ". فقيل لأبي شُرَيح: ما قال لك عمرو؟ قال: أنا أعلم بذلك منك يَا أَبَا شُرَيْحٍ، إِنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا، وَلَا فَارًّا بِدَمٍ، وَلَا فَارًّا بخَرَبَة. رواه البخاري ومسلم، وهذا لفظه".
(قلتُ: وكلام عمرو بن سعيد لأبي شريح -رضي الله عنه- يدل على قلة تعظيمه للحديث، ثم للصحابة -رضي الله تعالى عنهم- ولحرمة بلد الله الحرام! فإنما يُعاقب مَن آوى إلى مكة مرتكبًا جُرمًا خارجها، بأن يُلجَأ إلى الخروج، فإذا خرج أُخذ وعُوقب بعقوبته الشرعية، وأما مَن ارتكب بها جُرمًا؛ فهو الذي لم يُراعِ حرمة الحرم؛ فيُعاقب فيها).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "فإذا عُلِم هذا؛ فلا منافاة بين هذه الأحاديث الدَّالة على أن الله حرَّم مكة يوم خلق السماوات والأرض، وبين الأحاديث الدَّالة على أن إبراهيم -عليه السلام- حرمها؛ لأن إبراهيم بلَّغ عن الله حكمه فيها وتحريمه إيَّاها، وأنها لم تزل بلدًا حرامًا عند الله قبل بناء إبراهيم -عليه السلام- لها، كما أنه قد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكتوبًا عند الله خاتم النبيين، وإن آدم لَمُجَنْدَلٌ في طِينَتِه، ومع هذا قال إبراهيم -عليه السلام-: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ) (البقرة:129)، وقد أجاب الله دعاءه بما سبق في علمه وقدره؛ ولهذا جاء في الحديث أنهم قالوا: يا رسول الله، يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنَا عَنْ بَدْءِ أَمْرِكَ. فَقَالَ: (دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبُشْرَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَرَأَتْ أُمِّي كَأَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نور أضاءت لَهُ قُصُورُ الشَّامِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).
أَيْ: أخْبِرْنا عَنْ بَدْءِ ظُهُورِ أَمْرِكَ.
وأما مسألة تفضيل مكة على المدينة، كما هو قول الجمهور، أو المدينة على مكة، كما هو مذهب مالك وأتباعه؛ فيذكر في موضع آخر بأدلتها" (انتهى من تفسير ابن كثير -رحمه الله-).
قلتُ: الصحيح تفضيل مكة؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ، إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ صَلَاةٍ فِي هَذَا) (رواه أحمد وابن حبان، وصححه الألباني)، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لمكة يوم أن خرج منها: (وَاللَّهِ إِنَّكِ، لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَيَّ، وَاللَّهِ لَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ، مَا خَرَجْتُ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني). والله أعلم.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #13  
قديم 25-03-2024, 12:01 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 141,019
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (13)




قصة بناء الكعبة (11)
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
قال الله -عز وجل-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ . وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة:126-128).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "وقوله -تعالى- إخبارًا عن الخليل أنه قال: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا) أي: من الخوف، لا يَرْعَب أهلَه، وقد فعل الله ذلك شرعًا وقدرًا".
(قلتُ: أمَّا شرعًا: فمعلوم تحريم مكة بالأدلة المستفيضة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبيان أن ذلك كان مِن تحريم إبراهيم لها، وهو الذي تناقله أبناؤه وذريته إلى زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى زمننا هذا، إلى يوم القيامة.
وأما قدرًا: فالأغلب الأعم فيما وقع في مكة أنها تكون آمنة؛ إلا استثناءً يسيرًا لا يقدح في هذه القاعدة؛ كزمن القتال بين الحجاج وعبد الله بن الزبير، وقد ضَرَبَ الحجاجُ مكة بالمنجنيق، ووقع شيء من حجارته داخل المسجد، بل واحترق البيت حتى بناه عبد الله بن الزبير -رضي الله عنه- على قواعد إبراهيم، وانتهى الأمر بمقتل عبد الله بن الزبير -رضي الله عنه- عند ‌الحَجُونِ بمكة مظلومًا -رضي الله تعالى عنه وغفر له-. وكزمن القرامطة الذين اقتلعوا الحجر الأسود وقتلوا الحجيج، وكزمن الواقعة التي وقعت في زمننا في عام 1400 من الهجرة المعروفة بواقعة جُهَيْمَان، التي وقع فيها اقتتال داخل المسجد، وقُتل مَن قُتل داخله وحوله.
فهذه الوقائع المعدودة وقعت عبر الزمان كله، لا تقدح في القاعدة أنه قد جعله الله -عز وجل- بلدًا آمنًا لا يرعب أهله. وكالساعة -أيضًا- التي أُحِلَّت فيها لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ ولكنها لا تنافي حرمته؛ لأنها شُرِع فيها القتال فيه كما وَصَفَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أنها أُحِلَّت له ساعة من نهار.
ويجب على المسلمين من كلِّ الأجناس والقوميات والبلدان تعظيم حرمة مكة وعدم التعرض لأهلها أو لمقيم فيها بنوعٍ من الأذى؛ وإلَا فالله -عز وجل- يذقه مِن عذابٍ أليمٍ).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "كقوله -تعالى-: (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) (آل عمران:97)، وقوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) (العنكبوت:67)، إلى غير ذلك من الآيات. وقد تقدمت الأحاديث في تحريم القتال فيها. وفي صحيح مسلم عن جابر: سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْمِلَ بِمَكَّةَ السِّلَاحَ)".
(قلتُ: وهذا يدل على ضلال الجماعة الذين قاموا بأحداث الحرم عام 1400هـ؛ لأنهم حملوا السلاح بمكة وخزَّنوه في الحَرَم -ولا حول ولا قوة إلا بالله-، ثم استعملوه في قتل مَن دخل عليهم يريد إخراجهم من الحرم، الذي اعتصموا به وظلُّوا يقتلون الناس حوله. ولا حول ولا قوة إلا بالله).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "وقال في هذه السورة: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا) أي: اجعل هذه البقعة بلدًا آمنًا، وناسَب هذا؛ لأنه قبل بناء الكعبة. وقال -تعالى- في سورة إبراهيم: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا) (إبراهيم:35)، وناسب هذا هناك؛ لأنه -والله أعلم- كأنه وقع دعاءً مرةً ثانيةً بعد بناء البيت واستقرار أهله به، وبعد مولد إسحاق الذي هو أصغر سنًا من إسماعيل بثلاث عشرة سنة؛ ولهذا قال في آخر الدعاء: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ) (إبراهيم:39).
وقوله -تعالى-: (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ): قال أُبي بن كعب في قوله: (قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ): هو قول الله -تعالى-. وهذا قول مجاهد وعكرمة، وهو الذي صوَّبه ابن جرير.
قال: وقرأ آخرون: (قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)، فجعلوا ذلك مِن تمام دعاء إبراهيم، كما رواه أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية قال: كان ابن عباس يقول: ذلك قول إبراهيم؛ يسأل ربه أن مَن كفر فَأَمْتِعُهُ قليلًا. وعن مجاهد: "ومَن كفر فَأَمْتِعُهُ قليلًا" يقول: ومَن كفر فارزقه رزقًا قليلًا أيضًا، ثم اضْطَرُّهُ إلى عذاب النار، وبئس المصير.
وقال محمد بن إسحاق: لما عَنَّ لإبراهيم الدعوة على مَن أبى الله أن يجعل له الولاية انقطاعًا إلى الله ومحبته، وفراقًا لمَن خالف أمره، وإن كانوا من ذريته، حين عرف أنه كائن منهم ظالم لا يناله عهده، بخبر الله له بذلك قال الله: (ومَنْ كَفَرَ) فإني أرزق البر والفاجر، وأُمَتِّعُهُ قليلًا.
وعن ابن عباس في قوله -تعالى-: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) قال: كان إبراهيم يحجرها على المؤمنين دون الناس، فأنزل الله: (ومَنْ كَفَرَ) أيضًا أرزقهم كما أرزق المؤمنين، أأخلق خلقًا لا أرزقهم؟! أمتعهم قليلًا، ثم أَضْطَرُّهم إلى عذاب النار وبئس المصير، ثم قرأ ابن عباس: (كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا) (الإسراء:20)، رواه ابن مردويه. وروي عن عكرمة ومجاهد نحو ذلك أيضًا.
وهذا كقوله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ . مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ) (يونس:69- 70)، وقوله -تعالى-: (وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ . نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ) (لقمان:23-24)، وقوله -تعالى-: (وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ . وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ . وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) (الزخرف:33- 35).
(قلتُ: فينبغي لكل عاقلٍ أن يتدبَّر هذه الآيات، وما تضمنته من المعاني العظيمة، فإن الله يعطي الدنيا لمَن أحبَّ ولمَن كره، ولكنه لا يعطي الدِّين إلا لمَن أحبَّه، فمَن أعطاه الله الدين فقد أحبَّه؛ فلا يغترن بتقلب الذين كفروا في البلاد، وما أعطاهم الله من كثرة المال، وكثرة أنواع النعيم والرخاء والتقدُّم في علوم الدنيا؛ فإنهم كما وصفهم الله لا يعلمون (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) (الروم:7)، وإن انكسار المسلمين أمام الأفكار الغربية؛ لأنهم أهل رزق واسع في دنياهم، وتقدُّم دنيوي؛ مِن أعظم الأمور خطرًا على المسلمين؛ فليحذر المسلمون مِن أن يتبعوا خطواتهم، فإنما هي طيباتهم عُجَّلت لهم في الحياة الدنيا، ثم يوم القيامة يضطرهم الله إلى عذاب جهنم وبئس المصير).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "وقوله: (ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي: ثم أُلْجِئُه بعد متاعه في الدنيا وبَسْطِنا عليه من ظلِّها إلى عذاب النار وبئس المصير. ومعناه: أن الله -تعالى- يُنْظِرُهم ويمهلهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، كقوله -تعالى-: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) (الحج:48)، وفي الصحيحين: (لَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ؛ إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا، وَهُوَ يَرْزُقُهُمْ وَيُعَافِيهِمْ)، وفي الصحيح أيضًا: (إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ) ثم قرأ قوله -تعالى-: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (هود:102).
وقرأ بعضهم: (قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا) الآية، جعله مِن تمام دعاء إبراهيم، وهي قراءة شاذة مخالفة للقراء السبعة، وتركيب السياق يأبى معناها، والله أعلم؛ فإن الضمير في (قَالَ) راجع إلى الله -تعالى- في قراءة الجمهور، والسياق يقتضيه، وعلى هذه القراءة الشاذة يكون الضمير في (قَالَ) عائدًا على إبراهيم، وهذا خلاف نظم الكلام، والله -سبحانه- هو العلَّام.
وأما قوله -تعالى-: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)، فالقواعد: جمع قاعدة، وهي السارية والأساس، يقول -تعالى-: واذكر يا محمد لقومك بناء إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- البيت، ورفعهما القواعد منه، وهما يقولان: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
وحكى القرطبي وغيره عن أُبَي وعن ابن مسعود أنهما كانا يقرآن: "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ويقولان ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم". قلتُ: ويدل على هذا قولهما بعده: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ)، فهما في عملٍ صالحٍ، وهما يسألان الله -تعالى- أن يتقبل منهما".
(قلتُ: قراءة أُبَي وابن مسعود كأنها قراءة تفسيرية، أو أنها كانت قراءة نُسِخَت تلاوتها. والله أعلى وأعلم).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "روى ابن أبي حاتم عن وُهَيْب بن الوَرْد: أنه قرأ: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا) ثم يبكي، ويقول: يا خليل الرحمن، ترفع قوائم بيت الرحمن وأنت مشفق أن لا يُتَقَبَّل منك!
وهذا كما حكى الله -تعالى- عن حال المؤمنين الخُلَّص في قوله -تعالى-: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا) أي: يعطون ما أعطوا من الصدقات والنفقات والقُرُبَات (وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) (المؤمنون:60)، أي: خائفة أن لا يتقبل منهم، كما جاء به الحديث الصحيح عن عائشة، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وقال بعض المفسرين: الذي كان يرفع القواعد هو إبراهيم، والداعي إسماعيل. والصحيح أنهما كانا يرفعان ويقولان، كما سيأتي بيانه" (انتهى من تفسير ابن كثير -رحمه الله-).
(قلتُ: وهذه الآية دليل على أن هناك قواعد أسفل البيت رفع إبراهيم وإسماعيل البيت عليها، ورفعا هذه القواعد حتى ظهرت على سطح الأرض؛ أي: بَنَيَا على هذه القواعد حتى ارتفع البناء وظهر على سطح الأرض، وقد سبق أن ذكرنا أن عبدَ الله بن الزبير لما بنى الكعبة وَصَل إلى حجارة مُسنَّمَة أسفل الكعبة على وَفْق ما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- من زيادة البيت على ما بَنَتْه قريش في زمنِ الرسول -صلى الله عليه وسلم- قبل بعثته، وأنه أوسع مِن الحالي بخمسة أذرع من الحِجْر؛ فهذه التي بَنَى عليها إبراهيم -والله أعلم- البيت، ورفع هذه القواعد فلم تعد مدفونة في الأرض؛ بل صارت على سطح الأرض).
نسأل الله -عز وجل- أن ييسر للمسلمين على الدوام حج بيت الله الحرام، والاعتمار إليه في كل زمان.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #14  
قديم 25-03-2024, 12:02 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 141,019
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (14)




قصة بناء الكعبة (12)
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقوله -تعالى-: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (البقرة:127).
روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: أَوَّلَ ما اتَّخَذَ النِّسَاءُ المِنْطَقَ مِن قِبَلِ أُمِّ إسْمَاعِيلَ؛ اتَّخَذَتْ مِنْطَقًا لِتُعَفِّيَ أَثَرَهَا علَى سَارَةَ، ثُمَّ جَاءَ بهَا إبْرَاهِيمُ وبِابْنِهَا إسْمَاعِيلَ وهي تُرْضِعُهُ، حتَّى وضَعَهُما عِنْدَ البَيْتِ عِنْدَ دَوْحَةٍ فَوْقَ زَمْزَمَ في أَعْلَى المَسْجِدِ، وليسَ بمَكَّةَ يَومَئذٍ أَحَدٌ، وليسَ بهَا مَاءٌ، فَوَضَعَهُما هُنَالِكَ، ووَضَعَ عِنْدَهُما جِرَابًا فيه تَمْرٌ، وسِقَاءً فيه مَاءٌ، ثُمَّ قَفَّى إبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا، فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إسْمَاعِيلَ فَقالَتْ: يا إبْرَاهِيمُ، أَيْنَ تَذْهَبُ وتَتْرُكُنَا بهذا الوَادِي الَّذي ليسَ فِيهِ إنْسٌ ولَا شَيءٌ؟ فَقالَتْ له ذلكَ مِرَارًا، وجَعَلَ لا يَلْتَفِتُ إلَيْهَا، فَقالَتْ له: آللَّهُ الَّذي أَمَرَكَ بهذا؟ قالَ: نَعَمْ، قالَتْ: إذَنْ لا يُضَيِّعُنَا، ثُمَّ رَجَعَتْ، فَانْطَلَقَ إبْرَاهِيمُ حتَّى إذَا كانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لا يَرَوْنَهُ، اسْتَقْبَلَ بوَجْهِهِ البَيْتَ، ثُمَّ دَعَا بهَؤُلَاءِ الكَلِمَاتِ، ورَفَعَ يَدَيْهِ فَقالَ: (رَبِّ إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) حتَّى بَلَغَ: (يَشْكُرُونَ) (إبراهيم:??)، وجَعَلَتْ أُمُّ إسْمَاعِيلَ تُرْضِعُ إسْمَاعِيلَ وتَشْرَبُ مِن ذلكَ المَاءِ، حتَّى إذَا نَفِدَ ما في السِّقَاءِ عَطِشَتْ وعَطِشَ ابنُهَا، وجَعَلَتْ تَنْظُرُ إلَيْهِ يَتَلَوَّى -أَوْ قالَ: يَتَلَبَّطُ- فَانْطَلَقَتْ كَرَاهيةَ أَنْ تَنْظُرَ إلَيْهِ، فَوَجَدَتِ الصَّفَا أَقْرَبَ جَبَلٍ في الأرْضِ يَلِيهَا، فَقَامَتْ عليه، ثُمَّ اسْتَقْبَلَتِ الوَادِيَ تَنْظُرُ: هلْ تَرَى أَحَدًا؟ فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَهَبَطَتْ مِنَ الصَّفَا حتَّى إذَا بَلَغَتِ الوَادِيَ رَفَعَتْ طَرَفَ دِرْعِهَا، ثُمَّ سَعَتْ سَعْيَ الإنْسَانِ المَجْهُودِ حتَّى جَاوَزَتِ الوَادِيَ، ثُمَّ أَتَتِ المَرْوَةَ فَقَامَتْ عَلَيْهَا ونَظَرَتْ: هلْ تَرَى أَحَدًا؟ فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَفَعَلَتْ ذلكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ -قالَ ابنُ عَبَّاسٍ: قالَ النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: (فَذلكَ سَعْيُ النَّاسِ بيْنَهُما)-، فَلَمَّا أَشْرَفَتْ علَى المَرْوَةِ سَمِعَتْ صَوْتًا، فَقالَتْ: صَهٍ -تُرِيدُ نَفْسَهَا-، ثُمَّ تَسَمَّعَتْ، فَسَمِعَتْ أَيْضًا، فَقالَتْ: قدْ أَسْمَعْتَ إنْ كانَ عِنْدَكَ غِوَاثٌ، فَإِذَا هي بالمَلَكِ عِنْدَ مَوْضِعِ زَمْزَمَ، فَبَحَثَ بعَقِبِهِ -أَوْ قالَ: بجَنَاحِهِ- حتَّى ظَهَرَ المَاءُ، فَجَعَلَتْ تُحَوِّضُهُ وتَقُولُ بيَدِهَا هَكَذَا، وجَعَلَتْ تَغْرِفُ مِنَ المَاءِ في سِقَائِهَا وهو يَفُورُ بَعْدَ ما تَغْرِفُ. قالَ ابنُ عَبَّاسٍ: قالَ النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: (يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ إسْمَاعِيلَ، لو تَرَكَتْ زَمْزَمَ -أَوْ قالَ: لو لَمْ تَغْرِفْ مِنَ المَاءِ- لَكَانَتْ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا).
قالَ: فَشَرِبَتْ وأَرْضَعَتْ ولَدَهَا، فَقالَ لَهَا المَلَكُ: لا تَخَافُوا الضَّيْعَةَ؛ فإنَّ هَاهُنَا بَيْتَ اللَّهِ، يَبْنِي هذا الغُلَامُ وأَبُوهُ، وإنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَهْلَهُ، وكانَ البَيْتُ مُرْتَفِعًا مِنَ الأرْضِ كَالرَّابِيَةِ، تَأْتِيهِ السُّيُولُ، فَتَأْخُذُ عن يَمِينِهِ وشِمَالِهِ، فَكَانَتْ كَذلكَ حتَّى مَرَّتْ بهِمْ رُفْقَةٌ مِن جُرْهُمَ -أَوْ أَهْلُ بَيْتٍ مِن جُرْهُمَ- مُقْبِلِينَ مِن طَرِيقِ كَدَاءٍ، فَنَزَلُوا في أَسْفَلِ مَكَّةَ، فَرَأَوْا طَائِرًا عَائِفًا، فَقالوا: إنَّ هذا الطَّائِرَ لَيَدُورُ علَى مَاءٍ، لَعَهْدُنَا بهذا الوَادِي وما فيه مَاءٌ، فأرْسَلُوا جَرِيًّا أَوْ جَرِيَّيْنِ فَإِذَا هُمْ بالمَاءِ، فَرَجَعُوا فأخْبَرُوهُمْ بالمَاءِ، فأقْبَلُوا، قالَ: وأُمُّ إسْمَاعِيلَ عِنْدَ المَاءِ، فَقالوا: أَتَأْذَنِينَ لَنَا أَنْ نَنْزِلَ عِنْدَكِ؟ فَقالَتْ: نَعَمْ، ولَكِنْ لا حَقَّ لَكُمْ في المَاءِ، قالوا: نَعَمْ، قالَ ابنُ عَبَّاسٍ: قالَ النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: (فألْفَى ذلكَ أُمَّ إسْمَاعِيلَ وهي تُحِبُّ الإنْسَ)، فَنَزَلُوا وأَرْسَلُوا إلى أَهْلِيهِمْ فَنَزَلُوا معهُمْ، حتَّى إذَا كانَ بهَا أَهْلُ أَبْيَاتٍ منهمْ، وشَبَّ الغُلَامُ وتَعَلَّمَ العَرَبِيَّةَ مِنْهُمْ، وأَنْفَسَهُمْ وأَعْجَبَهُمْ حِينَ شَبَّ، فَلَمَّا أَدْرَكَ زَوَّجُوهُ امْرَأَةً منهمْ، ومَاتَتْ أُمُّ إسْمَاعِيلَ، فَجَاءَ إبْرَاهِيمُ بَعْدَ ما تَزَوَّجَ إسْمَاعِيلُ يُطَالِعُ تَرِكَتَهُ، فَلَمْ يَجِدْ إسْمَاعِيلَ، فَسَأَلَ امْرَأَتَهُ عنْه، فَقالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا، ثُمَّ سَأَلَهَا عن عَيْشِهِمْ وهَيْئَتِهِمْ، فَقالَتْ: نَحْنُ بِشَرٍّ، نَحْنُ في ضِيْقٍ وشِدَّةٍ، فَشَكَتْ إلَيْهِ، قالَ: فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عليه السَّلَامَ، وقُولِي له: يُغَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِهِ، فَلَمَّا جَاءَ إسْمَاعِيلُ كَأنَّهُ آنَسَ شيئًا، فَقالَ: هلْ جَاءَكُمْ مِن أَحَدٍ؟ قالَتْ: نَعَمْ، جَاءَنَا شَيخٌ كَذَا وكَذَا، فَسَأَلَنَا عَنْكَ فأخْبَرْتُهُ، وسَأَلَنِي: كيفَ عَيْشُنَا؟ فأخْبَرْتُهُ أنَّا في جَهْدٍ وشِدَّةٍ، قالَ: فَهلْ أَوْصَاكِ بشَيءٍ؟ قالَتْ: نَعَمْ، أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ السَّلَامَ، ويقولُ: غَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِكَ، قالَ: ذَاكِ أَبِي، وقدْ أَمَرَنِي أَنْ أُفَارِقَكِ، الْحَقِي بأَهْلِكِ، فَطَلَّقَهَا، وتَزَوَّجَ منهمْ أُخْرَى، فَلَبِثَ عنْهمْ إبْرَاهِيمُ ما شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَتَاهُمْ بَعْدُ فَلَمْ يَجِدْهُ، فَدَخَلَ علَى امْرَأَتِهِ فَسَأَلَهَا عنْه، فَقالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا، قالَ: كيفَ أَنْتُمْ؟ وسَأَلَهَا عن عَيْشِهِمْ وهَيْئَتِهِمْ، فَقالَتْ: نَحْنُ بخَيْرٍ وسَعَةٍ، وأَثْنَتْ علَى اللَّهِ، فَقالَ: ما طَعَامُكُمْ؟ قالتِ: اللَّحْمُ، قالَ: فَما شَرَابُكُمْ؟ قالتِ: المَاءُ. قالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لهمْ في اللَّحْمِ والمَاءِ، قالَ النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: (ولَمْ يَكُنْ لهمْ يَومَئذٍ حَبٌّ، ولو كانَ لهمْ دَعَا لهمْ فِيهِ)، قالَ: فَهُما لا يَخْلُو عليهما أَحَدٌ بغيرِ مَكَّةَ إلَّا لَمْ يُوَافِقَاهُ، قالَ: فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عليه السَّلَامَ، ومُرِيهِ يُثْبِتُ عَتَبَةَ بَابِهِ، فَلَمَّا جَاءَ إسْمَاعِيلُ قالَ: هلْ أَتَاكُمْ مِن أَحَدٍ؟ قالَتْ: نَعَمْ، أَتَانَا شَيخٌ حَسَنُ الهَيْئَةِ، وأَثْنَتْ عليه، فَسَأَلَنِي عَنْكَ فأخْبَرْتُهُ، فَسَأَلَنِي: كيفَ عَيْشُنَا؟ فأخْبَرْتُهُ أنَّا بخَيْرٍ، قالَ: فأوْصَاكِ بشَيءٍ؟ قالَتْ: نَعَمْ، هو يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ، ويَأْمُرُكَ أَنْ تُثْبِتَ عَتَبَةَ بَابِكَ، قالَ: ذَاكِ أَبِي، وأَنْتِ العَتَبَةُ، أَمَرَنِي أَنْ أُمْسِكَكِ.
ثُمَّ لَبِثَ عنْهمْ ما شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذلكَ وإسْمَاعِيلُ يَبْرِي نَبْلًا له تَحْتَ دَوْحَةٍ قَرِيبًا مِن زَمْزَمَ، فَلَمَّا رَآهُ قَامَ إلَيْهِ، فَصَنَعَا كما يَصْنَعُ الوَالِدُ بالوَلَدِ والوَلَدُ بالوَالِدِ، ثُمَّ قالَ: يا إسْمَاعِيلُ، إنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بأَمْرٍ، قالَ: فَاصْنَعْ ما أَمَرَكَ رَبُّكَ، قالَ: وتُعِينُنِي؟ قالَ: وأُعِينُكَ، قالَ: فإنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ هَاهُنَا بَيْتًا، وأَشَارَ إلى أَكَمَةٍ مُرْتَفِعَةٍ علَى ما حَوْلَهَا، قالَ: فَعِنْدَ ذلكَ رَفَعَا القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ، فَجَعَلَ إسْمَاعِيلُ يَأْتي بالحِجَارَةِ وإبْرَاهِيمُ يَبْنِي، حتَّى إذَا ارْتَفَعَ البِنَاءُ، جَاءَ بهذا الحَجَرِ فَوَضَعَهُ له فَقَامَ عليه، وهو يَبْنِي وإسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الحِجَارَةَ، وهُما يَقُولَانِ: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)، قالَ: فَجَعَلَا يَبْنِيَانِ حتَّى يَدُورَا حَوْلَ البَيْتِ وهُما يَقُولَانِ: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
قال البخاري -رحمه الله-: "باب: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)، القواعد: أَسَاسُهُ، واحدتُها: قاعدة. والقواعد من النساء واحدها قاعد"، ثم رَوَى بسنده عن عائشة -زوج النبي صلى الله عليه وسلم-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (أَلَمْ تَرَيْ أنْ قَوْمَكِ بَنَوْا الكَعْبَةَ، واقْتَصَرُوا عن قَواعِدِ إبْراهِيمَ)، فَقُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ ألا تَرُدُّها على قَواعِدِ إبْراهِيمَ؟ قالَ: (لَوْلا حِدْثانُ قَوْمِكِ بالكُفْرِ). فقالَ عبدُ اللَّهِ بنُ عُمَرَ: لَئِنْ كانَتْ عائِشَةُ سَمِعَتْ هذا مِن رَسولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، ما أُرى رَسولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- تَرَكَ اسْتِلامَ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ يَلِيانِ الحِجْرَ؛ إلّا أنَّ البَيْتَ لَمْ يُتَمَّمْ على قَواعِدِ إبْراهِيمَ".
ورواه مسلم من حديث نافع قال: سمعتُ عبدَ الله بن أبي بكر بن أبي قحافة يحدِّث عبد الله بن عمر عن عائشة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لَوْلا أنَّ قَوْمَكِ حَديثُو عَهْدٍ بجاهِلِيَّةٍ، أوْ قالَ: بكُفْرٍ، لأَنْفَقْتُ كَنْزَ الكَعْبَةِ في سَبيلِ اللهِ، ولَجَعَلْتُ بابَها بالأرْضِ، ولأَدْخَلْتُ فيها مِنَ الحِجْرِ).
وروى البخاري عن الأسود قال: قالَ لي ابنُ الزُّبَيْرِ: كانَتْ عائِشَةُ تُسِرُّ إلَيْكَ كَثِيرًا فَما حَدَّثَتْكَ في الكَعْبَةِ؟ قُلتُ: قالَتْ لِي: قالَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (يَا عَائِشَةُ، لَوْلا قَوْمُكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ -قالَ: ابنُ الزُّبَيْرِ- بكُفْرٍ، لَنَقَضْتُ الكَعْبَةَ فَجَعَلْتُ لَها بابَيْنِ: بابٌ يَدْخُلُ النّاسُ وبابٌ يَخْرُجُونَ)، قال: فَفَعَلَهُ ابنُ الزُّبَيْرِ. انفرد بروايته البخاري.
وفي هذه الأحاديث فوائد عظيمة نذكرها في المقال القادم -إن شاء الله-.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #15  
قديم 25-03-2024, 12:03 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 141,019
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (15)




قصة بناء الكعبة (13)
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
ففي قصة إسكان إبراهيم هاجر وإسماعيل مكة المكرمة، ثم قصة بناء الكعبة من الفوائد ما يأتي:
الأولى: هذا الحديث رواه البخاري موقوفًا على ابن عباس؛ إلا أن في ثناياه جُملًا مرفوعةً للنبي -صلى الله عليه وسلم- تعليقًا على أحداث القصة؛ مما يدل على رفعه كله، ثم هو مما لا يُقال من قِبَل الرأي، وليس مما يؤخذ من أهل الكتاب؛ فليس عندهم خبر من ذلك، فهو في جميعه له حكم الرفع، وهكذا رواه البخاري فساقه كسائر الأحاديث المرفوعة.
الثانية: قوله: "أَوَّلَ ما اتَّخَذَ النِّسَاءُ المِنْطَقَ مِن قِبَلِ أُمِّ إسْمَاعِيلَ؛ اتَّخَذَتْ مِنْطَقًا لِتُعَفِّيَ أَثَرَهَا علَى سَارَةَ": المِنْطَق: ما تَشُدُّ به المرأة وسطها، قال ابن حجر -رحمه الله-: "وكان السبب في ذلك: أن سارة كانت وهبت هاجر لإبراهيم فحملت منه بإسماعيل؛ فلما ولدته غارت منها، فحلفت لتقطعن منها ثلاثة أعضاء، فاتخذت هاجر مِنْطقًا فشدَّت به وسطها وهربت، وجرَّت ذيلها لتخفي أثرها على سارة. ويُقال: إن إبراهيم شفع فيها، وقال لسارة: حللي يمينك بأن تثقبي أذنيها وتخفضيها، وكانت أول من فعل ذلك. ووقع في رواية ابن علية عند الإسماعيلي: "أول ما أخذت العرب جرَّ الذيول عن أمِّ إسماعيل، وذكر الحديث. ويُقال: إن سارة اشتدَّت بها الغيرة؛ فخرج إبراهيم بإسماعيل وأمه إلى مكة لذلك" (انتهى كلام ابن حجر -رحمه الله-).
وقول ابن حجر -رحمه الله-: "ويُقال: إن سارة اشتدت بها الغيرة، فخرج إبراهيم بإسماعيل وأمة إلى مكة لذلك"؛ إشارة منه -والله أعلم- إلى تضعيف هذا السبب، وإلا فقد كان يكفي أن يخرج بهما إلى مكان مجاور لا تراها فيه سارة، ولا ترى ابنها، وليس بعيدًا بآلاف الأميال عن إبراهيم -عليه السلام-، ثم هذا مخالف لظاهر القرآن؛ حيث علَّل إبراهيم -عليه السلام- إسكانه هاجر وإسماعيل في مكة بإقامة الصلاة، فقال -تعالى- عن إبراهيم -عليه السلام-: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (إبراهيم:37)، فالغرض كان إقامة الصلاة في هذه البقعة المشرفة، وتعميرها لتصبح بلدًا محرمًا، تهوي إليه أفئدة من الناس، ويرزقون من الثمرات كما يرزقون الشكر، بهذا قال قبل تعمير مكة: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا) (البقرة:126)، وبعد أن عمرت بالعرب من جُرْهُم قال: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا) (إبراهيم:35).
وفي قوله: "لِتُعْفِي أَثَرَهَا عَنْ سَارَةَ": دليل على احتمال الغيرة بين الضرائر؛ لأنها من طبيعة المرأة؛ رغم أن سارة قد أَهْدت هاجر لإبراهيم ليتخذها سُرِّيَّة؛ عساه أن يرزق منها الولد؛ لكونها عجوزًا عقيمًا، فهي تعرف ذلك مسبقًا؛ بل تقصده، فهذه بلا شك أعظم صور التضحية بالنفس لإسعاد الحبيب، لكن قد غارت منها لما حملت ثم وضعت، وإبراهيم تحمَّل ذلك، كما أن منزلة سارة عند الله اقتضت مغفرة الله لها ما حاولت أن تؤذي به هاجر؛ لأنها كانت المرأة الوحيدة التي آمنت بإبراهيم من قومها، وهاجرت معه وتركت أهلها وقومها ووطنها من أجل الدِّين، فهي قديمة الصحبة لإبراهيم، ثم هي التي ضحت بجزء من قلبها ومشاعرها بإهدائها هاجر لإبراهيم، فهذا هو الحب الحقيقي أن تضحي بشيء من مشاعرها من أجل مَن تحب، لا أن تنكد عليه حياته أو تفارقه وتهدم الأسرة؛ ولذا احتملت هاجر مثل ذلك، وهربت منها ولم تواجِهَّا رغم أنها الشابة الصغيرة الأقوى، كما تحمَّل إبراهيم أيضًا.
وإن صح ما ذُكر من ثقب الأذنين والختان لِبَرِّ قسمها، فقد ذكره ابن حجر بصيغة التضعيف، وهو دليل على عدم السماح من الزوج بالضرر من إحدى الضرائر لضرتها؛ بل حوَّل إبراهيم الأمر إلى مصلحة لهاجر ومنفعتها؛ لأن ثقب الأذن زينة، والختان أنضر للوجه وأحظى للرجل، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-، والنضارة لوجود النعيم والمتعة خلافًا لما يظنه كثيرٌ مِن الناس من أن الختان من أجل تقليل الشهوة؛ فإنه ليس كذلك لا شرعًا ولا طبًّا؛ بل الختان الشرعي بإزالة القلفة التي على البظر تكشف هذا العضو الحساس من المرأة، فيكون ذلك أكمل لاستمتاعها فيَنْضُر وجهها سرورًا، وهذا التجاوب في العلاقة الحميمة باكتمال المتعة سبب لكون المرأة حَظِيَّة عند زوجها، والله أعلم.
الثالثة: قوله: "ثُمَّ جَاءَ بهَا إبْرَاهِيمُ وبِابْنِهَا إسْمَاعِيلَ وهي تُرْضِعُهُ، حتَّى وضَعَهُما عِنْدَ البَيْتِ عِنْدَ دَوْحَةٍ فَوْقَ زَمْزَمَ في أَعْلَى المَسْجِدِ": (عِنْدَ البَيْتِ) أي: عند مكانه؛ لأنه لم يكن قد بُني بعد. و(الدوحة): الشجرة الكبيرة، وفي هذا كمال توكُّل إبراهيم -عليه السلام- على الله -تعالى- فلا يقدر إنسان أن يضع ابنه ووحيده وذكره -وقد رزقه الله إياه على الكِبَر- في مكان صحراوي جبلي قفر، ليس فيه شيء من أسباب الحياة على الإطلاق لا ماء ولا زرع ولا بشر، ولاشيء كما قالت هاجر، وبلا حارس ولا أنيس؛ إلا بالتوكل التام على الله وحسن الظن به، واليقين بحفظ الله ورعايته، وعدم تضييعه لهم، والله -سبحانه- يجعل مآل الطائعين لأحسن حال، وكيف يضيع مَن أطاعه؟! أو كيف يُنَعِّم مَن عصاه إلى نهاية أمره؟!
وقوله: "ووَضَعَ عِنْدَهُما جِرَابًا فيه تَمْرٌ، وسِقَاءً فيه مَاءٌ" فيه الأخذ بالأسباب ولو كانت ضعيفة للغاية، فالسقاء: القربة الصغيرة، فكم تكفي لشرب امرأة مُرضع في حر مكة المكرمة؟! ولكنها سنة الأنبياء في كمال التوكل مع الأخذ بالأسباب، كما أمر موسى أن يضرب بعصاه البحر فانفلق، كما اختفى النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه في الغار من المشركين المطاردين رغم وصولهم إلى الغار؛ ولكن مع كمال التوكل ينفع السبب البسيط الضعيف.
الرابعة: قوله: "فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إسْمَاعِيلَ فَقالَتْ: يا إبْرَاهِيمُ، أَيْنَ تَذْهَبُ وتَتْرُكُنَا بهذا الوَادِي الَّذي ليسَ فيه إنْسٌ ولَا شَيءٌ؟ فَقالَتْ له ذلكَ مِرَارًا، وجَعَلَ لا يَلْتَفِتُ إلَيْهَا، فَقالَتْ له: آللَّهُ الَّذي أَمَرَكَ بهذا؟ قالَ: نَعَمْ، قالَتْ: إذَنْ لا يُضَيِّعُنَا، ثُمَّ رَجَعَتْ، فَانْطَلَقَ إبْرَاهِيمُ حتَّى إذَا كانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لا يَرَوْنَهُ، اسْتَقْبَلَ بوَجْهِهِ البَيْتَ، ثُمَّ دَعَا... " الحديث.
نتأمل فيه تحمُّل إبراهيم للسؤال بطريقة استنكارية لا تتناسب مع ما علمته هاجر من رحمته ورأفته وحلمه -عليه الصلاة والسلام-، فإذا كان إبراهيم حليمًا على الكفار المشركين المكذبين للرسل، يجادل فيهم ربه لتأخير العذاب عنهم مع أفعالهم الشنيعه القبيحة الإجرامية التي لم يسبقهم بها أحدٌ مِن البشر، مع استحقاقهم للعذاب لتكذيبهم نبيهم، ومحاولتهم العدوان على ضيوفه، كما تعودوا على قطع الطريق بفعل الفاحشة -أعني: قوم لوط- قال الله -تعالى-: (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ . إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ) (هود:74-75)، فمدحه الله -عز وجل- على حلمه وإنابته ودعائه، ولم يتسجب لمجادلته في قوم لوط، فإذا كان هذا حاله وحلمه على الكفار المشركين، فكيف تكون رحمته ورأفته بابنه الرضيع، وأم ولده الذين لا ذنب لهم؟!
وإذا كان يدعو للكافرين والعصاة، كما قال الله -تعالى- عنه: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ . رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (إبراهيم:35-36)، وإنما يدعو لهم بالمغفرة والرحمة؛ لأن يتوبوا ويؤمنوا ويطيعوا، فإن المشرك لا يغفر الله له إلا بالتوبة والإسلام، فكيف تكون رحمته بالمؤمنين الطائعين؟!
يكاد القلب يطير عجبًا من امتثال إبراهيم لأمر ربه، وصبره العجيب على مفارقة ولده الوحيد الصغير الرضيع في هذا المكان الذي لا تمكن فيه الحياة، إلا بأمر الله -سبحانه-، لكنها التضحية وجلالة الخُلَّة فعظيم المحبة لله هي التي أوجبت هذه التضحية العظيمة، فهذا الموقف قريب من موقف ذبح ولده، وإن كان الذبح أعظم، فسبحان مَن اجتباه وهداه وجعله إمام الحنفاء.
وفي عدم إجابته -عليه السلام- لهاجر ثلاث مرات أو عدة مرات؛ حين سألت السؤال بالطريقة المخالفة لما ينبغي من الأدب معه -عليه السلام- فلم يعنفها، ولم يضربها أو يسيء إليها بكلمة؛ بل يربيها ويعلمها بالسكوت وعدم الالتفات، كما يعلمها بالكلام وبالإجابة والالتفات حين سألت السؤال بالطريقة المناسبة الصحيحة المستفسرة غير الاستنكارية حين سألته: "آلله أمرك بهذا؟"، التفت إليها، وقال: "نعم"، فعندها رضيت هاجر بالله، وتوكلت على الله كما توكل إبراهيم -عليه السلام-، ورضيت ربًّا مدبرًا لا يضيع أولياءه ومَن أطاعه، فرضي الله عنها وأجزل مثوبتها على صبرها، وتوكلها ويقينها، وحسن ظنها بربها، ورزقنا متابعة الصالحين في أعمالهم وأحوالهم.
وللفوائد بقية -إن شاء الله-.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #16  
قديم 27-03-2024, 02:38 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 141,019
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (16)



قصة بناء الكعبة (14)
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فنستكمل ما في قصة إسكان إبراهيم هاجر وإسماعيل -عليهم السلام- مكة المكرمة، من فوائد:
الفائدة الخامسة:
قوله: (فَانْطَلَقَ إبْرَاهِيمُ حتَّى إذَا كانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لا يَرَوْنَهُ، اسْتَقْبَلَ بوَجْهِهِ البَيْتَ، ثُمَّ دَعَا بهَؤُلَاءِ الكَلِمَاتِ، ورَفَعَ يَدَيْهِ فَقالَ: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (إبراهيم:37)، فيه: أن أعظم الأسباب بعد التوكل على الله الدعاء والتضرع إليه -سبحانه-، وفيه رفع اليدين في الدعاء واستقبال القبلة؛ حتى ولو لم يوجد بناء للكعبة، وفيه التوسل إلى الله -سبحانه وتعالى- باسم الربوبية (ربنا، ربي)، وهذا أكثر أنواع الأدعية القرآنية والنبوية، ومثله التوسل إلى الله باسم الألوهية (اللهم)، وهذان الاسمان -الرب والإله؛ ومنه اشتُق اسم الله- أعظم ما يتوسل به العبد لله -عز وجل-؛ خاصة إذا اسحضر بقلبه مظاهر الربوبية من الخلق والرزق والتدبير، ومِلْك الضر والنفع، والحياة والموت والنشور، والمِلْك والمُلْك، والأمر والنهي والسيادة في جميع الوجود، واستحضر بقلبه مظاهر الألوهية من حاجة العباد إلى محبته والانقياد له، وذلهم وفقرهم وحاجتهم إلى هذه العبودية، وليس فقط إلى رزقهم واستمرار حياتهم، بل هم يحتاجون إلى حبه والانقياد لأمره وشرعه والخضوع له.
وقد جعل الله -عز وجل- لذة المحبة له يدركها ويجدها المؤمنون العابدون دون غيرهم، وجعلها -سبحانه وتعالى- عندهم أعظم نعيم الدنيا وأعظم فرح فيها، كما قال -عز وجل-: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (يونس:58)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ثَلاثٌ مَن كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهُنَّ حَلاوَةَ الإِيمَانَ: أَنْ يَكُونَ اللهُ ورسولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ ممَّا سِواهُمَا ... ) (متفق عليه).
وفي قوله: (إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ): توسل إلى الله بحال الفقر والحاجة، فهم ذرية؛ رضيع صغير وأمه التي لا تستطيع شيئًا. وقال: (ذُرِّيَّتِي) وهاجر ليست من ذريته؛ إما تغليبًا لأن إسماعيل هو المقصود وذريته مِن بعده، وإما لأن الذرية من هاجر -رضي الله عنها- وهي سبب نسل إسماعيل -عليه السلام- الذين عمَّروا مكة وعبدوا الله عند الكعبة المشرفة قرونًا عديدية على التوحيد، قبل أن يقع الشرك فيهم زمن عمرو بن لُحَيّ الخُزاعي.
وقد كان أبو هريرة -رضي الله عنه- عند ذكر هاجر -رضي الله عنها- يقول: "فهذه أمكم يا بني ماء السماء"، وأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه برعاية قومها المصريين بعد آلاف السنين من رحيلها؛ رعايةً لرحمها -رضي الله عنها- فقال: (إِنَّكُم سَتَفْتَحُون مِصْرَ أَرْضًا يُذْكَرُ فيها القِيرَاطُ فَاسْتَوْصُوا بِأَهْلِها خَيْرًا فَإِنَّ لهم ذِمَّةً وَرَحِمًا) (رواه مسلم)، وهي رحم لا يصل مثلها إلا الأنبياء.
وفي قوله: (بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ): تضرع بالفقر إلى الله في أمر الرزق، فكما أنهم ذرية ضعفاء، فالوادي ليس فيه زرع ولا ماء ولا أنيس، وهذا الذي بحثت عنه هاجر أولًا؛ حين قالت: (إلى مَنْ تَتْرُكُنَا في هذا الوادِي الذي لَيْسَ فِيه أَنِيْسٌ ولا شَيْءٌ؟)، فهي تحب الأنس وتنظر إلى الأنيس أولًا، وهذا الوادي ليس فيه شيء على الإطلاق، ولا يصلح للسكنى؛ إلا بما أنبع الله فيه من زمزم، فسبحان الله! أرض أودية مكة أغلبها صخرية، وحولها جبال لا تصلح للزراعة، ولا للحركة، ولا للاستقرار؛ بل ولا للحياة أصلًا؛ ولذا لم تُسْكَن قبل إسماعيل وأمه، فسبحان الله جعلها الله أكثر بقعة تعجُّ بالبشر! لا يوجد مكان في العالم أزحم من هذه البقعة على مدار الأيام والليالي، وقلوب الخلق تهوي إلى هذه البقعة؛ مَن شاء الله منهم يهوون حجَّها، وطائفة يهوون السكنى فيها.
وقوله: (عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ): يعني مكانه الذي سيكون فيه البناء؛ وذلك أن الله حرَّم مكة يوم خلق السماوات والأرض، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو الذي كان فيه البيت قبل أن يُرفع؛ وإن كانت الآثار في رفعه عند الطوفان لم تصح، وهذا على القول بأن الملائكة التي بنته، أو آدم الذي بناه أول مرة، أو غير ذلك، وكلها آثار لم تصح، والله أعلم.
وقوله -تعالى- عن إبراهيم -عليه السلام-: (رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ): فيه بيان السبب الذي مِن أجله سافر إبراهيم بولده وأم ولده هذه المسافة الهائلة -آلاف الأميال-، إلى هذه البقعة التي لا توجد فيها أسباب الحياة، وهو إقامة الصلاة في هذا المكان الذي عظمه الله وشرفه وضاعف فيه أجر الصلاة، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ) (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني).
ونهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن شدِّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، أعظمها: المسجد الحرام؛ بل لا يجب شد الرحال والسفر إلى مسجدٍ منها إلا المسجد الحرام، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إلى ثلاثةِ مَساجِدَ: المَسْجِدِ الحَرَامِ، ومَسْجِدِي هذا، والمَسْجِدِ الأَقْصى) (متفق عليه)، وفي رواية: (إنَّما يُسافَرُ إلى ثَلاثَةِ مَساجِدَ: مَسْجِدِ الكَعْبَةِ، وَمَسْجِدِي، وَمَسْجِدِ إِيلِياءَ) (رواه مسلم).
فلم تكن العلة في هذه الرحلة العظيمة مجرد الغيرة التي وقعت بين سارة وهاجر، وطلب سارة أن يذهب بهاجر بعيدًا عنها كما في بعض الروايات؛ بل السبب الذي لم يذكر إبراهيمُ -عليه السلام غيره هو إقام الصلاة، وتعمير هذه البقعة المباركة، وتكوين البلدة الحرام.
وقوله: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ): فيه دليل على خَلْق الله لأفعال العباد، وإرادتهم وأهوائهم، فالله الذي جعل الأفئدة تهوي إلى الحج إلى مكة، وإلى السكنى فيها على القولين في التفسير، وفي هذا لمَن تأمله أوضح الرد على مَن زعم أن معنى خلق الله لأفعال العباد وإرادتهم هو جعلهم مريدين شائين، ولا يلزم إرادة ومشيئة منه -سبحانه- لكلِّ فِعْلٍ مِن أفعال العباد وإرادة من إراداتهم! بل هذا التفصيل لهم كالنهر الذي يجري في مجرى مُعَيَّن لا يلزم إرادة لكل قطرة! وهو قول باطل مُخَالِف لظَاهِر الكتاب والسُّنة، قال -تعالى-: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ) (الإنسان:30)، أَيْ: أَيُّ مشيئة؛ فهذا اللفظ عام يشمل كل مشيئة، فلابد لأي مشيئة للعباد أن يشاء الله وجودها، وهو الذي يخلقها، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ أَصْلِحْ لي شَأْنِي كُلَّهُ وَلَا تَكِلْنِي إِلى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ) (رواه النسائي والحاكم، وحسنه الألباني).
فكل حركة وسكنة وإرادة وهوى للعباد، فالله خالقه وجاعله تفصيلًا، وهذه الآية صريحة في ذلك؛ لأن حُبَّ مَن شاء الله له الذهاب إلى مكة، وهواهم أن يسكنوا فيها، ويحجوا إليها -رغم المشقة البالغة في السفر وفي الحياة- هو مشيئة تفصيلية، والله هو الذي جعله فيهم، كما دعا به إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-، وليس معنى ذلك الجبر كما يقوله الجبرية؛ بل الله يجعل ويخلق، والعباد يفعلون ويكسبون بإرادتهم المخلوقة، وهذا القَدْرُ مِن كسبهم وفعلهم هو الذي يُحَاسَبون عليه كسائر الأهواء والرغبات، التي إنما توجد في الإنسان قبل أن يدرك منافعها ومقاصدها، ولكنه يجدها في نفسه فيفعلها، فأول ذلك النَّفَس عند أول ولادته، ثم الطعام والشراب وهو رضيع، ثم حب التَّمَلُّك وهو ابن نحو السنة والسنتين، وكذا التواصل مع البشر حوله، والكلام والحركة، واستكشاف ما حوله، ثم الرغبة الجنسية بعد ذلك، وكلها يجدها الإنسان قد وُجِدت في نفسه، لكنه الذي يفعل تفاصيلها، والله خالقه وخالق هواه وإرادته وأفعاله الاختيارية والاضطرارية معًا؛ فله الحمد، وله المُلك -سبحانه وتعالى-.
ونقول في المَثَل المضروب -مَثَلُ النَّهْر-: بل كل قطرة، الله خالقها وخالق حركتها تفصيلًا؛ فلابد مِن مشيئته -سبحانه- في تحركها في هذا الاتجاه، ثم أعظم رغبة وهوىً يجعله الله في قلب العبد هي الرغبة في العبودية له، ومحبته -سبحانه-، ومحبة أنبيائه ورسله -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-.
نسأل الله أن يَمُنَّ علينا بحبه وقربه.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #17  
قديم 27-03-2024, 02:39 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 141,019
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (17)



قصة بناء الكعبة (15)
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فنستكمل ما في قصة إسكان إبراهيم هاجر وإسماعيل -عليهم السلام- مكة المكرمة، مِن فوائد:
الفائدة السادسة:
قوله: (فَانْطَلَقَ إبْرَاهِيمُ حتَّى إذَا كانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لا يَرَوْنَهُ، اسْتَقْبَلَ بوَجْهِهِ البَيْتَ، ثُمَّ دَعَا بهَؤُلَاءِ الكَلِمَاتِ، ورَفَعَ يَدَيْهِ فَقالَ: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (إبراهيم:37):
فقوله: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير: لو قال: "أفئدة الناس"؛ لازدحم عليه فارس والروم، واليهود والنصارى، والناس كلهم، ولكن قال: (مِّنَ النَّاسِ) فاختص به المسلمون.
فاعلم أيها المسلم المحب لبيت الله الحرام، المشتاق لأداء الحج والعمرة نعمة الله عليك أن جعلك مِن أهل هذه الدعوة المباركة، وأوصل إليك نورها عبر آلاف السنين من حين قالها إبراهيم -عليه السلام- إلى أن وُلِدتَ ووُجِدتَ وصِرتَ مُحبًّا لبيت الله الحرام.
ولنتأمل قوله: (أَفْئِدَةً) ولم يقل: أبدانًا؛ فإبراهيم لم يهتم بالأبدان في دعوته؛ بل اهتم بالقلوب، ولم يسأل الله شكل عبادة حول البيت، بل حقيقة العبادة التي أصلها عبادة القلب، وحبه وخضوعه وذله، وهذا ذكره الله -سبحانه- في كلِّ العبادات، فقال في أول أمر يمر به قارئ المصحف: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:21)، والتقوى في القلب كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (التَّقْوَى هَاهُنَا) -وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ- (رواه مسلم)، وقال -تعالى-: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) (المؤمنون:1-2)، وليس للمرء من صلاته إلا ما عقل منها، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الْعَبْدَ لَيُصَلِّي الصَّلَاةَ مَا يُكْتَبُ لَهُ مِنْهَا إِلَّا عُشْرُهَا، تُسْعُهَا، ثُمُنُهَا، سُبُعُهَا، سُدُسُهَا، خُمُسُهَا، رُبُعُهَا، ثُلُثُهَا نِصْفُهَا) (رواه أحمد وأبو داود، وحسنه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني)، وهذه أحاديث حسنة.
وقال -تعالى-: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (التوبة:103)، وقال في الحج: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ) (الحج:37)، وقال -عز وجل-: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (الحج:32).
فليكن همنا في كل عبادتنا تحقيق حقيقتها في عبودية القلب، وليس بالشكل والكميات فقط، قال الله -سبحانه- عن القرآن: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) (ص:29)، فذكر الله -سبحانه- التدبر والتذكر ولم يذكر الختمة؛ مع أن ختم القرآن كل مدَّة مشروع؛ بدأ النبي -صلى الله عليه وسلم- أمره لعبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- بأن يختمه كل شهر، فقال له: (وَاقْرَأِ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ)، قُلْتُ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: (فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ عِشْرِينَ)، قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: (فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ عَشْرٍ)، قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: (فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ سَبْعٍ، وَلَا تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ) (رواه مسلم).
وقد فهم الصحابة ذلك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال ابن مسعود -رضي الله عنه- لرجل قال له: "إني لأقرأ المفصل في ركعة، قال: هذًّا كهذِّ الشِّعْر؟! (أي: القراءة السريعة جدًّا)، إني لأعلم النظائر التي كان يقرأ بها الرسول -صلى الله عليه وسلم- عشرين سورة في عشر ركعات".
فلنهتم بالتدبر أكثر من كمية القراءة، كما قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "أَمِرُّوه على القلوب، ولا يكن هَمُّ أحدكم آخرَ السورة".
وقوله: (وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ): لم يقل -عليه السلام-: "لعلهم يأكلون"، أو "لعلهم يعيشون"، بل قال: "لعلهم يشكرون"؛ فالشكر هو الغاية المقصودة، وإنما كانت النعم الدنيوية -بل والدينية- سببًا لتحقيق الشكر بشهود نعمة الله وتعظيمه بها ومحبته عليها، وأن النعم كلها منه وحده لا شريك له، وإجراء اللسان بالثناء عليه والحمد له -سبحانه-، ثم استخدام هذه النعم في طاعته؛ وإلَّا فأي نعمة دنيوية لا تكون سببًا للشكر والطاعة والعبادة تقلبها معصية الناس وكفرهم إلى نقمةٍ وعذابٍ، قال -تعالى-: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) (إبراهيم:7).
وإنما يعمل إبليس عمله على الناس حتى لا يشكروا نعم الله عليهم، فقال: (وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) (الأعراف:17)، وهذا ظنه الذي صَدَّقه عليهم، كما قال -تعالى-: (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ) (سبأ:20)، فالزموا الشكر عبادَ اللهِ يزدكم ربكم من نعمه وفضله، وينجيكم من كيد عدوكم.
وبعد، فهذه الدعوة المباركة التي غيَّرت وجه الأرض، فالدعاء مِن أعظم أسباب تغيير الحياة على وجه الأرض، فالله -سبحانه- قدَّر مقادير وقدَّر لها أسبابًا، ومما قدَّره الله -سبحانه وتعالى- تعمير مكة المكرمة، وتعمير بيته الحرام للقيام والسجود، والركوع والطواف، والاعتكاف، وسائر أنواع العبادات، وقد (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ) (المائدة:97)؛ فبه يقوم أمر الناس، وإذا أوشكت الدنيا على الانتهاء أَذِن الله -قَدَرًا- في هدمه ولا بقاء للناس من غير الكعبة المشرفة، فمِن أشراط الساعة الكبرى: هدم الكعبة، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يُخَرِّبُ الكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنَ الحَبَشَةِ) (متفق عليه)، وأما قبل ذلك فلا قِوام للناس إلا ببيت الله الحرام، والحج إليه والاعتمار، وبتوجُّه المؤمنين إلى هذه القبلة المشرَّفة.
كيف عُمَّرت هذه البقعة، وكيف اتجهت إليها قلوب الملايين، وتتجه وجوههم إليها، وتريد قلوبهم أن تذهب إلى هذا المكان؟!
يذهب الملايين في كل عام إلى هذه البقعة المشرفة وما حولها من البقاع المقدسة؛ لأداء فرض الحج الذي أمر الله -سبحانه- بأدائه وافترضه على الناس، وجعله ركنًا من أركان الإسلام، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ، عَلَى أَنْ يُعْبَدَ اللهُ، وَيُكْفَرَ بِمَا دُونَهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ) (متفق عليه).
عُمَّرت هذه البقعة بهذه الدعوة المباركة من إبراهيم -عليه السلام-، بل وقلوب الملايين مِن المسلمين غير مَن يحج ويعتمر، تهفو وتهوي إلى هذه البقعة؛ دعوة غيَّرت وجه الحياة!
إذا نظرنا كيف تكونت هذه البلدة؟
كيف صارت بلدًا آمنًا حرامًا؟!
كان ذلك بدعوة!
فتأمل هذه المسألة جيدًا؛ لتعرف أثر الدعاء في تعمير البلاد، وأيضًا في خرابها؛ فدعوة نوح -عليه السلام-: (رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا) (نوح:26)، غيَّرت وجه الحياة على ظهر الأرض أيضًا، فكم مِن الدعوات تغيِّر وجه الحياة! وكم مِن الدعوات تذهب بلا أثر! ربما كان أثرها في صاحبها فقط على حسب قوة الإيمان والقرب من الله القوي العزيز الحكيم القدير؛ الذي يملك كل شيء، له ملك السماوات والأرض، وما بينهما، مالك الملك.
وهنا يبرز السؤال: لماذا ندعو كثيرًا ولا نرى أثرًا، وربما نجد الأثر بعد حين، وقد يجد البعض أثرًا وقد لا يجد؟!
كل هذا حسب قوة القلوب، وقوة الدعاء، هناك دعوات تتزلزل لها الأرض والسماوات، وهناك دعوات تُجَاب مِن ساعتها، وهناك دعوات يُؤجِّل اللهُ -عز وجل- إجابتها، والبعض قد يُؤجَّل إلى يوم القيامة بما شاء -سبحانه-، والله -عز وجل- أمر المؤمنين بالدعاء ووعدهم بالإجابة، وهو لا يخلف الميعاد: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر:60).
فإذا كنا نريد أن تتغير الحياة في عالمنا، ونريد أن يعود الناس للتوحيد، وأن يقوي اللهُ أهلَ الإسلام على أعدائهم، وإذا كنا نريد أن ينصر الله -عز وجل- المسلمين في المشارق والمغارب، وأن يكف أيدي الظالمين عنهم، وأن يرفع تسلط العدو عن أرضهم وبلادهم، وأبدانهم وأولادهم، وحرماتهم ومقدساتهم؛ فلابد أن نعمِّر قلوبنا أولًا بالقرب من الله -عز وجل-، وكثرة ذكره؛ فالأذكار التي تُذكر في مواطن الذكر المختلفة لها الأثر العجيب إذا استحضر الإنسان معانيها، واقترب من الله -عز وجل- بها، فهي تغيِّر بالتأكيد من الإنسان، وتغير من المجتمع، وتغير من وجه العالم بأسره.
دعا إبراهيم -عليه السلام- فصارت أفئدة الخلق تهوي في كلِّ زمان؛ ليس فقط إلى ذريته المباشرة إسماعيل -عليه السلام-، بل إلى مَن كان مِن نسله.
هَوَت القلوب وأحبت هذه البقعة، مستعدة أن تنفق الغالي والثمين حتى تصل إلى هذه البقعة؛ لتقضي فيها لحظات تظل حية في القلوب، لتشتاق إلى العودة مرة أخرى، (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا) (البقرة:125)، ولا يرى أحدًا أنه قد قَضَى مِن البيت وطرًا؛ لأنه بَيْت مبارك؛ أول بيت وضع في الأرض لعبادة الله.
إن هذه البقعة الصخرية في مكة، التي لا يمكن أن ينبت فيها نبات؛ تراها جبالًا صخورًا صماء من كلِّ جانب؛ ومع ذلك تعج بالحياة بهذه الطريقة العجيبة، وتأتي القلوب إليها والأبدان من كلِّ مكان بقدرة الله -سبحانه وتعالى-.
بلدة تكونت بدعوة؛ فأنَّى لنا بدعوة تشبهها؟!

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #18  
قديم 27-03-2024, 02:41 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 141,019
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (18)



قصة بناء الكعبة (16)
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
الفائدة السابعة: قوله في الحديث: (وجَعَلَتْ أُمُّ إسْمَاعِيلَ تُرْضِعُ إسْمَاعِيلَ وتَشْرَبُ مِن ذلكَ المَاءِ، حتَّى إذَا نَفِدَ ما في السِّقَاءِ عَطِشَتْ وعَطِشَ ابنُهَا، وجَعَلَتْ تَنْظُرُ إلَيْهِ يَتَلَوَّى -أَوْ قالَ: يَتَلَبَّطُ- فَانْطَلَقَتْ كَرَاهيةَ أَنْ تَنْظُرَ إلَيْهِ):
فيه الأخذ بالأسباب وإن كانت ضعيفة للغاية؛ فلا شك أن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- حين تركهم إلى الشام بجراب تمر وسقاء ماء لا يمكن أن يكون قد اعتمد على ذلك في طعامهم وشرابهم، فهذا مما لا تقوم به الحياة مدة وجيزة من الزمن، بل هو قد توكل على الله -عز وجل- وحده، وهكذا فعلت هاجر حين قالت: (إذَنْ لا يُضَيِّعُنَا)؛ رضيتْ بالله -عز وجل- مدبرًا معينًا حافظًا وكيلًا، ولكن التوكل على الله لا ينافي أخذ الأسباب المقدور عليها مهما كانت ضعيفة، وقد يجعلها الله -عز وجل- ضعيفة للغاية ليتمحض التوكل.
ومِن هذا الباب أمر الله -سبحانه- نبيه موسى -صلى الله عليه وسلم-: (‌أَنِ ‌اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) (الشعراء:63)، فليس في العادة أن ضرب البحر بالعصا يفلقه؛ ولكنه تعويد للبشر على الامتثال للأمر والأخذ بالأسباب المتاحة، مع عدم الاعتماد عليها ولا التوكل عليها، فالأخذ بالأسباب واجب، وهو هدي الأنبياء، والاعتقاد في الأسباب شرك، وهو لا يجوز في حق كل مؤمن.
ثم قَدَّر الله أن تنفد الأسباب وتنتهي؛ فنفد الماء، وعطشت هاجر، ولم يعد في ثدييها لبن ترضع ابنها؛ فعطشت وعطش ابنها.
يقدِّر الله البلاء إلى غايته قبل أن يأتي الفرج من عنده، فهذه سنة الله في أنبيائه وأوليائه؛ فقد ترك الله الكفار يمسكون بإبراهيم -عليه السلام- ويحبسونه، ويشعلون النار حتى تعظم جدًّا، ويضعونه بالمنجنيق ويلقونه فيها، ولم يأتِ الفرج إلا في اللحظة الأخيرة وهو في الهواء؛ حين أُلقي في النار، وقال: "حسبنا الله ونعم الوكيل"؛ هنا جاء الفرج، وبأعظم طريق؛ بكلام الله -سبحانه- مباشرة للنار: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى? إِبْرَاهِيمَ) (الأنبياء:69)؛ فقد ظلت نارًا لم تُطفَأ، فلم يرسل الله عليه مطرًا يطفئها أو ريحًا، أو ملائكة تأخذ إبراهيم -عليه السلام- وهو في الطريق إلى النار، بل بكلامه -سبحانه- وأمره الكوني للنار أن تظل نارًا على كلِّ أحد -فلا يستطيع أن يقرب منها- إلا على إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- فتكون عليه بردًا وسلامًا؛ ليُبْتَلى ويَحصُل كمال الصبر وكمال التوكل.
وكذلك لم يأتِ الفرج في محنة الذبح إلا بعد أن: (‌أَسْلَمَا ‌وَتَلَّهُ ‌لِلْجَبِينِ . وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ . قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا) (الصافات:103-105).
وكذلك في قصة موسى -صلى الله عليه وسلم- ونجاة بني إسرائيل من فرعون، بعد أن وصلوا إلى ساحل البحر، ووصل فرعون سريعًا رغم الأخذ بالأسباب بالسير ليلًا؛ ليسبق فرعونَ وجُندَه، ولكن تنتهي الأسباب وتضمحل، قال الله -تعالى-: (‌فَأَرْسَلَ ‌فِرْعَوْنُ ‌فِي ‌الْمَدَائِنِ ‌حَاشِرِينَ . إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ . وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ . وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ . فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ . وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ . كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ . فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ . فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ . قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) (الشعراء:53-62)، وبعدها جاء الفرج؛ فانفلق البحر.
وهكذا في قصة مريم -عليها السلام-: فرغم أن مجرد الحمل بلا زوج بلاء عظيم، ولكن يزيد البلاء بأن الولادة كانت صعبة، وبنفس ما تجد النساء من ألم المخاض، حتى تمنت الموت فجاءها المخاض إلى جذع النخلة، (قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا . فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) (مريم:23-24)، وقد كان في قدرة الله -سبحانه- أن تمر الولادة بلا ألم، ولكن لابد للابتلاء أن يأخذ مداه.
وفي قصة هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه أبي بكر -رضي الله عنه- أخذا بالأسباب الممكنة، فاتجها جنوبًا لا شمالًا -وجهتهما الأصلية-، وعَمَّيَا أثرهما على المشركين بمرور أغنام مولى أبي بكر على الطريق، ومع ذلك اضمحلت الأسباب حتى وصل المشركون للغار: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة:40)، فلابد أن يصل البلاء إلى غايته، ويحصل التوكل والصبر التام، ثم يأتي الفرج.
وفي قصة هاجر -عليها السلام- وصل البلاء إلى غايته بالعطش، وإن مِن أشد الأمور على أمٍّ أن ترى ابنها يعطش ويتلمظ، أو يتلبط من العطش مُتألمًا، ولا تستطيع أن تصنع له شيئًا؛ بل وصل الأمر إلى أن تراه ينشغ للموت، أي: يتنفس الأنفاس الأخيرة، وهي في ذلك راضية بالله مدبرًا معينًا، صابرة متوكلة؛ لكن النظر إلى الولد وهو يموت فوق الطاقة؛ فلهذا ذهبت بعيدًا كراهية أن تنظر إلى ابنها في تلك الحال، وأيضًا لتستكمل الأخذ بالأسباب، فتبحث عن الماء بالنظر من فوق الجبال القريبة لِيُلْهِمَهَا اللهُ السعي بين الصفا والمروة، لتأخذ ثواب ملايين البشر الذين يسعون بين الصفا والمروة إلى يوم القيامة، عساهم أن يستحضروا حال هاجر -رضي الله عنها- وهي تسعى، مِن كمال الافتقار إلى الله، وشدة التضرع، وكمال التوكل.
وفي بُعْدِها عن النظر إلى ابنها وهو يموت إرشادٌ لنا؛ لما فيه مِن تخفيف البلاء بعدم النظر، فأشد شيءٍ على أم وأب أن يرى أحدهما وجه ابنه يتألم، فضلًا عن أن يموت؛ فليترك المؤمن ذلك حتى تتم المحنة وتمر، تجد هذا المعنى في قوله -تعالى- لإبراهيم وإسماعيل: (فَلَمَّا ‌أَسْلَمَا ‌وَتَلَّهُ ‌لِلْجَبِينِ)، فلم يجعل إبراهيمُ وجهَ إسماعيل قِبَل وجهه أثناء الذبح؛ لئلا تمنعه الرحمة الفطرية في تلك الحال من الامتثال لأمر الله؛ فوضعه على جبينه مُوجِّهًا وجهه للأرض لا إلى وجهه.
وكذلك تجد هذا المعنى في قوله -تعالى- عن نوح وابنه الكافر: (وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ . قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) (هود:42-43)، فأبعد الله عن نوح رؤية وجه ابنه حين الغرق بأن حال بينهما الموج، فَفَقْدُ الابن بلاء شديد، وهلاكه على الكفر وإباؤه النصح أشد، ولكن مِن رحمة الله بنوح -عليه السلام- أنه لم يجعله يرى وجه ابنه وهو يعاني الغرق رحمةً منه -سبحانه-؛ فحال بينهما الموج، وغرق ابنه بعيدًا عن عينه.
فاللهم لا تحملنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنا، واغفر لنا، وارحمنا، أنت مولانا؛ فانصرنا على القوم الكافرين.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #19  
قديم 29-03-2024, 12:02 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 141,019
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (19)



قصة بناء الكعبة (17)
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
الفائدة الثامنة:
قال ابن عباس -رضي الله عنهما- في الحديث: "فَوَجَدَتِ الصَّفَا أَقْرَبَ جَبَلٍ في الأرْضِ يَلِيهَا، فَقَامَتْ عليه، ثُمَّ اسْتَقْبَلَتِ الوَادِيَ تَنْظُرُ: هلْ تَرَى أَحَدًا؟ فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَهَبَطَتْ مِنَ الصَّفَا حتَّى إذَا بَلَغَتِ الوَادِيَ رَفَعَتْ طَرَفَ دِرْعِهَا، ثُمَّ سَعَتْ سَعْيَ الإنْسَانِ المَجْهُودِ حتَّى جَاوَزَتِ الوَادِيَ، ثُمَّ أَتَتِ المَرْوَةَ فَقَامَتْ عَلَيْهَا ونَظَرَتْ: هلْ تَرَى أَحَدًا؟ فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَفَعَلَتْ ذلكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ"، قالَ ابنُ عَبَّاسٍ: قالَ النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: (فَذلكَ سَعْيُ النَّاسِ بيْنَهُما)، فَلَمَّا أَشْرَفَتْ علَى المَرْوَةِ سَمِعَتْ صَوْتًا، فَقالَتْ: صَهٍ -تُرِيدُ نَفْسَهَا-، ثُمَّ تَسَمَّعَتْ، فَسَمِعَتْ أَيْضًا، فَقالَتْ: قدْ أَسْمَعْتَ إنْ كانَ عِنْدَكَ غِوَاثٌ".
دلَّ هذا الجزء من الحديث على أصل مشروعية السعي بين الصفا والمروة، قال الله -تعالى-: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) (البقرة:158)، وسعى النبي -صلى الله عليه وسلم- بينهما في حجه وعمرته، وقال: (لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ) (رواه مسلم)، وقال: (اسْعَوْا، فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).
ومفيد لنا في هذا الأمر: استحضار حالة هاجر -رضي الله عنها- وهي في شدة العطش والإجهاد، والخوف على نفسها وابنها الذي تراه يصارع الموت، وتحاول أن تسابق الزمن لتصل إلى غواثٍ قبل أن يموت ابنها، وربما لحقته هي أيضًا؛ بسبب هذا العطش الشديد، فهي تأخذ بالأسباب مرات قدر طاقتها.
وقدَّر الله أن تكون أشواطها سبعًا قبل أن تسمع صوت المَلَك بما شرعه الله للمسلمين من السعي سبعًا بين الصفا والمروة، وفي كل مرة تقف على الصفا ثم المروة ولا تجد أحدًا، وتسعى في بطن الوادي -وهي المسافة بين الميلين الأخضرين حاليًا-؛ لأنها المنطقة الوحيدة المنبسطة بين الجبلين التي استطاعت سرعة السعي فيها قليلًا، وهي في غاية الإجهاد والتعب والعطش.
فلنبذل كل ما في وسعنا في طاعة الله، ولنأخذ من الأسباب ما نستطيع؛ ولكن ليكن تعلقنا وافتقارنا بالله -سبحانه وتعالى- حده، ونتضرع إليه وحده، كما كانت تفعل هاجر وهي تسعى بين الصفا والمروة، وهي التي رضيت بالله ربًّا لا يضيعها هي وابنها، ولنجتهد ونحن في السعي؛ فلنستحضر حالها ونتشبه بها في دعائها وتضرعها حتى تجد غواثًا -رضي الله عنها-.
ثم في نهاية الشوط السابع على المروة أتتها بشائر الفرج وإجابة الدعوات؛ حين سمعت صوتًا فسكَّتت نفسها بقولها: "صَهٍ" تتسمَّع؛ فسمعت الصوت مرة أخرى، فتأكدت من وجود أحدٍ وأن الأمر ليس خيالًا، فنادت مَن علمت وجوده وإن لم ترَ شخصه، فقالت: "قدْ أَسْمَعْتَ إنْ كانَ عِنْدَكَ غِوَاثٌ".
ذكر ابن حجر -رحمه الله- في رواية إبراهيم بن نافع: "أنها كانت في كل مرة تتفقد إسماعيل وتنظر ما حدث له بعدها، وفي روايته: فلم تُقِرُّها نفسُها فتشاهده في حال الموت، فرجعت" (انتهى).
هذا يوضِّح لنا قدرَ الصبر والمعاناة التي عانتها هاجر -عليها السلام- وهي تحدِّث نفسها في كل سعيها بموت ابنها، وتتوقعه في كل مرة، فإذا وجدت أنه لم يمت لم تتركها نفسها أن تنظر إليه؛ فتعود للسعي إلى أن جاء الفرج في نهاية السعي في الشوط السابع الذي سعته في شمس حارة وأرض غير ممهدة، وتسير على صخور جبلية ومرتفعات إلا جزءًا يسيرًا هو بطن الوادي، وهي جائعة عطشى مجهدة -رضي الله عنها وأرضاها-، ولقد أكرمها الله فصارت الأسوة الحسنة لآلاف الملايين عبر الأزمنة في السعي بين الصفا والمروة، وفي الافتقار لله والتضرع له، والرضا به ربًّا معينًا، وكمال التوكل عليه وحده.
الفائدة التاسعة:
قوله: "فَإِذَا هي بالمَلَكِ" -وفي رواية: "فإذا جبريل"-: قال ابن حجر -رحمه الله-: "وفي حديث علي عند الطبري بإسنادٍ حسنٍ: فنادَاها جِبريلُ، فقال: مَن أنتِ؟ قالت: أنا هاجَرُ أُمُّ وَلَدِ إبراهيمَ، قال: فَإِلى مَن وَكَلَكُما؟ قالت: إلى اللهِ. قال: وَكَلَكُما إلى كافٍ" (انتهى).
وهذا فيه إثبات كرامة الأولياء برؤية الملائكة ورؤية جبريل -عليه السلام- خاصةً، وسماع كلامهم، وهذا مِن أعظم الكرامات، ولا أعلم نزاعًا في عدم نبوة هاجر -رضي الله عنها-، لكنها أم ولد لنبي، وأم نبي، وجدة نبينا محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-.
وفي هذه الرواية -التي ذكرها ابن حجر عند الطبري في سؤال جبريل لها: "مَنْ أَنْتِ؟"- لم تَنْسِب هاجر نفسها إلى أبيها، ولا إلى قبيلتها، ولا إلى بلدها الأصلي مصر، بل لم تنسب نفسها إلا إلى إبراهيم -عليه السلام-، بقولها: "أنا هاجَرُ أُمُّ وَلَدِ إبراهيمَ"، فالانتساب إلى الأنبياء والصالحين -ولو على سبيل الرق- هو الشرف، فصحبتها لإبراهيم -عليه السلام- هي التي غيَّرت حياتها إلى معرفة الله وتوحيده، ومحبته، والتوكل عليه والثقة به -سبحانه وتعالى-؛ إذ لم تتعلم هذا من أهلها، ولا قومها المشركين؛ قوم الجبار الذي أراد سارة بسوء فكفَّ الله يده عنها ثلاث مرات، فأطلقها وأعطاها هاجر، فوهبتها سارة لإبراهيم -عليه السلام- يتخذها سُرِّيَّة علامة على جودها وكرم خلقها وتضحيتها في سبيل مَن تحب، زوجها إبراهيم -النبي الكريم صلى الله عليه وسلم-، فاتخذها إبراهيم سُرِّيَّة، وليست زوجة؛ ولذا لم تقل: "أنا زوجة إبراهيم"، بل قالت: "أَنَا هاجَرُ أُمُّ وَلَدِ إبراهيمَ".
فقد بلغ حبُّ إبراهيم -عليه السلام- في قلبها مبلغًا أنساها أن تنتسب إلى غيره، -أو تعمدت عدم الانتساب لغيره- مِن الأهل والقبيلة والوطن، وهذا يعلِّمنا: أنه لا قيمة لنا إلا باتباع الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- والانتساب إليهم، ولا سبيل لذلك إلا باتباع محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي علَّمنا الله به سيرتهم وهديهم، وعملهم، وعمل أهلهم وأصحابهم.
ووالله إن البشرية لا تساوي شيئًا دون تعليمهم وهدايتهم التي هدانا الله بها؛ فلنحذر أن نعظِّم مِن أهل أو قرابة ولو كان أبًا أو أمًّا أو مالًا أو وطنًا فوق تعظيمنا وتوقيرنا للأنبياء، وخاصة محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ فبه رحمنا الله، ونسأل الله أن يرحمنا في الآخرة كما رحمنا به في الدنيا، (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:107).
وفي امتحان جبريل -عليه السلام- لها بقوله: "إلى مَن وَكَلَكُمَا؟": تذكير لها بلحظة سؤالها لإبراهيم -صلى الله عليه وسلم- وهو مرتحل عنها إلى الشام "آللهُ أَمَرَكَ بِهَذا؟ قال: نعم، قالت: إذًا لا يُضَيِّعُنا"، فجبريل -عليه السلام- يؤكِّد لها: أن حسن ظنها بربها ورضاها به ربًّا معينًا لا يضيعها هي وابنها، كان في موضعه، فالله هو الذي أرسله لكفايتها وابنها من عنده -سبحانه-، فقال: "وَكَلَكُمَا إلى كَافٍ"؛ هو -سبحانه- لم يضيعهما، ولم يتركهما، بل كفاهما من فضله، ورحمته وغناه، وكرمه وإحسانه، قال الله -تعالى-: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) (الطلاق:3)، فهو -سبحانه- حسبنا ونعم الوكيل، وهو حسب كلِّ مَن توكل عليه ورضي به.
فاللهم إنَّا نشهدك أنَّا رضينا بك ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ -صلى الله عليه وآله وسلم- نبيًّا.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #20  
قديم 29-03-2024, 12:03 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 141,019
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (20)




قصة بناء الكعبة (18)
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
الفائدة العاشرة:
قال ابن عباس -رضي الله عنهما- في الحديث: "فَإِذَا هي بالمَلَكِ عِنْدَ مَوْضِعِ زَمْزَمَ، فَبَحَثَ بعَقِبِهِ -أَوْ قالَ: بجَنَاحِهِ- حتَّى ظَهَرَ المَاءُ، فَجَعَلَتْ تُحَوِّضُهُ وتَقُولُ بيَدِهَا هَكَذَا، وجَعَلَتْ تَغْرِفُ مِنَ المَاءِ في سِقَائِهَا وهو يَفُورُ بَعْدَ ما تَغْرِفُ. وفي رواية: بِقَدْرِ مَا تَغْرِفُ. قالَ ابنُ عَبَّاسٍ: قالَ النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: (يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ إسْمَاعِيلَ، لو تَرَكَتْ زَمْزَمَ -أَوْ قالَ: لو لَمْ تَغْرِفْ مِنَ المَاءِ- لَكَانَتْ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا). قالَ: فَشَرِبَتْ وأَرْضَعَتْ ولَدَهَا".
في ضرب جبريل -عليه السلام- الأرض بعقبه -أي: رجله أو بجناحه، وربما بهما معًا؛ فنبعت زمزم- فضيلة عظيمة لزمزم؛ لأنها نبعت بضرب جبريل -عليه السلام- الأرض، ومِن فضائلها ما قاله النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّها مُبَارَكَةٌ، إِنَّها طَعَامُ طُعْمٍ، وَشِفَاءُ سُقْمٍ) (أخرجه الطيالسي، وصححه الألباني)، وأصله في مسلم بلفظ: (إِنَّها طَعَامُ طُعْمٍ)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ) (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني)، فالنية مختلفة ينويها العبد المؤمن في أمر الدنيا والآخرة؛ فيجعله الله -عز وجل- له، يجيبه في دعوته.
وقد طُمِرت زمزم بعد عهودٍ مِن تعمير مكة بقبيلة جُرْهُم التي أتت لما رأت الماء، وتزوج منهم إسماعيل -عليه السلام- كما سيأتي في الحديث، لكِنْ طُمِرت بعد ذلك؛ حتى حفرها عبد المطلب، وهي قصة عجيبة نذكرها كما ذكرها ابن كثير -رحمه الله- في "البداية والنهاية" عن محمد بن إسحاق؛ لما فيها مِن الفوائد الجليلية.
قال ابن كثير -رحمه الله-: "ذِكْرُ تجديد حفر زمزم على يدي عبد المطلب بن هاشم، التي كان قد دَرَس رَسْمُها بعد طَمِّ جُرْهم لها إلى زمانه.
قال محمد بن إسحاق: ثُمَّ إِنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ بَيْنَمَا هُوَ نَائِمٌ فِي الْحِجْرِ، إِذْ أُتِيَ فَأُمِرَ بِحَفْرِ زَمْزَمَ وَكَانَ أَوَّلَ مَا ابْتُدِئَ بِهِ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ مِنْ حَفْرِهَا، كَمَا حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ الْمِصْرِيُّ عَنْ مَرْثَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْيَزَنِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زُرَيْرٍ الْغَافِقِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ يُحَدِّثُ حَدِيثَ زَمْزَمَ حِينَ أُمِرَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بِحَفْرِهَا قَالَ: قَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: إِنِّي لَنَائِمٌ فِي الْحِجْرِ إِذْ أَتَانِي آتٍ فَقَالَ لِي: احْفِرْ طِيبَةَ قَالَ: قُلْتُ: وَمَا طِيبَةُ؟ قَالَ: ثُمَّ ذَهَبَ عَنِّي فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ رَجَعْتُ إِلَى مَضْجَعِي فَنِمْتُ فَجَاءَنِي، فَقَالَ: احْفِرْ بَرَّةَ، قَالَ: قُلْتُ: وَمَا بَرَّةُ؟ قَالَ: ثُمَّ ذَهَبَ عَنِّي فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ رَجَعْتُ إِلَى مَضْجَعِي فَنِمْتُ فَجَاءَنِي فَقَالَ: احْفِرِ الْمَضْنُونَةَ قَالَ: قُلْتُ: وَمَا الْمَضْنُونَةُ؟ قَالَ: ثُمَّ ذَهَبَ عَنِّي فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ رَجَعْتُ إِلَى مَضْجَعِي فَنِمْتُ فِيهِ فَجَاءَنِي قَالَ: احْفِرْ زَمْزَمَ قَالَ: قُلْتُ: وَمَا زَمْزَمُ؟ قَالَ: لَا تَنْزِفُ أَبَدًا (أي: لا تنضب) وَلَا تُذِمُّ، تَسْقِي الْحَجِيجَ الْأَعْظَم، وَهِيَ بَيْنَ الْفَرْثِ وَالدَّمِ، عِنْدَ نُقْرَةِ الْغُرَابِ الْأَعْصَمِ، عِنْدَ قَرْيَةِ النَّمْلِ.
قَالَ: فَلَمَّا بَيَّنَ لِي شَأْنَهَا، وَدَلَّ عَلَى مَوْضِعِهَا، وَعَرَفَ أَنَّهُ قَدْ صُدِقَ، غَدَا بِمِعْوَلِهِ، وَمَعَهُ ابْنُهُ الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ -وَلَيْسَ لَهُ يَوْمئِذٍ وَلَدٌ غَيْرُهُ- فَحَفَرَ فَلَمَّا بَدَا لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ الطَّيُّ كَبَّرَ فَعَرَفَتْ قُرَيْشٌ أَنَّهُ قَدْ أَدْرَكَ حَاجَتَهُ فَقَامُوا إِلَيْهِ فَقَالُوا: يَا عَبْدَ الْمُطَّلِبِ إِنَّهَا بِئْرُ أَبِينَا إِسْمَاعِيلَ، وَإِنَّ لَنَا فِيهَا حَقًّا فَأَشْرِكْنَا مَعَكَ فِيهَا. قَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ، إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ قَدْ خُصِصْتُ بِهِ دُونَكُمْ، وَأُعْطِيتُهُ مِنْ بَيْنِكُمْ، قَالُوا لَهُ: فَأَنْصِفْنَا فَإِنَّا غَيْرُ تَارِكِيكَ حَتَّى نُخَاصِمَكَ فِيهَا. قَالَ: فَاجْعَلُوا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مَنْ شِئْتُمْ أُحَاكِمْكُمْ إِلَيْهِ. قَالُوا: كَاهِنَةُ بَنِي سَعْدِ بْنِ هُذَيْمٍ. قَالَ: نَعَمْ. وَكَانَتْ بِأَشْرَافِ الشَّامِ فَرَكِبَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنَ بَنِي أُمَيَّةَ، وَرَكِبَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ نَفَرٌ فَخَرَجُوا وَالْأَرْضُ إِذْ ذَاكَ مَفَاوِزُ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِهَا نَفَدَ مَاءُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَأَصْحَابُهُ فَعَطِشُوا حَتَّى اسْتَيْقَنُوا بِالْهَلَكَةِ فَاسْتَسْقَوْا مَنْ مَعَهُمْ فَأَبَوْا عَلَيْهِمْ، وَقَالُوا: إِنَّا بِمَفَازَةٍ، وَإِنَّا نَخْشَى عَلَى أَنْفُسِنَا مِثْلَ مَا أَصَابَكُمْ.
فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: إِنِّي أَرَى أَنْ يَحْفِرَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ حُفْرَتَهُ لِنَفْسِهِ بِمَا بِكُمُ الْآنَ مِنَ الَقُوَّةِ، فَكُلَّمَا مَاتَ رَجُلٌ دَفَعَهُ أَصْحَابُهُ فِي حُفْرَتِهِ ثُمَّ وَارَوْهُ حَتَّى يَكُونَ آخِرُهُمْ رَجُلًا وَاحِدًا فَضَيْعَةُ رَجُلٍ وَاحِدٍ أَيْسَرُ مِنْ ضَيْعَةٍ رَكْبَ جَمِيعًا.
فَقَالُوا: نِعْمَ مَا أَمَرْتَ بِهِ فَحَفَرَ كُلُّ رَجُلٍ لِنَفْسِهِ حُفْرَةً، ثُمَّ قَعَدُوا يَنْتَظِرُونَ الْمَوْتَ عَطْشَى، ثُمَّ إِنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: إِنَّ إِلْقَاءَنَا بِأَيْدِينَا هَكَذَا لِلْمَوْتِ -لَا نَضْرِبُ فِي الْأَرْضِ لَا نَبْتَغِي لِأَنْفُسِنَا-، لَعَجْزٌ فَعَسَى أَنْ يَرْزُقَنَا اللَّهُ مَاءً بِبَعْضِ الْبِلَادِ، فَارْتَحَلُوا حَتَّى إِذَا بَعَثَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ رَاحِلَتَهُ انْفَجَرَتْ مِنْ تَحْتِ خُفِّهَا عَيْنُ مَاءٍ عَذْبٍ فَكَبَّرَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَكَبَّرَ أَصْحَابُهُ، ثُمَّ نَزَلَ فَشَرِبَ وَشَرِبَ أَصْحَابُهُ، وَاسْتَقَوْا حَتَّى مَلَئُوا أَسْقِيَتَهُمْ، ثُمَّ دَعَا قَبَائِلَ قُرَيْشٍ، وَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ فَقَالَ: هَلُمُّوا إِلَى الْمَاءِ فَقَدْ سَقَانَا اللَّهُ فَجَاءُوا فَشَرِبُوا وَاسْتَقَوْا كُلُّهُمْ، ثُمَّ قَالُوا لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ: قَدْ وَاللَّهِ قُضِيَ لَكَ عَلَيْنَا وَاللَّهِ مَا نُخَاصِمُكَ فِي زَمْزَمَ أَبَدًا، إِنَّ الَّذِي سَقَاكَ هَذَا الْمَاءَ بِهَذِهِ الْفَلَاةِ لَهُو الَّذِي سَقَاكَ زَمْزَمَ فَارْجِعْ إِلَى سِقَايَتِكَ رَاشِدًا فَرَجَعَ وَرَجَعُوا مَعَهُ، وَلَمْ يَصِلُوا إِلَى الْكَاهِنَةِ، وَخَلُّوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَمْزَمَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَهَذَا مَا بَلَغَنِي عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي زَمْزَمَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ سَمِعْتُ مَنْ يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ حِينَ أُمِرَ بِحَفْرِ زَمْزَمَ: ثُمَّ ادْعُ بِالْمَاءِ الرِّوَى غَيْرِ الْكَدِرْ، يَسْقِي حَجِيجَ اللَّهِ فِي كُلِّ مَبَرْ، لَيْسَ يَخَافُ مِنْهُ شَيْءٌ مَا عَمَرْ. قَالَ: فَخَرَجَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ حِينَ قِيلَ لَهُ ذَلِكَ إِلَى قُرَيْشٍ، فَقَالَ: تَعْلَمُوا أَنِّي قَدْ أُمِرْتُ أَنْ أَحْفِرَ زَمْزَمَ قَالُوا: فَهَلْ بُيِّنَ لَكَ أَيْنَ هِيَ؟ قَالَ: لَا، قَالُوا: فَارْجِعْ إِلَى مَضْجَعِكَ الَّذِي رَأَيْتَ فِيهِ مَا رَأَيْتَ فَإِنْ يَكُ حَقًّا مِنَ اللَّهِ يُبَيِّنْ لَكَ، وَإِنْ يَكُ مِنَ الشَّيْطَانِ فَلَنْ يَعُودَ إِلَيْكَ. فَرَجَعَ وَنَامَ فَأُتِيَ فَقِيلَ لَهُ: احْفِرْ زَمْزَمْ إِنَّكَ إِنْ حَفَرْتَهَا لَنْ تَنْدَمْ، وَهِيَ تُرَاثٌ مِنْ أَبِيكَ الْأَعْظَمْ، لَا تَنْزِفُ أَبَدًا وَلَا تُذِمْ، تَسْقِي الْحَجِيجَ الْأَعْظَمْ مِثْلَ نَعَامٍ حَافِلٍ لَمْ يُقْسَمْ، وَيَنْذِرُ فِيهَا نَاذِرٌ لِمُنْعِمْ، تَكُونُ مِيرَاثًا وَعَقْدًا مُحْكَمْ، لَيْسَتْ كَبَعْضِ مَا قَدْ تَعْلَمْ، وَهِيَ بَيْنَ الْفَرْثِ وَالدَّمْ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَزَعَمُوا أَنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ حِينَ قِيلَ لَهُ ذَلِكَ قَالَ: وَأَيْنَ هِيَ؟ قِيلَ لَهُ: عِنْدَ قَرْيَةِ النَّمْلِ، حَيْثُ يَنْقُرُ الْغُرَابُ غَدًا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ. قَالَ: فَغَدَا عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَمَعَهُ ابْنُهُ الْحَارِثُ، وَلَيْسَ لَهُ يَوْمئِذٍ وَلَدٌ غَيْرُهُ -زَادَ الْأُمَوِيُّ: وَمَوْلَاهُ أَصْرَمُ- فَوَجَدَ قَرْيَةَ النَّمْلِ، وَوَجَدَ الْغُرَابَ يَنْقُرُ عِنْدَهَا بَيْنَ الْوَثَنَيْنِ إِسَافٍ وَنَائِلَةَ، اللَّذَيْنِ كَانَتْ قُرَيْشٌ تَنْحَرُ عِنْدَهُمَا فَجَاءَ بِالْمِعْوَلِ وَقَامَ لِيَحْفِرَ حَيْثُ أُمِرَ فَقَامَتْ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ، وَقَالُوا: وَاللَّهِ لَا نَتْرُكُكَ تَحْفِرُ بَيْنَ وَثَنَيْنَا اللَّذَيْنِ نَنْحَرُ عِنْدَهُمَا، فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ لِابْنِهِ الْحَارِثِ: ذُدْ عَنِّي حَتَّى أَحْفِرَ فَوَاللَّهِ لَأَمْضِيَنَّ لِمَا أُمِرْتُ بِهِ، فَلَمَّا عَرَفُوا أَنَّهُ غَيْرُ نَازِعٍ خَلُّوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَفْرِ، وَكَفُّوا عَنْهُ فَلَمْ يَحْفِرْ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى بَدَا لَهُ الطَّيُّ فَكَبَّرَ، وَعَرَفَ أَنَّهُ قَدْ صُدِقَ فَلَمَّا تَمَادَى بِهِ الْحَفْرُ وَجَدَ فِيهَا غَزَالَتَيْنِ مَنْ ذَهَبٍ اللَّتَيْنِ كَانَتْ جُرْهُمٌ قَدْ دَفَنَتْهُمَا، وَوَجَدَ فِيهَا أَسْيَافًا قَلْعِيَّةً وَأَدْرَاعَا فَقَالَتْ لَهُ قُرَيْشٌ: يَا عَبْدَ الْمُطَّلِبِ لَنَا مَعَكَ فِي هَذَا شِرْكٌ وَحَقٌّ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ هَلُمَّ إِلَى أَمْرٍ نِصْفٍ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، نَضْرِبُ عَلَيْهَا بِالْقِدَاحِ قَالُوا: وَكَيْفَ نَصْنَعُ؟ قَالَ: أَجْعَلُ لِلْكَعْبَةِ قَدَحَيْنِ، وَلِي قَدَحَيْنِ، وَلَكُمْ قَدَحَيْنِ فَمَنْ خَرَجَ قَدَحَاهُ عَلَى شَيْءٍ كَانَ لَهُ، وَمَنْ تَخَلَّفَ قَدَحَاهُ فَلَا شَيْءَ لَهُ قَالُوا: أَنْصَفْتَ فَجَعَلَ لِلْكَعْبَةِ قَدَحَيْنِ أَصْفَرَيْنِ، وَلَهُ أَسْوَدَيْنِ، وَلَهُمْ أَبْيَضَيْنِ، ثُمَّ أَعْطَوُا الْقِدَاحَ لِلَّذِي يَضْرِبُ عِنْدَ هُبَلَ -وَهُبَلُ أَكْبَرُ أَصْنَامِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو سُفْيَانَ يَوْمَ أُحُدٍ: اعْلُ هُبَلُ يَعْنِي: هَذَا الصَّنَمَ-، وَقَامَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ يَدْعُو اللَّهَ.
وَذَكَرَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ جَعَلَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ الْمَحْمُودْ، رَبِّي فَأَنْتَ الْمُبْدِئُ الْمُعيِدْ، وَمُمْسِكُ الرَّاسِيَةِ الْجُلْمُودْ، مِنْ عَنْدِكَ الطَّارِفُ وَالتَّلِيدْ، إِنْ شِئْتَ أَلْهَمْتَ كَمَا تُرِيدْ، لِمَوْضِعِ الْحِلْيَةِ وَالْحَدِيدْ، فَبَيِّنِ الْيَوْمَ لِمَا تُرِيدْ، إِنِّي نَذَرْتُ الْعَاهِدَ الْمَعْهُودْ، اجْعَلْهُ لِي رَبِّ فَلَا أَعُودْ. قَالَ: وَضَرَبَ صَاحِبُ الْقِدَاحِ فَخَرَجَ الْأَصْفَرَانِ عَلَى الْغَزَالَتَيْنِ لِلْكَعْبَةِ، وَخَرَجَ الْأَسْوَدَانِ عَلَى الْأَسْيَافِ وَالْأَدْرَاعِ لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَتَخَلَّفَ قَدَحَا قُرَيْشٍ فَضَرَبَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ الْأَسْيَافَ بَابًا لِلْكَعْبَةِ، وَضَرَبَ فِي الْبَابِ الْغَزَالَتَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ فَكَانَ أَوَّلَ ذَهَبٍ حُلِّيَتْهُ الْكَعْبَةُ -فِيمَا يَزَعُمُونَ- ثُمَّ إِنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ أَقَامَ سِقَايَةَ زَمْزَمَ لِلْحَاجِّ.
وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ: أَنَّ مَكَّةَ كَانَ فِيهَا أَبْيَارٌ كَثِيرَةٌ قَبْلَ ظُهُورِ زَمْزَمَ فِي زَمَنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، ثُمَّ عَدَّدَهَا ابْنُ إِسْحَاقَ، وَسَمَّاهَا، وَذَكَرَ أَمَاكِنَهَا مِنْ مَكَّةَ، وَحَافِرِيهَا إِلَى أَنْ قَالَ: فَعَفَتْ زَمْزَمُ عَلَى الْبِئَارِ كُلِّهَا، وَانْصَرَفَ النَّاسُ كُلُّهُمْ إِلَيْهَا لِمَكَانِهَا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَلِفَضْلِهَا عَلَى مَا سِوَاهَا مِنَ الْمِيَاهِ، وَلِأَنَّهَا بِئْرُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَافْتَخَرَتْ بِهَا بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ عَلَى قُرَيْشٍ كُلِّهَا، وَعَلَى سَائِرِ الْعَرَبِ" (انتهى من البداية والنهاية).
وتأمل أنه رغم أنهم يعبدون الأوثان ويستقسمون بالأزلام؛ إلا أنه لما ظهر الماء في زمزمٍ كبَّروا جميعًا، ولما جعل عبد المطلب -قبل الاستقسام بالأزلام- يدعو، دعا الله وحده لا شريك له، وأثنى عليه بالوحدانية، فيا عجبًا لهذه العقول! كيف تشرك بالله بعد ذلك، وهي تعلم أنه الإله الذي لا إله إلا هو؟!

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع



مجموعة الشفاء على واتساب


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 192.56 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 186.76 كيلو بايت... تم توفير 5.80 كيلو بايت...بمعدل (3.01%)]