|
ملتقى الحوارات والنقاشات العامة قسم يتناول النقاشات العامة الهادفة والبناءة ويعالج المشاكل الشبابية الأسرية والزوجية |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
تخطئة العلماء
تَخْطِئة العلماء د. مرضي بن مشوح العنزي الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد: فعلى طالب العلم ألَّا يستعجل في تَخْطِئة العلماء، ما لم يكن في المسألة نصٌّ لا يحتمل إلا الصواب أو الخطأ، وأما إن كانت الدلالة تتجاذبها الأفهام، وللفقه فيها مُتَّسَع، فليوسِّع على نفسه وعلى غيره في الألفاظ التي يختارها في ترجيح الأقوال، أو ردها؛ كقوله: الأقرب، والأولى، والذي يترجح، والأفضل، دون شدة أو جزم يصعُب معه التراجع. وحقيقٌ أن بعض طلبة العلم يصعب عليه ذلك، إن كان ذا شخصية حادَّة طرفية، لا ترى إلا لونين؛ أسودَ وأبيضَ، ولا تعرف إلا رأيين؛ صوابًا وخطأ؛ فعليه أن يكون صادقًا مع نفسه، وأن يروِّضها بالعلم والحكمة، والسَّكِينة والهدوء، وأن يُمسِكَ لِجام لسانه، ويرفُق بنفسه وبإخوانه طلبة العلم، وينتقي أطيب الألفاظ، وإن لم يستطع، فليعرض كلامه على من يتسم بالحكمة والهدوء؛ ليشذِّبَ ألفاظه، ولْيَأْخُذْ برأيه، فهذا أوفق له وأرحم، ودلالة على اتساع علمه، وبُعد أُفُقِهِ؛ قال ابن القيم: "وهكذا الرجل كلما اتسع علمه، اتسعت رحمته"[1]. وقد يحتاج طالب العلم إلى القول الذي خطَّأه في يوم من الأيام، فليست كل القضايا يكفي في ترجيحها الكتب والنظر فيها، بل هناك قضايا لا تتضح إلا مع الزمن، والعمر، والتجرِبة، وكم من عالمٍ تعجَّل في كلماته، وخطَّأ وأنكر بعض الأقوال، ثم مع الزمن احتاج لها! ومن ذلك أن ابن القيم تحدث عن مسألة التبرع لمن استغرقت الديون مالَه، ورجَّح أنه لا يصح تبرعه بما يضر بأرباب الديون، سواء حجر عليه الحاكم، أو لم يحجُرْ عليه، وأن هذا مذهب الإمام مالك، واختيار شيخه ابن تيمية، وبيَّن أنه عند الثلاثة يصح تصرفه في ماله قبل الحجر بأنواع التصرف[2]، ثم قال: "وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يحكي عن بعض علماء عصره من أصحاب أحمد، أنه كان ينكر هذا المذهب ويُضعِّفه، قال: إلى أن بُلِيَ بغريم تبرَّع قبل الحجر عليه، فقال: والله مذهب مالك هو الحق في هذه المسألة"[3]. فلو كان اختيار هذا العالم ليس فيه إنكارٌ أو تَخْطِئة، لكان الرجوع عنه سهلًا، ولا يجد في نفسه حرجًا، ولا يُثرِّب عليه أحدٌ. ولا تكاد تجد مجتهدًا إلا له تراجعات عن بعض أقواله، وهذه دلالة على زيادة علمهم وبحثهم، واستمرارهم في العلم، وإلا لو قعدوا عن العلم، لَبَقِيَت أقوالهم كما هي لا تتغير. وقد اتفق لابن تيمية أنه كان يرى التوقيت في المسح على الخفين، ولما سافر على البريد احتاج إلى القول بعدم التوقيت؛ فقد قال: "لما ذهبت على البريد، وجدَّ بنا السير، وقد انقضت مدة المسح، فلم يمكن النزع والوضوء إلا بانقطاع عن الرفقة، أو حبسهم على وجه يتضرَّرون بالوقوف، فغلب على ظنِّي عدم التوقيت عند الحاجة"[4]. والفقهاء لهم مناهجُ وأصولٌ يسيرون عليها، ومن الظلم أن يُحاكَم الفقيه والعالم على غير منهجه وأصوله، فلْيَفْهَمْ طالب العلم مناهجهم قبل أن يهجُم على تخطئتهم، فكم من متعجِّلٍ خطَّأهم وهو يحبو، وهم يحلِّقون في السماء، بالكاد يراهم حتى يحكم عليهم! فمن ذلك ربط الأحكام الفقهية بالأحاديث صحة وضعفًا، أو بين قبول الحديث والاحتجاج به، فإن لم يصح عنده الحديث، ضعَّف الحكم المبنيَّ عليه، بل قد يصل إلى الحكم ببدعية العمل به، ويتهم الفقهاء. والعكس كذلك، فإذا صحح الحديث، أخذ بظاهره دون نظر إلى طريقة الفقهاء في التعامل مع النصوص، في دلالاتها وتعارضها، وغيرها مما هو مدوَّن في أصول الفقه. والاحتجاج عند الفقهاء أوسع من القبول، فكم من حديث يرَون ضعفه، ثم يعملون به! قال الإمام أحمد: "في رواية مهنا: الناس أكفاء إلا الحائك والحجَّام والكساح، قيل له: تأخذ بالحديث؟ قال: نعم، قيل له: فإنك تضعفه، قال: العمل عليه"[5]، وسأل مهنا الإمام أحمد عن حديث غيلان أنه أسلم وعنده عشر نسوة، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يمسك أربعًا ويَدَعَ سائرهن، فقال: "ليس بصحيح، والعمل عليه"[6]. بل قد يُجمِعون على ضعف الحديث مع إجماعهم على العمل به؛ كحديث ابن عمر رضي الله عنه، ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ))[7]، فقد قال الإمام الشافعي عنه: "أهل الحديث يُوهنون هذا الحديث"[8]، وقد أجمعوا على العمل به؛ قال الإمام أحمد: "ليس في هذا حديثٌ يصِحُّ، لكن إجماع الناس على أنه لا يجوز بيع دَين بدَين"[9]، وقال ابن المنذر: "وأجمعوا على أن بيع الدَّين بالدَّين لا يجوز"[10]. وقد يتركون العمل ببعض ما صح عندهم من الأحاديث لمعارضٍ راجح، أو لكونه منسوخًا عندهم، أو لغيرها من الأسباب؛ قال الإمام مالك: "كان رجال من التابعين تبلغهم عن غيرهم الأحاديث فيقولون: ما نجهل هذا، ولكن مضى العمل على خلافه"[11]، "وكان محمد بن أبي بكر بن حزم ربما قال له أخوه: لِمَ لَمْ تقضِ بحديث كذا؟ فيقول: لم أجد الناس عليه"[12]. وقال الترمذي في آخر كتابه الجامع: "جميع ما في هذا الكتاب من الحديث هو معمول به، وبه أخذ بعض أهل العلم ما خلا حديثين"[13]، ثم ذكرهما. ثم استدرك عليه ابن رجب فقال: "وقد وردت أحاديثُ أُخَرُ قد ادَّعى بعضهم أنه لم يعمل بها أيضًا، وقد ذكرنا غالبها في هذا الكتاب، فمنها ما خرَّجه الترمذي، وأكثرها لم يخرجه"[14]، ثم ذكر عددًا من الأحاديث. وقد يستعجل بعض المبتدئين في العلم، فيهجم عليهم دون بصيرة؛ كما قال رجل للإمام مالك: "لِمَ رَويتَ حديث: (البيِّعان بالخيار) في الموطأ، ولم تعمل به؟ فقال له مالك: ليعلم الجاهل مثلك أني على علمٍ تركته"[15]، ولما احتج أحدهم على الإمام أحمد ببعض الأحاديث غضِب، وقال: "صبيان نحن ليس نعرف هذه الأحاديث؟!"[16]. ومن هذا يتبين أن مقولة الشافعي: "إذا صح الحديث، فهو مذهبي"[17] ليست على إطلاقها، بل لا بد من التعامل مع الحديث الصحيح كما تعامل الأئمة معه من فهم الألفاظ ودلالاتها، والخلو من المعارض، وغيرها، كما هو مُبيَّن في أصولهم التي ساروا عليها؛ يقول النووي: "الشافعي رحمه الله ترك العمل بظاهر أحاديث كثيرة رآها، ولكن قام الدليل عنده على طعن فيها، أو نسخها، أو تخصيصها، أو تأويلها ونحو ذلك"[18]، ويقول القرافي: "كثير من فقهاء الشافعية يعتمدون على هذا، ويقولون: مذهب الشافعي كذا؛ لأن الحديث صح فيه، وهو غلط، فإنه لا بد من انتفاء الْمُعارِض"[19]، ويقول ابن عابدين: "ما صح فيه الخبر بلا معارض، فهو مذهب للمجتهد وإن لم ينصَّ عليه"[20]. بل إن ابن عاشور يرى أن هذه المقولة باطلة، ولا تثبت عن الشافعي إلا بهذا الفهم لها؛ فيقول: "وظهر بطلان ما رُوِيَ عن الشافعي من أنه قال: (إذا صح الحديث عن رسول الله فهو مذهبي)، إذا مثل هذا لا يصدر عن عالم مجتهد، وشواهد أقوال الشافعي في مذهبه تقضي بأن هذا الكلام مكذوب أو محرَّف عليه، إلا أن يكون أراد من الصحة تمام الدلالة بما شرحناه، وسلِمَ من المعارضة بما حذرنا منه"[21]. وهذا الكلام ليس لكل أحد؛ يقول النووي: "وهذا الذي قاله الشافعي ليس معناه أنَّ كل أحد رأى حديثًا صحيحًا قال: هذا مذهب الشافعي وعمل بظاهره، وإنما هذا فيمن له رتبة الاجتهاد في المذهب ... وهذا شرط صعب قلَّ من يتصف به"[22]، وقال ابن الصلاح: "ليس العمل بظاهر ما قاله الشافعي بالهيِّن، فليس كل فقيه له أن يستقلَّ بالعمل بما يراه حُجَّةً من الحديث"[23]. وقال القرافي بعد كلامه السابق: "والعلم بعدم الْمُعارِض يتوقف على من له أهلية استقراء الشريعة، حتى يُحسِن أن يقول: لا معارض لهذا الحديث، وأما استقراء غير المجتهد المطلق، فلا عِبرةَ به"[24]. فالخلاصة: أن على طالب العلم ألَّا يستعجل في تَخْطِئة العلماء، وليجتهد في فهم مناهجهم وآرائهم، داعيًا الله الهدايةَ والسداد، وليترفَّق؛ يقول الشيخ الألباني: "أريد من طلابنا الذين نشؤوا معنا على اتباع الكتاب والسنة، ألَّا يكونوا جريئين على التطاول على الأئمة المجتهدين، وعلى أن يقولوا كما يفلت - أحيانًا - من ألسنتهم قولهم: (نحن رجال، وأولئك رجال)، هذا عار أن يقوله الشباب الناشئ في طلب العلم، وهو لا يزال على الأقل شابًّا في طلب العلم، قد يكون كهلًا، وقد يكون شيخًا في السن، ولكنه شاب ناشئ في طلب العلم ... من فضل أبي حنيفة أنه قال: (إذا جاءت الآثار عن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في مسألة ما متفقة، لا خلاف بينهم فيها، فنحن لهم تَبَعٌ، أما إذا اختلفوا، فنحن رجال، وهم رجال)، متى قال هذه الكلمة؟ إذا اختلف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في مسألة، فهو يختار المناسب لقول من تلك الأقوال، ولا يخرج عنها إلى غيرها، فيجب أن نأخذ أدبًا من هذا الأثر عن أبي حنيفة رحمه الله؛ ألَّا نتجرأ في تَخْطِئة الأئمة، وإنما علينا أن نتَّئِدَ، وأن نتروَّى في الحكم لخطأ، ليس خطأ إمام واحد، بل خطأ أئمة كثيرين ... في الوقت نفسه لا أريد لطلاب العلم أن يتجرؤوا على تَخْطِئة العلماء بأنه بدا له أن الحديث يخالفه، وإنما أريد من طلاب العلم أن ينكبُّوا على دراسة كل مسألة على حِدَةٍ، أن يدرسوها كما يُقال اليوم: دراسة الفقه المقارن، ولكن بشرط أن يصل إلى النتيجة، إلى الثمرة ... فأنا أريد من كل طلاب العلم أن يدرسوا المسائل الخلافية دراسة مبسطة موضوعة تحت الْمِجْهَرِ العلمي، وبعد ذلك ليخرج بالنتيجة، ثم ليقل: هذا رأيي، فإن أصبتُ فمن الله، وإن أخطأتُ فمن نفسي"[25]. وبعد هذه الدراسة الموسَّعة، فإن وجد خطأ عنده من الله برهان عليه - وقلَّ من يسلم من الخطأ - فلْيُبيِّنه بأدب، أو ليتجاوزه - حسب المصلحة التي يراها - وليلتمس لهم العذر المقبول، وليستغفر الله لهم وله، فلولاهم - بعد الله - ما جاء ولا راح، ولا يحرص على إشهار الأخطاء أو جمعها، فيكون مجمعًا للنواقص، وليكن مع العلماء كما يكون ذو المروءة مع صديقه؛ "إن رأى سيئة وطِئها بالقدم، وإن رأى حسنة، رفعها على عَلَمٍ"[26]، فإن هذا أوفق له، وأطيب لنفسه، وسيعود عليه بالبركة في علمه، وعمله، وسيحفظ مكانة العلم وأهله، فإن التطاول على الكبار والتساهل في الهجوم عليهم يُسقط ما عندهم من العلم، ويُجرِّئ الصغار عليهم، ولن تخلُدَ أمة لا تحترم كبارها. ================================================ [1] إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، لابن القيم 2/ 173. [2] انظر: إعلام الموقعين، لابن القيم 4/ 7. [3] المرجع السابق. [4] مجموع الفتاوى، لابن تيمية 21/ 215. [5] المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين، للقاضي أبي يعلى 2/ 92. [6] أحكام أهل الملل والردة من الجامع لمسائل الإمام أحمد بن حنبل، للخلَّال، ص173. [7] رواه الدارقطني في سننه، كتاب البيوع، برقم: (3060)، والحاكم في المستدرك 2/ 65، برقم: (2342). [8] معرفة السنن والآثار، للبيهقي 8/ 51، التلخيص الحبير، لابن حجر 3/ 71. [9] التلخيص الحبير، لابن حجر 3/ 71. [10] الإجماع، لابن المنذر، ص132، وانظر: البناية، للعيني 8/ 395، المغني، لابن قدامة 4/ 37. [11] الجامع في السنن والآداب والمغازي والتاريخ، لابن أبي زيد القيرواني، ص118. [12] المرجع السابق. [13] سنن الترمذي 6/ 230، تحقيق: بشار عواد معروف، وانظر: شرح علل الترمذي، لابن رجب 1/ 323. [14] شرح علل الترمذي، لابن رجب 1/ 325. [15] انتصار الفقير السالك لترجيح مذهب الإمام مالك، للراعي، ص 225. [16] السنة، للخلال 2/ 359. [17] التهذيب في فقه الإمام الشافعي، للبغوي 1/ 67، وقد نُسبت لغيره من الأئمة، بل قال ابن عابدين: "وقد حكى ذلك ابن عبدالبر عن أبي حنيفة وغيره من الأئمة؛ ا.هـ، ونقله أيضًا الإمام الشعراني عن الأئمة الأربعة"؛ [حاشية ابن عابدين 1/ 68]. [18] المجموع، للنووي 1/ 64. [19] شرح تنقيح الأصول، للقرافي، ص450، وقال قبله: "ما يُروى عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: (إذا صح الحديث فهو مذهبي)، أو (فاضربوا بمذهبي عرض الحائط)، فإن كان مراده مع عدم المعارض، فهذا مذهب العلماء كافة، وليس خاصًّا به، وإن كان مع وجود المعارض، فهو خلاف الإجماع، وليس هذا القول خاصًّا بمذهبه، كما ظنه بعضهم". [20] حاشية ابن عابدين 1/ 385. [21] مقاصد الشريعة الإسلامية، لابن عاشور، ص204. [22] المجموع، للنووي 1/ 64. [23] أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح، ص118. [24] شرح تنقيح الأصول، للقرافي، ص450. [25] موقع بوابة تراث الألباني، على الرابط: https:/ / 2u.pw/ oGKoFnuX تمت زيارته في: 11/ 2/ 1446ه. [26] المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، لابن الأثير 1/ 125.
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |