فتح فارس.. الوعد المبين وشروط التمكين - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         ولا تبغوا الفساد في الأرض (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          تحرر من القيود (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          فن التعامـل مع الطالبات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 28 - عددالزوار : 781 )           »          العمل السياسي الديـموقراطي سيؤثر في الصرح العقائدي وفي قضية الولاء والبراء وهي قضية م (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          العمل التطوعي.. أسسه ومهاراته (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 9 - عددالزوار : 131 )           »          طرائق تنمية الحواس الخمس لدى الطفل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 19 )           »          حقيقة العلاج بالطاقة بين العلم والقرآن (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 29 )           »          الله عرفناه.. بالعقل! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          افتراءات وشبهات حول دعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 7 - عددالزوار : 94 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث > ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم

ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم قسم يختص بالمقاطعة والرد على اى شبهة موجهة الى الاسلام والمسلمين

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 08-12-2021, 07:57 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,578
الدولة : Egypt
افتراضي فتح فارس.. الوعد المبين وشروط التمكين

فتح فارس.. الوعد المبين وشروط التمكين

أحمد الشجاع



أعظم البشائر هي التي تأتي في أوقات الشدة؛ لأنها خير ما ينتظر، وعزاء للنفس الحزينة، وبلسم من آلام الإحباط.. وأفضل البشائر وأكثرها تأثيراً هي بشارة من لا يخلف وعده.
في غزوة الخندق كان المسلمون في أضعف حال وأصعب موقف.. ثم جاءت أغلى بشارة وأعزها على نفوسهم عندما بشرهم رسول الله بالتمكين في الأرض، وأن ضعفهم هذا سيتحول إلى قوة لا تقهر.. ومن بعد ضعفهم هذا سيكونون أقوى أمة على وجه الأرض.. ومن بعد فقرهم هذا ستؤول إليهم كنوز وقصور أغنى وأعظم الممالك والدول.
[ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ] [القصص: 5].
وفعلاً تحقق موعود الله للصحابة، ورفعهم فوق الأمم وأورثهم الأرض ومكنهم فيها، وفي تاريخ فتوحات المسلمين تتجلى كل معاني النصر والتمكين.
وفي هذا التقرير نتعرف على بعض معالم وعد الله ورسوله بفتح مملكة فارس العظمى على يد [ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ]، وكيف تحقق ذلك الوعد الإلهي، وما هي صفات الذين استحقوا ذلك الوعد.
عقبة (بَهُرْسير)
أقام سعد بالقادسية شهرين ينتظر أمر عمر، حتى جاءه بالتوجه لفتح المدائن، وتخليف النساء والعيال بالعتيق مع جند كثيف يحوطهم، وعهد إليه أن يشركهم في كل مغنم ماداموا يخلفون المسلمين في عيالاتهم، ففعل وسار بالجيش لأيام بقين من شوال، وكان فَلّ المنهزمين لحق ببابل، وفيهم بقايا الرؤساء مصمِّمين على المدافعة، وبدأت مدن وقرى الفرس تسقط واحدة بعد واحدة، ففتح المسلمون البُرس ثم بابل بعد أن عبروا نهر الفرات ثم كُوثي ثم ساباط بعضهما عنوة والبعض الآخر صلحاً، واستمرت حملات المسلمين المنظمة حتى وصلوا إلى المدائن.
وأمر عمر سعداً بأن يحسن إلى الفلاحين، وأن يوفي لهم عهودهم، ودخلت جموع هائلة من الفلاحين في ذمة المسلمين، وتأثر الفلاحون بأخلاق جيش المسلمين وبعدلهم ومساواتهم المنبثقة من دينهم العظيم، فأميرهم كأصغر الرعية أمام الحق الأكبر، ولا ظلم، ولا فساد في الأرض، خفت عنهم وطأة الكبرياء والعبودية التي كانوا يسامونها؛ فصاروا عباداً لله وحده.
وقد توجه سعد نحو المدائن بعد أمر أمير المؤمنين، فبعث مقدمة الجيش بقيادة زهرة بن الحَوِيَّة، وأتبعه بعبد الله بن المعتَّم في طائفة من الجيش ثم بشرحبيل بن السمط في طائفة أخرى، ثم بهاشم بن عتبة بن أبي وقاص، وقد جعله على خلافته بدلاً من خالد بن عرفطة، ثم لحق سعد بهم ببقية الجيش، وقد جعل على المؤخرة خالد بن عرفطة، وقد توجه زهرة قائد المقدمات إلى المدائن، والمدائن هي عاصمة دولة الفرس، وتقع شرق نهر دجلة وغربه، فالجزء الذي يقع غربه يسمى "بَهُرْسير"، والذي يقع شرقه يسمى "أسبانير" و"طيسفون".
وقد وصل زهرة إلى بَهُرْسير، وبدأ حصار المدينة، ثم سار سعد بن بي وقاص بالجيش الإسلامي، ومعه قائد قواته ابن أخيه هاشم بن عتبة بن أبي وقاص إلى المدائن الغربية " بَهُرْسير"، وفيها ملك الفرس (يَزْدَجرد)، فحاصرها المسلمون شهرين، وكان الفرس يخرجون أحياناً لقتال المسلمين، ولكنهم لا يثبتون لهم، وقد أصيب زهرة بن الحوية بسهم، وذلك أنه كان عليه درع مفصومة، فقيل له: لو أمرت بهذا الفصم فسُرد (حتى لا تبقى فيها فتحة تصل منها السهام) فقال: ولِمَ؟ قالوا: نخاف عليك منه، قال: إني لكريم على الله إن تَرك سهم فارس الجند كلَّه ثم أتاني من هذا الفصم حتى يثبت فيَّ وكان كريماً على الله كما أمَّل، فكان أولَ رجل من المسلمين أصيب يومئذ بسهم، فثبت فيه من ذلك الفصم، فقال بعضهم: انزعوها منه، فقال: دعوني فإن نفسي معي ما دامت فيَّ لعلي أن أصيب منهم بطعنة أو ضربة أو خطوة. فمضى نحو العدو فضرب بسيفه شهريار من أهل اصطخر فقتله، وقد بقي المسلمون في حصار (بَهُرْسير) شهرين.
وبعد شهرين من الحصار توصل المسلمون إلى سلاح جديد يعينهم على فتح هذه المدينة الصعبة؛ فقد أشار بعض الفرس المسلمين على سعد بن أبي وقاص بأن يستعمل سلاح المنجنيق (والمنجنيق لم يكن معروفًا عند العرب)، فصنع المسلمون أكثر من منجنيق، ووضعوها جنباً إلى جنب على حدود مدينة بَهُرَسِير، وبدءوا في جمع الحجارة الضخمة ووضعها في مقلاع المنجنيق ورميها على مدينة بهرسير، وبدأت هذه الحجارة تتخطى السور، وتقع على أهل بهرسير.
وفي هذا دلالة على أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا لا يهملون تحصيل أسباب النصر المادية إذا قدروا عليها، وأنهم كانوا على ذكر تام لقول الله تعالى: [ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ] [الأنفال:60]، إلى جانب تفوقهم في أسباب النصر المعنوية التي انفردوا بأهمها وأبرزها وهو الاعتماد على الله وذكره ودعاؤه.
صبر أهل بهرسير بعض الوقت، ولكن بعد أن زاد عليهم الضرب، وكثرت أسهم المسلمين المطلقة عليهم بدءوا يفكرون في الاستسلام، وبالفعل بعدما اقترب الشهران من نهايتهما، خرج رسول منهم يطلب الاستسلام، ولكن على أساس أن يصبح للمسلمين كل ما هو في غرب دجلة، وألا يقاتل الفرسُ المسلمين على هذه المنطقة بعد ذلك، وللفرس ما في شرق دجلة.
وهذا لأنهم لم يفهموا الرسالة التي جاء بها المسلمون، فالمسلمون جاءوا لكي يفتحوا هذه البلاد حتى ينشروا الإسلام في كل الأرض؛ فحدود الفتح الإسلامي لن تقف عند دجلة، ولن تقف عند العراق، ولن تقف عند فارس، ولن تقف عند أية حدود، حتى يَعُمَّ الإسلام الأرض كلها.
وكان من الطبيعي أن يرفض المسلمون هذا العرض، فقال لهم الفرس: أما شبعتم، لا أشبعكم الله؟!، فبدأ المسلمون يستكملون الضرب بالمجانيق والسهام على الفرس، فما كان من الفرس إلا أن تسللوا خلسة من مدينة بهرسير على هذا الجسر العائم من بهرسير إلى أسبانير، وتركوا المدينة خالية، والمسلمون مستمرون في ضرب المدينة، ولم يعلموا أن المدينة خالية حتى خرج لهم أحد الفرس طالباً الأمان، فأمَّنه المسلمون، فقال لهم: إن المدينة أصبحت خالية.
وبالفعل تسلق المسلمون الأسوار، ودخلوا مدينة بهرسير؛ فوجدوها – فعلاً – خالية، وبها كميات ضخمة من الأسلحة، وكميات ضخمة من العتاد، كان من الممكن أن تعين الفرس على الصبر على القتال والحصار، لكنهم فقدوا حمية القتال وفقدوا الروح القتالية، وانهزموا هزيمة نفسية شديدة أمام المسلمين المصِرِّين على هذا الحصار؛ وهربوا جميعاً إلى منطقه أسبانير.
- الآيات التي قرأها سعد في مظلم ساباط:
نزل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في (مظلم ساباط) بعد أن قدم هاشماً ومن معه نحو بهرَ سير، وهي الجزء الغربي من المدائن، ولما نزل سعد ذلك المكان قرأ قول الله تعالى: [ وَأَنذِرْ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعْ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ ] [إبراهيم:44]. وإنما تلا هذه الآية لأن في ذلك المكان كتائب لكسرى تُدعى بوران، وكانوا يحلفون بالله كل يوم: لا يزول ملك فارس ما عشنا، وقد هزمهم وفرقهم زهرة بن الحوية قبل استشهاده.
أبيض كسرى
دخل المسلمون بهرسير بعد أن تسلقوا الأسوار، فدخلت الجيوش الإسلامية الواحد تلو الآخر قرب منتصف الليل، وكان جيش المسلمين قد وصل في هذه الفترة إلى أكبر قوة إسلامية على وجه الأرض في هذه اللحظة، حيث بلغ قوامه ستين ألف جنديٍّ مقاتل مسلم، وقد كان أكبر جيش للمسلمين قبل ذلك جيش أبي عبيدة بن الجراح في موقعة اليرموك حيث كان 38 ألفًاً.
فبعد انتصار القادسية تَوَالى المدد على سعد بن أبي وقاص من المدينة ومن كل الجزيرة العربية بعد أن كُسِرَت شوكة الفرس، وعلا شأن المسلمين، وبدأ المسلمون الذين كانوا مترددين في الخروج لقتال الفرس يخرجون للقتال مع الجيش الإسلامي، 60 ألف مقاتلٍ مسلمٍ عبروا هذا السور تسلقًاً ودخلوا بهرسير، ولم يجدوا فارسيّاً واحداً في المنطقة بأكملها، وأخذوا يزحفون على كل المدينة حتى وصلوا إلى شاطئ دجلة الغربي، ونظروا منه في منتصف الليل إلى الناحية الأخرى من الشاطئ، فوجدوا مدينة أسبانير، فصاح ضرار بن الخطاب: الله أكبر هذا أبيض كسرى، هذا ما وعد اللهُ ورسولُه.

فقد رأوا من هذه المنطقة على الناحية الأخرى إيوان كسرى، وهو بناء ضخم ارتفاعه ما بين 28 إلى 29 متراً، وقبته البيضاوية كانت ضخمة للغاية، ويحيط بالبناء كله أشجار، لكن القبة تعلو فوق هذه الأشجار؛ لذلك رآها المسلمون وهم على شاطئ دجلة الغربي، وقد أوقد الفرس حولها المصابيح، فظهر إيوان كسرى أبيض متلألئاً وسط الجهة الأخرى؛ فصاح ضرار بن الخطاب: هذا ما وعد الله ورسوله. يتذكر ما وعد به الله ورسوله المسلمين في غزوة الخندق.
وكان ضرار بن الخطاب – وقتئذٍ - مشركاً، وكان في جيش قريش الذي يحاصر المدينة، ولكن ضراراً علم بعد ذلك بهذا الوعد بعد أن أسلم.
بعد أن وافق رسول الله على اقتراح سلمان الفارسيِّ بحفر الخندق حول المدينة، بدأ المسلمون جميعاً يحفرون في هذا الخندق حتى وصلوا إلى صخرة ضخمة استعصت على المسلمين، وكانت هذه الصخرة من نصيب سلمان الفارسي، فاستعصت عليه وكان شديد الساعد قوي البنيان، ومع ذلك لم يستطع تحطيم هذه الصخرة؛ فذهب إلى رسول الله يستأذنه في تغيير اتجاه الحفر ليتجنب هذه الصخرة، ولكن الرسول ذهب بنفسه وعاين الموقف والمكان، ثم طلب معولاً، وبدأ يحطم هذه الصخرة بنفسه؛ فضرب الصخرة ضربة شديدة بالمعول، فبدأت الصخرة تتفتت وخرج منها وهج شديد أضاء - كما يقول سلمان الفارسي - ما بين لابتي المدينة، يعني نوَّر المدينة كلها؛ فصاح الرسول: "الله أكبر أُعطِيتُ مفاتيح الروم، هذه قصورها الحمراء"، ثم ضرب ضربة ثانية فأضاء المكان بشرر عظيم، فقال: "الله أكبر أُعْطِيتُ مفاتيح كسرى، هذا أبيض كسرى".
وهذا الذي نحن بصدد الحديث عنه الآن؛ ثم ضرب الضربة الثالثة، فقال: "الله أكبر أعطيت لي مفاتيح اليمن، هذه قصور صنعاء".
وبشَّر المسلمين في هذا الوقت وهم محاصَرون من قريش من كل جانب، والمسلمون يتخطفهم الخوف والجزَع والرعب من دخول المشركين عليهم المدينة، ومع ذلك - في هذا الوقت - يبشرهم أنهم سيفتحون بلاد الروم أعظم قوة على الأرض، ويفتحون فارس، ويفتحون اليمن؛ فيقول المؤمنون في هذا الوقت: هذا ما وعد اللهُ ورسولُه.
ثم كرر المقولة ضرار بن الخطاب بعد أن أسلم: الله أكبر هذا ما وعد الله ورسوله.
تأتي هذه المقولة منه، فتُذكِّر المسلمين بهذه البشرى العظيمة، ويبدءون في تكبير الفتح، وهو: "الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد. الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً. لا إله إلا الله، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون".
هذا هو تكبير الفتح، وهذه الصيغة سنة عن الرسول أن تُقال في الفتح، وليس سنة أن تُقالَ في العيد؛ لأن تكبير العيد هو: الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر ولله الحمد فقط؛ ولكن المسلمين - لعذوبة هذه الكلمات - تعوّدوا أن يقولوها في العيد، وليس هذا هو الأصل، حسب قول الدكتور راغب السرجاني.
بدأ ستون ألف مسلم يكبرون هذا التكبير في صوت واحد استبشاراً بفتح المدائن، وحتى الآن لم يعبر المسلمون إلى الناحية المقابلة، ويصل هذا التكبير إلى الناحية الأخرى إلى يزدجرد كسرى فارس، وإلى جنود فارس؛ فيزيدهم رعباً فبدءوا يفكرون، فالمسلمون على الأبواب، وصوتهم صوت التكبير يرعب الفرس رعباً شديداً، وقد نُصِرَ رسول الله ونُصِرَ أصحابُه بالرعب.
فتح مدينة أسفانبر
بدأ الفرس يُصابون بالرعب رغم أنهم كانوا مستعدين لملاقاة المسلمين، فقد جمعوا السفن الموجودة في دجلة على مسافة 150 كيلو متراً من المدائن جنوباً، و170 كيلو متراً من المدائن شمالاً على شاطئ دجلة أمام المدائن على الناحية الشرقية؛ حتى لا يستطيع المسلمون أن يسيطروا على أية سفينة من الشمال أو الجنوب، ليعبروا بها إلى الضفة الأخرى، كما قطع الفرس الجسر العائم عند عبورهم من مدينة بَهُرَسير إلى مدينة أسبانير.

هذا العبور كان - تقريباً - في شهر مارس، وشهر مارس بداية الفيضان في نهر دجلة، ولكنه لم يكن قد وصل بعدُ إلى النهر، وكان في نهر دجلة بعض المخاضات التي من الممكن أن يسير فيها المسلمون؛ فأشار بعض الفرس على سعد بن أبي وقاص أن يعبر بالجيش الإسلامي نهر دجلة من إحدى هذه المخاضات، لكن سعد بن أبي وقاص يتصف بالتريث والتمهل والحرص على الجيش الإسلامي؛ لذلك كان متردداً تردداً شديداً في عبور هذا النهر العظيم بهذا الجيش، فلا سفينة ولا جسر ولا شيء يعينهم على العبور، ثم استخار الله، ونام ليلة، فرأى رؤيا مفادها أن خيول المسلمين قد عبرت النهر، فعزم لتأويل رؤياه على العبور، وجمع الناس فحمد الله تعالى وأثنى عليه وقال: "إن أعداءكم قد اعتصموا منكم بهذا البحر فلا تخلصون إليهم معه وهم يخلصون إليكم إذا شاؤوا فَيُنَاوشونكم في سفنهم وليس وراءكم شيء تخافون أن تؤتوا منه، قد كفاكموهم أهل الأيام، وعطلوا ثغورهم وأفنوا ذادتهم، وقد رأيت من الرأي أن تبادروا جهاد عدوكم بنياتكم قبل أن تحصركم الدنيا، ألا إني قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم".
فقالوا جميعاً: عزم الله لنا ولك على الرشد فافعل.. وهذا الموقف يشبه موقف العلاء بن الحضرمي قائد الجيش السابع من جيوش الردة، حيث كان قد فتح البحرين عبوراً كذلك على الخيول من غير سفن ولا شيء.
وفي هذا الموقف دروس وعبر وفوائد، منها:
- تذكُّر معية الله جل وعلا لأوليائه المؤمنين بالنصر، والتأييد فهذه الرؤيا الصادقة التي رآها سعد رضي الله عنه من الله جل وعلا لتثبيت قلبه ليُقدم على هذا الأمر المجهول العاقبة.
- أن الله تعالى يُجري الأمور لصالح المؤمنين، فالنهر جرى بكثافة مفاجئة على غير المعتاد، وظاهر هذا أنه لصالح الفرس؛ حيث إنه سيمنع أي محاولة لعبور المسلمين، ولكن حقيقته أنه لصالح المسلمين، حيث أعطى ذلك الكفار طمأنينة؛ فلم يستعدوا لقدوم المسلمين المفاجئ لهم، ولم يستطيعوا أن يحملوا معهم كل ما يريدون حمله من الفرار.
- أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتفاءلون خيراً بالرؤيا من الرجل الصالح، ويعتبرونها مُرجحاً للإقدام على العمل، وكانوا رضي الله عنهم يحسنون الظن بالله تعالى، ويعتبرون أن رُؤَى الخير تثبيت وتأييد منه تعالى.
- أن قادة المسلمين في العهد الراشدي كانوا يتصفون غالباً بالحزم واغتنام الفرص وتفجير طاقة الجنود، وهم في حماسهم وقوة إيمانهم، فهذا سعد رضي الله عنه يأمر جيشه بأن يعبروا إلى الأعداء بسلاح الإخلاص والتقوى، وقد كان مطمئناً إلى مستوى جيشه الإيماني؛ فأقدم على ما أقدم عليه مستعيناً بالله تعالى، ثم بذلك المستوى الرفيع.
- اتصاف الصحابة رضي الله عنهم ومن معهم من التابعين بالطاعة التامة لقادتهم، وكانوا يعتبرون هذه الطاعة واجباً شرعياً وعملاً صالحاً يتقربون به إلى الله تعالى.
كان هذا قراراً عجيباً أن يعبر بـ60 ألفاً بالخيول؛ فالخيول تجيد السباحة، لكن المسلمين أنفسهم لا يجيدونها في غالبيتهم؛ لأنهم يعيشون في الصحراء، ففي العبور - إذن - مخاطرة شديدة، لكن لم يكن أمام المسلمين حَلّ آخر يوصِّلُهم للناحية الثانية للمدائن وهم مصممون على فتح المدائن؛ فقرر سعد بن أبي وقاص العبور، بينما كان يزدجرد في الناحية الأخرى مطمئنًّا تمام الاطمئنان أن المسلمين لن يعبروا هذه المنطقة قبل أربعة أو خمسة شهور على الأقل؛ لأن الفيضان ينتهي في أوائل أكتوبر وتبدأ المياه عندها في التراجع.
وتمكن المسلمون من عبور النهر على الخيول، وعندما بدأ الجيش بالعبور فاجأهم الفيضان قبل موعده بأسبوعين أو ثلاثة، ولكن سعد بن أبي وقاص لم يمنعه هذا الفيضان أن ينفذ وعده للمسلمين بعبور هذا النهر؛ فجمع المسلمين كلهم، وقال لهم:
بدأ الجيش في العبور وعلم سعد بن أبي وقاص أن الفرس قد وضعوا على حدود مدينة أسبانير خارج السور على شاطئ نهر دجلة قوات فارسية للدفاع عن مدينة أسبانير، وهو يريد أن تصل أقوى فرقة من فرق المسلمين إلى شاطئ دجلة في الناحية الثانية حتى تلاقي هذا الحرس الفارسي لقاءً قويّاً عنيفاً، وكان عند سعد بن أبي وقاص كتيبة تسمى الخرساء وهي أقوى كتائب المسلمين، وكان سعد يوكل لها المهام الصعبة، وتُسَمَّى الخرساء؛ لأنها كانت تخرج على الجيوش المعادية بدون صوت غير الهجوم المفاجئ على الجيوش المعادية دون أي تنبيه أو إنذار بالهجوم، وكان قائد هذه الكتيبة القعقاع بن عمرو التميمي.
لم يرضَ سعد أن يأمر كتيبته الخرساء بالهجوم في أول دجلة؛ لأنه يعلم أن الأمر في منتهى الصعوبة، فآثر أن يكون هذا الأمر تطوعاً، وأعلن في المسلمين أنه من يريد أن يتطوع لعبور دجلة في مقدمة الصفوف فليتطوع؛ فتقدم له من المسلمين 600 متطوع تقدموا ليكونوا أول أناس تعبر دجلة، فأطلق عليهم سعد بن أبي وقاص "كتيبة الأهوال"، وأي هولٍ أكثر من أن يعبروا نهر دجلة على الخيول وفي مقابلتهم الجيش الفارسي على الضفة الأخرى في وقت الفيضان؟.
وبالفعل بدأ الـ 600 يجهزون أنفسهم للعبور، وأُمِّرَ عليهم عاصم بن عمرو التميمي. وأَمَرَ عاصم كتيبته أن يتخذوا من أنفسهم 60 فرداً؛ ليكونوا في مقدمة الـ 600، وهؤلاء الـ 600 في مقدمة الـ 60000؛ فخرج له ستون فارساً من فرسان المسلمين الأشداء، وطلبوا أن يكونوا على مقدمة الصفوف، فخرج بهم عاصم بن عمرو التميمي، واقتحم بهم دجلة، وأمر الجيش بأن يشرع الرماح، ويلقي بالرماح في عيون الفرس، ويقول لهم: لا تضربوا الفرس في أي مكان، ولكن اضربوهم في العيون.
وهذا الأمر قد تكرر من قبل في موقعة الأنبار، فقد أمر خالد بن الوليد الجيوش الإسلامية في هذه الموقعة أن تلقي بالسهام في عيون الفرس؛ فأصابوا منهم في ذلك الوقت ألف عين، وسميت موقعة الأنبار بذات العيون؛ لأنه فُقِئَ فيها ألف عين للفرس، فأراد عاصم بن عمرو التميمي أن يلقي الرعب والرهبة في قلوب الفرس من مهارة المسلمين في رمي السهام والرماح، كما يريد أن يعطل قدراتهم القتالية، فإذا لم يُقْتل الواحد منهم، فإنه يصير أعور، ويترك القتال.
وتقدم الستون وتبعهم الستمائة، وبقي الستون ألفاً واقفين على الشاطئ ينظرون: ماذا سيفعل هؤلاء الأبطال الستمائة؟!، وبدأ عاصم يقتحم دجلة بالخيول، وأذهلت المفاجأة الفرس؛ إذ كيف يأخذ المسلمون خيولهم مقتحمين دجلة وسط الفيضان.
هذا شيء لم يكن يخطر لهم على بالٍ أبداً، وبدءوا في إنزال قوات فارسية على خيول أيضاً؛ لتقاتل المسلمين في المياه.
فرقٌ كبير جدّاً بين القوات المسلمة على الخيول، وبداخلهم روح عظيمة جدّاً؛ فهم منتصرون في موقعة القادسية، وعندهم إيمان شديد بأن الله سيفتح عليهم هذه البلاد، ويفتح عليهم أبيض كسرى الذي وعد اللهُ به ورسولُه، وبين الفرس الذين تملؤهم هزيمة نفسية قاسية؛ فهم قد هُزِمُوا هزيمةً شديدةً في موقعة القادسية، كما هربوا من مدينة بهرسير ذات الأسوار العظيمة، وتجمعوا في مدينة المدائن منتظرين الجيوش الإسلامية، إحساس المنتصر يختلف عن إحساس المنهزم، أضف إلى ذلك أن المهارة الإسلامية تفوق المهارة الفارسية في القتال، وكذلك تفوق الخيول الإسلامية على الخيول الفارسية؛ فاجتمعت هذه العوامل جميعاً، ودخل الفرس في حرب خاسرة منذ البداية مع المسلمين وسط المياه، والتقى المسلمون مع الفرس بالرماح، وشهروا الرماح في أعين الفرس؛ ففقئوا منهم العيون، وصار الفرس بين قتيل وأعور وفارٍّ من المسلمين، وكان الأولى والأكثر حكمة في القتال أن يصبرَ الفُرْسُ على وجودهم على الشاطئ ليُلْقُوا على المسلمين السهام، ويتريثوا بعدم الدخول مع المسلمين في موقعة بعد أن أدركوا قيمة المقاتل المسلم.
وقد جعل اختلاط المسلمين بالفرس في القتال داخل المياه القوات الفارسية - التي على الشاطئ - عاجزةً عن رمي الأسهم على الجيش المسلم؛ فانتصر المسلمون عليهم انتصاراً عظيماً، وعبر عاصم بن عمرو التميمي والستمائة مقاتل الذين معه نهر دجلة، ووصلوا الشاطئ الشرقي لنهر دجلة؛ ليقاتلوا القوات الفارسية الموجودة على الجهة الأخرى، وسعد بن أبي وقاص على الناحية الأخرى يراقب الموقف، ويكبر هو والمسلمون كلما زاد تقدم المسلمون، وذلك يزيد حميَّة وحماسة الجيش المسلم، ويَفُتُّ في عَضُدِ الجيش الفارسي، وبدأ المسلمون يُعمِلُون سُيُوفَهم في الرقاب الفارسية خارج أسوار "أسفانبر" على الشاطئ الشرقي لنهر دجلة، حتى أتاهم رجل من داخل مدينة أسفانبر من داخل السور، ونادى على الفرس قائلاً: علامَ تقتلون أنفسَكم؟!، ليس في المدينة أحد، كل من بالمدينة هربوا. وعندما سمع الفرس هذا الكلام انهزموا هزيمة نفسية شديدة، وبدءوا يفِرُّون من أمام القوات الإسلامية.
وشاهد ذلك سعد بن أبي وقاص فأمر الستين ألفًا بعبور دجلة على خيولهم، وبدأت القوات الإسلامية تعبر دجلة، وسعد يقول لهم: اعبروا مَثْنَى مَثْنَى. أي اثنين اثنين؛ وذلك حتى يكونا عونًا لبعضهما البعض؛ فإذا سقط أحدهما في الماء، أو غرق يستطيع الآخر أن يساعده، أو يخبر المسلمين عنه، وأمرهم أن يقولوا: "نستعين بالله، ونتوكل عليه، حسبنا الله ونِعْمَ الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".
فهذا دَيْدَنُ الجيش الإسلامي وهو يعبر دجلة، وكان في موقعة القادسية قد أوصاهم أن يقولوا: "لا حول ولا قوة إلا بالله"، فهم في كل موقعة لهم ذِكْرٌ لله، يستشعرون به مساعدة الله ونصره لهم.
هروب كسرى
عبر المسلمون مثنى مثنى في هذا الوقت إلى مدينة أسفانبر، وقصرها الأبيض قصرٌ بوابته شرقية مواجهة لدجلة، وفي هذا الوقت كان كسرى فارس يهرب من هذا الموقف الرهيب، حيث هرَّبوه في زبيل (وهو شيء مثل القفة أو يشبه الجوال، يدخلوه فيه حتى لا يراه أحد)، من الباب الخلفي لقصره، ويهرب خارج الأسوار إلى مدينة حلوان على بُعْدِ 200 كيلو مترٍ من المدائن، وهذه هي المرة الثانية التي يُوضع فيها كسرى فارس في زبيل أو قُفَّة؛ فالمرة الأولى عندما كان صغيراً، فقد كان كسرى أنوشروان يقتل كل الناس الذين يستحقون الملك حتى لا ينافسه أحد في ملك فارس، فهربت به أمه ووضعته في قُفّة، وخرجت به من هذا القصر نفسه، وهربت به واختفت في أهل فارس حتى أَتَى به أهل فارس، وعيَّنوه كسرى فارس ولم يكن يرغب في ذلك؛ فقد كان عمره 23 سنة عندما ملّكوه عليهم.
وعبر الستون ألفًا نهر دجلة، ولم يفقد المسلمون جنديّاً واحداً في العبور، وإنما سقط أحدهم في المياه، فأدركه القعقاع بن عمرو التميمي وجذبه، ثم وضعه على حصانه ثانيةً؛ فقال له هذا الرجل: يا قعقاع، أعجزت النساء أن يلدن مثلك؟. وهذا من فضل الله أن يدخل ستون ألفًا المياه ويخرجوا مثلما دخلوا.
وأول من دخل مدينة أسفانبر كتيبة الأهوال، حيث عبرت السور إلى داخل المدينة وفتحت الأبواب الضخمة للمسلمين، ودخلت خلفَ كتيبةَ الأهوالِ كتيبةُ الخرساء، ثم تبع كتيبة الخرساء جيش المسلمين بالكامل فدخل مدينة أسفانبر ذات الشوارع العريضة والبيوت الضخمة العظيمة، ويتجولون في المنطقة فلا يجدون أحداً من الفرس مطلقاً باستثناء اثنين من الفرس فقط، يبدو أن الحمية أخذتهما فمنعتهما من الهرب، أو أنهما قد جُنَّا، وكانا مستغرقَيْنِ في استعراضات أمام المسلمين؛ فواحد منهما بيده كرة يرميها لأعلى، والثاني يضرب الكرة بالسهم، فيصيب الكرة في السماء؛ فهذا استعراض يَشِي بالمهارة والدقة في الرمي، فتقدم رجل من المسلمين اسمه أبو اليزيد المضَارِب، ودخل عليهما فأطلق الفارسيان عليه السهام فلم يصيباه، وهو أقرب من الكرة الطائرة؛ وهذا من اضطراب أعصابهم، وتوفيق الله حتى وصل إليهم أبو اليزيد المضارب وقتل الاثنين بضربة واحدة، ثم تجول المسلمون حتى وصلوا إلى القصر الأبيض إلى حدود إيوان كسرى، وكان سعد بن أبي وقاص أثناء سيره يردّد قول الله: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آَخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان: 25-29]، فيتلو هذه الآيات، وهو مستشعر تمام الاستشعار أن الله تعالى أذلَّ الفرس لعدم طاعتهم لله، ونَصَرَ المسلمين لتمسكهم بدين الله، يتلو هذه الآيات من منطلق هذه العزة، ويتقدم نحو القصر الأبيض.
دخول المسلمين إيوان كسرى
القصر الأبيض كان الحصن الوحيد الذي يوجد بداخله بعض الفرس المتحصنين الذين لم يشتركوا في القتال، عز عليهم أن يفارقوه، وربما لم يستطيعوا الهرب منه، هذا القصر الأبيض كما مر من قبل ارتفاع سوره من 28 إلى 29 متراً، والقبة البيضاوية التي كانت في وسطه أبعادها 25 متراً × 43 متراً. والمبنى كان كله أبيض، وعليه نقوش كثيرة، ورخام وفسيفساء وأحجار كريمة، وكان مزينًا بزينة عظيمة، وحول هذه القبة الكبيرة قباب كثيرة على الجانبين، والسور كله ليس به أية نوافذ، بل كان مُصْمَتًا؛ وذلك تأميناً للقصر.
حاصر المسلمون القصر حصاراً بسيطًا؛ لأنه لا يوجد بداخله أحد يضرب عليهم بالسهام أو غيره، لكن بداخله بعض الفرس، فذهب إليهم سلمان الفارسي، وقال لهم: أنا منكم، اقبلوا واحدة من ثلاث: إما الإسلام وتكونون منَّا؛ لكم ما لنا، وعليكم ما علينا، وإما الجزية ونمنعكم، وإما المنابذة. وأعطاهم مهلةً ثلاثة أيام كما علَّمهم رسولُ الله.
وفي اليوم الثالث خرج هؤلاء الفرس، وقبلوا دفع الجزية للمسلمين؛ فدخل سعد بن أبي وقاص بعد فتح القصر، وتبعه المسلمون داخل القصر الأبيض أو قصر إيوان كسرى، الذي لم يدخله أحد قبل ذلك غير الوفد المكون من أربعة عشر الذين ذهبوا لزيارة كسرى منذ فترة يدعونه إلى الإسلام.
وقام سعد بن أبي وقاص بمجرد دخوله القصر بأداء صلاة الفتح، وهي ثماني ركعات متصلة لا يفصلها تسليم، ولا تُصلَّى جماعة، وإنما تُصلَّى فرادى، وكان دخول القصر في يوم الجمعة 19 من صفر سنة 16هـ، وكان المسلمون قد أَذَّنوا لإقامة صلاة الجمعة، وهذه أول مرة يصلي فيها المسلمون صلاة الجمعة منذ دخولهم أرض العراق، فمنذ مَقْدِم خالد بن الوليد سنة 12هـ حتى هذه اللحظة لم يصلوا الجمعة، وإنما كانوا يُصلُّون دائماً الظهر قصراً، أي جمع الظهر مع العصر، والمغرب مع العشاء؛ لأنهم كانوا دائماً على سفر، ولكن سعد بن أبي وقاص بمجرد دخوله المدائن اعتبر نفسه مقيماً، وأن المدائن هي البلد التي سيتخذها المسلمون مقاماً بعد أن كُسِرَتْ شوكة الفرس، وبذلك أصبحت المدائنُ مدينة للمسلمين، يقيمون فيها كبقية بلادهم مثل المدينة المنورة ومكة المكرمة، وكسائر بلاد المسلمين؛ ولذا أتم الصلاة في ذلك اليوم، وصلَّى الجمعة، كما صلَّى المغرب والعشاء كل فرض في وقته دون جمع أو قصر.. كانت هذه أول مرة بعد أربع سنوات من الجهاد المستمر.
ثم بدأ سعد بن أبي وقاص في جمع الغنائم، وكانت مهمة شاقة جدّاً على المسلمين؛ لأن الغنائم ليس لها حصر، وكمياتها ضخمة، كما أن الفرس قد هربوا ببعض الغنائم، فأمّر سعد على إحضار هذه الغنائم عمرو بن عمرو بن مقرن المزني، كما أطلق زهرة بن الحُوِيَّة قائد مقدمة المسلمين في متابعة الفرق الفارَّة من الفرس للقبض عليهم، وإحضار الغنائم التي هربوا بها، وبدأ المسلمون يجمعون الغنائم، ولم يكن سعد يرغب في تقسيم الغنائم إلا عندما تكتمل كلها، وهذه الغنائم في الحقيقة كان لها ذكر طويل في كتب التاريخ، ووُصِفت بصفاتٍ عظيمة. وبسقوط المدائن استسلمت بقية المدن بدون قتال.
مواقف من أمانة المسلمين:
أ - لما هبط المسلمون المدائن وجمعوا الأقباض، أقبل رجل يحُف معه، فدفعه إلى صاحب الأقباض، فقال: ما رأينا مثل هذا قط،
ما يعد له ما عندنا ولا يقاربه، فقالوا: هل أخذت منه شيئاً؟، فقال: أما والله لولا الله ما أتيتكم به، فعرفوا أن للرجل شأناً، فقالوا: من أنت؟، فقال: لا والله لا أخبركم لتحمدوني، ولا غيركم ليقِّرظوني، ولكنني أحمد الله وأرضى بثوابه، فأتبعوه رجلاً حتى انتهى إلى أصحابه، فسال عنه فإذا هو عامر بن عبد قيس.
ب - قال عصمة بن الحاث الض*َّبِّي: خرجت فيمن خرج يطلب فأخذت طريقاً مسلوكاً، وإذا عليه حَمَّار، فلما رآني حثَّه فلحق بآخر قُدّامه، فمالا وحثَّا حماريهما، فانتهيا إلى جدول قد كُسر جسره فثبتا حتى أتيتهما ، ثم تفرقا، ورماني أحدهما فألظْظت به (يعني تبعته) فقتلته، وأفلت الآخر، ورجعت إلى الحمارين، فأتيت بهما صاحب الأقباض، فنظر فيما على أحدهما فإذا سَفَطان في أحدهما فرس من ذهب مسرج بسرج من فضة على ثغْر ولبَبَه الياقوت والزمرُّد منظوم على الفضة ولجام كذلك، وفارس من فضة مكلَّل بالجواهر، وإذا في الآخر ناقة من فضة عليها شليل من ذهب وبطان من ذهب ولها زمام من ذهب، وكل ذلك منظوم بالياقوت، وإذا عليها رجل من ذهب مكلل بالجوهر، كان كسرى يضعها إلى إسطوانتي التاريخ.
ج - لحق القعقاع بن عمرو بفارسي يحمي الناس فقتله، وإذا معه غلافان وعيبتان، وإذا في أحد الغلافين خمسة أسياف وفي الآخر ستة، وهي من أسياف الملوك من الفرس ومن الملوك الذين جرت بينهم وبين الفرس حروب وفيها سيف كسرى وسيف هرقل وإذا في العيبيتين أدراع من أدراع الملوك وفيها درع كسرى ودرع هرقل، فجاء بها إلى سعد، فقال: اختر أحد هذه الأسياف فاختار سيف هرقل وأعطاه درع بهرام، وأما سائرها فنفلها كتيبة الخرساء التي هي بقيادة القعقاع، إلا سيف كسرى والنعمان، فقد رأى أن يبعثهما إلى أمير المؤمنين لتسمع بذلك العرب لمعرفتهم بهما.
ثناء الصحابة على أفراد الجيش
أثنى أكابر الصحابة رضي الله عنهم على ذلك الجيش، ومن ذلك قول سعد بن أبي وقاص: والله إن الجيش لذو أمانة، ولولا ما سبق لأهل بدر لقلت على فضل أهل بدر.
وقال جابر بن عبدالله: والله الذي لا إله إلا هو ما اطلعنا على أحد من أهل القادسية أنه يريد الدنيا مع الآخرة، ولقد اتهمنا ثلاثة نفر فما رأينا كالذي هجمنا عليه من آمانتهم وزهدهم: طليحة بن خويلد، وعمرو بن معد يكرب، وقيس بن المكشوح.
وأكبر من ذلك ثناء أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه لما رأى خُمس تلك الغنائم، وكان معها سيف كسرى ومنطقته وزبرجده، فقال: إن قوماً أدَّوا هذا لذَوو أمانة، فقال علي رضي الله عنه: إنك عففت فعفَّت الرعية ولو رتعت لرتعت.

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 08-12-2021, 07:57 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,578
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح فارس.. الوعد المبين وشروط التمكين

موقف الخليفة من نوادر الغنائم
بعث سعد بن أبي وقاص إلى عمر بقباء كسرى وسيفه ومنطقته وسواريه وسراويله وقميصه وتاجه وخفِّيه، وقد كانت غالية الثمن كالحرير والذهب والجوهر، فنظر عمر في وجوه القوم، وكان أجسمهم وأبدنهم قامة سراقة بن مالك بن جعثم، فقال: يا سُراقة قم فالبس، قال سراقة: فطمعت فيه، فقمت فلبست، فقال: أدبر فأدبرت، ثم قال: أقبل فأقبلت، ثم قال: بخٍ بخٍ، أعرابي من مدلج عليه قباء كسرى وسراويله وسيفه ومنطقته وتاجه وخفاه، رب يوم يا سراقه بن مالك لو كان عليك فيه هذا من متاع كسرى وآل كسرى كان شرفاً لك ولقومك، انزع، فنزع، فقال: اللهم إنك منعت هذا رسولك ونبيك، وكان أحب إليك مني وأكرم عليك مني، ومنعته أبا بكر، وكان أحب إليك مني وأكرم عليك مني، وأعطيتنيه، فأعوذ بك أن تكون أعطيتنيه لتمكر بي، ثم بكى حتى رحمه من كان عنده. ثم قال لعبد الرحمن بن عوف: أقسمت عليك لما بِعتْه ثم قسمته قبل أن تمسي.
موقعةجلولاء
اجتمع الفرس على مفترق الطرق إلى مدائنهم في جلولاء فتذامروا، وقالوا: إن افترقتم لم تجتمعوا أبداً، وهذا مكان يفرق بيننا فهلموا فلنجتمع للعرب به ولنقاتلهم، فإذا كانت لنا فهو الذي نريد، وإن كانت الأخرى كنا قد قضينا الذي علينا وأبلينا عذراً. واجتمعوا على قيادة مهران الرازي، وحفروا خندقاً حول مدينتهم وأحاطوا به الحسك من الخشب إلا الطرق التي يعبرون منها، وقد كتب سعد بن أبي وقاص إلى أمير المؤمنين عمر يخبره بذلك، فكتب إلى سعد يأمره ببعث هاشم بن عتبة بن أبي وقاص إلى جلولاء في اثني عشر ألفاً، وأن يجعل على مقدمته القعقاع بن عمرو التميمي، وعلى ميمنته مسعر بن مالك، وعلى ميسرته عمرو بن مالك بن عتبة، وعلى ساقته عمر بن مرة الجهني، وسار إليهم هاشم بجيشه فحاصرهم وطاولهم أهل فارس، فكانوا لا يخرجون لهم إلا إذا أرادوا، وزاحفهم المسلمون ثمانين زحفاً. كل ذلك يعطي الله المسلمين عليهم الظفر، وغلبوا المشركين على حسك الخشب التي اتخذوها لإعاقة المسلمين؛ فاتخذ الأعداء حسك الحديد، وجعل هاشم يقوم في الناس ويقول: إن هذا المنزل منزل له ما بعده.
وجعل سعد يمده بالفرسان، حتى إذا طال الأمر وضاق الأعداء من صبر المسلمين اهتموا بهم فخرجوا لقتالهم، فقال: "ابتلوا الله بلاءً حسنا ليتم لكم عليه الأجر والمغنم واعملوا لله". فالتقوا فاقتتلوا، وبعث الله عليهم ريحاً أظلمت عليهم البلاد فلم يستطيعوا إلا المحاجزة، فتهافت فرسانهم في الخندق فلم يجدوا بدّاً من أن يردموا الخندق مما يليهم لتصعد منه خيلهم؛ فأفسدوا حصنهم، فلما بلغ المسلمين ما قام به الأعداء من ردم الخندق قالوا: أننهض إليهم ثانية فندخله عليهم أو نموت دونه؟. فلما نهض المسلمون لقتالهم خرجوا فرَموا حول الخندق مما يلي المسلمين بحسك الحديد لكيلا تقدم عليهم الخيل وتركوا مكاناً يخرجون منه على المسلمين فاقتتلوا قتلاً شديداً لم يقتتلوا مثله إلا ليلة الهرير، وهي من ليالي القادسية، إلا أنه كان أقصر وأعجل.
وانتهى القعقاع بن عمرو في الوجه الذي زاحف فيه إلى باب خندقهم فأخذ به وأمر منادٍ يقول: يا معشر المسلمين هذا أميركم قد دخل خندق القوم وأخذ به فاقبلوا إليه ولا يمنعنَّكم من بينكم وبينه من دخوله وإنما أمر بذلك ليقَوِيِّ المسلمين به.
فحمل المسلمون وهم ولا يشكُّون في أن هاشماً فيه فلم يقم لحملتهم شيء حتى انتهوا إلى بابا الخندق فإذا هم بالقعقاع بن عمرو وقد أخذ به. وقتل الله من الفرس يومئذ مائة ألف، فجلَّلت القتلى المجال وما بين يديه وما خلفه، فسميت جلولاء بما جللها من قتلاهم.
وبعث سعد بن أبي وقاص زياد بن أُبيه بالحسابات المالية إلى أمير المؤمنين، وكان زياد هو الذي يكتب للناس ويدوِّنهم، فلما قدم على عمر كلمه فيما جاء له ووصف له، فقال عمر: هل تستطيع أن تقوم في الناس بمثل ما كلمتني به؟، فكيف لا أقوى على هذا من غيرك. فقام في الناس بما أصابوا وبما صنعوا، وبما يستأذنون فيه من الانسياح في البلاد. فقال عمر: هذا الخطيب المصقع، فقال زياد: إن جندنا أطلقوا بالفَعال لساننا.
موقف الخليفة من غنائم جلولاء
انتهت معركة جلولاء بانتصار المسلمين، وقد غنموا فيها مغانم عظيمة أرسلوا بأخماسها إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، فقال حين رآه: والله لا يُجنِّه سقف بيت حتى أقسمه. فبات عبد الرحمن بن عوف وعبدالله بن أرقم يحرسانه في صحن المسجد، فلما أصبح جاء في الناس فكشف عنه جلابيبه ـ وهي الأنطاع ـ فلما نظر إلى ياقوته وزبرجده وجوهره بكى، فقال له عبد الرحمن: ما يبكيك يا أمير المؤمنين، فو الله إن هذا لموطن شكر، فقال عمر: "والله ما ذاك يبكيني، والله ما أعطى الله هذا قوماً إلا تحاسدوا وتباغضوا، ولا تحاسدوا إلا ألقي بأسهم بينهم".
وهذا لون من حساسية الإيمان المرهفة، حيث يدرك المؤمن الراسخ من نتائج الأمور المستقبلية ما لا يخطر على بال غيره، فيحمله الإشفاق على المؤمنين من أن يكدر صفو علاقاتهم الإيمانية شائبة من شوائب الدنيا التي تباعد بين القلوب، يحمله ذلك على التأثر العميق الذي يصل إلى تحدر دموعه أمام الناس وإنه لعجيب أن تنهمر الدموع من عيني رجل بلغ من القوة حداً يخشاه أهل الأرض قاطبة مسلمهم وكافرهم ومنافقهم، ولكنها الرحمة التي حلىَّ بها الله جل وعلا قلوب المؤمنين، فأصبحوا كما وصفهم الله سبحانه وتعالى بقوله: }مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الأنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا{ [الفتح: 29].
فتح رامهرمز
كان الفرس قد بدأو بالتجمع مرة أخرى بتحريض من ملكهم يزْدجرد، فاجتمعوا في رامهرمز بقيادة الهرمزان، وقد كان سعد بن أبي وقاص أخبر أمير المؤمنين بخبر اجتماعهم فأمره بأن يجهز إليهم جيشاً من أهل الكوفة بقيادة النعمان بن مقرن، وأمر أبا موسى الأشعري بأن يجهز جيشاً من البصرة بقيادة سهل بن عدي، وإذا اجتمع الجيشان فعليهم جميعاً أبو سبرة بن أبي رهم، وكل من أتاه فهو مدد له. وخرج النعمان بن مقرن في أهل الكوفة، ثم سار نحو "الهرمزان" والهرمزان يومئذ برامهرمز، ولما سمع الهرمزان بمسير النعمان إليه بادره الشَّدةَّ ورجا أن يقتطعه، وقد طمع الهرمزان في نصر أهل فارس، وقد أقبلوا نحوه، ونزلت أوائل إمدادهم تنتشر، فالتقى النعمان والهرمزان بأربك، فاقتتلوا قتالاً شديداً، ثم إن الله عز و جل هزم الهرمزان، وأخلى رامهرمز، ولحق بتستر. وأما سهل بن عدي فإنه سار بأهل البصرة يريد رامهرمز فأتتهم المعركة وهم بسوق الأهواز، وأتاهم الخبر بأن الهرمزان قد لحق بتستر، فمالوا إلى تستر، ومال إليها النعمان بأهل الكوفة.
وصل جيش النعمان بن مقرن وجيش سهل بن عدي إلى تستر، واجتمعا تحت قيادة أبي سبرة بن أبي رُهْم، وقد استمد أبو سبرة أمير المومنين فأمدهم بأبي موسى الأشعري؛ فأصبح قائد جيش البصرة، وظل أبو سبرة قائد الجيش كله، وقد بقي المسلمون في حصار تستر عدة شهور قابلوا فيها جيش الأعداء في ثمانين معركة، وظهرت بطولة الأبطال بالمبارزة.
ولما كان أخر لقاء بين المسلمين وأعدائهم، واشتد القتال نادى المسلمون البراء بن مالك، وقالوا: يا براء أقسم على ربك ليهزمنَّهم لنا، فقال: اللهمَّ اهزمهم لنا، واستشهدني.
وقد باشر المسلمون القتال وهزموا أعداءهم حتى أدخلوهم خنادقهم ثم اقتحموها عليهم، ولما ضاق الأمر على الفرس واشتد عليهم الحصار اتصل اثنان منهم في جهتين مختلفتين بالمسلمين وأخبراهم بأن فتح المدينة يكون من مخرج الماء، وقد وصل الخبر إلى النعمان بن مقرن، فندب أصحابه كذلك، فالتقى الأبطال من أهل الكوفة والبصرة في ذلك المكان ليلاً، ودخلوا منه بساحة إلى المدينة فكبَّروا وكبر من وقفوا في الخارج، وفتحوا الأبواب، فأبادوا من حولها بعد شيء من المقاومة، وقد استشهد في هذه المعركة البراء بن مالك ومجزأة بن ثور حيث رماهما الهرمزان، وكان استشهادهما بعد انتصار المسلمين في المعركة، ولجأ الهرمزان قائد الفرس إلى القلعة، وأطاف به المسلمون الذين دخلوا من مخرج الماء، فلما عاينوه وأقبلوا قِبلَه قال لهم: ما شئتم، قد ترون ضيق ما أنا فيه وأنتم، ومعي في جعبتي مائة نشَّابه، ووالله ما تصلون إليَّ ما دام معي نشابة، وما يقع لي سهم، وما خير إساري إذا أصبت منكم مائة بين قتيل وجريح، قالوا: فتريد ماذا؟، قال: أن أضع يدي في أيديكم على حكم عمر يصنع بي ما شاء، قالوا: فلك ذلك، فرمى بقوسه وأمكنهم من نفسه، فشدوا وثاقه وأرصدوه ـ أي راقبوه ـ ليبعثوا إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، ثم تسلموا ما في البلد من الأموال والحواصل، فاقتسموا أربعة أخماسه، فنال كل فارس ثلاثة آلاف وكل راجل ألف درهم.
وفي غزوةتستر مواقف وعبر، منها:
- قال أنس بن مالك أخو البراء: شهدت مناهضة حصن تستر عند إضاءة الفجر واشتد اشتعال القتال فلم يقدروا على الصلاة، فلم نصل إلا بعد ارتفاع النهار فصليناها ونحن مع أبي موسى ففتح الله لنا، قال أنس بن مالك الأنصاري: ما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما عليها.
- علّق رسول الله على صدر البراء بن مالك وساماً عظيماً من أوسمة الشرف، وذلك بقوله: (كم من أشعث أغبر ذي طِمْرين لا يُؤبَه له، لو أقسم على الله لأبرَّه، منهم البراء بن مالك). فقد كان البراء مستجاب الدعوة، وعرف الناس عنه ذلك بموجب هذا الحديث؛ ولذلك طلبوا منه في هذه المعركة أن يدعوا الله ليهزم عدوهم.
ومع هذا الثناء العظيم من رسول الله على البراء فإنه لم يَبْطَر ولم يتكبر، بل ظل الرجل المتواضع الذي يقتحم الأهوال، ويأتي بأعظم النتائج، من غير أن تكون له إمرة أو قيادة، وإذا كان قد سأل الله تعالى النصر للمسلمين وهو عزُّ لهم وللإسلام فإنه لم يُغفل نفسه أن يسأل الله تعالى أغلى ما يتمناه المؤمن القوي الإيمان، حيث سأل الله تعالى الشهادة، وقد استجاب الله تعالى دعاءه فهزم الأعداء، ورزقه الشهادة في ذلك اليوم.
قانون النصر والهزيمة
أرسل أبو سَبرة بن أبي رُهم قائد المسلمين في تلك المعارك وفداً إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، وأرسل معهم الهرمزان، حتى إذا دخلوا المدينة هيأوا الهرمزان في هيئته، فألبسوه كسوته من الديباج الذي فيه الذهب، ووضعوا على رأسه تاجاً يُدعى الأذين مكللاً بالياقوت وعليه حليته، كيما يراه عمر والمسلمون في هيئته، ثم خرجوا به على الناس يريدون عمر في منزله فلم يجدوه، فسألوا عنه فقيل لهم: جلس في المسجد لوَفد قدموا عليه من الكوفة، فانطلقوا يطلبونه في المسجد، فلم يروه، فلما انصرفوا مرُّوا بغلمان من أهل المدينة يلعبون، فقالوا لهم: ما تلدُّدكم؟، أتريدون أمير المؤمنين؟، فإنه نائم في ميمنة المسجد، متوسداً برنسه.. وكان عمر قد جلس لوفد أهل الكوفة في برنس فلما فرغ من كلامهم وارتفعوا عنه وأخلوه نزع برسنه ثم توسده فنام.
فانطلقوا ومعهم النظارة حتى إذا رأوه جلسوا دونه وليس في المسجد نائم ولا يقظان غيره، والِّدرة في يده معلقة، فقال الهرمزان: أين عمر؟، فقالوا: هو ذا، وجعل الوفد يشير إلى الناس أن اسكتوا عنه، وأصغى الهرمزان إلى الوفد فقال: أين حرسه وحُجَّابه عنه؟، قالوا: ليس له حارس ولا حاجب ولا كاتب ولا ديوان، قال: فينبغي له أن يكون نبياً، فقالوا: بل يعمل عمل الأنبياء.
وكثر الناس فاستيقظ عمر بالجلبة فاستوى جالساً، ثم نظر إلى الهرمزان، فقال: الهرمزان؟، قالوا: نعم. فتأمله وتأمل ما عليه، وقال: أعوذ بالله من النار؟ واستعن الله، وقال: الحمد لله الذي أذل بالإسلام هذا وأشياعه، يا معشر المسلمين تمسكوا بهذا الدين، واهتدوا بهدي نبيكم؟، ولا تُبطرنكم الدنيا فإنها غرارة.
فقال الوفد: هذا ملك الأهواز فكَّلمه، فقال: لا، حتى لا يبقى عليه من حليته شيء فُرمي عنه بكل شيء عليه إلا شيئاً يستره، وألبسوه ثوباً صفيقاً، فقال عمر: هيه يا هرمزان، كيف رأيت وبال الغدر وعاقبة أمر الله؟، فقال: يا عمر إنا وإياكم في الجاهلية كان الله قد خلىَّ بيننا وبينكم، فغلبناكم إذ لم يكن معنا ولا معكم، فلما كان معكم غلبتمونا، فقال عمر: إنما غلبتمونا في الجاهلية باجتماعكم وتفرقنا.
ثم قال عمر: ما عذرك وما حجتك في انتقاضك مرة بعد مرة؟ فقال: أخاف أن تقتلتني قبل أن أخبرك، قال: لا تخف ذلك، واستسقى ماءً، فأُتي به في قدح غليظ، فقال: لو متُّ عطشاً لم أستطع أن أشرب في مثل هذا، فأتي به في إناء يرضاه، فجعلت يده ترجف، وقال إني أخاف أن أُقتل وأنا أشرب الماء، فقال عمر: لا بأس عليك حتى تشربه، فأكفأه، فقال عمر: أعيدوا عليه ولا تجمعوا عليه القتل والعطش، فقال: لا حاجة لي في الماء، إنما أردت أن أستأمن به، فقال له عمر: إني قاتلك، قال: قد آمنتني، فقال كذبت،
فقال أنس: صدق يا أمير المؤمنين، قد آمنته، قال ويحك يا أنس أنا أُؤمِّن قاتل مجزأة والبراء، والله لتأتين بمخرج أو لأعاقبنك، قال: قلت له: لا بأس عليك حتى تخبرني، وقلت: لا بأس عليك حتى تشربه، وقال له من حوله مثل ذلك، فأقبل على الهرمزان وقال: خدعتني، والله لا أنخدع إلا لمسلم، فأسلم، ففرض له على ألفين، وأنزله المدينة.
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 08-12-2021, 08:05 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,578
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح فارس.. الوعد المبين وشروط التمكين

فتح مدينة جُنْدَيْ سابور
لما فرغ أبو سبرة بن أبي رهم من فتح بلاد السوس خرج في جنده حتى نزل على "جندي سابور"، وكان زر بن عبد الله بن كليب محاصرهم، وأقاموا عليها يغادرونهم ويراوحونهم القتال، فمازالوا مقيمين عليها حتى رُمي إليهم بالأمان من المسلمين، وكان فتحها وفتح نهاوند في مقدار شهرين، فلم يفاجأ المسلمون إلا وأبوابها تفتح، ثم خرج السرح، وخرجت الأسواق، وانبثَّ أهلها، فأرسل المسلمون أن مالكم؟، قالوا: رميتم لنا بالأمان فقبلناه، وأقررنا لكم بالجزاء على أن تمنعونا، فقالوا: ما فعلنا، فقالوا:
ما كذبنا فتساءل المسلمون فيما بينهم، فإذا عبد يُدعَى مكنفاً كان أصله منها، هو الذي كتب لهم، فقالوا: إنما هو عبد، فقالوا: لا نعرف حُرَّكم من عبدكم، قد جاء أمان فنحن عليه قد قبلناه، ولم نبدِّل فإن شئتم فاغدروا.
فأمسكوا عنهم، وكتبوا بذلك إلى عمر، فكتب إليهم: "إن الله تعالى عظَّم الوفاء فلا تكونون أوفياء حتى تفوا، ما دمتم في شك أجيزوهم ووَفُوا لهم"، فوفوا لهم وانصرفوا.
وهذا مثال يدل على تفوق المسلمين الشاسع في مجال مكارم الأخلاق على جميع أعدائهم من الكفار، ولا شك أن هذا التفوق الأخلاقي كان من الدوافع الأساسية لدخول الكفار في الإسلام بتلك الكثافة والسرعة المذهلة.
معركة نهاوند (فتح الفتوح)
كان المسلمون قد انتصروا على جيوش الفرس في معارك عديدة متتالية، وأضحوا يطاردون فلول تلك الجيوش دون أن يتركوا لها فرصة لالتقاط أنفاسها، فمنذ انتصارهم الساحق في معركة القادسية بالعراق حتى المعركة الحاسمة في نهاوند، مرت أربع سنوات كان المسلمون ينتقلون خلالها من نصر إلى نصر، وكانت تلك الجيوش تتابع تقدمها لكي تقضي على ما تبقى من فلول جيوش الإمبراطورية الهرمة، لولا أن أوامر الخليفة عمر رضي الله عنه كانت تقضي بالتوقف أمام جبال زاغروس وعدم تجاوزها؛ وذلك بغية إعادة تنظيم الجيوش المنهكة من القتال المستمر، وتنظيم إدارة الأقاليم المفتوحة.
ولقد أثارت الهزائم المتتالية التي ألحقها المسلمون بالفرس - بعد القادسية خاصة - حفيظتهم وخنقهم، ولم تكن كافية على ما يبدو للقضاء نهائياً على مقاومتهم؛ فكتب أمراؤهم وقادتهم إلى ملكهم (يزدجرد) يستنهضونه للقتال من جديد، فعزم عليه، وأخذ يعد العدة للعودة إلى قتال المسلمين فيما تبقى له في بلاده من معاقل ومعتصمات. فكتب إلى أهل الجبال من الباب إلى سجستان فخراسان أن يتحركوا للقاء المسلمين وواعدهم جميعاً نهاوند، وكان قد وقع عليها كمركز أخير للمقاومة، وكميدان للمعركة الحاسمة فهي مدينة منيعة تحيط بها الجبال من كل جانب ولا يمكن الوصول إليها إلا عبر مسالك وعرة صعبة، وقد تحشَّد الفرس في هذه المدينة واجتمع ليزدجرد فيها مائة وخمسون ألف مقاتل: ثلاثون ألفاً من الباب إلى حلوان، وستون ألفاً من خراسان إلى حلوان، ومثلها من سجستان إلى حلوان، فجعل يزدجرد عليهم الفيرزان قائداً.
كان سعد بن أبي وقاص في الكوفة حين علم بخبر الحشود الفارسية فكتب إلى الخليفة عمر ينبئه بذلك ويستأمره، شارحاً له الوضع من مختلف جوانبه، فجمع عمر الناس واستشارهم، وقال لهم: "هذا يوم له ما بعده، وقد هممت أن أسير فيمن قبلي ومن قدرت عليه فأنزل منزلاً وسطاً بين هذين المصرين ثم أستنفرهم وأكون لهم ردءاً حتى يفتح الله عليهم ويقضي ما أحب، فإن فتح الله عليهم صبيتهم في بلدانهم".
فقال طلحة بن عبيد الله: "يا أمير المؤمنين قد أحكمتك الأمور، وعجمتك البلابل، واحتنكتك التجارب، وأنت وشأنك ورأيك، لا ننبو في يديك ولا نكل عليك، إليه هذا الأمر، فمرنا نطع وادعنا نجب واحملنا نركب وقدنا ننقد، فإنك ولي هذا الأمر، وقد بلوت وجربت واحتربت فلم ينكشف شيء من عواقب قضاء الله لك إلا عن خيارهم".
فعاد عمر، فقام عثمان فقال: "أرى يا أمير المؤمنين أن تكتب إلى أهل الشام فيسيروا من شامهم، وإلى أهل اليمن فيسيروا من يمنهم، ثم تسير أنت بأهل الحرمين إلى الكوفة والبصرة فتلقى جمع المشركين بجمع المسلمين، فإنك إذا سرت قل عندك ما قد تكاثر من عدد القوم وكنت أعز عزاً وأكثر. يا أمير المؤمنين إنك لا تستبقي بعد نفسك من العرب باقية، ولا تمتع من الدنيا بعزيز، ولا تلوذ منها بحريز. إن هذا يوم له ما بعده من الأيام، فاشهده برأيك وأعوانك ولا تغب عنه".
فعاد عمر، فقام إليه علي بن أبي طالب فقال: "أما بعد يا أمير المؤمنين فإنك إن أشخصت أهل الشام من شامهم سارت الروم إلى ذراريهم، وإن أشخصت أهل اليمن من يمنهم سارت الحبشة إلى ذراريهم، وإنك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها، حتى يكون ما تدع وراءك أهم إليك مما بين يديك من العورات والغيالات. أقرر هؤلاء في أمصارهم واكتب إلى أهل البصرة فليتفرقوا ثلاث فرق: فرقة في حرمهم وذراريهم، وفرقة في أهل عهدهم حتى لا ينتقضوا، ولتسر فرقةٌ إلى إخوانهم بالكوفة مدداً لهم؛ إن الأعاجم إن ينظروا إليك غداً قالوا: هذا أمير المؤمنين أمير العرب وأصلها، فكان ذلك أشد لكلبهم عليك. وأما ما ذكرت من مسير القوم فإن الله هو أكره لمسيرهم منك وهو أقدر على تغيير ما يكره، وأما عددهم فإنا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة ولكن بالنصر".
فقال عمر: هذا هو الرأي، كنت أحب أن أتابع عليه، فأشيروا علي برجل أوليه ذلك الثغر.
فلما قال عمر: أشيروا علي برجل أوليه ذلك الثغر وليكن عراقياً، قالوا: أنت أعلم بجندك وقد وفدوا عليك ورأيتهم وكلمتهم. فقال: والله لأولين أمرهم رجلاً يكون أول الأسنة إذا لقيها غداً. فقيل: من هو؟ فقال: هو النعمان بن مقرن المزني. فقالوا: هو لها.
وكان النعمان بن مقرن المزني يومئذ عاملاً على كسكر، وكان قد كتب إلى الخليفة كتاباً يقول له فيه: "مَثلي ومثل كسكر كمثل رجل شاب إلى جنبه مومسة تلون له وتعطر، فانشدك الله لما عزلتني عن كسكر وبعثتني إلى جيش من جيوش المسلمين".
وبعد أن استشار الخليفة عمر مجلس شوراه، وتقرر أن يتولى قيادة جيوش المسلمين في نهاوند النعمان بن مقرن، وضع خطة لتعبئة جيش المسلمين على الشكل التالي:
- النعمان بن مقرِّن المزني (والي كسكر)، قائداً عاماً للجيش.
- حذيفة بن اليمان، قائداً لفرقة تعبأ من أهل الكوفة.
- أبو موسى الأشعري (والي البصرة)، قائداً لفرقة تعبأ من أهل البصرة.
- عبد الله بن عمر بن الخطاب، قائداً لفرقة تعبأ من المهاجرين والأنصار.
- سلمى بن القين، وحرملة بن مريطة، وزر بن كليب، والأسود بن ربيعة، وسواهم من قادة المسلمين في الأهوار وباقي بلاد فارس، احتياط ومشاغلة للأعداء.
وكتب عمر إلى الولاة والقادة بتعليماته، واستطاع الفاروق أن يحشد جيشاً مقداره ثلاثين ألف مقاتل.
وتحرك جيش الإسلام بقيادة النعمان بن مقرن إلى نهاوند، ووجدها محصنة تحصيناً قوياً، وحولها خندق عميق وأمام الخندق حسك شائك مربع الأضلاع يثبت منه ضلع في الأرض وتظل الأضلاع الثلاثة الباقية أو اثنان منها على الأقل فوق سطحها؛ لتعيق تقدم المهاجمين أو تؤذي خيالتهم بإحداث ثقوب في حوافر جيادهم؛ مما يمنعها من متابعة الجري.
أما جيش الفرس داخل سور المدينة فكان على تعبئة، وقد انضم إليه بنهاوند كل من غاب عن القادسية، وقد ركز الفيرزان رماته باتجاه محاور التقدم المحتملة للمسلمين كي يطالوا جندهم بنبالهم إذا ما حاولوا التقدم.
لقد اصطدمت خيول المسلمين بالحسك الشائك ثم بالخندق فلم يستطيعوا اجتيازها، بينما تولى رماة الفرس رمي جند المسلمين الذي تمكنوا من الاقتراب من السور، واستمر الأمر كذلك لمدة يومين ورأى النعمان أن يجمع أركان الجيش الإسلامي لتدارس الوضع معه، وخرجوا بنتيجة الاجتماع بالخطة التالية - وكان صاحبها طليحة بن خويلد الأسدي-:
1- تخرج خيول المسلمين فتنشب القتال مع الفرس، وتستفزهم حتى تخرجهم من أسوارهم.
2- إذا خرجوا تقهقرت خيول المسلمين أمامهم فيعتقدون تراجعها ضعفاً ويطمعون بالنصر، فيلحقوا بها وهي تجري أمامهم.
3- تستدرج خيولُ المسلمين - المتظاهرة بالهزيمة - الفرسَ إلى خارج أسوارهم ومواقعهم.
4- يفاجئ المسلمون - الذي يكونون قد كمنوا في أماكن محددة ومموهة - الفرس المتدفقين خلف خيول المسلمين، ويطبقون عليهم وهم بعيدون عن مراكزهم وخنادقهم وأسوارهم.
وشرع النعمان لتنفيذ هذه الخطة ووزع قواته فرقاً على الشكل التالي:
- الفرقة الأولى: خيالة بقيادة القعقاع بن عمرو، ومهمتهما تنفيذ عملية التضليل وفقاً للخطة المرسومة، واقتحام أسوار العدو والاشتباك معه.
- الفرقة الثانية: مشاة بقيادته هو، ومهمتهما التمركز في مواقع ثابتة ومموهة بانتظار وصول الفرس إليها حيث تنشب القتال معها في معركة جبهية.
- الفرقة الثالثة: خيالة، وهي القوة الضاربة في الجيش، ومهمتها التمركز في مواقع ثابتة ومموهة ثم الهجوم على قوات العدو من الجانبين.
وأمر النعمان المسلمين في كمائنهم أن يلزموا الأرض ولا يقاتلوهم حتى يأذن لهم، والتزم المسلمون بالأمر ينتظرون إشارة النعمان بالهجوم.
وشرع القعقاع في تنفيذ الخطة ونجح نجاحاً رائعاً، وكانت مفاجأة الفرس مذهلة عندما وجدوا أنفسهم، في آخر المطاف محاصرين بين قوات المسلمين التي شرعت سيوفهم في حصد رقاب المشركين، ولاذ المشركون بالفرار ليتحصنوا بخندقهم وحصونهم إلا أنهم وقعوا في خنادقهم وفي الحسك الشائك، واستمر المسلمون يطاردونهم ويعملون سيوفهم في ظهورهم وأقفيتهم حتى سقط من الفرس ألوف في الخندق، واستطاع القعقاع أن يطارد الفيرزان فلحقه وقضى عليه.
ودخل المسلمون بعد هذه المعركة "نهاوند" ثم همذان، ثم انطلقوا بعد ذلك يستكملون فتح ما تبقى من بلاد فارس دون مقاومة تذكر، ولم يكن للفرس بعد نهاوند اجتماع، وملك المسلمون بلادهم؛ لذلك سميت معركة نهاوند بفتح الفتوح، وكانت سنة 21 للهجرة، وقيل كانت سنة ثماني عشرة، وقيل سنة تسع عشرة.
وقد ظهرت براعة الخليفة الفاروق في معركة نهاوند، ومن ذلك:
- التحشد ومنع العدو من التحشد، حيث لم يكتف الخليفة عمر رضي الله عنه بأن أمر عماله في الكوفة والبصرة والمسلمين في الجزيرة بالتحشد لقتال الفرس، بل أمر قادته في الأهواز وباقي بلاد فارس أن يمنعوا العدو من التحشد، فكلف سلمى بن القين وحرملة بن مريطة وزر بن كليب والأسود بن ربيعة وسواهم أن يقيموا على حدود ما بين فارس والأهواز، وأن يمنعوا الفرس من الانضمام إلى الجيش المتحشد في نهاوند، وهكذا فقد أقام هؤلاء القادة في تخوم أصبهان وفارس وقطعوا الإمداد عن نهاوند.
- تعيينه القادة إن مات قائد الجيوش، أسوة بما فعله رسول الله يوم مؤته (8هـ) عندما أمَّر على المسلمين زيد بن حارثة، فإن أصيب فجعفر بن أبي طالب على الناس، فإن أصيب جعفر فعبدالله بن رواحة على الناس، كذلك فعل عمر الفاروق يوم نهاوند عندما أمَّر النعمان على المسلمين، فإن حدث بالنعمان حدث فعلى الناس حذيفة بن اليمان، فإن حدث بحذيفة حدث فعلى الناس نعيم بن مقرن.
كما تميز النعمان بقيادته الرفيعة في المعركة، مثال ذلك:
أ- الاستطلاع قبل السير للقتال:
كلف النعمان قبل السير بجيشه نحو نهاوند وكان على بعد بضعة وعشرين فرسخاً منها، كلاً من طليحة بن خويلد الأسدي وعمرو بن أبي سلمى العنزي وعمرو بن معد يكرب الزبيدي بالتقدم نحوها واستطلاع الطريق الموصلة إليها ومعرفة ما إذا كان من عدو بينه وبينها. فسار الثلاثة مقدار يوم وليلة ثم عادوا ليبلغوا القائد العام أن ليس بينه وبين نهاوند شيء يكرهه ولا أحد، فكانت هذه البعثة أشبه بما يعرف في عصرنا بالطليعة "أو المفرزة المتقدمة" التي تسبق أي جيش لاستطلاع الطريق له قبل تقدمه، ومع ذلك أخذ النعمان كل الاحتياطات اللازمة عند تحركه بجيشه فسار "على تعبئة" كما يفترض أن يسير.
ب - عملية التضليل:
كانت "عملية التضليل" التي نفذها المسلمون في نهاوند من أروع المناورات العسكرية التي يمكن أن ينفذها جيش في التاريخ القديم والحديث، فعندما عجز المسلمون عن اقتحام أسوار المدينة المحصنة والمحمية بالخندق المحيط بها وبالحسك الشائك وبالرماة المهرة، وقدروا أن الحصار سوف يستمر طويلاً دون جدوى طالما أن لدى الفرس المحاصرين داخل أسوار المدينة من الذخائر والمؤن ما يكفيهم للمقاومة مدة طويلة، رأوا أن يعمدوا إلى الحيلة في استدراج العدو وإخراجه من "جحوره" ومواقعه، لكي يقاتلوه خارج تلك الأسوار فيكونون قد فرضوا عليه ميدان القتال الذي اختاروه بأنفسهم، وقد تم ما قدَّره المسلمون تماماً ، فاستُدرج العدو إلى مواقع حددها المسلمون للقتال حيث كمنوا له ثم نازلوه في تلك المواقع جبهياً ومن كل جانب، ففوجئ ثم ذعر فاسقط في يده وانهزم.
ج - اختيار ساعة الهجوم:
وقد تكلمت كتب التاريخ عن صبر النعمان بن مقرن وحنكته المتميزة المتناهية في اختيار ساعة الهجوم التي كان رسول الله يحبها عند الزوال، وتفيؤ الأفياء وهبوب الرياح.
ونال النعمان بن مقرن الشهادة في تلك المعركة الحاسمة، ووصل خبر النعمان إلى أمير المؤمنين، فقال: "إنّا لله وإنا إليه راجعون"، وبكى ونشج واشتد حزنه، وسأل عن الشهداء فسمي له أسماء لا يعرفها فقال: أولئك المستضعفون من المسلمين ولكنَّ الذي أكرمهم بالشهادة يعرف وجوههم وأنسابهم وما يصنع أولئك بمعرفة عمر؟.
ومما يستحق الذكر أن المسلمين عثروا في غنائم نهاوند على سفطين مملؤين جوهراً نفيساً من ذخائر كسرى فأرسلهما حذيفة أمير الجيش إلى عمر مع السائب بن الأقرع، فلما أوصلهما له قال: "ضعهما في بيت المال، والحق بجندك".
فركب راحلته ورجع فأرسل عمر وراءه رسولاً يُخِب السيَر في أثره حتى لحقه بالكوفة فأرجعه.
فلما رآه عمر قال: "مالي وللسائب ما هو إلا أن نمت الليلة التي خرجت فيها، فباتت الملائكة تسحبني إلى السفطين يشتعلان ناراً؟ يتوعدوني بالكيِّ إن لم أقسمها فخذهما عني وبعهما في أرزاق المسلمين"، فبيعا بسوق الكوفة.
وبعد انتصار المسلمين في وقعة نهاوند لم يقم للفرس أمرٌ، وانساح المسلمون في بلاد العجم، وأذن لهم عمر في ذلك، فافتتح المسلمون بعد نهاوند مدينة جَيّ ـ وهي مدينة أصْبهان- بعد قتال كثير وأمور طويلة، فصالحوا المسلمين، وكتب لهم عبدالله بن عبدالله كتاب أمان وصلح، وفر منهم ثلاثون نفراً إلى كرْمان لم يصالحوا المسلمين، وفي سنة إحدى وعشرين افتتح أبو موسى قُمَّ وقاشان، وافتتح سهيل بن عدي مدينة كَرْمان.
الخلاصة
[ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا] [النور: 55].
لقد تحقق وعد الله الصادق لعباده المؤمنين في مشارق الأرض ومغاربه.. وفي فتوحات بلاد فارس نجد ثقة المسلمين المطلقة بنصر الله تعالى، ويظهر ذلك جلياً في أصعب الظروف وأخطر المواقف كعبور نهر دجلة.
فلم تكن في تحركاتهم مغامرة عمياء ولا جهل بالواقع، بل كانوا على بصيرة تامة في الحال والمآل، وثقة كاملة في الله تعالى، وفي أنفسهم أيضاً.
وكانت ثقة المسلمين بنصر الله تستند إلى ركنين أساسيين، الأول: أن الله لا يخلف وعده، والثاني: أن الله ربط نصره وتمكينه بالإيمان الخالص والعمل الصالح؛ ولهذا حرص الصحابة والمسلمون الفاتحون على الالتزام بشروط النصر الموعود من الله وتطبيقها اعتقاداً وقولا وفعلاً، حيث يلزم من وجود الشرط وجود المشروط.
أما إذا غابت شروط نصر الله فإن عوامل النصر تظل مرتبطة بالقدرات المادية فقط لدى الطرفين المتحاربين.
وفي التاريخ الإسلامي ما يؤكد على ذلك في الحالتين.. وسوء حاضرنا خير شاهد على بؤس حالنا؛ وكل ذلك بسبب عدم تحقق شروط وعد الله بالتمكين الذي لن يتحقق على يد من جعلوا دينهم وراء ظهورهم.
ــــــــــــــــــــــــ
المصادر
- (في ظلال القرآن)، سيد قطب.
- (تفسير الشعراوي).
- (الكامل في التاريخ)، ابن الأثير.
- (أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه)، د. علي محمد الصلابي.
- موقع (قصة الإسلام).

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 134.64 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 131.79 كيلو بايت... تم توفير 2.85 كيلو بايت...بمعدل (2.12%)]