شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي - الصفحة 4 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12522 - عددالزوار : 213666 )           »          أطفالنا والمواقف الدموية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 37 )           »          عشر همسات مع بداية العام الهجري الجديد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 31 )           »          وصية عمر بن الخطاب لجنوده (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 40 )           »          المستقبل للإسلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 41 )           »          انفروا خفافاً وثقالاً (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 38 )           »          أثر الهجرة في التشريع الإسلامي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »          مضار التدخين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 33 )           »          متعة الإجازة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          التقوى وأركانها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 23 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث

ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث ملتقى يختص في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلوم الحديث وفقهه

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #31  
قديم 02-10-2023, 02:28 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,900
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي

شرح كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (56)


الشيخ.محمد الحمود النجدي





أجر العالم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ



إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.
الباب الحادي والعشرون :
21 - باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ . قال البخاري رحمه الله:
7352 – حدثنا عبدالله بن يزيد المقري المكي: حدثنا حيوة: حدثني يزيد بن عبدالله بن الهاد، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن بسر بن سعيد، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص، عن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله[ يقول: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر».
قال: فحدثت بهذا الحديث أبا بكر بن عمرو بن حزم فقال: هكذا حدثني أبو سلمة بن عبدالرحمن، عن أبي هريرة . وقال عبدالعزيز بن المطلب ، عن عبد الله بن أبي بكر ، عن أبي سلمة ، عن النبي[ مثله.
الشرح:
الباب الحادي والعشرون: باب باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، وروى فيه البخاري حديثا واحدا عن عبدالله بن يزيد المقرئ المكي وهو من شيوخ البخاري المشهورين، ثقة فاضل، وسمي بالمقرئ لأته أقرأ الناس القرآن نيفا وسبعين سنة، رحمه الله. قال: حدثنا حيوة بن شريح، وهو التجيبي أبو زرعة المصري، ثقة ثبت فقيه زاهد. قال: حدثني يزيد بن عبدالله بن الهاد، وهو الليثي أبو عبدالله المدني، ثقة مكثر. عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، هو التيمي أبو عبدالله المدني ثقة له أفراد، ولأبيه صحبة. عن بسر بن سعيد، هو المدني العابد، مولى ابن الحضرمي، ثقة جليل. عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص، واسمه عبدالرحمن بن ثابت، ثقة. وهؤلاء الأربعة كلهم من التابعين، وهذا من لطائف الإسناد، يزيد بن الهاد، ومحمد بن إبراهيم بن الحارث، وبسر بن سعيد، وأبو قيس مولى عمر بن العاص، كلهم من التابعين، وقد روى بعضهم عن بعض.
كلهم قالوا: عن عمرو بن العاص رضي الله عنه: أنه سمع رسول الله[ يقول: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر».
أراد البخاري رحمه الله من هذا الباب والحديث: أنه لا يلزم من رد حكم القاضي، أو فتوى المفتي أو العالم، أو عمل العامل إذا خالف الشرع، لا يلزم من رد فتواهم أو حكمهم عليهم، أن يكونوا أثموا بما قالوا أو عملوا، بل إذا بذل العالم وسعه للوصول إلى الحق، وبذل الحاكم أو القاضي وسعه كذلك واجتهد فحكم أو أفتى وخالف بذلك الصواب والحق، فإنه يكون مأجورا ، ولو خالف الشرع في حقيقة الأمر، إذا كان ذلك بعد الاجتهاد وبذل الوسع وهو أهل للاجتهاد، فهو مأجور أجرا واحدا.
ولكن متى يؤجر العالم أو متى يؤجر الحاكم؟ يؤجر إذا كان عالما قادرا على الاجتهاد ، وأما الجاهل فلا؟!
قال ابن المنذر رحمه الله : وإنما يؤجر الحاكم إذا أخطأ، إذا كان عالما بالاجتهاد فاجتهد، وأما إذا لم يكن عالما فلا.
أي: القاضي إذا كان عالما بالاجتهاد وقادرا على الوصول إلى معرفة الحكم الشرعي، ثم بذل وسعه واجتهد فأخطأ، فإنه يؤجر أجرا واحدا، لكن إن كان قد قضى على جهل فهو مأزور غير مأجور .
ثم استدل ابن المنذر في هذا الموضع بحديث: «أن القضاة ثلاثة : قاض عرف الحق فقضى به فهو في الجنة، وقاض عرف الحق فقضى بخلافه فهو في النار، وقاض قضى للناس على جهل فهو في النار».
وهذا الحديث أخرجه أصحاب السنن، ومروي من عدة طرق ، وهو حديث صحيح حسن .
وقال الخطابي: إنما يؤجر المجتهد إذا كان جامعا لآلة الاجتهاد، فهو الذي نعذره بالخطأ، بخلاف المتكلف فيخاف عليه، ثم إنما يؤجر اجتهاده في طلب الحق عبادة، هذا إذا أصاب، وأما إذا أخطأ فلا يؤجر على الخطأ، بل يوضع عنه الإثم فقط؛ فإذا قضى الحاكم على جهل، فهو في النار والعياذ بالله.
وكذلك إذا سئل الإنسان فأفتى بغير علم فهو آثم، وقد قال[: «من أفتى بفتيا غير ثبت ، كان إثمه على مَن أفتاه ، ومن أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه « رواه أبوداود. فالإثم يرجع عليك إن تكلمت بغير علم، أو حصل منك تقديم بين يدي الله ورسوله[ وقد قال الله: {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم} (الحجرات: 1).
إذاً إنما يؤجر المجتهد إذا كان جامعا لآلة الاجتهاد، وهو ما إذا كان حافظا للقرآن والسنة النبوية، وله معرفة وفهم لهما، وكذلك معرفة بأقوال الصحابة والمفتين والفقهاء ، مع العلم بالعربية وقواعدها، فهذا لا إثم عليه إذا اجتهد ثم أخطا .
أما إذا أفتى أو حكم وأخطأ، لأنه لا يعرف الأحكام ويجهل، ومع ذلك قضى وأفتى على جهل ، فإنه لا يؤجر على ذلك؛ لأنه معتد ومتطاول .
ولماذا الذي يقضي ويخالف الحق له أجر؟! نقول: له أجر واحد على اجتهاده، وبذله لوسعه، وتعبه في الوصول إلى حكم الله تبارك وتعالى أو حكم رسوله[.
وأما قوله[: «إذا حكم الحاكم فاجتهد» هكذا وقع في الرواية ، بدأ بالحكم قبل الاجتهاد ، ومعلوم أنه إنما يحكم بعد الاجتهاد ، ولا يجوز له أن يحكم قبل الاجتهاد ؟! ولماذا لم يقل : إذا اجتهد الحاكم فحكم...؟
فالجواب: أن المعنى عند العلماء أنه: إذا اجتهد الحاكم فحكم، هذا معنى قول النبي[: «إذا حكم الحاكم فاجتهد»؛ لأن الحكم لا يكون إلا بعد الاجتهاد كما هو معلوم ، ولا يكون الحكم قبل الاجتهاد، والفاء هاهنا ليست تعقيبية، فيكون التقدير: إذا حكم بعد الاجتهاد.
وقال بعض أهل العلم معنى: «إذا حكم الحاكم فاجتهد» أي: إذا أراد أن يحكم فاجتهد فأصاب فله أجران. وهذا أيضا معنى صحيح .
ولهذا قال أهل الأصول: إنه يجب على العالم المجتهد أن يجدد النظر عند وقوع النازلة مرة أخرى، ولا يعتمد على الاجتهاد السابق؛ لإمكان أن يظهر له خلاف ما قضى أو حكم به أو أفتى سابقا .
وقوله: «إذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر» يعني: بان له الخطأ أو لم يتبين، فإن له أجرا على اجتهاده وتعبه في تحصيل الحكم، ولا يعني أن له أجرا على خطئه؟! ولكن يكون الإثم مرفوعا عنه، وهذا من لطف الله تعالى بعباده ورحمته بهم أنه لا يكلفهم ما لا يطيقون كما قال: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} (البقرة: 286).
وهل يمكن أن يستدل بهذا الحديث على أن كل مجتهد مصيب؟!
والجواب: إذا كان المقصود بقول القائل: «كل مجتهد مصيب» أنهم كلهم على الحق في نفس الأمر، فهذا خطأ!! لأن الحق لا يتعدد، فالحق واحد، كما قال سبحانه: {فماذا بعد الحق إلا الضلال} (يونس: 32).
إلا إذا كان الحق من باب الأمر المتنوع ، وهو أنه يجوز أن يكون كذلك، ويجوز أن يكون أيضا على وجه آخر، أي من الأمور التي تقبل أن يكون فيها العمل متنوعا .
أما إذا كان المقصود بقولهم: «كل مجتهد مصيب» بمعنى أنه إذا اجتهد وبذل وسعه فأخطأ فهو مصيب من هذه الجهة؛ لأنه لو اجتهد على جهل فهو آثم مخطئ، أما إذا اجتهد وهو يملك آلة الاجتهاد من العلوم الشرعية المطلوبة للاجتهاد، فأخطأ فإنه مصيب لبذله وسعه، واستفراغه وسعه، وليس مصيبا في تلك المسألة بعينها، فهذا واضح والحمد لله .
وأيضا ننبه على أن الاجتهاد والقياس إنما يكون عند عدم النص، وأما مع وجود النص فلا اجتهاد ولا قياس ولا عقل يعارض؛ فكما أنه لا تيمم مع وجود الماء، وأنه إذا حضر الماء بطل التيمم ، فكذلك إذا قال الله تعالى، أو قال رسوله[، فلا قول لأحد من الناس كائنا من كان، قال سبحانه وتعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا} (الأحزاب: 36).
وقال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الحجرات: 1).

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #32  
قديم 02-10-2023, 02:30 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,900
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي

شرح كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (57)


الشيخ.محمد الحمود النجدي


ظهور أحكام النبي صلى الله عليه وسلم لأكثر الناس



إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.
الباب الثاني والعشرون
22 – باب الحجة على من قال: إن أحكام النبي صلى الله عليه وسلم كانت ظاهرة، وما كان يغيب بعضهم من مشاهد النبي صلى الله عليه وسلم وأمور الإسلام.
الحديث الأول: قال البخاري رحمه الله: 7353 - حدثنا مسدد: حدثنا يحيى، عن ابن جريج: حدثني عطاء: عن عبيد بن عمير قال: استأذن أبو موسى على عمر، فكأنه وجده مشغولا فرجع، فقال عمر: ألم أسمع صوت عبدالله بن قيس؟ ائذنوا له، فدعي له، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: إنا كنا نؤمر بهذا. قال: فائتني على هذا ببينة أو لأفعلن بك، فانطلق إلى مجلس من الأنصار، فقالوا: لا يشهد إلا أصاغرنا، فقام أبو سعيد الخدري فقال: قد كنا نؤمر بهذا، فقال عمر: خفي علي هذا من أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، ألهاني الصفق بالأسواق. (طرفه في: 2062).
الشرح:
الباب الثاني والعشرون: باب الحجة على من قال: إن أحكام النبي صلى الله عليه وسلم كانت ظاهرة، وما كان يغيب بعضهم من مشاهد النبي صلى الله عليه وسلم وأمور الإسلام.
عقد الإمام البخاري هذا الباب لبيان أن كثيرا من الصحابة، بل من أكابر الصحابة، من كان يغيب عنه بعض ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم ، أو يفعله، من الأقوال والأعمال فيستمر هو على ما كان قد اطلع عليه أو علمه من القرآن أو السنة، وربما كان منسوخا لعدم اطلاعه على الناسخ، وإما أن يستمر على البراءة الأصلية.
ومعلوم أن فعل الصحابي يكون حجة ما لم يعارض نصا من كتاب أو سنة، وأقوال الصحابة وفتاويهم أيضا حجة شرعية ما لم تعارض نصا عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أو عن الله تبارك وتعالى.
ولا يتصور أن الصحابة يخالفون نصا عمدا! لكن يقع ذلك منهم بسهو أو نسيان أو عدم اطلاع على النص أو على الناسخ، فحاشاهم عن المخالفة عمدا.
فمن قال: إن أحكام النبي صلى الله عليه وسلم كانت ظاهرة للناس، فإنما هو للأكثر والأغلب، وإلا فهناك بعض الأحكام والسنن المنقولة عن نبينا صلى الله عليه وسلم قد خفيت على بعض الصحابة، بل على بعض علماء الصحابة وأكابرهم.
فمن ذلك: حديث أبي بكر رضي الله عنه في الجدة، وذلك أنه رضي الله عنه خفي عليه نصيب الجدة من الميراث، فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه: أنه صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس، والحديث في الموطأ.
وحديث ابن مسعود رضي الله عنه في الرجل يعقد على المرأة ثم يطلقها ويريد أن يتزوج أمها، فأجازه.
وتجويزه بيع الفضة المكسرة بالصحيحة متفاضلا.
ثم رجوعه عن الأمرين لما سمع من غيره من الصحابة النهي عنهما.
وحديث عمر رضي الله عنه هاهنا في الاستئذان.
وتقدم معنا: أن عمر كان يتناوب في النزول إلى النبي صلى الله عليه وسلم هو ورجل من الأنصار، فينزل هذا يوما وهذا يوما، ويخبر كل منهما الآخر بما سمع وشاهد من النبي صلى الله عليه وسلم.
وهناك أمثلة كثيرة مذكورة في مظانها من كتب الفقه وأصوله، ككتاب: أعلام الموقعين للإمام ابن القيم وغيره، في بيان رجوع كثير من الصحابة عن قضايا وأحكام كانوا قد حكموا وقضوا بها، أو أفتوا بها، ثم رجعوا عنها لما علموا أن الدليل بخلافها.
وقال ابن بطال: إن البخاري رحمه الله أراد الرد على الرافضة والخوارج الذين يزعمون أن كل أحكام النبي صلى الله عليه وسلم وسننه منقولة بالتواتر! ولا يجوز العمل بما لا ينقل متواترا!
وهذا القول مردود بما صح أولا من الأحاديث الكثيرة أن الصحابة رضي الله عنهم كان يستفيد بعضهم من بعض، ويرجع بعضهم إلى ما رواه غيره، وهم أفراد.
وقد انعقد الإجماع عند السلف على العمل بأحاديث الآحاد، وعليه العمل عندهم، وأنها حجة بنفسها.
وهي الأحاديث التي يرويها الواحد والاثنان والثلاثة ولا تبلغ حد التواتر، والتواتر هو رواية الجم الغفير من الرواة عن مثلهم.
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يبعث الرسل إلى الملوك والأمم، وكانوا أفرادا وآحادا، وكان يرسلهم بدعوة الإسلام كله، عقيدة وشريعة، فلو كان الآحاد والأفراد من الناس لا تقوم بهم الحجة على الخلق، لما كان النبي صلى الله عليه وسلم يرسلهم!
والأدلة والأمثلة في الباب كثيرة، وأول من ردّ على هذا القول المنحرف: الإمام الشافعي رحمه الله في كتابه (الرسالة)، ثم تتابعت الردود، ولشيخنا الإمام الألباني رحمه الله تعالى رسالة نفيسة في هذا الباب اسمها: (الحديث حجة بنفسه). مطبوعة.
أما الحديث الأول في هذا الباب، فيرويه البخاري عن شيخه مسدد وقد مضى. عن يحيى وهو ابن سعيد الأنصاري وهو من شيوخ ابن جريج، عن ابن جريج وهو عبدالملك بن عبدالعزيز بن جريج المكي، قال: حدثنا عطاء، وهو ابن أبي رباح المكي، قال: عن عبيد بن عمير وهو ابن قتادة الليثي أبو عاصم المكي، من كبار التابعين، وكان قاصّ أهل مكة، مجمع على ثقته.
قوله: «استأذن أبو موسى على عمر» فكأنه وجده مشغولا بجلسائه فلم يلتفت إليه، فرجع من حيث أتى.
قوله: « فقال عمر: ألم أسمع صوت عبدالله بن قيس؟ ائذنوا له، فدعي له». وكان قد انصرف بعد أن استأذن ثلاث مرات، كما في الروايات الأخرى لهذا الحديث.
قوله « فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: إنا كنا نؤمر بهذا «يعني: كنا نؤمر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، أن يستأذن الرجل على أخيه ثلاثا، فإن أذن له وإلا انصرف.
قوله: «قال له عمر: فائتني على هذا ببينة أو لأفعلن بك «يعني: لأنزلن بك عقوبة لدعواك هذه ! وهذا من تشديد عمر رضي الله عنه في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: «فانطلق إلى مجلس من الأنصار، فقالوا: لا يشهد إلا أصاغرُنا» وفي رواية أن القائل: هو أبي بن كعب، وأصاغرنا أي: أصغرنا سنا؛ وذلك للتدليل على أن هذا الأمر من الوضوح والظهور ما يعلمه الجميع.
قوله: « فقام أبو سعيد الخدري فقال: قد كنا نؤمر بهذا، فقال عمر: خفي عليّ هذا من أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، ألهاني الصفقُ بالأسواق» الصفق بالأسواق هو التبايع؛ لأنه كان يتاجر لكسب الرزق لعياله ويستغني عن الناس.
فهذا الحديث فيه أبين حجة، وأوضح دلالة على أنه قد يخفى على الصحابي الجليل بعض سنن النبي صلى الله عليه وسلم وأحكامه؛ لغيابه عن بعض مجالس النبي صلى الله عليه وسلم بحكم الحاجات التي لا ينفك عنها البشر.
وفيه أيضا حجة واضحة على ثبوت خبر الواحد، وأن الصحابة كان الشاهد منهم يبلغ الغائب ما شهد من قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله، وأن ذلك الغائب عن ذلك المجلس كان يقبل ممن حدثه من الصحابة ما يقوله ويعتمده ويعمل به.
وإنما طلب عمر رضي الله عنه من أبي موسى الأشعري الحجة والبينة على حديث الاستئذان، من باب زيادة الاطمئنان وليس من باب الرد للخبر، وإنما كان عمر رضي الله عنه يتثبت ويشدد في الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم لئلا يتساهل الناس في الرواية عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، ويتجرؤوا على الدين، ولأن الرواية عنه دين وشريعة، فما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم دين يعمل به وحجة على الخلق أجمعين.
والدليل على أن عمر كان يقبل حديث الآحاد: حديث عبدالرحمن بن عوف لما شهد له أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر، ولما شهد به بخبر النبي [ في حديث الطاعون، وهو: « إذا وقع الطاعون بأرض فلا تخرجوا فرارا منه، ولا تقدموا عليه».
وحديث عمرو بن حزم في التسوية بين الأصابع في الدية، وكان عمر رضي الله عنه يفرق بين الأصابع فيقول: هذه منفعتها أكبر من هذه، فيجعل في هذه غير ما يجعله في الأخرى من الأصابع، فشهد بعض الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل في الأصابع عشرا من الإبل، فأخذ به عمر رضي الله عنه وقضى به.
وحديث الضحاك بن سفيان في توريث المرأة من دية زوجها، فقد كان لا يورث المرأة من دية الزوج، وحديث سعد بن أبي وقاص في المسح على الخفين، وغيرها من الشواهد على أن الصحابة رضي الله عنهم كان يبلغ الشاهد منهم الغائب، وأن الغائب كان يقبل ما يسمع منه، ويعمل به.
وذكر البخاري من كتاب العلم في صحيحه أن عمر رضي الله عنه كان يتناوب النزول إلى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم هو ورجل من الأنصار، فينزل هذا يوما وهذا يوما، ويخبر كل واحد منهما الآخر بما غاب عنه، يعني أن عمر رضي الله عنه كان له إبل، وكان يشغله العمل فيها عن بعض مجالس النبي صلى الله عليه وسلم ، فاتفق هو وأخ له من الأنصار على أن ينزل هو يوما، ويبقى الأنصاري في إبله يأخذ مكانه، ثم في اليوم الآخر ينزل الأنصاري ويبقى عمر عند الإبل، ويخبر كل واحد منهما صاحبه بما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم وبما شاهده من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم.
يعني أن عمر لم يأخذ كل العلم مشافهة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل بعضه مشافهة وبعضه بالواسطة، وفعل ذلك الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بغير نكير منه صلى الله عليه وسلم.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #33  
قديم 15-10-2023, 10:53 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,900
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي

شرح كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (58)


الشيخ.محمد الحمود النجدي




- ظهور أحكام النبي [ لأكثر الناس (2)



إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: (الاعتصام بالكتاب والسنة) من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.
الحديث الثاني في الباب:
7354 – حدثنا علي: حدثنا سفيان: حدثني الزهري: أنه سمع من الأعرج يقول: أخبرني أبو هريرة قال: إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله [، والله الموعد، إني كنت امرأ مسكينا، ألزم رسول الله [ على ملء بطني، وكان المهاجرون يشغلهم الصفقُ بالأسواق، وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم، فشهدت من رسول الله [ ذات يوم، وقال: « من يبسط ردائي حتى أقضيَ مقالتي، ثم يقبضه، فلن ينسى شيئا سمعه مني «. فبسطت بردة كانت عليّ، فوالذي بعثه بالحق، ما نسيت شيئا سمعته منه. (طرفه في: 118).
الشرح:
الحديث الثاني في هذا الباب: باب الحجة على من قال: إن أحكام النبي [ كانت ظاهرة، وما كان يغيب بعضهم من مشاهد النبي [ وأمور الإسلام، هو حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه أيضا بيان السبب في خفاء بعض الأحكام والسنن النبوية على بعض كبار الصحابة رضي الله عنهم فضلا عن صغارهم، وهو ما ذكره الصحابي الجليل أبو هريرة هاهنا، وهو أن المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، يعني: عقد الصفقات، والبيع والشراء لأنهم يتاجرون ويتكسبون لأجل الرزق لعيالهم وأسرهم، وأن الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، يعني: في بساتينهم، وفي زروعهم والعناية بها، وهذا يبين أن المهاجرين كانوا أصحاب تجارة في الأغلب، وأن الأنصار كانوا أصحاب زراعة وبساتين، رضي الله عنهم أجمعين.
فيقول أبو هريرة ] في هذا الحديث الذي رواه البخاري من طريق شيخه علي، وهو ابن المديني الإمام الحجة المشهور الذي قال البخاري عنه: ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند ابن المديني، وإنما يذكره البخاري باسمه مجردا، وتارة يقول: حدثني علي بن عبدالله، ولا يصرح باسمه المديني؛ لأن عليا بن المديني أشيع عنه أنه قال بخلق القرآن، وحصلت فتنة لبعض المحدثين، واجتنب الحديث عنهم وهجرت مجالسهم، تارة بالحق، وتارة بغير الحق، فكان ابن المديني ممن أشيع أنه أجاب إلى خلق القرآن، وربما كان قد أجاب خوفا من الحبس أو من الضرب، وإلا فالثابت والمنقول عنه أنه كان يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق.
أما سفيان فهو ابن عيينة أبو محمد الهلالي شيخ ابن المديني. والزهري قد مضى. والأعرج من المكثرين من الرواية عن أبي هريرة ].
قال أبو هريرة: «إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله [، والله الموعد» وجاء في رواية مالك عن الزهري في العلم (118) أنه قال ]: ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثا، ثم يتلو {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم} الآيتان من سورة البقرة: 159-160.
يعني أن أبا هريرة كان قد تعرض لشيء من الكلام عليه في زمنه من بعض الناس؛ لأنه كان صاحب حديث كثير، وكان يعقد مجالس التحديث ] وأرضاه في مسجد رسول الله [ وغيره، وقد كان الصحابة يدافعون عنه ويصدقونه فيقولون: نعم قد سمعنا رسول الله [ يقول ذلك، وكان أبو هريرة إذا جاءه السائل وسأله عن حديث وحدثه به عن رسول الله [ قال له: اذهب إلى فلان - من الصحابة - فسيحدثك بمثل ما حدثتك، فيذهب إليه ويصدقه وهذا من باب شد الأزر، ومعاضدة الرواية، وتقوية الخبر.
وجاء في كتاب الجنائز من الصحيح: أن ابن عمر ] قال: أكثر علينا أبو هريرة، فصدقت عائشة أبا هريرة، أي: صدقته في الحديث الذي حدث به. وما كان ] متهما أبدا، وإنما أشاع أعداء السنة من الرافضة والمستشرقين والعلمانيين الكلام على مروياته، ولا سيما في السنين المتأخرة من أجل الطعن في الدين، وصد الناس عن السنن النبوية الشريفة، فيتوصلون بذلك إلى هدم الدين!!
ومن أسباب كثرة الحديث عن أبي هريرة أنه قد مات أكابر الصحابة قبله، وعمّر أبو هريرة إلى ما بعد سنة الستين للهجرة، فاتسعت روايته، وكثر تلاميذه والآخذون عنه من التابعين وغيرهم.
وبين هاهنا سببا من أسباب كثرة تحديثه، وهو أن المهاجرين كانت تشغلهم التجارة، وأن الأنصار كان يشغلهم العمل في زروعم وبساتينهم، وقوله: « كنت امرأ مسكينا» يعني: كنت رجلا مسكينا «من فقراء المهاجرين، ألزم رسول الله [»، وفي رواية مسلم: «أخدم رسول الله على ملء بطني» بمعنى أنه كان يرضى باليسير، ويكتفي بأقل القليل، فيكفيه أن يأكل ما يشبعه ولا يطلب المزيد، وليس لديه تجارة ولا أرض يزرعها ويشتغل بها، ولا هو ممن يطلب مالا ولا أرضا ولا عقارا ولا خدما، ولا غير ذلك، بل كان يكفيه أن يلازم رسول الله [ ويخدمه ويكون بقربه ويسمع حديثه ويشهد أحكامه، ويحفظ عنه.
وكان النبي [ تأتيه هدايا من أصحابه من لبن أو تمر أو غير ذلك، فكان أبو هريرة ] يصيب مما يأتي رسول الله [، ويأوي إلى فقراء الصُّفّة الذين كانوا يبيتون بالمسجد في صفة لهم أي: ظلة؛ إذ لا سكن لهم ولا يلوون على أهل ولا عشيرة؛ لأنهم من فقراء المهاجرين.
وأهل الصفة كانوا يأكلون في المسجد، ويتصدق عليهم الناس؛ لأنهم هاجروا في سبيل الله عز وجل، وتركوا خلفهم ديارهم وأموالهم، وفي بعض الأحيان أهلهم ونساءهم وأولادهم طلبا لمرضاة الله تبارك وتعالى.
وما أعظم هذه الهجرة وأشدها على النفس، إلا إن كانت نفسا مؤمنة مطمئنة، موقنة بثواب الله تبارك وتعالى، قد اشترت الآخرة بالدنيا.
فلذلك شهد أبو هريرة ] ما لم يشهد غيره، وسمع ما لم يسمعوا؛ لأنه كان يلزم رسول الله [، وفي رواية: « فيشهد إذا غابوا، ويحفظ إذا نسوا»، وجاء في رواية البخاري أيضا: «وكنت امرأ مسكينا من مساكين الصفة، أعي حيث ينسون، فشهدت من رسول الله [ ذات يوم»، يعني شهد مجلسا. وفي المسند والترمذي: عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال لأبي هريرة: كنت ألزمنا لرسول الله [ وأعرفنا بحديثه.
قوله [: «من يبسط رداءه» أي: من منكم يفرش ثوبه على الأرض.
قوله: «فلم ينسى شيئا سمعه مني» وفي رواية: «فلن ينس شيئا». وهو وعد صادق منه [، وقد وقع الأمر كما قال، فكان أبو هريرة ] راوية الإسلام، والمقدم من الصحابة في الحديث، فروى ما يزيد على خمسة آلاف حديث نبوي شريف، وليس ذلك لغيره؛ بسبب دعوة النبي [ له، وهو من أعظم أسباب حفظه ].
قوله: « فبسطت بردة كانت علي، فوالذي بعثه بالحق ما نسيت شيئا سمعته منه « وفي رواية أخرى: «فحثا له النبي [ ثلاث حثيات، وقال له: ضُم رداءك» وهذا أيضا سبب من أسباب سعة حفظه وثبوته في صدره، وتفوقه على بقية الصحابة في هذا الباب.
وفي كتاب العلم: «أن أباهريرة قال: يا رسول الله، إني أسمع منك حديثا كثيرا أنساه، قال: «ابسط رداءك»، قال: فغرف بيديه، ثم قال: «ضمه»، فضممته، فما نسيت شيئا بعده.
وقال هاهنا أبو هريرة: فوالذي بعثه بالحق ما نسيت شيئا سمعته منه».
وهذا من الآيات والمعجزات، والدلائل النبوية، وبركة من بركاته عليه الصلاة والسلام، ولم ير أبو هريرة شيئا بعينيه، فسبحان الله العظيم!
ومن أراد الاطلاع على ترجمة أبي هريرة والدفاع عنه فليراجع كتاب العلامة يحيي المعلمي في الرد على المدعو محمود أبي رية، واسم الكتاب «الأضواء الكاشفة» وهو كتاب نفيس في الرد على محمود أبي رية، الذي طعن في هذا الصحابي الجليل ومروياته، فرد عليه العلامة المعلمي رداً مباركا عظيما في هذا الكتاب.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #34  
قديم 15-10-2023, 10:55 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,900
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي

شرح كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (59)


الشيخ.محمد الحمود النجدي



(59)- إقـرار النبـي صلى الله عليه وسلم حُجّـة


إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.
الباب الثالث والعشرون:
23 – باب من رأى ترك النكير من النبي صلى الله عليه وسلم حجة، لا من غير الرسول.
7355 – حدثنا حماد بن حميد: حدثنا عبيدالله بن معاذ: حدثنا أبي: حدثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن محمد بن المنكدر قال، رأيت جابر بن عبدالله يحلف بالله: أن ابن الصياد الدجالُ، قلت: تحلف بالله؟ قال: إني سمعت عمر يحلف على ذلك عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم.
الشرح: الباب الثالث والعشرون - باب من رأى ترك النكير - يعني ترك الإنكار من النبي صلى الله عليه وسلم حجة، لا من غير الرسول فإنه ليس بحجة، والنكير: هو المبالغة في الإنكار، وقد مرّ معنا أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم هي: ما نقل عنه صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، فكل ما نقل عنه صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير فهو حجة في دين الله تعالى.
واتفق العلماء على أن تقريره صلى الله عليه وسلم حجة أيضا، فما يفعل بحضرته، أو يطلع عليه النبي صلى الله عليه وسلم فيرضاه، أو يصل إليه خبره ويسكت عنه، أن هذا كله دال على الإباحة؛ لأن العصمة النبوية تأبى السكوت عن المنكر أو عن الباطل.
ففي عهد النبي صلى الله عليه وسلم لا يُقر أحدٌ على باطل أبدا، أي: في عهده صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يفعل أحد باطلا أو محرما ثم يسكت عنه الوحي، ولو لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يحضره فإن الله تعالى يبلغه بواسطة الوحي.
فسكوته إذاً صلى الله عليه وسلم يدل على أقل الأحوال على الإباحة، أما غير الرسول صلى الله عليه وسلم – وهو موضوع الباب - فإن سكوته لا يدل على الجواز؛ لأن غير الرسول صلى الله عليه وسلم لا عصمة له من الخطأ - كما هو مقرر عند أهل السنة - فقد يسكت نسيانا أو سهوا أو جهلا أو خوفا أو تأويلا أو غير ذلك من الأسباب.
أما الرسول صلى الله عليه وسلم فليس كأحد من الناس؛ فلا يفعل بحضرته شيء ثم يسكت عنه مع حرمته، أما غيره فقد قال كثير من أهل العلم: إنه لا ينسب لساكت قول، فمجرد السكوت لا يدل على الموافقة، ولهذا قال من قال من أهل العلم: إن الإجماع السكوتي ليس بحجة؛ لأن سكوت العالم عن شيء لا يكون دليلا على الجواز؛ لاحتمال أنه لم يبلغه الحكم، أو أنه سكت خوفا من المخالفة أو غير ذلك كما ذكرنا.
لكن الراجح أنه إذا قال المجتهد قولا وانتشر ولم يخالفه غيره فهو حجة، بشرط ألا يخالف نصا من كتاب أو سنة.
وقد روى البخاري في هذا الباب حديثا واحدا عن حماد بن حميد، وهو الخراساني، وهو الحديث الوحيد له في الصحيح، وفيه لين، لكنه متابع فقد أخرجه مسلم وغيره من طرق.
عن عبيد الله بن معاذ وهو ابن نصر بن حسان العنبري، ثقة حافظ. وسعد بن إبراهيم هو ابن سعد بن عبدالرحمن بن عوف الزهري، ثقة. ومحمد بن المنكدر التيمي المدني، ثقة حافظ، من المكثرين في الرواية عن جابر رضي الله عنه. وسعد بن إبراهيم، ومحمد بن المنكدر من طبقة واحدة، ولهذا تعد هذه الرواية من رواية الأقران عن بعضهم البعض.
قال: « رأيت جابر بن عبدالله يحلف» يعني: أنه شاهده حين حلف بالله عز وجل أن ابن الصياد، وفي رواية: «أن ابن صياد» بدون ألف ولام، وفي رواية مسلم: « يحلف بالله أن ابن الصياد الدجالُ». قوله: «قلت تحلف بالله»؟! قال: إني سمعت عمر يحلف على ذلك عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم ينكره صلى الله عليه وسلم ».
فجابر رضي الله عنه لما سمع عمر رضي الله عنه يحلف عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابن الصياد هو الدجال، فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ، فهم جابر من هذا التقرير والسكوت - إقرار النبي صلى الله عليه وسلم عمر - على كلامه ذلك، اعتبره حجة واحتج به، لكن هذا مقيد بألا يعارضه التصريح بخلافه، فإن قال النبي صلى الله عليه وسلم أو فعل بخلاف ذلك دل على نسخ ذلك التقرير، إلا إذا ثبت دليل الخصوصية.
والحديث صريح في أن إقرار النبي صلى الله عليه وسلم كان عند الصحابة حجة معمولاً بها، فجابر هاهنا احتج بإقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر على أن ابن الصياد هو الدجال.
وأما مسألة: هل كان ابن صياد هو الدجال الذي يخرج آخر الزمان أم لا؟
فالراجح - والله تعالى أعلم - أن النبي صلى الله عليه وسلم تردد في شأنه أولا؛ ولهذا سكت، ولم ينكر على عمر في ذلك المجلس؛ إذ جاء في قصة ابن صياد أن عمر رضي الله عنه قال: دعني أضرب عنقه يا رسول الله ! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن يكن هو فلن تسلط عليه «. يعني: إن يكن ابن الصياد هو الدجال، فلن تمكن أنت من قتله؛ لأن الذي يقتل الدجال هو عيسى عليه الصلاة والسلام، وهو كائن آخر الزمان، وإن لم يكن هو الدجال، فلا خير لك في قتله، فتردد النبي صلى الله عليه وسلم في ابن الصياد - والله أعلم - لعدم الوحي إليه فيه كما سيأتي.
ووردت أحاديث كثيرة في ابن الصياد، استدل بعض الصحابة بها على أنه هو الدجال بما رآه منه، فمن ذلك كما رواه عبدالرزاق بسند صحيح: عن ابن عمر قال: « لقيت ابن صياد يوما، ومعه رجل من اليهود فإذا عينه قد طفئت، وهي خارجة مثل عين الجمل، فلما رأيتها، قلت: أنشدك بالله يا ابن صياد، متى طفئت عينك؟ قال: لا أدري والرحمن، قلت: كذبت لا تدري وهي في رأسك، قال: فمسحها ونخر ثلاثا، فزعم اليهود أني ضربت بيدي صدره، وقلت له: اخسأ فلن تعدوا قدرك، فذكرت ذلك لحفصة، فقالت حفصة: اجتنب هذا الرجل، فإنما يتحدث أن الدجال يخرج من غضبة يغضبها «.
ووردت أحاديث تدل على ذلك أنه ليس هو الدجال، فأخرج الإمام مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: « صحبني ابن صياد إلى مكة فقال لي: ماذا لقيت؟ يزعمون أني الدجال. يعني أنه يشكو إليه ما يقول الناس فيه، أنهم يقولون عني أني أنا الدجال، ثم قال له: ألست سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أنه لا يولد له، قلت: بلى ! قال: فإنه قد وُلد لي، قال: أولست سمعته يقول: لا يدخل المدينة ولا مكة ! قلت: بلى، قال: فقد ولدت بالمدينة، وها أنا أريد مكة ».
وورد في الحديث أنه خرج حاجا مع أبي سعيد وأصحابه. فهذا الأحاديث يَستدل بها من قال إن ابن صياد لم يكن هو الدجال.
وقال البيهقي رحمه الله في حديث الباب: ليس في حديث جابر أكثر من سكوت النبي صلى الله عليه وسلم على حلف عمر، فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم كان متوقفا في أمره ثم جاءه الثبت من الله تعالى بأنه غيره، على ما تقتضيه قصة تميم الداري، وبه تمسك من جزم بأن الدجال غير ابن صياد، وطريقه أصح، وتكون الصفة التي في ابن صياد وافقت ما في الدجال.
قال الحافظ ابن حجر: قلت: قصة تميم الداري أخرجها الإمام مسلم من حديث فاطمة بنت قيس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس، وذكر أن تميما الداري ركب في سفينة مع ثلاثون رجلا من قومه، فلعب بهم الموج شهرا، ثم نزلوا إلى جزيرة فلقيتهم دابة كثيرة الشعر فقالت لهم: أنا الجساسة، ودلتهم على رجل بالدير- أي بالقصر- قال: فانطلقنا سراعا فدخلنا الدير فإذا فيه أعظم إنسان رأيته قط خلقا، وأشده وثاقا - يعني أنه مربوط وموثق بشدة - ومجموعة يداه إلى عنقه بالحديد، فقلنا: ويلك ! ما أنت...» فذكر الحديث.
قال: وفيه: - أي في هذا الحديث - سألهم عن نبي الأميين: هل بعث؟ وأنه قال: إن يطيعوه خير لهم، وأنه سألهم عن بحيرة طبرية، وعن عين زُغر، ونخل بيسان - وكلها بفلسطين - وفيه أنه قال لهم: إني مخبركم عني أنا المسيح، وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج، فأخرج فأسير في الأرض، فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة، غير مكة وطيبة» انتهى.
فهذا قول الدجال لتميم الداري صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين كانوا معه في الجزيرة.
فلا يمكن الجزم لمن قرأ هذا الحديث بأن ابن صياد هو الدجال، ومن جزم أن ابن صياد هو الدجال فهو لم يسمع بقصة تميم؛ لأنه يستحيل الجمع بين من كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة صغيرا قريبا من الاحتلام، وبين من رآه الصحابة رجلا كبيرا مسجونا في جزيرة من جزر البحر، موثقا بالحديد، يستفهم من الصحابة عن خبر النبي صلى الله عليه وسلم ، هل خرج أم لا؟!
فهذا الحديث والله تعالى أعلم مما يدل على أن ابن صياد ليس هو الدجال، وأما جابر رضي الله عنه فقد حلف على ما كان اطلع عليه من عمر رضي الله عنه بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم.
قال النووي: قال العلماء: قصة ابن صياد مشكلة، وأمره مشتبه، لكن لا شك أنه دجال من الدجاجلة، والظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوح إليه في أمره بشيء، وإنما أوحي بصفات الدجال، وكان في ابن صياد قرائن محتملة؛ فلذلك كان صلى الله عليه وسلم لا يقطع في أمره بشيء، بل قال لعمر: «لا خير لك في قتل...» الحديث.
قال: وأما إسلامه وحجه وجهاده فليس فيه تصريح بأنه غير الدجال؛ لاحتمال أن يختم له بالشر. فقصته أشكلت على كثير من الصحابة فضلا عن غيرهم.
وورد أنه كان يأتيه شيطانه كما في الصحيح، وربما كان هذا في أول حياته في صغره ثم رجع عنه لما كبر؛ إذ ورد عنه إسلامه وحجه، وروى أبوداود: عن جابر قال: فقدنا ابن صياد يوم الحرة.
قال ابن حجر: صحيح. أي: لعله قتل يومئذ، والله تعالى أعلم. والحديث يدل أيضا على جواز الحلف بما يغلب على الظن.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #35  
قديم 18-10-2023, 10:06 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,900
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي

شرح كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (60)


الشيخ.محمد الحمود النجدي


(60) الاجتهاد والقياس ومعرفة المجمل


إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.
الباب الرابع والعشرون:
باب: الأحكام التي ُتعرف بالدلائل، وكيف معنى الدلالة وتفسيرها
وقد أخبر النبيُ[ أمرَ الخيل وغيرها ، ثم سئل عن الحمر، فدلهم على قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ}، وسئل النبي[ عن الضب، فقال: «لا آكله ولا أحرمه». وأكل على مائدة النبي[ الضبُ، فاستدل ابن عباس بأنه ليس بحرام.
الحديث الأول:
7356 – حدثنا إسماعيل: حدثني مالك، عن زيد بن أسلم عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله[ قال: «الخيل لثلاثة: لرجل أجرٌ، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر، فأما الذي له أجر، فرجل ربطها في سبيل الله، فأطال في مرج أو روضة، فما أصابت في طيلها ذلك المرج والروضة كان له حسنات، ولو أنها قطعت طيلها، فاستنت شرفا أو شرفين، كانت آثارها وأرواثها حسنات له، ولو أنها مرّت بنهر فشربت منه - ولم ُيرد أن يسقي به - كان ذلك حسنات له، وهي لذلك الرجل أجر. ورجل ربطها تغنيّاً وتعففا، ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها، فهي له ستر . ورجل ربطها فخراً ورياء، فهي على ذلك وزر». وسئل رسول الله[ عن الحمر، فقال: «ما أنزل الله علي فيها إلا هذه الآية الفاذة الجامعة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} طرفه في: 2371 .
الشرح:
الباب الرابع والعشرون هو: باب الأحكام التي تعرف بالدلائل وكيف معنى الدلالة وتفسيرها.
والأحكام هي الشرعية التي تعرف بالدلائل، وفي بعض النسخ: بالدليل.
والدليل يُعرّف بأنه: ما يرشد إلى المطلوب، ويلزم من العلم به العلم بالمدلول، وأصله في اللغة: من أرشد إلى الطريق، قاصدا إلى طريق يوصله إلى مقصده. والدلالة يجوز فيها فتح الدال وكسرها، والفتح أفصح. والمراد بها في الاصطلاح الشرعي: الإرشاد إلى حكم الشيء الخاص الذي لم يرد فيه نص خاص، وإنما هو داخل تحت حكم دليل آخر بطريق العموم.
هذا معنى الدلالة، وتفسيرها يعني: تبيينها، فالتفسير هو التبيين، وهو تعليم المأمور، أي: تعليم المكلف كيفية ما أُمر به، أو كيفية الوصول إلى ما أمر به من الأحكام.
ويستفاد من هذه الترجمة: أن الاستنباط والاجتهاد في الوصول إلى ما يظن أنه حكم الله تعالى ورسوله[، محمود إذا تم بضوابطه الشرعية، وأن الجمود على النصوص الظاهرة ليس هو طريق النبي[، فليس من طريق النبي[ أن يجمد على ظاهر النص، ويهمل الإشارة أو الدلالة، والأدلة على ذلك ما ذكره البخاري تحت هذا الباب من الأحاديث.
وقوله: «سئل النبي[ عن الضب فقال: لا آكله ولا أحرمه»، هو الحديث الثالث في الباب وسيأتي الكلام فيه.
أما الحديث الأول في الباب: الذي يرويه البخاري من طريق شيخه إسماعيل بن أبي أويس، عن الإمام مالك، عن زيد بن أسلم وقد مضت تراجمهم. عن أبي صالح السمان واسمه ذكوان المدني، وسمي بالسمان أو الزيات لكونه كان يتجر بالزيت، يرويه عن أبي هريرة رضي الله عنه.
أن رسول الله[: «الخيل لثلاثة» أي: لثلاثة أصناف أو ثلاثة أنواع من الناس.
قوله: «لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر، فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله» يعني رجل ربط هذه الفرس من أجل الغزو والجهاد، وهذا معنى ربطها في سبيل الله، أي: أنه أعدها وربطها ذخرا للجهاد.
قوله: «فأطال في مرج أو روضة» يعني أطال الحبل. قوله: «فما أصابت في طيلها ذلك المرج والروض كان له حسنات» أي: إذا تحركت هذه الخيل ومشت أو ركضت على حسب طول الحبل كان له به حسنات.
قوله: «ولو أنها قطعت طيلها فاستنت شرفا أو شرفين» أي: إذا قطعت حبلها، واستنت أي: ركضت، والشرف: هو المكان المرتفع.
قوله: «كانت آثارها وأرواثها حسنات له، ولو أنها مرت بنهر فشربت منه، ولم يرد أن تسقي بهه كان ذلك حسنات له» فهذه الفرس كلها حسنات وأجر وثواب لصاحبها، فكل طعامها وشرابها يوضع في ميزان صاحبها، بل حتى أرواثها توضع في ميزانه، وحتى تحركها يمينا وشمالا في مرجها يحسب له حسنات.
قوله: «ورجلا ربطها تغنيا وتعففا» أي: طلبا للنسل، فيطلب تولدها لأجل أن يبيع من أولادها، ولم ينس حق الله في رقابها، ولا ظهورها، فهي له ستر، لأنها تغنيه عن السؤال وتستره هو وعياله.
أما الرجل الثالث: «فرجل ربطها فخرا ورياء» أي: يتخذها لمجرد الفخر على الناس والخيلاء، بأنه يملك من الخيل كذا وكذا، أو من الأفراس كذا وكذا، فهي على ذلك الرجل وزر، لعدم وجود النية الصالحة في اتخاذها.
قوله: «وسئل[ عن الحُمر» وهي جمع حمار، الحيوان المعروف. فقال: ما أنزل الله علي فيها إلا هذه الآية الفذة الجامعة، الفذة يعني الجامعة الفريدة، وهي قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (الزلزلة: 7- 8)، فالرسول[ لما بيّن حكم اقتناء الخيل وأحوال مقتنيها من الناس، وسئل عن الحمر أشار إلى أن حكمها وحكم الحمر وحكم غيرها مندرج في عموم قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (الزلزلة: 7-8)، وهذا من باب الإرشاد إلى أن حكم الشيء الخاص الذي لم يرد فيه نص خاص، قد يندرج تحت دليل آخر بطريق العموم كما قلنا، وهذا هو القياس.
فقال أهل العلم: إن هذا الحديث فيه حجة على إثبات القياس، ولا شك في أن فيه إشارة واضحة إلى حجية القياس، وتعليم النبي[ أمته كيف يصلوا إلى الحكم الشرعي بالإستنباط، وإلى الأدلة على الشيء الخاص في نظرهم في الأدلة العامة.
الحديث الثاني:
7357 – حدثنا يحي: حدثنا ابن عيينة، عن منصور بن صفية، عن أمه، عن عائشة: أن امرأة سألت النبي[.
طرفه في: 314 . ح / حدثنا محمد – هو ابن عقبة - حدثنا الفضيل بن سليمان النميري البصري: حدثنا منصور بن عبد الرحمن بن شيبة، حدثتني أمي، عن عائشة رضي الله عنها: أن امرأة سألت النبي[ عن الحيض، كيف تغتسل منه؟ قال: «تأخذين فرصة ممسكة، فتوضئين بها» . قالت: كيف أتوضأ بها يا رسول الله؟ قال النبي[: «توضئي». قالت: كيف أتوضأ بها يا رسول الله؟ قال النبي[: «توضئين بها». قالت عائشة: فعرفتُ الذي يريد رسول الله[ فجذبتها إليَّ فعلّمتها.
الشرح:
الحديث الثاني في هذا الباب حديث عائشة رضي الله عنها والذي يرويه البخاري رحمه الله بإسنادين: الأول: من طريق يحي، وهو ابن موسى البلخي، ثقة. قال: حدثنا ابن عيينة، وهو سفيان عن منصور بن صفيه وهو ابن عبد الرحمن العبدري الحجبي المكي، ثقة. عن عن أمه وهي صفية بنت شيبة ابن عثمان بن أبي طلحة العبدرية، لها صحابية رؤية عن عائشة رضي الله عنها.
ويرويه البخاري بسند آخر: عن محمد بن عقبة هو الشيباني الطحان الكوفي، ثقة. عن الفضيل بن سليمان النميري، عن منصور بن عبدالرحمن بن شيبة عن أمه، عائشة رضي الله عنها.
قوله: «أن امرأة سألت النبي[ عن الحيض كيف تغتسل منه» أي: كيف تتطهر منه.
فقال النبي[: «تأخذين فرصة ممسكة فتوضئين بها» يعني بعد أن تغسل المرأة رأسها وبدنها، فإنها تإخذ فرصة ممسكة، والفرصة بكسر يعني تأخذ قطعة من المسك، وقيل تأخذ قطنة ممسكة، يعني فيها شيء من المسك فتتوضأ بها.
وأراد النبي[ بالوضوء ها هنا: تتبع آثار الدم، وهذا وضوء خاص لأنه اقترن بذكر الدم والأذى، فالنبي[ أحب لنساء أمته أنهن إذا طهرن من المحيض أن يتطهرن بالماء ويغسلن رؤسهن وأبدانهن، ثم تأخذ المرأة قطنة ممسكة، فيها شيء من المسك أو الطيب، فتتبع بها آثار الدم لتدفع به الرائحة الكريهة، وقد ذكر بعض الأطباء فائدة هذا للرحم وفائدته للمرأة عموما، وقيل: فائدته للزوجين، لترغيب الرجل بجماع امرأته.
وإنما قال النبي[: «توضئين بها» لأنه استحي[ أن يذكر اللفظ الصريح.
فقالت المرأة: كيف أتوضأ بها يا رسول الله، وأعادته عليه عليه الصلاة والسلام مرتين أو ثلاثا، وهو يقول لها: توضئين بها.
قوله: «قالت عائشة ، فعرفت الذي يريد» أي: عرفت غرض النبي عليه الصلاة والسلام ومقصده، فعرفت أنه يريد أن تتبع بها آثار الدم، موضع الدم وهو الفرج، فبينت للمرأة ما خفي عليها من ذلك.
وهذا الحديث كما أنه حجة في هذا الباب، وهو أن الأمر المجمل يعرف بيانه بالقرائن والإشارات، والمجمل هو الأمر الذي لم تتضح دلالته، فإن القرآن والسنة فيهما مجمل ومبين:
أما المجمل: فهو الذي المبهم والمحتمل، أي مالا تتضح دلالته.
وأما المبين: فهو الذي لا يحتاج إلى بيان.
فالمجمل تختلف الأذهان والأفهام في إدراكه، ولذلك عرفت عائشة قصد النبي[ ولم تعرفه المرأة، وهذا فيه فضل عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها على غيرها من نساء الصحابة، وفقهها وعلمها بالشرع.
والمجمل ينقسم إلى قسمين: فقد يكون لفظا مفردا، وقد يكون جملة مركبة.
أما اللفظ المفرد فـ»كالقرء»: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (البقرة: 228)، فالقرء لفظ مجمل يحتمل الطهر، ويحتمل الحيض، ولذلك يحتاج إلى بيان.
ومنه حديث الباب، فإن النبي[ قال لها: «توضئي بها»، والوضوء قد يطلق على العبادة الشرعية المعروفة، وقد يطلق أحيانا على عموم التطهر ، كما في حديث الباب.
أما المجمل المركب فكقوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} (البقرة: 237).
فيحتمل أن يكون الذي بيده عقدة النكاح وإنهائها، هو الزوج . وهناك قول ثان: أن الذي بيده عقدة النكاح هو: الولي، لأنه الذي عقد النكاح أولا، فهذا من المجمل المركب، وله نظائر كثيرة في كتاب الله تبارك وتعالى.
وممن اهتم ببيان مجمل القرآن وتفسيره، أي تفسير القرآن بالقرآن، العلامة الشنقيطي محمد الأمين في كتابه: «أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن».

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #36  
قديم 18-10-2023, 10:08 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,900
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي

شرح كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (61)


الشيخ.محمد الحمود النجدي

-الاجتهاد والقياس والمجمل (2)


إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.
الحديث الثالث:
7358 – حدثنا موسى بن إسماعيل: حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن أم حفيد بنت الحارث بن حزن أهدت إلى النبي[ سمنا وأقطا وأضبًا. فدعا بهن النبي[، فأكلن على مائدته، فتركهن النبي[ كالمتقذّر لهن، ولو كنّ حراما ما أكلن على مائدته ، ولا أمر بأكلهن. (طرفه في: 2575).
الشرح : الحديث الثالث الذي جاء في هذا الباب، باب الأحكام التي تعرف بالدلائل وكيف معنى الدلالة وتفسيرها.
يرويه البخاري -رحمه الله- من طريق شيخه موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا أبو عوانة، وهو الوضاح بن عبدالله اليشكري ثقة ثبت، يرويه عن أبي بشر جعفر بن أبي وحشية وهو ابن إياس اليشكري، وهو ثقة من أثبت الناس في سعيد بن جبير، قال: عن سعيد بن جبير، وهو من تلامذة ابن عباس المشهورين والمكثرين عنه. أن أم حفيد واسمها: هزيلة بنت الحارث بن حزن الهلالية، وهي أخت ميمونة بنت الحارث الهلالية أم المؤمنين زوج النبي[، وهي خالة ابن عباس، وخالة خالد بن الوليد رضي الله عنهم.
قوله: «أهدت أم حفيد إلى النبي] سمنا» السمن وهو معروف وهو الدهن، وأقطا، والأقط: هو اللبن المجفف، وأضبا جمع ضب، وهو الحيوان المعروف لدى أهل البوادي.
قوله: «فدعا بهن النبي[ فأكلن على مائدته» أي: أكلت هذه الأطعمة على مائدة النبي[ ولم ينه عنها . قوله: «فتركهن النبي[ كالمتقذر لهن» أي: هو استقذر أكل الضب وكرهه لأنه لم يعتد على ذلك. قوله: «ولو كن حراما ما أكلن على مائدته ولا أمر بأكلهن» وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما.
فهذا الحديث فيه استدلال ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه بفعل النبي[ وإقراره، فالنبي[ دعا بالطعام، فجيء له بهذا الطعام المشتمل على السمن والأقط والضب أو الأضب، فأكل من السمن والأقط، وترك الأضب وأكلت الأضب على مائدته وأمامه، لكن النبي[ ترك أكلها تقذرا، يعني: أن نفسه تقذرت الضب، ولم تستسغ أكله.
وسأله خالد بن الوليد كما في الحديث الصحيح في البخاري ( 9/663): أحرام هو يا رسول الله؟ قال: «لا، ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه - يعني: نفسي تعافه لا تقبله» – قال خالد: فاجتررته فأكلته، ورسول الله[ ينظر.
فالضب لم يكن بأرض مكة وما حولها؛ لأنه يشتهر ببلاد نجد، وتشتهر نجد بأكله. فاستدل ابن عباس بإقرار النبي[ لخالد على إباحة الضب، وقال: لو كن حراما ما أكلن على مائدته، يعني: النبي[ لا يسكت على محرم، وهذا من الاستدلال بالفعل أو التقرير على إباحة الشيء. وقد بينا أن أقوال النبي[ وأفعاله وتقريراته هي حجة في دين الله عز وجل.
الحديث الرابع:
7359 - حدثنا أحمد بن صالح: حدثنا ابن وهب: أخبرني يونس ، عن ابن شهاب: أخبرني عطاء بن أبي رباح ، عن جابر بن عبدالله قال: قال النبي[: «من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا، أو ليعتزل مسجدنا، وليقعد في بيته». وإنه أتي ببدر، قال ابن وهب: يعني طبقا، فيه خضروات من بقول، فوجد لها ريحا، فسأل عنها فخَبُر بما فيها من البقول، فقال: «قربوها»، فقربوها إلى بعض أصحابه كان معه ، فلما رآه كره أكلها قال: «كل فإني أناجي من لا تناجي».
وقال ابن عفير عن ابن وهب: بقدر فيه خضراوات، ولم يذكر الليث وأبو صفوان، عن يونس، قصة القدر، فلا أدري هو من قول الزهري أو في الحديث. (طرفه في: 854).
الشرح: الحديث الرابع: حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما يرويه البخاري من طريق شيخه أحمد بن صالح المصري الثقة المشهور، عن ابن وهب وهو عبدالله بن وهب المصري، قال: أخبرنا يونس، عن بن شهاب، وقد مضيا، أخبرنا عطاء بن أبي رباح الإمام الثقة المفسر الشهير يرويه عن جابر رضي الله عنه.
قوله: قال النبي[: «من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا، أو ليعتزل مسجدنا، وليقعد في بيته». وهذا الحديث: فيه النهي عن أكل البصل وأكل الثوم ثم إتيان المساجد؛ لأن لها رائحة منفرة مؤذية للمصلين وللملائكة، كما جاء في الحديث، فنهى النبي[ آكل الثوم والبصل أن يأتي المسجد، وليس هذا من باب الرخصة لآكل البصل والثوم أن يصلي ببيته كما يفهم بعض الناس، وإنما هو من باب الزجر والطرد، فالنبي[ لم يرخص لمن أراد أن يتخلف عن الجماعة أن يأكل الثوم والبصل؟! لأن الجماعة في المساجد واجبة على الرجل البالغ العاقل المقيم الصحيح، الذي لا علة فيه؛ فلا يجوز أن يترك إتيان المساجد في الصلوات الخمس ، وإنما منع من كان فيه إيذاء للمؤمنين وعباد الله أن يأتي المسجد إذا كانت به رائحة خبيثة منفرة.
وأخبر[: أن الملائكة تتأذى مما يتأذى به بنو آدم، قوله: «وأنه أتي ببدر» جاء في التفسير عن الراوي - وهو ابن وهب - على هيئة البدر. يعني الطبق على هيئة القمر ليلة البدر في الاستدارة.
قوله: «فيه خضراوات من بقول، فوجد لها ريحا فسأل عنها فأخبر بما فيها من البقول، فقال: «قربوها». فقربوها إلى بعض أصحابه كان معه، فلما رآه كره أكلها، أي : كره أبو أيوب أكلها، متأسيا في ذلك برسول الله[، كما قال الله: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} فعموم الآية يدل على مشروعية متابعته في جميع أفعاله، فلما امتنع من أكلها ، كره أبو أيوب أكلها وأعرض عنها.
فقال له رسول الله[ لما رآه كره أكلها: «كُلْ»، يعني: كل من هذا الطبق، ومن هذه البقول لأنها ليست حراما.
قوله: «فإني أناجي من لا تناجي».
وفي لفظ للبخاري: «إني أخاف أن أوذي صاحبي».
وعند ابن خزيمة «إني أستحيي من ملائكة الله وليس بمحرم».
فهذا الحديث فيه دلالة على جواز أكل الثوم والبصل لعامة الناس، أما النبي[ فكونه كان يناجي جبريل ويتكلم معه فيكره أن يؤذيه برائحة البصل والثوم، ولا يلزم هذا في غير حقه من البشر، بل قال ابن بطال: إن قول النبي[: «كلوه» أو قال: «قربوه», دليل على جواز الأكل.
وقال بعضهم: فيه استحباب أكل البصل والثوم في غير أوقات الصلاة لقوله: «كلوه»؛ لأنه نوع من الحث على أكله، وقد أثبت العلم الحديث والطب المعاصر فوائد جمة للبصل والثوم في دفع الأمراض، ومحاربة الجراثيم، وتخفيض الضغط الدموي، وغيرها من الفوائد، وكذا ما ذكره الإمام ابن القيم في كتابه «الطب النبوي» من فوائد.
وإنما كره الشرع أكلها وقت الصلاة لمناجاة الله سبحانه وتعالى، أو لمنافاته لأخذ الزينة المطلوبة عند ارتياد المساجد، وخشية أذية الناس.
الحديث الخامس:
736 – حدثني عبيد الله بن سعد بن إبراهيم: حدثني أبي وعمي قالا: حدثنا أبي، عن أبيه، أخبرني محمد بن جبير: أن أباه جبير بن مطعم أخبره: أن امرأة من الأنصار أتت رسول الله [ فكلمته في شيء، فأمرها بأمر، فقالت: أرأيت يا رسول الله إن لم أجدك؟ قال: إن لم تجديني فأتي أبا بكر». زاد الحميدي، عن إبراهيم بن سعد: «كأنها تعني الموت».
الشرح: الحديث الخامس: قال البخاري: حدثني عبيد الله بن سعد بن إبراهيم، وهو ابن عبدالرحمن بن عوف الزهري، قاضي أصبهان، ثقة. قال: حدثني أبي وعمي، أبوه ثقة، واسم عمه: يعقوب بن إبراهيم بن سعد ثقة فاضل. قال حدثنا أبي وهو إبراهيم بن سعد المدني ثقة حجة تُكُلم فيه بلا قادح. عن أبيه: وهو سعد بن إبراهيم الزهري ثقة فاضل عابد. أخبرني محمد بن جبير وهو ابن مطعم النوفلي، ثقة عارف بالنسب. أن أباه جبير بن مطعم وهو صحابي معروف،أخبره أن امرأة من الأنصار أتت رسول الله [ فكلمته في شيء» لم تسم هذه المرأة.
قوله: « فأمرها الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر، فقالت المرأة أرأيت يا رسول الله إن لم أجدك؟ قال: «إن لم تجديني فأتي أبا بكر» زاد الحميدي عن إبراهيم بن سعد: كأنها تعني الموت.
هذه المرأة جاءت إلى الرسول [ فأمرها بأمر، وفي رواية - كما في كتاب المناقب لأبي بكر الصديق – «أن تأتيه من قابل» أي: إنه وعدها أن تأتيه من قابل، أي في السنة القادمة.
قوله: «فقالت: يا رسول الله: أرأيت إن لم أجدك? كأنها تعني الموت « ولم تنطق به، ولأن هذا اللفظ عام، فيحتمل الموت ويحتمل الغياب وعدم الحضور، يعني ربما يكون مؤقتا وربما يكون أعم من ذلك; لأنها قالت: إن لم أجدك؟ والرسول عليه الصلاة والسلام أجابها جوابا مطابقا لذلك العموم فقال لها « إن لم تجديني، فأتي أبا بكر».
أي: ليقضي لك حاجتك، أو يقوم بما تريدين من حوائج.
وقد استدل بهذا على خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، لكن بطريق الإشارة لا بطريق التصريح، لكن هو قريب من التصريح.
وقد وقع التصريح بخلافة أبي بكر الصديق في أحاديث: منها قوله [ لعائشة رضي الله عنها: « ادعي لي أباك وأخاك، فإني أريد أن أكتب كتابا، فإني أخشى أن يقول قائل، ويتمنى متمن ويأبى الله والمؤمنون إلا ابا بكر» رواه البخاري وغيره.
ومنها قوله [: «مروا أبا بكر فليصل بالناس» متفق عليه. فمن رضيه لنا رسول الله [ للإمامة في ديننا، أفلا نرضاه للإمامة في دنيانا؟!
فهذا الحديث: فيه الدليل الواضح على أن الخليفة بعد رسول الله [ هو أبو بكر رضي الله عنه.
ومناسبة هذا الحديث الأخير في هذا الباب: أنه يستدل على خلافة أبي بكر الصديق بالدلائل والمعاني الواضحة من النصوص النبوية الشريفة، كما يستدل بالنصوص الصريحة.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #37  
قديم 18-10-2023, 10:14 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,900
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي

شرح كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (62)


الشيخ.محمد الحمود النجدي

– (الإسرائيليات)


إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.
الباب الخامس والعشرون: قال البخاري رحمه الله:
25 – باب قول النبي [: «لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء».
الحديث الأول:
7361 – وقال أبو اليمان: أخبرنا شعيبٌ، عن الزهري: أخبرني حميد بن عبدالرحمن: سمع معاوية يُحدث رهطا من قريش بالمدينة، وذكر كعبَ الأحبار فقال: إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين ُيحدثون عن أهل الكتاب، وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب!
الحديث الثاني:
7362 – حدثني محمد بن بشار: حدثنا عثمان بن عمر: أخبرنا علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول اله [: « لا تصدقوا أهل الكتاب، ولا تكذبوهم، وقولوا: {آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل...} الآية (البقرة: 136). (طرفه في: 4485).
الحديث الثالث:
7363 - حدثنا موسى بن إسماعيل: حدثنا إبراهيم: أخبرنا ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبدالله: أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء، وكتابكم الذي أنزل على رسول الله [ أحدث؟! تقرؤونه محضا لم يشب، وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله وغيروه، وكتبوا بأيديهم الكتاب، وقالوا: هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا! ألا ينهاكم ما جاء من العلم عن مسألتهم؟! لا والله، ما رأينا منهم رجلاً يسألكم عن الذي أنزل عليكم . (طرفه في: 2685).
الشرح:
الباب الخامس والعشرون: باب قول النبي [ « لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء « وهذا الحديث قد جاء مرفوعا عند أحمد وغيره: عن النبي [، وهذا المرفوع فيه مجالد بن سعيد وفيه ضعف، لكنه يتقوى بطرق أخرى عند البزار وغيره، والحديث: أن عمر ] أتى النبي [ بصحيفة من التوراة، فقرأها على رسول اله [، فغضب النبي [، وقال: «لا تسألوهم عن شيء» وجاء أيضا أنه قال: «لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني».
وجاء أيضا في مصنف عبدالرزاق: عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: « لا تسألوا أهل الكتاب فإنهم لن يهدوكم، وقد أضلوا أنفسهم فَتُكَذِّبوا بحق، وتُصَدِّقوا بباطل» . فهذا النهي منه [ هو عن سؤالهم عما لا نص فيه من شرعنا، كسؤالهم عن بعض التفاصيل التي وردت في قصص القرآن مثل قصة أصحاب الكهف، في أي زمان كانوا، وما أسماؤهم، واسم ملكهم، وما أشبه ذلك في تلك القصة، وكذلك بعض التفاصيل في قصة موسى عليه الصلاة والسلام وقومه وما حصل لهم في مصر، وما حصل لهم بعد الخروج، وما أشبه هذا.
أما ما ذكر تفصيله في القرآن، فإن السائل لا يسأل أهل الكتاب لأنه مكتف بما في القرآن، أما ما كان في أخباره موافقا لشرعنا وإخبارنا عن الأمم السالفة فإنه مقبول.
وعلى هذا فإخبار أهل الكتاب على ثلاثة أنواع:
النوع الأول: ما وافق بأيدينا من القرآن والسنة الصحيحة، فهذا نقبله ونصدقه .
النوع الثاني: ما خالف ما بأيدينا من القرآن والسنة، فهذا نرده ونكذبه.
النوع الثالث: هو الذي لا يخالف ولا يوافق، فهذا لا نصدقه ولا نكذبه، وإنما نقول إذا حدثنا أهل الكتاب به: {آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (البقرة 136).
وأما قوله تعالى: {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك} (يونس: 94).
فمعناه: اسأل أهل الكتاب المنصفين والراسخين في العلم، فإنهم سيقرون بصدق رسالتك، وما جئت به؛ لأن ما عنك موافق لما عندهم في كتبهم؛ ولهذا قال سبحانه: {لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين}.
أما الحديث الأول في الباب فقال البخاري: قال أبو اليمان، وأبو اليمان هو الحكم بن نافع البهراني من شيوخ الإمام البخاري المشهورين ، وتقدم، وعدم تصريح البخاري بقوله: حدثنا أبو اليمان، إما لكونه أخذه عنه مذاكرة، وإما لكونه فاته سماعه منه، لكن قد ورد عند الإسماعيلي التصريح بالسماع منه، أو لكونه أثرا موقوفا، لكن الراجح أنه سمعه منه ولم يصرح بالسماع هاهنا . قال: أخبرنا شعيب وهو ابن أبي حمزة، تقدم . قال: عن الزهري، تقدم . قال: أخبرني حميد ابن عبدالرحمن، وهو ابن عوف الزهري.
قال: سمع معاوية - وهو ابن أبي سفيان الصحابي - يحدث رهطا، يعني: جماعة من قريش بالمدينة، وذلك لما حج معاوية رضي الله عنه.
قوله: «وذكر كعب الأحبار» كعب الأحبار هو: كعب بن ماتع بن عمر بن قيس الحميري، كان في حياة النبي [ رجلا لكنه كان على اليهودية، عالما بكتابهم حتى إنه كان يقال له: كعب الأحبار، والحبر هو العالم، وأسلم في عهد عمر، وقيل في خلافة أبي بكر، وقيل: أسلم في عهد النبي [، ولكنه تأخرت هجرته فلم ير النبي [، فيكون على هذا مخضرما، ثم إنه سكن المدينة في خلافة عمر، ثم تحول عنها في خلافة عثمان إلى الشام، فسكنها إلى أن مات بحمص في خلافة عثمان ].
أما قول معاوية: « إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين، الذين ُيحدثون عن أهل الكتاب» أي: يحدثون عن كتبهم، فيشمل التوراة والإنجيل.
ومعنى « نبلو» نختبر، أي: يقع في بعض ما يخبرنا به شيء من الكذب، وهذا مدح لكعب الأحبار رحمه الله، أنه كان أحسن من يحدث عن أهل الكتاب، وأكثرهم بصيرة به، وأعرفهم بأخبار أهل الكتاب، ولم يقصد معاوية أن كعب الأحبار كان يكذب ! وإنما كان ينقل ما يقع في كتب أهل الكتاب، وكتب أهل الكتاب قد وقع فيها شيء من الكذب؛ لكونهم بدلوا وحرفوا كما هو معلوم، فالمعنى أن بعض الذي يخبر به كعب عن أهل الكتاب يكون كذبا لا أنه يتعمد الكذب؛ لأن كعبا رحمه الله كان من أخيار الأحبار، كما قال ابن الجوزي وابن حبان وغيرهما في توجيه كلام معاوية.
وأخرج ابن سعد: عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير قال: قال معاوية: ألا إن كعب الأحبار أحد العلماء، إن كان عنده لعلم كالبحار، وإن كنا فيه لمفرطين.
أما الحديث الثاني: فيرويه البخاري -رحمه الله- عن شيخه محمد بن بشار وتقدم . قال: حدثنا عثمان بن عمر وهو ابن فارس العبدي البصري ثقة . قال: أخبرنا علي بن المبارك وهو الهُنائي، ثقة . عن يحيى بن أبي كثير الطائي، ثقة ثبت لكنه يدلس ويرسل أحيانا. عن أبي سلمة وقد تقدم.
عن أبي هريرة قال: « كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام» فقال النبي [: «لا تصدقوا أهل الكتاب، ولا تكذبوهم، وقولوا: {آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (البقرة 136).
فالرسول [ كره أن يسمع المسلمون من أهل الكتاب تفسيرهم للتوراة؛ لأن التوراة دخلها التحريف والتبديل والكذب والتغيير وكتب فيها من أقوال الناس ما ليس منها، فقال [: «لا تصدقوا أهل الكتاب، ولا تكذبوهم» وهذا كما قلنا في الذي لا يوافق ما عندنا ولا يخالفه، فإننا نتوقف فيه، أما ما وافق ما عندنا فإننا نقبله، وما خالف ما عندنا فإننا نرده ولا نقبله.
وحاصل الأحاديث: أن النبي [ أراد لأهل الإسلام أن يستغنوا بما عندهم من القرآن الكريم والسنة النبوية، وهي أخبار صحيحة حديثة طرية لم يدخلها شيء من اللعب أو التغيير أو التبديل، فأراد أن يستغني أهل الإسلام بكتابهم كما قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون} (العنكبوت: 51).
أي: ألم تكفهم آيات القرآن البينات، وما جاء فيه من الدلالات الواضحات، والمعجزات الظاهرات، التي وردت في كتاب الله القرآن، وما فيه أيضا من الأحكام الشرعية، والآداب المرعية، والهداية للعالمين، والخير الكثير، والعلم الغزير، والغيوب المتقدمة والمتأخرة، وقصص الأولين، والهيمنة على الكتب السابقة، وتصحيح ما وقع فيها من الأخطاء، فهو في الحقيقة كفاية وغنية عما سواه، والشفاء من جميع الأمراض الحسية والنفسية.
فالقرآن الكريم فيه غناء عن بقية الكتب السماوية الموجودة الآن، والمنسوبة إلى الرسل، فضلا عن غيرها من الكتب الأرضية، والتي كتبها البشر بحسب عقولهم وعلومهم وأهوائهم، فإذا كان القرآن فيه غناء لنا عن التوراة والإنجيل، أفلا يغنينا عن بقية الكتب الأرضية التي كتبها الخلق ؟! وما فيها من الأخطاء والأهواء ؟! بل هذا من باب أولى!
فواعجبا لطوائف من أهل الإسلام، انبهرت بعلوم العصريين وكتبهم، فزينت للمسلمين الإقبال عليها بغثها وسمينها، بل وعلى القوانين الأوروبية الفاجرة والحكم بها بين الناس، والتي تبيح الفواحش والمحرمات، بل لا تبالي بالشرك برب الأرض والسموات، مع الإعراض عما جاءت به الرسل الكرام، وعما في كتاب الله سبحانه وتعالى، من حكم وأحكام وقصص ومواعظ وتذكير، نعوذ بالله مولانا من الفتنة والخذلان!
أما الحديث الثالث والأخير في الباب: فقال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل، وهو المنقري التبوذكي، ثقة ثبت . قال: حدثنا إبراهيم وهو ابن سعد الزهري، ثقة حجة . قال: أخبرنا ابن شهاب، تقدم . قال: عن عبيد الله بن عبدالله وهو ابن عتبة بن مسعود الهذلي، الفقيه الثقة الثبت .
قال: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: « كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء» وهذا استفهام فيه إنكار، إنكار على من سأل أهل الكتاب عن شيء من الدين والشرع؟!
قوله: «وكتابكم الذي أنزل على رسول الله أحدث» يعني: هو أقرب الكتب إلى الله عز وجل، فكيف يأخذ الإنسان بالقديم المنسوخ أكثره، ويترك الجديد الناسخ لما تقدم ، والقرآن هو الحديث القريب العهد بالله تبارك وتعالى، كما قال تعالى {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث} (الأنبياء: 2).
قال ابن كثير وغيره: {محدث} أي: جديد إنزاله، فهو آخر الكتب السماوية نزولا. انتهى.
ويقال كذلك لكل كلام يبلغ الإنسان: حديث، وقد سمى الله كتابه حديثا، فقال: {فليأتوا بحديث مثله} (الطور: 34).
وقال: {أفمن هذا الحديث تعجبون} النجم: 59.
قوله: «تقرؤونه محضا لم يشب» أي: خالصا لم يدخله شيئا من الخلط أو اللبس، كاللبن المحض الذي لم يشب بالماء.
قوله: «وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله وغيروه ...» أي: حدثكم الله تعالى في القرآن بذلك التبديل والتغيير، كما قال الله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (آل عمران: 78).
والذي دفعهم إلى ذلك هو ليشتروا به ثمنا قليلا، من أجل مصالحهم، من أجل أن يأكلوا به عرضا من الدنيا قليلا، وقد قال أهل التفسير: إن الدنيا بأسرها ثمن قليل بالنسبة للآخرة، أي لو أعطي العبد الدنيا بأسرها ليبدل كلام الله تعالى، لكانت ثمنا قليلا بالنسبة لحظه ونصيبه في الآخرة.
قوله: «ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم» وفي رواية: «مساءلتهم» يعني: ألا ينهاكم ما سمعتم في كتاب الله تعالى، من تحريفهم وتغييرهم وتبديلهم وكذبهم، عن أن تسألوهم عما في أيديهم.
قوله: «لا والله ما رأينا منهم رجلا يسألكم عن الذي أنزل إليكم « يعني: ما رأينا العكس! أي ما رأينا أحدا من أحبار اليهود، ولا رهبان النصارى يسألونكم عما في أيديكم من كتاب الله تبارك وتعالى، ويستفيدون من علوم القرآن والسنة النبوية، فلم أنتم تسألونهم وتقبلون عليهم، وتعظمونهم؛ فإن هذا خلاف ما أمر الله تعالى به، وخلاف ما ينبغي أن يكون عليه أهل الإسلام، من الاستغناء عما في أيدي الناس من الأقوال والأعمال والأحكام والمعتقدات والكتب، فما في أيدينا كاف لنا معاشر المسلمين.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 155.25 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 150.55 كيلو بايت... تم توفير 4.69 كيلو بايت...بمعدل (3.02%)]