لمحة عن تاريخها ودورها الحضاري – الأوقاف الإسلاميّة في بيت المقدس وعموم فلسطين - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 13219 - عددالزوار : 350613 )           »          {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ}ا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 257 - عددالزوار : 45260 )           »          قيمة إسلامية حثَّ عليها القرآن الكريم والسُنَّة النبوية – الجودة الشاملة في مؤسساتنا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 118 )           »          التداوي من السحر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 154 )           »          حكم المرابحة للآمر بالشراء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 134 )           »          الوجيز في أحكام التداولات المالية المعاصرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 2 - عددالزوار : 392 )           »          حكم الغرر في عقود التبرعات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 145 )           »          الفرق بين الرجل والمرأة في التلبية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 107 )           »          أخطاء في التحليل والتحريم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 171 )           »          حكم الصلح على الدين ببعضه حالا (ضع وتعجل) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 129 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث > ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم قسم يختص بالمقاطعة والرد على اى شبهة موجهة الى الاسلام والمسلمين

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 14-12-2023, 12:28 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,401
الدولة : Egypt
افتراضي لمحة عن تاريخها ودورها الحضاري – الأوقاف الإسلاميّة في بيت المقدس وعموم فلسطين





لمحة عن تاريخها ودورها الحضاري – الأوقاف الإسلاميّة في بيت المقدس وعموم فلسطين


  • تنوّعت الأوقاف المقدسيّة تنوّعًا كبيرًا حتى شملت كلّ وجوه الوقف الخيريّ الممكنةِ وتنوعت على مستوى الواقفين فشملت العامّة والعلماء والخلفاء والأمراء والسّلاطين وقادة العسكر ورجال السياسة
  • الأمّة الإسلاميّة أمّة علمٍ وقراءة وعنايتها بالتعليم من أعظم مميّزاتها على الأمم الأخرى ولم تعانِ من عصور ظلامٍ ولا حِقَبِ تخلّف منذ أنْ أُخرجت للنّاس
لقد كانت فلسطين منذ فتحها الإسلاميّ محطًّا لأنظار المسلمين، ومحلًّا يتحرّونه لأعمالهم الصالحة، وقد جاءت خصوصيّتها الشرعيّة من ثلاثة وجوه:
  • الأوّل: وجود المسجد الأقصى المبارك فيها، وهو قبلةُ المسلمين الأولى، وثالث المساجد المعظّمة عند عموم المسلمين، قال -عليه الصلاة والسلام-: «... ولا تشد الرحال، إلا إلى ثلاثة مساجد مسجد الحرام، ومسجد الأقصى ومسجدي».
  • الثاني: دخولُها في عموم مسمّى بلاد الشام، فدخلت بذلك ضمنًا في كلّ النّصوص التي وردت في فضل الشام، وهي نصوص كثيرة مشهورة.
  • الثالث: أنّها ثغرٌ، حظيت باهتمام كثير من أهل العلم والذين فتح الله لهم في عبادة الجهاد في سبيل الله، فاختاروها دار إقامة ومقرّ رباط، وقد رُوي في الحديث: «... وإنّ أفضل جهادِكم الرِّباطُ، وإنّ أفضلَ رباطِكم عسقلان».
هذه الخصوصيّة الشرعيّة لفلسطين، ولا سيما الأولى منها، وهي اشتمالُ الجغرافيا الفلسطينيّة على مدينة القدس والمسجد الأقصى المبارك، جعلها أيضًا مقصودةً بالكثير من الأعمال الصالحة التي تحتملُ تحرّي الفضل المكانيّ، ومن أهمّها: الأوقاف الخيريّة.
تنوّع الأوقاف المقدسيّة
لقد تنوّعت الأوقاف المقدسيّة تنوّعًا كبيرًا جدًّا حتى شملت كلّ وجوه الوقف الخيريّ الممكنةِ تقريباً، كما تنوّعت تنوّعاً كبيراً جدًّا أيضاً على مستوى الواقفين، من العامّة والعلماء والخلفاء والأمراء والسّلاطين، وقادة العسكر ورجال السياسة.
أول وقف في بيت المقدس
أول بقعة وقفية في مدينة القدس وفلسطين هي البقعة التي جعلها الله -تبارك وتعالى- مكاناً للمسجد الأقصى، وتعد ثاني بقعة وقفية في الأرض بعد المسجد الحرام، فالمسجد الأقصى قدسيته قديمة ؛ فهـو ثـاني المساجد وضعاً في الأرض بعد المسجد الحـرام، فعن أبي ذر -رضي الله عنه - قال : قلت يا رسول الله، أي مسجد وضع في الأرض أولاً ؟ قال : المسجد الحرام. قال : قلت : ثم أي ؟ قال : المسجد الأقصى، قلت : كم كان بينهما؟ قال أربعون سنة، ثم أينما أدركتك الصلاة بعدُ فصله؛ فإن الفضل فيه «.
أوّل الأوقاف المقدسيّة في الإسلام
لم نقف على نصّ مؤكّد حول أوّل وقفٍ أوقفه المسلمون في مدينة القدس، لكن من أقدم ما تمّ رصدُه، وقْف أمير المؤمنين عثمان بن عفّان - رضي الله عنه - لـ (عين سلوان) على فقراء البلد وضَعَفَتِه، وهي عينٌ قديمةٌ تعلّقت بها رواياتٌ تلموديّةٌ وإنجيليّةٌ، وصفها الرّحّالةُ والمؤرّخون، -كما نقلوا ما كان يُحكى عنها- من أنّ المسيحَ -عليه السلام- كان يُبرِئُ الأكمه من مائِهَا إلى غير ذلك ممّا لا سبيل إلى ثبوته، والله أعلم.
جهات الوقف المقدسي
يمكنُ أن نقسّم الدّور التنمويّ للأوقاف المقدسيّة على أساس تغطيتها لخمسةِ نواحٍ مهمّة في الحياة الاجتماعيّة، والمقصودُ بالتقسيمِ هو استحداثُ اصطلاحٍ ييسّر تصوّر المشهد التاريخيّ فقط، فهو تقسيمٌ باعتبار المقصد الأصليّ للواقف؛ لأنّه كثيراً ما تتعدّد وجوه الوقف الواحد، فيكون على أكثر من جهة، أو يكون على جهةٍ أصليّةٍ ثمّ ينصّ الواقف على أنَّ الفائض من ريعِه يكون إلى جهةٍ أخرى، وهذه النّواحي هي:
الأولى: الأوقاف على التعليم
الأمّة الإسلاميّة أمّة علمٍ وقراءة، وعنايتها بالتعليم من أعظم مميّزاتها على الأمم الأخرى، فهي أمّةٌ انطلقت وتأسست بـ (اقرأ)، ولم تعانِ من عصور ظلامٍ ولا حِقَبِ تخلّف منذ أنْ أُخرجت للنّاس، كما تتميّز بأنّ كلّ علومها وعطائِها الحضاريّ على مستوى المعارف المتنوّعة، ظهرت ونبتت وترعرعت في ظلال العلوم الشرعيّة، ولأجل خدمتها وتنميتها وتوسيع آفاقها البحثيّة. فبمصاحبةِ العلومِ الشرعيّة، ازدهرت علوم اللّغة كلّها، كما ازدهر الطّبّ والفلك والفيزياء والرياضيّات وعلوم الطّبيعة؛ لذلك ظلّ الاهتمام الأساسيّ بالعلوم الشرعيّة بوصفها أمّ العلوم وأساسها الأوّل بالنسبة إلى المسلمين، الذين لم تحجزهم هذه الحقيقة عن الانتفاع بتجارب الأمم والاستفادة منها عن طريق المخالطة المباشرة والتلمذة، أو عن طريق الترجمةِ ونقل العلوم الطبيعيّة عن لغاتها الأصليّة. وقد كان لمدينة القدس نصيبٌ عظيمٌ من الأوقاف التعليميّة من مدارس وكتاتيب ومكتبات، متعدّدة الوجوه والخدمات، نستعرضُ ههنا نماذج منها:
أوّلاً: المدارس والكتاتيب
1- الكتاتيب. لا نملكُ الكثير من المعلومات عن كتاتيب مدينة القدس، نعني بذلك الكتاتيب المنفردة التي وُقفت لتكون كذلك، ونعني بالمنفردة: تلك الكتاتيب التي لم تكن ملحقةً بمدارس أو مكتبات، أو لم تكن ضمن أروقة المسجد الأقصى المبارك، والعادةُ أنَّ الذي تنصّ عليه المصادر هو اسم الكُتّاب الذي عادةً ما يكون على اسم الواقف أو اسمِ مؤدِّبِ الصّبيان فيه، وقد لا يُعرف الكثير عنها إلا من خلال الوقوف على نصّ الوقفيّة الخاصّة بكلّ منها، هذا على الرغم من بعض الإشارات التاريخيّة التي تشهدُ بوجودها وتكشفُ عن بعض أحوالها ولو على نحوٍ مجمل، كما يشهد بذلك الأرشيف العثمانيّ أيضاً، وقد أحصى أحد الباحثين عددًا منها. فمنها مكتبٌ أنشأه صلاح الدّين الأيوبي -رحمه الله-، ومنها آخر أنشأه الأمير سيف الدين منجك الناصري، من مماليك الملك الناصر قلاوون، وغالبُ الكتاتيب كانت ملحقةً بالمدارس، وسنذكر نماذج منها، وقد اعتيد في الكتاتيب أن يكون النصيب الأكبر فيها للأيتام، بل تكون مقصورةً عليهم في كثير من الأحيان، وليس غريباً أن يُجعل فيها نصيبٌ لأبناء عموم المسلمين، ولا سيما فقرائهم من غير الأيتام، ومن الكتاتيب المقدسيّة -فضلا عما ذكر:
مكتب بيرام
جاويش بن مصطفى (947هـ)
واقفه المشرف على بناء سور القدس في عهد السلطان سليمان القانوني، ومتولّي أمر أوقاف العمارة العامرة، وهي تكيّة زوجة السلطان سليمان القانوني بالقدس القديمة المعروفة بـ (تكيّة خاصكي سلطان)، وقد كان بناءً كبيراً مشتملاً على رباطٍ ومكتب، جاء تعيين مكانه بأنَّه عند تقاطع (طريق الواد) و(طريق النّاظر)، وقد وقف عليه واقفه أوقافاً كثيرةً من دُوْرٍ ودكاكين وقُرًى، وقد وُجدت له أوقافٌ في القدس وبيت لحم وغزّة وغيرها، أُعيدَ ترميمُ المكتب والرّباط عام (1055هـ) بعد أن كان تصدّع، وكانت فيه دار مخصّصة لسكن المؤدّب، وقد كان الرباط إلى جانب المكتب معروفاً، حتى نزل به الرحالة البكري الصّدّيقي مراراً، ورأى نظام التعليم فيه.
مكتب طورغود آغا بن محمود
من القرن العاشر الهجري في الحقبة العثمانيّة أيضاً، وواقفه هو متولّي أوقاف (تكيّة خاصكي سلطان) في تلك الفترة، وقد وَقَفَه وجعل النّظر عليه لبعض العسكر العثمانيّين، وقد عُيّن فيه قارئٌ مُتقن، وكانت نفقاته من أوقافه الكثيرة.
مكتب محمد آغا الطّواشي
من الحقبةِ المملوكيّة في عهد السلطان قايتباي، وقفَ عليه واقفُه أوقافاً نقديّةً، وفرنَيْن في سوق الطبّاخين، ودار في حارة باب حطّة، وحاكورتين وقطعة أرض بالقدس.
مكتب شرف الدين أبو القاسم الهكّاري
من أوقاف القرن السابع، في الحقبةِ المملوكيّة المبكّرة، في سلطنة ركن الدّين بيبرس البندقداري، وواقفُه من أهل العلم، وقد تشارك أبناؤه في إنشائِه، ووقفوا أوقافاً كثيرةً على مصالحه، وكان ملحقًا بدار حديث ويناله حظّ من أوقافها أيضاً، وقد بورك فيه، فاستمرّ يؤدّي عمله إلى القرن الثاني عشر الهجري، فقد احتفظت سجلّات المحكمة الشرعيّة بالقدس بأنَّ الشيخ محمد بن عبد الصمد العلمي قد تولّى رُبع وظيفة النّظر على وقف أولاد الهكّاري.


اعداد: عيسى القدومي




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 21-07-2024 الساعة 10:05 AM.
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 20-12-2023, 11:22 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,401
الدولة : Egypt
افتراضي رد: لمحة عن تاريخها ودورها الحضاري – الأوقاف الإسلاميّة في بيت المقدس وعموم فلسطين




لمحة عن تاريخها ودورها الحضاري – الأوقاف الإسلاميّة في بيت المقدس وعموم فلسطين (٢)


  • عمّرت المدارس فضاء المدينة المقدّسة في طولها وعرضها بدروس العلم ومجالس الذكر والوعظ وقد تنوّع واقفوها وتنوّعت أغراضها حتى وُجدت المدارس التي وقفها كبار السلاطين والأمراء والقادة
  • ظهرت المدارس في القدس الشريف مع بداية ظهور نظام المدارس في العالم الإسلاميّ فكانت في مدينة القدس وحدها مدارس تزيد على الأربعين
جعل الإسلام الوقف في منزلة كبرى، بل جعله من أولويات المجتمع المسلم؛ فقد كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أول من أوقف في الإسلام أرضا على فقراء المسلمين، تلاه عثمان بن عفان الذي اشترى بئر (رومة)، وأوقفها على سقيا الناس، فأقر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نظام الوقف، وطبقه التطبيق العملي في بناء مسجد قباء بأموال المسلمين، كما قال جابر بن عبدالله: «لم يكن أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذا مقدرة إلا وقف»، وقد تميزت مدينة القدس مثل غيرها من مدن العالم الإسلامي بكثرة الأوقاف فيها. ظهرت المدارس في القدس الشريف مع بداية ظهور نظام المدارس في العالم الإسلاميّ، فكانت في مدينة القدس وحدها مدارس تزيد على الأربعين، عمّرت فضاء المدينة المقدّسة في طولها وعرضها بدروس العلم ومجالس الذكر والوعظ، وقد تنوّع واقفوها وتنوّعت أغراضها، حتى وُجدت المدارس التي وقفها كبار السلاطين والأمراء والقادة، التي وقفها مَن دونهم من أهل الوجاهةِ والمال والمكانة السياسيّة وقادة العسكر، إلى مدارس أخرى وقفها العامّة رجالاً ونساءً، ونتناول هنا أمثلةً على كلّ ذلك.
  • أولاً: أوقافِ رجالِ الحكمِ والسّياسة على التعليم
من أمثلةِ أوقافِ رجالِ الحكمِ والسّياسة على التعليم ما يلي:
المدرسة الصلاحية
يذكر المؤرّخون أنّ موضعها كان بيتًا يُنسب للسيدة (Sainte Anne)، يعني القدّيسة حنّة، ويوردها المؤرّخون باسم (صندحّنة)، وهي عند النّصارى والدة السيدة مريم عليها السلام، وكانوا قد بَنَوْا عليها كنيسة، ثمّ لمّا فُتحت المدينة الفتح الإسلاميّ الأوّل كانت قد خَرِبَت من قبل، ودارت عليها مصالح متنوّعة بعد ذلك، منها أنّها استُعملت لتدريسِ الفقه، وصارت فترةً مثل الزاوية أو الخَلْوَة، أقام فيها الفقيه الشافعي الكبير نصر بن إبراهيم المقدسي، وقد غادرها إلى صور سنة (471هـ)، ثمّ لمّا استولى الصّليبيّون على المدينة عام (492هـ) أعادوها كنيسةً. وقيل: إنَّ المكان نفسه كان قد استُعمل قبل الفقيه نصر بن إبراهيم المقدسي من قِبَل العُبيديّين لتدريسِ مذهبهم الرديء أيضاً. فلمّا جاء الفتح الصلاحي للمدينةِ عام (583هـ) للمدينةِ المقدّسة، استأمر الفقهاء واستشار من حوله فيما يفعله فيها، فاستقرّ رأيه على أن يجعلها وقفاً على الفقهاء الشافعيّة، وقد عُرفت عنه عنايته الفائقة بمذهب الشافعيّ -رحمه الله-، وكأنّ تلك الخطوة بوقفها أُريدَ لها أنْ تكون تأبيدًا لهويّتها الإسلاميّة بعد تقلّبها بين أيدٍ كثيرة، وعُرفت منذ ذلك الوقت بـ (الصلاحيّة). وقد ذكر العُليمي أنّه اشتراها أوّلاً من وكيل بيت المال من حرّ ماله، ثمّ وقَفَهَا على الوجه المذكور، رحمه الله وتقبّل منه، وجعل عليها أوقافاً كثيرة، وتقع المدرسة الصلاحيّة قُرب باب الأسباط كما أشار العُليمي، على مسافةٍ قريبةٍ جدًّا منه.
المدرسة التنكزية
وقَفَها الأمير تَنْكَز بن عبدالله النّاصري، نائب السلطنة بدمشق في السلطنةِ الأخيرةِ للسّلطان النّاصر قلاوون، وقد كان وقفها كما يشير حجر التأريخِ على بابها سنة (729هـ)، وكانت المدرسة التنكزيّة منذ إنشائها مجمّعاً وقفيًّا كبيراً، يحتوي على مدرسةٍ بها أربعةُ أواوين، أحدها مسجد، وبها مطبخ لمن يرتَّب فيها من الفقهاء والدارسين، ومستحَمٌّ، والماء يجري إليها من قناةٍ رومانيّةٍ قديمةٍ تجري إلى القدس من منطقةِ (العرّوب)، كان الواقف قد جدّدها أيضاً، وبها رباط للنساء، ورباطٌ للصّوفيّة، ومكتبٌ للأيتام، ووقفَ عليها أوقافاً كثيرةً. درّس في التنكزيّة أعلامٌ كبار، على رأسهم صلاح الدّين العلائي، الإمام المعروف الذي سارت بمصنَّفاته الرّكبان، ومنهم أحمد بن محمد بن إبراهيم بن هلال، مصنّف (مثير الغرام بفضائل القدس والشام) وغيرهم، وقد استُخدمت المدرسة التنكزيّة في القرون المتأخّرةِ لعقد مجالس القضاء، ثمّ صارت مقرًّا للمحكمةِ الشرعيّة، ولاحقاً مقرًّا للمجلس الإسلاميّ الأعلى، وسكنَها مدّةً رئيسُه الحاجّ أمين الحسيني رحمه الله، إلى أنْ استولت عليها قوّات الاحتلال الصهيونيّ التي هدمت حارة المغاربة المجاورة لها، وحوّلت مبنى المدرسة إلى مركزِ توقيفٍ مؤقت للمرابطين والمرابطات في المسجد الأقصى المبارك، وذلك منذ عام 1969م. وقد تشرّفت جمعيّة الدراسات الوقفيّة بإنجاز تحقيقٍ للنّصّ الكامل لحجّة وقفها، تضمّنت الكثير من تفاصيلها وأوصافها الدّقيقة والأوقاف التي وُقفت عليها، وقد طُبعت ضمن إصدارات الجمعيّة والحمد لله.
  • ثانيًا: أوقافِ النّساء على التعليم
من أمثلةِ أوقافِ النساء على التعليم ما يلي:
المدرسة العثمانية
قال العُليمي: «بباب المتوضّأ، واقفتُها امرأةٌ من أكابر الرّوم اسمُها أصفهان شاه خاتون، وتدعى خانُم، وعليها أوقافٌ ببلاد الرّوم وغيرها في هذه البلاد، وعلى بابها تاريخها في سنة أربعين وثمانمائة (840هـ)، ودفنت الواقفة لها بالتّربة المجاورة لسور المسجد الأقصى الشريف -رحمها الله تعالى»، وكانت مدرسة ذات شأن كبير، تعاقب على مشيختها جماعة من أعيان الحنفيّة، وكانت تُعقد بعض مجالس القضاء والرقابة والتحقيق مع القُضاة أحيانًا. وقد كان من شرطِ هذه المدرسةِ أنْ يَلِيَ مشيختها أعلم أهل زمانِه، وقد نزلَ عنها أحد أجلّ علماء وقتِه من أجلِ هذا الشرط، تواضعاً منه وتصريحًا بأنّ الشرط لا ينطبق عليه، قال العليمي: «الشيخ الإمامُ العالمُ العاملُ الصّالحُ سراجُ الدّين، سراج بن مسافر بن زكريا ابن يحيى بن إسلام بن يوسف، الرّوميّ الحنفيّ، عالم الحنفيّة بالقدس الشّريف، وسراج هو نفسُ اسمِه، ويسمّى أيضًا: (عوض) و(ضِيَا)، ولم يشتهر إلا بالشيخ سراج بالرّوم وبهذه البلاد.
المدرسة الخاتونية
قال العليمي عنها: «بباب الحديد، واقفتها أغل خاتون بنت شمس الدين محمد بن سيف الدين تمر القازانية البغدادية، وقفت عليها المزرعة المعروفة بظهر الجمل، واشتهرت في عصرنا وقبله بـ (باطن جمل)، وقيّدت تاريخ وقف الجهة المذكورة في خامس ربيع الآخر سنة 755 ه‍، ثم أكملت عمارة المدرسة المذكورة، ووقفت عليها المرحومة أصفهان شاه بنت الأمير قازان شاه، تاريخ وقفها في العشر الآخر من جمادى الآخرة سنة 782 ه»، وبناء هذه المدرسةِ ما زال موجودًا، وهي تتكوّن من طابقين، وصحن مكشوف، وإحدى خلاويها مطلّة على المسجد الأقصى المبارك، وقد قُبر في هذه الخلوةِ بعض أعيان القدس، منهم الشهيد المجاهد عبدالقادر الحسيني -رحمه الله.


اعداد: عيسى القدومي




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 21-07-2024 الساعة 11:05 PM.
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 26-01-2024, 03:48 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,401
الدولة : Egypt
افتراضي رد: لمحة عن تاريخها ودورها الحضاري – الأوقاف الإسلاميّة في بيت المقدس وعموم فلسطين

الأوقاف الإسلاميّة في بيت المقدس – أوقاف صلاح الدين الأيوبي في القدس (3)


أعاد الناصر الفاتح صلاح الدين الأيوبي الحياة إلى القدس بأن أوقف الأوقاف التي طالت كل مناحي الحياة ليصرف من ريع الأوقاف على المسجد الأقصى وتسهيل شد الرحال والمكوث في القدس
أنشأ صلاح الدين كتّاباً لتعليم القرآن الكريم مقابل المسجد الأقصى ووقف عليه داراً للإنفاق عليه
جعل الإسلام الوقف في منزلة كبرى، بل جعله من أولويات المجتمع المسلم؛ فقد كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أول من أوقف في الإسلام أرضا على فقراء المسلمين، تلاه عثمان بن عفان - رضي الله عنه - الذي اشترى بئر (رومة)، وأوقفها على سقيا الناس، فأقر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نظام الوقف، وطبقه التطبيق العملي في بناء مسجد قباء بأموال المسلمين، كما قال جابر بن عبدالله: «لم يكن أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذا مقدرة إلا وقف»، وقد تميزت مدينة القدس مثل غيرها من مدن العالم الإسلامي بكثرة الأوقاف فيها، ومن ذلك الأوقاف على الخدمات الاجتماعيّة.
ما يمكن أنْ نُفردَه باعتباره وقفًا على الخدمات الاجتماعيّة المتنوّعة، هو الخوانق والرُّبُط والزوايا، لكونها جميعاً على وجه التقريبِ تستقطبُ ذوي الحاجات من أفراد المجتمع، وأحياناً تشترطُ أنْ يكونوا على صفاتٍ خاصّةٍ من الرغبة في الانقطاع للعبادة والذّكر كما هو الحالُ في الزّوايا.
أوقاف صلاح الدين الأيوبي في القدس
من روائع الناصر صلاح الدين الأيوبي -رحمه الله- حينما حرر القدس وفلسطين من أيدي الصليبيين، وأراد أن يعيد الحياة للقدس وليهيئ مرافقها لاستقبال من شد الرحال إلى المسجد الأقصى وجاوره بقصد، وإعادة الطابع الإسلامي لها، ولا شك أن ما قام به صلاح الدين من الأوقاف الكثيرة التي أوقفها أعاد للمدينة المباركة الحياة، وأسهم في رجوع المسلمين والاستقرار في القدس.
صلاح الدين الأيوبي وإحياؤه للأوقاف في القدس
لما تطهر بيت المقدس مما كان فيه من الصلبان والنواقيس والرهبان، ودخله أهل الإيمان، ونودي بالآذان، وقرئ القرآن، ووحد الرحمن، وأقيمت أول جمعة في اليوم الرابع من شعبان، بعد يوم الفتح بثمان، فَنُصِبَ المنبر إلى جانب المحراب، وامتلأ الجامع وسالت لرقة القلوب المدامع، ولما أذن المؤذنون للصلاة قبل الزوال كادت القلوب تطير من الفرح في ذلك الحال، وعُين للخطابة القاضي محيي الدين محـمد بن زكي الدين علي. وحملت المصاحف ورممت المساجد، ولكي تستمر وتدب الحياة في المدينة، أول ما فكر فيه صلاح الدين الأوقاف، فحبس الأوقاف -بداية- التي تصرف على إمام المسجد الأقصى والعاملين فيه، ثم تتالت الأوقاف التي طالت كل ما يصلح البلاد والعباد، التي سأعرضها على سبيل المثال لا الحصر؛ لنعي كيف كانت وما زالت الأوقاف تجارة رابحة في الدارين وتنمية وبناء للاقتصاد الإسلامي. ومن المنشآت التي أقامها صلاح الدين ما يلي:
1- الخانقاه الصلاحية أوقفت للزاهدين والعابدين إيواء وتجمعًا لمجالسهم في 585 هـ، ووقف عليها السلطان طاحوناً وفرناً وحماما وحوانيت مجاورة وبركة ماء وقطعتي أرض مجاورتين وكذلك صهريجين، وتضم الخانقاه: مسجداً وغرفاً للسكن ومرافق عامة، وعين للوقفية ناظرا.
2- المدرسة الصحية أنشئت عام 583هـ ووقفها السلطان عام 588هـ، وخصصت لتدريس المذهب الشافعي، ووقف عليها الكثير من الأملاك، ومن ضمنها: سوق العطارين في القدس ووادي سلوان (جنوب شرق القدس) - حمام في باب الأسباط، وقرية عين سلوان وفرن في محلة باب حطة، ودور متفرقة في القدس، وبستان بئر أيوب وأراض أخرى.
3- البيمارستان الصلاحي حيث أمر السلطان صلاح الدين بأن تجعل الكنيسة المجاورة لدار الاستبار بيمارستانًا للمرضى - أي مستشفى - ووقف عليه مواضع وزوده بالأدوية والعقاقير؛ حيث كان علم الطب يُدّرس فيه إلى جانب ممارسته عملياً، وأوقفت 40 بيتاً وفرناً في محلة القطانين وقبواً وطاحوناً و13 دكانا في سوق الزيت و22 حانوتا في سوق الزيت و6 مخازن وصهريج كبير و16 قيراطاً من مزرعة حارة الإفرنج، وغرس زيتون تعرف بالتربة، وحكر خان الزيت مع حكر قبان الزيت، وقطعة أرض (المصرارة) ظاهر القدس منها 16 قيراطا حصة وقف البيمارستان.
4- أوقف صلاح الدين على مصالح المسجد الأقصى سوقًا لبيع الخضراوات وسوقاً لبيع القماش.
5- كتّاب تعليم القرآن الكريم: فقد أنشأ صلاح الدين (كتّاباً) لتعليم القرآن الكريم مقابل المسجد الأقصى، ووقف عليه داراً للإنفاق عليه.
6- المدرسة الخثنية: أوقف صلاح الدين المدرسة الخثنية على رجل من أهل التقوى والصلاح، جلال الدين محمد بن أحمد بن محمد الشاشي، من بعده على من يحذو حذوه. وقد وقف على هذه المدرسة في القرن العاشر دار بخط القطانين.
7- وأوقف مقبرة باب الساهرة: وكانت تسمى في السابق (مقبرة المجاهدين)، ولا تزال لليوم مقبرة للمسلمين مع اندثار قسمها الشرقي، وتعدى اليهود على أراضٍ منها.
8- المدرسة الميمونية: وقفت سنة 593هـ، ومن أوقافها قرية بيت دجن الكائنة في جبل نابلس، وفي عام 1892م جعلها الأتراك مدرسة إعدادية، وبعد الاحتلال البريطاني أصبحت مدرسة للبنات، وتوجد فيها الآن المدرسة القادسية وهي مدرسة ثانوية.
إعادة الحياة إلى القدس
وهكذا أعاد الناصر الفاتح صلاح الدين الأيوبي الحياة إلى القدس بأن أوقف الأوقاف التي طالت كل مناحي الحياة؛ ليصرف من ريع الأوقاف على المسجد الأقصى وتسهيل شد الرحال والمكوث في القدس، وتوفير الطعام والشراب والمأوى والتعليم والطبابة لأهل القدس وما حولها. وعادت الحياة إلى القدس سريعًا بعد أن غُيب عنها المسلمون 91 عامًا، وهي في ظل رماح الاحتلال الصليبي، وخلال أقل من سنة كانت القدس تُقصَد ويشد إليها الرحال ويتقرب إلى الله في مجاورة المسجد الأقصى، وبفضل الله تعالى ثم فقه وحنكة الناصر صلاح الدين أعيدت الحياة الاقتصادية للقدس، وبعودتها عاد النبض لكل مناحي الحياة.

اعداد: عيسى القدومي
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 25-07-2024 الساعة 09:31 PM.
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 02-02-2024, 07:31 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,401
الدولة : Egypt
افتراضي رد: لمحة عن تاريخها ودورها الحضاري – الأوقاف الإسلاميّة في بيت المقدس وعموم فلسطين




الأوقاف الإسلاميّة في بيت المقدس وعموم فلسطين

– لمحة عن تاريخها ودورها الحضاري (4)


  • يعد الخط الحديدي الحجازي وقفا إسلاميًا وهو من الإنجازات الرائعة والنادرة للسلطان العثماني عبد الحميد الثاني من الناحية السياسية والدينية والحضارية
  • ساعد الخط الحجازي في نهضة تجارية واقتصادية لمدن الحجاز والمدن الواقعة على امتداد الخط ومنها مدينة حيفا التي تحولت إلى ميناء ومدينة تجارية مهمة وكذلك المدينة المنورة
جعل الإسلام الوقف في منزلة كبرى، بل جعله من أولويات المجتمع المسلم؛ فقد كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أول من أوقف في الإسلام أرضا على فقراء المسلمين، تلاه عثمان بن عفان -رضي الله عنه- الذي اشترى بئر (رومة)، وأوقفها على سقيا الناس، فأقر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نظام الوقف، وطبقه التطبيق العملي في بناء مسجد قباء بأموال المسلمين، كما قال جابر بن عبدالله: «لم يكن أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذا مقدرة إلا وقف»، وقد تميزت مدينة القدس مثل غيرها من مدن العالم الإسلامي بكثرة الأوقاف فيها،ومن ذلك الأوقاف في العهد العثماني.
الخط الحديدي الحجازي
يعد الخط الحديدي الحجازي وقفا إسلاميًا، وهو من الإنجازات الرائعة والنادرة للسلطان العثماني عبد الحميد الثاني من الناحية السياسية والدينية والحضارية، بل هو من أعظم الأوقاف المعاصرة؛ حيث قدم هذا المشروع خدمات جليلة ولاسيما لحجاج بيت الله الحرام، الذين تخلصوا من رحلة الشقاء الطويلة التي كانت تمتد لأكثر من شهر وسط المخاطر الكثيرة؛ إذ تقلصت بعد إنشاء الخط إلى خمسة أيام فقط بما في ذلك فترات الاستراحة. فبعد أن رأى السلطان عبد الحميد ما يعانيه الحجاج من مشاق في طريقهم إلى مكة المكرمة، عزم على مد خط حديدي لتسير عليه عربات بخارية تحمل الحجاج والمتاع، وتقيهم متاعب السفر لأشهر في صحراء مقفرة، وشمس حارقة، وحصى ملتهبة، وأهوال لا يقدر عليها إلا الرجال الصناديد، خصص لمده من خزانة دولته أقصى ما تستطيع، ومن ماله الخاص ما جادت به نفسه، ورغب المسلمين في المشاركة والتبرع لهذا المشروع الاستراتيجي. ومثل هذا المشروع لا يكفيه ذلك، وأوقف له الأوقاف، وسخر الجيش العثماني للعمل في مده، ووصف الشيخ على الطنطاوي -رحمه الله- في كتابه «ذكريات»، العناء الذي أصاب الجيش ما أدى إلى «موت آلاف الجنود حتى قيل إن في كل مائة متر منه قبر شهيد».
بداية العمل في المشروع
شرع العمل في هذا المشروع العملاق سنة 1900م، وامتد العمل فيه ثماني سنوات متتالية؛ فأصبحت الرحلة بعد إنشاء هذا الخط الحديدي الذي بلغ طوله (1320كم) تستغرق أيامًا معدودة ينعم فيها الركاب بالراحة والأمان. وعاش المسلمون في البلدان كافة حلم إنشاء الخط الحجازي، وتخيل الكثيرون أن البعث والصحوة بين المسلمين اقترب زمانها، وتجلت هذه المشاعر الفياضة في حماسة العمل وسرعة إنجازه، وعندما وصل أول قطار إلى المدينة المنورة حاملا الحجاج انهمرت الدموع، وانهالت الدعوات للسلطان عبد الحميد. وكان مما أوقف السلطان لذلك الخط الحديدي أراضي في حيفا، وعكا والناصرة، واستثمار مياه وادي اليرموك، وأراضي ومباني في دمشق وبيروت، ومنها كذلك استثمار الفوسفات في الأردن، وفي كل ذلك حُجج وقفية ووثائق قضائية.
إجمالي ما صرف عليه
وبلغ إجمالي ما صرف على الخط الحديدي أربعة ملايين ونصف المليون من الليرات الذهبية العثمانية، وقد سجل الخط وقفاً إسلاميا بعد أن لوحظت الأطماع الاستعمارية في ذلك المشروع الرائد وربط بوزارة الأوقاف العثمانية، وعينت له إدارة مستقلة، وصدر بذلك القانون رقم 488 عن مجلس النواب العثماني.
أول قطار إلى المدينة المنورة
ووصل أول قطار إلى المدينة المنورة في (22 رجب 1326هـ الموافق 23 أغسطس 1908م)، وأقيم الاحتفال الرسمي لافتتاح الخط الحديدي، وقدم الخط الحجازي خدمات جليلة لحجاج بيت الله الحرام؛ حيث استطاع حجاج الشام والأناضول قطع المسافة من دمشق إلى المدينة المنورة في خمسة أيام فقط بدلاً من أربعين يومًا، مع العلم أن الوقت الذي كان يستغرقه القطار هو (72) ساعة فقط، أما بقية الأيام الخمسة فكانت تضيع في وقوف القطار في المحطات وتغيير القاطرات. وكانت القطارات البخارية تنطلق من محطة قطار «حيدر باشا» بإسطنبول إلى دمشق، ومن دمشق إلى المدينة المنورة، وكان يسمى خط الحجاز؛ فتحقق الحلم الذي طالما انتظره المسلمون، وكان في خطة المشروع الحجازي أن يمتد بعد ذلك إلى مكة المكرمة ومن هناك إلى جدة، بيد أن أياً من ذلك لم يتحقق.
نهضة تجارية واقتصادية
وساعد الخط الحجازي في نهضة تجارية واقتصادية لمدن الحجاز، والمدن الواقعة على امتداد الخط، ومنها مدينة حيفا التي تحولت إلى ميناء ومدينة تجارية مهمة، وكذلك المدينة المنورة. كذلك ظهرت مجتمعات عمرانية نتيجة استقرار بعض القبائل والتجمعات البدوية على جانبي الخط في بعض الجهات واشتغالهم بالزراعة.
تسع سنوات من العمل
واستمرت سكة حديد الحجاز تعمل بين دمشق والمدينة المنورة ما يقرب من تسع سنوات (1908 - 1918 م)، نقلت خلالها التجار والحجاج، وعندما نشبت الحرب العالمية الأولى ظهرت أهمية الخط وخطورته العسكرية على بريطانيا؛ فعندما تراجعت القوات العثمانية أمام الحملات البريطانية، كان الخط الحجازي عاملاً مهما في ثبات العثمانيين في جنوبي فلسطين نحو عامين في وجه القوات البريطانية المتفوقة.
الثورة العربية
وعندما نشبت الثورة العربية واستولت على معظم مدن الحجاز، لم تستطع هذه القوات الثائرة السيطرة على المدينة المنورة؛ بسبب اتصالها بخط السكة الحديدية ووصول الإمدادات إليها، واستطاعت حامية المدينة العثمانية أن تستمر في المقاومة بعد انتهاء الحرب العالمية بشهرين؛ لذلك لجأ قادة الثورة العربية تنفيذًا لمشورة ضابط الاستخبارات البريطاني (لورانس) إلى تخريب الخط ونسف جسوره وانتزاع قضبانه في أجزاء عدة منه.
عطلته أيادي الاستعمار
وهذا الوقف عطلته أيادي الاستعمار المعاصر، فكان لبريطانيا الدور الأكبر في تعطيله والدفع لتوقفه، وأضحى مأساة يشهد عليها التاريخ والواقع، وسكته الممدودة على الأرض كالجثة الهامدة، لا هو حي فيرجى ولا هو ميت فينسى، يذكرنا بحاله وحالنا، ولسان حاله يقول: هل من رجعة لربط العالم الإسلامي بمدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
هذا الخط وقف إسلامي
يقول الشيخ على الطنطاوي: «إن هذا الخط وقف إسلامي، وملك للمسلمين جميعاً؛ لأنه أنشئ:
  • أولاً: بأموالهم كلهم.
  • ثانياً: لأنه يربط المسلمين بقبلتهم، وبمدينة نبيهم.
  • ثالثاً: لأنه كان مستقلاً مربوطاً بوزارة الأوقاف العثمانية.
  • رابعاً: لأن مؤتمر الصلح في لوزان أقر هذه الوقفية بعد دراسة قانونية عميقة.
  • خامساً: لأن الحكومات المتعاقبة في سوريا اعترفت كلها بهذه الوقفية.
  • سادساً: لأن المادة الأولى من اتفاقية 18/4/1947م بين المملكة العربية السعودية وسوريا والأردن قد نصت على أن هذا الخط وقف إسلامي، وتأكد ذلك في البروتوكولين وملاحقهما المتفق عليها في مؤتمر الرياض في أول سنة 1954م» .
نسأل الله -تعالى- أن يعود هذا الوقف الإسلامي الثابت بصكوك شرعية وقضائية وقرارات دولية، لابد أن يعود كما كان وقفاً للأمة يصل بين مدن بلاد الشام وأرض الحجاز، وأن تمتد خطوطه لتصل بين العالم العربي.


اعداد: عيسى القدومي




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 28-07-2024 الساعة 12:50 AM.
رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع



مجموعة الشفاء على واتساب


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 96.77 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 93.59 كيلو بايت... تم توفير 3.18 كيلو بايت...بمعدل (3.29%)]