تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ - الصفحة 7 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حقيقة الدين الغائبة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 51 )           »          وتفقد الطير (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 41 )           »          نحوَ عربيةٍ خالصةٍ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 49 )           »          ما ظننتم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 42 )           »          الخوارج تاريخ وعقيدة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 19 - عددالزوار : 191 )           »          قناديلٌ من نور على صفحةِ البريد الخاص (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 55 )           »          ظُلْمُ الْعِبَاد سَبَبُ خراب البلاد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 83 )           »          من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 41 )           »          شخصية المسلم مع مجتمعه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 56 )           »          ومن رباط الخيل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 43 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #61  
قديم 09-09-2021, 04:44 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,475
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (59)

سُورَةُ الْمَائِدَةِ (14)
صـ 391 إلى صـ 395


[ ص: 391 ] وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى جَرَيَانِ الْقِصَاصِ فِي الْأَطْرَافِ ، بَيْنَ مَنْ جَرَى بَيْنَهُمْ فِي الْأَنْفُسِ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ [ 5 \ 45 ] .

وَمَا رُوِيَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ بَيْنَ الْعَبِيدِ ، فِيمَا دُونَ النَّفْسِ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وِفَاقًا لِأَبِي حَنِيفَةَ ; مُعَلِّلِينَ بِأَنَّ أَطْرَافَ الْعَبِيدِ مَالٌ كَالْبَهَائِمِ يُرَدُّ عَلَيْهِ بِدَلِيلِ الْجُمْهُورِ الَّذِي ذَكَرْنَا آنِفًا ، وَبِأَنَّ أَنْفُسَ الْعَبِيدِ مَالٌ أَيْضًا كَالْبَهَائِمِ ، مَعَ تَصْرِيحِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْقِصَاصِ فِيهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ .

وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِلْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ ، ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ :

الْأَوَّلُ : كَوْنُهُ عَمْدًا ، وَهَذَا يُشْتَرَطُ فِي قَتْلِ النَّفْسِ بِالنَّفْسِ أَيْضًا .

الثَّانِي : كَوْنُهُمَا يَجْرِي بَيْنَهُمَا الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ .

الثَّالِثُ : إِمْكَانُ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ غَيْرِ حَيْفٍ ، وَلَا زِيَادَةٍ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ الْآيَةَ [ 16 \ 126 ] ، وَيَقُولُ : فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [ 2 \ 194 ] ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ سَقَطَ الْقِصَاصُ ، وَوَجَبَتِ الدِّيَةُ ، وَلِأَجْلِ هَذَا أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ غَيْرِ حَيْفٍ ، وَلَا زِيَادَةٍ ، فِيهِ الْقِصَاصُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ ، وَكَالْجِرَاحِ الَّتِي تَكُونُ فِي مَفْصِلٍ ، كَقَطْعِ الْيَدِ ، وَالرِّجْلِ مِنْ مَفْصِلَيْهِمَا .

وَاخْتَلَفُوا فِي قَطْعِ الْعُضْوِ مِنْ غَيْرِ مَفْصِلٍ ، بَلْ مِنْ نَفْسِ الْعَظْمِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ فِيهِ الْقِصَاصَ ; نَظَرًا إِلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا مَالِكٌ ، فَأَوْجَبَ الْقِصَاصَ فِي قَطْعِ الْعَظْمِ مِنْ غَيْرِ الْمَفْصِلِ ، إِلَّا فِيمَا يُخْشَى مِنْهُ الْمَوْتُ ، كَقَطْعِ الْفَخِذِ ، وَغَيْرِهَا .

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْعِظَامِ مُطْلَقًا ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَبِهِ يَقُولُ عَطَاءٌ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ ، وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ ، وَغَيْرُهُ .

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ : لَا يَجُبِ الْقِصَاصُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْعِظَامِ ، إِلَّا فِي السِّنِّ .

[ ص: 392 ] وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِي قَطْعِ الْعَظْمِ مِنْ غَيْرِ الْمَفْصِلِ ، بِمَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ ، عَنْ دَهْثَمِ بْنِ قُرَّانٍ ، عَنْ نِمْرَانَ بْنِ جَارِيَةَ ، عَنْ أَبِيهِ جَارِيَةَ بْنِ ظَفَرٍ الْحَنَفِيِّ ، أَنَّ رَجُلًا ضَرَبَ رَجُلًا عَلَى سَاعِدِهِ بِالسَّيْفِ مِنْ غَيْرِ الْمَفْصِلِ فَقَطَعَهَا ، فَاسْتَعْدَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَ لَهُ بِالدِّيَةِ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أُرِيدُ الْقِصَاصَ ، فَقَالَ : " خُذِ الدِّيَةَ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا " وَلَمْ يَقْضِ لَهُ بِالْقِصَاصِ .

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : لَيْسَ لِهَذَا الْحَدِيثِ غَيْرُ هَذَا الْإِسْنَادِ ، وَدَهْثَمُ بْنُ قُرَّانٍ الْعُكْلِيُّ ضَعِيفٌ أَعْرَابِيٌّ لَيْسَ حَدِيثُهُ مِمَّا يَحْتَجُّ بِهِ ، وَنِمْرَانُ بْنُ جَارِيَةَ ضَعِيفٌ أَعْرَابِيٌّ أَيْضًا ، وَأَبُوهُ جَارِيَةُ بْنُ ظَفَرٍ مَذْكُورٌ فِي الصَّحَابَةِ ، اهـ . مِنِ ابْنِ كَثِيرٍ .

وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّقْرِيبِ " فِي دَهْثَمٍ الْمَذْكُورِ : مَتْرُوكٌ ، وَفِي نِمْرَانَ الْمَذْكُورِ : مَجْهُولٌ ، وَاخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ ، إِنَّمَا هُوَ مِنِ اخْتِلَافِهِمْ فِي تَحْقِيقِ مَنَاطِ الْمَسْأَلَةِ ، فَالَّذِينَ يَقُولُونَ بِالْقِصَاصِ ، يَقُولُونَ : إِنَّهُ يُمْكِنُ مِنْ غَيْرِ حَيْفٍ ، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ بِعَدَمِهِ ، يَقُولُونَ : لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِزِيَادَةٍ ، أَوْ نَقْصٍ ، وَهُمُ الْأَكْثَرُ .

وَمِنْ هُنَا مَنَعَ الْعُلَمَاءُ الْقِصَاصَ ، فِيمَا يُظَنُّ بِهِ الْمَوْتُ ، كَمَا بَعْدَ الْمُوَضِّحَةِ مِنْ مُنَقِّلَةٍ أَطَارَتْ بَعْضَ عِظَامِ الرَّأْسِ ، أَوْ مَأْمُومَةٍ وَصَلَتْ إِلَى أُمِّ الدِّمَاغِ ، أَوْ دَامِغَةٍ خَرَقَتْ خَرِيطَتَهُ ، وَكَالْجَائِفَةِ ، وَهِيَ الَّتِي نَفَذَتْ إِلَى الْجَوْفِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ لِلْخَوْفِ مِنَ الْهَلَاكِ .

وَأَنْكَرَ النَّاسُ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ الْقِصَاصَ فِي الْمَأْمُومَةِ . وَقَالُوا : مَا سَمِعْنَا بِأَحَدٍ قَالَهُ قَبْلَهُ ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَيْنَ الصَّحِيحَةَ لَا تُؤْخَذُ بِالْعَوْرَاءِ ، وَالْيَدَ الصَّحِيحَةَ لَا تُؤْخَذُ بِالشَّلَّاءِ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ .
تَنْبِيهٌ

إِذَا اقْتَصَّ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مِنَ الْجَانِي ، فِيمَا دُونَ النَّفْسِ ، فَمَاتَ مِنَ الْقِصَاصِ ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الَّذِي اقْتَصَّ مِنْهُ ، عِنْدَ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنَ الصَّحَابَةِ ، وَالتَّابِعِينَ ، وَغَيْرِهِمْ .

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِ الْمُقْتَصِّ ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ ، وَعَطَاءٌ ، وَطَاوُسٌ ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ ، وَالْحَارِثُ الْعُكْلِيِّ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ، تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْمُقْتَصِّ لَهُ .

[ ص: 393 ] وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ ، وَالْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ ، وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ ، يُسْقَطُ عَنِ الْمُقْتَصِّ لَهُ قَدْرُ تِلْكَ الْجِرَاحَةِ ، وَيَجِبُ الْبَاقِي فِي مَالِهِ ، قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ .

وَالْحُقُّ أَنَّ سِرَايَةَ الْقَوَدِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ ، لِأَنَّ مَنْ قَتَلَهُ الْقَوَدُ ، قَتَلَهُ الْحَقُّ ، كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ ، وَعُمَرَ ، وَغَيْرِهِمَا ، بِخِلَافِ سِرَايَةِ الْجِنَايَةِ ، فَهِيَ مَضْمُونَةٌ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ جِدًّا .

وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا تُؤْخَذُ عَيْنٌ ، وَلَا أُذُنٌ ، وَلَا يَدٌ يُسْرَى بِيُمْنَى ، وَلَا عَكْسُ ذَلِكَ ، لِوُجُوبِ اتِّحَادِ الْمَحَلِّ فِي الْقِصَاصِ ، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ ، وَشَرِيكٍ أَنَّهُمَا قَالَا : بِأَنَّ إِحْدَاهُمَا تُؤْخَذُ بِالْأُخْرَى ، وَالْأَوَّلُ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .

وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ تَأْخِيرُ الْقِصَاصِ فِي الْجِرَاحِ حَتَّى تَنْدَمِلَ جِرَاحَةُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ، فَإِنِ اقْتَصَّ مِنْهُ قَبْلَ الِانْدِمَالِ ، ثُمَّ زَادَ جُرْحُهُ ، فَلَا شَيْءَ لَهُ .

وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ ، مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، أَنَّ رَجُلًا طَعَنَ رَجُلًا بِقَرْنٍ فِي رُكْبَتِهِ ، فَجَاءَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : أَقِدْنِي ، فَقَالَ : " حَتَّى تَبْرَأَ " ، ثُمَّ جَاءَ إِلَيْهِ ، فَقَالَ : أَقِدْنِي ، فَأَقَادَهُ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ عَرِجْتُ ، فَقَالَ : " قَدْ نَهَيْتُكَ فَعَصَيْتَنِي ، فَأَبْعَدَكَ اللَّهُ وَبَطَلَ عَرَجُكَ " ، ثُمَّ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُقْتَصَّ مِنْ جُرْحٍ قَبْلَ أَنْ يَبْرَأَ صَاحِبُهُ ، تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ ، قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ .

وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِجَوَازِ تَعْجِيلِ الْقِصَاصِ قَبْلَ الْبُرْءِ ، وَقَدْ عَرَفْتَ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ الْمَذْكُورِ آنِفًا ، أَنَّ سِرَايَةَ الْجِنَايَةِ بَعْدَ الْقِصَاصِ هَدَرٌ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ : لَيْسَتْ هَدَرًا ، بَلْ هِيَ مَضْمُونَةٌ ، وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمَا - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّهُ اسْتَعْجَلَ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ اسْتِعْجَالُهُ ، فَأَبْطَلَ الشَّارِعُ حَقَّهُ .
وَإِذَا عَرَفْتَ مِمَّا ذَكَرْنَا تَفْصِيلَ مَفْهُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى : أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ الْآيَةَ . فَاعْلَمْ أَنَّ مَفْهُومَ قَوْلِهِ : أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ [ 5 \ 32 ] ، هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ [ 5 \ 33 ] .

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ : الْمُحَارَبَةُ هِيَ الْمُخَالَفَةُ وَالْمُضَادَّةُ ، وَهِيَ صَادِقَةٌ عَلَى الْكُفْرِ ، وَعَلَى قَطْعِ الطَّرِيقِ ، وَإِخَافَةِ السَّبِيلِ ، وَكَذَا الْإِفْسَادُ فِي الْأَرْضِ ، يُطْلَقُ عَلَى أَنْوَاعٍ [ ص: 394 ] مِنَ الشَّرِّ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ [ 2 \ 205 ] .

فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْمُحَارِبَ الَّذِي يَقْطَعُ الطَّرِيقَ ، وَيُخِيفُ السَّبِيلَ ، ذَكَرَ اللَّهُ أَنَّ جَزَاءَهُ وَاحِدَةٌ مِنْ أَرْبَعِ خِلَالٍ هِيَ : أَنْ يُقَتَّلُوا ، أَوْ يُصَلَّبُوا ، أَوْ تُقَطَّعُ أَيْدِيهِمْ ، وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ ، أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ، وَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : أَنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ فِيهَا ، يَفْعَلُ مَا شَاءَ مِنْهَا بِالْمُحَارِبِ ، كَمَا هُوَ مَدْلُولٌ ، أَوْ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى التَّخْيِيرِ .

وَنَظِيرُهُ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى : فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [ 2 \ 196 ] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [ 5 \ 89 ] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا [ 5 \ 95 ] .

وَكَوْنُ الْإِمَامِ مُخَيَّرًا بَيْنَهُمَا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ ، هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَعَطَاءٌ ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ ، وَالضَّحَّاكُ ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ جَرِيرٍ ، وَغَيْرُهُ ، وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ أَبِي طَلْحَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَنَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ ، عَنْ أَبِي ثَوْرٍ ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَالضَّحَّاكِ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَمَالِكٍ ، وَقَالَ : وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .

وَرَجَّحَ الْمَالِكِيَّةُ هَذَا الْقَوْلَ بِأَنَّ اللَّفْظَ فِيهِ مُسْتَقِلٌّ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى تَقْدِيرٍ مَحْذُوفٍ ، لِأَنَّ اللَّفْظَ إِذَا دَارَ بَيْنَ الِاسْتِقْلَالِ ، وَالِافْتِقَارِ إِلَى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ ، فَالِاسْتِقْلَالُ مُقَدَّمٌ ; لِأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ ، إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ عَلَى لُزُومِ تَقْدِيرِ الْمَحْذُوفِ ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ فِي " مَرَاقِي السُّعُودِ " بِقَوْلِهِ : [ الرَّجَزُ ]



كَذَاكَ مَا قَابَلَ ذَا اعْتِلَالِ مِنَ التَّأَصُّلِ وَالِاسْتِقْلَالِ
إِلَى قَوْلِهِ : [ الرَّجَزُ ]



كَذَاكَ تَرْتِيبٌ لِإِيجَابِ الْعَمَلْ بِمَا لَهُ الرُّجْحَانُ مِمَّا يَحْتَمِلُ

وَالرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُنَزَّلَةٌ عَلَى أَحْوَالٍ ، وَفِيهَا قُيُودٌ مُقَدَّرَةٌ ، وَإِيضَاحُهُ : أَنَّ الْمَعْنَى أَنْ يَقَتَّلُوا إِذَا قَتَلُوا ، وَلَمْ يَأْخُذُوا الْمَالَ ، أَوْ يُصَلَّبُوا إِذَا قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ ، أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ ، وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ إِذَا أَخَذُوا وَلَمْ يَقْتُلُوا أَحَدًا ، [ ص: 395 ] أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ، إِذَا أَخَافُوا السَّبِيلَ ، وَلَمْ يَقْتُلُوا أَحَدًا ، وَلَمْ يَأْخُذُوا مَالًا ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَحْمَدُ ، وَأَبُو مِجْلَزٍ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ ، وَالْحَسَنُ ، وَقَتَادَةُ ، وَالسُّدِّيُّ ، وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ .

قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ ، وَنَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ ، وَابْنُ جَرِيرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَأَبِي مِجْلَزٍ ، وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ ، وَغَيْرِهِمْ .

وَنَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، إِذَا قَتَلَ قُتِلَ ، وَإِذَا أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ ، قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ ، وَإِذَا أَخَذَ الْمَالَ وَقَتَلَ ، فَالسُّلْطَانُ مُخَيَّرٌ فِيهِ إِنْ شَاءَ قَطَعَ يَدَهُ وَرِجْلَهُ ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْطَعْ وَقَتَلَهُ وَصَلَبَهُ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الظَّاهِرَ الْمُتَبَادِرَ مِنَ الْآيَةِ ، هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ ; لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى ظَاهِرِ الْقُرْآنِ بِقُيُودٍ تَحْتَاجُ إِلَى نَصٍّ مِنْ كِتَابٍ ، أَوْ سُنَّةٍ ، وَتَفْسِيرُ الصَّحَابِيِّ لِهَذَا بِذَلِكَ ، لَيْسَ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ ، لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ عَنِ اجْتِهَادٍ مِنْهُ ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا رَوَى فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ بِالْقُيُودِ الْمَذْكُورَةِ ، خَبَرًا مَرْفُوعًا ، إِلَّا مَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَنَسٍ :

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ : أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ كَتَبَ إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، يَسْأَلُهُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنَسٌ يُخْبِرُهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أُولَئِكَ النَّفَرِ الْعُرَنَيِّينَ ، إِلَى أَنْ قَالَ : قَالَ أَنَسٌ : فَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جِبْرِيلَ عَنِ الْقَضَاءِ فِيمَنْ حَارَبَ ، فَقَالَ : مَنْ سَرَقَ ، وَأَخَافَ السَّبِيلَ ، فَاقْطَعْ يَدَهُ بِسَرِقَتِهِ ، وَرِجْلَهُ بِإِخَافَتِهِ ، وَمَنْ قَتَلَ فَاقْتُلْهُ ، وَمَنْ قَتَلَ وَأَخَافَ السَّبِيلَ ، وَاسْتَحَلَّ الْفَرْجَ الْحَرَامَ ، فَاصْلُبْهُ " ، وَهَذَا الْحَدِيثُ لَوْ كَانَ ثَابِتًا لَكَانَ قَاطِعًا لِلنِّزَاعِ ، وَلَكِنْ فِيهِ ابْنُ لَهِيعَةَ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ خَلَّطَ بَعْدَ احْتِرَاقِ كُتُبِهِ ، وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ ، وَهَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ رَاوِيهِ عَنْهُ ابْنَ الْمُبَارَكَ ، وَلَا ابْنَ وَهْبٍ ; لِأَنَّ رِوَايَتَهُمَا عَنْهُ أَعْدَلُ مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِهِمَا ، وَابْنُ جَرِيرٍ نَفْسُهُ يَرَى عَدَمَ صِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي سَاقَهُ ; لِأَنَّهُ قَالَ فِي سَوْقِهِ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ : وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَصْحِيحِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ بِمَا فِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ ، وَذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا بِهِ عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ ، إِلَى آخِرِ الْإِسْنَادِ الَّذِي قَدَّمْنَا آنِفًا ، وَذَكَرْنَا مَعَهُ مَحَلَّ الْغَرَضِ مِنَ الْمَتْنِ ، وَلَكِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ ، وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا ، فَإِنَّهُ يُقَوِّي هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلُ الْعِلْمِ ، وَنَسَبَهُ ابْنُ كَثِيرٍ لِلْجُمْهُورِ .





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #62  
قديم 09-09-2021, 04:45 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,475
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (60)

سُورَةُ الْمَائِدَةِ (15)
صـ 396 إلى صـ 400


وَاعْلَمْ أَنَّ الصَّلْبَ الْمَذْكُورَ فِي قَوْلِهِ : أَوْ يُصَلَّبُوا ، اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ ، فَقِيلَ : يُصْلَبُ حَيًّا ، وَيُمْنَعُ مِنَ الشَّرَابِ وَالطَّعَامِ حَتَّى يَمُوتَ ، وَقِيلَ : يُصْلَبُ حَيًّا ، ثُمَّ يُقْتَلُ بِرُمْحٍ [ ص: 396 ] وَنَحْوِهِ ، مَصْلُوبًا ، وَقِيلَ : يُقْتَلُ أَوَّلًا ، ثُمَّ يُصْلَبُ بَعْدَ الْقَتْلِ ، وَقِيلَ : يُنْزَلُ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، وَقِيلَ : يَتْرَكُ حَتَّى يَسِيلَ صَدِيدُهُ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُصْلَبُ بَعْدَ الْقَتْلِ زَمَنًا يَحْصُلُ فِيهِ اشْتِهَارُ ذَلِكَ ; لِأَنَّ صَلْبَهُ رَدْعٌ لِغَيْرِهِ .

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ، اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالنَّفْيِ فِيهِ أَيْضًا ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : مَعْنَاهُ أَنْ يُطْلَبُوا حَتَّى يُقْدَرَ عَلَيْهِمْ ، فَيُقَامُ عَلَيْهِمُ الْحَدُّ ، أَوْ يَهْرَبُوا مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَهَذَا الْقَوْلُ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَالضَّحَّاكِ ، وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ ، وَالزُّهْرِيِّ ، وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ ، وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ .

وَقَالَ آخَرُونَ : هُوَ أَنْ يُنْفَوْا مِنْ بَلَدِهِمْ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ ، أَوْ يُخْرِجُهُمُ السُّلْطَانُ ، أَوْ نَائِبُهُ ، مِنْ عُمَالَتِهِ بِالْكُلِّيَّةِ ، وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَأَبُو الشَّعْثَاءِ ، وَالْحَسَنُ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَالضَّحَّاكُ ، وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ ، إِنَّهُمْ يُنْفَوْنَ ، وَلَا يُخْرَجُونَ مِنْ أَرْضِ الْإِسْلَامِ .

وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْيِ فِي الْآيَةِ السِّجْنُ ، لِأَنَّهُ نَفْيٌ مِنْ سِعَةِ الدُّنْيَا إِلَى ضِيقِ السِّجْنِ ، فَصَارَ الْمَسْجُونُ كَأَنَّهُ مَنْفِيٌّ مِنَ الْأَرْضِ ، إِلَّا مِنْ مَوْضِعِ اسْتِقْرَارِهِ ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ بَعْضِ الْمَسْجُونِينَ فِي ذَلِكَ : [ الطَّوِيلُ ]


خَرَجْنَا مِنَ الدُّنْيَا وَنَحْنُ مِنْ أَهْلِهَا فَلَسْنَا مِنَ الْأَمْوَاتِ فِيهَا وَلَا الْأَحْيَا
إِذَا جَاءَنَا السَّجَّانُ يَوْمًا لِحَاجَةٍ عَجِبْنَا وَقُلْنَا جَاءَ هَذَا مِنَ الدُّنْيَا
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ ، وَلَا يَخْفَى عَدَمُ ظُهُورِهِ .

وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ ، أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْيِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ، أَنْ يُخْرَجَ مِنْ بَلَدِهِ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ ، فَيُسْجَنَ فِيهِ ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ مَالِكٍ أَيْضًا ، وَلَهُ اتِّجَاهٌ ; لِأَنَّ التَّغْرِيبَ عَنِ الْأَوْطَانِ نَوْعٌ مِنَ الْعُقُوبَةِ ، كَمَا يُفْعَلُ بِالزَّانِي الْبِكْرِ ، وَهَذَا أَقْرَبُ الْأَقْوَالِ لِظَاهِرِ الْآيَةِ ; لِأَنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ إِنَّهُ لَا يُرَادُ نَفْيُهُمْ مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَرْضِ أَوْطَانُهُمُ الَّتِي تَشُقُّ عَلَيْهِمْ مُفَارَقَتُهَا ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
مَسَائِلُ مِنْ أَحْكَامِ الْمُحَارِبِينَ

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : اعْلَمْ أَنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ يُثْبِتُونَ حُكْمَ الْمُحَارِبَةِ فِي الْأَمْصَارِ [ ص: 397 ] وَالطُّرُقِ عَلَى السَّوَاءِ ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْأَوْزَاعِيُّ ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَمَالِكٍ ، حَتَّى قَالَ مَالِكٌ فِي الَّذِي يَغْتَالُ الرَّجُلَ فَيَخْدَعُهُ ، حَتَّى يَدْخِلَهُ بَيْتًا ، فَيَقْتُلَهُ وَيَأْخُذُ مَا مَعَهُ ، إِنَّ هَذِهِ مُحَارَبَةٌ ، وَدَمُهُ إِلَى السُّلْطَانِ ، لَا إِلَى وَلِيِّ الْمَقْتُولِ ، فَلَا اعْتِبَارَ بِعَفْوِهِ عَنْهُ فِي إِسْقَاطِ الْقَتْلِ .

وَقَالَ الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ : كُنْتُ أَيَّامَ حُكْمِي بَيْنَ النَّاسِ ، إِذَا جَاءَنِي أَحَدٌ بِسَارِقٍ ، وَقَدْ دَخَلَ الدَّارَ بِسِكِّينٍ يَحْبِسُهُ عَلَى قَلْبِ صَاحِبِ الدَّارِ ، وَهُوَ نَائِمٌ ، وَأَصْحَابُهُ يَأْخُذُونَ مَالَ الرَّجُلِ ، حَكَمْتُ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمُحَارِبِينَ ، وَتَوَقَّفَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ذَلِكَ ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ لَا مُحَارَبَةَ إِلَّا فِي الطُّرُقِ ، فَلَا يَكُونُ مُحَارِبًا فِي الْمِصْرِ ; لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُ الْغَوْثُ .

وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يَكُونُ مُحَارِبًا فِي الْمِصْرِ أَيْضًا ، لِعُمُومِ الدَّلِيلِ .

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَصْحَابُهُ : لَا تَكُونُ الْمُحَارِبَةُ إِلَّا فِي الطُّرُقِ ، وَأَمَّا فِي الْأَمْصَارِ فَلَا ; لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُ الْغَوْثُ إِذَا اسْتَغَاثَ ، بِخِلَافِ الطَّرِيقِ لِبُعْدِهِ مِمَّنْ يُغِيثُهُ ، وَيُعِينُهُ .

قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ : وَلَا يَثْبُتُ لَهُمْ حُكْمُ الْمُحَارِبَةِ ، إِلَّا إِذَا كَانَ عِنْدَهُمْ سِلَاحٌ .

وَمِنْ جُمْلَةِ السِّلَاحِ : الْعِصِيُّ ، وَالْحِجَارَةُ عِنْدَ الْأَكْثَرِ ; لِأَنَّهَا تُتْلَفُ بِهَا الْأَنْفُسُ وَالْأَطْرَافُ كَالسِّلَاحِ ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : إِذَا كَانَ الْمَالُ الَّذِي أَتْلَفَهُ الْمُحَارِبُ ، أَقَلُّ مِنْ نِصَابِ السَّرِقَةِ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ ، أَوْ كَانَتِ النَّفْسُ الَّتِي قَتَلَهَا غَيْرَ مُكَافِئَةٍ لَهُ ، كَأَنْ يَقْتُلَ عَبْدًا ، أَوْ كَافِرًا ، وَهُوَ حُرٌّ مُسْلِمٌ ، فَهَلْ يُقْطَعُ فِي أَقَلَّ مِنَ النِّصَابِ ؟ وَيُقْتَلُ بِغَيْرِ الْكُفْءِ أَوْ لَا ؟ .

اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يُقْطَعُ إِلَّا إِذَا أَخَذَ رُبْعَ دِينَارٍ ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَحْمَدُ ، وَقَالَ مَالِكٌ : يُقْطَعُ وَلَوْ لَمْ يَأْخُذْ نِصَابًا ; لِأَنَّهُ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْمُحَارِبِ .

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : وَهُوَ الصَّحِيحُ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ، حَدَّدَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُبُعَ دِينَارٍ لِوُجُوبِ الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ ، وَلَمْ يُحَدِّدْ فِي قَطْعِ الْحِرَابَةِ شَيْئًا ، ذَكَرَ جَزَاءَ الْمُحَارِبِ ; فَاقْتَضَى ذَلِكَ تَوْفِيَةَ جَزَائِهِمْ عَلَى الْمُحَارَبَةِ عَنْ حَبَّةٍ ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا قِيَاسُ أَصْلٍ عَلَى أَصْلٍ ، [ ص: 398 ] وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ ، وَقِيَاسُ الْأَعْلَى بِالْأَدْنَى ، وَذَلِكَ عَكْسُ الْقِيَاسِ ، وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُقَاسَ الْمُحَارِبُ عَلَى السَّارِقِ ، وَهُوَ يَطْلُبُ خَطْفَ الْمَالِ ؟ فَإِنْ شُعِرَ بِهِ فَرَّ ، حَتَّى إِنَّ السَّارِقَ إِذَا دَخَلَ بِالسِّلَاحِ يَطْلُبُ الْمَالَ ، فَإِنْ مُنِعَ مِنْهُ ، أَوْ صِيحَ عَلَيْهِ حَارَبَ عَلَيْهِ ، فَهُوَ مُحَارِبٌ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْمُحَارِبِينَ . اهـ كَلَامُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ .

وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْقَوْلِ ، عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْإِخْرَاجِ مِنْ حِرْزٍ فِيمَا يَأْخُذُهُ الْمُحَارِبُ فِي قَطْعِهِ ، وَأَمَّا قَتْلُ الْمُحَارِبِ بِغَيْرِ الْكُفْءِ ، فَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ ، وَعَنِ الشَّافِعِيِّ ، وَأَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَتَانِ ، وَالتَّحْقِيقُ عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْمُكَافَأَةِ فِي قَتْلِ الْحِرَابَةِ ; لِأَنَّ الْقَتْلَ فِيهَا لَيْسَ عَلَى مُجَرَّدِ الْقَتْلِ ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى الْفَسَادِ الْعَامِّ مِنْ إِخَافَةِ السَّبِيلِ ، وَسَلْبِ الْمَالِ .

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا ، فَأَمَرَ بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَى الْمُحَارِبِ إِذَا جَمَعَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ ، وَهُمَا الْمُحَارَبَةُ ، وَالسَّعْيُ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ ، وَلَمْ يَخُصَّ شَرِيفًا مِنْ وَضِيعٍ ، وَلَا رَفِيعًا مِنْ دَنِيءٍ . اهـ مِنَ الْقُرْطُبِيِّ .

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ - : وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الْمُكَافَأَةِ فِي قَتْلِ الْحِرَابَةِ ، إِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ عَفْوَ وَلِيِّ الْمَقْتُولِ فِي الْحَرَّابَةِ لَغْوٌ لَا أَثَرَ لَهُ ، وَعَلَى الْحَاكِمِ قَتْلُ الْمُحَارِبِ الْقَاتِلِ ، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مَسْأَلَةُ قِصَاصٍ خَالِصٍ ، بَلْ هُنَاكَ تَغْلِيظٌ زَائِدٌ مِنْ جِهَةِ الْمُحَارَبَةِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : إِذَا حَمَلَ الْمُحَارِبُونَ عَلَى قَافِلَةٍ مَثَلًا ، فَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضَ الْقَافِلَةِ ، وَبَعْضُ الْمُحَارِبِينَ لَمْ يُبَاشِرْ قَتْلَ أَحَدٍ ، فَهَلْ يُقْتَلُ الْجَمِيعُ ، أَوْ لَا يُقْتَلُ إِلَّا مَنْ بَاشَرَ الْقَتْلَ . فِيهِ خِلَافٌ ، وَالتَّحْقِيقُ قَتَلُ الْجَمِيعِ ; لِأَنَّ الْمُحَارَبَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى حُصُولِ الْمَنَعَةِ وَالْمُعَاضَدَةِ وَالْمُنَاصَرَةِ ، فَلَا يَتَمَكَّنُ الْمُبَاشِرُ مِنْ فِعْلِهِ ، إِلَّا بِقُوَّةِ الْآخَرِ الَّذِي هُوَ رِدْءٌ لَهُ وَمُعِينٌ عَلَى حِرَابَتِهِ ، وَلَوْ قَتَلَ بَعْضُهُمْ ، وَأَخَذَ بَعْضُهُمُ الْمَالَ جَازَ قَتْلُهُمْ كُلِّهِمْ ، وَصَلْبُهُمْ كُلِّهِمْ ; لِأَنَّهُمْ شُرَكَاءُ فِي كُلِّ ذَلِكَ ، وَخَالَفَ فِي هَذَا الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ : لَا يَجِبُ الْحَدُّ إِلَّا عَلَى مَنِ ارْتَكَبَ الْمَعْصِيَةَ ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِمَنْ أَعَانَهُ عَلَيْهَا كَسَائِرِ الْحُدُودِ ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : إِذَا كَانَ فِي الْمُحَارِبِينَ صَبِيٌّ ، أَوْ مَجْنُونٌ ، أَوْ أَبُ الْمَقْطُوعِ عَلَيْهِ ، [ ص: 399 ] فَهَلْ يَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْ كُلِّهِمْ ؟ وَيَصِيرُ الْقَتْلُ لِلْأَوْلِيَاءِ إِنْ شَاءُوا قَتَلُوا ، وَإِنْ شَاءُوا عَفَوْا نَظَرًا إِلَى أَنَّ حُكْمَ الْجَمِيعِ وَاحِدٌ ، فَالشُّبْهَةُ فِي فِعْلِ وَاحِدٍ شُبْهَةٌ فِي الْجَمِيعِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، أَوْ لَا يَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْ غَيْرِ الْمَذْكُورِ مِنْ صَبِيٍّ ، أَوْ مَجْنُونٍ ، أَوْ أَبٍ ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ ، وَهُوَ الظَّاهِرُ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : إِذَا تَابَ الْمُحَارِبُونَ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ ; فَتَوْبَتُهُمْ حِينَئِذٍ لَا تُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْ إِقَامَةِ الْحُدُودِ الْمَذْكُورَةِ عَلَيْهِمْ ، وَأَمَّا إِنْ جَاءُوا تَائِبِينَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ ، فَلَيْسَ لِلْإِمَامِ عَلَيْهِمْ حِينَئِذٍ سَبِيلٌ ; لِأَنَّهُمْ تَسْقُطُ عَنْهُمْ حُدُودُ اللَّهِ ، وَتَبْقَى عَلَيْهِمْ حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ ، فَيُقْتَصُّ مِنْهُمْ فِي الْأَنْفُسِ وَالْجِرَاحِ ، وَيَلْزَمُهُمْ غُرْمُ مَا أَتْلَفُوهُ مِنَ الْأَمْوَالِ ، وَلِوَلِيِّ الدَّمِ حِينَئِذٍ الْعَفْوُ إِنْ شَاءَ ، وَلِصَاحِبِ الْمَالِ إِسْقَاطُهُ عَنْهُمْ .

وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ مَعَ الْإِجْمَاعِ عَلَى سُقُوطِ حُدُودِ اللَّهِ عَنْهُمْ بِتَوْبَتِهِمْ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ ، كَمَا هُوَ صَرِيحُ قَوْلِهِ تَعَالَى : إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ الْآيَةَ [ 5 \ 34 ] ، وَإِنَّمَا لَزِمَ أَخْذُ مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْأَمْوَالِ ، وَتَضْمِينُهُمْ مَا اسْتَهْلَكُوا ; لِأَنَّ ذَلِكَ غَصْبٌ ، فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ تَمُلُّكُهُ ، وَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ : لَا يُطْلَبُ الْمُحَارِبُ الَّذِي جَاءَ تَائِبًا قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ إِلَّا بِمَا وُجِدَ مَعَهُ مِنَ الْمَالِ ، وَأَمَّا مَا اسْتَهْلَكَهُ ، فَلَا يُطْلَبُ بِهِ ، وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ هَذَا عَنْ مَالِكٍ مِنْ رِوَايَةِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْهُ .

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ فِعْلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِحَارِثَةَ بْنِ بَدْرٍ الْغُدَانِيُّ ، فَإِنَّهُ كَانَ مُحَارِبًا ، ثُمَّ تَابَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ ، فَكَتَبَ لَهُ سُقُوطَ الْأَمْوَالِ وَالدَّمِ عَنْهُ كِتَابًا مَنْشُورًا ، وَنَحْوَهُ ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ .

قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مِنْدَادَ : وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُحَارِبِ إِذَا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ ، وَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مَالٌ ، هَلْ يُتْبَعُ دَيْنًا بِمَا أَخَذَ ؟ أَوْ يُسْقَطُ عَنْهُ ، كَمَا يُسْقَطُ عَنِ السَّارِقِ ، يَعْنِي عِنْدَ مَالِكٍ ، وَالْمُسْلِمُ ، وَالذِّمِّيُّ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ : فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [ 5 \ 32 ] ، اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ ، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : مَعْنَاهَا أَنَّ مَنْ قَتَلَ نَبِيًّا ، أَوْ إِمَامَ عَدْلٍ ، فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ، وَمَنْ أَحْيَاهُ ، بِأَنْ شَدَّ عَضُدَهُ وَنَصَرَهُ ، فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ، نَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُمَا ، وَلَا يَخْفَى بُعْدَهُ عَنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ .

[ ص: 400 ] وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ : الْمَعْنَى ، أَنَّ مَنِ انْتَهَكَ حُرْمَةَ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ بِقَتْلِهَا ، فَهُوَ كَمَنْ قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ; لِأَنَّ انْتِهَاكَ حُرْمَةَ الْأَنْفُسِ ، سَوَاءٌ فِي الْحُرْمَةِ وَالْإِثْمِ ، وَمَنْ تَرَكَ قَتْلَ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَاسْتَحْيَاهَا خَوْفًا مِنَ اللَّهِ ، فَهُوَ كَمَنْ أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ، لِاسْتِوَاءِ الْأَنْفُسِ فِي ذَلِكَ .

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ، أَيْ عِنْدِ الْمَقْتُولِ إِذْ لَا غَرَضَ لَهُ فِي حَيَاةِ أَحَدٍ بَعْدَ مَوْتِهِ هُوَ ، وَمَنْ أَحْيَاهَا وَاسْتَنْقَذَهَا مِنْ هَلَكَةٍ ، فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا عِنْدَ الْمُسْتَنْقَذِ ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ : الْمَعْنَى أَنَّ الَّذِي يَقْتُلُ النَّفْسَ الْمُؤْمِنَةَ مُتَعَمِّدًا جَعَلَ اللَّهُ جَزَاءَهُ جَهَنَّمَ ، وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ ، وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ، وَلَوْ قَتْلَ النَّاسَ جَمِيعًا لَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ ، وَمَنْ لَمْ يَقْتُلْ فَقَدْ حَيِيَ النَّاسُ مِنْهُ .

وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ جَرِيرٍ ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ : الْمَعْنَى أَنَّ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا يَلْزَمُهُ مِنَ الْقِصَاصِ مَا يَلْزَمُ مَنْ قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ، قَالَ : وَمَنْ أَحْيَاهَا ، أَيْ عَفَا عَمَّنْ وَجَبَ لَهُ قَتْلُهُ ، وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا : هُوَ الْعَفْوُ بَعْدَ الْمَقْدِرَةِ ، وَقِيلَ : الْمَعْنَى أَنَّ مَنْ قَتَلَ نَفْسَا فَالْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ خُصَمَاؤُهُ ، لِأَنَّهُ قَدْ وَتَرَ الْجَمِيعَ ، وَمَنْ أَحْيَاهَا وَجَبَ عَلَى الْكُلِّ شُكْرُهُ ، وَقِيلَ : كَانَ هَذَا مُخْتَصًّا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ ، وَقِيلَ : الْمَعْنَى أَنَّ مَنِ اسْتَحَلَّ قَتْلَ وَاحِدٍ ، فَقَدِ اسْتَحَلَّ الْجَمِيعَ ; لِأَنَّهُ أَنْكَرَ الشَّرْعَ ، وَمَنْ حَرَّمَ دَمَ مُسْلِمٍ ، فَكَأَنَّمَا حَرَّمَ دِمَاءَ النَّاسِ جَمِيعًا ، ذَكَرَ هَذِهِ الْأَقْوَالَ الْقُرْطُبِيُّ ، وَابْنُ كَثِيرٍ ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُمْ ، وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ كَثِيرٍ هَذَا الْقَوْلَ الْأَخِيرَ ، وَعَزَاهُ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ .

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ ، بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَمَنْ أَحْيَاهَا ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : مَنْ حَرَّمَ قَتْلَهَا إِلَّا بِحَقٍّ حَيِيَ النَّاسُ مِنْهُ جَمِيعًا .

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ : إِحْيَاؤُهُ عِبَارَةٌ عَنِ التَّرْكِ ، وَالْإِنْقَاذِ مِنْ هَلَكَةٍ ، وَإِلَّا فَالْإِحْيَاءُ حَقِيقَةً الَّذِي هُوَ الِاخْتِرَاعُ ، إِنَّمَا هُوَ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَهَذَا الْإِحْيَاءُ ، كَقَوْلِ نَمْرُودَ لَعَنَهُ اللَّهُ : أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [ 2 \ 258 ] ، فَسَمَّى التَّرْكَ إِحْيَاءً .

وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا الْآيَةَ ، اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ اخْتُلِفَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا ، فَقِيلَ : نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، وَقِيلَ : نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَقِيلَ : نَزَلَتْ فِي الْحَرُورِيَّةِ .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #63  
قديم 22-09-2021, 11:55 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,475
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (61)

سُورَةُ الْمَائِدَةِ (16)
صـ 401 إلى صـ 405


[ ص: 401 ] وأشهر الأقوال هو ما تضافرت به الروايات في الصحاح ، وغيرها ، أنها نزلت في قوم " عرينة " ، و " عكل " الذين قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاجتووا المدينة ، فأمر لهم - صلى الله عليه وسلم - بلقاح ، وأمرهم أن يشربوا من أبوالها ، وألبانها ، فانطلقوا ، فلما صحوا وسمنوا ، قتلوا راعي النبي - صلى الله عليه وسلم - واستاقوا اللقاح ، فبلغه - صلى الله عليه وسلم - خبرهم ، فأرسل في أثرهم سرية فجاءوا بهم ، فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم ، وسملت أعينهم ، وألقوا في الحرة يستسقون ، فلا يسقون حتى ماتوا .

وعلى هذا القول ، فهي نازلة في قوم سرقوا ، وقتلوا ، وكفروا بعد إيمانهم ، هذه هي أقوال العلماء في سبب نزولها ، والذي يدل عليه ظاهر القرآن أنها في قطاع الطريق من المسلمين ، كما قاله جماعة من الفقهاء بدليل قوله تعالى : إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم الآية ، فإنها ليست في الكافرين قطعا ; لأن الكافر تقبل توبته بعد القدرة عليه ، كما تقبل قبلها إجماعا ; لقوله تعالى : قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف [ 8 \ 38 ] ، وليست في المرتدين ; لأن المرتد يقتل بردته وكفره ، ولا يقطع لقوله - صلى الله عليه وسلم - عاطفا على ما يوجب القتل : " والتارك لدينه المفارق للجماعة " ، وقوله : " من بدل دينه فاقتلوه " ، فيتعين أنها في المحاربين من المسلمين ، فإن قيل : وهل يصح أن يطلق على المسلم أنه محارب لله ورسوله ؟ فالجواب : نعم .

والدليل قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله [ 2 \ 278 ، 279 ] .

تنبيه

استشكل بعض العلماء تمثيله - صلى الله عليه وسلم - بالعرنيين ; لأنه سمل أعينهم مع قطع الأيدي والأرجل ، مع أن المرتد يقتل ولا يمثل به .

واختلف في الجواب ، فقيل فيه ما حكاه الطبري عن بعض أهل العلم : أن هذه الآية نسخت فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - بهم ، وقال محمد بن سيرين : كان ذلك قبل نزول الحدود ، وقال أبو الزناد : إن هذه الآية معاتبة له - صلى الله عليه وسلم - على ما فعل بهم ، وبعد العتاب على ذلك لم يعد ، قاله أبو داود .

والتحقيق في الجواب هو أنه - صلى الله عليه وسلم - فعل بهم ذلك قصاصا ، وقد ثبت في صحيح [ ص: 402 ] مسلم وغيره أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما سمل أعينهم قصاصا ; لأنهم سملوا أعين رعاة اللقاح ، وعقده البدوي الشنقيطي في " مغازيه " بقوله : [ الرجز ]


وبعدها انتهبها الألى انتهوا لغاية الجهد وطيبة اجتووا فخرجوا فشربوا ألبانها
ونبذوا إذ سمنوا أمانها فاقتص منهم النبي أن مثلوا
بعبده ومقلتيه سملوا


واعترض على الناظم شارح النظم حماد لفظة " بعبده " ; لأن الثابت أنهم مثلوا بالرعاء ، والعلم عند الله تعالى .
قَوْلُهُ تَعَالَى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ الْآيَةَ .

اعْلَمْ أَنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَسِيلَةِ هُنَا هُوَ الْقُرْبَةُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ، بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ ، وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ عَلَى وَفْقِ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِخْلَاصٍ فِي ذَلِكَ لِلَّهِ تَعَالَى ; لِأَنَّ هَذَا وَحْدَهُ هُوَ الطَّرِيقُ الْمُوَصِّلَةُ إِلَى رِضَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَنَيْلِ مَا عِنْدَهُ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ .

وَأَصْلُ الْوَسِيلَةِ : الطَّرِيقُ الَّتِي تُقَرِّبُ إِلَى الشَّيْءِ ، وَتُوَصِّلُ إِلَيْهِ وَهِيَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ ; لِأَنَّهُ لَا وَسِيلَةَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا بِاتِّبَاعِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَى هَذَا فَالْآيَاتُ الْمُبَيِّنَةُ لِلْمُرَادِ مِنَ الْوَسِيلَةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [ 59 \ 7 ] ، وَكَقَوْلِهِ : قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي [ \ 31 ] ، وَقَوْلِهِ : قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [ 24 \ 54 ] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَسِيلَةِ الْحَاجَةُ ، وَلَمَّا سَأَلَهُ نَافِعٌ الْأَزْرَقُ هَلْ تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ ؟ أَنْشَدَ لَهُ بَيْتَ عَنْتَرَةَ : [ الْكَامِلُ ]


إِنَّ الرِّجَالَ لَهُمْ إِلَيْكِ وَسِيلَةٌ إِنْ يَأْخُذُوكِ تَكَحَّلِي وَتَخَضَّبِي


قَالَ : يَعْنِي لَهُمْ إِلَيْكِ حَاجَةٌ ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، فَالْمَعْنَى : وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ [ 5 \ 35 ] ، وَاطْلُبُوا حَاجَتَكُمْ مِنَ اللَّهِ ; لِأَنَّهُ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى إِعْطَائِهَا ، وَمِمَّا يُبَيِّنُ مَعْنَى هَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ الْآيَةَ [ 29 \ 17 ] ، وَقَوْلُهُ : وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ الْآيَةَ [ 4 \ 32 ] ، وَفِي الْحَدِيثِ : " إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ " .

[ ص: 403 ] قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ - : التَّحْقِيقُ فِي مَعْنَى الْوَسِيلَةِ هُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ عَامَّةَ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّهَا التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِخْلَاصِ لَهُ فِي الْعِبَادَةِ ، عَلَى وَفْقِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ دَاخِلٌ فِي هَذَا ; لِأَنَّ دُعَاءَ اللَّهِ وَالِابْتِهَالَ إِلَيْهِ فِي طَلَبِ الْحَوَائِجِ مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ عِبَادَتِهِ الَّتِي هِيَ الْوَسِيلَةُ إِلَى نَيْلِ رِضَاهُ وَرَحْمَتِهِ .

وَبِهَذَا التَّحْقِيقِ تَعْلَمُ أَنَّ مَا يَزْعُمُهُ كَثِيرٌ مِنْ مَلَاحِدَةِ أَتْبَاعِ الْجُهَّالِ الْمُدَّعِينَ لِلتَّصَوُّفِ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَسِيلَةِ فِي الْآيَةِ الشَّيْخُ الَّذِي يَكُونُ لَهُ وَاسِطَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ ، أَنَّهُ تَخَبُّطٌ فِي الْجَهْلِ وَالْعَمَى وَضَلَالٌ مُبِينٌ وَتَلَاعُبٌ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَاتِّخَاذُ الْوَسَائِطِ مَنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ أَصُولِ كُفْرِ الْكَفَّارِ ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ عَنْهُمْ : مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [ 39 \ 3 ] ، وَقَوْلِهِ : وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [ 10 \ 18 ] ، فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الطَّرِيقَ الْمُوَصِّلَةَ إِلَى رِضَى اللَّهِ وَجَنَّتِهِ وَرَحْمَتِهِ هِيَ اتِّبَاعُ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ حَادَ عَنْ ذَلِكَ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ، لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ الْآيَةَ [ 4 \ 123 ] .

وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْوَسِيلَةَ فِي بَيْتِ عَنْتَرَةَ مَعْنَاهَا التَّقَرُّبُ أَيْضًا إِلَى الْمَحْبُوبِ ; لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ لِنَيْلِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ ، وَلِذَا أَنْشَدَ بَيْتَ عَنْتَرَةَ الْمَذْكُورَ ابْنُ جَرِيرٍ ، وَالْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُمَا لِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا ، وَجَمْعُ الْوَسِيلَةِ : الْوَسَائِلُ ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ : [ الطَّوِيلُ ]


إِذَا غَفَلَ الْوَاشُونَ عُدْنَا لِوَصْلِنَا وَعَادَ التَّصَافِي بَيْنَنَا وَالْوَسَائِلُ


وَهَذَا الَّذِي فَسَّرْنَا بِهِ الْوَسِيلَةَ هُنَا هُوَ مَعْنَاهَا أَيْضًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ الْآيَةَ [ 17 \ 57 ] ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْوَسِيلَةِ أَيْضًا الْمَنْزِلَةَ الَّتِي فِي الْجَنَّةِ الَّتِي أَمَرَنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَسْأَلَ لَهُ اللَّهَ أَنْ يُعْطِيَهُ إِيَّاهَا ، نَرْجُو اللَّهَ أَنْ يُعْطِيَهُ إِيَّاهَا ; لِأَنَّهَا لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ ، وَهُوَ يَرْجُو أَنْ يَكُونَ هُوَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إِجْمَالٌ ; لِأَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ هَذَا ، مُفَسِّرٌ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ : فَخُذُوهُ ، وَقَوْلُهُ : لَمْ تُؤْتَوْهُ ، لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ فِي الْآيَةِ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَشَارَ لَهُ هُنَا ، وَذَكَرَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ .

[ ص: 404 ] اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِيِّ وَالْيَهُودِيَّةِ الَّذِينَ زَنَيَا بَعْدَ الْإِحْصَانِ ، وَكَانَ الْيَهُودُ قَدْ بَدَّلُوا حُكْمَ الرَّجْمِ فِي التَّوْرَاةِ ، فَتَعَمَّدُوا تَحْرِيفَ كِتَابِ اللَّهِ ، وَاصْطَلَحُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى أَنَّ الزَّانِيَ الْمُحْصَنَ الَّذِي يَعْلَمُونَ أَنَّ حَدَّهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ ، التَّوْرَاةِ : الرَّجْمُ ، أَنَّهُمْ يَجْلِدُونَهُ وَيَفْضَحُونَهُ بِتَسْوِيدِ الْوَجْهِ ، وَالْإِرْكَابِ عَلَى حِمَارٍ ، فَلَمَّا زَنَى الْمَذْكُورَانِ قَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ تَعَالَوْا نَتَحَاكَمُ إِلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي شَأْنِ حَدِّهِمَا ، فَإِنْ حَكَمَ بِالْجَلْدِ وَالتَّحْمِيمِ فَخُذُوا عَنْهُ ذَلِكَ وَاجْعَلُوهُ حُجَّةً بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَيَكُونُ نَبِيٌّ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ قَدْ حَكَمَ فِيهِمَا بِذَلِكَ ، وَإِنْ حَكَمَ بِالرَّجْمِ فَلَا تَتَّبِعُوهُ ، فَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ : هَذَا ، وَقَوْلِهِ : فَخُذُوهُ ، وَقَوْلِهِ : وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ ، هُوَ الْحُكْمُ الْمُحَرَّفُ الَّذِي هُوَ الْجَلْدُ وَالتَّحْمِيمُ كَمَا بَيَّنَّا ، وَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ هُنَا بِقَوْلِهِ : يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا يَعْنِي الْمُحَرَّفَ وَالْمُبَدَّلَ الَّذِي هُوَ الْجَلْدُ وَالتَّحْمِيمُ فَخُذُوهُ ، وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ بِأَنْ حَكَمَ بِالْحَقِّ الَّذِي هُوَ الرَّجْمُ فَاحْذَرُوا أَنْ تَقْبَلُوهُ .

وَذَكَرَ تَعَالَى هَذَا أَيْضًا فِي قَوْلِهِ : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ [ 3 \ 23 ] ، يَعْنِي التَّوْرَاةَ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ، يَعْنِي فِي شَأْنِ الزَّانِيَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ ، ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ ، أَيْ عَمَّا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ حُكْمِ رَجْمِ الزَّانِي الْمُحْصَنِ ، وَقَوْلُهُ هُنَا : ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ ، هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ عَنْهُمْ : وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
قَوْلُهُ تَعَالَى : بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ الْآيَةَ .

أَخْبَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْأَحْبَارَ وَالرُّهْبَانَ اسْتَحْفَظُوا كِتَابَ اللَّهِ يَعْنِي اسْتَوْدَعُوهُ ، وَطَلَبَ مِنْهُمْ حِفْظَهُ ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَلِ امْتَثَلُوا الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ وَحَفِظُوهُ ، أَوْ لَمْ يَمْتَثِلُوا الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ وَضَيَّعُوهُ ؟ وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُمْ لَمْ يَمْتَثِلُوا الْأَمْرَ ، وَلَمْ يَحْفَظُوا مَا اسْتُحْفِظُوهُ ، بَلْ حَرَّفُوهُ وَبَدَّلُوهُ عَمْدًا كَقَوْلِهِ : يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ . الْآيَةَ [ 4 \ 46 ] .

وَقَوْلِهِ : يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ، وَقَوْلِهِ : تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا [ 6 \ 91 ] ، وَقَوْلِهِ : فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْآيَةَ [ 2 \ 79 ] ، وَقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا : وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ الْآيَةَ [ 3 \ 78 ] ، [ ص: 405 ] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .

تَنْبِيهٌ

إِنْ قِيلَ مَا الْفَرْقُ بَيْنَ التَّوْرَاةِ وَالْقُرْآنِ ؟ فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا كَلَامُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولٍ مِنْ رُسُلِهِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ - وَالتَّوْرَاةُ حُرِّفَتْ ، وَبُدِّلَتْ كَمَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا ، وَالْقُرْآنُ مَحْفُوظٌ مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ ، لَوْ حَرَّفَ مِنْهُ أَحَدٌ حَرْفًا وَاحِدًا فَأَبْدَلَهُ بِغَيْرِهِ ، أَوْ زَادَ فِيهِ حَرْفًا أَوْ نَقَصَ فِيهِ آخَرَ لَرَدَّ عَلَيْهِ آلَافُ الْأَطْفَالِ مِنْ صِغَارِ الْمُسْلِمِينَ فَضْلًا عَنْ كِبَارِهِمْ .

فَالْجَوَابُ أَنَّ اللَّهَ اسْتَحْفَظَهُمُ التَّوْرَاةَ ، وَاسْتَوْدَعَهُمْ إِيَّاهَا ، فَخَانُوا الْأَمَانَةَ وَلَمْ يَحْفَظُوهَا ، بَلْ ضَيَّعُوهَا عَمْدًا ، وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ لَمْ يَكِلِ اللَّهُ حِفْظَهُ إِلَى أَحَدٍ حَتَّى يُمْكِنَهُ تَضْيِيعُهُ ، بَلْ تَوَلَّى حِفْظَهُ جَلَّ وَعَلَا بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ الْمُقَدَّسَةِ ، كَمَا أَوْضَحَهُ بِقَوْلِهِ : إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [ 15 \ 9 ] ، وَقَوْلِهِ : لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ الْآيَةَ [ 41 \ 42 ] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ ، وَ " الْبَاءُ " فِي قَوْلِهِ : بِمَا اسْتُحْفِظُوا [ 5 \ 44 ] ، مُتَعَلِّقَةٌ بِالرُّهْبَانِ وَالْأَحْبَارِ ; لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا صَارُوا فِي تِلْكَ الْمَرْتَبَةِ بِسَبَبِ مَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ .

وَقِيلَ : مُتَعَلِّقَةٌ بِيَحْكُمُ . وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ، اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : هَلْ هِيَ فِي الْمُسْلِمِينَ ، أَوْ فِي الْكُفَّارِ ؟ ، فَرُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهَا فِي الْمُسْلِمِينَ ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهَا فِي الْيَهُودِ ، وَرُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ أَيْضًا أَنَّهَا فِي الْمُسْلِمِينَ ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْكُفْرِ فِيهَا كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ ، وَأَنَّهُ لَيْسَ الْكُفْرَ الْمُخْرِجَ مِنَ الْمِلَّةِ ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ قَالَ : لَيْسَ الْكُفْرَ الَّذِي تَذْهَبُونَ إِلَيْهِ ، رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ ، وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ ، قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ .

قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا فِي الْيَهُودِ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِيمَا قَبْلَهَا أَنَّهُمْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا ، يَعْنِي الْحُكْمَ الْمُحَرَّفَ الَّذِي هُوَ غَيْرُ حُكْمِ اللَّهِ فَخُذُوهُ ، وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ أَيِ الْمُحَرَّفَ ، بَلْ أُوتِيتُمْ حُكْمَ اللَّهِ الْحَقَّ فَاحْذَرُوا ، فَهُمْ يَأْمُرُونَ بِالْحَذَرِ مِنْ حُكْمِ اللَّهِ الَّذِي يَعْلَمُونَ أَنَّهُ حَقٌّ .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #64  
قديم 22-09-2021, 11:56 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,475
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (62)

سُورَةُ الْمَائِدَةِ (17)
صـ 406 إلى صـ 410


[ ص: 406 ] وَقَدْ قَالَ تَعَالَى بَعْدَهَا وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ الْآيَةَ [ 5 \ 45 ] ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ فِيهِمْ ، وَمِمَّنْ قَالَ بِأَنَّ الْآيَةَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ ، وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَأَبُو مِجْلَزٍ ، وَأَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُهُمْ ، وَزَادَ الْحَسَنُ ، وَهِيَ عَلَيْنَا وَاجِبَةٌ ، نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ ، وَنَقَلَ نَحْوَ قَوْلِ الْحَسَنِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ .

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ وَ الظَّالِمُونَ وَ الْفَاسِقُونَ [ 5 \ 44 ، 45 ، 47 ] ، نَزَلَتْ كُلُّهَا فِي الْكُفَّارِ ، ثَبَتَ ذَلِكَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ، وَعَلَى هَذَا الْمُعْظَمِ ، فَأَمَّا الْمُسْلِمُ فَلَا يَكْفُرُ وَإِنِ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً ، وَقِيلَ فِيهِ إِضْمَارٌ ، أَيْ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ، رَدًّا لِلْقُرْآنِ وَجَحْدًا لِقَوْلِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ كَافِرٌ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ .

فَالْآيَةُ عَامَّةٌ عَلَى هَذَا ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَالْحَسَنُ : هِيَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَالْيَهُودِ ، وَالْكُفَّارِ ، أَيْ مُعْتَقِدًا ذَلِكَ وَمُسْتَحِلًّا لَهُ .

فَأَمَّا مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ ، وَهُوَ مُعْتَقِدٌ أَنَّهُ مُرْتَكِبُ مُحَرَّمٍ فَهُوَ مِنْ فُسَّاقِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ .

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَقَدْ فَعَلَ فِعْلًا يُضَاهِي أَفْعَالَ الْكُفَّارِ ، وَقِيلَ : أَيْ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِجَمِيعِ مَا أَنْزَلَ فَهُوَ كَافِرٌ فَأَمَّا مَنْ حَكَمَ بِالتَّوْحِيدِ ، وَلَمْ يَحْكُمْ بِبَعْضِ الشَّرَائِعِ فَلَا يَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ إِلَّا أَنَّ الشَّعْبِيَّ قَالَ : هِيَ فِي الْيَهُودِ خَاصَّةً ، وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ ، قَالَ : وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ :

مِنْهَا أَنَّ الْيَهُودَ ذَكَرُوا قَبْلَ هَذَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : لِلَّذِينَ هَادُوا [ 5 \ 44 ] فَعَادَ الضَّمِيرُ عَلَيْهِمْ .

وَمِنْهَا أَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ، أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْدَهُ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ ، فَهَذَا الضَّمِيرُ لِلْيَهُودِ بِإِجْمَاعٍ ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْيَهُودَ هُمُ الَّذِينَ أَنْكَرُوا الرَّجْمَ وَالْقِصَاصَ ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ " مَنْ " إِذَا كَانَتْ لِلْمُجَازَاةِ فَهِيَ عَامَّةٌ إِلَّا أَنْ يَقَعَ دَلِيلٌ عَلَى تَخْصِيصِهَا ، قِيلَ لَهُ : " مَنْ " هُنَا بِمَعْنَى الَّذِي ، مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ وَالتَّقْرِيرِ ; وَالْيَهُودُ الَّذِينَ لَمْ يَحْكُمُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ، فَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِي هَذَا .

[ ص: 407 ] وَيُرْوَى أَنَّ حُذَيْفَةَ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَاتِ ، أَهِيَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ ، فَقَالَ : نَعَمْ هِيَ فِيهِمْ ، وَلَتَسْلُكُنَّ سَبِيلَهُمْ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ ، وَقِيلَ : الْكَافِرُونَ لِلْمُسْلِمِينَ ، وَالظَّالِمُونَ لِلْيَهُودِ ، وَالْفَاسِقُونَ لِلنَّصَارَى ، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ ، قَالَهُ : لِأَنَّهُ ظَاهِرُ الْآيَاتِ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ ، وَابْنِ أَبِي زَائِدَةَ ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ ، وَالشَّعْبِيِّ أَيْضًا قَالَ طَاوُسٌ وَغَيْرُهُ : لَيْسَ بِكُفْرٍ يَنْقُلُ عَنِ الْمِلَّةِ ، وَلَكِنَّهُ كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ .

وَهَذَا يَخْتَلِفُ إِنْ حَكَمَ بِمَا عِنْدَهُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَهُوَ تَبْدِيلٌ لَهُ يُوجِبُ الْكُفْرَ ، وَإِنْ حَكَمَ بِهِ هَوًى وَمَعْصِيَةً فَهُوَ ذَنْبٌ تُدْرِكُهُ الْمَغْفِرَةُ عَلَى أَصْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي الْغُفْرَانِ لِلْمُذْنِبِينَ ، قَالَ الْقُشَيْرِيُّ : وَمَذْهَبُ الْخَوَارِجِ أَنَّ مَنِ ارْتَشَى ، وَحَكَمَ بِحُكْمِ غَيْرِ اللَّهِ فَهُوَ كَافِرٌ ، وَعَزَا هَذَا إِلَى الْحَسَنِ ، وَالسُّدِّيِّ ، وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا : أَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْحُكَّامِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ : أَلَّا يَتَّبِعُوا الْهَوَى ، وَأَلَّا يَخْشَوُا النَّاسَ وَيَخْشَوْهُ ، وَأَلَّا يَشْتَرُوا بِآيَاتِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ، انْتَهَى كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ .

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ - : الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ مِنْ سِيَاقِ الْآيَاتِ أَنَّ آيَةَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ، نَازِلَةٌ فِي الْمُسْلِمِينَ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ قَبْلَهَا مُخَاطِبًا لِمُسْلِمِي هَذِهِ الْأُمَّةِ : فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا ، ثُمَّ قَالَ : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ، فَالْخِطَابُ لِلْمُسْلِمِينَ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مُتَبَادِرٌ مِنْ سِيَاقِ الْآيَةِ ، وَعَلَيْهِ فَالْكُفْرُ إِمَّا كُفْرٌ دُونَ كَفْرٍ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فَعَلَ ذَلِكَ مُسْتَحِلًّا لَهُ ، أَوْ قَاصِدًا بِهِ جَحْدَ أَحْكَامِ اللَّهِ وَرَدِّهَا مَعَ الْعِلْمِ بِهَا .

أَمَّا مَنْ حَكَمَ بِغَيْرِ حُكْمِ اللَّهِ ، وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّهُ مُرْتَكِبٌ ذَنْبًا ، فَاعِلٌ قَبِيحًا ، وَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ الْهَوَى فَهُوَ مِنْ سَائِرِ عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَسِيَاقُ الْقُرْآنِ ظَاهِرٌ أَيْضًا فِي أَنَّ آيَةَ : فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ، فِي الْيَهُودِ ; لِأَنَّهُ قَالَ قَبْلَهَا : وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ .

فَالْخِطَابُ لَهُمْ لِوُضُوحِ دَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ كَمَا أَنَّهُ ظَاهِرٌ أَيْضًا فِي أَنَّ آيَةَ : فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ فِي النَّصَارَى ; لِأَنَّهُ قَالَ قَبْلَهَا : وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ .

وَاعْلَمْ أَنَّ تَحْرِيرَ الْمَقَامِ فِي هَذَا الْبَحْثِ أَنَّ الْكُفْرَ ، وَالظُّلْمَ ، وَالْفِسْقَ ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا [ ص: 408 ] رُبَّمَا أُطْلِقَ فِي الشَّرْعِ مُرَادًا بِهِ الْمَعْصِيَةُ تَارَةً ، وَالْكُفْرَ الْمُخْرِجَ مِنَ الْمِلَّةِ أُخْرَى : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ، مُعَارَضَةً لِلرُّسُلِ وَإِبْطَالًا لِأَحْكَامِ اللَّهِ ، فَظُلْمُهُ وَفِسْقُهُ وَكُفْرُهُ كُلُّهَا كُفْرٌ مُخْرِجٌ عَنِ الْمِلَّةِ ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ مُرْتَكِبٌ حَرَامًا فَاعِلٌ قَبِيحًا فَكُفْرُهُ وَظُلْمُهُ وَفِسْقُهُ غَيْرُ مُخْرِجٍ عَنِ الْمِلَّةِ ، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأُولَى فِي الْمُسْلِمِينَ ، وَالثَّانِيَةَ فِي الْيَهُودِ ، وَالثَّالِثَةَ فِي النَّصَارَى ، وَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِ الْأَلْفَاظِ لَا بِخُصُوصِ الْأَسْبَابِ ، وَتَحْقِيقُ أَحْكَامِ الْكُلِّ هُوَ مَا رَأَيْتَ ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ الْآيَةَ ، قَدْ قَدَّمْنَا احْتِجَاجَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِعُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ ، وَنَفْسُ الْآيَةِ فِيهَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْآيَةِ ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ الْآيَةَ .

وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ مِنَ الْمُتَصَدِّقِينَ الَّذِينَ تَكُونُ صَدَقَتُهُمْ كَفَّارَةٌ لَهُمْ ; لِأَنَّ الْكُفْرَ سَيِّئَةٌ لَا تَنْفَعُ مَعَهَا حَسَنَةٌ ، نَبَّهَ عَلَى هَذَا إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي فِي " أَحْكَامِ الْقُرْآنِ " ، كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي " فَتْحِ الْبَارِي " ، وَمَا ذَكَرَهُ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي مِنْ أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ أَيْضًا عَلَى عَدَمِ دُخُولِ الْعَبْدِ ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لَهُ التَّصَدُّقُ بِجُرْحِهِ ; لِأَنَّ الْحَقَّ لِسَيِّدِهِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ ; لِأَنَّ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ : إِنَّ الْأُمُورَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِبَدَنِ الْعَبْدِ ، كَالْقِصَاصِ لَهُ الْعَفْوُ فِيهَا دُونَ سَيِّدِهِ ، وَعَلَيْهِ فَلَا مَانِعَ مَنْ تَصْدُّقِهِ بِجُرْحِهِ ، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ : إِنْ مَعْنَى فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ، أَنَّ التَّصَدُّقَ بِالْجِنَايَةِ كَفَّارَةٌ لِلْجَانِي ، لَا لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ، فَلَا مَانِعَ أَيْضًا مِنَ الِاسْتِدْلَالِ الْمَذْكُورِ بِالْآيَةِ ; لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَذْكُرُ عَنِ الْكَافِرِ أَنَّهُ مُتَصَدِّقٌ ; لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا صَدَقَةَ لَهُ لِكُفْرِهِ ، وَمَا هُوَ بَاطِلٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ لَا يَذْكُرُهُ اللَّهُ تَعَالَى ، فِي مَعْرِضِ التَّقْرِيرِ وَالْإِثْبَاتِ ، مَعَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ ضَعِيفٌ فِي مَعْنَى الْآيَةِ .

وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ ، فَمَنْ بَعْدَهُمْ : عَلَى أَنَّ مَعْنَاهَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لِلْمُتَصَدِّقِ ، وَهُوَ أَظْهَرُ ; لِأَنَّ الضَّمِيرَ فِيهِ عَائِدٌ إِلَى مَذْكُورٍ ، وَذَلِكَ فِي الْمُؤْمِنِ قَطْعًا دُونَ الْكَافِرِ ، فَالِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ ظَاهِرٌ جِدًّا .

تَنْبِيهٌ

احْتَجَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ اثْنَانِ بِوَاحِدٍ ; لِأَنَّهُمَا لَوْ قُتِلَا بِهِ لَخَرَجَ عَنْ قَوْلِهِ : أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ; لِكَوْنِهِمَا نَفْسَيْنِ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ .

[ ص: 409 ] وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا مُتَمَسِّكًا بِهَذَا الدَّلِيلِ ابْنُ الزُّبَيْرِ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَابْنُ سِيرِينَ ، وَحَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ ، وَرَبِيعَةُ ، وَدَاوُدُ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَحَكَاهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَرُوِيَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ ، وَابْنِ سِيرِينَ ، وَالزُّهْرِيِّ أَنَّهُ يُقْتَلُ مِنْهُمْ وَاحِدٌ ، وَيُؤْخَذُ مِنَ الْبَاقِينَ حِصَصُهُمْ مِنَ الدِّيَةِ ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُكَافِئٌ لَهُ ، فَلَا تُسْتَوْفَى أَبْدَالٌ بِمُبْدَلٍ وَاحِدٍ ، كَمَا لَا تَجِبُ دِيَاتٌ لِمَقْتُولٍ وَاحِدٍ ، كَمَا نَقَلَهُ عَمَّنْ ذَكَرْنَا ابْنُ قُدَامَةَ فِي " الْمُغْنِي " .

وَقَالُوا مُقْتَضَى قَوْلِهِ تَعَالَى : الْحُرُّ بِالْحُرِّ [ 2 \ 178 ] ، وَقَوْلِهِ : وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ، أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ بِالنَّفْسِ أَكْثَرُ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ، قَالُوا : وَلِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِي الْأَوْصَافِ يَمْنَعُ الْقِصَاصَ ، بِدَلِيلِ عَدَمِ قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ ، وَالتَّفَاوُتَ فِي الْعَدَدِ أَوْلَى .

وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : لَا حُجَّةَ مَعَ مَنْ أَوْجَبَ قَتَلَ جَمَاعَةٍ بِوَاحِدٍ ، وَعَدَمِ قَتْلِ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ .

وَالرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ ، وَمَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ : أَنَّهُ يُقْتَلُ الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَتَلَ سَبْعَةً بِوَاحِدٍ ، وَقَالَ : لَوْ تَمَالَأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ بِهِ جَمِيعًا ، وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ تَوَقَّفَ عَنْ قِتَالِ الْحَرُورِيَّةِ حَتَّى يُحْدِثُوا ، فَلَمَّا ذَبَحُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَبَّابٍ ، كَمَا تُذْبَحُ الشَّاةُ ، وَأُخْبِرَ عَلِيٌّ بِذَلِكَ قَالَ : اللَّهُ أَكْبَرُ نَادُوهُمْ أَنْ أَخْرِجُوا إِلَيْنَا قَاتِلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خِبَّابٍ ، فَقَالُوا : كُلُّنَا قَتَلَهُ ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، فَقَالَ عَلِيٌّ لِأَصْحَابِهِ : دُونَكُمُ الْقَوْمَ ، فَمَا لَبِثَ أَنْ قَتَلَهُمْ عَلِيٌّ وَأَصْحَابُهُ ، نَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ فِي " سُنَنِهِ " .

وَيَزِيدُ قَتْلَ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " لَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ ، وَأَهْلَ الْأَرْضِ اشْتَرَكُوا فِي دَمِ مُؤْمِنٍ لَأَكَبَّهُمُ اللَّهُ فِي النَّارِ " . قَالَ فِيهِ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ غَرِيبٌ ، نَقَلَهُ عَنْهُ الْقُرْطُبِيُّ .

وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي " السُّنَنِ الْكُبْرَى " نَحْوَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا ، وَزَادَ : " إِلَّا أَنْ يَشَاءَ " ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَكْتُوبًا بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ " .

وَرُوِيَ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ ، وَالْحَسَنُ ، [ ص: 410 ] وَأَبُو سَلَمَةَ ، وَعَطَاءٌ ، وَقَتَادَةُ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي : أَنَّ الْجَمَاعَةَ تُقْتَلُ بِالْوَاحِدِ ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُمَرَ ، وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَيْضًا ، وَلَمْ يُعْلَمْ لَهُمَا مُخَالِفٌ فِي الصَّحَابَةِ ، فَصَارَ إِجْمَاعًا سُكُوتِيًّا ، وَاعْتَرَضَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ ثَبَتَ عَنْهُ عَدَمُ قَتْلِ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ .

وَإِذَنْ فَالْخِلَافُ وَاقِعٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ ، وَالْمُقَرَّرُ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الصَّحَابَةَ إِذَا اخْتَلَفُوا ، لَمْ يَجُزِ الْعَمَلُ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ إِلَّا بِتَرْجِيحٍ .

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ - : وَيَتَرَجَّحُ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ الَّذِي هُوَ قَتْلُ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ ، بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [ 2 \ 179 ] ، يَعْنِي أَنَّ مَنْ عُلِمَ أَنَّهُ يُقْتَلُ إِذَا قَتَلَ يَكُونُ ذَلِكَ رَادِعًا لَهُ وَزَاجِرًا عَنِ الْقَتْلِ ، وَلَوْ كَانَ الِاثْنَانِ لَا يُقْتَصُّ مِنْهُمَا لِلْوَاحِدِ ، لَكَانَ كُلُّ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْتُلَ مُسْلِمًا ، أَخَذَ وَاحِدًا مِنْ أَعْوَانِهِ فَقَتَلَهُ مَعَهُ ، فَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ رَادِعٌ عَنِ الْقَتْلِ ; وَبِذَلِكَ تَضِيعُ حِكْمَةُ الْقِصَاصِ مِنْ أَصْلِهَا ، مَعَ أَنَّ الْمُتَمَالِئِينَ عَلَى الْقَتْلِ يَصْدُقُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ قَاتِلٌ ، فَيُقْتَلُ ، وَيَدُلُّ لَهُ أَنَّ الْجَمَاعَةَ لَوْ قَذَفُوا وَاحِدًا لَوَجَبَ حَدُّ الْقَذْفِ عَلَى جَمِيعِهِمْ ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا شَيْئًا مِمَّا أَنْزَلَ فِي الْإِنْجِيلِ الَّذِي أَمَرَ أَهْلَ الْإِنْجِيلِ بِالْحُكْمِ بِهِ ، وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ مِنْ ذَلِكَ الْبِشَارَةَ بِمَبْعَثِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوُجُوبِ اتِّبَاعِهِ ، وَالْإِيمَانِ بِهِ كَقَوْلِهِ : وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [ 61 \ 6 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ الْآيَةَ [ 7 \ 157 ] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #65  
قديم 22-09-2021, 11:57 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,475
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (63)

سُورَةُ الْمَائِدَةِ (18)
صـ 411 إلى صـ 415


لَطِيفَةٌ لَهَا مُنَاسَبَةٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : ذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ نَصْرَانِيًّا قَالَ لِعَالِمٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ : نَاظِرْنِي فِي الْإِسْلَامِ وَالْمَسِيحِيَّةِ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ ؟ فَقَالَ الْعَالِمُ لِلنَّصْرَانِيِّ : هَلُمَّ إِلَى الْمُنَاظَرَةِ فِي ذَلِكَ ، فَقَالَ النَّصْرَانِيُّ : الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ أَحَقُّ بِالِاتِّبَاعِ أَمِ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ ؟ فَقَالَ الْعَالِمُ : الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ أَحَقُّ بِالِاتِّبَاعِ مِنَ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ ، فَقَالَ النَّصْرَانِيُّ : إِذَنْ يَلْزَمُكُمُ اتِّبَاعُ عِيسَى مَعَنَا ، وَتَرْكُ اتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّنَا نَحْنُ وَأَنْتُمْ نَتَّفِقُ عَلَى نُبُوَّةِ عِيسَى ، وَنُخَالِفُكُمْ فِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَقَالَ الْمُسْلِمُ : أَنْتُمُ الَّذِينَ تَمْتَنِعُونَ مِنْ [ ص: 411 ] اتِّبَاعِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ الَّذِي هُوَ عِيسَى قَالَ لَكُمْ : وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ، فَلَوْ كُنْتُمْ مُتَّبِعِينَ عِيسَى حَقًّا لَاتَّبَعْتُمْ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَظَهَرَ أَنَّكُمْ أَنْتُمُ الَّذِينَ لَمْ تَتَّبِعُوا الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ وَلَا غَيْرَهُ ، فَانْقَطَعَ النَّصْرَانِيُّ .

وَلَا شَكَّ أَنَّ النَّصَارَى لَوْ كَانُوا مُتَّبِعِينَ عِيسَى ، لَاتَّبَعُوا مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .

قَوْلُهُ تَعَالَى : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي النَّصَارَى ، وَالَّتِي قَبْلَهَا فِي الْيَهُودِ ، وَالَّتِي قَبْلَ تِلْكَ فِي الْمُسْلِمِينَ ، كَمَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ .

وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْكُفْرَ ، وَالظُّلْمَ ، وَالْفِسْقَ كُلَّهَا يُطْلَقُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ بِمَا دُونَ الْكُفْرِ ، وَعَلَى الْكُفْرِ الْمُخْرِجِ مِنَ الْمِلَّةِ نَفْسِهِ ، فَمِنَ الْكُفْرِ بِمَعْنَى الْمَعْصِيَةِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا سَأَلَتْهُ الْمَرْأَةُ عَنْ سَبَبِ كَوْنِ النِّسَاءِ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ ، " إِنَّ ذَلِكَ وَاقِعٌ بِسَبَبِ كُفْرِهِنَّ " ، ثُمَّ فَسَّرَهُ بِأَنَّهُنَّ يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ ، وَمِنَ الْكُفْرِ بِمَعْنَى الْمُخْرِجِ عَنِ الْمِلَّةِ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ الْآيَةَ [ 109 \ 1 ، 2 ] ، وَمِنَ الظُّلْمِ بِمَعْنَى الْكُفْرِ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [ 2 \ 254 ] ، وَقَوْلُهُ : وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ [ 10 \ 106 ] ، وَقَوْلُهُ : إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [ 31 \ 13 ] ، وَمِنْهُ بِمَعْنَى الْمَعْصِيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى : فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ الْآيَةَ [ 35 \ 32 ] ، وَمِنَ الْفِسْقِ بِمَعْنَى الْكُفْرِ قَوْلُهُ : وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا الْآيَةَ [ 32 \ 20 ] ، وَمِنْهُ بِمَعْنَى الْمَعْصِيَةِ قَوْلُهُ فِي الَّذِينَ قَذَفُوا عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - : وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [ 24 \ 4 ] .

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَذْفَ لَيْسَ بِمُخْرِجٍ عَنِ الْمِلَّةِ ، وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ [ 24 \ 11 ] ، وَمِنَ الْفِسْقِ بِمَعْنَى الْمَعْصِيَةِ أَيْضًا قَوْلُهُ فِي الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا الْآيَةَ [ 49 \ 6 ] .

وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ الْأَلْفَاظِ لَا بِخُصُوصِ الْأَسْبَابِ ، فَمَنْ كَانَ امْتِنَاعُهُ مِنَ الْحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ، لِقَصْدِ مُعَارَضَتِهِ وَرَدِّهِ ، وَالِامْتِنَاعِ مِنِ الْتِزَامِهِ فَهُوَ كَافِرٌ ظَالِمٌ فَاسِقٌ كُلُّهَا بِمَعْنَاهَا الْمُخْرِجِ مِنَ الْمِلَّةِ ، وَمَنْ كَانَ امْتِنَاعُهُ مِنَ الْحُكْمِ لِهَوًى وَهُوَ يَعْتَقِدُ قُبْحَ فِعْلِهِ ، فَكُفْرُهُ وَظُلْمُهُ وَفِسْقُهُ غَيْرُ الْمُخْرِجِ مِنَ الْمِلَّةِ ، إِلَّا إِذَا كَانَ مَا امْتَنَعَ مِنَ الْحُكْمِ بِهِ [ ص: 412 ] شَرْطًا فِي صِحَّةِ إِيمَانِهِ ، كَالِامْتِنَاعِ مِنِ اعْتِقَادِ مَا لَا بُدَّ مِنِ اعْتِقَادِهِ ، هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ ، كَمَا قَدَّمْنَا وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
قَوْلُهُ تَعَالَى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [ 5 \ 51 ] ، ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ وِلَايَةَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ زَائِفَةٌ لَيْسَتْ خَالِصَةً ; لِأَنَّهَا لَا تَسْتَنِدُ عَلَى أَسَاسٍ صَحِيحٍ ، هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ ، فَبَيَّنَ أَنَّ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ بَيْنَ النَّصَارَى دَائِمَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، بِقَوْلِهِ : وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [ 5 \ 14 ] ، وَبَيَّنَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْيَهُودِ أَيْضًا ، حَيْثُ قَالَ فِيهِمْ : وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [ 5 \ 64 ] ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا فِي الْيَهُودِ فِيمَا بَيْنَهُمْ ، كَمَا هُوَ صَرِيحُ السِّيَاقِ ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ : إِنَّهَا بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى .

وَصَرَّحَ تَعَالَى بِعَدَمِ اتِّفَاقِ الْيَهُودِ مُعَلِّلًا لَهُ بِعَدَمِ عُقُولِهِمْ فِي قَوْلِهِ : تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ [ 59 \ 14 ] .

تَنْبِيهٌ

أَخَذَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ، أَنَّ الْيَهُودِيَّ وَالنَّصْرَانِيَّ يَتَوَارَثَانِ ، وَرَدَّهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ ، بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ ، وِلَايَةُ الْيَهُودِ لِخُصُوصِ الْيَهُودِ ، وَالنَّصَارَى لِخُصُوصِ النَّصَارَى ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَلَا دَلِيلَ فِي الْآيَةِ لِتَوَارُثِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى .

قَوْلُهُ تَعَالَى : وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ، أَنَّ مَنْ تَوَلَّى الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مِنْهُمْ بِتَوَلِّيهِ إِيَّاهُمْ ، وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ تَوَلِّيَهُمْ مُوجِبٌ لِسُخْطِ اللَّهِ ، وَالْخُلُودِ فِي عَذَابِهِ ، وَأَنَّ مُتَوَلِّيَهُمْ لَوْ كَانَ مُؤْمِنًا مَا تَوَلَّاهُمْ ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [ 5 \ 80 ، 81 ] .

[ ص: 413 ] وَنَهَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عَنْ تَوَلِّيهِمْ مُبَيِّنًا سَبَبَ التَّنْفِيرِ مِنْهُ ; وَهُوَ قَوْلُهُ : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ [ 60 \ 13 ] .

وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : أَنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ ، فِيمَا إِذَا لَمْ تَكُنِ الْمُوَالَاةُ بِسَبَبِ خَوْفٍ ، وَتَقِيَّةٍ ، وَإِنْ كَانَتْ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَصَاحِبُهَا مَعْذُورٌ ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً [ 3 \ 28 ] ، فَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فِيهَا بَيَانٌ لِكُلِّ الْآيَاتِ الْقَاضِيَةِ بِمَنْعِ مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ مُطْلَقًا وَإِيضَاحٌ ; لِأَنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ ، وَأَمَّا عِنْدَ الْخَوْفِ وَالتَّقِيَّةِ ، فَيُرَخَّصُ فِي مُوَالَاتِهِمْ ، بِقَدْرِ الْمُدَارَاةِ الَّتِي يَكْتَفِي بِهَا شَرُّهُمْ ، وَيُشْتَرَطُ فِي ذَلِكَ سَلَامَةُ الْبَاطِنِ مِنْ تِلْكَ الْمُوَالَاةِ : [ الْوَافِرُ ]


وَمَنْ يَأْتِي الْأُمُورَ عَلَى اضْطِرَارٍ فَلَيْسَ كَمِثْلِ آتِيهَا اخْتِيَارًا


وَيُفْهَمُ مِنْ ظَوَاهِرِ هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ مَنْ تَوَلَّى الْكُفَّارَ عَمْدًا اخْتِيَارًا ، رَغْبَةً فِيهِمْ أَنَّهُ كَافِرٌ مِثْلَهُمْ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ .

ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ، وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ ، يَعْتَذِرُونَ عَنْ مُوَالَاةِ الْكَفَّارِ مِنَ الْيَهُودِ بِأَنَّهُمْ يَخْشَوْنَ أَنْ تَدُورَ عَلَيْهِمُ الدَّوَائِرُ ، أَيْ دُوَلُ الدَّهْرِ الدَّائِرَةُ مِنْ قَوْمٍ إِلَى قَوْمٍ ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : [ الْوَافِرُ ]


إِذَا مَا الدَّهْرُ جَرَّ عَلَى أُنَاسٍ كَلَاكِلَهُ أَنَاخَ بِآخَرِينَا


يَعْنُونَ إِمَّا بِقَحْطٍ فَلَا يَمِيرُونَنَا ، وَلَا يَتَفَضَّلُوا عَلَيْنَا ، وَإِمَّا بِظَفَرِ الْكُفَّارِ بِالْمُسْلِمِينَ ، فَلَا يَدُومُ الْأَمْرُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ ، زَعْمًا مِنْهُمْ أَنَّهُمْ عِنْدَ تَقَلُّبِ الدَّهْرِ بِنَحْوِ مَا ذُكِرَ ، يَكُونُ لَهُمْ أَصْدِقَاءُ كَانُوا مُحَافِظِينَ عَلَى صَدَاقَتِهِمْ ; فَيَنَالُونَ مِنْهُمْ مَا يُؤَمِّلُ الصَّدِيقُ مِنْ صَدِيقِهِ ، وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَتَعَجَّبُونَ مِنْ كَذِبِهِمْ فِي إِقْسَامِهِمْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ، إِنَّهُمْ لَمَعَ الْمُسْلِمِينَ ، وَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ : أَنَّ تِلْكَ الدَّوَائِرَ الَّتِي حَافَظُوا مِنْ أَجْلِهَا عَلَى صَدَاقَةِ [ ص: 414 ] الْيَهُودِ ، أَنَّهَا لَا تَدُورُ إِلَّا عَلَى الْيَهُودِ ، وَالْكُفَّارِ ، وَلَا تَدُورُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، بِقَوْلِهِ : فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ الْآيَةَ ، وَعَسَى مِنَ اللَّهِ نَافِذَةٌ ; لِأَنَّهُ الْكَرِيمُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا يُطْمَعُ إِلَّا فِيمَا يُعْطِي .

وَالْفَتْحُ الْمَذْكُورُ قِيلَ : هُوَ فَتْحُ الْمُسْلِمِينَ لِبِلَادِ الْمُشْرِكِينَ ، وَقِيلَ : الْفَتْحُ الْحُكْمُ ، كَقَوْلِهِ : رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ [ 7 \ 89 ] ، وَعَلَيْهِ فَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ بِقَتْلِ مُقَاتِلَةِ بَنِي قُرَيْظَةَ ، وَسَبْيِ ذَرَارِيِّهِمْ ، وَإِجْلَاءِ بَنِي النَّضِيرِ ، وَقِيلَ : هُوَ فَتْحُ مَكَّةَ ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْأَوَّلِ .

وَبَيَّنَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ سَبَبَ حَلِفِهِمْ بِالْكَذِبِ لِلْمُسْلِمِينَ ، أَنَّهُمْ مِنْهُمْ ، إِنَّمَا هُوَ الْفَرَقُ أَيِ الْخَوْفُ ، وَأَنَّهُمْ لَوْ وَجَدُوا مَحَلًّا يَسْتَتِرُونَ فِيهِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ لَسَارَعُوا إِلَيْهِ ؛ لِشِدَّةِ بُغْضِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ [ 9 \ 56 ، 57 ] ، فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانُ سَبَبِ أَيْمَانِ الْمُنَافِقِينَ ، وَنَظِيرُهَا قَوْلُهُ : اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً [ 58 \ 16 ] .

وَبَيَّنَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ، أَنَّهُمْ يَحْلِفُونَ تِلْكَ الْأَيْمَانَ لِيَرْضَى عَنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ ، وَأَنَّهُمْ إِنْ رَضُوا عَنْهُمْ ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنْهُمْ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [ 9 \ 96 ] .

وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِأَيْمَانِهِمْ إِرْضَاءَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَإِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَحَقُّ بِالْإِرْضَاءِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ [ 9 \ 62 ] .

وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُمْ يَحْلِفُونَ لَهُمْ لِيَرْضَوْا عَنْهُمْ ، بِسَبَبِ أَنَّ لَهُمْ عُذْرًا صَحِيحًا ، وَأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ ، لَا لِأَنَّ لَهُمْ عُذْرًا صَحِيحًا ، بَلْ مَعَ الْإِعْلَامِ بِأَنَّهُمْ رِجْسٌ ، وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ بِسَبَبِ مَا كَسَبُوا مِنَ النِّفَاقِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [ 9 \ 95 ] .

وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : أَنَّ أَيْمَانَهُمُ الْكَاذِبَةَ سَبَبٌ لِإِهْلَاكِهِمْ أَنْفُسَهُمْ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : [ ص: 415 ] وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ الْآيَةَ [ 9 \ 42 ] .

وَهَذِهِ الْأَسْبَابُ لِحَلِفِ الْمُنَافِقِينَ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ رَاجِعَةٌ جَمِيعًا إِلَى السَّبَبِ الْأَوَّلِ ، الَّذِي هُوَ الْخَوْفُ ; لِأَنَّ خَوْفَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، هُوَ سَبَبُ رَغْبَتِهِمْ فِي إِرْضَائِهِمْ ، وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْهُمْ بِأَنْ لَا يُؤْذُوهُمْ ، وَلِذَا حَلَفُوا لَهُمْ ، لِيُرْضُوهُمْ ، وَلِيُعْرِضُوا عَنْهُمْ ، خَوْفًا مِنْ أَذَاهُمْ ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ .

تَنْبِيهٌ

قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا [ 5 \ 53 ] فِيهِ ثَلَاثُ قِرَاءَاتٍ سَبْعِيَّاتٍ .

الْأُولَى : يَقُولُ بِلَا وَاوٍ مَعَ الرَّفْعِ ، وَبِهَا قَرَأَ نَافِعٌ ، وَابْنُ كَثِيرٍ ، وَابْنُ عَامِرٍ .

الثَّانِيَةُ : وَيَقُولُ بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ مَعَ رَفْعِ الْفِعْلِ أَيْضًا ، وَبِهَا قَرَأَ عَاصِمٌ ، وَحَمْزَةُ ، وَالْكِسَائِيُّ .

الثَّالِثَةُ : بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ ، وَنَصْبِ " يَقُولُ " عَطْفًا عَلَى ( أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ ) وَبِهَا قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو .
قَوْلُهُ تَعَالَى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ الْآيَةَ .

أَخْبَرَ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُمْ إِنِ ارْتَدَّ بَعْضُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي عِوَضًا عَنْ ذَلِكَ الْمُرْتَدِّ بِقَوْمٍ مِنْ صِفَاتِهِمُ الذُّلُّ لِلْمُؤْمِنِينَ ، وَالتَّوَاضُعُ لَهُمْ ، وَلِينُ الْجَانِبِ ، وَالْقَسْوَةُ وَالشِّدَّةُ عَلَى الْكَافِرِينَ ، وَهَذَا مِنْ كَمَالِ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَبِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَهُ بِلِينِ الْجَانِبِ لِلْمُؤْمِنِينَ ، بِقَوْلِهِ : وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ [ 15 \ 88 ] ، وَقَوْلِهِ : وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [ 26 \ 215 ] ، وَأَمَرَهُ بِالْقَسْوَةِ عَلَى غَيْرِهِمْ بِقَوْلِهِ : يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [ 9 \ 73 ] ، وَأَثْنَى تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ بِاللِّينِ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ : فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ الْآيَةَ [ 3 \ 159 ] ، وَصَرَّحَ بِأَنَّ ذَلِكَ الْمَذْكُورَ مِنَ اللِّينِ لِلْمُؤْمِنِينَ ، وَالشِّدَّةِ عَلَى الْكَافِرِينَ ، مِنْ صِفَاتِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، بِقَوْلِهِ : مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [ 48 \ 29 ] .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #66  
قديم 22-09-2021, 11:57 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,475
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (64)

سُورَةُ الْمَائِدَةِ (19)
صـ 416 إلى صـ 420


[ ص: 416 ] وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ فِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : [ الطَّوِيلُ ]


وَمَا حَمَلَتْ مِنْ نَاقَةٍ فَوْقَ رَحْلِهَا أَبَرَّ وَأَوْفَى ذِمَّةً مِنْ مُحَمَّدِ وَأَعْطَى إِذَا مَا طَالِبُ الْعُرْفِ جَاءَهُ
وَأَمْضَى بِحَدِّ الْمَشْرَفِيِّ الْمُهَنَّدِ


وَقَالَ الْآخَرُ فِيهِ : [ الطَّوِيلُ ]


وَمَا حَمَلَتْ مِنْ نَاقَةٍ فَوْقَ رَحْلِهَا أَشَدَّ عَلَى أَعْدَائِهِ مِنْ مُحَمَّدِ


وَيُفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَلِينَ إِلَّا فِي الْوَقْتِ الْمُنَاسِبِ لِلِّينِ ، وَأَلَّا يَشْتَدَّ إِلَّا فِي الْوَقْتِ الْمُنَاسِبِ لِلشِّدَّةِ ، لِأَنَّ اللِّينَ فِي مَحَلِّ الشِّدَّةِ ضَعْفٌ ، وَخَوَرٌ ، وَالشِّدَّةَ فِي مَحَلِّ اللِّينِ حُمْقٌ ، وَخَرَقٌ ، وَقَدْ قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ الْمُتَنَبِّي : [ الطَّوِيلُ ]


إِذَا قِيلَ حِلْمٌ قُلْ فَلِلْحِلْمِ مَوْضِعٌ وَحِلْمُ الْفَتَى فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ جَهْلُ


قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ، ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَوْ أَطَاعُوا اللَّهَ ، وَأَقَامُوا كِتَابَهُمْ بِاتِّبَاعِهِ ، وَالْعَمَلِ بِمَا فِيهِ ، لَيَسَّرَ اللَّهُ لَهُمُ الْأَرْزَاقَ ، وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمُ الْمَطَرَ ، وَأَخْرَجَ لَهُمْ ثَمَرَاتِ الْأَرْضِ .

وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ خَاصًّا بِهِمْ ، كَقَوْلِهِ عَنْ نُوحٍ وَقَوْمِهِ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [ 71 \ 11 ] ، وَقَوْلِهِ عَنْ هُودٍ وَقَوْمِهِ : وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ الْآيَةَ [ 11 \ 52 ] ، وَقَوْلِهِ عَنْ نَبِيِّنَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَقَوْمِهِ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [ 11 \ 3 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً الْآيَةَ [ 16 \ 97 ] . عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ وَقَوْلِهِ : وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [ 7 \ 96 ] ، وَقَوْلِهِ : وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [ 65 \ 2 ، 3 ] ، وَقَوْلِهِ : وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [ 20 \ 132 ] ، وَمَفْهُومُ الْآيَةِ أَنَّ مَعْصِيَةَ اللَّهِ تَعَالَى ، سَبَبٌ لِنَقِيضِ مَا [ ص: 417 ] يُسْتَجْلَبُ بِطَاعَتِهِ ، وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ الْآيَةَ [ 30 \ 41 ] ، وَنَحْوَهَا مِنَ الْآيَاتِ .

قَوْلُهُ تَعَالَى : مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ ، ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ، أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ قِسْمَانِ :

طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مُقْتَصِدَةٌ فِي عَمَلِهَا ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَيِّئُ الْعَمَلِ ، وَقَسَّمَ هَذِهِ الْأُمَّةَ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ فِي قَوْلِهِ : فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [ 35 \ 32 ] ، وَوَعَدَ الْجَمِيعَ بِالْجَنَّةِ بِقَوْلِهِ : جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ [ 35 \ 33 ] .

وَذَكَرَ الْقِسْمَ الرَّابِعَ : وَهُوَ الْكُفَّارُ مِنْهَا بِقَوْلِهِ : وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا الْآيَةَ [ 35 \ 36 ] .

وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي الْمُقْتَصِدِ ، وَالسَّابِقِ ، وَالظَّالِمِ ، أَنَّ الْمُقْتَصِدَ هُوَ مَنِ امْتَثَلَ الْأَمْرَ ، وَاجْتَنَبَ النَّهْيَ ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ ، وَأَنَّ السَّابِقَ بِالْخَيْرَاتِ هُوَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ ، وَزَادَ بِالتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ بِالنَّوَافِلِ ، وَالتَّوَرُّعِ عَنْ بَعْضِ الْجَائِزَاتِ ، خَوْفًا مِنْ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِغَيْرِهِ ، وَأَنَّ الظَّالِمَ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ : خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ الْآيَةَ [ 9 \ 102 ] ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
قَوْلُهُ تَعَالَى : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْآيَةَ .

أَمَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَبْلِيغِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ ، وَشَهِدَ لَهُ بِالِامْتِثَالِ فِي آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ ، كَقَوْلِهِ : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [ 5 \ 3 ] ، وَقَوْلِهِ : وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ [ 24 \ 54 ] ، وَقَوْلِهِ : فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ [ 51 \ 54 ] ، وَلَوْ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَكْتُمَ شَيْئًا ، لَكَتَمَ قَوْلَهُ تَعَالَى : وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ [ 33 \ 37 ] ، فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَمَ حَرْفًا مِمَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ ، فَقَدْ أَعْظَمَ الِافْتِرَاءَ عَلَى اللَّهِ ، وَعَلَى رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ الْآيَةَ .

ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَمُوا وَصَمُّوا مَرَّتَيْنِ ، تَتَخَلَّلُهُمَا [ ص: 418 ] تَوْبَةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ، وَبَيَّنَ تَفْصِيلَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ الْآيَةَ [ 17 \ 4 ] ، فَبَيَّنَ جَزَاءَ عَمَاهُمْ ، وَصَمَمِهِمْ فِي الْمَرَّةِ الْأَوْلَى بِقَوْلِهِ : فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ الْآيَةَ [ 17 \ 5 ] ، وَبَيَّنَ جَزَاءَ عَمَاهُمْ وَصَمَمِهِمْ فِي الْمَرَّةِ الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ : فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا ، وَبَيَّنَ التَّوْبَةَ الَّتِي بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِ : ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُمْ إِنْ عَادُوا إِلَى الْإِفْسَادِ عَادَ إِلَى الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ : وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا ، فَعَادُوا إِلَى الْإِفْسَادِ بِتَكْذيبِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَتْمِ صِفَاتِهِ الَّتِي فِي التَّوْرَاةِ ، فَعَادَ اللَّهُ إِلَى الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ ، فَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَبَحَ مُقَاتِلَةَ بَنِي قُرَيْظَةَ ، وَسَبَى نِسَاءَهُمْ ، وَذَرَارِيَّهُمْ ، وَأَجْلَى بَنِي قَيْنُقَاعَ ، وَبَنِي النَّضِيرِ ، كَمَا ذَكَرَ تَعَالَى طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْحَشْرِ ، وَهَذَا الْبَيَانُ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ لَمْ يَذْكُرْهُ ، وَلَكِنْ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَقْتَضِيهِ ; لِأَنَّ السِّيَاقَ فِي ذِكْرِ أَفْعَالِهِمُ الْقَبِيحَةِ الْمَاضِيَةِ ، مِنْ قَتْلِ الرُّسُلِ ، وَتَكْذِيبِهِمْ ، إِذْ قَبْلَ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ : كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ [ 5 \ 70 ] .

وَمَعْنَى وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ [ 5 \ 71 ] ، ظَنُّوا أَلَّا يُصِيبَهُمْ بَلَاءٌ وَعَذَابٌ مِنَ اللَّهِ ، بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ ، وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ ، لِزَعْمِهِمُ الْبَاطِلِ ، أَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ، وَقَوْلُهُ : كَثِيرٌ مِنْهُمْ ، أَحْسَنُ أَوْجُهِ الْإِعْرَابِ فِيهِ ; أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ وَاوِ الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ : عَمُوا وَصَمُّوا ، كَقَوْلِكَ : جَاءَ الْقَوْمُ أَكْثَرُهُمْ ، وَقَوْلُهُ : أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ ، قَرَأَهُ حَمْزَةُ ، وَالْكِسَائِيُّ ، وَأَبُو عَمْرٍو بِالرَّفْعِ ، وَالْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ ، فَوَجْهُ قِرَاءَةِ النَّصْبِ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّ الْحُسْبَانَ بِمَعْنَى الظَّنِّ ، وَوَجْهُ قِرَاءَةِ الرَّفْعِ ، تَنْزِيلُ اعْتِقَادِهِمْ لِذَلِكَ ، وَلَوْ كَانَ بَاطِلًا ، مَنْزِلَةَ الْعِلْمِ ، فَتَكُونُ أَنْ مُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
قَوْلُهُ تَعَالَى : أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ .

أَشَارَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ، إِلَى أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا : إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ [ 5 \ 73 ] ، لَوْ تَابُوا إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ ، لَتَابَ عَلَيْهِمْ ، وَغَفَرَ لَهُمْ ، لِأَنَّهُ اسْتَعْطَفَهُمْ إِلَى ذَلِكَ أَحْسَنَ اسْتِعْطَافٍ ، وَأَلْطَفَهُ بِقَوْلِهِ : أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ ، ثُمَّ أَشَارَ إِلَى أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ غَفَرَ لَهُمْ بِقَوْلِهِ : وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، وَصَرَّحَ بِهَذَا الْمَعْنَى عَامًّا لِجَمِيعِ الْكُفَّارِ بِقَوْلِهِ : [ ص: 419 ] قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ الْآيَةَ [ 8 \ 38 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ .

أَشَارَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ، إِلَى أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا : إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ [ 5 \ 73 ] ، لَوْ تَابُوا إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ ، لَتَابَ عَلَيْهِمْ ، وَغَفَرَ لَهُمْ ، لِأَنَّهُ اسْتَعْطَفَهُمْ إِلَى ذَلِكَ أَحْسَنَ اسْتِعْطَافٍ ، وَأَلْطَفَهُ بِقَوْلِهِ : أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ ، ثُمَّ أَشَارَ إِلَى أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ غَفَرَ لَهُمْ بِقَوْلِهِ : وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، وَصَرَّحَ بِهَذَا الْمَعْنَى عَامًّا لِجَمِيعِ الْكُفَّارِ بِقَوْلِهِ : [ ص: 419 ] قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ الْآيَةَ [ 8 \ 38 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ الْآيَةَ ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : الَّذِينَ لُعِنُوا عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ ، الَّذِينَ اعْتَدَوْا فِي السَّبْتِ ، وَالَّذِينَ لُعِنُوا عَلَى لِسَانِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ، هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْمَائِدَةِ ، وَعَلَيْهِ فَلَعْنُ الْأَوَّلِينَ مَسْخُهُمْ قِرَدَةً ، كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ : وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [ 2 \ 65 ] ، وَقَوْلِهِ : فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [ 7 \ 166 ] ، وَلَعْنُ الْآخَرِينَ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ : فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ [ 5 \ 115 ] ، وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّهُ مَسَخَهُمْ خَنَازِيرَ ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَرْوِيٌّ عَنِ الْحَسَنِ ، وَقَتَادَةَ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَالْبَاقِرِ ، نَقَلَهُ الْأَلُوسِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ ، وَقَالَ : وَاخْتَارَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ ، وَنَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَقَتَادَةَ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَأَبِي مَالِكٍ ، وَذَكَرَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

وَقَالَ بَعْضُ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ : إِنَّ أَهْلَ أَيْلَةَ لَمَّا اعْتَدَوْا فِي السَّبْتِ ، قَالَ دَاوُدُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : " اللَّهُمَّ أَلْبِسْهُمُ اللَّعْنَ مِثْلَ الرِّدَاءِ ، وَمِثْلَ الْمِنْطَقَةِ عَلَى الْحَقْوَيْنِ " ، فَمَسَخَهُمُ اللَّهُ قِرَدَةً ، وَأَصْحَابُ الْمَائِدَةِ لَمَّا كَفَرُوا ، قَالَ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : [ ص: 420 ] " اللَّهُمَّ عَذِّبْ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ مَا أَكَلَ مِنَ الْمَائِدَةِ عَذَابًا لَمْ تُعَذِّبْهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ، وَالْعَنْهُمْ كَمَا لَعَنْتَ أَصْحَابَ السَّبْتِ ، فَأَصْبَحُوا خَنَازِيرَ " .

وَأَنَّ هَذَا مَعْنَى لَعْنِهِمْ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ ، وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ، وَفِي الْآيَةِ أَقْوَالٌ غَيْرُ هَذَا تَرَكْنَا التَّعَرُّضَ لَهَا ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِمَّا نَحْنُ بِصَدَدِهِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ ، قَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ ، هُوَ مَا قَصَدْتُمْ عَقْدَ الْيَمِينِ فِيهِ ، لَا مَا جَرَى عَلَى أَلْسِنَتِكُمْ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ نَحْوَ " لَا وَاللَّهِ " وَ " بَلَى وَاللَّهِ " ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ : [ الطَّوِيلُ ]


وَلَسْتَ بِمَأَخُوذٍ بِلَغْوٍ تَقُولُهُ إِذَا لَمْ تَعْمَدْ عَاقِدَاتِ الْعَزَائِمِ


وَهَذَا الْعَقْدُ مَعْنَوِيٌّ ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْحُطَيْئَةِ : [ الْبَسِيطُ ]


قَوْمٌ إِذَا عَقَدُوا عَقْدًا لِجَارِهِمُ شَدُّوا الْعِنَاجَ وَشَدُّوا فَوْقَهُ الْكَرَبَا


وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ ، وَالْكِسَائِيُّ ، وَشُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ : عَقَدْتُمْ [ 5 \ 89 ] ، بِالتَّخْفِيفِ بِلَا أَلِفٍ ، وَقَرَأَهُ ابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ : عَاقَدْتُمْ بِأَلِفٍ بِوَزْنِ فَاعِلٍ ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ ، وَالتَّضْعِيفُ وَالْمُفَاعَلَةُ : مَعْنَاهُمَا مُجَرَّدُ الْفِعْلِ بِدَلِيلِ قِرَاءَةِ عَقَدْتُمْ بِلَا أَلِفٍ ، وَلَا تَضْعِيفٍ ، وَالْقِرَاءَاتُ يُبَيِّنُ بَعْضُهَا بَعْضًا ، وَ " مَا " فِي قَوْلِهِ : بِمَا عَقَّدْتُمْ مَصْدَرِيَّةٌ عَلَى التَّحْقِيقِ لَا مَوْصُولَةٌ ، كَمَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ زَاعِمًا أَنَّ ضَمِيرَ الرَّابِطِ مَحْذُوفٌ .

وَفِي الْمُرَادِ بِاللَّغْوِ فِي الْآيَةِ أَقْوَالٌ ، أَشْهَرُهَا عِنْدَ الْعُلَمَاءِ اثْنَانِ :

الْأَوَّلُ : أَنَّ اللَّغْوَ مَا يَجْرِي عَلَى لِسَانِ الْإِنْسَانِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ ، كَقَوْلِهِ : " لَا وَاللَّهِ " وَ " بَلَى وَاللَّهِ " .

وَذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ : الشَّافِعِيُّ ، وَعَائِشَةُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهَا ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ ، وَالشَّعْبِيِّ ، وَعِكْرِمَةَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ، وَأَبِي صَالِحٍ ، وَالضَّحَّاكِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ ، وَأَبِي قِلَابَةَ ، وَالزُّهْرِيِّ ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ ، وَغَيْرُهُ .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #67  
قديم 22-09-2021, 11:58 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,475
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (65)

سُورَةُ الْمَائِدَةِ (20)
صـ 421 إلى صـ 425


الْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ اللَّغْوَ هُوَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى مَا يَعْتَقِدُهُ ، فَيَظْهَرَ نَفْيُهُ ، وَهَذَا هُوَ [ ص: 421 ] مَذْهَبُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ ، وَقَالَ : إِنَّهُ أَحْسَنُ مَا سَمِعَ فِي مَعْنَى اللَّغْوِ ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَمُجَاهِدٍ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ ، وَالْحَسَنِ ، وَزُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى ، وَأَبِي مَالِكٍ ، وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ ، وَبَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، وَأَحَدِ قَوْلَيْ عِكْرِمَةَ ، وَحَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ ، وَالسُّدِّيِّ ، وَمَكْحُولٍ ، وَمُقَاتِلٍ ، وَطَاوُسٍ ، وَقَتَادَةَ ، وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ ، وَرَبِيعَةَ ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ .

وَالْقَوْلَانِ مُتَقَارِبَانِ ، وَاللَّغْوُ يَشْمَلُهُمَا ; لِأَنَّهُ فِي الْأَوَّلِ لَمْ يَقْصِدْ عَقْدَ الْيَمِينِ أَصْلًا ، وَفِي الثَّانِي لَمْ يَقْصِدْ إِلَّا الْحَقَّ وَالصَّوَابَ ، وَغَيْرُ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ مِنَ الْأَقْوَالِ تَرَكْتُهُ لِضَعْفِهِ فِي نَظَرِي ، وَاللَّغْوُ فِي اللُّغَةِ : هُوَ الْكَلَامُ بِمَا لَا خَيْرَ فِيهِ ، وَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ ، وَمِنْهُ حَدِيثُ : " إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ ، وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةَ ، أَنْصِتْ ، فَقَدْ لَغَوْتَ أَوْ لَغَيْتَ " .

وَقَوْلُ الْعَجَّاجِ : [ الرَّجَزُ ]


وَرُبَّ أَسْرَابِ حَجِيجٍ كُظَّمِ عَنِ اللَّغَا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ

مَسَائِلُ مِنْ أَحْكَامِ الْأَيْمَانِ

اعْلَمْ أَنَّ الْأَيْمَانَ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ : اثْنَانِ فِيهِمَا الْكَفَّارَةُ بِلَا خِلَافٍ ، وَاثْنَانِ مُخْتَلَفٌ فِيهِمَا .

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَا نَصُّهُ : الْأَيْمَانُ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : قِسْمَانِ فِيهِمَا الْكَفَّارَةُ ، وَقِسْمَانِ لَا كَفَّارَةَ فِيهِمَا . خَرَّجَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي " سُنَنِهِ " : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ ، حَدَّثَنَا عَبْثَرٌ عَنْ لَيْثٍ ، عَنْ حَمَّادٍ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ عَلْقَمَةَ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : الْأَيْمَانُ أَرْبَعَةٌ ، يَمِينَانِ يُكَفَّرَانِ ، وَيَمِينَانِ لَا يُكَفَّرَانِ . فَالْيَمِينَانِ اللَّذَانِ يُكَفَّرَانِ ، فَالرَّجُلُ الَّذِي يَحْلِفُ : وَاللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا فَيَفْعَلُ ، وَالرَّجُلُ يَقُولُ : وَاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا وَكَذَا ، فَلَا يَفْعَلُ . وَالْيَمِينَانِ اللَّذَانِ لَا يُكَفَّرَانِ ، فَالرَّجُلُ يَحْلِفُ : وَاللَّهِ مَا فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا ، وَقَدْ فَعَلَ ، وَالرَّجُلُ يَحْلِفُ : لَقَدْ فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا وَلَمْ يَفْعَلْهُ .

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : وَذَكَرَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ فِي " جَامِعِهِ " ، وَذَكَرَهُ الْمَرْوَزِيُّ عَنْهُ أَيْضًا ، قَالَ سُفْيَانُ : الْأَيْمَانُ أَرْبَعَةٌ ، يَمِينَانِ يُكَفَّرَانِ ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ : " وَاللَّهِ لَا [ ص: 422 ] أَفْعَلُ " ثُمَّ يَفْعَلُ ، أَوْ يَقُولَ : " وَاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ " ثُمَّ لَا يَفْعَلُ . وَيَمِينَانِ لَا يُكَفَّرَانِ ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ : " وَاللَّهِ مَا فَعَلْتُ " ، وَقَدْ فَعَلَ ، أَوْ يَقُولَ : " وَاللَّهِ لَقَدْ فَعَلْتُ " وَمَا فَعَلَ .

قَالَ الْمَرْوَزِيُّ : أَمَّا الْيَمِينَانِ الْأُولَيَانِ ، فَلَا اخْتِلَافَ فِيهِمَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى مَا قَالَ سُفْيَانُ ، وَأَمَّا الْيَمِينَانِ الْأُخْرَيَانِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيهِمَا فَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ حَلَفَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ كَذَا وَكَذَا ، أَوْ أَنَّهُ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا عِنْدَ نَفْسِهِ صَادِقًا يُرَى أَنَّهُ عَلَى مَا حَلَفَ عَلَيْهِ ، فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ مَالِكٍ ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .

وَكَذَلِكَ قَالَ أَحْمَدُ وَأَبُو عُبَيْدٍ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا إِثْمَ عَلَيْهِ ، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ .

قَالَ الْمَرْوَزِيُّ : وَلَيْسَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا بِالْقَوِيِّ ، قَالَ : وَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ كَذَا وَكَذَا ، وَقَدْ فَعَلَ ، مُتَعَمِّدًا لِلْكَذِبِ فَهُوَ آثِمٌ ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ : مَالِكٍ ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَأَبِي عُبَيْدٍ .

وَكَانَ الشَّافِعِيُّ يَقُولُ : يُكَفِّرُ ، قَالَ : وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ مِثْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ ، قَالَ الْمَرْوَزِيُّ : أَمِيلُ إِلَى قَوْلِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ ، اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنَ الْقُرْطُبِيِّ بِلَفْظِهِ ، وَهُوَ حَاصِلُ تَحْرِيرِ الْمَقَامِ فِي حَلِفِ الْإِنْسَانِ " لَأَفْعَلَنَّ " أَوْ " لَا أَفْعَلُ " .

وَأَمَّا حَلِفُهُ عَلَى وُقُوعِ أَمْرٍ غَيْرِ فِعْلِهِ ، أَوْ عَدَمِ وُقُوعِهِ ، كَأَنْ يَقُولَ : وَاللَّهِ لَقَدْ وَقَعَ فِي الْوُجُودِ كَذَا ، أَوْ لَمْ يَقَعْ فِي الْوُجُودِ كَذَا ، فَإِنْ حَلَفَ عَلَى مَاضٍ أَنَّهُ وَاقِعٌ ، وَهُوَ يَعْلَمُ عَدَمَ وُقُوعِهِ مُتَعَمِّدًا الْكَذِبَ فَهِيَ يَمِينٌ غَمُوسٌ ، وَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُ وُقُوعَهُ فَظَهَرَ نَفْيُهُ فَهِيَ مِنْ يَمِينِ اللَّغْوِ كَمَا قَدَّمْنَا ، وَإِنْ كَانَ شَاكًّا فَهُوَ كَالْغَمُوسِ ، وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ مِنَ الْغَمُوسِ .

وَإِنْ حَلَفَ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ لَا يَدْرِي أَيَقَعُ أَمْ لَا ؟ فَهُوَ كَذَلِكَ أَيْضًا يَدْخُلُ فِي يَمِينِ الْغَمُوسِ ، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ يَمِينَ الْغَمُوسِ لَا تُكَفَّرُ ; لِأَنَّهَا أَعْظَمُ إِثْمًا مِنْ أَنْ تُكَفِّرَهَا كَفَّارَةُ الْيَمِينِ .

وَقَدْ قَدَّمْنَا قَوْلَ الشَّافِعِيِّ بِالْكَفَّارَةِ فِيهَا ، وَفِيهَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَفْصِيلٌ ، وَهُوَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فِي غَيْرِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالزَّمَنِ الْمَاضِي ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْيَمِينَ مُنْقَسِمَةٌ أَيْضًا إِلَى يَمِينٍ مُنْعَقِدَةٍ عَلَى بِرٍّ ، وَيَمِينٍ مُنْعَقِدَةٍ عَلَى حِنْثٍ ، فَالْمُنْعَقِدَةُ عَلَى بِرٍّ هِيَ الَّتِي لَا يَلْزَمُ حَالِفَهَا تَحْلِيلُ الْيَمِينِ كَقَوْلِهِ : " وَاللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا " ، وَالْمُنْعَقِدَةُ عَلَى حِنْثٍ ، هِيَ الَّتِي يَلْزَمُ صَاحِبَهَا حَلُّ الْيَمِينِ بِفِعْلِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ ، أَوْ بِالْكَفَّارَةِ كَقَوْلِهِ : " وَاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا " ، وَلَا يُحْكَمُ بِحِنْثِهِ [ ص: 423 ] فِي الْمُنْعَقِدَةِ عَلَى حِنْثٍ حَتَّى يَفُوتَ إِمْكَانُ فِعْلِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ ، إِلَّا إِذَا كَانَتْ مُوَقَّتَةً بِوَقْتٍ فَيَحْنَثُ بِفَوَاتِهِ ، وَلَكِنْ إِنْ كَانَتْ بِطَلَاقٍ كَقَوْلِهِ عَلَى طَلَاقِهَا : " لَأَفْعَلَنَّ كَذَا " ، فَإِنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ وَطْئِهَا حَتَّى يَفْعَلَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَيَبَرُّ فِي يَمِينِهِ أَمْ يَحْنَثُ ؟ وَلَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَى فَرْجٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ .

وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : لَا يُمْنَعُ مِنَ الْوَطْءِ ، لِأَنَّهَا زَوْجَتُهُ ، وَالطَّلَاقُ لَمْ يَقَعْ بِالْفِعْلِ ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ أَحْمَدُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : اعْلَمْ أَنَّ الْيَمِينَ لَا تَنْعَقِدُ إِلَّا بِأَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ ، فَلَا يَجُوزُ الْقَسَمُ بِمَخْلُوقٍ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ ، أَوْ لِيَصْمُتْ " ، وَلَا تَنْعَقِدُ يَمِينٌ بِمَخْلُوقٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ ، كَمَا أَنَّهَا لَا تَجُوزُ بِإِجْمَاعِ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَبِالنَّصِّ الصَّحِيحِ الصَّرِيحِ فِي مَنْعِ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ ، فَقَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِانْعِقَادِ الْيَمِينِ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِتَوَقُّفِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ عَلَى الْإِيمَانِ بِهِ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : يُخْرَجُ مِنْ عُهْدَةِ الْيَمِينِ بِوَاحِدٍ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ :

الْأَوَّلُ : إِبْرَارُهَا بِفِعْلِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ .

الثَّانِي : الْكَفَّارَةُ ، وَهِيَ جَائِزَةٌ قَبْلَ الْحِنْثِ وَبَعْدَهُ عَلَى التَّحْقِيقِ .

الثَّالِثُ : الِاسْتِثْنَاءُ بِنَحْوِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ حِلٌّ لِلْيَمِينِ لَا بَدَلَ مِنَ الْكَفَّارَةِ ، كَمَا زَعَمَهُ ابْنُ الْمَاجِشُونِ ، وَيُشْتَرَطُ فِيهِ قَصْدُ التَّلَفُّظِ بِهِ ، وَالِاتِّصَالُ بِالْيَمِينِ ، فَلَا يُقْبَلُ الْفَصْلُ بِغَيْرِ ضَرُورِيٍّ كَالسُّعَالِ ، وَالْعُطَاسِ ، وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنْ جَوَازِ تَرَاخِي الِاسْتِثْنَاءِ .

فَالتَّحْقِيقُ فِيهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّ الْعَبْدَ يَلْزَمُهُ إِذَا قَالَ : " لَأَفْعَلَنَّ كَذَا " ، أَنْ يَقُولَ : إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ : وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [ 18 \ 23 ، 24 ] ، فَإِنْ نَسِيَ الِاسْتِثْنَاءَ بِـ " إِنْ شَاءَ " ، وَتَذَكَّرَهُ وَلَوْ بَعْدَ فَصْلٍ ، فَإِنَّهُ يَقُولُ : إِنْ شَاءَ اللَّهُ ; لِيَخْرُجَ بِذَلِكَ مِنْ عُهْدَةِ عَدَمِ تَفْوِيضِ الْأُمُورِ إِلَى اللَّهِ وَتَعْلِيقِهَا بِمَشِيئَتِهِ ، لَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يُحِلُّ الْيَمِينَ الَّتِي مَضَتْ وَانْعَقَدَتْ .

[ ص: 424 ] وَيَدُلُّ لِهَذَا أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لِأَيُّوبَ : وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ [ 38 \ 44 ] ، وَلَوْ كَانَ تَدَارُكُ الِاسْتِثْنَاءِ مُمْكِنًا لَقَالَ لَهُ قُلْ : إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَيَدُلُّ لَهُ أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا عُلِمَ انْعِقَادُ يَمِينٍ لِإِمْكَانِ أَنْ يَلْحَقَهَا الِاسْتِثْنَاءُ الْمُتَأَخِّرُ ، وَاعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِـ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ " يُفِيدُ فِي الْحَلِفِ بِاللَّهِ إِجْمَاعًا .

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي غَيْرِهِ كَالْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ وَالْعِتْقِ ، كَأَنْ يَقُولَ : إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، أَوْ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، أَوْ أَنْتِ حُرَّةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، فَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُفِيدُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ; لِأَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ أَيْمَانًا ، وَإِنَّمَا هِيَ تَعْلِيقَاتٌ لِلْعِتْقِ وَالظِّهَارِ وَالطَّلَاقِ ، وَالِاسْتِثْنَاءُ بِالْمَشِيئَةِ إِنَّمَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ فِي الْيَمِينِ دُونَ التَّعْلِيقِ ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَقَتَادَةُ ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرُهُ .

وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُفِيدُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ . وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَطَاوُسٌ ، وَحَمَّادٌ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي " الْمُغْنِي " ، وَفَرَّقَ قَوْمٌ بَيْنَ الظِّهَارِ ، وَبَيْنَ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ ; لِأَنَّ الظِّهَارَ فِيهِ كَفَّارَةٌ فَهُوَ يَمِينٌ تَنْحَلُّ بِالِاسْتِثْنَاءِ ، كَالْيَمِينِ بِاللَّهِ وَالنَّذْرِ ، وَنَقَلَهُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي " الْمُغْنِي " عَنْ أَبِي مُوسَى ، وَجَزَمَ هُوَ بِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : لَوْ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَنْ فِعْلِهِ نَاسِيًا ، فَفِيهِ لِلْعُلَمَاءِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ :

الْأَوَّلُ : لَا حِنْثَ عَلَيْهِ مُطْلَقًا ; لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ بِالنِّسْيَانِ ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ [ 33 \ 5 ] ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ " ، وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ أَعَلَّهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ تَلَقَّوْهُ بِالْقَبُولِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا ، وَيَشْهَدُ لَهُ مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ : " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَرَأَ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [ 2 \ 286 ] ، قَالَ اللَّهُ نَعَمْ " ، وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ : قَالَ اللَّهُ " قَدْ فَعَلْتُ " وَكَوْنُ مَنْ فَعَلَ نَاسِيًا لَا يَحْنَثُ هُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ، وَابْنِ أَبِي نَجِيحٍ ، وَإِسْحَاقَ ، وَرِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ ، كَمَا قَالَهُ صَاحِبُ " الْمُغْنِي " ، وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ ظَاهِرٌ لِلْأَدِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَا ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ يَحْنَثُ مُطْلَقًا ، وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَقَتَادَةُ ، وَرَبِيعَةُ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمْ صَاحِبُ [ ص: 425 ] " الْمُغْنِي " ، وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ عِنْدَ الْقَائِلِ بِهِ أَنَّهُ فَعَلَ مَا حَلَفَ لَا يَفْعَلُهُ عَمْدًا ; فَلَمَّا كَانَ عَامِدًا لِلْفِعْلِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْحِنْثِ ، لَمْ يُعْذَرْ بِنِسْيَانِهِ الْيَمِينَ ، وَلَا يَخْفَى عَدَمُ ظُهُورِهِ .

وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَبَيْنَ غَيْرِهِمَا ، فَلَا يُعْذَرُ بِالنِّسْيَانِ فِي الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ ، وَيُعْذَرُ بِهِ فِي غَيْرِهِمَا ، وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ ، كَمَا قَالَهُ صَاحِبُ " الْمُغْنِي " ، قَالَ : وَاخْتَارَهُ الْخَلَّالُ ، وَصَاحِبُهُ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ .

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : وَهَذَا الْقَوْلُ الْأَخِيرُ لَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ ; لِأَنَّ فِي الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ حَقًّا لِلَّهِ وَحَقًّا لِلْآدَمِيِّ ، وَالْحَالِفُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَمِّدًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ، وَيَدَّعِي النِّسْيَانَ ; لِأَنَّ الْعَمْدَ مِنَ الْقُصُودِ الْكَامِنَةِ الَّتِي لَا تَظْهَرُ حَقِيقَتُهَا لِلنَّاسِ ، فَلَوْ عُذِرَ بِادِّعَاءِ النِّسْيَانِ لَأَمْكَنَ تَأْدِيَةُ ذَلِكَ إِلَى ضَيَاعِ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : إِذَا حَلَفَ لَا يَفْعَلُ أَمْرًا مِنَ الْمَعْرُوفِ كَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ وَنَحْوِهِ ، فَلَيْسَ لَهُ الِامْتِنَاعُ مِنْ ذَلِكَ وَالتَّعَلُّلُ بِالْيَمِينِ ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ ، وَيَأْتِيَ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ الْآيَةَ [ 2 \ 224 ] ، أَيْ لَا تَجْعَلُوا أَيْمَانَكُمْ بِاللَّهِ تَعَالَى مَانِعَةً لَكُمْ مِنَ الْبِرِّ ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ إِذَا حَلَفْتُمْ عَلَى تَرْكِهَا ، وَنَظِيرُ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي حَلِفِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَلَّا يُنْفِقَ عَلَى مِسْطَحٍ ، لِمَا قَالَ فِي عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَا قَالَ : وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ 24 \ 22 ] .

وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " وَاللَّهِ لَأَنْ يَلِجَّ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ آثَمُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يُعْطِيَ كَفَّارَتَهُ الَّتِي افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ " ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ .

وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنِّي وَاللَّهِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَتَحَلَّلْتُهَا " ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #68  
قديم 22-09-2021, 11:59 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,475
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (66)

سُورَةُ الْمَائِدَةِ (21)
صـ 426 إلى صـ 430


وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ : " يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ ، لَا تَسْأَلِ الْإِمَارَةَ ، فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا ، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا ، وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ، وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ " ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ أَيْضًا ، وَالْأَحَادِيثُ فِي الْبَابِ كَثِيرَةٌ . وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ : [ ص: 426 ] كَفَّارَتُهَا تَرْكُهَا مُتَمَسِّكًا بِأَحَادِيثَ وَرَدَتْ فِي ذَلِكَ ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ : وَالْأَحَادِيثُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلُّهَا : " فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ " ، وَهِيَ الصِّحَاحُ ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .

قَوْلُهُ تَعَالَى : تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ، لَمْ يُقَيِّدْ هُنَا رَقَبَةٍ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ بِالْإِيمَانِ ، وَقَيَّدَ بِهِ كَفَّارَةَ الْقَتْلِ خَطَأً .

وَهَذِهِ مِنْ مَسَائِلِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ فِي حَالَةِ اتِّفَاقِ الْحُكْمِ ، مَعَ اخْتِلَافِ السَّبَبِ ، وَكَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ فِيهِ بِحَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ ، فَتَقَيُّدُ رَقَبَةِ الْيَمِينِ وَالظِّهَارِ بِالْقَيْدِ الَّذِي فِي رَقَبَةِ الْقَتْلِ خَطَأً ، حَمْلًا لِلْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ .

وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِنَا " دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ " ، فِي سُورَةِ النِّسَاءِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى : فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [ 4 \ 92 ] ; وَلِذَلِكَ لَمْ نُطِلِ الْكَلَامَ بِهَا هُنَا ، وَالْمُرَادُ بِالتَّحْرِيرِ الْإِخْرَاجُ مِنَ الرِّقِّ ، وَرُبَّمَا اسْتَعْمَلَتْهُ الْعَرَبُ فِي الْإِخْرَاجِ مِنَ الْأَسْرِ ، وَالْمَشَقَّاتِ ، وَتَعَبِ الدُّنْيَا وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَمِنْهُ قَوْلُ وَالِدَةِ مَرْيَمَ : إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا [ 3 \ 35 ] ، أَيْ مِنْ تَعَبِ أَعْمَالِ الدُّنْيَا ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ هَمَّامِ بْنِ غَالِبٍ التَّمِيمِيِّ : [ الْكَامِلُ ]


أَبَنِي غُدَانَةَ إِنَّنِي حَرَّرْتُكُمْ فَوَهَبْتُكُمْ لِعَطِيَّةَ بْنِ جِعَالِ


يَعْنِي حَرَّرْتُكُمْ مِنَ الْهِجَاءِ ، فَلَا أَهْجُوكُمْ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ الْآيَةَ .

يُفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْخَمْرَ نَجِسَةُ الْعَيْنِ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ إِنَّهَا : رِجْسٌ ، وَالرِّجْسُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كُلُّ مُسْتَقْذَرٍ تَعَافُّهُ النَّفْسُ .

وَقِيلَ : إِنَّ أَصْلَهُ مِنَ الرَّكْسِ ، وَهُوَ الْعُذْرَةُ وَالنَّتْنُ . قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : وَيَدُلُّ لِهَذَا مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي شَرَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ : وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا [ 76 \ 21 ] ; لِأَنَّ وَصْفَهُ لِشَرَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِأَنَّهُ طَهُورٌ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ خَمْرَ الدُّنْيَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ كُلَّ الْأَوْصَافِ الَّتِي مَدَحَ بِهَا تَعَالَى خَمْرَ الْآخِرَةِ مَنْفِيَّةٌ عَنْ خَمْرِ الدُّنْيَا ، كَقَوْلِهِ : لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ [ 37 \ 47 ] ، وَكَقَوْلِهِ : لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ [ 56 \ 19 ] ، بِخِلَافِ خَمْرِ الدُّنْيَا فَفِيهَا غَوْلٌ يَغْتَالُ الْعُقُولَ [ ص: 427 ] وَأَهْلُهَا يُصَدَّعُونَ ، أَيْ يُصِيبُهُمُ الصُّدَاعُ الَّذِي هُوَ وَجَعُ الرَّأْسِ بِسَبَبِهَا ، وَقَوْلُهُ : لَا يُنْزَفُونَ ، عَلَى قِرَاءَةِ فَتْحِ الزَّايِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ ، فَمَعْنَاهُ : أَنَّهُمْ لَا يَسْكَرُونَ ، وَالنَّزِيفُ السَّكْرَانُ ، وَمِنْهُ قَوْلُ حُمَيْدِ بْنِ ثَوْرٍ : [ الطَّوِيلُ ]


نَزِيفٌ تَرَى رَدْعَ الْعَبِيرِ يُجِيبُهَا كَمَا ضَرَّجَ الضَّارِي النَّزِيفَ الْمُكْلَمَا


يَعْنِي أَنَّهَا فِي ثِقَلِ حَرَكَتِهَا كَالسَّكْرَانِ ، وَأَنَّ حُمْرَةَ الْعَبِيرِ الَّذِي هُوَ الطِّيبُ فِي جَيْبِهَا كَحُمْرَةِ الدَّمِ عَلَى الطَّرِيدِ الَّذِي ضَرَّجَهُ الْجَوَارِحُ بِدَمِهِ ، فَأَصَابَهُ نَزِيفُ الدَّمِ مِنْ جُرْحِ الْجَوَارِحِ لَهُ ، وَمِنْهُ أَيْضًا قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ : [ الْمُتَقَارِبُ ]


وَإِذْ هِيَ تَمْشِي كَمَشْيِ النَّزِيفِ يَصْرَعُهُ بِالْكَثِيبِ الْبُهُرْ


وَقَوْلُهُ أَيْضًا : [ الطَّوِيلُ ]


نَزِيفٌ إِذَا قَامَتْ لِوَجْهٍ تَمَايَلَتْ تُرَاشِي الْفُؤَادَ الرَّخْصَ أَلَّا تَخْتَرَا


وَقَوْلُ ابْنِ أَبِي رَبِيعَةَ أَوْ جَمِيلٍ : [ الْكَامِلُ ]


فَلَثَمَتْ فَاهَا آخِذًا بِقُرُونِهَا شُرْبَ النَّزِيفِ بِبَرْدِ مَاءِ الْحَشْرَجِ


وَعَلَى قِرَاءَةِ يَنْزِفُونَ بِكَسْرِ الزَّايِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ لِلْعُلَمَاءِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مِنْ أَنْزَفَ الْقَوْمُ إِذَا حَانَ مِنْهُمُ النُّزْفُ وَهُوَ السُّكْرُ ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُمْ : أَحْصَدَ الزَّرْعُ إِذَا حَانَ حَصَادُهُ ، وَأَقْطَفَ الْعِنَبُ إِذَا حَانَ قِطَافُهُ ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَعْنَاهُ رَاجِعٌ إِلَى الْأَوَّلِ .

وَالثَّانِي : أَنَّهُ مِنْ أَنْزَفَ الْقَوْمُ إِذَا فَنِيَتْ خُمُورُهُمْ ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْحُطَيْئَةِ : [ الطَّوِيلُ ]


لَعَمْرِي لَئِنْ أَنْزَفْتُمُوا أَوْ صَحَوْتُمُوا لَبِئْسَ النَّدَامَى أَنْتُمْ آلٌ أَبْجَرَا


وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْخَمْرَ نَجِسَةُ الْعَيْنِ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ رَبِيعَةُ ، وَاللَّيْثُ ، وَالْمُزَنِيُّ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ ، وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْبَغْدَادِيِّينَ وَالْقَرَوِيِّينَ ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ الْقُرْطُبِيُّ فِي " تَفْسِيرِهِ " .

وَاسْتَدَلُّوا لِطَهَارَةِ عَيْنِهَا بِأَنَّ الْمَذْكُورَاتِ مَعَهَا فِي الْآيَةِ مِنْ مَالِ مَيْسِرٍ ، وَمَالِ قِمَارٍ ، وَأَنْصَابٍ ، وَأَزْلَامٍ لَيْسَتْ نَجِسَةَ الْعَيْنِ ، وَإِنْ كَانَتْ مُحَرَّمَةَ الِاسْتِعْمَالِ .

[ ص: 428 ] وَأُجِيبَ مِنْ جِهَةِ الْجُمْهُورِ بِأَنَّ قَوْلَهُ : رِجْسٌ ، يَقْتَضِي نَجَاسَةَ الْعَيْنِ فِي الْكُلِّ ، فَمَا أَخْرَجَهُ إِجْمَاعٌ ، أَوْ نَصٌّ خَرَجَ بِذَلِكَ ، وَمَا لَمْ يُخْرِجْهُ نَصٌّ وَلَا إِجْمَاعٌ لَزِمَ الْحُكْمُ بِنَجَاسَتِهِ ; لِأَنَّ خُرُوجَ بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ الْعَامُّ بِمُخَصِّصٍ مِنَ الْمُخَصِّصَاتِ ، لَا يَسْقُطُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ فِي الْبَاقِي ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ صَاحِبِ " مَرَاقِي السُّعُودِ " : [ الرَّجَزُ ]


وَهُوَ حُجَّةٌ لَدَى الْأَكْثَرِ إِنْ مُخَصِّصٌ لَهُ مُعَيِّنًا يَبِنْ


وَعَلَى هَذَا ، فَالْمُسْكِرُ الَّذِي عَمَّتِ الْبَلْوَى الْيَوْمَ بِالتَّطَيُّبِ بِهِ الْمَعْرُوفُ فِي اللِّسَانِ الدَّارِجِيِّ بِالْكُولَانْيَا نَجَسٌ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ بِهِ ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي الْمُسْكِرِ : فَاجْتَنِبُوهُ ، يَقْتَضِي الِاجْتِنَابَ الْمُطْلَقَ الَّذِي لَا يُنْتَفَعُ مَعَهُ بِشَيْءٍ مِنَ الْمُسْكِرِ ، وَمَا مَعَهُ فِي الْآيَةِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ ، كَمَا قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ .

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : لَا يَخْفَى عَلَى مُنْصِفٍ أَنَّ التَّضَمُّخَ بِالطِّيبِ الْمَذْكُورِ ، وَالتَّلَذُّذَ بِرِيحِهِ وَاسْتَطَابَتَهُ ، وَاسْتِحْسَانَهُ مَعَ أَنَّهُ مُسْكِرٌ ، وَاللَّهُ يُصَرِّحُ فِي كِتَابِهِ بِأَنَّ الْخَمْرَ رِجْسٌ فِيهِ مَا فِيهِ ، فَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَطَيَّبَ بِمَا يَسْمَعُ رَبَّهُ يَقُولُ فِيهِ : إِنَّهُ رِجْسٌ ، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِإِرَاقَةِ الْخَمْرِ فَلَوْ كَانَتْ فِيهَا مَنْفَعَةٌ أُخْرَى لَبَيَّنَهَا ، كَمَا بَيَّنَ جَوَازَ الِانْتِفَاعِ بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ ، وَلَمَا أَرَاقَهَا .

وَاعْلَمْ أَنَّ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ سَعِيدُ بْنُ الْحَدَّادِ الْقَرَوِيُّ عَلَى طَهَارَةِ عَيْنِ الْخَمْرِ بِأَنَّ الصَّحَابَةَ أَرَاقُوهَا فِي طُرُقِ الْمَدِينَةِ ; وَلَوْ كَانَتْ نَجِسَةً لَمَا فَعَلُوا ذَلِكَ ; وَلَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ ، كَمَا نَهَاهُمْ عَنِ التَّخَلِّي فِي الطُّرُقِ ، لَا دَلِيلَ لَهُ فِيهِ ، فَإِنَّهَا لَا تَعُمُّ الطُّرُقَ ، بَلْ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهَا ، لِأَنَّ الْمَدِينَةَ كَانَتْ وَاسِعَةً ، وَلَمْ تَكُنِ الْخَمْرُ كَثِيرَةً جِدًّا بِحَيْثُ تَكُونُ نَهَرًا أَوْ سَيْلًا فِي الطُّرُقِ يَعُمُّهَا كُلَّهَا ، وَإِنَّمَا أُرِيقَتْ فِي مَوَاضِعَ يَسِيرَةٍ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهَا ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ ، وَهُوَ ظَاهِرٌ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ، هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ يُفْهَمُ مِنْ دَلِيلِ خِطَابِهَا ، أَيْ مَفْهُومِ مُخَالَفَتِهَا ، أَنَّهُمْ إِنْ حَلُّوا مِنْ إِحْرَامِهِمْ جَازَ لَهُمْ قَتْلُ الصَّيْدِ ، وَهَذَا الْمَفْهُومُ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [ 5 \ 2 ] ، يَعْنِي إِنْ شِئْتُمْ ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ .

قَوْلُهُ تَعَالَى : وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا ، الْآيَةَ .

[ ص: 429 ] ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا لِقَتْلِهِ ذَاكِرًا حَرَامَهُ ، وَخَالَفَ مُجَاهِدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْجُمْهُورَ قَائِلًا : إِنَّ مَعْنَى الْآيَةِ : وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا لِقَتْلِهِ فِي حَالِ كَوْنِهِ نَاسِيًا لِإِحْرَامِهِ ، وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ [ 5 \ 95 ] ، كَمَا سَيَأْتِي إِيضَاحُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يَقُولَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ قَوْلًا ، وَيَكُونُ فِيهَا قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ ذَلِكَ الْقَوْلِ ، وَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ قَرِينَةً وَاضِحَةً دَالَّةً عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ قَوْلِ مُجَاهِدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى : لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُتَعَمِّدًا أَمْرًا لَا يَجُوزُ ، أَمَّا النَّاسِي فَهُوَ غَيْرُ آثِمٍ إِجْمَاعًا ، فَلَا يُنَاسِبُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ : لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ [ 5 \ 95 ] ، كَمَا تَرَى ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
قَوْلُهُ تَعَالَى : أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ ، الْآيَةَ .

ظَاهِرُ عُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ يَشْمَلُ إِبَاحَةَ صَيْدِ الْبَحْرِ لِلْمُحْرِمِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ ، وَهُوَ كَذَلِكَ ، كَمَا بَيَّنَهُ تَخْصِيصُهُ تَعَالَى تَحْرِيمَ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ بِصَيْدِ الْبَرِّ فِي قَوْلِهِ : وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ [ 5 \ 96 ] ، فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ صَيْدَ الْبَحْرِ لَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ .

مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِالِاصْطِيَادِ

فِي الْإِحْرَامِ أَوْ فِي الْحَرَمِ

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى مَنْعِ صَيْدِ الْبَرِّ لِلْمُحْرِمِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ .

وَهَذَا الْإِجْمَاعُ فِي مَأْكُولِ اللَّحْمِ الْوَحْشِيِّ كَالظَّبْيِ ، وَالْغَزَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَتَحْرُمُ عَلَيْهِ الْإِشَارَةُ إِلَى الصَّيْدِ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ ، لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ مَعَ قَوْمٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ حَلَالٌ وَهُمْ مُحْرِمُونَ ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُحْرِمٌ أَمَامَهُمْ ، فَأَبْصَرُوا حِمَارًا وَحْشِيًّا وَأَبُو قَتَادَةَ مَشْغُولٌ يَخْصِفُ نَعْلَهُ فَلَمْ يُؤْذُنُوهُ ، وَأَحَبُّوا لَوْ أَنَّهُ أَبْصَرَهُ فَأَبْصَرَهُ فَأَسْرَجَ فَرَسَهُ ; ثُمَّ رَكِبَ وَنَسِيَ سَوْطَهُ وَرُمْحَهُ فَقَالَ لَهُمْ : نَاوِلُونِي السَّوْطَ وَالرُّمْحَ ، فَقَالُوا : وَاللَّهِ لَا نُعِينُكَ عَلَيْهِ ، فَغَضِبَ فَنَزَلَ [ ص: 430 ] فَأَخَذَهُمَا فَرَكِبَ فَشَدَّ عَلَى الْحِمَارِ فَعَقَرَهُ ثُمَّ جَاءَ بِهِ وَقَدْ مَاتَ ، فَوَقَعُوا فِيهِ يَأْكُلُونَهُ ، ثُمَّ إِنَّهُمْ شَكُّوا فِي أَكْلِهِمْ إِيَّاهُ وَهُمْ حُرُمٌ ، فَأَدْرَكُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلُوهُ فَقَرَّرَهُمْ عَلَى أَكْلِهِ ، وَنَاوَلَهُ أَبُو قَتَادَةَ عَضُدَ الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ ، فَأَكَلَ مِنْهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَلِمُسْلِمٍ : " هَلْ أَشَارَ إِلَيْهِ إِنْسَانٌ أَوْ أَمَرَهُ بِشَيْءٍ " ، قَالُوا : لَا ، قَالَ : " فَكُلُوهُ " .

وَلِلْبُخَارِيِّ : " هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا " ، أَوْ " أَشَارَ إِلَيْهَا " قَالُوا : لَا ، قَالَ : " فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا " ، وَقَدْ أَجْمَعَ جَمِيعُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ مَا صَادَهُ مُحْرِمٌ لَا يَجُوزُ أَكْلُهُ لِلْمُحْرِمِ الَّذِي صَادَهُ ، وَلَا لِمُحْرِمٍ غَيْرِهِ ، وَلَا لِحَلَالٍ غَيْرِ مُحْرِمٍ ; لِأَنَّهُ مَيْتَةٌ .

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَكْلِ الْمُحْرِمِ مِمَّا صَادَهُ حَلَالٌ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ ، قِيلَ : لَا يَجُوزُ لَهُ الْأَكْلُ مُطْلَقًا ، وَقِيلَ : يَجُوزُ مُطْلَقًا ، وَقِيلَ : بِالتَّفْصِيلِ بَيْنَ مَا صَادَهُ لِأَجْلِهِ ، وَمَا صَادَهُ لَا لِأَجْلِهِ فَيُمْنَعُ الْأَوَّلُ دُونَ الثَّانِي .

وَاحْتَجَّ أَهْلُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِحَدِيثِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّهُ أَهْدَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِمَارًا وَحْشِيًّا وَهُوَ بِالْأَبْوَاءِ أَوْ بِوَدَّانَ ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ ، فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِهِ قَالَ : " إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حَرَامٌ " ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَلِأَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ " لَحْمَ حِمَارٍ وَحْشِيٍّ " .

وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِحَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُهْدِيَ لَهُ عُضْوٌ مِنْ لَحْمِ صَيْدٍ فَرَدَّهُ ، وَقَالَ : " إِنَّا لَا نَأْكُلُهُ إِنَّا حُرُمٌ " أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ ، وَمُسْلِمٌ ، وَأَبُو دَاوُدَ ، وَالنَّسَائِيُّ .

وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا ، وَيُرْوَى هَذَا الْقَوْلُ عَنْ عَلِيٍّ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَاللَّيْثِ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ، وَعَائِشَةَ وَغَيْرِهِمْ .

وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ : بِجَوَازِ أَكْلِ الْمُحْرِمِ مَا صَادَهُ الْحَلَالُ مُطْلَقًا ; بِعُمُومِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ بِجَوَازِ أَكْلِ الْمُحْرِمِ مِنْ صَيْدِ الْحَلَالِ ، كَحَدِيثِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ ، وَالْإِمَامِ أَحْمَدَ : أَنَّهُ كَانَ فِي قَوْمٍ مُحْرِمُونَ ، فَأُهْدِيَ لَهُمْ طَيْرٌ ، وَطَلْحَةُ رَاقِدٌ ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَكَلَ وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَرَّعَ فَلَمْ يَأْكُلْ ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ طَلْحَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَافَقَ مَنْ أَكَلَهُ وَقَالَ : أَكَلْنَاهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #69  
قديم 23-09-2021, 12:00 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,475
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (67)

سُورَةُ الْمَائِدَةِ (22)
صـ 431 إلى صـ 435


وَكَحَدِيثِ الْبَهْزِيِّ وَاسْمُهُ زَيْدُ بْنُ كَعْبٍ ، أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حِمَارٍ وَحْشِيٍّ عَقِيرٍ [ ص: 431 ] فِي بَعْضِ وَادِي الرَّوْحَاءِ وَهُوَ صَاحِبُهُ : شَأْنُكُمْ بِهَذَا الْحِمَارِ ، فَأَمَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا بَكْرٍ فَقَسَمَهُ فِي الرِّفَاقِ وَهُمْ مُحْرِمُونَ ، أَخْرَجَهُ الْإِمَامَانِ مَالِكٌ فِي " مُوَطَّئِهِ " ، وَأَحْمَدُ فِي " مَسْنَدِهِ " ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُ ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ ، وَمِمَّنْ قَالَ بِإِبَاحَتِهِ مُطْلَقًا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ .

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ وَأَقْوَاهَا دَلِيلًا ، هُوَ الْقَوْلُ الْمُفَصَّلُ بَيْنَ مَا صِيدَ لِأَجْلِ الْمُحْرِمِ ; فَلَا يَحِلُّ لَهُ ، وَبَيْنَ مَا صَادَهُ الْحَلَالُ ، لَا لِأَجْلِ الْمُحْرِمِ ; فَإِنَّهُ يَحِلُّ لَهُ .

وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا أَمْرَانِ :

الْأَوَّلُ : أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ وَاجِبٌ مَتَى مَا أَمْكَنَ ; لِأَنَّ إِعْمَالَ الدَّلِيلَيْنِ أَوْلَى مِنْ إِلْغَاءِ أَحَدِهِمَا ، وَلَا طَرِيقَ لِلْجَمْعِ إِلَّا هَذِهِ الطَّرِيقُ ، وَمَنْ عَدَلَ عَنْهَا لَا بُدَّ أَنْ يُلْغِيَ نُصُوصًا صَحِيحَةً .

الثَّانِي : أَنَّ جَابِرًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَوَى عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : " صَيْدُ الْبَرِّ لَكُمْ حَلَالٌ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ، مَا لَمْ تَصِيدُوهُ ، أَوْ يُصَدْ لَكُمْ " ، رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، وَأَبُو دَاوُدَ ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ ، وَابْنُ حِبَّانَ ، وَالْحَاكِمُ ، وَالْبَيْهَقِيُّ ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ .

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : هَذَا أَحْسَنُ حَدِيثٍ رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ وَأَقْيَسُ ، فَإِنْ قِيلَ فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ ، عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبٍ ، عَنْ مَوْلَاهُ الْمُطَّلِبِ ، عَنْ جَابِرٍ ، وَعَمْرٌو مُخْتَلَفٌ فِيهِ ، قَالَ فِيهِ النَّسَائِيُّ : لَيْسَ بِالْقَوِيِّ فِي الْحَدِيثِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ رَوَى عَنْهُ مَالِكٌ .

وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي مَوْلَاهُ الْمُطَّلِبِ أَيْضًا : لَا يُعْرَفُ لَهُ سَمَاعٌ مِنْ جَابِرٍ ، وَقَالَ فِيهِ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ، قَالَ مُحَمَّدٌ : لَا أَعْرِفُ لَهُ سَمَاعًا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ ، إِلَّا قَوْلَهُ حَدَّثَنِي مَنْ شَهِدَ خُطْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي رَدَّ هَذَا الْحَدِيثِ ; لِأَنَّ عَمْرًا الْمَذْكُورَ ثِقَةٌ ، وَهُوَ مِنْ رِجَالِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ ، وَمِمَّنْ رَوَى عَنْهُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ ثِقَةٌ ، وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّقْرِيبِ " : ثِقَةٌ رُبَّمَا وَهِمَ ، وَقَالَ فِيهِ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ " : أَمَّا تَضْعِيفُ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو فَغَيْرُ ثَابِتٍ ; لِأَنَّ الْبُخَارِيَّ ، وَمُسْلِمًا رَوَيَا لَهُ فِي صَحِيحَيْهِمَا ، وَاحْتَجَّا بِهِ ، وَهُمَا الْقُدْوَةُ فِي هَذَا الْبَابِ .

[ ص: 432 ] وَقَدِ احْتَجَّ بِهِ مَالِكٌ ، وَرَوَى عَنْهُ وَهُوَ الْقُدْوَةُ ، وَقَدْ عُرِفَ مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ لَا يَرْوِي فِي كِتَابِهِ إِلَّا عَنْ ثِقَةٍ ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِيهِ : لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ ، وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ : هُوَ ثِقَةٌ ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ : لَا بَأْسَ بِهِ .

وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ : لَا بَأْسَ بِهِ ; لِأَنَّ مَالِكًا رَوَى عَنْهُ ، وَلَا يَرْوِي مَالِكٌ إِلَّا عَنْ صَدُوقٍ ثِقَةٍ ، قُلْتُ : وَقَدْ عُرِفَ أَنَّ الْجَرْحَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا مُفَسَّرًا ، وَلَمْ يُفَسِّرْهُ ابْنُ مَعِينٍ ، وَالنَّسَائِيُّ بِمَا يُثْبِتُ تَضْعِيفَ عَمْرٍو الْمَذْكُورِ ، وَقَوْلُ التِّرْمِذِيِّ : إِنَّ مَوْلَاهُ الْمُطَّلِبَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبٍ ، لَا يُعْرَفُ لَهُ سَمَاعٌ مِنْ جَابِرٍ ، وَقَوْلُ الْبُخَارِيِّ لِلتِّرْمِذِيِّ : لَا أَعْرِفُ لَهُ سَمَاعًا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَّا قَوْلَهُ : حَدَّثَنِي مَنْ شَهِدَ خُطْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مَا يَقْتَضِي رَدَّ رِوَايَتِهِ ، لِمَا قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ مِنْ أَنَّ التَّحْقِيقَ هُوَ الِاكْتِفَاءُ بِالْمُعَاصَرَةِ .

وَلَا يَلْزَمُ ثُبُوتَ اللُّقْيِ ، وَأَحْرَى ثُبُوتُ السَّمَاعِ ، كَمَا أَوْضَحَهُ الْإِمَامُ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي مُقَدِّمَةِ " صَحِيحِهِ " ، بِمَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ ، مَعَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ ذَكَرَ فِي كَلَامِهِ هَذَا الَّذِي نَقَلَهُ عَنْهُ التِّرْمِذِيُّ ، أَنَّ الْمُطَّلِبَ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو الْمَذْكُورَ ، صَرَّحَ بِالتَّحْدِيثِ مِمَّنْ سَمِعَ خُطْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ تَصْرِيحٌ بِالسَّمَاعِ مِنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ بِلَا شَكٍّ .

وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ " : وَأَمَّا إِدْرَاكُ الْمُطَّلِبِ لِجَابِرٍ ، فَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : وَرَوَى عَنْ جَابِرٍ ، قَالَ : وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ أَدْرَكَهُ ، هَذَا هُوَ كَلَامُ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ ، فَحَصَلَ شَكٌّ فِي إِدْرَاكِهِ ، وَمَذْهَبُ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ الَّذِي ادَّعَى فِي مُقَدِّمَةِ " صَحِيحِهِ " الْإِجْمَاعَ فِيهِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي اتِّصَالِ الْحَدِيثِ اللِّقَاءُ ، بَلْ يُكْتَفَى بِإِمْكَانِهِ ، وَالْإِمْكَانُ حَاصِلٌ قَطْعًا ، وَمَذْهَبُ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ ، وَالْبُخَارِيِّ ، وَالْأَكْثَرِينَ اشْتِرَاطُ ثُبُوتِ اللِّقَاءِ ، فَعَلَى مَذْهَبِ مُسْلِمٍ الْحَدِيثُ مُتَّصِلٌ ، وَعَلَى مَذْهَبِ الْأَكْثَرِينَ يَكُونُ مُرْسَلًا لِبَعْضِ كِبَارِ التَّابِعِينَ ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ مُرْسَلَ التَّابِعِيِّ الْكَبِيرِ يُحْتَجُّ بِهِ عِنْدَنَا إِذَا اعْتَضَدَ بِقَوْلِ الصَّحَابَةِ ; أَوْ قَوْلِ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا سَبَقَ .

وَقَدِ اعْتَضَدَ هَذَا الْحَدِيثُ ، فَقَالَ بِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَنْ سَنَذْكُرُهُ فِي فَرْعِ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ . اهـ . كَلَامُ النَّوَوِيِّ ، فَظَهَرَتْ صِحَّةُ الِاحْتِجَاجِ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ عَلَى كُلِّ التَّقْدِيرَاتِ ، عَلَى مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ; لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ مِنْهُمْ هُوَ الَّذِي لَا يَحْتَجُّ [ ص: 433 ] بِالْمُرْسَلِ ، وَقَدْ عَرَفْتَ احْتِجَاجَهُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى تَقْدِيرِ إِرْسَالِهِ .

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : نَعَمْ ، يُشْتَرَطُ فِي قَبُولِ رِوَايَةِ الْمُدَلِّسِ التَّصْرِيحُ بِالسَّمَاعِ ، وَالْمُطَّلِبُ الْمَذْكُورُ مُدَلِّسٌ ، لَكِنَّ مَشْهُورَ مَذْهَبِ مَالِكٍ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَحْمَدَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى - صِحَّةُ الِاحْتِجَاجِ بِالْمُرْسَلِ ، وَلَاسِيَّمَا إِذَا اعْتَضَدَ بِغَيْرِهِ كَمَا هُنَا ، وَقَدْ عَلِمْتَ مِنْ كَلَامِ النَّوَوِيِّ مُوَافَقَةَ الشَّافِعِيَّةِ .

وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْمُرْسَلَ حُجَّةٌ بِأَنَّ الْعَدْلَ لَا يَحْذِفُ الْوَاسِطَةَ مَعَ الْجَزْمِ بِنِسْبَةِ الْحَدِيثِ لِمَنْ فَوْقَهَا ، إِلَّا وَهُوَ جَازِمٌ بِالْعَدَالَةِ وَالثِّقَةِ فِيمَنْ حَذَفَهُ ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ : إِنَّ الْمُرْسَلَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَسْنَدِ ; لِأَنَّهُ مَا حَذَفَ الْوَاسِطَةَ فِي الْمُرْسَلِ إِلَّا وَهُوَ مُتَكَفِّلٌ بِالْعَدَالَةِ وَالثِّقَةِ فِيمَا حَذَفَ بِخِلَافِ الْمُسْنَدِ ، فَإِنَّهُ يُحِيلُ النَّاظِرَ عَلَيْهِ ، وَلَا يَتَكَفَّلُ لَهُ بِالْعَدَالَةِ وَالثِّقَةِ ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ فِي " مَرَاقِي السُّعُودِ " بِقَوْلِهِ فِي مَبْحَثِ الْمُرْسَلِ : [ الرَّجَزُ ]


وَهُوَ حُجَّةٌ وَلَكِنْ رُجِّحَا عَلَيْهِ مُسْنَدٌ وَعَكْسٌ صُحِّحَا


وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ يَحْتَجُّ بِالْمُرْسَلِ يَحْتَجُّ بِعَنْعَنَةِ الْمُدَلِّسِ مِنْ بَابٍ أَوْلَى ، فَظَهَرَتْ صِحَّةُ الِاحْتِجَاجِ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ عِنْدَ مَالِكٍ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَحْمَدَ مَعَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ الْخَطِيبِ وَابْنِ عَدِيٍّ مِنْ رِوَايَةِ عُثْمَانَ بْنِ خَالِدٍ الْمَخْزُومِيِّ ، عَنْ مَالِكٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّلْخِيصِ " وَغَيْرِهِ وَهُوَ يُقَوِّيهِ .

وَإِنْ كَانَ عُثْمَانُ الْمَذْكُورُ ضَعِيفًا ; لِأَنَّ الضَّعِيفَ يُقَوِّي الْمُرْسَلَ ، كَمَا عُرِفَ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ حَدِيثَ جَابِرٍ هَذَا صَالِحٌ ، وَأَنَّهُ نَصٌّ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ ، وَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ بِعَيْنِ الْجَمْعِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَوَّلًا ، فَاتَّضَحَ بِهَذَا أَنَّ الْأَحَادِيثَ الدَّالَّةَ عَلَى مَنْعِ أَكْلِ الْمُحْرِمِ مِمَّا صَادَهُ الْحَلَالُ كُلَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّهُ صَادَهُ مِنْ أَجْلِهِ ، وَأَنَّ الْأَحَادِيثَ الدَّالَّةَ عَلَى إِبَاحَةِ الْأَكْلِ مِنْهُ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَصِدْهُ مِنْ أَجْلِهِ ، وَلَوْ صَادَهُ لِأَجْلِ مُحْرِمٍ مُعَيَّنٍ حَرُمَ عَلَى جَمِيعِ الْمُحْرِمِينَ ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ : لَا يَحْرُمُ إِلَّا عَلَى ذَلِكَ الْمُحْرِمِ الْمُعَيَّنِ الَّذِي صِيدَ مِنْ أَجْلِهِ .

وَيُرْوَى هَذَا عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَوْ يُصَدْ لَكُمْ " ، وَيَدُلُّ لِلْأَوَّلِ ظَاهِرُ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ : " هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهَا ، أَوْ أَشَارَ لَهَا ؟ " قَالُوا : لَا ، قَالَ : " فَكُلُوهُ " ، فَمَفْهُومُهُ أَنَّ إِشَارَةَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ تُحَرِّمُهُ عَلَيْهِمْ كُلِّهُمْ ، وَيَدُلُّ لَهُ أَيْضًا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ دُعِيَ وَهُوَ مُحْرِمٌ إِلَى [ ص: 434 ] طَعَامٍ عَلَيْهِ صَيْدٌ فَقَالَ : " أَطْعِمُوهُ حَلَالًا فَإِنَّا حُرُمٌ " ، وَهَذَا مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ عِنْدَ أَصْحَابِهِ مَعَ اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي ذَلِكَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : لَا تَجُوزُ زَكَاةُ الْمُحْرِمِ لِلصَّيْدِ بِأَنْ يَذْبَحَهُ مَثَلًا ، فَإِنْ ذَبَحَهُ فَهُوَ مَيْتَةٌ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ لِأَحَدٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ ، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَتْلِهِ بِالْعَقْرِ وَقَتْلِهِ بِالذَّبْحِ ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى : لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [ 5 \ 95 ] ، وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ ، وَالْقَاسِمُ ، وَسَالِمٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ ، وَقَالَ الْحَكَمُ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ : لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : هُوَ بِمَنْزِلَةِ ذَبِيحَةِ السَّارِقِ .

وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَأَيُّوبُ السَّخْتِيَانِيُّ : يَأْكُلُهُ الْحَلَالُ ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي " الْمُغْنِي " ، وَغَيْرُهُ .

وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ مَنْ أَبَاحَتْ ذَكَاتُهُ غَيْرَ الصَّيْدِ أَبَاحَتِ الصَّيْدَ كَالْحَلَالِ ، وَالظَّاهِرُ هُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ ذَبْحَ الْمُحْرِمِ لَا يُحِلُّ الصَّيْدَ ، وَلَا يُعْتَبَرُ ذَكَاةً لَهُ ; لِأَنَّ قَتْلَ الصَّيْدِ حَرَامٌ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّ ذَكَاتَهُ لَا تُحِلُّ لَهُ هُوَ أَكْلَهُ إِجْمَاعًا ، وَإِذَا كَانَ الذَّبْحُ لَا يُفِيدُ الْحِلَّ لِلذَّابِحِ ، فَأَوْلَى وَأَحْرَى أَلَّا يُفِيدَ لِغَيْرِهِ ; لِأَنَّ الْفَرْعَ تَبَعٌ لِلْأَصْلِ فِي أَحْكَامِهِ ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَثْبُتَ مَا لَا يَثْبُتُ لِأَصْلِهِ ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ ، وَهُوَ ظَاهِرٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : الْحَيَوَانُ الْبَرِّيُّ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ هُوَ صَيْدٌ إِجْمَاعًا ، وَهُوَ مَا كَالْغَزَالِ مِنْ كُلِّ وَحْشِيٍّ حَلَالِ الْأَكْلِ ، فَيُمْنَعُ قَتْلُهُ لِلْمُحْرِمِ ، وَإِنْ قَتَلَهُ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ ، وَقِسْمٌ لَيْسَ بِصَيْدٍ إِجْمَاعًا ، وَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهِ ، وَقِسْمٌ اخْتُلِفَ فِيهِ .

أَمَّا الْقِسْمُ الَّذِي لَا بَأْسَ بِقَتْلِهِ ، وَلَيْسَ بِصَيْدٍ إِجْمَاعًا فَهُوَ الْغُرَابُ ، وَالْحِدَأَةُ ، وَالْعَقْرَبُ ، وَالْفَأْرَةُ ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ .

وَأَمَّا الْقِسْمُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ : فَكَالْأَسَدِ ، وَالنَّمِرِ ، وَالْفَهْدِ ، وَالذِّئْبِ ، وَقَدْ رَوَى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ : " أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَتْلِ خَمْسِ فَوَاسَقَ فِي الْحِلِّ ، وَالْحَرَمِ : الْغُرَابُ ، وَالْحِدَأَةُ ، وَالْعَقْرَبُ ، وَالْفَأْرَةُ ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ " .

[ ص: 435 ] وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ " ، ثُمَّ عَدَّ الْخَمْسَ الْمَذْكُورَةَ آنِفًا ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْحَيَّةَ أَوْلَى بِالْقَتْلِ مِنَ الْعَقْرَبِ .

وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ : " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ مُحْرِمًا بِقَتْلِ حَيَّةٍ بِمِنًى " ، وَعَنِ ابْنِ عَمْرٍو سُئِلَ : مَا يَقْتُلُ الرَّجُلُ مِنَ الدَّوَابِّ وَهُوَ مُحْرِمٌ ؟ فَقَالَ : " حَدَّثَتْنِي إِحْدَى نِسْوَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِقَتْلِ الْكَلْبِ الْعَقُورِ ، وَالْفَأْرَةِ ، وَالْعَقْرَبِ ، وَالْحِدَأَةِ ، وَالْغُرَابِ ، وَالْحَيَّةِ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا .

وَالْأَحَادِيثُ فِي الْبَابِ كَثِيرَةٌ ، وَالْجَارِي عَلَى الْأُصُولِ تَقْيِيدُ الْغُرَابِ بِالْأَبْقَعِ ، وَهُوَ الَّذِي فِيهِ بَيَاضٌ ، لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي عَدِّ الْفَوَاسِقِ الْخَمْسِ الْمَذْكُورَةِ ، وَالْغُرَابِ الْأَبْقَعِ . وَالْمُقَرَّرُ فِي الْأُصُولِ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ ، وَمَا أَجَابَ بِهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّ رِوَايَاتِ الْغُرَابِ بِالْإِطْلَاقِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا ، فَهِيَ أَصَحُّ مِنْ رِوَايَةِ الْقَيْدِ بِالْأَبْقَعِ لَا يَنْهَضُ ، إِذْ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ مُقَيَّدٍ وَمُطْلَقٍ ; لِأَنَّ الْقَيْدَ بَيَانٌ لِلْمُرَادِ مِنَ الْمُطْلَقِ .

وَلَا عِبْرَةَ بِقَوْلِ عَطَاءٍ ، وَمُجَاهِدٍ بِمَنْعِ قَتْلِ الْغُرَابِ لِلْمُحْرِمِ ; لِأَنَّهُ خِلَافُ النَّصِّ الصَّرِيحِ الصَّحِيحِ ، وَقَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَلَا عِبْرَةَ أَيْضًا بِقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ : إِنَّ قَتْلَ الْفَأْرَةِ جَزَاءٌ ، لِمُخَالَفَتِهِ أَيْضًا لِلنَّصِّ وَقَوْلِ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ ، كَمَا لَا عِبْرَةَ أَيْضًا بِقَوْلِ الْحَكَمِ ، وَحَمَّادٍ : " لَا يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ الْعَقْرَبَ ، وَالْحَيَّةَ " ، وَلَا شَكَّ أَنَّ السِّبَاعَ الْعَادِيَّةَ كَالْأَسَدِ ، وَالنَّمِرِ ، وَالْفَهْدِ أَوْلَى بِالْقَتْلِ مِنَ الْكَلْبِ ; لِأَنَّهَا أَقْوَى مِنْهُ عَقْرًا ، وَأَشَدُّ مِنْهُ فَتْكًا .

وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ ، فَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ ، أَنَّهُ الْأَسَدُ ، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ ، وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّهُ قَالَ : وَأَيُّ كَلْبٍ أَعْقَرُ مِنَ الْحَيَّةِ .

وَقَالَ زُفَرُ : الْمُرَادُ بِهِ هُنَا الذِّئْبُ خَاصَّةً ، وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ : كُلُّ مَا عَقَرَ النَّاسَ ، وَعَدَا عَلَيْهِمْ ، وَأَخَافَهُمْ ، مِثْلُ الْأَسَدِ ، وَالنَّمِرِ ، وَالْفَهْدِ ، وَالذِّئْبِ فَهُوَ عَقُورٌ ، وَكَذَا نَقَلَ أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ سُفْيَانَ ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #70  
قديم 23-09-2021, 12:01 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,475
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (68)

سُورَةُ الْمَائِدَةِ (23)
صـ 436 إلى صـ 440


وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْمُرَادُ بِالْكَلْبِ هُنَا هُوَ الْكَلْبُ الْمُتَعَارَفُ خَاصَّةً ، وَلَا يُلْحَقُ بِهِ فِي هَذَا الْحُكْمِ سِوَى الذِّئْبِ ، وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ [ ص: 436 ] [ 5 \ 4 ] ، فَاشْتَقَّهَا مِنَ اسْمِ الْكَلْبِ ، وَبِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي وَلَدِ أَبِي لَهَبٍ : " اللَّهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْبًا مِنْ كِلَابِكَ ، فَقَتَلَهُ الْأَسَدُ " ، رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ .

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : التَّحْقِيقُ أَنَّ السِّبَاعَ الْعَادِيَّةَ لَيْسَتْ مِنَ الصَّيْدِ ، فَيَجُوزُ قَتْلُهَا لِلْمُحْرِمِ وَغَيْرِهِ فِي الْحَرَمِ وَغَيْرِهِ . لِمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ مِنْ أَنَّ الْعِلَّةَ تُعَمِّمُ مَعْلُولَهَا ; لِأَنَّ قَوْلَهُ " الْعَقُورُ " عِلَّةٌ لِقَتْلِ الْكَلْبِ ، فَيُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ كُلَّ حَيَوَانٍ طَبْعُهُ الْعَقْرُ كَذَلِكَ .

وَلِذَا لَمْ يَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ : " لَا يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ " ، أَنَّ هَذِهِ الْعِلَّةَ الَّتِي هِيَ فِي ظَاهِرِ الْحَدِيثِ الْغَضَبُ تُعَمِّمُ مَعْلُولَهَا فَيَمْتَنِعُ الْحُكْمُ لِلْقَاضِي بِكُلِّ مُشَوِّشٍ لِلْفِكْرِ ، مَانِعٍ مِنَ اسْتِيفَاءِ النَّظَرِ فِي الْمَسَائِلِ كَائِنًا مَا كَانَ غَضَبًا أَوْ غَيْرَهُ ، كَجُوعٍ وَعَطَشٍ مُفْرِطَيْنِ ، وَحُزْنٍ وَسُرُورٍ مُفْرِطَيْنِ ، وَحَقْنٍ وَحَقَبٍ مُفْرِطَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ فِي " مَرَاقِي السُّعُودِ " قَوْلُهُ فِي مَبْحَثِ الْعِلَّةِ : [ الرَّجَزُ ]


وَقَدْ تُخَصَّصُ وَقَدْ تُعَمَّمُ لِأَصْلِهَا لَكِنَّهَا لَا تُخْرَمُ


وَيَدُلُّ لِهَذَا مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَابْنُ مَاجَهْ ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ : أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَمَّا يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ فَقَالَ : " الْحَيَّةُ ، وَالْعَقْرَبُ ، وَالْفُوَيْسِقَةُ ، وَيَرْمِي الْغُرَابَ وَلَا يَقْتُلُهُ ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ ، وَالْحِدَأَةُ ، وَالسَّبُعُ الْعَادِيُّ " ، وَهَذَا الْحَدِيثُ حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ .

وَضَعَّفَ ابْنُ كَثِيرٍ رِوَايَةَ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ ، وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّلْخِيصِ " فِيهِ يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ ، وَفِيهِ لَفْظَةٌ مُنْكَرَةٌ وَهِيَ قَوْلُهُ : " وَيَرْمِي الْغُرَابَ وَلَا يَقْتُلُهُ " ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ " : إِنْ صَحَّ هَذَا الْخَبَرُ حُمِلَ قَوْلُهُ هَذَا عَلَى أَنَّهُ لَا يُتَأَكَّدُ نَدْبُ قَتْلِ الْغُرَابِ كَتَأْكِيدِ قَتْلِ الْحَيَّةِ وَغَيْرِهَا .

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : تَضْعِيفُ هَذَا الْحَدِيثِ ، وَمَنْعُ الِاحْتِجَاجِ مُتَعَقَّبٌ مِنْ وَجْهَيْنِ :

الْأَوَّلُ : أَنَّهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ ; لِأَنَّ يَزِيدَ بْنَ أَبِي زِيَادٍ مِنْ رِجَالِ صَحِيحِهِ وَأَخْرَجَ لَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا ، وَمَنْعُ الِاحْتِجَاجِ بِحَدِيثٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ لَا يَخْلُو مِنْ نَظَرٍ ، وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ فِي مُقَدِّمَةِ " صَحِيحِهِ " ، أَنَّ مَنْ أَخْرَجَ حَدِيثَهُمْ فِي غَيْرِ الشَّوَاهِدِ وَالْمُتَابَعَاتِ أَقَلُّ أَحْوَالِهِمْ قَبُولُ الرِّوَايَةِ فَيَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ مَقْبُولُ الرِّوَايَةِ ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ [ ص: 437 ] الْعِرَاقِيُّ فِي أَلْفِيَّتِهِ : [ الرَّجَزُ ]


فَاحْتَاجَ أَنْ يَنْزِلَ فِي الْإِسْنَادِ إِلَى يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادِ


الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّا لَوْ فَرَضْنَا ضَعْفَ هَذَا الْحَدِيثِ ، فَإِنَّهُ يُقَوِّيهِ مَا ثَبَتَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا مِنْ جَوَازِ قَتْلِ الْكَلْبِ الْعَقُورِ فِي الْإِحْرَامِ وَفِي الْحَرَمِ ، وَالسَّبُعُ الْعَادِيُّ إِمَّا أَنْ يَدْخُلَ فِي الْمُرَادِ بِهِ ، أَوْ يُلْحَقَ بِهِ إِلْحَاقًا صَحِيحًا لَا مِرَاءَ فِيهِ ، وَمَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ أَنَّ الْكَلْبَ الْعَقُورَ يُلْحَقُ بِهِ الذِّئْبُ فَقَطْ ; لِأَنَّهُ أَشْبَهُ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ لَا يَظْهَرُ ; لِأَنَّهُ لَا شَكَّ فِي أَنَّ فَتْكَ الْأَسَدِ وَالنَّمِرِ مَثَلًا ، أَشَدُّ مِنْ عَقْرِ الْكَلْبِ وَالذِّئْبِ ، وَلَيْسَ مِنَ الْوَاضِحِ أَنْ يُبَاحَ قَتْلُ ضَعِيفِ الضَّرَرِ ، وَيُمْنَعَ قَتْلُ قَوِيِّهِ ; لِأَنَّ فِيهِ عِلَّةَ الْحُكْمِ وَزِيَادَةً ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْإِلْحَاقِ مِنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْأُصُولِ ، لَا مِنَ الْقِيَاسِ ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَقَوْمٍ ، كَمَا قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ .

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا نَصُّهُ : قُلْتُ : الْعَجَبُ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَحْمِلُ التُّرَابَ عَلَى الْبُرِّ بِعِلَّةِ الْكَيْلِ ، وَلَا يَحْمِلُ السِّبَاعَ الْعَادِيَّةَ عَلَى الْكَلْبِ بِعِلَّةِ الْفِسْقِ وَالْعَقْرِ ، كَمَا فَعَلَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ .

وَاعْلَمْ أَنَّ الصَّيْدَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ هُوَ مَأْكُولُ اللَّحْمِ فَقَطْ ، فَلَا شَيْءَ عِنْدَهُ فِي قَتْلٍ مَا لَمْ يُؤْكَلْ لَحْمُهُ ، وَالصِّغَارُ مِنْهُ وَالْكِبَارُ عِنْدَهُ سَوَاءٌ ، إِلَّا الْمُتَوَلِّدَ مِنْ بَيْنِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ وَغَيْرِ مَأْكُولِهِ ، فَلَا يَجُوزُ اصْطِيَادُهُ عِنْدَهُ ، وَإِنْ كَانَ يَحْرُمُ أَكْلُهُ ، كَالسَّمْعِ وَهُوَ الْمُتَوَلِّدُ مِنْ بَيْنِ الذِّئْبِ وَالضَّبُعِ ، وَقَالَ : لَيْسَ فِي الرَّخَمَةِ ، وَالْخَنَافِسِ ، وَالْقِرْدَانِ ، وَالْحَلَمِ ، وَمَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ شَيْءٌ ; لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنَ الصَّيْدِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا [ 5 \ 96 ] ، فَدَلَّ أَنَّ الصَّيْدَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْهِمْ ، هُوَ مَا كَانَ حَلَالًا لَهُمْ قَبْلَ الْإِحْرَامِ ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ .

أَمَّا مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَذَهَبَ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَا لَا يَعْدُو مِنَ السِّبَاعِ ، كَالْهِرِّ ، وَالثَّعْلَبِ ، وَالضَّبُعِ وَمَا أَشْبَهَهَا ، لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ . فَإِنْ قَتَلَهُ فَدَاهُ ، قَالَ : وَصِغَارُ الذِّئَابِ لَا أَرَى أَنْ يَقْتُلَهَا الْمُحْرِمِ ، فَإِنْ قَتَلَهَا فَدَاهَا ، وَهِيَ مِثْلُ فِرَاخِ الْغِرْبَانِ .

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : أَمَّا الضَّبُعُ فَلَيْسَتْ مِثْلَ مَا ذُكِرَ مَعَهَا لِوُرُودِ النَّصِّ فِيهَا ، دُونَ غَيْرِهَا ; بِأَنَّهَا صَيْدٌ يَلْزَمُ فِيهِ الْجَزَاءُ ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

وَلَمْ يُجِزْ مَالِكٌ لِلْمُحْرِمِ قَتْلَ الزُّنْبُورِ ، وَكَذَلِكَ النَّمْلُ ، وَالذُّبَابُ ، وَالْبَرَاغِيثُ ، وَقَالَ : [ ص: 438 ] إِنْ قَتَلَهَا مُحْرِمٌ يُطْعِمُ شَيْئًا ، وَثَبَتَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِبَاحَةُ قَتْلِ الزُّنْبُورِ ، وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ شَبَّهَهُ بِالْعَقْرَبِ ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ : إِذَا ابْتَدَأَ بِالْأَذَى جَازَ قَتْلُهُ ، وَإِلَّا فَلَا ، وَأَقْيَسُهَا مَا ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ; لِأَنَّهُ مِمَّا طَبِيعَتُهُ أَنْ يُؤْذِيَ .

وَقَدْ قَدَّمْنَا عَنِ الشَّافِعِيِّ ، وَأَحْمَدَ ، وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِي غَيْرِ الصَّيْدِ الْمَأَكُولِ ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ إِذَا صَادَ الصَّيْدَ الْمُحَرَّمَ عَلَيْهِ ، فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ ، كَمَا هُوَ صَرِيحُ قَوْلِهِ تَعَالَى : فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلَكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ [ 5 \ 95 ] .

اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ : وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا ، أَنَّهُ مُتَعَمِّدٌ قَتْلَهُ ، ذَاكِرٌ إِحْرَامَهُ ، كَمَا هُوَ صَرِيحُ الْآيَةِ . وَقَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ .

وَمَا فَسَّرَهُ بِهِ مُجَاهِدٌ ، مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ مُتَعَمِّدٌ لِقَتْلِهِ نَاسٍ لِإِحْرَامِهِ ، مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَهُ : وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ ، قَالَ : لَوْ كَانَ ذَاكِرًا لِإِحْرَامِهِ ; لَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ ، وَقَالَ : إِنْ كَانَ ذَاكِرًا لِإِحْرَامِهِ ، فَقَدْ بَطَلَ حَجُّهُ لِارْتِكَابِهِ مَحْظُورَ الْإِحْرَامِ ، غَيْرُ صَحِيحٍ ، وَلَا ظَاهِرٌ لِمُخَالَفَتِهِ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ بِلَا دَلِيلٍ ; وَلِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُتَعَمِّدٌ ارْتِكَابَ الْمَحْظُورِ ، وَالنَّاسِي لِلْإِحْرَامِ غَيْرُ مُتَعَمِّدٍ مَحْظُورًا .

إِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ ، فَاعْلَمْ أَنَّ قَاتِلَ الصَّيْدِ مُتَعَمِّدًا ، عَالِمًا بِإِحْرَامِهِ ، عَلَيْهِ الْجَزَاءُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ ، بِنَصِّ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ ، خِلَافًا لِمُجَاهِدٍ ، وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ حُكْمَ النَّاسِي ، وَالْمُخْطِئِ .

وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ النَّاسِيَ هُوَ مَنْ يَقْصِدُ قَتْلَ الصَّيْدِ نَاسِيًا إِحْرَامَهُ ، وَالْمُخْطِئُ هُوَ مَنْ يَرْمِي غَيْرَ الصَّيْدِ ، كَمَا لَوْ رَمَى غَرَضًا فَيَقْتُلُ الصَّيْدَ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لِقَتْلِهِ .

وَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُمَا لَا إِثْمَ عَلَيْهِمَا ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ الْآيَةَ [ 33 \ 5 ] ، وَلِمَا قَدَّمْنَا فِي " صَحِيحٍ مُسْلِمٍ " : " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا [ ص: 439 ] قَرَأَ : رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [ 2 \ 286 ] ، أَنَّ اللَّهَ قَالَ : قَدْ فَعَلْتُ " .

أَمَّا وُجُوبُ الْجَزَاءِ عَلَيْهِمَا فَاخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ .

فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ : مِنْهُمُ الْمَالِكِيَّةُ ، وَالْحَنَفِيَّةُ ، وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ الْجَزَاءِ فِي الْخَطَإِ ، وَالنِّسْيَانِ ; لِدَلَالَةِ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ غُرْمَ الْمَتْلَفَاتِ لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الْعَامِدِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ ، وَقَالُوا : لَا مَفْهُومَ مُخَالَفَةٍ لِقَوْلِهِ مُتَعَمِّدًا ; لِأَنَّهُ جَرْيٌ عَلَى الْغَالِبِ ، إِذِ الْغَالِبُ أَلَّا يَقْتُلَ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ إِلَّا عَامِدًا ، وَجَرَى النَّصُّ عَلَى الْغَالِبِ مِنْ مَوَانِعِ اعْتِبَارِ دَلِيلِ خِطَابِهِ ، أَعْنِي مَفْهُومَ مُخَالَفَتِهِ ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ صَاحِبِ " مَرَاقِي السُّعُودِ " فِي مَوَانِعِ اعْتِبَارِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ : [ الرَّجَزُ ]


أَوْ جَهِلَ الْحُكْمَ أَوِ النُّطْقُ انْجَلَبْ لِلسُّؤْلِ أَوْ جَرَى عَلَى الَّذِي غَلَبْ


وَلِذَا لَمْ يَعْتَبِرْ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ [ 4 \ 23 ] ; لِجَرْيهِ عَلَى الْغَالِبِ ، وَقَالَ بَعْضُ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ ، كَالزُّهْرِيِّ : وَجَبَ الْجَزَاءُ فِي الْعَمْدِ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، وَفِي الْخَطَإِ وَالنِّسْيَانِ بِالسُّنَّةِ ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : إِنْ كَانَ يُرِيدُ بِالسُّنَّةِ الْآثَارَ الَّتِي وَرَدَتْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَعُمَرَ فَنِعِمَّا هِيَ ، وَمَا أَحْسَنَهَا أُسْوَةً .

وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ : بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنِ الضَّبُعِ ، فَقَالَ : " هِيَ صَيْدٌ " ، وَجَعَلَ فِيهَا إِذَا أَصَابَهَا الْمُحْرِمُ كَبْشًا ، وَلَمْ يَقُلْ عَمْدًا وَلَا خَطَأً ، فَدَلَّ عَلَى الْعُمُومِ ، وَقَالَ ابْنُ بُكَيْرٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ : قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : مُتَعَمِّدًا ، لَمْ يُرِدْ بِهِ التَّجَاوُزَ عَنِ الْخَطَإِ ، وَذِكْرُ التَّعَمُّدِ لِبَيَانِ أَنَّ الصَّيْدَ لَيْسَ كَابْنِ آدَمَ الَّذِي لَيْسَ فِي قَتْلِهِ عَمْدًا كَفَّارَةٌ .

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي " تَفْسِيرِهِ " : إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ بِوُجُوبِ الْجَزَاءِ عَلَى الْمُخْطِئِ ، وَالنَّاسِي ، وَالْعَامِدِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ ، وَطَاوُسٍ ، وَالْحَسَنِ ، وَإِبْرَاهِيمَ ، وَالزُّهْرِيِّ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَصْحَابُهُمْ .

وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ النَّاسِيَ ، وَالْمُخْطِئَ لَا جَزَاءَ عَلَيْهِمَا ، وَبِهِ قَالَ الطَّبَرَيُّ ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَهُوَ مَذْهَبُ دَاوُدَ ، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَطَاوُسٍ ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ الْقُرْطُبِيُّ .

وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَمْرَيْنِ :

[ ص: 440 ] الْأَوَّلُ : مَفْهُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا الْآيَةَ ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْمُتَعَمِّدِ لَيْسَ كَذَلِكَ .

الثَّانِي : أَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ ، فَمَنِ ادَّعَى شَغْلَهَا ، فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ .

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : هَذَا الْقَوْلُ قَوِيٌّ جِدًّا مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ وَالدَّلِيلِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : إِذَا صَادَ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ ، فَأَكَلَ مِنْهُ ، فَعَلَيْهِ جَزَاءٌ وَاحِدٌ لِقَتْلِهِ ، وَلَيْسَ فِي أَكْلِهِ إِلَّا التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ الْقَائِلِ بِأَنَّ عَلَيْهِ أَيْضًا جَزَاءَ مَا أَكَلَ ، يَعْنِي قِيمَتَهُ ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ فِي ذَلِكَ ، وَيُرْوَى مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ عَطَاءٍ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : إِذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ ، حُكِمَ عَلَيْهِ بِالْجَزَاءِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ ، فِي قَوْلِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَغَيْرُهُمْ ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا الْآيَةَ ; لِأَنَّ تَكْرَارَ الْقَتْلِ يَقْتَضِي تَكْرَارَ الْجَزَاءِ ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْجَزَاءِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً ، فَإِنْ عَادَ لِقَتْلِهِ مَرَّةً ثَانِيَةً لَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ ، وَقِيلَ لَهُ : يَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْكَ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ .

وَيُرْوَى هَذَا الْقَوْلُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ ، وَإِبْرَاهِيمُ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَشُرَيْحٌ ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ الْقُرْطُبِيُّ ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّهُ يَضْرِبُ حَتَّى يَمُوتَ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : إِذَا دَلَّ الْمُحْرِمُ حَلَالًا عَلَى صَيْدٍ فَقَتَلَهُ ، فَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ جَزَاءٌ ; لِتَسَبُّبِهِ فِي قَتْلِ الْحَلَالِ لِلصَّيْدِ بِدَلَالَتِهِ لَهُ عَلَيْهِ أَوْ لَا ؟ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ ، فَذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ الدَّالَّ يَلْزَمُهُ جَزَاؤُهُ كَامِلًا ، وَيُرْوَى نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَعَطَاءٍ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَبَكْرٍ الْمُزَنِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْقَوْلِ سُؤَالُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ : " هَلْ أَشَارَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَى أَبِي قَتَادَةَ عَلَى الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ ؟ " .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 340.82 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 334.98 كيلو بايت... تم توفير 5.84 كيلو بايت...بمعدل (1.71%)]