تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى - الصفحة 68 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         إيران عدو تاريخي للعرب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 131 )           »          الخوارج تاريخ وعقيدة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 24 - عددالزوار : 946 )           »          إنه ينادينا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 37 - عددالزوار : 11558 )           »          إيقاظ الأفئدة بذكر النار الموقدة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 143 )           »          علة حديث: (يخرج عُنُقٌ من النار) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 125 )           »          علة حديث: (من كظم غيظا وهو يستطيع أن ينفذه ) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 136 )           »          الأنفصال العاطفي بين الزوجين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 145 )           »          مقاومة السمنة في السنة النبوية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 137 )           »          الذنوب قنطرة البلايا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 140 )           »          المشقة في مخالفة السنة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 131 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير > هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن
التسجيل التعليمـــات التقويم

هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #671  
قديم 12-07-2025, 08:12 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (17)
سُورَةُ الطور
من صــ 71 الى صــ 80
الحلقة (671)






الآية : 29 - 34 {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ}
قوله تعالى : {فَذَكِّرْ} أي فذكر يا محمد قومك بالقرآن . {فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ} يعني برسالة ربك {بِكَاهِنٍ} تبتدع القول وتخبر بما في غد من غير وحي . {وَلا مَجْنُونٍ} وهذا رد لقولهم في النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فعقبة بن أبي معيط قال : إنه مجنون ، وشيبة بن ربيعة قال : إنه ساحر ، وغيرهما قال : كاهن ؛ فأكذبهم الله تعالى ورد عليهم. ثم قيل : إن معنى {فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ} القسم ؛ أي وبنعمة الله ما أنت بكاهن ولا مجنون. وقيل : ليس قسما ، وإنما هو كما تقول : ما أنت بحمد الله بجاهل ؛ أي برأك الله من ذلك.
قوله تعالى : {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ} أي بل يقولون محمد شاعر. قال سيبويه : خوطب العباد بما جرى في كلامهم. قال أبو جعفر النحاس : وهذا كلام حسن إلا أنه غير مبين ولا مشروح ؛ يريد سيبويه أن {أَمْ} في كلام العرب لخروج من حديث إلى حديث ؛ كما قال :
أتهجر غانية أم تلم
فتم الكلام ثم خرج إلى شيء آخر فقال :
أم الحبل واه بها منجذم
فما جاء في كتاب الله تعالى من هذا فمعناه التقرير والتوبيخ والخروج من حديث إلى حديث ، والنحويون يمثلونها ببل . {نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} قال قتادة : قال قوم من الكفار تربصوا
بمحمد الموت يكفيكموه كما كفى شاعر بني فلان. قال الضحاك : هؤلاء بنو عبد الدار نسبوه إلى أنه شاعر ؛ أي يهلك عن قريب كما هلك من قبل من الشعراء ، وأن أباه مات شابا فربما يموت كما مات أبوه. وقال الأخفش : نتربص به إلى ريب المنون فحذف حرف الجر ، كما تقول : قصدت زيدا وقصدت إلى زيد. والمنون : الموت في قول ابن عباس. قال أبو الغول الطهوي :
هم منعوا حمى الوقبي بضرب ... يؤلف بين أشتات المنون
أي المنايا ؛ يقول : إن الضرب يجمع بين قوم متفرقي الأمكنة لو أتتهم مناياهم في أماكنهم لأتتهم متفرقة ، فاجتمعوا في موضع واحد فأتتهم المنايا مجتمعة. وقال السدي عن أبي مالك عن ابن عباس : {رَيْبَ} في القرآن شك إلا مكانا واحدا في الطور {رَيْبَ الْمَنُونِ} يعني حوادث الأمور ؛ وقال الشاعر :
تربص بها ريب المنون لعلها ... تطلق يوما أو يموت حليلها
وقال مجاهد : {رَيْبَ الْمَنُونِ} حوادث الدهر ، والمنون هو الدهر ؛ قال أبو ذؤيب :
أمن المنون وريبه تتوجع ... والدهر ليس بمعتب من يجزع
وقال الأعشى :
أأن رأت رجلا أعشى أضربه ... ريب المنون ودهر متبل خبل
قال الأصمعي : المنون والليل والنهار ؛ وسميا بذلك لأنهما ينقصان الأعمار ويقطعان الآجال. وعنه : أنه قيل للدهر منون ، لأنه يذهب بمنة الحيوان أي قوته وكذلك المنية. أبو عبيدة : قيل للدهر منون ؛ لأنه مضعف ، من قولهم حبل منين أي ضعيف ، والمنين الغبار الضعيف. قال الفراء : والمنون مؤنثة وتكون واحدا وجمعا. الأصمعي : المنون واحد لا جماعة له.
الأخفش : هو جماعة لا واحد له ، والمنون يذكر ويؤنث ؛ فمن ذكره جعله الدهر أو الموت ، ومن أنثه فعلى الحمل على المعنى كأنه أراد المنية.
قوله تعالى : {قُلْ تَرَبَّصُوا} أي قل لهم يا محمد تربصوا أي انتظروا. {فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} أي من المنتظرين بكم العذاب ؛ فعذبوا يوم بدر بالسيف.
قوله تعالى : {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ} أي عقولهم {بِهَذَا} أي بالكذب عليك . {أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} أي أم طغوا بغير عقول. وقيل : {أَمْ} بمعنى بل ؛ أي بل كفروا طغيانا وإن ظهر لهم الحق. وقيل لعمرو بن العاص : ما بال قومك لم يؤمنوا وقد وصفهم الله بالعقل ؟ فقال : تلك عقول كادها الله ؛ أي لم يصحبها بالتوفيق. وقيل : {أَحْلامُهُمْ} أي أذهانهم ؛ لأن العقل لا يعطى للكافر ولو كان له عقل لآمن. وإنما يعطى الكافر الذهن فصار عليه حجة. والذهن يقبل العلم جملة ، والعقل يميز العلم ويقدر المقادير لحدود الأمر والنهي. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا قال : يا رسول الله ، ما أعقل فلانا النصراني! فقال : "مه إن الكافر لا عقل له أما سمعت قول الله تعالى : {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك : 10] " . وفي حديث ابن عمر : فزجره النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : "مه فإن العاقل من يعمل بطاعة الله" ذكره الترمذي الحكيم أبو عبدالله بإسناده.
قوله تعالى : {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ} أي افتعله وافتراه ، يعني القرآن. والتقول تكلف القول ، وإنما يستعمل في الكذب في غالب الأمر. ويقال قولتني ما لم أقل! وأقولتني ما لم أقل ؛ أي آدعيته علي. وتقول عليه أي كذب عليه. واقتال عليه تحكم قال :
ومنزلة في دار صدق وعبطة ... وما آقتال من حكم علي طبيب
فأم الأولى للإنكار والثانية للإيجاب أي ليس كما يقولون. {بَلْ لا يُؤْمِنُونَ} جحودا واستكبارا . {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} أي بقرآن يشبهه من تلقاء أنفسهم {إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} في أن محمدا افتراه. وقرأ الجحدري . {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} بالإضافة. والهاء في {مِثْلِهِ} للنبي
صلى الله عليه وسلم ، وأضيف الحديث الذي يراد به القرآن إليه لأنه المبعوث به. والهاء على قراءة الجماعة للقرآن. الآية : 35 - 43 {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ َمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ َمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ}
قوله تعالى : {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} {أَمْ} صلة زائدة والتقدير أخلقوا من غير شيء. قال ابن عباس : من غير رب خلقهم وقدرهم. وقيل : من غير أم ولا أب ؛ فهم كالجماد لا يعقلون ولا تقوم لله عليهم حجة ؛ ليسوا كذلك! أليس قد خلقوا من نطفة وعلقة ومضغة ؟ قاله ابن عطاء. وقال ابن كيسان : أم خلقوا عبثا وتركوا سدى مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أي لغير شيء فـ {مِنْ} بمعنى اللام. {أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} أي أيقولون إنهم خلقوا أنفسهم فهم لا يأتمرون لأمر الله وهم لا يقولون ذلك ، وإذا أقروا أن ثم خالقا غيرهم فما الذي يمنعهم من الإقرار له بالعبادة دون الأصنام ، ومن الإقرار بأنه قادر على البعث. {أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} أي ليس الأمر كذلك فإنهم لم يخلقوا شيئا {بَلْ لا يُوقِنُونَ} بالحق {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ} أم عندهم ذلك فيستغنوا عن الله ويعرضوا عن أمره. وقال ابن عباس : خزائن ربك المطر والرزق. وقيل : مفاتيح الرحمة. وقال عكرمة : النبوة. أي أفبأيديهم مفاتيح ربك بالرسالة يضعونها حيث شاؤوا. وضرب المثل بالخزائن ؛ لأن الخزانة بيت
يهيأ لجمع أنواع مختلفة من الذخائر ؛ ومقدورات الرب كالخزائن التي فيها من كل الأجناس فلا نهاية لها. {أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} قال ابن عباس : المسلطون الجبارون. وعنه أيضا : المبطلون. وقاله الضحاك. وعن ابن عباس أيضا : أم هم المتولون. عطاء : أم هم أرباب قاهرون. قال عطاء : يقال تسيطرت علي أي أتخذتني خولا لك. وقال أبو عبيدة. وفي الصحاح : المسيطر والمصيطر المسلط على الشيء ليشرف عليه ومتعهد أحواله ويكتب عمله ، وأصله من السطر ؛ لأن الكتاب يسطر والذي يفعله مسطر ومسيطر. يقال سيطرت علينا. ابن بحر : {أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} أي هم الحفظة ؛ مأخوذ من تسطير الكتاب الذي يحفظ ما كتب فيه ؛ فصار المسيطر ها هنا حافظا ما كتبه الله في اللوح المحفوظ. وفيه ثلاث لغات : الصاد وبها قرأت العامة ، والسين وهي قراءة ابن محيصن وحميد ومجاهد وقنبل وهشام وأبي حيوة ، وبإشمام الصاد الزاي وهي قراءة حمزة كما تقدم في {الصِّرَاطَ} [الفاتحة : 6] .
قوله تعالى : {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ} أي أيدعون أن لهم مرتقى إلى السماء ومصعدا وسببا {يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} أي عليه الأخبار ويصلون به إلى علم الغيب ، كما يصل إليه محمد صلى الله عليه وسلم بطريق الوحي . {فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} أي بحجة بينة أن هذا الذي هم عليه حق. والسلم واحد السلالم التي يرتقى عليها. وربما سمي الغرز بذلك ؛ قال أبو الربيس الثعلبي يصف ناقته :
مطارة قلب إن ثنى الرجل ربها ... بسلم غرز في مناخ يعاجله
وقال زهير :
ومن هاب أسباب المنية يلقها ... ولو رام أسباب السماء بسلم
وقال آخر :
تجنيت لي ذنبا وما إن جنيته ... لتتخذي عذرا إلى الهجر سلما
وقال ابن مقبل في الجمع :
لا تحرز المرء أحجاء البلاد ولا ... يبنى له في السموات السلاليم
الأحجاء النواحي مثل الأرجاء واحدها حجا ورجا مقصور. ويروى : أعناء البلاد ، والأعناء أيضا الجوانب والنواحي واحدها عنو بالكسر. وقال ابن الأعرابي : واحدها عنا مقصور. وجاءنا أعناء من الناس واحدهم عنو بالكسر ، وهم قوم من قبائل شتى. {يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} أي عليه ؛ كقوله تعالى : {فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه : 71] أي عليها ؛ قال الأخفش. وقال أبو عبيدة : يستمعون به. وقال الزجاج : أي ألهم كجبريل الذي يأتي النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي.
قوله تعالى : {أََمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} سفه أحلامهم توبيخا لهم وتقريعا. أي أتضيفون إلى الله البنات مع أنفتكم منهن ، ومن كان عقله هكذا فلا يستبعد منه إنكار البعث. {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً} أي على تبليغ الرسالة. {فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} أي فهم من المغرم الذي تطلبهم به {مُثْقَلُونَ} مجهدون لما كلفتهم به.
{أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} أي يكتبون للناس ما أرادوه من علم الغيوب. وقيل : أي أم عندهم علم ما غاب عن الناس حتى علموا أن ما أخبرهم به الرسول من أمر القيامة والجنة والنار والبعث باطل. وقال قتادة : لما قالوا نتربص به ريب المنون قال الله تعالى : {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ} حتى علموا متى يموت محمدا أو إلى ما يؤول إليه أمره. وقال ابن عباس : أم عندهم اللوح المحفوظ فهم يكتبون ما فيه ويخبرون الناس بما فيه. وقال القتبي : يكتبون يحكمون والكتاب الحكم ؛ ومنه قوله تعالى : {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام : 54] أي حكم ، وقوله عليه الصلاة والسلام : "والذي نفسي بيده لأحكمن بينكم بكتاب الله" أي بحكم الله.
قوله تعالى : {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً} أي مكرا بك في دار الندوة . {فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ} أي الممكور بهم {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ} [فاطر : 43] وذلك أنهم قتلوا ببدر. {أََمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ} يخلق ويرزق ويمنع. {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} نزه نفسه أن يكون له شريك. قال الخليل : كل ما في سورة {وَالطُّورِ} من ذكر {أَمْ} فكلمة استفهام وليس بعطف.
الآية : 44 - 46 {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ}
قوله تعالى : { وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطاً} قال ذلك جوابا لقولهم : {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ} [الشعراء : 187] ، وقولهم : {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً} [الإسراء : 92] فأعلم أنه لو فعل ذلك لقالوا : {سَحَابٌ مَرْكُومٌ}
أي بعضه فوق بعض سقط علينا وليس سماء ؛ وهذا فعل المعاند أو فعل من استولى عليه التقليد ، وكان في المشركين القسمان. والكسف جمع كسفة وهي القطعة من الشيء ؛ يقال : أعطني كسفة من ثوبك ، ويقال في جمعها أيضا : كسف. ويقال : الكسف والكسفة واحد. وقال الأخفش : من قرأ كسفا جعله واحدا ، ومن قرأ {كِسَفاً} جعله جمعا. وقد تقدم القول في هذا في "الإسراء" وغيرها والحمد لله.
قوله تعالى : {فَذَرْهُمْ} منسوخ بآية السيف. {حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ} بفتح الياء قراءة العامة ، وقرأ ابن عامر وعاصم بضمها. قال الفراء : هما لغتان صعق وصعق مثل سعد وسعد. قال قتادة : يوم يموتون. وقيل : هو يوم بدر. وقيل : يوم النفخة الأولى. وقيل : يوم القيامة يأتيهم فيه من العذاب ما يزيل عقولهم. وقيل : {يُصْعَقُونَ} بضم الياء من أصعقه الله. {يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} أي ما كادوا به النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا . {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} من الله. و {يَوْمَ} منصوب على البدل من {يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ} .
الآية : 47 - 49 {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ}
قوله تعالى : {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} أي كفروا {عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ} قيل : قبل موتهم. ابن زيد : مصائب الدنيا من الأوجاع والأسقام والبلايا وذهاب الأموال والأولاد. مجاهد : هو الجوع والجهد سبع سنين. ابن عباس : هو القتل. عنه : عذاب القبر. وقاله البراء بن عازب وعلي رضي الله عنهم. فـ {دُونَ} بمعنى غير. وقيل : عذابا أخف من عذاب الآخرة. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أن العذاب نازل بهم وقيل : {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} ما يصيرون إليه.
قوله تعالى : {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} قيل : لقضاء ربك فيما حملك من رسالته. وقيل : لبلائه فيما ابتلاك به من قومك ؛ ثم نسخ بآية السيف. {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} أي بمرأى ومنظر منا نرى ونسمع ما تقول وتفعل. وقيل : بحيث نراك ونحفظك ونحوطك ونحرسك ونرعاك. والمعنى واحد. ومنه قوله تعالى لموسى عليه السلام : {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} أي بحفظي وحراستي وقد تقدم.
قوله تعالى : {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} اختلف في تأويل قوله : {حِينَ تَقُومُ} فقال عون بن مالك وابن مسعود وعطاء وسعيد بن جبير وسفيان الثوري وأبو الأحوص : يسبح الله حين يقوم من مجلسه ؛ فيقول : سبحان الله وبحمده ، أوسبحانك اللهم وبحمدك ؛ فإن كان المجلس خيرا آزددت ثناء حسنا ، وإن كان غير ذلك كان كفارة له ؛ ودليل هذا التأويل ما خرجه الترمذي عن أبي هريرة قال : قال وسول الله صلى الله عليه وسلم : "من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه : سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك" قال : حديث
حسن صحيح غريب. وفيه عن ابن عمر قال : كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة من قبل أن يقوم : "رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور" قال حديث حسن صحيح غريب. وقال محمد بن كعب والضحاك والربيع : المعنى حين تقوم إلى الصلاة. قال الضحاك يقول : الله أكبر كبيرا ، والحمد لله كثيرا ، وسبحان الله بكرة وأصيلا. قال الكيا الطبري : وهذا فيه بعد ؛ فإن قوله : {حِينَ تَقُومُ} لا يدل على التسبيح بعد التكبير ، فإن التكبير هو الذي يكون بعد القيام ، والتسبيح يكون وراء ذلك ، فدل على أن المراد فيه حين تقوم من كل مكان كما قال ابن مسعود رضي الله عنه. وقال أبو الجوزاء وحسان بن عطية : المعنى حين تقوم من منامك. قال حسان : ليكون مفتتحا لعمله بذكر الله. وقال الكلبي : واذكر الله باللسان حين تقوم من فراشك إلى أن تدخل الصلاة وهي صلاة الفجر. وفي هذا روايات مختلفات صحاح ؛ منها حديث عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم : "من تعار في الليل فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير والحمد لله وسبحان الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال اللهم اغفر لي أودعا استجيب له فإن توضأ وصلى قبلت صلاته" خرجه البخاري. تعار الرجل من الليل : إذا هب من نومه مع صوت ؛ ومنه عار الظليم يعار عرارا وهو صوته ؛ وبعضهم يقول : عر الظليم يعر عرارا ، كما قالوا زمر النعام يزمر زمارا. عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل : "اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت رب السموات ولأرض ومن فيهن أنت الحق ووعدك الحق وقولك الحق ولقاؤك الحق والجنة حق والنار حق والساعة حق والنبيون حق ومحمد حق اللهم لك أسلمت وعليك توكلت وبك آمنت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وأسررت وأعلنت أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت ولا إله غيرك" متفق عليه. وعن ابن عباس أيضا أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا استيقظ من الليل مسح النوم من وجهه ؛ ثم قرأ العشر الآيات الأواخر من سورة "آل عمران" .
وقال زيد بن أسلم : المعنى حين تقوم من نوم القائلة لصلاة الظهر. قال ابن العربي : أما نوم القائلة فليس فيه أثر وهو ملحق بنوم الليل. وقال الضحاك : إنه التسبيح في الصلاة إذا قام إليها. الماوردي : وفي هذا التسبيح قولان : أحدهما وهو قوله سبحان ربي العظيم في الركوع وسبحان ربي الأعلى في السجود. الثاني أنه التوجه في الصلاة يقول : سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك. قال ابن العربي : من قال إنه التسبيح للصلاة فهذا أفضله ، والآثار في ذلك كثيرة أعظمها ما ثبت عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قام إلى الصلاة قال "وجهت وجهي" الحديث. وقد ذكرناه وغيره في آخر سورة "الأنعام" . وفي البخاري عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال : قلت يا رسول الله علمني دعاء أدعو به في صلاتي ؛ فقال : "قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم" .
قوله تعالى : {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} تقدم في "ق" مستوفى عند قوله تعالى : {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق : 49] . وأما {إِدْبَارَ النُّجُومِ} فقال علي وابن عباس وجابر وأنس : يعني ركعتي الفجر. فحمل بعض العلماء الآية على هذا القول على الندب وجعلها منسوخة بالصلوات الخمس. وعن الضحاك وابن زيد : أن قوله : {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} يريد به صلاة الصبح وهو آختيار الطبري. وعن ابن عباس : أنه التسبيح في آخر الصلوات. وبكسر الهمزة في {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} قرأ السبعة على المصدر حسب ما بيناه في "ق" . وقرأ سالم بن أبي الجعد ومحمد بن السميقع {وَأَدْبَارَ} بالفتح ، ومثله روي عن يعقوب وسلام وأيوب ؛ وهو جمع دبر ودبر ودبر الأمر ودبره آخره. وروى الترمذي من حديث محمد بن فضيل ، عن رشدين بن كريب عن أبيه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إدبار النجوم الركعتان قبل الفجر وإدبار السجود الركعتان بعد المغرب"




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #672  
قديم 12-07-2025, 08:16 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (17)
سُورَةُ النجم
من صــ 81 الى صــ 90
الحلقة (672)






قال : حديث غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه من حديث محمد بن فضيل عن رشدين بن كريب. وسألت محمد بن إسماعيل عن محمد بن فضيل ورشدين بن كريب أيهما أوثق ؟ فقال : ما أقربهما ، ومحمد عندي أرجح. قال : وسألت عبدالله بن عبدالرحمن عن هذا فقال : ما أقربهما ، ورشدين بن كريب أرجحهما عندي. قال الترمذي : والقول ما قال أبو محمد ورشدين بن كريب عندي أرجح من محمد وأقدم ، وقد أدرك رشدين ابن عباس ورآه. وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد معاهدة منه على ركعتين قبل الصبح. وعنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها" . تم تفسير سورة {وَالطُّورِ} والحمد لله.
سورة النجم
مقدمة السورة
مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس وقتادة : إلا آية منها وهي قوله تعالى : {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ} [النجم : 32] الآية. وقيل : اثنتان وستون آية. وقيل : إن السورة كلها مدنية. والصحيح أنها مكية لما روى ابن مسعود أنه قال : هي أول سورة أعلنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة. وفي "البخاري" عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم "سجد بالنجم ، وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس" وعن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم فسجد لها ، فما بقي أحد من القوم إلا سجد ؛ فأخذ رجل من القوم كفا من حصباء أو تراب فرفعه إلى وجهه وقال : يكفيني هذا. قال عبدالله : فلقد رأيته بعد قتل كافرا ، متفق عليه. الرجل يقال له أمية بن خلف. وفي الصحيحين عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قرأ على النبي صلى الله عليه وسلم سورة {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم : 1] فلم يسجد. وقد مضى في آخر "الأعراف" القول في هذا والحمد لله.
بسم الله الرحمن الرحيم
الآية : 1 - 10 {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى}
قوله تعالى : {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} قال ابن عباس ومجاهد : معنى {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} والثريا إذا سقطت مع الفجر ؛ والعرب تسمي الثريا نجما وإن كانت في العدد نجوما ؛ يقال : إنها سبعة أنجم ، ستة منها ظاهرة وواحد خفي يمتحن الناس به أبصارهم. وفي "الشفا" للقاضي عياض : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرى في الثريا أحد عشر نجما. وعن مجاهد أيضا أن المعنى والقرآن إذا نزل ؛ لأنه كان ينزل نجوما. وقاله الفراء. وعنه أيضا : يعني نجوم السماء كلها حين تغرب. وهو قول الحسن قال : أقسم الله بالنجوم إذا غابت. وليس يمتنع أن يعبر عنها بلفظ واحد ومعناه جمع ؛ كقول الراعي :
فباتت تعد النجم في مستحيرةوقال ... سريع بأيدي الآكلين جمودها
عمر بن أبي ربيعة :
أحسن النجم في السماء الثريا ... والثريا في الأرض زين النساء
وقال الحسن أيضا : المراد بالنجم النجوم إذا سقطت يوم القيامة. وقال السدي : إن النجم ههنا الزهرة لأن قوما من العرب كانوا يعبدونها. وقيل : المراد به النجوم التي ترجم بها الشياطين ؛ وسببه أن الله تعالى لما أراد بعث محمد صلى الله عليه وسلم رسولا كثر انقضاض الكواكب قبل مولده ، فذعر أكثر العرب منها - وفزعوا إلى كاهن كان لهم ضريرا ، كان يخبرهم بالحوادث فسألوه عنها فقال : انظروا البروج الاثني عشر فإن انقضى
منها شيء فهو ذهاب الدنيا ، فإن لم ينقض منها شيء فسيحدث في الدنيا أمر عظيم ، فاستشعروا ذلك ؛ فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو الأمر العظيم الذي استشعروه ، فأنزل الله تعالى : {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} أي ذلك النجم الذي هوى هو لهذه النبوة التي حدثت. وقيل : النجم هنا هو النبت الذي ليس له ساق ، وهوى أي سقط على الأرض. وقال جعفر بن محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنهم : {وَالنَّجْمِ} يعني محمدا صلى الله عليه وسلم {إِذَا هَوَى} إذا نزل من السماء ليلة المعراج. وعن عروة ابن الزبير رضي الله عنهما أن عتبة بن أبي لهب وكان تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد الخروج إلى الشام فقال : لآتين محمدا فلأوذينه ، فأتاه فقال : يا محمد هو كافر بالنجم إذا هوى ، وبالذي دنا فتدلى. ثم تفل في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورد عليه ابنته وطلقها ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اللهم سلط عليه كلبا من كلابك" وكان أبو طالب حاضرا فوجم لها وقال : ما كان أغناك يا ابن أخي عن هذه الدعوة ، فرجع عتبة إلى أبيه فأخبره ، ثم خرجوا إلى الشام ، فنزلوا منزلا ، فأشرف عليهم راهب من الدير فقال لهم : إن هذه أرض مسبعة. فقال أبو لهب لأصحابه : أغيثونا يا معشر قريش هذه الليلة! فإني أخاف على ابني من دعوة محمد ؛ فجمعوا جمالهم وأناخوها حولهم ، وأحدقوا بعتبة ، فجاء الأسد يتشمم وجوههم حتى ضرب عتبة فقتله. وقال حسان :
من يرجع العام إلى أهله ... فما أكيل السبع بالراجع
وأصل النجم الطلوع ؛ يقال : نجم السن ونجم فلان ببلاد كذا أي خرج على السلطان. والهوي النزول والسقوط ؛ يقال : هوى يهوي هويا مثل مضى يمضى مضيا ؛ قال زهير :
فشج بها الأماعز وهي تهوي ... هوي الدلو أسلمها الرشاء
وقال آخر :
بينما نحن بالبلاكث فالقا ... ع سراعا والعيس تهوي هويا
خطرت خطرة على القلب من ذكـ ... ـراك وهنا فما استطعت مضيا
الأصمعي : هوى بالفتح يهوي هويا أي سقط إلى أسفل. قال : وكذلك آنهوى في السير إذا مضى فيه ، وهوى وانهوى فيه لغتان بمعنى ، وقد جمعهما الشاعر في قوله :
وكم منزل لولاي طحت كما هوى ... بأجرمه من قلة النيق منهوي
وقال في الحب : هوي بالكسر يهوى هوى ؛ أي أحب.
قوله تعالى : {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} هذا جواب القسم ؛ أي ما ضل محمد صلى الله عليه وسلم عن الحق وما حاد عنه. {وَمَا غَوَى} الغي ضد الرشد أي ما صار غاويا. وقيل : أي ما تكلم بالباطل. وقيل : أي ما خاب مما طلب والغي الخيبة ؛ قال الشاعر :
فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغي لائما
أي من خاب في طلبه لامه الناس. ثم يجوز أن يكون هذا إخبارا عما بعد الوحي. ويجوز أن يكون إخبارا عن أحواله على التعميم ؛ أي كان أبدا موحدا لله. وهو الصحيح على ما بيناه في "الشورى" عند قوله : " { مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ} [الشورى : 52] ."
قوله تعالى : {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى}
فيه مسألتان :
الأولى : قوله تعالى : {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} قال قتادة : وما ينطق بالقرآن عن هواه {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} إليه. وقيل : {عَنِ الْهَوَى} أي بالهوى ؛ قاله أبو عبيدة ؛
كقوله تعالى : {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} [الفرقان : 59] أي فاسأل عنه. النحاس : قول قتادة أولى ، وتكون {عَنِ} على بابها ، أي ما يخرج نطقه عن رأيه ، إنما هو بوحي من الله عز وجل ؛ لأن بعده : {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى}
وقد يحتج بهذه الآية من لا يجوز لرسول الله صلى الله عليه وسلم الاجتهاد في الحوادث. وفيها أيضا دلالة على أن السنة كالوحي المنزل في العمل. وقد تقدم في مقدمة الكتاب حديث المقدام بن معد يكرب في ذلك والحمد لله. قال السجستاني : إن شئت أبدلت {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} من {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} قال ابن الأنباري : وهذا غلط ؛ لأن {إِنْ} الخفيفة لا تكون مبدلة من {مَا} الدليل على هذا أنك لا تقول : والله ما قمت إن أنا لقاعد.
قوله تعالى : {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} يعني جبريل عليه السلام في قول سائر المفسرين ؛ سوى الحسن فإنه قال : هو الله عز وجل ، ويكون قوله تعالى : {ذُو مِرَّةٍ} على قول الحسن تمام الكلام ، ومعناه ذو قوة والقوة من صفات الله تعالى ؛ وأصله من شدة فتل الحبل ، كأنه استمر به الفتل حتى بلغ إلى غاية يصعب معها الحل . {فَاسْتَوَى} يعني الله عز وجل ؛ أي استوى على العرش. روي معناه عن الحسن. وقال الربيع بن أنس والفراء : {فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى} أي استوى جبريل ومحمد عليهما الصلاة والسلام. وهذا على العطف على المضمر المرفوع بـ {هُوَ} وأكثر العرب إذا أرادوا العطف في مثل هذا الموضع أظهروا كناية المعطوف عليه ؛ فيقولون : استوى هو وفلان ؛ وقلما يقولون استوى وفلان ؛ وأنشد الفراء :
ألم تر أن النبع يصلب عوده ... ولا يستوي والخروع المتقصف
أي لا يستوي هو والخروع ؛ ونظير هذا : {أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَاؤُنَا} [النمل : 67] والمعنى أئذا كنا ترابا نحن وأباؤنا. ومعنى الآية : استوى جبريل هو ومحمد عليهما السلام ليلة الإسراء بالأفق الأعلى.
وقال مجاهد وقتادة : {ذُو مِرَّةٍ} ذو قوة ؛ ومنه قول خفاف بن ندبة :
إني امرؤ ذو مرة فاستبقني ... فيما ينوب من الخطوب صليب
فالقوة تكون من صفة الله عز وجل ، ومن صفة المخلوق. {فَاسْتَوَى} يعني جبريل على ما بينا ؛ أي ارتفع وعلا إلى مكان في السماء بعد أن علم محمدا صلى الله عليه وسلم ، قاله سعيد بن المسيب وابن جبير. وقيل : {فَاسْتَوَى} أي قام في صورته التي خلقه الله تعالى عليها ؛ لأنه كان يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة الآدميين كما كان يأتي إلى الأنبياء ، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم أن يريه نفسه التي جبله الله عليها فأراه نفسه مرتين : مرة في الأرض ومرة في السماء ؛ فأما في الأرض ففي الأفق الأعلى ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم بحراء ، فطلع له جبريل من المشرق فسد الأرض إلى المغرب ، فخر النبي صلى الله عليه وسلم مغشيا عليه. فنزل إليه في صورة الآدميين وضمه إلى صدره ، وجعل يمسح الغبار عن وجهه ؛ فلما أفاق النبي صلى الله عليه وسلم قال : "يا جبريل ما ظننت أن الله خلق أحدا على مثل هذه الصورة" . فقال : يا محمد إنما نشرت جناحين من أجنحتي وإن لي ستمائة جناح سعة كل جناح ما بين المشرق والمغرب. فقال : "إن هذا لعظيم" فقال : وما أنا في جنب ما خلقه الله إلا يسيرا ، ولقد خلق الله إسرافيل له ستمائة جناح ، كل جناح منها العصفور الصغير ؛ دليله قوله تعالى : {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} [التكوير : 23] وأما في السماء فعند سدرة المنتهى ، ولم يره أحد من الأنبياء على تلك الصورة إلا محمدا صلى الله عليه وسلم. وقول ثالث أن معنى {فَاسْتَوَى} أي استوى القرآن في صدره. وفيه على هذا وجهان : أحدهما في صدر جبريل حين نزل به عليه. الثاني في صدر محمد صلى الله عليه وسلم حين نزل عليه. وقول رابع أن معنى {فَاسْتَوَى} فاعتدل يعني محمدا صلى الله عليه وسلم. وفيه على هذا وجهان : أحدهما فاعتدل في قوته. الثاني في رسالته. ذكرهما الماوردي.
قلت : وعلى الأول يكون تمام الكلام {ذُو مِرَّةٍ} ، وعلى الثاني {شَدِيدُ الْقُوَى} . وقول خامس أن معناه فارتفع. وفيه على هذا وجهان : أحدهما أنه جبريل عليه السلام
ارتفع إلى مكانه على ما ذكرنا أنفا. الثاني أنه النبي صلى الله عليه وسلم ارتفع بالمعراج. وقول سادس {فَاسْتَوَى} يعني الله عز وجل ، أي استوى على العرش على قول الحسن. وقد مضى القول فيه في "الأعراف" .
قوله تعالى : {وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى} جملة في موضع الحال ، والمعنى فاستوى عاليا ، أي استوى جبريل عاليا على صورته ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك يراه عليها حتى سأله إياها على ما ذكرنا. والأفق ناحية السماء وجمعه آفاق. وقال قتادة : هو الموضع الذي تأتى منه الشمس. وكذا قال سفيان : هو الموضع الذي تطلع منه الشمس. ونحوه عن مجاهد. ويقال : أفق وأفق مثل عسر وعسر. وقد مضى في "حم السجدة" . وفرس أفق بالضم أي رائع وكذلك الأنثى ؛ قال الشاعر :
أرجل لمتي وأجر ذيلي ... وتحمل شكتي أفق كميت
وقيل : {وَهُوَ} أي النبي صلى الله عليه وسلم {بِالأُفُقِ الأَعْلَى} يعني ليلة الإسراء وهذا ضعيف ؛ لأنه يقال : استوى هو وفلان ، ولا يقال استوى وفلان إلا في ضرورة الشعر. والصحيح استوى جبريل عليه السلام وجبريل بالأفق الأعلى على صورته الأصلية ؛ لأنه كان يتمثل للنبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل بالوحي في صورة رجل ، فأحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يراه على صورته الحقيقية ، فاستوى في أفق المشرق فملأ الأفق. {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} أي دنا جبريل بعد استوائه بالأفق الأعلى من الأرض {فَتَدَلَّى} فنزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي. المعنى أنه لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم من عظمته ما رأى ، وهاله ذلك رده الله إلى صورة آدمي حين قرب من النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي ، وذلك قوله تعالى : {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ} يعني أوحى الله إلى جبريل وكان جبريل {قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} قاله ابن عباس والحسن وقتادة والربيع وغيرهم. وعن
ابن عباس أيضا في قوله تعالى : {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} أن معناه أن الله تبارك وتعالى {دَنَا} من محمد صلى الله عليه وسلم {فَتَدَلَّى} وروى نحوه أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم. والمعنى دنا منه أمره وحكمه. وأصل التدلي النزول إلى الشيء حتى يقرب منه فوضع موضع القرب ؛ قال لبيد :
فتدليت عليه قافلا ... وعلى الأرض غيابات الطفل
وذهب الفراء إلى أن الفاء في {فَتَدَلَّى} بمعنى الواو ، والتقدير ثم تدلى جبريل عليه السلام ودنا. ولكنه جائز إذا كان معنى الفعلين واحدا أو كالواحد قدمت أيهما شئت ، فقلت فدنا فقرب وقرب فدنا ، وشتمني فأساء وأساء فشتمني ؛ لأن الشتم والإساءة شيء واحد. وكذلك قوله تعالى : {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر : 1] المعنى والله أعلم : انشق القمر واقتربت الساعة. وقال الجرجاني : في الكلام تقديم وتأخير أي تدلى فدنا ؛ لأن التدلي سبب الدنو. وقال ابن الأنباري : ثم تدلى جبريل أي نزل من السماء فدنا من محمد صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس : تدلى الرفرف لمحمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج فجلس عليه ثم رفع فدنا من ربه. وسيأتي. ومن قال : المعنى فاستوى جبريل ومحمد بالأفق الأعلى قد يقول : ثم دنا محمد من ربه دنو كرامة فتدلى أي هوى للسجود. وهذا قول الضحاك. قال القشيري : وقيل على هذا تدلى أي تدلل ؛ كقولك تظني بمعنى تظنن ، وهذا بعيد ؛ لأن الدلال غير مرضي في صفة العبودية.
قوله تعالى : {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} أي {كَانَ} محمد من ربه أو من جبريل {قَابَ قَوْسَيْنِ} أي قدر قوسين عربيتين. قال ابن عباس وعطاء والفراء. الزمخشري : فإن قلت كيف تقدير قوله : {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ} قلت : تقديره فكان مقدار مسافة قربه مثل قاب قوسين ، فحذفت هذه المضافات كما قال أبوعلي في قوله :
وقد جعلتني من حزيمة إصبعا
أي ذا مقدار مسافة إصبع {أَوْ أَدْنَى} أي على تقديركم ؛ كقوله تعالى : {أََوْ يَزِيدُونَ} [الصافات : 147] . وفي الصحاح : وتقول بينهما قاب قوس ، وقيب قوس وقاد قوس ، وقيد قوس ؛ أي قدر قوس. وقرأ زيد بن علي {قَادَ} وقرئ {قِيدَ} و {قَدْرَ} . ذكره الزمخشري. والقاب ما بين المقبض والسية. ولكل قوس قابان. وقال بعضهم في قوله تعالى : {قَابَ قَوْسَيْنِ} أراد قابي قوس فقلبه. وفي الحديث : "ولقاب قوس أحدكم من الجنة وموضع قده خير من الدنيا وما فيها" والقد السوط. وفي الصحيح عن أبي هريرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "ولقاب قوس أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما فيها" . وإنما ضرب المثل بالقوس ، لأنها لا تختلف في القاب. والله أعلم. قال القاضي عياض : آعلم أن ما وقع من إضافة الدنو والقرب من الله أو إلى الله فليس بدنو مكان ولا قرب مدى ، وإنما دنو النبي صلى الله عليه وسلم من ربه وقربه منه : إبانة عظيم منزلته ، وتشريف رتبته ، وإشراق أنوار معرفته ، ومشاهدة أسرار غيبه وقدرته. ومن الله تعالى له : مبرة وتأنيس وبسط وإكرام. ويتأول في قوله عليه السلام : "ينزل ربنا إلى سماء الدنيا" على أحد الوجوه : نزول إجمال وقبول وإحسان. قال القاضي : وقوله : {فكان قاب قوسين أو أدنى} فمن جعل الضمير عائدا إلى الله تعالى لا إلى جبريل كان عبارة عن نهاية القرب ، ولطف المحل ، وإيضاح المعرفة ، والإشراف على الحقيقة من محمد صلى الله عليه وسلم ، وعبارة عن إجابة الرغبة ، وقضاء المطالب ، وإظهار التحفي ، وإنافة المنزلة والقرب من الله ؛ ويتأول في قوله عليه السلام : "من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة" قرب بالإجابة والقبول ، وإتيان بالإحسان وتعجيل المأمول. وقد قيل : {ثُمَّ دَنَا} جبريل من ربه {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} قاله مجاهد. ويدل عليه ما روي في الحديث : "إن أقرب الملائكة من الله جبريل عليه السلام" . وقيل : "أو" بمعنى الواو أي قاب قوسين وأدنى. وقيل : بمعنى بل أي بل أدنى. وقال سعيد بن المسيب : القاب صدر القوس العربية حيث يشد عليه السير الذي يتنكبه صاحبه ، ولكل قوس قاب واحد. فأخبر أن جبريل قرب من محمد صلى الله عليه وسلم كقرب قاب قوسين. وقال سعيد بن جبير وعطاء




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #673  
قديم 12-07-2025, 08:19 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (17)
سُورَةُ النجم
من صــ 91 الى صــ 100
الحلقة (673)






وأبو إسحاق الهمداني وأبو وائل شقيق بن سلمة : {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ} أي قدر ذراعين ، والقوس الذراع يقاس بها كل شيء ، وهى لغة بعض الحجازيين. وقيل : هي لغة أزد شنوءة أيضا. وقال الكسائي : قوله : {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} أراد قوسا واحدا ؛ كقول الشاعر :
ومهمهين قذفين مرتين ... قطعته بالسمت لا بالسمتين
أراد مهمها واحدا. والقوس تذكر وتؤنث فمن أنث قال في تصغيرها قويسة ومن ذكر قال قويس ؛ وفي المثل هو من خير قويس سهما. والجمع قسي قسي وأقواس وقياس ؛ وأنشد أبو عبيدة :
ووتر الأساور القياسا
والقوس أيضا بقية النمر في الجلة أي الوعاء. والقوس برج في السماء. فأما القوس بالضم فصومعة الراهب ؛ قال الشاعر وذكر امرأة :
لاستفتنتني وذا المسحين في القوس
قوله تعالى : {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} تفخيم للوحي الذي أوحى إليه. وتقدم معنى الوحي وهو إلقاء الشيء بسرعة ومنه الوحاء الوحاء. والمعنى فأوحى الله تعالى إلى عبده محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى. وقيل : المعنى {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ} جبريل عليه السلام {مَا أَوْحَى} وقيل : المعنى فأوحى جبريل إلى عبد الله محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى إليه ربه. قاله الربيع والحسن وابن زيد وقتادة. قال قتادة : أوحى الله إلى جبريل وأوحى جبريل إلى محمد. ثم قيل : هذا الوحي هل هو مبهم ؟ لا نطلع عليه نحن وتعبدنا بالإيمان به
على الجملة ، أو هو معلوم مفسر ؟ قولان. وبالثاني قال سعيد بن جبير ، قال : أوحى الله إلى محمد : ألم أجدك يتيما فأويتك! ألم أجدك ضالا فهديتك! ألم أجدك عائلا فأغنيتك! {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ. وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ. الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ. وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الانشراح : 4] . وقيل : أوحى الله إليه أن الجنة حرام على الأنبياء حتى تدخلها يا محمد ، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك.
الآية : 11 - 18 {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}
قوله تعالى : {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} أي لم يكذب قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج ؛ وذلك أن الله تعالى جعل بصره في فؤاده حتى رأى ربه تعالى وجعل الله تلك رؤية. وقيل : كانت رؤية حقيقة بالبصر. والأول مروي عن ابن عباس. وفي صحيح مسلم أنه رآه بقلبه. وهو قول أبي ذر وجماعة من الصحابة. والثاني قول أنس وجماعة. وروي عن ابن عباس أيضا أنه قال : أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم ، والكلام لموسى ، والرؤية لمحمد صلى الله عليه وسلم. وروي عن ابن عباس أيضا أنه قال : أما نحن بني هاشم فنقول إن محمدا رأى ربه مرتين. وقد مضى القول في هذا في "الأنعام" عند قوله : {لاَ تُدْرِكُهُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام : 103] . وروى محمد بن كعب قال : قلنا يا رسول الله صلى الله عليك رأيت ربك ؟ قال : "رأيته بفؤادي مرتين" ثم قرأ : {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} . وقول : ثالث أنه رأى جلاله وعظمته ؛ قال الحسن. وروى أبو العالية قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك ؟ قال : "رأيت نهرا ورأيت وراء النهر حجابا ورأيت"
وراء الحجاب نورا لم أر غير ذلك ". وفي صحيح مسلم عن أبي ذر قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك ؟ قال :" نور أني أراه "المعنى غلبني من النور وبهرني منه ما منعني من رؤيته. ودل على هذا الرواية الأخرى" رأيت نورا ". وقال ابن مسعود : رأى جبريل على صورته مرتين. وقرأ هشام عن ابن عامر وأهل الشام {مَا كَذَّبَ} بالتشديد أي ما كذب قلب محمد ما رأى بعينه تلك الليلة بل صدقه. فـ {مَا} مفعول بغير حرف مقدر ؛ لأنه يتعدى مشددا بغير حرف. ويجوز أن تكون {مَا} بمعنى الذي والعائد محذوف ، ويجوز أن يكون مع الفعل مصدرا. الباقون مخففا ؛ أي ما كذب فؤاد محمد فيما رأى ؛ فأسقط حرف الصفة. قال حسان رضي الله عنه :"
لوكنت صادقة الذي حدثتني ... لنجوت منجى الحارث بن هشام
أي في الذي حدثتني. ويجوز أن يكون مع الفعل مصدرا. ويجوز أن يكون بمعنى الذي ؛ أي ما كذب فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم الذي رأى قوله تعالى : {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} قرأ حمزة والكسائي {أَفَتُمَارُونَهُ} بفتح التاء من غير ألف على معنى أفتجحدونه. واختاره أبو عبيد ؛ لأنه قال : لم يماروه وإنما جحدوه. يقال : مراه حقه أي جحده ومريته أنا ؛ قال الشاعر :
لئن هجرت أخا صدق ومكرمة ... لقد مريت أخا ما كان يمريكا
أي جحدته. وقال المبرد : يقال مراه عن حقه وعلى حقه إذا منعه منه ودفعه عنه. قال : ومثل على بمعنى عن قول بني كعب بن ربيعة : رضي الله عليك ؛ أي رضي عنك. وقرأ الأعرج ومجاهد {أَفَتُمَارُونَهُ} بضم التاء من غير ألف من أمريت ؛ أي تريبونه وتشككونه. الباقون {أَفَتُمَارُونَهُ} بألف ، أي أتجادلونه وتدافعونه في أنه رأى الله ؛ والمعنيان متداخلان ؛ لأن مجادلتهم جحود. وقيل : إن الجحود كان دائما منهم وهذا جدال جديد ؛ قالوا : صف لنا بيت المقدس وأخبرنا عن عيرنا التي في طريق الشام. على ما تقدم.
قوله تعالى : {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} {نَزْلَةً} مصدر في موضع الحال كأنه قال : ولقد رآه نازلا نزلة أخرى. قال ابن عباس : رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه مرة أخرى بقلبه. روى مسلم عن أبي العالية عنه "قال : {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} قال : رآه بفؤاده مرتين ؛ فقوله : {نَزْلَةً أُخْرَى} يعود إلى محمد صلى الله عليه وسلم ؛ فإنه كان له صعود ونزول مرارا بحسب أعداد الصلوات المفروضة ، فلكل عرجة نزلة وعلى هذا قوله تعالى : {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} أي ومحمد صلى الله عليه وسلم عند سدرة المنتهى وفي بعض تلك النزلات. وقال ابن مسعود وأبو هريرة في تفسير قوله تعالى : {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} أنه جبريل. ثبت هذا أيضا في صحيح مسلم. وقال ابن مسعود : قال النبي صلى الله عليه وسلم :" رأيت جبريل بالأفق الأعلى له ستمائة جناح يتناثر من ريشه الدر والياقوت "ذكره المهدوي."
قوله تعالى : {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} {عِنْدَ} من صلة {رَآهُ} على ما بينا. والسدر شجر النبق وهي في السماء السادسة ، وجاء في السماء السابعة. والحديث بهذا في صحيح مسلم ؛ الأول ما رواه مرة عن عبدالله قال : لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى ، وهي في السماء السادسة ، إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها ، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها ، قال : { إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} قال : فراش من ذهب ، قال : فأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا : أعطي الصلوات الخمس ، وأعطي خواتيم سورة البقرة ، وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئا المقحمات. الحديث الثاني رواه قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لما رفعت إلى سدرة المنتهى في السماء السابعة نبقها مثل قلال هجر وورقها مثل آذان الفيلة يخرج من ساقها نهران ظاهران ونهران باطنان قلت يا جبريل ما هذا قال أما الباطنان ففي الجنة وأما الظاهران فالنيل والفرات" لفظ الدارقطني. والنبق بكسر الباء : ثمر السدر الواحد نبقة. ويقال : نبق بفتح النون وسكون
الباء ؛ ذكرهما يعقوب في الإصلاح وهي لغة المصريين ، والأولى أفصح وهي التي ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم. وروى الترمذي عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول - وقد ذكر له سدرة المنتهى - قال : "يسير الراكب في ظل الغصن منها مائة سنة أو يستظل بظلها مائة راكب - شك يحيى - فيها فراش الذهب كأن ثمرها القلال" قال أبو عيسى : هذا حديث حسن.
قلت : وكذا لفظ مسلم من حديث ثابت عن أنس "ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى وإذا ورقها كآذان الفيلة وإذا ثمرها كالقلال فلما غشيها من أمر الله عز وجل ما غشي تغيرت فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها" . واختلف لم سميت سدرة المنتهى على أقوال تسعة : الأول : ما تقدم عن ابن مسعود أنه ينتهي إليها كلما يهبط من فوقها ويصعد من تحتها. الثاني : أنه ينتهي علم الأنبياء إليها ويعزب علمهم عما وراءها ؛ قاله ابن عباس. الثالث : أن الأعمال تنتهي إليها وتقبض منها ؛ قاله الضحاك. الرابع : لانتهاء الملائكة والأنبياء إليها ووقوفهم عندها ؛ قاله كعب. الخامس : سميت سدرة المنتهى لأنها ينتهي إليها أرواح الشهداء ؛ قاله الربيع بن أنس . السادس : لأنه تنتهي إليها أرواح المؤمنين ؛ قاله قتادة. ا لسابع : لأنه ينتهي إليها كل من كان على سنة محمد صلى الله عليه وسلم ومنهاجه ؛ قاله علي رضي الله عنه والربيع بن أنس أيضا. الثامن : هي شجرة على رؤوس حملة العرش إليها ينتهي علم الخلائق ؛ قاله كعب أيضا.
قلت : يريد - والله أعلم - أن ارتفاعها وأعالي أغصانها قد جاوزت رؤوس حملة العرش ؛ ودليله على ما تقدم من أن أصلها في السماء السادسة وأعلاها في السماء السابعة ، ثم علت فوق ذلك حتى جاوزت رؤوس حملة العرش. والله أعلم.
التاسع : سميت بذلك لأن من رفع إليها فقد انتهى في الكرامة. وعن أبي هريرة لما أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى فقيل له هذه سدرة المنتهى ينتهي إليها كل أحد خلا من أمتك على سنتك ؛ فإذا هي شجرة يخرج من أصلها أنهار من ماء غير آسن ! وأنهار من لبن لم يتغير طعمه ،
وأنهار من خمر لذة للشاربين ، وأنهار من عسل مصفى ، وإذا هي شجرة يسير الراكب المسرع في ظلها مائة عام لا يقطعها ، والورقة منها تغطي الأمة كلها ؛ ذكره الثعلبي.
قوله تعالى : {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} تعريف بموضع جنة المأوى وأنها عند سدرة المنتهى. وقرأ علي وأبو هريرة وأنس وأبو سبرة الجهني وعبدالله بن الزبير ومجاهد {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} يعني جنه المبيت. قال مجاهد : يريد أجنه. والهاء للنبي صلى الله عليه وسلم. وقال الأخفش : أدركه كما تقول جنه الليل أي ستره وأدركه. وقراءة العامة {جَنَّةُ الْمَأْوَى} قال الحسن : هي التي يصير إليها المتقون. وقيل : إنها الجنة التي يصير إليها أرواح الشهداء ؛ قال ابن عباس. وهى عن يمين العرش. وقيل : هي الجنة التي آوى إليها آدم عليه الصلاة والسلام إلى أن أخرج منها وهي في السماء السابعة. وقيل : إن أرواح المؤمنين كلهم في جنة المأوى. وإنما قيل لها : جنة المأوى لأنها تأوي إليها أرواح المؤمنين وهي تحت العرش فيتنعمون بنعيمها ويتنسمون بطيب ريحها. وقيل : لأن جبريل وميكائيل عليهما السلام يأويان إليها. والله أعلم.
قوله تعالى : {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} قال ابن عباس والضحاك وابن مسعود وأصحابه : فراش من ذهب. ورواه مرفوعا ابن مسعود وابن عباس إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقد تقدم في صحيح مسلم عن ابن مسعود قوله. وقال الحسن : غشيها نور رب العالمين فاستنارت. قال القشيري : وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما غشيها ؟ قال : "فراش من ذهب" . وفي خبر آخر "غشيها نور من الله حتى ما يستطيع أحد أن ينظر إليها" . وقال الربيع بن أنس : غشيها نور الرب والملائكة تقع عليها كما يقع الغربان على الشجرة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "رأيت السدرة يغشاها فراش من ذهب ورأيت على كل ورقة ملكا قائما يسبح الله تعالى وذلك قوله : {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} " ذكره
المهدوي والثعلبي. وقال أنس بن مالك : {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} قال جراد من ذهب وقد رواه مرفوعا. وقال مجاهد : إنه رفرف أخضر. وعنه عليه السلام : "يغشاها رفرف من طير خضر" . وعن ابن عباس : يغشاها رب العزة ؛ أي أمره كما في صحيح مسلم مرفوعا : "فلما غشيها من أمر الله ما غشي" . وقيل : هو تعظيم الأمر ؛ كأنه قال : إذ يغشى السدرة ما أعلم الله به من دلائل ملكوته. وهكذا قوله تعالى : {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} [النجم : 53] ومثله : {الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة : 1] . وقال الماوردي في معاني القرآن له : فإن قيل لم آختيرت السدرة لهذا الأمر دون غيرها من الشجر ؟ قيل : لأن السدرة تختصى بثلاثة أوصاف : ظل مديد ، وطعم لذيذ ، ورائحة ذكية ؛ فشابهت الإيمان الذي يجمع قولا وعملا ونية ؛ فظلها من الإيمان بمنزلة العمل لتجاوزه ، وطعمها بمنزلة النية لكونه ، ورائحتها بمنزلة القول لظهوره. وروى أبو داود في سننه قال : حدثنا نصر بن علي قال حدثنا أبو أسامة عن ابن جريج عن عثمان بن أبي سليمان عن سعيد بن محمد بن جبير بن مطعم عن عبدالله بن حبشي ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من قطع سدرة صوب الله رأسه في النار" وسئل أبو داود عن معنى هذا الحديث فقال : هذا الحديث مختصر يعني من قطع سدرة في فلاة يستظل بها ابن السبيل والبهائم عبثا وظلما بغير حق يكون له فيها صوب الله رأسه في النار.
قوله تعالى : {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} قال ابن عباس : أي ما عدل يمينا ولا شمالا ، ولا تجاوز الحد الذي رأى. وقيل : ما جاوز ما أمر به. وقيل : لم يمد بصره إلى غير ما رأى
من الآيات. وهذا وصف أدب للنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك المقام ؛ إذ لم يلتفت يمينا ولا شمالا. {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} قال ابن عباس : رأى رفرفا سد الأفق. وذكر البيهقي عن عبدالله قال : " { رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} قال ابن عباس : رأى رفرفا أخضر سد أفق السماء. وعنه قال : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام في حلة رفرف أخضر ، قد ملأ ما بين السماء والأرض" قال البيهقي : قوله في الحديث "رأى رفرفا" يريد جبريل عليه السلام في صورته في رفرف ، والرفرف البساط. ويقال : فراش. ويقال : بل هو ثوب كان لباسا له ؛ فقد روي أنه رآه في حلة رفرف.
قلت : خرجه الترمذي عن عبدالله قال : " {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} قال : رأى وسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام في حلة من رفرف قد ملأ ما بين السماء والأرض" قال : هذا حديث حسن صحيح.
قلت : وقد روي عن ابن عباس في قوله تعالى : {دَنَا فَتَدَلَّى} أنه على التقديم والتأخير ؛ أي تدلى الرفرف لمحمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج فجلس عليه ثم رفع فدنا من ربه. قال : "فارقني جبريل وانقطعت عني الأصوات وسمعت كلام ربي" فعلى هذا الرفرف ما يقعد ويجلس عليه كالبساط وغيره. وهو بالمعنى الأول جبريل. قال عبدالرحمن بن زيد ومقاتل بن حيان : رأى جبريل عليه السلام في صورته التي يكون فيها في السموات ؛ وكذا في صحيح مسلم عن عبدالله قال : {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} قال رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح. ولا يبعد مع هذا أن يكون في حلة رفرف وعلى رفرف. والله أعلم. وقال الضحاك : رأى سدرة المنتهى. وعن ابن مسعود : رأى ما غشي السدرة من فراش الذهب ؛ حكاه الماوردي. وقيل : رأى المعراج. وقيل : هو ما رأى تلك الليلة في مسراه في عوده وبدئه ؛ وهو أحسن ؛ دليله : {مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء : 1] و "من" يجوز أن تكون للتبعيض ، وتكون {الْكُبْرَى} مفعولة لـ {رَأَى} وهي في الأصل صفة الآيات ووحدت لرؤوس
الآيات. وأيضا يجوز نعت الجماعة بنعت الأنثى ؛ كقوله تعالى : {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه : 18] وقيل : {الْكُبْرَى} نعت لمحذوف ؛ أي رأى من آيات ربه الكبرى. ويجوز أن تكون {مِنْ} زائدة ؛ أي رأى آيات ربه الكبرى. وقيل : فيه تقديم وتأخير ؛ أي رأى الكبرى من آيات ربه.
الآية : 19 - 22 {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى}
قوله تعالى : {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى} لما ذكر الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وذكر من آثار قدرته ما ذكر ، حاج المشركين إذ عبدوا ما لا يعقل وقال : أفرأيتم هذه الآلهة التي تعبدونها أو حين إليكم شيئا كما أوحي إلى محمد. وكانت اللات لثقيف ، والعزى لقريش وبني كنانة ، ومناة لبني هلال. وقال هشام : فكانت مناة لهذيل وخزاعة ؛ فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه فهدمها عام الفتح. ثم اتخذوا اللات بالطائف ، وهي أحدث من مناة وكانت صخرة مربعة ، وكان سدنتها من ثقيف ، وكانوا قد بنوا عليها بناء ، فكانت قريش وجميع العرب تعظمها. وبها كانت العرب تسمي زيد اللات وتيم اللات. وكانت في موضع منارة مسجد الطائف اليسرى ، فلم تزل كذلك إلى أن أسلمت ثقيف ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة فهدمها وحرقها بالنار. ثم اتخذوا العزى وهي أحدث من اللات ، اتخذها ظالم بن أسعد ، وكانت بوادي نخلة الشامية فوق ذات عرق ، فبنوا عليها بيتا وكانوا يسمعون منها الصوت. قال ابن هشام : وحدثني أبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : كانت العزى شيطانة تأتي ثلاث سمرات ببطن نخلة ، فلما أفتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ، بعث خالد بن الوليد رضي الله عنه فقال :
"ايت بطن نخلة فإنك تجد ثلاث سمرات فاعضد الأولى" فأتاها فعضدها فلما جاء إليه قال : "هل رأيت شيئا" قال : لا. قال : "فأعضد الثانية" فأتاها فعضدها ، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : "هل رأيت شيئا" قال : لا. قال : "فاعضد الثالثة" فأتاها فإذا هو بحبشية نافشة شعرها ، واضعة يديها على عاتقها تصرف بأنيابها ، وخلفها دبية السلمى وكان سادنها فقال :
يا عز كفرانك لا سبحانك ... إني رأيت الله قد أهانك
ثم ضربها ففلق رأسها فإذا هي حممة ، ثم عضد الشجرة وقتل دبية السادن ، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال : "تلك العزى ولن تعبد أبدا" وقال ابن جبير : العزى حجر أبيض كانوا يعبدونه. قتادة : نبت كان ببطن نخلة. ومناة : صنم لخزاعة. وقيل : إن اللات فيما ذكر بعض المفسرين أخذه المشركون من لفظ الله ، والعزى من العزيز ، ومناة من منى الله الشيء إذا قدره. وقرأ ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وحميد وأبو صالح {اللاَّتّ} بتشديد التاء وقالوا : كان رجلا يلت السويق للحاج ذكر البخاري عن ابن عباس - فلما مات عكفوا على قبره فعبدوه. ابن عباس : كان يبيع السويق والسمن عند صخرة ويصبه عليها ، فلما مات ذلك الرجل عبدت ثقيف تلك الصخرة إعظاما لصاحب السويق. أبو صالح : إنما كان رجلا بالطائف فكان يقوم على ألهتهم ويلت لهم السويق فلما مات عبدوه. مجاهد : كان رجل في رأس جبل ل غنيمه يسلي منها السمن ويأخذ منها الأقط ويجمع رسلها ، ثم يتخذ منها حيسا فيطعم الحاج ، وكان ببطن نخلة فلما مات عبدوه وهو اللات. وقال الكلبي كان رجلا من ثقيف يقال له صرمة بن غنم. وقيل : إنه عامر بن ظرب العدواني. قال الشاعر :
لا تنصروا اللات إن الله مهلكها ... وكيف ينصركم من ليس ينتصر




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #674  
قديم 12-07-2025, 08:22 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (17)
سُورَةُ النجم
من صــ 101 الى صــ 110
الحلقة (674)






والقراءة الصحيحة {اللاَّتَ} بالتخفيف اسم صنم والوقوف عليها بالتاء وهو اختيار الفراء. قال الفراء : وقد رأيت الكسائي سأل أبا فقعس الأسدي فقال ذاه لذات ولاه للات وقرأ {اللاَّهَ} وكذا قرأ الدوري عن الكسائي والبزي عن ابن كثير {اللاَّهَ} بالهاء في الوقف ، ومن قال : إن {اللاَّتَ} من الله وقف بالهاء أيضا. وقيل : أصلها لاهة مثل شاة أصلها شاهة وهي من لاهت أي آختفت ؛ قال الشاعر :
لاهت فما عرفت يوما بخارجة ... يا ليتها خرجت حتى رأيناها
وفي الصحاح : اللات اسم صنم كان لثقيف وكان بالطائف ، وبعض العرب يقف عليها بالتاء ، وبعضهم بالهاء ؛ قال الأخفش : سمعنا من العرب من يقول اللات والعزى ، ويقول هي اللات فيجعلها تاء في السكوت وهي اللات فأعلم أنه جر في موضع الرفع ؛ فهذا مثل أمس مكسور على كل حال وهو أجود منه ؛ لأن الألف واللام اللتين في اللات لا تسقطان وإن كانتا زائدتين ؛ وأما ما سمعنا من الأكثر في اللات والعزى في السكوت عليها فاللاه لأنها هاء فصارت تاء في الوصل وهي في تلك اللغة مثل كان من الأمر كيت وكيت ، وكذلك هيهات في لغة من كسرها ؛ إلا أنه يجوز في هيهات أن تكون جماعة ولا يجوز ذلك في اللات ؛ لأن التاء لا تزاد في الجماعة إلا مع الألف ، وإن جعلت الألف والتاء زائدتين بقي الاسم على حرف واحد.
قوله تعالى : {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} قرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد ومجاهد والسلمي والأعشى عن أبي بكر {وَمَنَاةَ} بالمد والهمز. والباقون بترك الهمز لغتان. وقيل : سمي بذلك ؛ لأنهم كانوا يريقون عنده الدماء يتقربون بذلك إليه. وبذلك سميت منى لكثرة ما يراق فيها من الدماء. وكان الكسائي وابن كثير وابن محيصن يقفون بالهاء على الأصل.
الباقون بالتاء اتباعا لخط المصحف. وفي الصحاح : ومناة اسم صنم كان لهذيل وخزاعة بين مكة والمدينة ، والهاء للتأنيث ويسكت عليها بالتاء وهي لغة ، والنسبة إليها منوي. وعبد مناة بن أد بن طابخة ، وزيد مناة بن تميم بن مريمد ويقصر ؛ قال هوبر الحارثي :
ألا هل أتى التيم بن عبد مناءة ... على الشنء فيما بيننا ابن تميم
قوله تعالى : {الأُخْرَى} العرب لا تقول للثالثة أخرى وإنما الأخرى نعت للثانية ، واختلفوا في وجهها فقال الخليل : إنما قال ذلك لوفاق رؤوس الآي ؛ كقوله : {مَآرِبُ أُخْرَى} [طه : 18] ولم يقل آخر. وقال الحسين بن الفضل : في الآية تقديم وتأخير مجازها أفرأيتم اللات والعزى الأخرى ومناة الثالثة. وقيل : إنما قال {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} لأنها كانت مرتبة عند المشركين في التعظيم بعد اللات والعزى فالكلام على نسقه. وقد ذكرنا عن ابن هشام : أن مناة كانت أولا في التقديم ، فلذلك كانت مقدمة عندهم في التعظيم ؛ والله أعلم. وفي الآية حذف دل عليه الكلام ؛ أي أفرأيتم هذه الآلهة هل نفعت أو ضرت حتى تكون شركاء لله. ثم قال على جهة التقريع والتوبيخ : {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى} ردًّا عليهم قولهم : الملائكة بنات الله ، والأصنام بنات الله. {تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى} يعني هذه القسمة {قِسْمَةٌ ضِيزَى} أي جائرة عن العدل ، خارجة عن الصواب ، مائلة عن الحق. يقال : ضاز في الحكم أي جار ، وضاز حقه يضيزه ضيزا - عن الأخفش - أي نقصه وبخسه. قال : وقد يهمز فيقال ضأزه يضأزه ضأزا وأنشد :
فإن تنا عنا ننتقصك وإن تقم ... فقسمك مضؤوز وأنفك راغم
وقال الكسائي : يقال ضاز يضيز ضيزا ، وضاز يضوز ، وضأز يضأز ضأزا إذا ظلم وتعدى وبخس وانتقص ؛ قال الشاعر :
ضازت بنو أسد بحكمهم ... إذ يجعلون الرأس كالذنب
قوله تعالى : {قِسْمَةٌ ضِيزَى} أي جائرة ، وهي فعلى مثل طوبى وحبلى ؛ وإنما كسروا الضاد لتسلم الياء ؛ لأنه ليس في الكلام فعل صفة ، وإنما هو من بناء الأسماء كالشعرى والدفلى. قال الفراء : وبعض العرب تقول ضوزى وضئزى بالهمز. وحكى أبو حاتم عن أبي زيد : أنه. سمع العرب تهمز {ضِيزَى} قال غيره : وبها قرأ ابن كثير ؛ جعله مصدرا مثل ذكرى وليس بصفة ؛ إذ ليس في الصفات فعلى ولا يكون أصلها فعلى ؛ إذ ليس فيها ما يوجب القلب ، وهي من قولهم ضأزته أي ظلمته. فالمعنى قسمة ذات ظلم. وقد قيل هما لغتان بمعنى. وحكى فيها أيضا سواهما ضيزى وضازى وضوزى وضؤزى. وقال المؤرج : كرهوا ضم الضاد في ضيزى ، وخافوا انقلاب الياء واوا وهي من بنات الواو ؛ فكسروا الضاد لهذه العلة ، كما قالوا في جمع أبيض بيض ، والأصل بوض ؛ مثل حمر وصفر وخضر. فأما من قال : ضاز يضوز فالاسم منه ضوزى مثل شورى.
الآية : 23 - 26 {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى أَمْ لِلإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى فلله الآخرة والأولى وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى}
قوله تعالى : {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا} أي ما هي يعني هذه الأوثان {إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا} يعني نحتموها وسميتموها آلهة. {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} أي قلدتموهم في ذلك. {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} أي ما أنزل الله بها من حجة ولا برهان. {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ} عاد من الخطاب إلى الخبر أي ما يتبع هؤلاء إلى الظن. {وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ} أي تميل إليه. وقراءة العامة {يَتَّبِعُونَ} بالياء. وقرأ عيسى بن عمو وأيوب وابن السميقع
{تََتَّبِعُونَ} بالتاء على الخطاب. وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس . {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} أي البيان من جهة الرسول أنها ليست ، بآلهة. {أَمْ لِلإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى} أي اشتهى أي ليس ذلك له. وقيل : {لِلإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى} من البنين ؛ أي يكون له دون البنات. وقيل : {أَمْ لِلإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى} من غير جزاء ليس الأمر كذلك. وقيل : {أَمْ لِلإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى} من النبوة أن تكون فيه دون غيره. وقيل : {أَمْ لِلإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى} من شفاعة الأصنام ؛ نزلت في النضر بن الحرث. وقيل : في الوليد بن المغيرة. وقيل : في سائر الكفار. {فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأُولَى} يعطي من يشاء ويمنع من يشاء لا ما تمنى أحد.
قوله تعالى : {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} هذا توبيخ من الله تعالى لمن عبد الملائكة والأصنام ، وزعم أن ذلك يقربه إلى الله تعالى ، فأعلم أن الملائكة مع كثرة عبادتها وكرامتهم على الله لا تشفع إلا لمن أذن أن يشفع له. قال الأخفش : الملك واحد ومعناه جمع ؛ وهو كقوله تعالى : {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة : 47] . وقيل : إنما ذكر ملكا واحدا ، لأن كم تدل على الجمع.
الآية : 27 - 30 {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى}
قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} هم الكفار الذين قالوا الملائكة بنات الله والأصنام بنات الله. {لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى} أي كتسمية الأنثى ، أي
يعتقدون أن الملائكة إناث وأنهم بنات الله. {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} أي إنهم لم يشاهدوا خلقه الملائكة ، ولم يسمعوا ما قالوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يروه في كتاب . {إِنْ يَتَّبِعُونَ} أي ما يتبعون {إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} في أن الملائكة إناث. {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا} يعني القرآن والإيمان. وهذا منسوخ بآية السيف . {وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} نزلت في النضر. وقيل : في الوليد. {ذََلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} أي إنما يبصرون أمر دنياهم ويجهلون أمر دينهم. قال الفراء : صغرهم وازدرى بهم ؛ أي ذلك قدر عقولهم ونهاية علمهم أن آثروا الدنيا على الآخرة. وقيل : أن جعلوا الملائكة والأصنام بنات الله. { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} أي حاد عن دينه {وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} فيجازي كلا بأعمالهم.
الآية : 31 - 32 {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}
قوله تعالى : {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} اللام متعلقة بالمعنى الذي دل عليه {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} كأنه قال : هو مالك ذلك يهدي من يشاء ويضل من يشاء ليجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته. وقيل : {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} معترض في الكلام ؛ والمعنى : إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن آهتدى ليجزي. وقيل : هي
لام العاقبة ، أي ولله ما في السموات وما في الأرض ؛ أي وعاقبة أمر الخلق أن يكون فيهم مسيء ومحسن ؛ فللمسيء السوءى وهي جهنم ، وللمحسن الحسنى وهي الجنة.
قوله تعالى : {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ} فيه ثلاث مسائل :
المسألة الأولى : قوله تعالى : {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ} هذا نعت للمحسنين ؛ أي هم لا يرتكبون كبائر الإثم وهو الشرك ؛ لأنه أكبر الآثام. وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي {كَبِيرَ} كبير "على التوحيد وفسره ابن عباس بالشرك . {وَالْفَوَاحِشَ} الزنى : وقال مقاتل : {كَبَائِرَ الإِثْمِ} كل ذنب ختم بالنار. {وَالْفَوَاحِشَ} كل ذنب فيه الحد. وقد مضى في" النساء "القول في هذا. ثم استثنى استئناء منقطعا فقال :"
المسألة الثانية : {إِلاَّ اللَّمَمَ} وهي الصغائر التي لا يسلم من الوقوع فيها إلا من عصمه الله وحفظه. وقد اختلف في معناها ؛ فقال أبو هريرة وابن عباس والشعبي : {اللَّمَمُ} كل ما دون الزنى. وذكر مقاتل بن سليمان : أن هذه الآية نزلت في رجل كان يسمى نبهان التمار ؛ كان له حانوت يبيع فيه تمرا ، فجاءته امرأة تشتري منه تمرا فقال لها : إن داخل الدكان ما هو خير من هذا ، فلما دخلت راودها فأبت وانصرفت فندم نبهان ؛ فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله! ما من شيء يصنعه الرجل إلا وقد فعلته إلا الجماع ؛ فقال : "لعل زوجها غاز" فنزلت هذه الآية ، وقد مضى في آخر "هود" وكذا قال ابن مسعود وأبو سعيد الخدري وحذيفة ومسروق : إن اللمم ما دون الوطء من القبلة والغمزة والنظرة والمضاجعة. وروى مسروق عن عبدالله بن مسعود قال : زنى العينين النظر ، وزنى اليدين البطش ، وزنى الرجلين المشي ، وإنما يصدق ذلك أو يكذبه الفرج ؛ فإن تقدم كان زنى وإن تأخر كان لمما. وفي صحيح البخاري ومسلم عن ابن عباس قال : ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن الله كتب"
على ابن آدم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة فزنى العينين النظر وزنى اللسان النطق والنفس تتمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه ". والمعنى : أن الفاحشة العظيمة والزنى التام الموجب للحد في الدنيا والعقوبة في الآخرة هو في الفرج وغيره له حظ من الإثم. والله أعلم. وفي رواية أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" كتب على ابن آدم نصيبه من الزنى مدرك لا محالة فالعينان زناهما النظر والأذنان زناهما الاستماع واللسان زناه الكلام واليد زناها البطش والرجل زناها الخطا والقلب يهوى ويتمنى ويصدق ذلك الفرج ويكذبه ". خرجه مسلم. وقد ذكر الثعلبي حديث طاوس عن ابن عباس فذكر فيه الأذن واليد والرجل ، وزاد فيه بعد العينين واللسان :" وزنى الشفتين القبلة ". فهذا قول. وقال ابن عباس أيضا : هو الرجل يلم بذنب ثم يتوب. قال : ألم تسمع النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول :"
إن يغفر الله يغفر جما ... وأي عبد لك لا ألما
رواه عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس. قال النحاس : هذا أصح ما قيل فيه وأجلها إسنادا. وروى شعبة عن منصور عن مجاهد عن ابن عباس في قول الله عز وجل {إِلاَّ اللَّمَمَ} قال : هو أن يلم العبد بالذنب ثم لا يعاوده ؛ قال الشاعر :
إن تغفر اللهم تغفر جما ... وأي عبد لك لا ألما
وكذا قال مجاهد والحسن : هو الذي يأتي الذنب ثم لا يعاوده ، ونحوه عن الزهري ، قال : اللمم أن يزني ثم يتوب فلا يعود ، وأن يسرق أويشرب الخمر ثم يتوب فلا يعود. ودليل هذا التأويل قوله تعالى : {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران : 135] الآية. ثم قال : {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} [آل عمران : 136] فضمن لهم المغفرة ؛ كما قال عقيب اللمم :
{إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} فعلى هذا التأويل يكون {إِلاَّ اللَّمَمَ} استثناء متصل. قال عبدالله بن عمرو بن العاص : اللمم ما دون الشرك. وقيل : اللمم الذنب بين الحدين وهو ما لم يأت عليه حد في الدنيا ، ولا توعد عليه بعذاب في الآخرة تكفره الصلوات الخمس. قاله ابن زيد وعكرمة والضحاك وقتادة. ورواه العوفي والحكم بن عتيبة عن ابن عباس. وقال الكلبي : اللمم على وجهين : كل ذنب لم يذكر الله عليه حدا في الدنيا ولا عذابا في الآخرة ؛ فذلك الذي تكفره الصلوات الخمس ما لم يبلغ الكبائر والفواحش. والوجه الآخر هو الذنب العظيم يلم به الإنسان المرة بعد المرة فيتوب منه. وعن ابن عباس أيضا وأبي هريرة وزيد بن ثابت : هو ما سلف في الجاهلية فلا يؤاخذهم به. وذلك أن المشركين قالوا للمسلمين : إنما كنتم بالأمس تعملون معنا فنزلت وقاله زيد بن أسلم وابنه ؛ وهو كقوله تعالى : {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء : 23] . وقيل : اللمم هو أن يأتي بذنب لم يكن له بعادة ؛ قال نفطويه. قال : والعرب تقول ما يأتينا إلا لماما ؛ أي في الحين بعد الحين. قال : ولا يكون أن يلم ولا يفعل ، لأن العرب لا تقول ألم بنا إلا إذا فعل الإنسان لا إذا هم ولم يفعله. وفي الصحاح : وألم الرجل من اللمم وهو صغائر الذنوب ، ويقال : هو مقاربة المعصية من غير مواقعة. وأنشد غير الجوهري :
بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب ... وقل إن تملينا فما ملك القلب
أي آقرب. وقال عطاء بن أبي رباح : اللمم عادة النفس الحين بعد الحين. وقال سعيد بن المسيب : هو ما ألم على القلب ؛ أي خطر. وقال محمد ابن الحنفية : كل ما هممت به من خير أو شر فهو لمم. ودليل هذا التأويل قوله عليه الصلاة والسلام : "إن للشيطان لمة وللملك لمة" الحديث. وقد مضى في "البقرة" عند قوله تعالى : {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} . وقال أبو إسحاق الزجاج : أصل اللمم والإلمام ما يعمله الإنسان المرة بعد المرة ولا يتعمق فيه
ولا يقيم عليه ؛ يقال : ألممت به إذا زرته وانصرفت عنه ، ويقال : ما فعلته إلا لمما وإلماما ؛ أي الحين بعد الحين. وإنما زيارتك إلمام ، ومنه إلمام الخيال ؛ قال الأعشى :
ألم خيال من قتيلة بعدما ... وهى حبلها من حبلنا فتصرما
وقيل : إلا بمعنى الواو. وأنكر هذا الفراء وقال : المعنى إلا المتقارب من صغار الذنوب. وقيل : اللمم النظرة التي تكون فجأة.
قلت : هذا فيه بعد إذ هو معفو عنه ابتداء غير مؤاخذ به ؛ لأنه يقع من غير قصد واختيار ، وقد مضى في "النور" بيانه. واللمم أيضا طرف من الجنون ، ورجل ملموم أي به لمم. ويقال أيضا : أصابت فلانا لمة من الجن وهي المس والشيء القليل ؛ قال الشاعر :
فإذا وذلك يا كبيشة لم يكن ... إلا كلمة حالم بخيال
الثالثة : قوله تعالى : {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} لمن تاب من ذنبه واستغفر ؛ قاله ابن عباس. وقال أبو ميسرة عمرو بن شرحبيل وكان من أفاضل أصحاب ابن مسعود : رأيت في المنام كأني دخلت الجنة فإذا قباب مضروبة ، فقلت : لمن هذه ؟ فقالوا : لذي الكلاع وحوشب ، وكانا ممن قتل بعضهم بعضا ، فقلت : وكيف ذلك ؟ فقالوا : إنهما لقيا الله فوجداه واسع المغفرة. فقال أبو خالد : بلغني أن ذا الكلاع أعتق اثني عشر ألف بنت. {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ} من أنفسكم {إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} يعني أباكم آدم من الطين وخرج اللفظ على الجمع. قال الترمذي أبو عبدالله : وليس هو كذلك عندنا ، بل وقع الإنشاء على التربة التي رفعت من الأرض ، وكنا جميعا في تلك التربة وفي تلك الطينة ، ثم خرجت من الطينة المياه إلى الأصلاب مع ذرو النفوس على آختلاف هيئتها ، ثم استخرجها من صلبها على آختلاف الهيئات ؛ منهم كالدر يتلألأ ، وبعضهم أنور من بعض ، وبعضهم أسود كالحممة ، وبعضهم أشد سوادا من بعض ؛ فكان الإنشاء واقعا علينا وعليه. حدثنا عيسى
ابن حماد العسقلاني قال : حدثنا بشر بن بكر ، قال : حدثنا الأوزاعي ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "عرض علي الأولون والآخرون بين يدي حجرتي هذه الليلة" فقال قائل : يا رسول الله! ومن مضى من الخلق ؟ قال : "نعم عرض علي آدم فمن دونه فهل كان خلق أحد" قالوا : ومن في أصلاب الرجال وبطون الأمهات ؟ قال : "نعم مثلوا في الطين فعرفتهم كما علم آدم الأسماء كلها" .
قلت : وقد تقدم في أول "الأنعام" أن كل إنسان يخلق من طين البقعة التي يدفن فيها . {وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ} جمع جنين وهو الولد ما دام في البطن ، سمي جنينا لاجتنابه واستتاره. قال عمرو بن كلثوم :
هجان اللون لم تقرأ جنينا
وقال مكحول : كنا أجنة في بطون أمهاتنا فسقط منا من سقط وكنا فيمن بقى ، ثم صرنا رضعا فهلك منا من هلك وكنا فيمن بقي ، ثم صرنا يفعة فهلك منا من هلك ، وكنا فيمن بقى ثم صرنا شبابا فهلك منا من هلك وكنا فيمن بقي ، ثم صرنا شيوخا لا أبالك - فما بعد هذا ننتظر ؟ !. وروى ابن لهيعة عن الحرث بن يزيد عن ثابت بن الحرث الأنصاري قال : كانت اليهود تقول إذا هلك لهم صبي صغير : هو صديق ؛ فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : "كذبت يهود ما من نسمة يخلقها الله في بطن أمه إلا أنه شقي أو سعيد" فأنزل الله تعالى عند ذلك هذه الآية : {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} إلى آخرها. ونحوه عن عائشة : "كان اليهود" . بمثله. {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} أي لا تمدحوها ولا تثنوا عليها ، فإنه أبعد من الرياء وأقرب إلى الخشوع . {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} أي أخلص العمل واتقى عقوبة الله ؛ عن الحسن وغيره. قال الحسن : قد علم الله سبحانه كل نفس ما هي عاملة ، وما هي صانعة ، وإلى ما هي صائرة. وقد مضى في "النساء" الكلام في معنى هذه الآية عند قوله




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #675  
قديم 12-07-2025, 08:25 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (17)
سُورَةُ النجم
من صــ 111 الى صــ 120
الحلقة (675)






تعالى : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ} [النساء : 49] فتأمله هناك. وقال ابن عباس : ما من أحد من هذه الأمة أزكيه غير رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله تعالى أعلم.
الآية : 33 - 35 {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى}
قوله تعالى : {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى} الآيات لما بين جهل المشركين في عبادة الأصنام ذكر واحدا منهم معينا بسوء فعله. قال مجاهد وابن زيد ومقاتل : نزلت في الوليد بن المغيرة ، وكان قد أتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم على دينه فعيره بعض المشركين ، وقال : لم تركت دين الأشياخ وضللتهم وزعمت أنهم في النار ؟ قال : إني خشيت عذاب الله ؛ فضمن له إن هو أعطاه شيئا من ماله ورجع إلى شركه أن يتحمل عنه عذاب الله ، فأعطى الذي عاتبه بعض ما كان ضمن له ثم بخل ومنعه فانزل الله تعالى هذه الآية. وقال مقاتل : كال الوليد مدح القرآن ثم أمسك عنه فنزل : {وَأَعْطَى قَلِيلاً} أي من الخير بلسانه {وَأَكْدَى} أي قطع ذلك وأمسك عنه. وعنه أنه أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد الإيمان ثم تولى فنزلت : {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى} الآية. وقال ابن عباس والسدي والكلبي والمسيب ابن شريك : نزلت في عثمان بن عفان رضي الله عنه كان يتصدق وينفق في الخير ، فقال له أخوه من الرضاعة عبدالله بن أبي سرح : ما هذا الذي تصنع ؟ يوشك ألا يبقى لك شيء. فقال عثمان : إن لي ذنوبا وخطايا ، وإني أطلب بما أصنع رضا الله تعالى وأرجو عفوه! فقال له عبدالله : أعطني ناقتك برحلها وأنا أتحمل عنك ذنوبك كلها. فأعطاه وأشهد عليه ، وأمسك عن بعض ما كان يصنع من الصدقة فأنزل الله تعالى : {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى} فعاد عثمان إلى أحسن ذلك وأجمله. ذكر ذلك الواحدي والثعلبي. وقال السدي أيضا : نزلت في العاص بن وائل السهمي ، وذلك أنه
كان ربما يوافق النبي صلى الله عليه وسلم. وقال محمد بن كعب القرظي : نزلت في أبي جهل بن هشام ، قال : والله ما يأمر محمد إلا بمكارم الأخلاق ؛ فذلك قوله تعالى : - {وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى} . وقال الضحاك : هو النضر بن الحرث أعطى خمس قلائص لفقير من المهاجرين حين ارتد عن دينه ، وضمن له أن يتحمل عنه مأثم رجوعه. وأصل {أَكْدَى} من الكدية يقال لمن حفر بئرا ثم بلغ إلى حجر لا يتهيأ له فيه حفر : قد أكدى ، ثم استعملته العرب لمن أعطى ولم يتمم ، ولمن طلب شيئا ولم يبلغ آخره. وقال الحطيئة :
فأعطى قليلا ثم أكدى عطاءه ... ومن يبذل المعروف في الناس يحمد
قال الكسائي وغيره : أكدى الحافر وأجبل إذا بلغ في حفره كدية أو جبلا فلا يمكنه أن يحفر. وحفر فأكدى إذا بلغ إلى الصلب. ويقال : كديت أصابعه إذا كلت من الحفر. وكديت يده إذا كلت فلم تعمل شيئا. وأكدى النبت إذا قل ريعه ، وكدت الأرض تكدو كدوا وكدوا فهي كادية إذا أبطأ نباتها ؛ عن أبى زيد. وأكديت الرجل عن الشيء رددته عنه. وأكدى الرجل إذا قل خيره. وقوله : {وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى} أي قطع القليل.
قوله تعالى : {أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى} أي أعند هذا المكدي علم ما غاب عنه من أمر العذاب ؟ . {فَهُوَ يَرَى} أي يعلم ما غاب عنه من أمر الآخرة ، وما يكون من أمره حتى يضمن حمل العذاب عن غيره ، وكفى بهذا جهلا وحمقا. وهذه الرؤية هي المتعدية إلى مفعولين والمفعولان محذوفان ؛ كأنه قال : فهو يرى الغيب مثل الشهادة.
الآية : 36 {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى}
قوله تعالى : {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى} أي صحف {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} كما في سورة "الأعلى" {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى : 19] أي لا تؤخذ نفس بدلا عن أخرى ؛ كما قال {أَنَْ لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وخص صحف إبراهيم وموسى بالذكر ؛ لأنه كان ما بين نوح وإبراهيم يؤخذ الرجل بجريرة أخيه وابنه وأبيه ؛ قاله الهذيل بن شرحبيل.و {أَنَْ} هذه المخففة من الثقيلة وموضعها جر بدلاً من "ما" أو يكون في موضع رفع على إضمار هو. وقرأ سعيد بن جبير وقتادة {وَفَى} خفيفة ومعناها صدق في قوله وعمله ، وهي راجعة إلى معنى قراءة الجماعة {وَفَّى} بالتشديد أي قام بجميع ما فرض عليه فلم يخرم منه شيئا. وقد مضى في "البقرة" عند قوله تعالى : {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة : 124] والتوفية الإتمام. وقال أبو بكر الوراق : قام بشرط ما آدعى ؛ وذلك أن الله تعالى قال له : {أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة : 131] فطالبه الله بصحة دعواه ، فابتلاه في ماله وولده ونفسه فوجده وافيا بذلك ؛ فذلك قوله : {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} أي آدعى الإسلام ثم صحح دعواه. وقيل : وفى عمله كل يوم بأربع ركعات في صدر النهار ؛ رواه الهيثم عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وروى سهل بن سعد الساعدي عن أبيه "ألا أخبركم لم سمى الله تعالى خليله إبراهيم {الَّذِي وَفَّى} لأنه كان يقول كلما أصبح وأمسى : {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم : 17] " الآية. ورواه سهل بن معاذ عن أنس عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل : {وَفَّى} أي وفى ما أرسل به ، وهو قوله : {أَنْ لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} قال ابن عباس : كانوا قبل إبراهيم عليه السلام يأخذون الرجل بذنب غيره ، ويأخذون الولي بالولي في القتل والجراحة ؛ فيقتل الرجل بأبيه وابنه وأخيه وعمه وخاله وابن عمه وقريبه وزوجته وزوجها وعبده ، فبلغهم إبراهيم عليه السلام عن الله تعالى : {أَنْ لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وقال الحسن وقتادة وسعيد بن جبير في قوله تعالى {وَفَّى} : عمل بما أمر به وبلغ رسالات ربه. وهذا أحسن ؛ لأنه عام. وكذا قال مجاهد : {وَفَّى} بما فرض عليه. وقال أبو مالك
الغفاري قوله تعالى : { أَنْ لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} إلى قوله : {فبأي آلاء ربك تتمارى} [النجم : 55] في صحف إبراهيم وموسى ، وقد مضى في آخر "الأنعام" القول في {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام : 164] مستوفى.
قوله تعالى : {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} روي عن ابن عباس أنها منسوخة بقوله تعالى : {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور : 21] فيحصل الولد الطفل يوم القيامة في ميزان أبيه ، ويشفع الله تعالى الآباء في الأبناء والأبناء في الآباء ؛ يدل على ذلك قوله تعالى : {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً} [النساء : 11] . وقال أكثر أهل التأويل : هي محكمة ولا ينفع أحدا عمل أحد ، وأجمعوا أن لا يصلي أحد عن أحد. ولم يجز مالك الصيام والحج والصدقة عن الميت ، إلا أنه قال : إن أوصى بالحج ومات جاز أن يحج عنه. وأجاز الشافعي وغيره الحج التطوع عن الميت. وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها اعتكفت عن أخيها عبدالرحمن وأعتقت عنه. وروى أن سعد بن عبادة قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إن أمي توفيت أفأتصدق عنها ؟ قال : "نعم" قال : فأي الصدقة أفضل ؟ قال : "سقي الماء" . وقد مضى جميع هذا مستوفى في "البقرة" و "آل عمران" و "الأعراف" . وقد قيل : إن الله عز وجل إنما قال : { وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} ولام الخفض معناها في العربية الملك والإيجاب فلم يجب للإنسان إلا ما سعى ، فإذا تصدق عنه غيره فليس يجب له شيء إلا أن الله عز وجل يتفضل عليه بما لا يجب له ، كما يتفضل على الأطفال بادخالهم الجنة بغير عمل. وقال الربيع بن أنس : {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} يعني الكافر وأما المؤمن فله ما سعى وما سعى له غيره.
قلت : وكثير من الأحاديث يدل على هذا القول ، وأن المؤمن يصل إلى ثواب العمل الصالح من غيره ، وقد تقدم كثير منها لمن تأملها ، وليس في الصدقة اختلاف ، كما في صدر
كتاب مسلم عن عبدالله بن المبارك. وفي الصحيح : "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث" وفيه "أو ولد صالح يدعو له" وهذا كله تفضل من الله عز وجل ، كما أن زيادة الأضعاف فضل منه ، كتب لهم بالحسنة الواحدة عشرا إلى سبعمائة ضعف إلى ألف ألف حسنة ؛ كما قيل لأبي هريرة : أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن الله ليجزي على الحسنة الواحدة ألف ألف حسنة" فقال سمعته يقول : "إن الله ليجزي على الحسنة الواحدة ألفي ألف حسنة" فهذا تفضل. وطريق العدل {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى}
قلت : ويحتمل أن يكون قوله : " {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} خاص في السيئة ؛ بدليل ما في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" قال الله عز وجل إذا هم عبدي بحسنة ولم يعملها كتبتها له حسنة فإن عملها كتبتها له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف وإذا هم بسيئة ولم يعملها لم أكتبها عليه فإن عملها كتبتها سيئة واحدة ". وقال أبو بكر الوراق : {إِلاَّ مَا سَعَى} إلا ما نوى ؛ بيانه قوله صلى الله عليه وسلم :" يبعث الناس يوم القيامة على نياتهم "."
قوله تعالى : {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} أي يريه الله تعالى جزاءه يوم القيامة {ثُمَّ يُجْزَاهُ} أي يجزى به {الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} قال الأخفش : يقال جزيته الجزاء ، وجزيته بالجزاء سواء لا فرق بينهما قال الشاعر :
إن أجز علقمة بن سعد سعيه ... لم أجزه ببلاء يوم واحد
فجمع بين اللغتين.
قوله تعالى : {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} أي المرجع والمراد والمصير فيعاقب ويثيب. وقيل : منه ابتداء المنة وإليه انتهاء الأمان. وعن أبي بن كعب قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} قال : "لا فكرة في الرب" . وعن أنس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إذ ذكر الله تعالى فانته" .
قلت : ومن هذا المعنى قوله عليه الصلاة والسلام : "يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا وكذا حتى يقول له من خلق ربك فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته" وقد تقدم في آخر "الأعراف" . ولقد أحسن من قال :
ولا تفكرن في ذي العلا عز وجهه ... فإنك تردى إن فعلت وتخذل
ودونك مصنوعاته فاعتبر بها ... وقل مثل ما قال الخليل المبجل
الآية : 43 - 46 {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى}
قوله تعالى : {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} ذهبت الوسائط وبقيت الحقائق لله سبحانه وتعال فلا فاعل إلا هو ؛ وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : لا والله ما قال رسول الله قط إن المت يعذب ببكاء أحد ، ، ولكنه قال : "إن الكافر يزيده الله ببكاء أهله عذابا وإن الله لهو أضحك وأبكى وما تزر وازرة وزر أخرى" . وعنها قالت : مر النبي صلى الله عليه وسلم على قوم من أصحابه وهم يضحكون ، فقال : "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا" فنزل عليه جبريل فقال : يا محمد! إن الله يقول لك : {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} . فرجع إليهم فقال : "ما خطوت أربعين خطوة حتى أتاني جبريل فقال ايت هؤلاء فقل لهم إن الله تعالى يقول : {هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} أي قضى أسباب الضحك والبكاء. وقال عطاء بن أبي مسلم : يعني أفرح وأحزن ؛ لأن الفرح يجلب الضحك والحزن يجلب البكاء. وقيل لعمر : هل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحكون ؟ قال : نعم! والإيمان والله أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي. وقد تقدم هذا المعنى في ،" النمل "و" التوبة ". قال الحسن :"
أضحك الله أهل الجنة في الجنة ، وأبكى أهل النار في النار. وقيل : أضحك من شاء في الدنيا بأن سره وأبكى من شاء بأن غمه. الضحاك : أضحك الأرض بالنبات وأبكى السماء بالمطر. وقيل : أضحك الأشجار بالنوار ، وأبكى السحاب بالأمطار. وقال ذو النون : أضحك قلوب المؤمنين والعارفين بشمس معرفته ، وأبكى قلوب الكافرين والعاصين بظلمة نكرته ومعصيته. وقال سهل بن عبدالله : أضحك الله المطيعين بالرحمة وأبكى العاصين بالسخط. وقال محمد بن علي الترمذي : أضحك المؤمن في الآخرة وأبكاه في الدنيا. وقال بسام بن عبدالله : أضحك الله أسنانهم وأبكى قلوبهم. وأنشد :
السن تضحك والأحشاء تحترق ... وإنما ضحكها زور ومختلق
يارب باك بعين لا دموع لها ... ورب ضاحك سن ما به رمق
وقيل : إن الله تعالىخص الإنسان بالضحك والبكاء من بين سائر الحيوان ، وليس في سائر الحيوان من يضحك ويبكي غير الإنسان. وقد قيل : إن القرد وحده يضحك ولا يبكي ، وإن الإبل وحدها تبكي ولا تضحك. وقال يوسف بن الحسين : سئل طاهر المقدسي أتضحك الملائكة ؟ فقال : ما ضحكوا ولا كل من دون العرش منذ خلقت جهنم. {وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} أي قضى أسباب الموت والحياة. وقيل : خلق الموت والحياة كما قال : {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [الملك : 2] قاله ابن بحر. وقيل : أمات الكافر بالكفر وأحيا المؤمن بالإيمان ؛ قال الله تعالى : {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام : 122] الآية. وقال : {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} على ما تقدم ، وإليه يرجع قول عطاء : أمات بعدله وأحيا بفضله. وقول من قال : أمات بالمنع والبخل وأحيا بالجود والبذل. وقيل : أمات النطفة وأحيا النسمة. وقيل : أمات الآباء وأحيا الأبناء. وقيل : يريد بالحياة الخصب وبالموت الجدب. وقيل : أنام وأيقظ. وقيل : أمات في الدنيا وأحيا للبعث. {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} أي من أولاد آدم ولم يرد آدم وحواء بأنهما خلقا من نطفة.
والنطفة الماء القليل ، مشتق من نطف الماء إذا قطر. {تُمْنَى} تصب في الرحم وتراق ؛ قاله الكلبي والضحاك وعطاء بن أبي رباح. يقال : منى الرجل وأمنى من المني ، وسميت منى بهذا الاسم لما يمنى فيها من الدماء أي يراق. وقيل : {تُمْنَى} تقدر ؛ قاله أبو عبيدة. يقال : منيت الشيء إذا قدرته ، ومني له أي قدر له ؛ قال الشاعر :
حتى تلاقي ما يَمني لك الماني
أي ما يقدر لك القادر.
الآية : 47 - 55 {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرى وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى}
قوله تعالى : {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرى} أي إعادة الأرواح في الأشباح للبعث. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {النَّشَأَةَ} بفتح الشين والمد ؛ أي وعد ذلك ووعده صدق. {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} قال ابن زيد : أغنى من شاء وأفقر من شاء ثم قرأ {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ} [سبأ : 39] وقرأ {يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} [ البقرة : 245] واختاره الطبري. وعن ابن زيد أيضا ومجاهد وقتادة والحسن : {أَغْنَى} مول {وَأَقْنَى} أخدم. وقيل : {أَقْنَى} جعل
لكم قنية تقتنونها ، وهو معنى أخدم أيضا. وقيل : معناه أرضى بما أعطى أي أغناه ثم رضاه بما أعطاه ؛ قاله ابن عباس. وقال الجوهري : قني الرجل يقنى قنى ؛ مثل غني يغنى غنى ، وأقناه الله أي أعطاه الله ما يقتنى من القنية والنشب. وأقناه الله أيضا أي رضاه. والقنى الرضا ، عن أبي زيد ؛ قال وتقول العرب : من أعطي مائة من المعز فقد أعطي القنى ، ومن أعطى مائة من الضأن فقد أعطي الغنى ، ومن أعطى مائة من الإبل فقد أعطي المنى. ويقال : أغناه الله وأقناه أي أعطاه ما يسكن إليه. وقيل : {أَغْنَى وَأَقْنَى} أي أغنى نفسه وأفقر خلقه إليه ؛ قال سليمان التيمي. وقال سفيان : أغنى بالقناعة وأقنى بالرضا. وقال الأخفش : أقنى أفقر. قال ابن كيسان : أولد. وهذا راجع لما تقدم. {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} {الشِّعْرَى} الكوكب المضيء الذي يطلع بعد الجوزاء ، وطلوعه في شدة الحر ، وهما الشعريان العبور التي في الجوزاء والشعرى الغميصاء التي في الذراع ؛ وتزعم العرب أنهما أختا سهيل. وإنما ذكر أنه رب الشعرى وإن كان ربا لغيره ؛ لأن العرب كانت تعبده ؛ فأعلمهم الله جل وعز أن الشعرى مربوب ليس برب. واختلف فيمن كان يعبده ؛ فقال السدي : كانت تعبده حمير وخزاعة. وقال غيره : أول من عبده أبو كبشة أحد أجداد النبي صلى الله عليه وسلم من قبل أمهاته ، ولذلك كان مشركو قريش يسمون النبي صلى الله عليه وسلم ابن أبي كبشة حين دعا إلى الله وخالف أديانهم ؛ وقالوا : ما لقينا من ابن أبي كبشة! وقال أبو سفيان يوم الفتح وقد وقف في بعض المضايق وعساكر رسول الله صلى الله عليه وسلم تمر عليه : لقد أمر أمر ابن أبي كبشة. وقد كان من لا يعبد الشعرى من العرب يعظمها ويعتقد تأثيرها في العالم ، قال الشاعر :
مضى أيلول وارتفع الحرور ... وأخبت نارها الشعرى العبور
وقيل : إن العرب تقول في خرافاتها : إن سهيلا والشعرى كانا زوجين ، فانحدر سهيل فصار يمانيا ، فاتبعته الشعرى العبور فعبرت المجرة فسميت العبور ، وأقامت الغميصاء فبكت
لفقد سهيل حتى غمصت عيناها فسميت غميصاء لأنها أخفى من الأخرى.
قوله تعالى : {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأُولَى} سماها الأولى لأنهم كانوا من قبل ثمود. وقيل : إن ثمود من قبل عاد. وقال ابن زيد : قيل لها عاد الأولى لأنها أول أمة أهلكت بعد نوح عليه السلام. وقال ابن إسحاق : هما عادان فالأولى أهلكت بالريح الصرصر ، ثم كانت الأخرى فأهلكت بالصيحة. وقيل : عاد الأولى هو عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح ، وعاد الثانية من ولد عاد الأولى ؛ والمعنى متقارب. وقيل : إن عاد الآخرة الجبارون وهم قوم هود. وقراءة العامة {عَاداً الأُولَى} ببيان التنوين والهمز. وقرأ نافع وابن محيصن وأبو عمرو {عَاداً الأُولَى} بنقل حركة الهمزة إلى اللام وإدغام التنوين فيها ، إلا أن قالون والسوسي يظهران الهمزة الساكنة. وقلبها الباقون واوا على أصلها ؛ والعرب تقلب هذا القلب فتقول : قم الان عنا وضمَّ لِثنين أي قم الآن وضم الاثنين. {وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} ثمود هم قوم صالح أهلكوا بالصيحة. قرئ {ثَمُوداً} و {ثَمُودَ} [التوبة : 70] وقد تقدم. وانتصب على العطف على عاد. {وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ} أي وأهلك قوم نوج من قبل عاد وثمود {إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى} وذلك لطول مدة نوح فيهم ، حتى كان الرجل فيهم يأخذ بيد ابنه فينطلق إلى نوح عليه السلام فيقول : احذر هذا فإنه كذاب ، وإن أبي قد مشى بي إلى هذا وقال لي مثل ما قلت لك ؛ فيموت الكبير على الكفر ، ومنشأ الصغير على وصية أبيه. وقيل : إن الكناية ترجع لى كل من ذكر من عاد وثمود وقوم نوح ؛ أي كانوا أكفر من مشركي العرب وأطغى. فيكون فيه تسلية وتعزية للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ فكأنه يقول له : فاصبر أنت أيضا فالعاقبة الحميدة لك. {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} يعني مدائن قوم لوط عليه السلام ائتفكت بهم ، أي انقلبت وصار عاليها سافلها. يقال : أفكته أي قلبته وصرفته . {أَهْوَى} أي خسف بهم بعد رفعها إلى السماء ؛ رفعها جبريل ثم أهوى بها إلى الأرض. وقال المبرد : جعلها تهوي. ويقال : هوى بالفتح يهوي هويا أي سقط




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #676  
قديم 12-07-2025, 08:28 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (17)
سُورَةُ القمر
من صــ 121 الى صــ 130
الحلقة (676)



و {أَهْوَى} أي أسقط. {فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} أي ألبسها ما ألبسها من الحجارة ؛ قال الله تعالى : {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} [الحجر : 74] وقيل : إن الكناية ترجع إلى جميع هذه الأمم ؛ أي غشاها من العذاب ما غشاهم ، وأبهم لأن كلا منهم أهلك بضرب غير ما أهلك به الآخر. وقيل : هذا تعظيم الأمر. {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} أي فبأي نعم ربك تشك. والمخاطبة للإنسان المكذب. والآلاء النعم واحدها ألى وإلى وإلي. وقرأ يعقوب {تَمَارَى} بإدغام إحدى التاءين في الأخرى والتشديد.
الآية : 56 - 62 {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولَى أَزِفَتِ الْآزِفَةُ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا}
قوله تعالى : {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولَى} قال ابن جريج ومحمد بن كعب : يريد أن محمدا صلى الله عليه وسلم نذير بالحق الذي أنذر به الأنبياء قبله ، فإن أطعتموه أفلحتم ، وإلا حل بكم ما حل بمكذبي الرسل السالفة. وقال قتادة : يريد القرآن ، وأنه نذير بما أنذرت به الكتب الأولى. وقيل : أي هذا الذي أخبرنا به من أخبار الأمم الماضية الذين هلكوا تخويف لهذه الأمة من أن ينزل بهم ما نزل بأولئك من النذر أي مثل النذر ؛ والنذر في قول العرب بمعنى الإنذار كالنكر بمعنى الإنكار ؛ أي هذا إنذار لكم. وقال أبو مالك : هذا الذي أنذرتكم به من وقائع الأمم الخالية هو في صحف إبراهيم وموسى. وقال السدي أخبرني أبو صالح قال : هذه الحروف التي ذكر الله تعالى من قوله تعالى : {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى} [النجم : 37] إلى قوله : {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولَى} كل هذه في صحف إبراهيم وموسى.
قوله تعالى : {أَزِفَتِ الآزِفَةُ} أي قربت الساعة ودنت القيامة. وسماها آزفة لقرب قيامها عنده ؛ كما قال : {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً} [المعارج : 6 - 7] . وقيل : سماها آزفة لدنوها من الناس وقربها منهم ليستعدوا لها ؛ لأن كل ما هو آت قريب. قال :
أزف الترحل غير أن ركابنا ... لما تزل برحالنا وكأن قد
وفي الصحاح : أزف الترحل يأزف أزفا أي دنا وأفد ؛ ومنه قوله تعالى : {أَزِفَتِ الآزِفَةُ} يعني القيامة ، وأزف الرجل أي عجل فهو آزف على فاعل ، والمتآزف القصير وهو المتداني. قال أبو زيد : قلت لأعرابي ما المحبنطئ ؟ قال : المتكأكئ. قلت : ما المتكأكئ ؟ قال : المتآزف. قلت : ما المتآزف ؟ قال : أنت أحمق وتركني ومر. { لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} أي ليس لها من دون الله من يؤخرها أو يقدمها. وقيل : كاشفة أي أنكشاف أي لا يكشف عنها ولا يبديها إلا الله ؛ فالكاشفة آسم بمعنى المصدر والهاء فيه كالهاء في العاقبة والعافية والداهية والباقية ؛ كقولهم : ما لفلان من باقية أي من بقاء. وقيل : أي لا أحد يرد ذلك ؛ أي إن القيامة إذا قامت لا يكشفها أحد من آلهتهم ولا ينجيهم غير الله تعالى. وقد سميت القيامة غاشية ، فإذا كانت غاشية كان ردها كشفا ، فالكاشفة علي هذا نعت مؤنث محذوف ؛ أي نقس كاشفة أو فرقة كاشفة أو حال كاشفة. وقيل : إن {كَاشِفَةٌ} بمعنى كاشف والهاء للمبالغة مثل راوية وداهية.
قوله تعالى : {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ} يعني القرآن. وهذا استفهام توبيخ {تَعْجَبُونَ} تكذيبا به {وَتَضْحَكُونَ} استهزاء {وَلا تَبْكُونَ} انزجارا وخوفا من الوعيد. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم ما رئي بعد نزول هذه الآية ضاحكا إلا تبسما. وقال أبو هريرة : لما نزلت {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ} قال أهل الصفة : {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} ثم بكوا حتى جرت دموعهم على خدودهم ، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم بكاءهم بكى معهم فبكينا لبكائه ؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "لا يلج النار من بكى من"
خشية الله ولا يدخل الجنة مصر على معصية الله ولو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيغفر لهم ويرحمهم إنه هو الغفور الرحيم ". وقال أبو حازم : نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده رجل يبكي ، فقال له : من هذا ؟ قال : هذا فلان ؛ فقال جبريل : إنا نزن أعمال بني آدم كلها إلا البكاء ، فإن الله تعالى ليطفئ بالدمعة الواحدة بحورا من جهنم. {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} أي لاهون معرضون. عن ابن عباس ؛ رواه الوالبي والعوفي عنه. وقال عكرمة عنه : هو الغناء بلغة حمير ؛ يقال : سمد لنا أي غن لنا ، فكانوا إذا سمعوا القرآن يتلى تغنوا ولعبوا حتى لا يسمعوا. وقال الضحاك : سامدون شامخون متكبرون. وفي الصحاح : سمد سمودا رفع رأسه تكبرا وكل رافع رأسه فهو سامد ؛ قال :"
سوامد الليل خفاف الأزواد
يقول : ليس في بطونها علف. وقال ابن الأعرابي : سمدت سمودا علوت. وسمدت الإبل في سيرها جدت. والسمود اللهو ، والسامد اللاهي ؛ يقال للقينه : أسمدينا ؛ أي ألهينا بالغناء. وتسميد الأرض أن يجعل فيها السماد وهو سرجين ورماد. وتسميد الرأس استئصال شعره ، لغة في التسبيد. واسمأد الرجل بالهمز اسمئدادا أي ورم غضبا. وروي عن علي رضي الله عنه أن معنى {سَامِدُونَ} أن يجلسوا غير مصلين ولا منتظر بن الصلاة. وقال الحسن : واقفون للصلاة قبل وقوف الإمام ؛ ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خرج الناس ينتظرونه قياما فقال : "مالي أراكم سامدين" حكاه الماوردي. وذكره المهدوي عن علي ، وأنه خرج إلى الصلاة فرأى الناس قياما ينتظرونه فقال : "مالكم سامدون" قال المهدوي. والمعروف في اللغة : سمد يسمد سمودا إذا لها وأعرض. وقال المبرد : سامدون خامدون ؛ قال الشاعر :
أتى الحدثان نسوة آل حرب ... بمقدور سمدن له سمودا
وقال صالح أبو الخليل : لما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} لم ير ضاحكا إلا مبتسما حتى مات صلى الله عليه وسلم ذكره النحاس.
قوله تعالى : {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} قيل : المراد به سجود تلاوة القرآن. و. هو قول ابن مسعود. وبه قال أبو حنيفة والشافعي. وقد تقدم أول السورة من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد فيها وسجد معه المشركون. وقيل : إنما سجد معه المشركون لأنهم سمعوا أصوات الشياطين في أثناء قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند قوله : {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم : 19] وأنه قال : تلك الغرانيق العلا وشفاعتهن ترتجى. كذا في رواية سعيد بن جبير ترتجى. وفي رواية أبي العالية وشفاعتهن ترتضى ، ومثلهن لا ينسى. ففرح المشركون وظنوا أنه من قول محمد صلى الله عليه وسلم على ما تقدم بيانه في "الحج" . فلما بلغ الخبر بالحبشة من كان بها من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رجعوا ظنا منهم أن أهل مكة آمنوا ؛ فكان أهل مكة أشد عليهم وأخذوا في تعذيبهم إلى أن كشف الله عنهم. وقيل : المراد سجود الفرض في الصلاة وهو قول ابن عمر ؛ كان لا يراها من عزائم السجود. وبه قال مالك. وروى أبي بن كعب رضي الله عنه : كان آخر فعل النبي صلى الله عليه وسلم ترك السجود في المفصل. والأول أصح وقد مضى القول فيه آخر "الأعراف" مبينا والحمد لله رب العالمين.
سورة القمر
مقدمة السورة
مكية كلها في قول الجمهور. وقال مقاتل : إلا ثلاث آيات : {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} ولا يصح على ما يأتي. وهي خمس وخمسون آية.
الآية : 1 - 8 {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ}
قوله تعالى : {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} {اقْتَرَبَتِ} أي قربت مثل {أَزِفَتِ الآزِفَةُ} [النجم : 57] على ما بيناه. فهي بالإضافة إلى ما مضى قريبة ؛ لأنه قد مضى أكثر الدنيا كما روى قتادة عن أنس قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كادت الشمس تغيب فقال : "ما بقي من دنياكم فيما مضى إلا مثل ما بقي من هذا اليوم فيما مضى" وما نرى من الشمس إلا يسيرا. وقال كعب ووهب : الدنيا ستة آلاف سنة. قال وهب : قد مضى منها خمسة آلاف سنة وستمائة سنة. ذكره النحاس.
قوله تعالى : {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} أي وقد انشق القمر. وكذا قرأ حذيفة {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَقَد انْشَقَّ الْقَمَرُ} بزيادة {قَد} وعلى هذا الجمهور من العلماء ؛ ثبت ذلك في صحيح
البخاري وغيره من حديث ابن مسعود وابن عمر وأنس وجبير بن مطعم وابن عباس رضي الله عنهم. وعن أنس قال : سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم آية ، فانشق القمر بمكة مرتين فنزلت : {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} إلى قوله : {سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} يقول ذاهب قال أبو عيسى الترمذي : هذا حديث حسن صحيح. ولفظ البخاري عن أنسى قال : انشق القمر فرقتين. وقال قوم : لم يقع انشقاق القمر بعد وهو منتظر ؛ أي اقترب قيام الساعة وانشقاق القمر ؛ وأن الساعة إذا قامت انشقت السماء بما فيها من القمر وغيره. وكذا قال القشيري. وذكر الماوردي : أن هذا قول الجمهور ، وقال : لأنه إذا انشق ما بقي أحد إلا رآه ؛ لأنه آية والناس في الآيات سواء. وقال الحسن : اقتربت الساعة فإذا جاءت انشق القمر بعد النفخة الثانية. وقيل : {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} أي وضح الأمر وظهر ؛ والعرب تضرب بالقمر مثلا فيما وضح ؛ قال :
أقيموا بني أمي صدور مطيكم ... فإني إلى حي سواكم لأميل
فقد حمت الحاجات والليل مقمر ... وشدت لطيات مطايا وأرحل
وقيل : انشقاق القمر هو انشقاق الظلمة عنه بطلوعه في أثنائها ، كما يسمى الصبح فلقا ؛ لانفلاق الظلمة عنه. وقد يعبر عن انفلاقه بانشقاقه كما قال النابغة :
فلما أدبروا ولهم دوي ... دعانا عند شق الصبح داع
قلت : وقد ثبت بنقل الأحاد العدول أن القمر انشق بمكة ، وهو ظاهر التنزيل ، ولا يلزم أن يستوي الناس فيها ؛ لأنها كانت آية ليلية ؛ وأنها كانت باستدعاء النبي صلى الله عليه وسلم من الله تعالى عند التحدي. فروي أن حمزة بن عبدالمطلب حين أسلم غضبا من سب أبي جهل الرسول صلى الله عليه وسلم طلب أن يريه آية يزداد بها يقينا في إيمانه. وقد تقدم في الصحيح أن أهل مكة هم الذين سألوا وطلبوا أن يريهم آية ، فأراهم انشقاق القمر فلقتين كما في حديث ابن مسعود وغيره. وعن حذيفة أنه خطب بالمدائن ثم قال : ألا إن الساعة قد اقتربت ، وأن القمر قد انشق على عهد نبيكم صلى الله عليه وسلم. وقد قيل : هو على
التقديم والتأخير ، وتقديره انشق القمر واقتربت الساعة ؛ قاله ابن كيسان. وقد مر عن الفراء أن الفعلين إذا كانا متقاربي المعنى فلك أن تقدم وتؤخر عند قوله تعالى : {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النجم : 8] .
قوله تعالى : {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا} هذا يدل على أنهم رأوا انشقاق القمر. قال ابن عباس : اجتمع المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : إن كنت صادقا فاشقق لنا القمر فرقتين ، نصف على أبي قبيس ونصف على قعيقعان ؛ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن فعلت تؤمنون" قالوا : نعم ؟ وكانت ليلة بدر ، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه أن يعطيه ما قالوا ؛ فانشق القمر فرقتين ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي المشركين : "يا فلان يا فلان اشهدوا" . وفي حديث ابن مسعود : انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت قريش : هذا من سحر بن أبي كبشة ؛ سحركم فاسألوا السفار ؛ فسألوهم فقالوا : قد رأينا القمر انشق فنزلت : {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ. وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا} أي إن يروا آية تدل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم أعرضوا عن الإيمان {وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} أي ذاهب ؛ من قولهم : مر الشيء واستمر إذا ذهب ؛ قال أنس وقتادة ومجاهد والفراء والكسائي وأبو عبيدة ، واختاره النحاس. وقال أبو العالية والضحاك : محكم قوي شديد ، وهو من المرة وهي القوة ؛ كما قال لقيط :
حتى استمرت على شزر مريرته ... مر العزيمة لا قحما ولا ضرعا
وقال الأخفش : هو مأخوذ من إمرار الحبل وهو شدة فتله. وقيل : معناه مر من المرارة. يقال : أمر الشيء صار مرا ، وكذلك مر الشيء يمر بالفتح مرارة فهو مر ، وأمره غيره ومره. وقال الربيع : مستمر نافذ. يمان : ماض. أبو عبيدة : باطل. وقيل : دائم. قال :
وليس على شيء قويم بمستمر
أي بدائم. وقيل : يشبه بعضه بعضا ؛ أي قد استمرت أفعال محمد على هذا الوجه فلا. يأتي بشيء له حقيقة بل الجميع تخييلات. وقيل : معناه قد مر من الأرض إلى السماء . {وَكَذَّبُوا} نبينا {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} أي ضلالاتهم واختياراتهم . {وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} أي يستقر بكل عامل عمله ، فالخير مستقر بأهله في الجنة ، والشر مستقر بأهله في النار. وقرأ شيبة {مُسْتَقِرٌّ} بفتح القاف ؛ أي لكل شيء وقت يقع فيه من غير تقدم وتأخر. وقد روي عن أبي جعفر بن القعقاع . {وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} بكسر القاف والراء جعله نعتا لأمر و {كُلُّ} على هذا يجوز أن يرتفع بالابتداء والخبر محذوف ، كأنه قال : وكل أمر مستقر في أم الكتاب كائن. ويجوز أن يرتفع بالعطف على الساعة ؛ المعنى : اقتربت الساعة وكل أمر مستقر ؛ أي اقترب استقرار الأمور يوم القيامة. ومن رفعه جعله خبرا عن {كُلُّ} .
قوله تعالى : {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأَنْبَاءِ} أي من بعض الأنباء ؛ فذكر سبحانه من ذلك ما علم أنهم يحتاجون إليه ، وأن لهم فيه شفاء. وقد كان هناك أمور أكثر من ذلك ، وإنما اقتص علينا ما علم أن بنا إليه حاجة وسكت عما سوى ذلك ؛ وذلك قوله تعالى : {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ} أي جاء هؤلاء الكفار من أنباء الأمم الخالية {مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} أي ما يزجرهم عن الكفر لو قبلوه. وأصله مزتجر فقلبت التاء دالا ؛ لأن التاء حرف مهموس والزاي حرف مجهور ، فأبدل من التاء دالا توافقها في المخرج وتوافق الزاي في الجهر. و {مُزْدَجَرٌ} من الزجر وهو الانتهاء ، يقال : زجره وازدجره فانزجر وازدجر ، وزجرته أنا فانزجر أي كففته فكف ، كما قال :
فأصبح ما يطلب الغانيا ... ت مزدجرا عن هواه ازدجارا
وقرئ {مُزْدَجَرٌ} بقلب تاء الافتعال زايا وإدغام الزاي فيها ؛ حكاه الزمخشري.
قوله تعالى : {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} يعني القران وهو بدل من {مَا} من قوله : {مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} ويجوز أن يكون خبر ابتداء محذوف ؛ أي هو حكمة . {فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ}
إذا كذبوا وخالفوا كما قال الله تعالى : {وَمَا تُغْنِي الآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس : 101] فـ {مَا} نفي أي ليست تغني عنهم النذر. ويجوز أن يكون استفهاما بمعنى التوبيخ ؛ أي فأي شيء تغني ، النذر عنهم وهم معرضون عنها و {النُّذُرُ} يجوز أن تكون بمعنى الإنذار ، ويجوز أن تكون جمع نذير. {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} أي أعرض عنهم. قيل : هذا منسوخ بآية السيف. وقيل : هو تمام الكلام. {يََوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ} العامل في {يََوْمَ} {يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ} أو {خُشَّعاً} أو فعل مضمر تقديره واذكر يوم. وقيل : على حذف حرف الفاء وما عملت فيه من جواب الأمر ، تقديره : فتول عنهم فإن لهم يوم يدعو الداعي. وقيل : تول عنهم يا محمد فقد أقمت الحجة وأبصرهم يوم يدعو الداعي. وقيل : أي أعرض عنهم يوم القيامة ولا تسأل عنهم وعن أحوالهم ، فإنهم يدعون {إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ} وينالهم عذاب شديد. وهو كما تقول : لا تسأل عما جرى على فلان إذا أخبرته بأمر عظيم. وقيل : أي وكل أمر مستقر يوم يدعوا الداعي. وقرأ ابن كثير {نُكْرٍ} بإسكان الكاف ، وضمها الباقون وهما لغتان كعسر وعسر وشغل وشغل ، ومعناه الأمر الفظيع العظيم وهو يوم القيامة. والداعي هو إسرافيل عليه السلام. وقد روي عن مجاهد وقتادة أنهما قرأ {إِلَى شَيْءٍ نُكِرٍ} بكسر الكاف وفتح الراء على الفعل المجهول. {خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ} الخشوع في البصر الخضوع والذلة ، وأضاف الخشوع إلى الأبصار لأن أثر العز والذل يتبين في ناظر الإنسان ؛ قال الله تعالى : {أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} [النازعات : 9] وقال تعالى : {خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشورى : 45] . ويقال : خشع واختشع إذا ذل. وخشع ببصره أي غضه. وقرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو {خَاشِعاً} بالألف ويجوز في أسماء الفاعلين إذا تقدمت على الجماعة التوحيد ، نحو : { خَاشِعاً أَبْصَارُهُمْ} والتأنيث نحو : {خَاشِعةًً أَبْصَارُهُمْ} [القلم : 43] ويجوز الجمع نحو : {خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ} قال :
وشباب حسن أوجههم ... من إياد بن نزار بن معد
و {خُشَّعاً} جمع خاشع والنصب فيه على الحال من الهاء والميم في {عَنْهُمْ} فيقبح الوقف على هذا التقدير على {عَنْهُمْ} ويجوز أن يكون حالا من المضمر في {يَخْرُجُونَ} فيوقف على {عَنْهُمْ} وقرئ {خُشَّعٌ أَبْصَارُهُمْ} على الابتداء والخبر ، ومحل الجملة النصب على الحال ، كقوله :
وجدته حاضراه الجود والكرم
قوله تعالى : {يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ} أي القبور واحدها جدث. {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ} وقال في موضع آخر : {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [القارعة : 4] فهما صفتان في وقتين مختلفين ؛ أحدهما : عند الخروج من القبور ، يخرجون فزعين لا يهتدون أين يتوجهون ، فيدخل بعضهم في بعض ؛ فهم حينئذ كالفراش المبثوث بعضه في بعض لا جهة له يقصدها الثاني : فإذا سمعوا المنادي قصدوه فصاروا كالجراد المنتشر ؛ لأن الجراد له جهة يقصدها. و {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ} معناه مسرعين ؛ قاله أبو عبيدة. ومنه قول الشاعر :
بدجلة دارهم ولقد أراهم ... بدجلة مهطعين إلى السماع
الضحاك : مقبلين. قتادة : عامدين. ابن عباس : ناظرين. عكرمة : فاتحين آذانهم إلى الصوت. والمعنى متقارب. يقال : هطع الرجل يهطع هطوعا إذا أقبل على الشيء ببصره لا يقلع عنه ؛ وأهطع إذا مد عنقه وصوب رأسه. قال الشاعر :
تعبدني نمر بن سعد وقد أرى ... ونمر بن سعد لي مطيع ومهطع
وبعير مهطع : في عنقه تصويب خلقة. وأهطع في عدوه أي أسرع. {يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} يعني يوم القيامة لما ينالهم فيه من الشدة.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #677  
قديم 12-07-2025, 08:31 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (17)
سُورَةُ القمر
من صــ 131 الى صــ 140
الحلقة (677)






الآية : 9 - 17 {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}
قوله تعالى : {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} ذكر جملا من وقائع الأمم الماضية تأنيسا للنبي صلى الله عليه وسلم وتعزية له . {قَبْلَهُمْ} أي قبل قومك . {فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا} يعني نوحا. الزمخشري : فإن قلت ما معنى قوله : {فَكَذَّبُوا} بعد قوله : {كَذَّبَتْ} ؟ قلت : معناه كذبوا فكذبوا عبدنا ؛ أي كذبوه تكذيبا على عقب تكذيب كلما مضى منهم قرن مكذب تبعه قرن مكذب ، أو كذبت قوم نوح الرسل فكذبوا عبدنا ؛ أي لما كانوا مكذبين بالرسل جاحدين للنبوة رأسا كذبوا نوحا لأنه من جملة الرسل. {وَقَالُوا مَجْنُونٌ} أي هو مجنون {وَازْدُجِرَ} أي زجر عن دعوى النبوة بالسب والوعيد بالقتل. وقيل إنما قال : {وَازْدُجِرَ} بلفظ ما لم يسم فاعله لأنه رأس آية . {فَدَعَا رَبَّهُ} أي دعا عليهم حينئذ نوح فقال رب {أَنِّي مَغْلُوبٌ} أي غلبوني بتمردهم {فَانْتَصِرْ} أي فانتصر لي. وقيل : إن الأنبياء كانوا لا يدعون على قومهم بالهلاك إلا بإذن الله عز وجل لهم فيه. {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِر} أي فأجبنا دعاءه وأمرناه باتخاذ السفينة وفتحنا أبواب السماء {بِمَاءٍ مُنْهَمِر} أي كثير. ؛ قاله السدي. قال الشاعر :
أعيني جودا بالدموع الهوامر ... على خير باد من معد وحاضر
وقيل : إنه المنصب المتدفق ؛ ومنه قول امرئ القيس يصف غيثا :
راح تمريه الصبا ثم انتحى فيه شؤبوب جنوب منهمر
الهمر الصب ؛ وقد همر الماء والدمع يهمر همرا. وهمر أيضا إذا أكثر. الكلام وأسرع. وهمر له من ماله أي أعطاه. قال ابن عباس : ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر من غير سحاب لم يقلع أربعين يوما. وقرأ ابن عامر ويعقوب : {فَفَتَّحْنَا} مشددة على التكثير. الباقون {فَفَتَحْنَا} مخففا. ثم قيل ، : إنه فتح رتاجها وسعة مسالكها. وقيل : إنه المجرة وهي شرج السماء ومنها فتحت بماء منهمر ؛ قاله علي رضي الله عنه. {وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً} قال عبيد بن عمير : أوحى الله إلى الأرض أن تخرج ماءها فتفجرت بالعيون ، وإن عينا تأخرت فغضب عليها فجعل ماءها مرا أجاجا إلى يوم القيامة. {فَالْتَقَى الْمَاءُ} أي ماء السماء وماء الأرض {عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} أي على مقدار لم يزد أحدهما على الآخر ؛ حكاه ابن قتيبة. أي كان ماء السماء والأرض سواء. وقيل : {قُدِرَ} بمعنى قضي عليهم. قال قتادة : قدر لهم إذا كفروا أن يغرقوا. وقال محمد بن كعب : كانت الأقوات قبل الأجساد ، وكان القدر قبل البلاء ؛ وتلا هذه الآية. وقال : {التقى الماء} والالتقاء إنما يكون في اثنين فصاعدا ؛ لأن الماء يكون جمعا وواحدا. وقيل : لأنهما لما اجتمعا صارا ماء واحدا. وقرأ الجحدري : {فَالْتَقَى الْمَاءَانِ} وقرأ الحسن : {فَالْتَقَى الْمَاوَانِ} وهما خلاف المرسوم. القشيري : وفي بعض المصاحف {فَالْتَقَى الْمَاوَانِ} وهي لغة طيء. وقيل : كان ماء السماء باردا مثل الثلج وماء الأرض حارا مثل الحميم. {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ} أي على سفينة ذات ألواح. {وَدُسُرٍ} قال قتادة : يعني المسامير التي دسرت بها السفينة أي شدت ؛ وقال القرظي وابن زيد وابن جبير ورواه الوالبي عن ابن عباس. وقال الحسن وشهر بن حوشب وعكرمة : هي صدر السفينة التي تضرب بها الموج سميت بذلك لأنها تدسر الماء أي تدفعه ، والدسر الدفع والمخر ؛ ورواه العوفي عن ابن عباس قال : الدسر كلكل السفينة.
وقال الليث : الدسار خيط من ليف تشد به ألواح السفينة. وفي الصحاح : الدسار واحد الدسر وهي خيوط تشد بها ألواح السفينة ، ويقال : هي المسامير ، وقال تعالى : {عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} . ودسر أيضا مثل عسر وعسر. والدسر الدفع ؛ قال ابن عباس في العنبر : إنما هو شيء يدسره البحر دسرا أي يدفعه. ودسره بالرمح. ورجل مدسر.
قوله تعالى : {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} أي بمرأى منا. وقيل : بأمرنا. وقيل : بحفظ منا وكلاءة : وقد مضى في "هود" . ومنه قول الناس للمودع : عين الله عليك ؛ أي حفظه وكلاءته. وقيل : بوحينا. وقيل : أي بالأعين النابعة من الأرض. وقيل : بأعين أوليائنا من الملائكة الموكلين بحفظها ، وكل ما خلق الله تعالى يمكن أن يضاف إليه. وقيل : أي تجري بأوليائنا ، كما في الخبر : مرض عين من عيوننا فلم تعده. {جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} أي جعلنا ذلك ثوابا وجزاء لنوح على صبره على أذى قومه وهو المكفور به ؛ فاللام في {لِمَنْ} لام المفعول له ؛ وقيل : {كُفِرَ} أي جحد ؛ ف {مَنْ} كناية عن نوح. وقيل : كناية عن الله والجزاء بمعنى العقاب ؛ أي عقابا لكفرهم بالله تعالى. وقرأ يزيد بن رومان وقتادة ومجاهد وحميد {جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} بفتح الكاف والفاء بمعنى : كان الغرق جزاء وعقابا لمن كفر بالله ، وما نجا من الغرق غير عوج بن عنق ؛ كان الماء إلى حجزته. وسبب نجاته أن نوحا احتاج إلى خشبة الساج لبناء السفينة فلم يمكنه حملها ، فحمل عوج تلك الخشبة إليه من الشام فشكر الله له ذلك ، ونجاه من الغرق.
قوله تعالى : {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً} يريد هذه الفعلة عبرة. وقيل : أراد السفينة تركها آية لمن بعد قوم نوح يعتبرون بها فلا يكذبون الرسل. قال قتادة : أبقاها الله بباقردى من أرض الجزيرة عبرة وآية ، حتى نظرت إليها أوائل هذه الأمة ، وكم من سفينة كانت بعدها فصارت رمادا. {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} متعظ خائف ، وأصله مذتكر مفتعل من الذكر ، فثقلت على الألسنة فقلبت التاء دالا لتوافق الذال في الجهر وأدغمت الذال فيها. {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} أي إنذاري ؛
قال الفراء : إنذاري ؛ قال مصدران. وقيل : {نُذُرِ} جمع نذير ونذير بمعنى الإنذار كنكير بمعنى الإنكار . {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} أي سهلناه للحفظ وأعنا عليه من أراد حفظه ؛ فهل من طالب لحفظه فيعان عليه ؟ ويجوز أن يكون المعنى : ولقد هيأناه للذكر مأخوذ من يسر ناقته للسفر : إذا رحلها ويسر فرسه للغزو إذا أسرجه وألجمه ؛ قال :
وقمت إليه باللجام ميسرا ... هنالك يجزيني الذي كنت أصنع
وقال سعيد بن جبير : ليس من كتب الله كتاب يقرأ كله ظاهرا إلا القران ؛ وقال غيره : ولم يكن هذا لبني إسرائيل ، ولم يكونوا يقرؤون التوراة إلا نظرا ، غير موسى وهارون ويوشع بن نون وعزير صلوات الله عليهم ، ومن أجل ذلك افتتنوا بعزير لما كتب لهم التوراة عن ظهر قلبه حين أحرقت ؛ على ما تقدم بيانه في سورة "التوبة" فيسر الله تعالى على هذه الأمة حفظ كتابه ليذكروا ما فيه ؛ أي يفتعلوا الذكر ، والافتعال هو أن ينجع فيهم ذلك حتى يصير كالذات وكالتركيب. فيهم. {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} قارئ يقرؤه. وقال أبو بكر الوراق وابن شوذب : فهل من طالب خير وعلم فيعان عليه ، وكرر في هذه السورة للتنبيه والإفهام. وقيل : إن الله تعالى اقتص في هذه السورة على هذه الأمة أنباء الأمم وقصص المرسلين ، وما عاملتهم به الأمم ، وما كان من عقبى أمورهم وأمور المرسلين ؛ فكان في كل قصة ونبأ ذكر للمستمع أن لو ادكر ، وإنما كرر هذه الآية عند ذكر كل قصة بقوله : {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} لأن {هَلْ} كلمة استفهام تستدعي أفهامهم التي ركبت في أجوافهم وجعلها حجة عليهم ؛ فاللام من {هَلْ} للاستعراض والهاء للاستخراج.
الآية : 18 - 22 { كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ إنا إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}
قوله تعالى : {كَذَّبَتْ عَادٌ} هم قوم هود . { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} وقعت {وَنُذُرِ} في هذه السورة في ستة أماكن محذوفة الياء في جميع المصاحف ، وقرأها يعقوب مثبته في الحالين ، وورش في الوصل لا غير ، وحذف الباقون. ولا خلاف في حذف الياء من قوله : {فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} [القمر : 5] والواو من قوله : {يَدْعُ} فأما الياء من {الدَّاعِ} الأول فأثبتها في الحالين ابن محيصن ويعقوب وحميد والبزي ، وأثبتها ورش وأبو عمرو في الوصل ، وحذف الباقون. وأما {الدَّاعِ} الثانية فأثبتها يعقوب وابن محيصن وابن كثير في الحالين ، وأثبتها أبو عمرو ونافع في الوصل ، وحذفها الباقون {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً} أي شديدة البرد ؛ قاله قتادة والضحاك. وقيل : شديدة الصوت. وقد مضى في "حم السجدة" . {فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ} أي في يوم كان مشؤوما عليهم. وقال ابن عباس : أي في يوم كانوا يتشاءمون به. الزجاج : قيل في يوم أربعاء. ابن عباس : كان آخر أربعاء في الشهر أفنى صغيرهم وكبيرهم. وقرأ هارون الأعور {نَحْسٍ} بكسر الحاء وقد مضى القول فيه في فصلت {فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} [فصلت : 16] . و {فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ} أي دائم الشؤم استمر عليهم بنحوسه ، واستمر عليهم فيه العذاب إلى الهلاك. وقيل : استمر بهم إلى نار جهنم. وقال الضحاك : كان مرا عليهم. وكذا حكى الكسائي أن قوما قالوا هو من المرارة ؛ يقال : مر الشيء وأمر أي كان كالشيء المر تكرهه النفوس. وقد قال : {فَذُوقُوا} والذي يذاق قد يكون مرا. وقد قيل : هو من المرة بمعنى القوة. أي في يوم نحس مستمر مستحكم الشؤم كالشيء المحكم الفتل الذي لا يطاق نقضه. فإن قيل : فإذا كان يوم الأربعاء يوم نحس مستمر فكيف يستجاب فيه الدعاء ؟ وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم استجيب له فيه فيما بين الظهر والعصر. وقد مضى في "البقرة" حديث جابر بذلك. فالجواب - والله أعلم - ما جاء في خبر يرويه مسروق عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "أتاني جبريل فقال إن الله يأمرك أن تقضي باليمين مع الشاهد وقال يوم الأربعاء يوم نحس مستمر"
ومعلوم أنه لم يرد بذلك أنه نحس على الصالحين ، بل أراد أنه نحس على الفجار والمفسدين ؛ كما كانت الأيام النحسات المذكورة في القران ؛ نحسات على الكفار من قوم عاد لا على نبيهم والمؤمنين به منهم ، وإذا كان كذلك لم يبعد أن يمهل الظالم من أول يوم الأربعاء إلى أن تزول الشمس ، فإذا أدبر النهار ولم يحدث رجعة استجيب دعاء المظلوم عليه ، فكان اليوم نحسا على الظالم ؛ ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان على الكفار ، وقول جابر في حديثه "لم ينزل بي أمر غليظ" إشارة إلى هذا. والله أعلم.
قوله تعالى : {تَنْزِعُ النَّاسَ} في موضع الصفة للريح أي تقلعهم من مواضعهم. قيل : قلعتهم من تحت أقدامهم اقتلاع النخلة من أصلها. وقال مجاهد : كانت تقلعهم من الأرض ، فترمي بهم على رؤوسهم فتندق أعناقهم وتبين رؤوسهم عن أجسادهم. وقيل : تنزع الناس من البيوت. وقال محمد بن كعب عن أبيه قال النبي صلى الله عليه وسلم : "انتزعت الريح الناس من قبورهم" . وقيل : حفروا حفرا ودخلوها فكانت الريح تنزعهم منها وتكسرهم ، وتبقى تلك الحفر كأنها أصول نخل قد هلك ما كان فيها فتبقى مواضعها منقعرة. يروى أن سبعة منهم حفروا حفرا وقاموا فيها ليردوا الريح. قال ابن إسحاق : لما هاجت الريح قام نفر سبعة من عاد سمي لنا منهم ستة من أشد عاد وأجسمها منهم عمرو بن الحلى والحرث بن شداد والهلقام وابنا تقن وخلجان بن سعد فأولجوا العيال في شعب بين جبلين ، ثم اصطفوا على باب الشعب ليردوا الريح عمن في الشعب من العيال ، فجعلت الريح تجعفهم رجلا رجلا ، فقالت امرأة من عاد :
ذهب الدهر بعمرو بـ ... ـن حلي والهنيات
ثم بالحرث والهلـ ... ـقام طلاع الثنيات
والذي سد مهب الر ... يح أيام البليات
الطبري : في الكلام حذف ، والمعنى تنزع الناس فتتركهم كأنهم أعجاز نخل منقعر ؛ فالكاف في موضع نصب بالمحذوف. الزجاج : الكاف في موضع نصب على الحال ، والمعنى تنزع الناس والمعنى تنزع الناس مشبهين بأعجاز نخل. والتشبيه قيل إنه للحفر التي كانوا فيها. والأعجاز جمع عجز وهو مؤخر الشيء ، وكانت عاد موصوفين بطول القامة ، فشبهوا بالنخل انكبت لوجوهها. وقال : {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} للفظ النخل وهو من الجمع الذي يذكر ويؤنث. والمنقعر : المنقلع من أصله ؛ قعرت الشجرة قعرا قلعتها من أصلها فانقعرت. الكسائي : قعرت البئر أي نزلت حتى أنتهيت إلى قعرها ، وكذلك الإناء إذا شربت ما فيه حتى انتهيت إلى قعره. وأقعرت البئر جعلت لها قعرا. وقال أبو بكر بن الأنباري : سئل المبرد بحضرة إسماعيل القاضي عن ألف مسألة هذه من جملتها ، فقيل له : ما الفرق بين قوله تعالى : {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً} [الأنبياء : 81] و {جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} [يونس : 22] ، وقوله : {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة : 7] و {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} ؟ فقال : كلما ورد عليك من هذا الباب فإن شئت رددته إلى اللفظ تذكيرا ، أو إلى المعنى تأنيثا. وقيل : إن النخل والنخيل بمعنى يذكر ويؤنث ، كما ذكرنا. {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} تقدم.
الآية : 23 {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ فَقَالُوا أَبَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الأَشِرُ}
قوله تعالى : {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ} هم قوم صالح كذبوا الرسل ونبيهم ، أو كذبوا بالآيات التي هي النذر {فَقَالُوا أَبَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ} وندع جماعة. وقرأ أبو الأشهب وابن السميقع وأبو السمال العدوي "أبشر" بالرفع {وَاحِدٌ} كذلك رفع بالابتداء والخبر {نَتَّبِعُهُ} الباقون بالنصب على معنى أنتبع بشرا منا واحدا نتبعه. وقرأ أبو السمال :
{أَبَشَرٌ} بالرفع {مِنَّا وَاحِداً} بالنصب ، رفع {أَبَشَرٌ} بإضمار فعل يدل عليه {أَأُلْقِيَ} كأنه قال : أينبأ بشر منا ، وقوله : {وَاحِداً} يجوز أن يكون حالا من المضمر في {مِنَّا} والناصب له الظرف ، والتقدير أينبأ بشر كائن منا منفردا ؛ ويجوز أن يكون حالا من الضمير في {نَتَّبِعُهُ} منفردا لا ناصر له. {إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ} أي ذهاب عن الصواب {وَسُعُرٍ} أي جنون ، من قولهم : ناقة مسعورة ، أي كأنها من شدة نشاطها مجنونة ، ذكره ابن عباس. قال الشاعر يصف ناقته :
تخال بها سعرا إذا السفر هزها ... ذميل وإيقاع من السير متعب
الذميل ضرب من سير الإبل. قال أبو عبيد : إذا ارتفع السير عن العنق قليلا فهو التزيد ، فإذا ارتفع عن ذلك فهو الذميل ، ثم الرسيم ؛ يقال : ذمل ويذمل ويذمل ذميلا. قال الأصمعي : ولا يذمل بعير يوما وليلة إلا مهري قاله ج. وقال ابن عباس أيضا : السعر العذاب ، وقاله الفراء. مجاهد : بعد الحق. السدي : في احتراق. قال :
أصحوت اليوم أم شاقتك هر ... ومن الحب جنون مستعر
أي متقد ومحترق. أبو عبيدة : هو جمع سعير وهو لهيب النار. والبعير المجنون يذهب كذا وكذا لما يتلهب به من الحدة. ومعنى الآية : إنا إذا لفي شقاء وعناء مما يلزمنا.
قوله تعالى : {أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا} أي خصص بالرسالة من بين ال ثمود وفيهم من هو أكثر مالا وأحسن حالا ؟ ! وهو استفهام معناه الإنكار. {بََلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} أي ليس كما يدعيه وإنما يريد أن يتعاظم ويلتمس التكبر علينا من غير استحقاق. والأشر المرح والتجبر والنشاط. يقال : فرس أشر إذا كان مرحا نشيطا قال امرؤ القيس يصف كلبا :
فيدركنا فغم داجن ... سميع بصير طلوب نكر
ألص الضروس حني الضلوع ... تبوع أريب نشيط أشر
وقيل : {أَشِرٌ} بطر. والأشر البطر ؛ قال الشاعر :
أشرتم بلبس الخز لما لبستم ... ومن قبل ما تدرون من فتح القرى
وقد أشر بالكسر يأشر أشرا فهو أشر وأشران ، وقوم أشارى مثل سكران وسكارى ؛ قال الشاعر :
وخلت وعولا أشارى بها ... وقد أزهف الطعن أبطالها
وقيل : إنه المتعدي إلى منزلة لا يستحقها ؛ والمعنى واحد. وقال ابن زيد وعبدالرحمن بن حماد : الأشر الذي لا يبالي ما قال. وقرأ أبو جعفر وأبو قلابة {أَشَرٌّ} بفتح الشين وتشديد الراء يعني به أشرنا وأخبثنا. {سَيَعْلَمُونَ غَداً} أي سيرون العذاب يوم القيامة ، أو في حال نزول العذاب بهم في الدنيا. وقرأ ابن عامر وحمزة بالتاء على أنه من قول صالح لهم على الخطاب. الباقون بالياء إخبار من الله تعالى لصالح عنهم. وقوله : {غَداً} على التقريب على عادة الناس في قولهم للعواقب : إن مع اليوم غدا ؛ قال :
للموت فيها سهام غير مخطئة ... من لم يكن ميتا في اليوم مات غدا
وقال الطرماح :
ألا عللاني قبل نوح النوائح ... وقبل اضطراب النفس بين الجوانح
وقبل غد يا لهف نفسي على غد ... إذا راح أصحابي ولست برائح
وإنما أراد وقت الموت ولم يرد غدا بعينه. {مَنِ الْكَذَّابُ الأَشِرُ} وقرأ أبو قلابة {الأَشَرُّ} بفتح الشين وتشديد الراء جاء به على الأصل. قال أبو حاتم : لا تكاد العرب تتكلم بالأشر والأخير إلا في ضرورة الشعر ؛ كقول رؤية :
بلال خير الناس وابن الأخير
وإنما يقولون هو خير قومه ، وهو شر الناس ؛ قال الله تعالى : {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [ آل عمران : 110] وقال : {فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَاناً} [مريم : 75] . وعن أبي حيوة بفتح الشين وتخفيف الراء. وعن مجاهد وسعيد بن جبير ضم الشين والراء والتخفيف ، قال النحاس : وهو معنى {الأَشِرُ} ومثله رجل حذر وحذر.
الآية : 27 - 32 {إِنَّا مُرْسِلُو الْنَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}
قوله تعالى : {إِنَّا مُرْسِلُو الْنَّاقَةِ} أي مخرجوها من الهضبة التي سألوها ، فروي أن صالحا صلى ركعتين ودعا فانصدعت الصخرة التي عينوها عن سنامها ، فخرجت ناقة عشراء وبراء. {فِتْنَةً لَهُمْ} أي اختبارا وهو مفعول له. {فَارْتَقِبْهُمْ} أي انتظر ما يصنعون. {وَاصْطَبِرْ} أي اصبر على أذاهم ، وأصل الطاء في اصطبر تاء فتحولت طاء لتكون موافقة للصاد في الإطباق. {وَنَبِّئْهُمْ} أي أخبرهم {أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} أي بين ال ثمود وبين الناقة ، لها يوم ولهم يوم ، كما قال تعالى : {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ } [الشعراء : 155] . قال ابن عباس : كان يوم شربهم لا تشرب الناقة شيئا من الماء وتسقيهم لبنا وكانوا في نعيم ، وإذا كان يوم الناقة شربت الماء كله فلم تبق لهم شيئا. وإنما قال : {بَيْنَهُمْ} لأن العرب إذا أخبروا عن بني ادم مع البهائم غلبوا بني ادم. وروى أبو الزبير عن جابر قال : لما نزلنا الحجر في مغزى رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك ، قال : "أيها الناس لا تسألوا في هذه الآيات هؤلاء قوم صالح سألوا نبيهم أن يبعث الله لهم ناقة فبعث الله عز وجل"




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #678  
قديم 12-07-2025, 08:34 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (17)
سُورَةُ القمر
من صــ 141 الى صــ 150
الحلقة (678)






إليهم الناقة فكانت ترد من ذلك الفج فتشرب ماءهم يوم وردها ويحلبون منها مثل الذي كانوا يشربون يوم غبها "وهو معنى قوله تعالى : {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ. كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ} الشرب - بالكسر - الحظ من الماء ؛ وفي المثل :" آخرها أقلها شربا "وأصله في سقي الإبل ، لأن آخرها يرد وقد نزف الحوض. ومعنى {مُحْتَضَرٌ} أي يحضره من هو له ؛ فالناقة تحضر الماء يوم وردها ، وتغيب عنهم يوم وردهم ؛ قاله مقاتل. وقال مجاهد : إن ثمود يحضرون الماء يوم غبها فيشربون ، ويحضرون اللبن يوم وردها فيحتلبون."
قوله تعالى : {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ} يعني بالحض على عقرها {فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} ومعنى تعاطى تناول الفعل ؛ من قولهم : عطوت أي تناولت ؛ ومنه قول حسان :
كلتاهما حلب العصير فعاطني ... بزجاجة أرخاهما للمفصل
قال محمد بن إسحاق : فكمن لها في أصل شجرة على طريقها فرماها بسهم فانتظم به عضلة ساقها ، ثم شد عليها بالسيف فكشف عرقوبها ، فخرت ورغت رغاءة واحدة : تحدر سقبها من بطنها ثم نحرها ، وانطلق سقبها حتى أتى صخرة في رأس جبل فرغا ثم لاذ بها ، فأتاهم صالح عليه السلام ؛ فلما رأى الناقة قد عقرت بكى وقال : قد انتهكتم حرمة الله فأبشروا بعذاب الله. وقد مضى في "الأعراف" بيان هذا المعنى. قال ابن عباس : وكان الذي عقرها أحمر أزرق أشقر أكشف أقفى. ويقال في اسمه قدار ابن سالف. وقال الأفوه الأودي :
أو قبله كقدار حين تابعه ... على الغواية أقوام فقد بادوا
والعرب تسمي الجزار قدارا تشبيها بقدار بن سالف مشؤوم ال ثمود ؛ قال مهلهل :
إنا لنضرب بالسيوف رؤوسهم ... ضرب القدار نقيعة القدام
وذكره زهير فقال :
فتنتح لكم غلمان أشأم كلهم ... كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم
يريد الحرب ؛ فكنى عن ثمود بعاد.
قوله تعالى : {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً} يريد صيحة جبريل عليه السلام ، وقد مضى في "هود" . {فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} وقرأ الحسن وقتادة وأبو العالية {الْمُحْتَظَرِ} بفتح الظاء أرادو الحظيرة. الباقون بالكسر أرادوا صاحب الحظيرة. وفي الصحاح : والمحتظر الذي يعمل الحظيرة. وقرئ {كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} فمن كسره جعله الفاعل ومن فتحه جعله المفعول به. ويقال للرجل القليل الخير : إنه لنكد الحظيرة. قال أبو عبيد : أواه سمى أمواله حظيرة لأنه حظرها عنده ومنعها ، وهي فعيلة بمعنى مفعولة. المهدوي : من فتح الظاء من {الْمُحْتَظَرِ} فهو مصدر ، والمعنى كهشيم الاحتظار. ويجوز أن يكون "المحتظر" هو الشجر المتخذ منه الحظيرة. قال ابن عباس : {الْمُحْتَظَرِ} هو الرجل يجعل لغنمه حظيرة بالشجر والشوك ؛ فما سقط من ذلك وداسته الغنم فهو الهشيم. قال :
أثرن عجاجة كدخان نار ... تشب بغرقد بال هشيم
وعنه : كحشيش تأكله الغنم. وعنه أيضا : كالعظام النخرة المحترقة ، وهو قول قتادة. وقال سعيد بن جبير : هو التراب المتناثر من الحيطان في يوم ريح. وقال سفيان الثوري : هو ما تناثر من الحظيرة إذا ضربتها بالعصا ، وهو فعيل بمعنى مفعول وقال ابن زيد : العرب تسمي كل شيء كان رطبا فيبس هشيما. والحظر المنع ، والمحتظر المفتعل يقال منه : احتظر على إبله وحظر أي جمع الشجر ووضع بعضه فوق بعض ليمنع برد الريح والسباع عن إبله ؛ قال الشاعر :
ترى جيف المطي بجانبيه ... كأن عظامها خشب الهشيم
وعن ابن عباس : أنهم كانوا مثل القمح الذي ديس وهشم ؛ فالمحتظر على هذا الذي يتخذ حظيرة على زرعه ، والهشيم فتات السنبلة والتبن. {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}
الآية : 33 - 40 {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}
قوله تعالى : {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ} خبر عن قوم لوط أيضا لما كذبوا لوطا. {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً} أي ريحا ترميهم بالحصباء وهي الحصى ؛ قال النضر : الحاصب الحصباء في الريح. وقال أبو عبيدة : الحاصب الحجارة. وفي الصحاح : والحاصب الريح الشديدة التي تثير الحصباء وكذلك الحصبة ؛ قال لبيد :
جرت عليها أن خوت من أهلها ... أذيالها كل عصوف حصبه
عصفت الريح أي اشتدت فهي ريح عاصف وعصوف. وقال الفرزدق :
مستقبلين شمال الشام تضربنا ... بحاصب كنديف القطن منثور
{إِلاَّ آلَ لُوطٍ} يعني من تبعه على دينه ولم يكن إلا بنتاه {نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} قال الأخفش : إنما أجراه لأنه نكرة ، ولو أراد سحر يوم بعينه لما أجراه ، ونظيره : {اهبطوا مصرا} [البقرة : 61] لما نكره ، فلما عرفه في قوله : {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ} [يوسف : 99] لم يجره ، وكذا قال الزجاج : {سِحْرٌ} إذا كان نكرة يراد به سحر من الأسحار يصرف ، تقول أتيته سحرا ، فإذا أردت سحر بومك
لم تصرفه ، تقول : أتيته سحر يا هذا ، وأتيته بسحر. والسحر : هو ما بين آخر الليل وطلوع الفجر ، وهو في كلام العرب اختلاط سواد الليل ببياض أول النهار ؛ لأن في هذا الوقت يكون مخاييل الليل ومخاييل النهار. {نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} إنعاما منا على لوط وابنتيه ؛ فهو نصب لأنه مفعول به. {كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ} أي من امن بالله وأطاعه. {وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ} يعني لوطا خوفهم {بَطْشَتَنَا} عقوبتنا وأخذنا إياهم بالعذاب {فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ} أي شكوا فيما أنذرهم به الرسول ولم يصدقوه ، وهو تفاعل من المرية. {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ} أي أرادوا منه تمكينهم ممن كان أتاه من الملائكة في هيئة الأضياف طلبا للفاحشة على ما تقدم. يقال : راودته على ، كذا مراودة وروادا أي أردته. وراد الكلأ يروده رودا وريادا ، وارتاده أرتيادا بمعنى أي طلبه ؛ وفي الحديث : "إذا بال أحدكم فليرتد لبوله" أي يطلب مكانا لينا أو منحدرا. {فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} يروى أن جبريل عليه السلام ضربهم بجناحه فعموا. وقيل : صارت أعينهم كسائر الوجه لا يرى لها شق ، كما تطمس الريح الأعلام بما تسفي عليها من التراب. وقيل : لا ، بل أعماهم الله مع صحة أبصارهم فلم يروهم. قال الضحاك : طمس الله على أبصارهم فلم يروا الرسل ؛ فقالوا : لقد رأيناهم حين دخلوا البيت فأين ذهبوا ؟ فرجعوا ولم يروهم. {فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ} أي فقلنا لهم ذوقوا ، والمراد من هذا الأمر الخبر ؛ أي فأذقتهم عذابي الذي أنذرهم به لوط. {وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ} أي دائم عام استقر فيهم حتى يفضي بهم إلى عذاب الآخرة. وذلك العذاب قلب قريتهم عليهم وجعل أعلاها أسفلها. و {بُكْرَةً} هنا نكرة فلذلك صرفت. {فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ} العذاب الذي نزل ، بهم من طمس الأعين غير العذاب الذي أهلكوا به فلذلك حسن التكرير . {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} تقدم.
الآية : 41 {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ كَذَّبُوا بِآياتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ}
قوله تعالى : {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ} يعني القبط و {النُّذُرُ} موسى وهرون. وقد يطلق لفظ الجمع على الاثنين. {كَذَّبُوا بِآياتِنَا} معجزاتنا الدالة على توحيدنا ونبوة أنبيائنا ؛ وهى العصا ، واليد ، والسنون ، والطمسة ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم. وقيل : {النُّذُرُ} الرسل ؛ فقد جاءهم يوسف وبنوه إلى أن جاءهم موسى. وقيل : {النُّذُرُ} الإنذار. {فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ} أي غالب في انتقامه {مُقْتَدِرٍ} أي قادر على ما أراد.
الآية : 43 - 46 {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ أََمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ}
قوله تعالى : {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ} خاطب العرب. وقيل : أراد كفار أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل : استفهام ، وهو استفهام إنكار ومعناه النفي ؛ أي ليس كفاركم خيرا من كفار من تقدم من الأمم الذين أهلكوا بكفرهم. {أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} أي في الكتب المنزلة على الأنبياء بالسلامة من العقوبة. وقال ابن عباس : أم لكم في اللوح المحفوظ براءة من العذاب. {أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} أي جماعة لا تطاق لكثرة عددهم وقوتهم ، ولم يقل منتصرين اتباعا لرؤوس الآي ؛ فرد الله عليهم فقال : " {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ} أي جمع كفار مكة ، وقد كان ذلك يوم بدر وغيره. وقراءة العامة {سَيُهْزَمُ} بالياء على ما لم يسم فاعله {الْجَمْعُ} بالرفع. وقرأ رويس عن يعقوب {سَنَهْزِمُ} بالنون وكسر الزاي {الْجَمْعَ} نصبا. {وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} قراءة العامة بالياء على الخبر عنهم. وقرأ عيسى وابن إسحاق ورويس عن يعقوب {وَيُوَلُّونَ} بالتاء على الخطاب. و {الدُّبُرَ} اسم جنس كالدرهم"
والدينار فوحد والمراد الجمع لأجل رؤوس الآي. وقال مقاتل : ضرب أبو جهل فرسه يوم بدر فتقدم من الصف وقال : نحن ننتصر اليوم من محمد وأصحابه ؛ فأنزل الله تعالى : {نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ. سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} . وقال سعيد بن جبير قال سعد بن أبي وقاص : لما نزل قوله تعالى : {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} كنت لا أدرى أي الجمع ينهزم ، فلما كان يوم بدر رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع ويقول : "اللهم إن قريشا جاءتك تحادك وتحاد رسولك بفخرها وخيلائها فأخنهم الغداة" - ثم قال - {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} فعرفت تأويلها. وهذا من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه أخبر عن غيب فكان كما أخبر. أخنى عليه الدهر : أي أتى عليه وأهلكه ، ومنه قول النابغة :
أخنى عليه الذي أخنى على لبد
وأخنيت عليه : أفسدت. قال ابن عباس : كان بين نزول هذه الآية وبين بدر سبع سنين ؛ فالآية على هذا مكية. وفي البخاري عن عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها قالت : لقد أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بمكة وإني لجارية ألعب : {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} . وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو في قبة له يوم بدر : "أنشدك عهدك ووعدك اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبدا" فأخذ أبو بكر رضي الله عنه بيده وقال : حسبك يا رسول الله فقد ألححت على ربك ؛ وهو في الدرع فخرج وهو يقول : {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ} . يريد القيامة. {وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} أي أدهى وأمر مما لحقهم يوم بدر. و {أَدْهَى} من الداهية وهي الأمر العظيم ؛ يقال : دهاه أمر كذا أي أصابه دهوا ودهيا. وقال ابن السكيت : دهته داهية دهواء ودهياء وهي توكيد لها.
الآية : 47 - 49 {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}
قوله تعالى : {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} أي في حيدة عن الحق و {وَسُعُرٍ} أي احتراق. وقيل : جنون على ما تقدم في هذه السورة. {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر فنزلت : {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} خرجه الترمذي أيضا وقال : حديث حسن صحيح. وروى مسلم عن طاوس قال : أدركت ناسا من أصحاب رسول الله يقولون : كل شيء بقدر. قال : وسمعت عبدالله بن عمر يقول : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "كل شيء بقدر حتى العجز والكَيس - أو الكيس والعجز" وهذا إبطال لمذهب القدرية. {ذُوقُوا} أي يقال لهم ذوقوا ، ومسها ما يجدون من الألم عند الوقوع فيها. و {سَقَرَ} اسم من أسماء جهنم لا ينصرف ؛ لأنه اسم مؤنث معرفة ، وكذا لظى وجهنم. وقال عطاء : {سَقَرَ} الطبق السادس من جهنم. وقال قطرب : {سَقَرَ} من سقرته الشمس وصقرته لوحته. ويوم مسمقر ومصمقر : شديد الحر.
قوله تعالى : {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} قراءة العامة {كُلَّ} بالنصب. وقرأ أبو السمال {كُلُّ} بالرفع على الابتداء. ومن نصب فبإضمار فعل وهو اختيار الكوفيين ؛ لأن إن تطلب الفعل فهي به أولى ، والنصب أدل على العموم في المخلوقات لله تعالى ؛ لأنك لو حذفت {خَلَقْنَاهُ} المفسر وأظهرت الأول لصار إنا خلقنا كل شيء بقدر. ولا يصح كون خلقناه صفة لشيء ؛ لأن الصفة لا تعمل فيما قبل الموصوف ، ولا تكون تفسيرا لما يعمل فيما قبله.
الثالثة - الذي عليه أهل السنة أن الله سبحانه قدر الأشياء ؛ أي علم مقاديرها وأحوالها وأزمانها قبل إيجادها ، ثم أوجد منها ما سبق في علمه أنه يوجده على نحو ما سبق في علمه ، فلا يحدث حدث في العالم العلوي والسفلي إلا وهو صادر عن علمه تعالى وقدرته وإرادته دون خلقه ، وأن الخلق ليس لهم فيها إلا نوع اكتساب ومحاولة ونسبة وإضافة ، وأن ذلك كله إنما حصل لهم بتيسير الله تعالى وبقدرته وتوفيقه وإلهامه ، سبحانه لا إله إلا هو ، ولا خالق غيره ؛ كما نص عليه القران والسنة ، لا كما قالت القدرية وغيرهم من أن الأعمال إلينا والآجال بيد غيرنا. قال أبو ذر رضي الله عنه : قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : الأعمال إلينا والآجال بيد غيرنا ؛ فنزلت هذه الآيات إلى قوله : {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} فقالوا : يا محمد يكتب علينا الذنب ويعذبنا ؟ فقال : "أنتم خصماء الله يوم القيامة" .
روى أبو الزبير عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن مجوس هذه الأمة المكذبون بأقدار الله إن مرضوا فلا تعودهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم وإن لقيتموهم فلا تسلموا عليهم" . خرجه ابن ماجة في سننه. وخرج أيضا عن ابن عباس وجابر قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "صنفان من أمتي ليس لهم في الإسلام نصيب أهل الإرجاء والقدر" . وأسند النحاس : وحدثنا إبراهيم بن شريك الكوفي قال حدثنا عقبة بن مكرم الضبي قال حدثنا يونس بن بكير عن سعيد ابن ميسرة عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "القدرية الذين يقولون الخير والشر بأيدينا ليس لهم في شفاعتي نصيب ولا أنا منهم ولا هم مني" وفي صحيح مسلم أن ابن عمر تبرأ منهم ولا يتبرأ إلا من كافر ، ثم أكد هذا بقوله : والذي يحلف به عبدالله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر. وهذا مثل قوله تعالى في المنافقين : {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} [التوبة : 54] وهذا واضح. وقال أبو هريرة : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "الإيمان بالقدر يذهب الهم والحزن" .
الآية : 50 - 55 {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُر وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ}
قوله تعالى : {وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ} أي إلا مرة واحدة. {كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} أي قضائي في خلقي أسرع من لمح البصر. واللمح النظر بالعجلة ؛ يقال : لمح البرق ببصره. وفي الصحاح : لمحه وألمحه إذا أبصره بنظر خفيف ، والاسم اللمحة ، ولمح البرق والنجم لمحا أي لمع. بِالْبَصَرِ {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ} أي أشباهكم في الكفر من الأمم الخالية. وقيل : أتباعكم وأعوانكم. {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} أي من يتذكر.
قوله تعالى : {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُر} أي جميع ما فعلته الأمم قبلهم من خير أو شر كان مكتوبا عليهم ؛ وهذا بيان قوله : {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} . {فِي الزُّبُر} أي في اللوح المحفوظ. وقيل : في كتب الحفظة. وقيل : في أم الكتاب. {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} أي كل ذنب كبير وصغير مكتوب على عامله قبل أن يفعله ليجازى به ، ومكتوب إذا فعله ؛ سطر يسطر سطرا كتب ؛ واستطر مثله.
قوله تعالى : {إِِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} لما وصف الكفار وصف المؤمنين أيضا. {وَنَهَرٍ} يعني أنهار الماء والخمر والعسل واللبن ؛ قاله ابن جريج. ووحد لأنه رأس الآية ، ثم الواحد قد ينبئ عن الجميع. وقيل : في {وَنَهَرٍ} في ضياء وسعة ؛ ومنه النهار لضيائه ، ومنه أنهرت الجرح ؛ قال الشاعر :
ملكت بها كفي فأنهرت فتقها ... يرى قائم من دونها ما وراءها
وقرأ أبو مجلز وأبو نهيك والأعرج وطلحة بن مصرف وقتادة {وَنُهُرٍ} بضمتين كأنه جمع نهار لا ليل لهم ؛ كسحاب وسحب. قال الفراء : أنشدني بعض العرب :
إن تك ليليا فإني نهر ... متى أرى الصبح فلا أنتظر
أي صاحب النهار. وقال آخر :
لولا الثريدان هلكنا بالضمر ... ثريد ليل وثريد بالنهر
{فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} أي مجلس حق لا لغو فيه ولا تأثيم وهو الجنة {عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} أي يقدر على ما يشاء. و {عِنْدَ} ها هنا عندية القربة والزلفة والمكانة والرتبة والكرامة والمنزلة. قال الصادق : مدح الله المكان الصدق فلا يقعد فيه إلا أهل الصدق. وقرأ عثمان البتي {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} بالجمع ؛ والمقاعد مواضع قعود الناس في الأسواق وغيرها. وقال عبدالله بن بريدة : إن أهل الجنة يدخلون كل يوم على الجبار تبارك وتعالى ، فيقرؤون القران على ربهم تبارك وتعالى ، وقد جلس كل إنسان مجلسه الذي هو مجلسه ، على منابر من الدر والياقوت والزبرجد والذهب والفضة بقدر أعمالهم ، فلا تقر أعينهم بشيء قط كما تقر بذلك ، ولم يسمعوا شيئا أعظم ولا أحسن منه ، ثم ينصرفون إلى منازلهم ، قريرة أعينهم إلى مثلها من الغد. وقال ثور بن يزيد عن خالد بن معدان : بلغنا أن الملائكة يأتون المؤمنين يوم القيامة فيقولون : يا أولياء الله انطلقوا ؛ فيقولون : إلى أين ؟ فيقولون : إلى الجنة ؛ فيقول المؤمنون : إنكم تذهبون بنا إلى غير بغيتنا. فيقولون : فما بغيتكم ؟ فيقولون : مقعد صدق عند مليك مقتدر. وقد روي هذا الخبر على الخصوص بهذا المعنى ؛ ففي الخبر : أن طائفة من العقلاء بالله عز وجل تزفها الملائكة إلى الجنة والناس في الحساب ، فيقولون للملائكة : إلى أين تحملوننا ؟ فيقولون إلى الجنة. فيقولون : إنكم لتحملوننا إلى غير بغيتنا ؛ فيقولون : وما بغيتكم ؟ فيقولون : المقعد الصدق مع الحبيب كما أخبر {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} والله أعلم. تم تفسير "سورة القمر" والحمد لله.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #679  
قديم 12-07-2025, 08:37 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (17)
سُورَةُ الرحمن
من صــ 151 الى صــ 160
الحلقة (679)






سورة الرحمن [عزّ وجلّ]
مقدمة السورة
مكية كلها في قول الحسن وعروة بن الزبير وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس : إلا آية منها هي قوله تعالى : {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الرحمن : 29] الآية. وهي ست وسبعون آية. وقال ابن مسعود ومقاتل : هي مدنية كلها. والقول الأول أصح لما روى عروة بن الزبير قال : أول من جهر بالقرآن بمكة بعد النبي صلى الله عليه وسلم ابن مسعود ؛ وذلك أن الصحابة قالوا : ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر به قط ، فمن رجل يسمعهموه ؟ فقال ابن مسعود : أنا ، فقالوا : إنا نخشى عليك ، وإنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه ، فأبى ثم قام عند المقام فقال : {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. الرَّحْمَنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن : 2] ثم تمادى رافعا بها صوته وقريش في أنديتها ، فتأملوا وقالوا : ما يقول ابن أم عبد ؟ قالوا : هو يقول الذي يزعم محمد أنه أنزل عليه ، ثم ضربوه حتى أثروا في وجهه. وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم قام يصلي الصبح بنخلة ، فقرأ سورة {الرَّحْمَنُ} ومر النفر من الجن فأمنوا به. وفي الترمذي عن جابر قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقرأ عليهم سورة {الرَّحْمَنُ} من أولها إلي آخرها فسكتوا ، فقال : "لقد قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن مردودا منكم كنت كلما أتيت على قوله : {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن : 13] قالوا لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد" قال : هذا حديث غريب. وفي هذا دليل على أنها مكية والله أعلم. وروي أن قيس بن عاصم المنقري قال للنبي صلى الله عليه وسلم : اتل علي مما أنزل عليك ، فقرأ عليه سورة {الرَّحْمَنُ} فقال : أعدها ، فأعادها ثلاثا ، فقال : والله إن له لطلاوة ، وإن عليه لحلاوة ، وأسفله لمغدق ، وأعلاه مثمر ، وما يقول هذا بشر ، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. وروي عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لكل شيء عروس وعروس القرآن سورة الرحمن"
بسم الله ارحمن الرحيم
الآية : [1] {الرَّحْمَنُ}
الآية : [2] {عَلَّمَ الْقُرْآنَ}
الآية : [3] {خَلَقَ الإِنْسَانَ}
الآية : [4] {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}
الآية : [5] {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ}
الآية : [6] {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ}
الآية : [7] {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ}
الآية : [8] {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ}
الآية : [9] {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ}
الآية : [10] {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ}
الآية : [11] {فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ}
الآية : [12] {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ}
الآية : [13] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}
قوله تعالى : {الرَّحْمَنُ ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ} قال سعيد بن جبير وعامر الشعبي : {الرَّحْمَنُ} فاتحة ثلاث سور إذا جمعن كن اسما من أسماء الله تعالى {الر} و {حم} و {ن} فيكون مجموع هذه {الرَّحْمَنُ} . {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} أي علمه نبيه صلى الله عليه وسلم حتى أداه إلى جميع الناس. وأنزلت حين قالوا : وما الرحمن ؟ وقيل : نزلت جوابا لأهل مكة حين قالوا : إنما يعلمه بشر وهو رحمن اليمامة ، يعنون مسيلمة الكذاب ، فأنزل الله تعالى : {الرَّحْمَنُ ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ} . وقال الزجاج : معنى {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} أي سهله لأن يذكر ويقرأ كما قال : {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} وقيل : جعله علامة لما تعبد الناس به. {خَلَقَ الإِنْسَانَ} قال ابن عباس وقتادة والحسن يعني آدم عليه السلام. {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} أسماء كل شيء. وقيل : علمه اللغات كلها. وعن ابن عباس أيضا وابن كيسان : الإنسان ها هنا يراد به محمد صلى الله عليه وسلم ، والبيان بيان الحلال من الحرام ، والهدى من الضلال. وقيل : ما كان وما يكون ، لأنه بين عن الأولين والآخرين ويوم الدين. وقال الضحاك : {الإِنْسَانَ} الخير والشر. وقال الربيع بن أنس : هو ما ينفعه وما يضره ، وقاله قتادة. وقيل : {الإِنْسَانَ} يراد به جميع الناس فهو اسم للجنس و {الْبَيَانَ} على هذا الكلام والفهم ، وهو مما فضل به الإنسان على
سائر الحيوان. وقال السدي : علم كل قوم لسانهم الذي يتكلمون به. وقال يمان : الكتابة والخط بالقلم. نظيره : {عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} أي يجريان بحساب معلوم فأضمر الخبر. قال ابن عباس وقتادة وأبو مالك : أي يجريان بحساب في منازل لا يعدوانها ولا يحيدان عنها. وقال ابن زيد وابن ، كيسان : يعني أن بهما تحسب الأوقات والآجال الأعمار ، ولولا الليل والنهار والشمس والقمر لم يدر أحد كيف يحسب شيئا لو كان الدهر كله أو نهاره. وقال السدي : {بِحُسْبَانٍ} تقدير آجالهما أي تجري بآجال كآجال الناس ، فإذا جاء أجلهما هلكا ، نظيره : {كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً} وقال الضحاك : بقدر. مجاهد : {بِحُسْبَانٍ} كحسبان الرحى يعني قطبها يدوران في مثل القطب. والحسبان قد يكون مصدر حسبته أحسبته بالضم حسبا وحسبانا ، مثل الغفران والكفران والرجحان ، وحسابة أيضا أي عددته. وقال الأخفش : ويكون جماعة الحساب مثل شهاب وشهبان. والحسبان أيضا بالضم العذاب والسهام القصار ، وقد مضى في {الكهف} الواحدة حسبانة ، والحسبانة أيضا الوسادة الصغيرة ، تقول منه : حسبته إذا وسدته ، قال :
لثويت غير مُحَسِّب
أي غير موسَّد يعني غير مكرم ولا مكفن { والنجم والشجر يسجدان} قال ابن عباس وغيره : النجم ما لا ساق له والشجر ما له ساق ، وأنشد ابن عباس قول صفوان بن أسد التميمي :
لقد أنجم القاع الكبير عضاهه ... وتم به حيا تميم ووائل
وقال زهير بن أبي سلمى :
مكلل بأصول النجم تنسجه ... ريح الجنوب لضاحي مائه حبك
واشتقاق النجم من نجم الشيء ينجم بالضم نجوما ظهر وطلع ، وسجودهما بسجود ظلالهما ، قاله الضحاك. وقال الفراء : سجودهما أنهما يستقبلان الشمس إذا طلعت ثم يميلان معها حتى ينكسر الفيء. وقال الزجاج : سجودهما دوران الظل معهما ، كما قال تعالى : {يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ} وقال الحسن ومجاهد : النجم نجم السماء ، وسجوده في قول مجاهد دوران ظله ، وهو اختيار الطبري ، حكاه المهدوي. وقيل : سجود النجم أفوله ، وسجود الشجر إمكان الاجتناء لثمرها ، حكاه الماوردي. وقيل : إن جميع ذلك مسخر لله ، فلا تعبدوا النجم كما عبد قوم من الصابئين النجوم ، وعبد كثير من العجم الشجر. والسجود الخضوع ، والمعني به آثار الحدوث ، حكاه القشيري. النحاس : أصل السجود في اللغة الاستسلام والانقياد لله عز وجل ، فهو من الموات كلها استسلامها لأمر الله عز وجل وانقيادها له ، ومن الحيوان كذلك ويكون من سجود الصلاة ، وأنشد محمد بن يزيد في النجم بمعنى النجوم قال :
فباتت تعد النجم في مستحيرة ... سريع بأيدي الآكلين جمودها
قوله تعالى : {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا} وقرأ أبو السمال {وَالسَّمَاءَ} بالرفع على الابتداء واختيار ذلك لما عطف على الجملة التي هي : {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} فجعل المعطوف مركبا من مبتدأ وخبر كالمعطوف عليه. الباقون بالنصب على إضمار فعل يدل عليه ما بعده. {وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} أي العدل ، عن مجاهد وقتادة والسدي ، أي وضع في الأرض العدل الذي أمر به ، يقال. : وضع الله الشريعة. ووضع فلان كذا أي ألقاه ، وقيل : على هذا الميزان القرآن ، لأن فيه بيان ما يحتاج إليه وهو قول الحسين بن الفضل. وقال الحسن وقتادة - أيضا - والضحاك : هو الميزان ذو اللسان الذي يوزن به لينتصف به الناس بعضهم من بعض ، وهو خبر بمعنى الأمر بالعدل ، يدل عليه قوله تعالى : {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} والقسط العدل. وقيل : هو الحكم. وقيل : أراد وضع الميزان في الآخرة لوزن الأعمال. وأصل ميزان موزان وقد مضى في {الأعراف} القول فيه. {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ} موضع {أن} يجوز أن يكون نصبا
على تقدير حذف حرف الجر كأنه قال : لئلا تطغوا ، كقوله تعالى : {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} ويجوز ألا يكون لـ {أن} موضع من الإعراب فتكون بمعنى أي و {تَطْغَوْا} على هذا التقدير مجزوما ، كقوله تعالى : {وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا} أي امشوا. والطغيان مجاوزة الحد. فمن قال : الميزان العدل قال طغيانه الجور. ومن قال : إنه الميزان الذي يوزن به قال طغيانه البخس. قال ابن عباس : أي لا تخونوا من وزنتم له. وعنه أنه قال : يا معشر الموالي! وليتم أمرين بهما هلك الناس : المكيال والميزان. ومن قال إنه الحكم قال : طغيانه التحريف. وقيل : فيه إضمار ، أي وضع الميزان وأمركم ألا تطغوا فيه. {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} أي افعلوه مستقيما بالعدل. وقال أبو الدرداء رضي الله عنه : أقيموا لسان الميزان بالقسط والعدل. وقال ابن عيينة : الإقامة باليد والقسط بالقلب. وقال مجاهد : القسط العدل بالرومية. وقيل : هو كقولك أقام الصلاة أي أتى بها في وقتها ، وأقام الناس أسواقهم أي أتوها لوقتها. أي لا تدعوا التعامل بالوزن بالعدل. {وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} ولا تنقصوا الميزان ولا تبخسوا الكيل والوزن ، وهذا كقوله : {وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ} وقال قتادة في هذه الآية : آعدل يا ابن آدم كما تحب أن يعدل لك ، وأوف كما تحب أن يوفى لك ، فإن العدل صلاح الناس. وقيل : المعنى ولا تخسروا ميزان حسناتكم يوم القيامة فيكون ذلك حسرة عليكم. وكرر الميزان لحال رؤوس الآي. وقيل : التكرير للأمر بإيفاء الوزن ورعاية العدل فيه. وقراءة العامة {تُخْسِرُوا} بضم التاء وكسر السين. وقرأ بلال بن أبي بردة وأبان عن عثمان {تَخْسِرُوا} بفتح التاء والسين وهما لغتان ، يقال : أخسرت الميزان وخسرته كأجبرته وجبرته. وقيل : {تَخْسِرُوا} بفتح التاء والسين محمول على تقدير حذف حرف الجر ، والمعنى ولا تخسروا في الميزان. {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} الأنام الناس ، عن ابن عباس. الحسن : الجن والإنس. الضحاك : كل ما دب على وجه الأرض ، وهذا عام.
قوله تعالى : {فِيهَا فَاكِهَةٌ} أي كل
ما يتفكه به الإنسان من ألوان الثمار. {وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ} الأكمام جمع كم بالكسر. قال الجوهري : والكمة بالكسر والكمامة وعاء الطلع وغطاء النور والجمع كمام وأكمة وأكمام والأكاميم أيضا. وكم الفصيل إذا أشفق عليه فستر حتى يقوى ، قال العجاج :
بل لو شهدت الناس إذ تكموا ... بغمة لو لم تفرج غموا
وتكموا أي أغمي عليهم وغطوا. وأكمت النخلة وكممت أي أخرجت أكمامها. والكمام بالكسر والكمامة أيضا ما يكم به فم البعير لئلا يعض ، تقول منه : بعير مكموم أي محجوم. وكممت الشيء غطيته. والكم ما ستر شيئا وغطاه ، ومنه كم القميص بالضم والجمع أكمام وكممة ، مثل حب وحببة. والكمة القلنسوة المدورة ، لأنها تغطي الرأس. قال :
فقلت لهم كيلو بكمة بعضكم ... دراهمكم إني كذلك أكيل
قال الحسن : {ذَاتُ الأَكْمَامِ} أي ذات الليف فإن النخلة قد تكمم بالليف ، وكمامها ليفها الذي في أعناقها. ابن زيد : ذات الطلع قبل أن يتفتق. وقال عكرمة : ذات الأحمال. {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ} الحب الحنطة والشعير ونحوهما ، والعصف التبن ، عن الحسن وغيره. مجاهد : ورق الشجر والزرع. ابن عباس : تبن الزرع وورقه الذي تعصفه الرياح. سعيد بن جبير : بقل الزرع أي أول ما ينبت منه ، وقاله الفراء. والعرب تقول : خرجنا نعصف ، الزرع إذا قطعوا منه قبل أن يدرك. وكذا في الصحاح : وعصفت الزرع أي جززته قبل أن يدرك. وعن ابن عباس أيضا : العصف ورق الزرع الأخضر إذا قطع رؤوسه ويبس ، نظيره : {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} الجوهري : وقد أعصف الزرع ، ومكان معصف أي كثير الزرع. قال أبو قيس بن الأسلت الأنصاري :
إذا جمادى منعت قطرها ... زان جنابي عطن معصف
والعصف أيضا الكسب ، ومنه قول الراجز :
بغير ما عصف ولا اصطراف
وكذلك الاعتصاف. والعصيفة الورق المجتمع الذي يكون فيه السنبل. وقال الهروي : والعصف والعصيفة ورق السنبل. وحكى الثعلبي : وقال ابن السكيت تقول العرب لورق الزرع العصف والعصيفة والجل بكسر الجيم. قال علقمة بن عبدة :
تسقي مذانب قد مالت عصيفتها ... حدورها من أتى الماء مطموم
وفي "الصحاح" : والجل بالكسر قصب الزرع إذا حصد. والريحان الرزق ، عن ابن عباس ومجاهد. الضحاك : هي لغة حمير. وعن ابن عباس أيضا والضحاك وقتادة : أنه الريحان الذي يشم ، وقاله ابن زيد. وعن ابن عباس أيضا : أنه خضرة الزرع. وقال سعيد بن جبير : هو ما قام على ساق. وقال الفراء : العصف المأكول من الزرع ، والريحان ما لا يؤكل. وقال الكلبي : إن العصف الورق الذي لا يؤكل ، والريحان هو الحب المأكول. وقيل : الريحان كل بقلة طيبة الريح سميت ريحانا ، لأن الإنسان يراح لها رائحة طيبة. أي يشم فهو فعلان روحان من الرائحة ، وأصل الياء في الكلمة واو قلب ياء للفرق بينه وبين الروحاني وهو كل شيء له روح. قال ابن الأعرابي : يقال شيء روحاني وريحاني أي له روح. ويجوز أن يكون على وزن فيعلان فأصله ريوحان فأبدل من الواو ياء وأدغم كهين ولين ، ثم ألزم التخفيف لطول ولحاق الزائدتين الألف والنون ، والأصل فيما يتركب من الراء والواو والحاء الاهتزاز والحركة. وفي "الصحاح" : والريحان نبت معروف ، والريحان الرزق ، تقول : خرجت أبتغي ريحان الله ، قال النمر بن تولب :
سلام الإله وريحانه ... ورحمته وسماء درر
وفي الحديث : "الولد من ريحان الله" وقولهم : سبحان الله وريحانه ، نصبوهما على المصدر يريدون تنزيها له واسترزاقا. وأما قوله : {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ} فالعصف
ساق الزرع ، والريحان ورقه ، عن الفراء. وقراءة العامة {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ} بالرفع فيها كلها على العطف على الفاكهة. ونصبها كلها ابن عامر وأبو حيوة والمغيرة عطفا على الأرض. وقيل : بإضمار فعل ، أي وخلق الحب ذا العصف والريحان ، فمن هذا الوجه يحسن الوقف على {ذَاتُ الأَكْمَامِ} . وجر حمزة والكسائي {َالرَّيْحَانُ} عطفا على العصف ، أي فيها الحب ذو العصف والريحان ، ولا يمتنع ذلك على قول من جعل الريحان الرزق ، فيكون كأنه قال : والحب ذو الرزق. والرزق من حيث كان العصف رزقا ، لأن العصف رزق للبهائم ، والريحان رزق للناس ، ولا شبهة فيه في قول من قال إنه الريحان المشموم.
قوله تعالى : {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} خطاب للإنس والجن ، لأن الأنام واقع عليهما. وهذا قول الجمهور ، يدل عليه حديث جابر المذكور أول السورة ، وخرجه الترمذي وفيه "للجن أحسن منكم ردا" . وقيل : لما قال : {خَلَقَ الْأِنْسَانَ} {وَخَلَقَ الْجَانَّ} دل ذلك على أن ما تقدم وما تأخر لهما. وأيضا قال : {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ} خطاب للإنس والجن وقد قال في هذه السورة : {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ} . الجرجاني : خاطب الجن مع الإنس وإن لم يتقدم للجن ذكر ، كقوله تعالى : {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} . وقد سبق ذكر الجن فيما سبق نزوله من القران ، والقران كالسورة الواحدة ، فإذا ثبت أنهم مكلفون كالإنس خوطب الجنسان بهذه الآيات. وقيل : الخطاب للإنس على عادة العرب في الخطاب للواحد بلفظ التثنية ، حسب ما تقدم من القول في {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} وكذلك قوله :
قفا نبك...
وخليلي مرا بي...
فأما ما بعد {خَلَقَ الأِنْسَانَ} {وَخَلَقَ الْجَانَّ} فإنه خطاب للإنس والجن ، والصحيح قول الجمهور لقوله تعالى : {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} والآلاء النعم ، وهو قول جميع المفسرين ، واحدها إلى وألى مثل معى وعصا ، وإلي وألي أربع لغات حكاها النحاس قال : وفي واحد {اناء الليل} ثلاث تسقط منها المفتوحة الألف المسكنة اللام ، وقد مضى في {الأعراف} و {النجم} . وقال ابن زيد : إنها القدرة ، وتقدير الكلام فبأي قدرة ربكما تكذبان ، وقاله الكلبي واختاره الترمذي محمد بن علي ، وقال : هذه السورة من بين السور علم القرآن ، والعلم إمام الجند والجند تتبعه ، وإنما صارت علما لأنها سورة صفة الملك والقدرة ، فقال : {الرَّحْمَنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ} فافتتح السورة باسم الرحمن من بين الأسماء ليعلم العباد أن جميع ما يصفه بعد هذا من أفعاله ومن ملكه وقدرته خرج إليهم من الرحمة العظمى من رحمانيته فقال : {الرَّحْمَنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ} ثم ذكر الإنسان فقال : {خَلَقَ الأِنْسَانَ} ثم ذكر ما صنع به وما من عليه به ، ثم ذكر حسبان الشمس والقمر وسجود الأشياء مما نجم وشجر ، وذكر رفع السماء ووضع الميزان وهو العدل ، ووضع الأرض للأنام ، فخاطب هذبن الثقلين الجن والإنس حين رأوا ما خرج من القدرة والملك برحمانيته التي رحمهم بها من غير منفعة ولا حاجة إلى ذلك ، فأشركوا به الأوثان وكل معبود اتخذوه من دونه ، وجحدوا الرحمة التي خرجت هذه الأشياء بها إليهم ، فقال سائلا لهم : {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي بأي قدرة ربكما تكذبان ، فإنما كان تكذيبهم أنهم جعلوا له في هذه الأشياء التي خرجت من ملكه وقدرته شريكا يملك معه يقدر معه ، فذلك تكذيبهم. ثم ذكر خلق الإنسان من صلصال ، وذكر خلق الجان من مارج من نار ، ثم سألهم فقال : {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي بأي قدرة ربكما تكذبان ، فإن له في كل خلق بعد خلق قدرة بعد قدرة ، فالتكرير في هذه الآيات للتأكيد والمبالغة في التقرير ، واتخاذ الحجة عليهم بما وقفهم على خلق خلق. وقال القتبي : إن الله تعالى عدد في هذه السورة نعماءه ، وذكر خلقه آلاءه ، ثم أتبع
كل ، خلة وصفها ونعمة وضعها بهذه وجعلها فاصلة بين كل نعمتين لينبههم على النعم ويقررهم بها ، كما تقول لمن تتابع فيه إحسانك وهو يكفره ومنكره : ألم تكن فقيرا فأغنيتك أفتنكر هذا ؟ ! ألم تكن خاملا فعززتك أفتنكر هذا ؟ ! ألم تكن صرورة فحججت بك أفتنكر هذا! ؟ ألم تكن راجلا فحملتك أفتنكر هذا ؟ ! والتكرير حسن في مثل هذا. قال :
كم نعمة كانت لكم كم كم وكم
وقال آخر :
لا تقتلي مسلما إن كنت مسلمة ... إياك من دمه إياك إياك
وقال آخر :
لا تقطعن الصديق ما طرفت ... عيناك من قول كاشح أش
ولا تملن من زيارته زره ... وزره وزر وزر وزر
وقال الحسين بن الفضل : التكرير طردا للغفلة ، وتأكيدا للحجة.
الآية : [14] {خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ}
الآية : [15] {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ}
الآية : [16] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}
الآية : [17] {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ}
الآية : [18] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}
قوله تعالى : {خَلَقَ الْأِنْسَانَ} لما ذكر سبحانه خلق العالم الكبير من السماء والأرض ، وما فيهما من الدلالات على وحدانيته وقدرته ذكر خلق العالم الصغير فقال : {خَلَقَ الْأِنْسَانَ} باتفاق من أهل التأويل يعني آدم. {مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} الصلصال الطين اليابس الذي يسمع له صلصلة ، شبهه بالفخار الذي طبخ. وقيل : هو طين خلط برمل. وقيل : هو الطين المنتن من صل اللحم وأصل إذا أنتن ، وقد مضى في {الحجر} وقال هنا : {مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} وقال هناك : { مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ} وقال : إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #680  
قديم 12-07-2025, 08:39 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (17)
سُورَةُ الرحمن
من صــ 161 الى صــ 170
الحلقة (680)






لازِبٍ. وقال : {كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} وذلك متفق المعنى ، وذلك أنه أخذ من تراب الأرض فعجنه فصار طينا ، ثم انتقل فصار كالحمأ المسنون ، ثم انتقل فصار صلصالا كالفخار. {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} قال الحسن : الجان إبليس وهو أبو الجن. وقيل : الجان واحد الجن ، والمارج الهب ، عن ابن عباس ، وقال : خلق الله الجان من خالص النار. وعنه أيضا من لسانها الذي يكون في طرفها إذا التهبت. وقال الليث : المارج الشعلة الساطعة ذات اللهب الشديد. وعن ابن عباس أنه اللهب الذي يعلو النار فيختلط بعضه ببعض أحمر وأصفر وأخضر ، ونحوه عن مجاهد ، وكله متقارب المعنى. وقيل : المارج كل أمر مرسل غير ممنوع ، ونحوه قول المبرد ، قال المبرد : المارج النار المرسلة التي لا تمنع. وقال أبو عبيدة والحسن : المارج خلط النار ، وأصله من مرج إذا أضطرب واختلط ، ويروى أن الله تعالى خلق نارين فمرج إحداهما بالأخرى ، فأكلت إحداهما الأخرى وهي نار السموم فخلق منها إبليس. قال القشيري والمارج في اللغة المرسل أو المختلط وهو فاعل بمعنى مفعول ، كقوله : {مَاءٍ دَافِقٍ} و {عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} والمعنى ذو مرج ، قال الجوهري في الصحاح : و {مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} نار لا دخان لها خلق منها الجان. {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} . {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} أي هو رب المشرقين. وفي الصافات {وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} وقد مضى الكلام في ذلك هنالك.
الآية : [19] {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ}
الآية : [20] {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ}
الآية : [21] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}
الآية : [22 ] {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ}
الآية : [23] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}
قوله تعالى : {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ. بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} {مَرَجَ} أي خلى وأرسل وأهمل ، يقال : مرج السلطان الناس إذا أهملهم. وأصل المرج الإهمال كما تمرج الدابة في المرعى. ويقال : مرج خلط. وقال الأخفش : ويقول قوم أمرج البحرين مثل مرج ، فعل وأفعل بمعنى. {الْبَحْرَيْنِ} قال ابن عباس : بحر السماء وبحر الأرض ، وقال مجاهد وسعيد بن جبير. {يَلْتَقِيَانِ} في كل عام. وقيل : يلتقي طرفاهما. وقال الحسن ، وقتادة : بحر فارس والروم. وقال ابن جريج : إنه البحر المالح والأنهار العذبة. وقيل : بحر المشرق والمغرب يلتقي طرفاهما. وقيل : بحر اللؤلؤ والمرجان. {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ} أي حاجز فعلى القول الأول ما بين السماء والأرض ، قاله الضحاك. وعلى القول الثاني الأرض التي بينهما وهي الحجاز ، قاله الحسن وقتادة. وعلى غيرهما من الأقوال القدرة الإلهية على ما تقدم في {الفرقان} . وفي الخبر عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "أن الله تعالى كلم الناحية الغربية فقال : إني جاعل فيك عبادا لي يسبحوني ويكبروني ويهللوني ويمجدوني فكيف أنت لهم ؟ فقالت : أغرقهم يا رب. قال : إني أحملهم على يدي ، وأجعل بأسك في نواحيك. ثم كلم الناحية الشرقية فقال : إني جاعل فيك عبادا يسبحوني ويكبروني ويهللوني ويمجدوني فكيف أنت لهم ؟ قالت : أسبحك معهم إذا سبحوك ، وأكبرك معهم إذا كبروك ، وأهللك معهم إذا هللوك ، وأمجدك معهم إذا مجدوك ، فأثابها الله الحلية وجعل بينهما برزخا ، وتحول أحدهما ملحا أجاجا ، وبقي الآخر على حالته عذبا فراتا" ذكر هذا الخبر الترمذي الحكيم أبو عبدالله قال : حدثنا صالح بن محمد ، حدثنا القاسم العمري عن سهل عن أبيه عن أبي هريرة : {لا يَبْغِيَانِ} قال قتادة : لا يبغيان على الناس فيغرقانهم ، جعل بينهما وبين الناس يبسأ. وعنه أيضا ومجاهد : لا يبغي أحدهما على صاحبه فيغلبه. ابن زيد : المعنى {لا يَبْغِيَانِ} أن يلتقيا ، وتقدير الكلام : مرج البحرين يلتقيان ، لولا البرزخ الذي بينهما لا يبغيان أن يلتقيا. وقيل : البرزخ ما بين الدنيا والآخرة ، أي بينهما مدة قدرها الله وهي مدة الدنيا فهما لا يبغيان ، فإذا أذن الله في أنقضاء الدنيا صار البحران
شيا واحدا ، وهو كقوله وتعالى : {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} . وقال سهل بن عبدالله : البحران طريق الخير والشر ، والبرزخ الذي بينهما التوفيق والعصمة.
قوله تعالى : {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} أي يخرج لكم من الماء اللؤلؤ والمرجان ، كما يخرج من التراب الحب والعصف والريحان. وقرأ نافع وأبو عمر {يَخْرُجُ} بضم الياء وفتح الراء على الفعل المجهول. الباقون {يَخْرُجُ} بفتح الياء وضم الراء على أن اللؤلؤ هو الفاعل. وقال : {مِنْهُمَا} وإنما يخرج من الملح لا العذب لأن العرب تجمع الجنسين ثم تخبر عن أحدهما ، كقوله تعالى : {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} وإنما الرسل من الإنس دون الجن ، قال الكلبي وغيره. قال الزجاج : قد ذكرهما الله فإذا خرج من أحدهما شيء فقد خرج منهما ، وهو كقوله تعالى : {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً} والقمر في سماء الدنيا ولكن أجمل ذكر السبع فكأن ما في إحداهن فيهن. وقال أبو علي الفارسي : هذا من باب حذف المضاف ، أي من أحداهما ، كقوله : {رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} أي من إحدى القريتين. وقال الأخفش سعيد : زعم قوم أنه يخرج اللؤلؤ من العذب. وقيل : هما بحران يخرج من أحدهما اللؤلؤ ومن الآخر المرجان. ابن عباس : هما بحرا السماء والأرض. فإذا وقع ماء السماء في صدف البحر انعقد لؤلؤا فصار خارجا منهما ، وقاله الطبري. قال الثعلبي : ولقد ذكر لي أن نواة كانت في جوف صدفة ، فأصابت القطرة بعض النواة ولم تصب البعض ، فكان حيث أصاب القطرة من النواة لؤلؤة وسائرها نواة. وقيل : إن العذب والملح قد يلتقيان ، فيكون العذب كاللقاح للملح ، فنسب إليهما كما ينسب الولد إلى الذكر والأنثى وإن ولدته الأنثى ، لذلك قيل : إنه لا يخرج اللؤلؤ إلا من وضع يلتقي فيه العذب والملح. وقيل : المرجان عظام اللؤلؤ وكباره ، قال علي وابن عباس رضي الله عنهما. واللؤلؤ صغاره. وعنهما أيضا بالعكس : إن اللؤلؤ كبار اللؤلؤ والمرجان صغاره ، وقاله الضحاك وقتادة. وقال ابن مسعود وابو مالك : المرجان الخرز الأحمر.
الآية : [24] {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ}
الآية : [25] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}
قوله تعالى : {وَلَهُ الْجَوَارِ} يعني السفن. {الْمُنْشَآتُ} قراءة العامة {الْمُنْشَآتُ} بفتح الشين ، قال قتادة : أي المخلوقات للجري مأخوذ من الإنشاء. وقال مجاهد : هي السفن التي رفع قلعها ، قال : وإذا لم يرفع قلعها فليست بمنشآت. وقال الأخفش : إنها المجريات. وفي الحديث : أن عليا رضي الله عنه رأى سفنا مقلعة ، فقال : ورب هذه الجواري المنشآت ما قتلت عثمان ولا مالأت في قتله. وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم باختلاف عنه {الْمُنْشَآتُ} بكسر الشين أي المنشئات السير ، أضيف الفعل إليها على التجوز والاتساع. وقيل : الرافعات الشرع أي القلع. ومن فتح الشين قال : المرفوعات الشرع. {كَالأَعْلامِ} أي كالجبال ، والعلم الجبل الطويل ، قال :
إذا قطن علما بدا علم
فالسفن في البحر كالجبال في البر ، وقد مضى في {الشورى} بيانه. وقرأ يعقوب {الْجَوَاريِ} بياء في الوقف ، وحذف الباقون.
الآية : [26] {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}
الآية : [27] {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ}
الآية : [28] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}
قوله تعالى : {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} الضمير في {عَلَيْهَا} للأرض ، وقد جرى ذكرها في أول السورة في قوله تعالى : {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأنَامِ} وقد يقال : هو أكرم من عليها
يعنون الأرض وإن لم يجر لها ذكر. وقال ابن عباس : لما نزلت هذه الآية قالت الملائكة هلك أهل الأرض فنزلت : {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} فأيقنت الملائكة بالهلاك ، وقاله مقاتل. ووجه النعمة في فناء الخلق التسوية بينهم في الموت ، ومع الموت تستوي الأقدام. وقيل : وجه النعمة أن الموت سبب النقل إلى دار الجزاء والثواب. {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} أي ويبقى الله ، فالوجه عبارة عن وجوده وذاته سبحانه ، قال الشاعر :
قضى على خلقه المنايا ... فكل شيء سواه فاني
وهذا الذي ارتضاه المحققون من علمائنا : ابن فورك وأبو المعالي وغيرهم. وقال ابن عباس : الوجه عبارة عنه كما قال : {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالأِكْرَامِ} وقال أبو المعالي : وأما الوجه فالمراد به عند معظم أئمتنا وجود الباري تعالى ، وهو الذي ارتضاه شيخنا. ومن الدليل على ذلك قوله تعالى : {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} والموصوف بالبقاء عند تعرض الخلق للفناء وجود الباري تعالى. وقد مضى في {البقرة} القول في هذا عند قوله تعالى : {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} وقد ذكرناه في الكتاب الأسنى مستوفى. قال القشيري : قال قوم هو صفة زائدة على الذات لا تكيف ، يحصل بها الإقبال على من أراد الرب تخصيصه بالإكرام. والصحيح أن يقال : وجهه وجوده وذاته ، يقال : هذا وجه الأم ووجه الصواب وعين الصواب. وقيل : أي يبقى الظاهر بأدلته كظهور الإنسان بوجهه. وقيل : وتبقى الجهة التي يتقرب بها إلى الله. {ذُو الْجَلالِ} الجلال عظمة الله وكبرياؤه واستحقاقه صفات المدح ، يقال : جل الشيء أي عظم وأجللته أي عظمته ، والجلال اسم من جل. {وَالْأِكْرَامِ} أي هو أهل لأن يكرم عما لا يليق به من الشرك ، كما تقول : أنا أكرمك عن هذا ، ومنه إكرام الأنبياء والأولياء. وقد أتينا على هذين الاسمين لغة ومعنى في الكتاب الأسنى مستوفى. وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ألظوا بـ" يا ذا الجلال والإكرام ". وروي أنه من قول ابن مسعود ، ومعناه : الزموا ذلك في الدعاء. قال أبو عبيد :"
الإلظاظ لزوم الشيء والمثابرة عليه. ويقال : الإلظاظ الإلحاح. وعن سعيد المقبري. أن رجلا ألح فجعل يقول : اللهم يا ذا الجلال والإكرام! اللهم يا ذا الجلال والإكرام! فنودي : إني قد سمعت فما حاجتك ؟
الآية : [29] {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}
الآية : [30] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}
قوله تعالى : {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} قيل : المعنى يسأله من في السماوات الرحمة ، ومن في الأرض الرزق. وقال ابن عباس وأبو صالح : أهل السماوات يسألونه المغفرة ولا يسألونه الرزق ، وأهل الأرض يسألونهما جميعا. وقال ابن جريج : وتسأل الملائكة الرزق لأهل الأرض ، فكانت المسألتان جميعا من أهل السماء وأهل الأرض لأهل الأرض. وفي الحديث : "إن الملائكة ملكا له أربعة أوجه وجه كوجه الإنسان وهو يسأل الله الرزق لبني آدم ووجه كوجه الأسد وهو يسأل الله الرزق للسباع ووجه كوجه الثور وهو يسأل الله الرزق للبهائم ووجه كوجه النسر وهو يسأل الله الرزق للطير" . وقال ابن عطاء : إنهم سألوه القوة على العبادة. {كل يوم هو في شأن} هذا {كل يوم هو في شأن} كلام مبتدأ. وأنتصب {يَوْمٍ هُوَ} ظرفا ، لقوله : {فِي شَأْنٍ} أو ظرفا للسؤال ، ثم يبتدئ {هُوَ فِي شَأْنٍ} . وروى أبو الدرداء رضي الله عنه عل النبي صلى الله عليه وسلم قال : { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} قال : من شأنه أن يغفر ذنبا ومفرج كربا ويرفع قوما ويضع أخرين ". وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله عز وجل : {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} قال :" يغفر ذنبا ويكشف كربا ويجيب داعيا ". وقيل : من شأنه أن يحي ويميت ، ويعز ويزل ، ويرزق ويمنع. وقيل : أراد شأنه في يومي الدنيا والآخرة. قال ابن بحر : الدهر كله يومان ، أحدهما مدة أيام الدنيا ، والآخر يوم القيامة ، فشأنه سبحانه وتعالى في أيام الدنيا الابتلاء والاختبار بالأمر والنهى والإحياء والإماتة والإعطاء والمنع ، وشأنه يوم القيامة الجزاء والحساب ،"
والثواب والعقاب. وقيل : المراد بذلك الإخبار عن شأنه في كل يوم من أيام الدنيا وهو الظاهر. والشأن في اللغة الخطب العظيم والجمع الشؤون والمراد بالشأن ها هنا الجمع كقوله تعالى : {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} وقال الكلبي : شانه سوق المقادير إلى المواقيت. وقال عمرو بن ميمون في قوله تعالى : {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} من شأنه أن يميت حيا ، ويقر في الأرحام ما شاء ، ومعز ذليلا ، ويذل عزيزا. وسأل بعض الأمراء وزيره عن قوله تعالى : {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} فلم يعرف معناها ، واستمهله إلى الغد فانصرف كئيبا إلى منزل فقال له غلام له أسود : ما شأنك ؟ فأخبره. فقال له : عد إلى الأمير فإني أفسرها له ، فدعاه فقال : أيها الأمير! شأنه أن يولج الليل في النهار ، ويولج النهار في الليل ، ويخرج الحي من الميت ، ويخرج الميت من الحي ، ويشفي سقيما ، ويسقم سليما ، ويبتلي معافى ، وحافي مبتلى ، ويعز ذليلا ويذل عزيزا ، ويفقر غنيا ويغني فقيرا ، فقال له : فرجة - عني فرج الله عنك ، ثم أمر بخلع ثياب الوزير وكساها الغلام ، فقال : يا مولاي! هذا من شأن الله تعالى. وعن عبدالله بن طاهر : أنه دعا الحسين بن الفضل وقل له : أشكلت علي ثلاث آيات دعوتك لتكشفها لي : قوله تعالى : {فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} وقد صح أن الندم توبة. وقول : {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} وقد صح أن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة. وقول : {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} فما بال الأضعاف ؟ فقال الحسين : يجوز ألا يكون الندم توبة في تلك الأمة ، ويكون توبة في هذه الأمة ، لأن الله تعالى خص هذه الأمة بخصائص لم تشاركهم فيها الأمم. وقيل : إن ندم قابيل لم يكن على قتل هابيل ولكن على حمله. وأما قوله : {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} فإنها شؤون يبديها لا شؤون يبتديها. وأما قوله : {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} فمعناه : ليس له إلا ما سعى عدلا ولي أن أجزيه بواحدة ألفا فضلا. فقام عبدا. وقبل رأسه وسوغ خراجه.
الآية : [31] {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ}
الآية : [32] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}
الآية : [33] {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ}
الآية : [34] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}
الآية : [35] {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنْتَصِرَانِ}
الآية : [36] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}
قوله تعالى : {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ} يقال : فرغت من الشغل أفرغ فروغا وفراغا وتفرغت لكذا واستفرغت مجهودي في كذا أي بذلته. والله تعالى ليس له شغل يفرغ منه ، إنما المعنى سنقصد لمجازاتكم أو محاسبتكم ، وهذا وعيد وتهديد لهم كما يقول القائل لمن يربد تهديده : إذا أتفرغ لك أي أقصدك. وفرغ بمعنى قصد ، وأنشد ابن الأنباري في مثل هذا لجرير :
ألان وقد فرغت إلى نمير ... فهذا حين كنت لها عذابا
يريد وقد قصدت. وقال أيضا وأنشده النحاس :
فرغت إلى العبد المقيد في الحجل
وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بايع الأنصار ليلة العقبة ، صاح الشيطان : يا أهل الجباجب! هذا مذم يبايع بني قيلة على حربكم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "هذا إزب العقبة أما والله يا عدو لأتفرغن لك" أي أقصد إلى إبطال أمرك. وهذا اختيار القتبي والكسائي وغيرهما. وقيل : إن الله تعالى وعد على التقوى وأوعد على الفجور ، ثم قال : {سَنَفْرُغُ لَكُمْ} مما وعدناكم ونوصل كلا إلى ما وعدناه ، أي أقسم ذلك وأتفرغ منه. قال الحسن ومقاتل وابن زيد. وقرأ عبدالله وأبي {سَنَفْرُغُ إلَيْكُمْ} وقرأ الأعمش وإبراهيم
{سَيُفْرَغُ لَكُمْ} بضم الياء وفتح الراء على ما لم يسم فاعله. وقرأ ابن شهاب والأعرج {سَنَفْرُغُ لَكُمْ} بفتح النون والراء ، قال الكسائي : هي لغة تميم يقولون فرغ يفرغ ، وحكى أيضا فرغ يفرغ ورواهما هبيرة عن حفص عن عاصم. وروى الجعفي عن أبي عمرو {سَيُفْرَغُ} بفتح الياء والراء ، ورويت عن ابن هرمز. وروي عن عيسى الثقفي {سَنِفْرَغُ لَكُمْ} بكسر النون وفتح الراء ، وقرأ حمزة والكسائي {سَيُفْرَغُ لَكُمْ} بالياء. الباقون بالنون وهي لغة تهامة. والثقلان الجن والإنس ، سميا بذلك لعظم شأنهما بالإضافة إلى ما في الأرض من غيرهما بسبب التكليف - وقيل : سموا بذلك لأنهم ثقل على الأرض أحياء وأمواتا ، قال الله تعالى : {وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا} ومنه قولهم : أعطه ثقله أي وزنه. وقال بعض أهل المعاني : كل شيء له قدر ووزن ينافس فيه فهو ثقل. ومنه قيل لبيض النعام ثقل ، لأن واجده وصائده يفرح به إذا ظفر به. وقال جعفر الصادق : سميا ثقلين ، لأنهما مثقلان بالذنوب. وقال : {سَنَفْرُغُ لَكُمْ} فجمع ، ثم قال : {أَيُّه الثَّقَلانِ} لأنهما فريقان وكل فريق جمع ، وكذا قوله تعالى : {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ} ولم يقل إن استطعتما ، لأنهما فريقان في حال الجمع ، كقوله تعالى : {فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} و {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} ولو قال : سنفرغ لكما ، وقال : إن استطعتما لجاز. وقرأ أهل الشام {أَيُّهُ الثَّقَلانِ} بضم الهاء. الباقون بفتحها وقد تقدم.
مسألة : هذه السورة و {الأحقاف} و {قل أوحي} دليل على أن الجن مخاطبون مكلفون مأمورون منهيون مثابون معاقبون كالإنس سواء ، مؤمنهم كمؤمنهم ، وكافرهم ككافرهم ، لا فرق بيننا وبينهم في شيء من ذلك.
قوله تعالى : {يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ} ذكر ابن المبارك : وأخبرنا جويبر عن الضحاك قال إذا كان يوم القيامة أمر الله السماء الدنيا فتشققت بأهلها ، فتكون الملائكة على حافاتها حتى يأمرهم الرب ، فينزلون إلى الأرض فيحيطون بالأرض ومن فيها ، ثم يأمر الله السماء التي تليها
كذلك فينزلون فيكونون صفا من خلف ذلك الصف ، ثم السماء الثالثة ثم الرابعة ثم الخامسة ثم السادسة ثم السابعة ، فينزل الملك الأعلى في بهائه وملكه ومجنبته اليسرى جهنم ، فيسمعون زفيرها وشهيقها ، فلا يأتون قطرا من أقطارها إلا وجدوا صفوفا من الملائكة ، فذلك قوله تعالى : {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ} والسلطان العذر. وقال الضحاك أيضا : بينما الناس في أسواقهم انفتحت السماء ، ونزلت الملائكة ، فتهرب الجن والإنس ، فتحدق بهم الملائكة ، فذلك قوله تعالى : {لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ} ذكره النحاس. قلت. فعلى هذا يكون في الدنيا ، وعلى ما ذكر ابن المبارك يكون في الآخرة. وعن الضحاك أيضا : إن استطعتم أن تهربوا من الموت فاهربوا. وقال ابن عباس : إن استطعتم أن تعلموا ما في السماوات وما في الأرض فأعلموه ، ولن تعلموه إلا بسلطان أي ببينة من الله تعالى. وعنه أيضا أن معنى : {لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ} لا تخرجون من سلطاني وقدرتي عليكم. قتادة : لا تنفذون إلا بملك وليس لكم ملك. وقيل : لا تنفذون إلا إلى سلطان ، الباء بمعنى إلى ، كقوله تعالى : {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي} أي إلى. قال الشاعر :
أسيئي بنا أو أحسني لا ملولة ... لدينا ولا مقلية إن تقلت
وقوله : {فَانْفُذُوا} أمر تعجيز.
قوله تعالى : {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ} أي لو خرجتم أرسل عليكم شواظ من نار ، وأخذكم العذاب المانع من النفوذ. وقيل : ليس هذا متعلقا بالنفوذ بل أخبر أنه يعاقب العصاة عذابا بالنار. وقيل : أي بآلاء ربكما تكذبان يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس عقوبة على ذلك التكذيب. وقيل : يحاط على الخلائق بالملائكة وبلسان من نار ثم ينادون {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ} ، فتلك النار قوله : {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ}




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 372.42 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 366.57 كيلو بايت... تم توفير 5.85 كيلو بايت...بمعدل (1.57%)]