|
ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#621
|
||||
|
||||
![]() ![]() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد التاسع الحلقة (619) بيان الناسخ والمنسوخ صـ 230 إلى صـ 242 قوله تعالى : لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين الآية . [ ص: 230 ] هذه الآية الكريمة توهم أن اتخاذ الكفار أولياء ، إذا لم يكن من دون المؤمنين ، لا بأس به بدليل قوله :من دون المؤمنين . وقد جاءت آيات أخر تدل على منع اتخاذهم أولياء مطلقا كقوله تعالى : ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا [ 4 \ 89 ] ، وكقوله : لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء الآية [ 5 \ 57 ] . والجواب عن هذا أن قوله : " من دون المؤمنين " لا مفهوم له . وقد تقرر في علم الأصول أن دليل الخطاب الذي هو مفهوم المخالفة له موانع تمنع اعتباره ، منها كون تخصيص المنطوق بالذكر لأجل موافقته للواقع ، كما في هذه الآية لأنها نزلت في قوم والوا اليهود دون المؤمنين ، فنزلت ناهية عن الصورة الواقعة من غير قصد التخصيص بها ، بل موالاة الكفار حرام مطلقا ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة الآية . هذه الآية تدل على أن زكريا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ليس عنده شك في قدرة الله على أن يرزقه الولد على ما كان منه من كبر السن ، وقد جاء في آية أخرى ما يوهم خلاف ذلك وهي قوله تعالى : قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر الآية [ 3 \ 40 ] . والجواب عن هذا بأمور : الأول : ما أخرجه ابن جرير عن عكرمة والسدي من أن زكريا لما نادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب : أن الله يبشرك بيحيى ، قال له الشيطان ليس هذا نداء الملائكة ، وإنما هو نداء الشيطان فداخل زكريا الشك في أن النداء من الشيطان ، فقال عند ذلك الشك الناشئ عن وسوسة الشيطان قبل أن يتيقن أنه من الله : أنى يكون لي غلام ولذا طلب الآية من الله على ذلك بقوله : رب اجعل لي آية الآية [ 3 \ 41 ] . الثاني : أن استفهامه استفهام استعلام واستخبار ، لأنه لا يدري هل الله يأتيه بالولد من زوجه العجوز أم يأمره بأن يتزوج شابة أو يردهما شابين . [ ص: 231 ] الثالث : أنه استفهام استعظام وتعجب من كمال قدرة الله تعالى ، والله تعالى أعلم . قوله تعالى : أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير الآية . هذه الآية يوهم ظاهرها أن بعض المخلوقين ربما خلق بعضهم ، ونظيرها قوله تعالى : وتخلقون إفكا الآية [ 29 \ 17 ] . وقد جاءت آيات أخر تدل على أن الله هو خالق كل شيء ، كقوله تعالى : إنا كل شيء خلقناه بقدر [ 54 \ 49 ] ، وقوله : الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل [ 39 \ 62 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . والجواب ظاهر ، وهو أن معنى خلق عيسى كهيئة الطير من الطين هو : أخذه شيئا من الطين وجعله إياه على هيئة - أي صورة - الطير وليس المراد الخلق الحقيقي لأن الله متفرد به جل وعلا ، وقوله : وتخلقون إفكا : معناه تكذبون ، فلا منافاة بين الآيات كما هو ظاهر . قوله تعالى : إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي الآية . هذه الآية الكريمة يتوهم من ظاهرها وفاة عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام . وقد جاء في بعض الآيات ما يدل على خلاف ذلك كقوله : وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم [ 4 \ 157 ] ، وقوله : وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته الآية [ 4 \ 159 ] . على ما فسرها به ابن عباس في إحدى الروايتين وأبو مالك والحسن وقتادة وابن . . . . . . وأبو هريرة ، ودلت على صدقه الأحاديث المتواترة ، واختاره ابن جرير وجزم ابن كثير ، بأنه الحق من أن قوله : " قبل موته " أي موت عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام . والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه : الأول : أن قوله تعالى : " متوفيك " لا يدل على تعيين الوقت ، ولا يدل على كونه قد مضى وهو متوفيه قطعا يوما ما ، ولكن لا دليل على أن ذلك اليوم قد مضى ، وأما [ ص: 232 ] عطفه : " ورافعك " إلى قوله : " متوفيك " ، فلا دليل فيه لإطباق جمهور أهل اللسان العربي على أن الواو لا تقتضي الترتيب ولا الجمع ، وإنما تقتضي مطلق التشريك . وقد ادعى السيرافي والسهيلي إجماع النحاة على ذلك ، وعزاه الأكثر للمحققين وهو الحق . خلافا لما قاله قطرب والفراء وثعلب وأبو عمر والزاهد وهشام والشافعي من أنها تفيد الترتيب لكثرة استعمالها فيه . وقد أنكر السيرافي ثبوت هذا القول عن الفراء وقال : لم أجده في كتابه . وقال ولي الدين : أنكر أصحابنا نسبة هذا القول إلى الشافعي ، حكاه عنه صاحب الضياء اللامع . وقوله صلى الله عليه وسلم : ابدأ بما بدأ الله به يعني الصفا لا دليل فيه على اقتضائها الترتيب ، وبيان ذلك هو ما قاله الفهري كما ذكر عنه صاحب الضياء اللامع وهو أنها كما أنها لا تقتضي الترتيب ولا المعية فكذلك لا تقتضي المنع منهما ، فقد يكون العطف بها مع قصد الاهتمام بالأول كقوله إن الصفا والمروة من شعائر الله الآية [ 2 158 ] . بدليل الحديث المتقدم ، وقد يكون المعطوف بها مرتبا كقول حسان : هجوت محمدا وأجبت عنه على رواية الواو وقد يراد بها المعية كقوله : فأنجيناه وأصحاب السفينة [ 29 \ 15 ] ، وقوله : وجمع الشمس والقمر [ 75 \ 9 ] ، ولكن لا تحمل على الترتيب ولا على المعية إلا بدليل منفصل . الوجه الثاني : أن معنى " متوفيك " أي : منيمك " ورافعك إلي " ، أي : في تلك النومة . وقد جاء في القرآن إطلاق الوفاة على النوم في قوله وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار [ 6 \ 60 ] ، وقوله : الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها [ 39 \ 42 ] . وعزا ابن كثير هذا القول للأكثرين ، واستدل بالآيتين المذكورتين وقوله صلى الله عليه وسلم : الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا . . . . . الحديث . [ ص: 233 ] الوجه الثالث : إن " متوفيك " اسم فاعل توفاه إذا قبضه وحازه إليه ، ومنه قولهم : توفى فلان دينه ، إذا قبضه إليه ، فيكون معنى " متوفيك " على هذا قابضك منهم إلي حيا . وهذا القول هو اختيار ابن جرير ، وأما الجمع بأنه توفاه ساعات أو أياما ، ثم أحياه ، فالظاهر أنه من الإسرائيليات ، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن تصديقها وتكذيبها . قوله تعالى : ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين الآية . هذه الآية الكريمة وأمثالها في القرآن تدل على أن إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لم يكن مشركا يوما ما ، لأن نفي الكون الماضي في قوله : وما كان من المشركين يدل على استغراق النفي لجميع الزمن الماضي كما دل عليه قوله تعالى : ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل الآية [ 21 \ 15 ] . وقد جاء في موضع آخر ما يوهم خلاف ذلك وهو قوله : فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال ياقوم إني بريء مما تشركون الآية [ 6 - 78 ] . ومن ظن ربوبية غير الله فهو مشرك بالله كما دل عليه قوله تعالى عن الكفار وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون [ 10 \ 66 ] . والجواب عن هذا من وجهين : أحدهما أنه مناظر لا ناظر ومقصوده التسليم الجدلي أي : هذا ربي على زعمكم الباطل ، والمناظر قد يسلم المقدمة الباطلة تسليما جدليا ليفحم بذلك خصمه . فلو قال لهم إبراهيم في أول الأمر : الكوكب مخلوق لا يمكن أن يكون ربا ، لقالوا له ، كذبت ، بل الكوكب رب ومما يدل لكونه مناظرا لا ناظرا : قوله تعالى : وحاجه قومه [ 6 \ 80 ] . وهذا الوجه هو الأظهر ، وما استدل به ابن جرير على أنه غير مناظر من قوله تعالى : [ ص: 234 ] لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين [ 6 \ 77 ] . لا دليل فيه على التحقيق لأن الرسل يقولون مثل ذلك تواضعا وإظهارا لالتجائهم إلى الله ، كقول إبراهيم : واجنبني وبني أن نعبد الأصنام [ 14 \ 35 ] ، وقوله هو وإسماعيل : ربنا واجعلنا مسلمين لك الآية [ 2 \ 128 ] . الوجه الثاني : أن الكلام على حذف همزة الاستفهام أي : أهذا ربي ؟ وقد تقرر في علم النحو أن حذف همزة الاستفهام إذا دل المقام عليها جائز ، وهو قياسي عند الأخفش مع أم ودونها ذكر الجواب أم لا ، فمن أمثلته دون أم ودون ذكر الجواب قول الكميت : طربت وما شوقا إلى البيض أطرب ولا لعبا مني وذو الشيب يلعب يعني أو ذو الشيب يلعب ؟ وقول أبي خراش الهذلي واسمه خويلد : رفوني وقالوا يا خويلد لم ترع فقلت وأنكرت الوجوه هم هم يعني أهم هم ، كما هو الصحيح ، وجزم به الألوسي في تفسيره ، وذكره ابن جرير عن جماعة ويدل له قوله : وأنكرت الوجوه . ومن أمثلته دون أم مع ذكر الجواب ، قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي : ثم قالوا تحبها قلت بهرا عدد النجم والحصى والتراب يعني أتحبها على القول الصحيح وهو مع أم كثير جدا ، ومن أمثلته قول الأسود بن يعفر التميمي وأنشده سيبويه لذلك : لعمرك ما أدري وإن كنت داريا شعيث بن سهم أم شعيث بن منقر يعني أشعيث بن سهم ؟ وقول ابن أبي ربيعة المخزومي : بدا لي منها معصم يوم جمرت وكف خضيب زينت ببنان يعني أبسبع ، وقول الأخطل : فوالله ما أدري وإني لحاسب بسبع رميت الجمر أم بثمان كذبتك عينك أم رأيت بواسط غلس الظلام من الرباب خيالا [ ص: 235 ] يعني أكذبتك عينك ؟ كما نص سيبويه على جواز ذلك في بيت الأخطل هذا وإن خالف الخليل زاعما أن كذبتك صيغة خبرية ، وأن أم بمعنى بل ، ففي البيت على قول الخليل نوع من أنواع البديع المعنوي ، يسمى بالرجوع عند البلاغيين . وقول الخنساء : قذى بعينيك أم بالعين عوار أم خلت إذ أقفرت من أهلها الدار تعني أقذى بعينيك ؟ وقول أحيحة بن الجلاح الأنصاري : وما تدري وإن ذمرت سقبا لغيرك أم يكون لك الفصيل يعني ألغيرك ؟ وقول امرئ القيس : تروح من الحي أم تبتكر وماذا عليك بأن تنتظر يعني أتروح ؟ . وعلى هذا القول فقرينة الاستفهام المحذوف علو مقام إبراهيم عن ظن ربوبية غير الله وشهادة القرآن له بالبراءة من ذلك ، والآية على هذا القول تشبه قراءة ابن محيصن : ( سواء عليهم أنذرتهم ) [ 2 \ 6 ] ونظيرها على هذا القول قوله تعالى : أفإن مت فهم الخالدون [ 21 ] يعني أفهم الخالدون ؟ . وقوله تعالى : وتلك نعمة تمنها [ 26 22 ] ، على أحد القولين ، وقوله : فلا اقتحم العقبة [ 90 \ 11 ] ، على أحد القولين . وما ذكره بعض العلماء غير هذين الوجهين فهو راجع إليهما كالقول بإضمار القول ، أي يقول الكفار هذا ربي ، فإنه راجع إلى الوجه الأول . وأما ما ذكره ابن إسحاق واختاره ابن جرير الطبري ونقله عن ابن عباس من أن إبراهيم كان ناظرا يظن ربوبية الكوكب فهو ظاهر الضعف ، لأن نصوص القرآن ترده كقوله : ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين [ 3 \ 67 ] . وقوله تعالى : ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين [ 16 \ 123 ] ، وقوله : ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل [ 21 \ 51 ] . [ ص: 236 ] وقد بين المحقق ابن كثير في تفسيره رد ما ذكره ابن جرير بهذه النصوص القرآنية وأمثالها ، والأحاديث الدالة على مقتضاها كقوله صلى الله عليه وسلم " كل مولود يولد على الفطرة " الحديث . قوله تعالى : إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون . هذه الآية الكريمة تدل على أن المرتدين بعد إيمانهم المزدادين كفرا لا يقبل الله توبتهم إذا تابوا لأنه عبر بلن الدالة على نفي الفعل في المستقبل مع أنه جاءت آيات أخر دالة على أن الله يقبل توبة كل تائب قبل حضور الموت وقبل طلوع الشمس من مغربها كقوله تعالى : قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف [ 8 \ 38 ] ، وقوله : وهو الذي يقبل التوبة عن عباده [ 42 \ 25 ] ، وقوله : يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل [ 6 \ 158 ] . فإنه يدل بمفهومه على أن التوبة قبل إتيان بعض الآيات مقبولة من كل تائب ، وصرح تعالى بدخول المرتدين في قبول التوبة قبل هذه الآية مباشرة في قوله تعالى : كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق - إلى قوله - إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم [ 3 \ 86 - 89 ] . فالاستثناء في قوله تعالى إلا الذين تابوا راجع إلى المرتدين بعد الإيمان المستحقين للعذاب واللعنة إن لم يتوبوا ويدل له أيضا قوله تعالى : ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر الآية [ 2 \ 217 ] . لأن مفهومه أنه تاب قبل الموت قبلت توبته مطلقا ، والجواب من أربعة أوجه : الأول : وهو اختيار ابن جرير ونقله عن رفيع أبي العالية أن المعنى : إن الذين كفروا من اليهود بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد إيمانهم به قبل مبعثه ثم ازدادوا كفرا بما أصابوا من الذنوب في كفرهم لن تقبل توبتهم من ذنوبهم التي أصابوها في كفرهم حتى يتوبوا من كفرهم ، ويدل لهذا الوجه قوله تعالى : وأولئك هم الضالون لأنه يدل على أن توبتهم مع بقائهما على ارتكاب الضلال وعدم قبولها حينئذ ظاهر . [ ص: 237 ] الثاني : وهو أقربها عندي ، أن قوله تعالى : لن تقبل توبتهم يعني إذ تابوا عند حضور الموت ، ويدل لهذا الوجه أمران : الأول : أنه تعالى بين في مواضع أخر أن الكافر الذي لا تقبل توبته هو الذي يصر على الكفر حتى يحضره الموت فيتوب في ذلك الوقت ، كقوله تعالى : وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار [ 4 18 ] . فجعل التائب عند حضور الموت والميت على كفره سواء . وقوله تعالى : فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا الآية [ 40 \ 85 ] . وقوله في فرعون : آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين [ 10 \ 91 ] . فالإطلاق الذي في هذه الآية يقيد بقيد تأخير التوبة إلى حضور الموت لوجوب حمل المطلق على المقيد ، كما تقرر في الأصول . والثاني : أنه تعالى أشار إلى ذلك بقوله : ثم ازدادوا كفرا فإنه يدل على عدم توبتهم في وقت نفعها ونقل ابن جرير هذا الوجه الثاني الذي هو التقييد بحضور الموت عن الحسن وقتادة وعطاء الخراساني والسدي . الثالث : أن معنى لن تقبل توبتهم أي إيمانهم الأول ، لبطلانه بالردة بعده ، ونقل خرجه ابن جرير هذا القول عن ابن جريح ولا يخفى ضعف هذا القول وبعده عن ظاهر القرآن . الرابع : أن المراد بقوله : لن تقبل توبتهم أنهم لم يوفقوا للتوبة النصوح حتى تقبل منهم ، ويدل لهذا الوجه قوله تعالى : إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا [ 4 \ 137 ] . فإن قوله تعالى : ولا ليهديهم سبيلا ، يدل على أن عدم غفرانه لهم لعدم توفيقهم للتوبة والهدى . كقوله : إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم [ 4 \ 168 ] . [ ص: 238 ] وكقوله تعالى : إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون الآية [ 10 \ 96 ] . ونظير الآية على هذا القول قوله تعالى : فما تنفعهم شفاعة الشافعين [ 74 \ 48 ] ، أي لا شفاعة لهم أصلا حتى تنفعهم ، وقوله تعالى : ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به الآية [ 23 \ 117 ] . لأن الإله الآخر لا يمكن وجوده أصلا ، حتى يقوم عليه برهان أو لا يقوم عليه . قال مقيده عفا الله عنه : مثل هذا الوجه الأخير هو المعروف عند النظار ، بقولهم السالبة لا تقضي بوجود الموضوع ، وإيضاحه أن القضية السالبة عندهم صادقة في صورتين ، لأن المقصود منها عدم اتصاف الموضوع بالمحمول وعدم اتصافه به يتحقق في صورتين : الأولى : أن يكون الموضوع موجودا إلا أن المحمول منتف عنه ، كقولك : ليس الإنسان بحجر ، فالإنسان موجود والحجرية منتفية عنه . والثانية : أن يكون الموضوع من أصله معدوما لأنه إذا عدم تحقق عدم اتصافه بالمحمول الموجودي ، لأن العدم لا يتصف بالوجود كقولك : لا نظير لله يستحق العبادة ، فإن الموضوع الذي هو النظير ليس مستحيلا من أصله ، وإذا تحقق عدمه تحقق انتفاء اتصافه باستحقاق العبادة ضرورة وهذا النوع من أساليب اللغة العربية ، ومن شواهده قول امرئ القيس : على لاحب لا يهتدي بمناره إذا سافه العود النباطي جرجرا لأن المعنى على لاحب لا منار له أصلا حتى يهتدى به . وقول الآخر : لا تفزع الأرنب أهوالها ولا ترى الضب بها ينجحر لأنه يصف فلاة بأنها ليس فيها أرانب ولا ضباب حتى تفزع أهوالها الأرنب ، أو ينجحر فيها الضب أي يدخل الجحر أو يتخذه ، وقد أوضحت مسألة أن السالبة لا تقتضي وجود الموضوع في أرجوزتي في المنطق في مبحث انحراف السور ، وأوضحت فيها أيضا في مبحث التحصيل والعدول أن من الموجبات ما لا يقتضي وجود الموضوع نحو : بحر من زئبق ممكن ، والمستحيل معدوم فإنها موجبتان وموضوع كل منهما معدوم ، وحررنا [ ص: 239 ] هناك التفصيل فيما يقتضي وجود الموضوع وما لا يقتضيه ، وهذا الذي قررنا من أن المرتد إذا تاب قبلت توبته ولو بعد تكرر الردة ثلاث مرات أو أكثر ، لا منافاة بينه وبين ما قاله جماعة من العلماء الأربعة وغيرهم ، وهو مروي عن علي وابن عباس : من أن المرتد إذا تكرر منه ذلك يقتل ولا تقبل توبته ، واستدل بعضهم على ذلك بهذه الآية ، لأن هذا الخلاف في تحقيق المناط مع اتفاقهما على أصل المناط ، وإيضاحه أن المناط مكان النوط وهو التعليق ، ومنه قول حسان رضي الله عنه : وأنت زنيم نيط في آل هاشم كما نيط خلف الراكب القدح الفرد والمراد به مكان تعليق الحكم ، وهو العلة فالمناط والعلة مترادفان اصطلاحا إلا أنه غلب التعبير بلفظ المناط في المسلك الخامس من مسالك العلة ، الذي هو المناسبة والإحالة فإنه يسمى تخريج المناط وكذلك في المسلك التاسع الذي هو تنقيح المناط ، فتخريج المناط هو استخراج العلة بمسلك المناسبة والإحالة ، وتنقيح المناط هو تصفية العلة وتهذيبها حتى لا يخرج شيء صالح لها ولا يدخل شيء غير صالح لها ، كما هو معلوم في محله ، وأما تحقيق المناط وهو الغرض هنا فهو أن يكون مناط الحكم متفقا عليه بين الخصمين . إلا أن أحدهما يقول هو موجود في هذا الفرع . والثاني : يقول : لا ومثاله الاختلاف في قطع النباش ، فإن أبا حنيفة رحمه الله تعالى يوافق الجمهور على أن السرقة هي مناط القطع ، ولكنه يقول لم يتحقق المناط في النباش لأنه غير سارق ، بل هو آخذ مال عارض للضياع كالملتقط من غير حرز ، فإذا حققت ذلك فاعلم أن مراد القائلين أنه لا تقبل توبته ، أن أفعاله دالة على خبث نيته وفساد عقيدته وأنه ليس تائبا في الباطل توبة نصوحا فهم موافقون على التوبة النصوح مناط القبول كما ذكرنا ، ولكن يقولون أفعال هذا الخبيث دلت على عدم تحقيق المناط . ومن هنا اختلف العلماء في توبة الزنديق أعني المستسر بالكفر ، فمن قائل لا تقبل توبته ومن قائل تقبل ومن مفرق بين إتيانه تائبا قبل الاطلاع عليه وبين الاطلاع على نفاقه قبل التوبة ، كما هو معروف في فروع مذاهب الأئمة الأربعة لأن الذين يقولون يقتل ولا تقبل توبته يرون أن نفاقه الباطل دليل على أن توبته تقية لا حقيقة واستدلوا بقوله تعالى : إلا الذين تابوا وأصلحوا [ 2 160 ] . [ ص: 240 ] فقالوا : الإصلاح شرط والزنديق لا يطلع على إصلاحه ، لأن الفساد إنما أتى مما أسره فإذا اطلع عليه وأظهر الإقلاع لم يزل في الباطن على ما كان عليه ، والذي يظهر أن أدلة القائلين بقبول توبته مطلقا أظهر وأقوى ، كقوله صلى الله عليه وسلم لأسامة رضي الله عنه : هلا شققت عن قلبه ، وقوله للذي ساره في قتل رجل قال : أليس يصلي ؟ قال : بلى . قال : أولئك الذين نهيت عن قتلهم ، وقوله لخالد لما استأذنه في قتل الذي أنكر القسمة : إني لم أومر بأن أنقب عن قلوب الناس وهذه الأحاديث في الصحيح ويدلك لذلك أيضا إجماعهم على أن أحكام الدنيا على الظاهر ، والله يتولى السرائر . وقد نص تعالى على أن الأيمان الكاذبة جنة للمنافقين في الأحكام الدنيوية بقوله : اتخذوا أيمانهم جنة [ 58 \ 16 ] ، وقوله : سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس [ 9 \ 95 ] . وقوله : ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم الآية [ 9 \ 56 ] . إلى غير ذلك من الآيات . وما استدل به بعضهم من قتل ابن مسعود لابن النواحة صاحب مسيلمة فيجاب عنه بأنه قتله لقول النبي صلى الله عليه وسلم حين جاءه رسولا لمسيلمة : لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتك فقتله ابن مسعود تحقيقا لقوله صلى الله عليه وسلم . فقد روي أنه قتله لذلك فإن قيل هذه الآية الدالة على عدم قبول توبتهم أخص من غيرها لأن فيها القيد بالردة وازدياد الكفر ، فالذي تكررت منه الردة أخص من مطلق المرتد ، والدليل على الأعم ليس دليلا على الأخص لأن وجود الأعم لا يستلزم وجود الأخص . فالجواب أن القرآن دل على قبول توبة من تكرر منه الكفر ، إذا أخلص في الإنابة إلى الله ، ووجه دلالة القرآن على ذلك أنه تعالى قال : إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا [ 4 \ 37 ] . ثم بين أن المنافقين داخلون فيهم بقوله تعالى : بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما الآية [ 4 \ 138 ] . ودلالة الاقتران وإن ضعفها الأصوليون فقد صححتها جماعة من المحققين ، ولا سيما إذا اعتضدت بالأدلة القرينة عليها كما هنا لقوله تعالى : [ ص: 241 ] لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما فيه الدلالة الواضحة على دخولهم في المراد بالآية ، بل كونها في خصوصهم قال به جماعة من العلماء ، فإذا حققت ذلك ، فاعلم أن الله تعالى نص على أن من أخلص التوبة من المنافقين تاب الله عليه بقوله : إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما [ 4 145 - 147 ] . وقد كان مخشي بن حمير رضي الله عنه من المنافقين الذين أنزل الله فيهم قوله تعالى : ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم [ 9 \ 65 - 66 ] . فتاب إلى الله بإخلاص ، فتاب الله عليه وأنزل الله فيه : إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة الآية [ 9 \ 66 ] ، فتحصل أن القائلين بعدم قبول توبة من تكررت منه الردة ، يعنون الأحكام الدنيوية ولا يخالفون في أنه إذا أخلص التوبة إلى الله قبلها منه ، لأن اختلافهم في تحقيق المناط كما تقدم ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته الآية . هذه الآية تدل على التشديد البالغ في تقوى الله تعالى ، وقد جاءت آية أخرى تدل على خلاف ذلك وهي قوله تعالى : فاتقوا الله ما استطعتم [ 64 \ 16 ] ، والجواب بأمرين : الأول : أن آية : فاتقوا الله ما استطعتم ، ناسخة لقوله : اتقوا الله حق تقاته وذهب إلى هذا القول سعيد بن جبير وأبو العالية والربيع بن أنس وقتادة ومقاتل بن حيان وزيد بن أسلم والسدي وغيرهم ، قاله ابن كثير . الثاني : أنها مبينة للمقصود بها ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها . هذه الآية الكريمة تدل على أن الأنصار ما كان بينهم وبين النار إلا أن يموتوا مع أنهم [ ص: 242 ] كانوا أهل فترة ، والله تعالى يقول : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ 17 15 ] . ويقول : رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل الآية [ 4 \ 165 ] ، وقد بين تعالى هذه الحجة بقوله في سورة " طه " : ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى [ 20 134 ] . والآيات بمثل هذا كثيرة . والذي يظهر في الجواب ، والله تعالى أعلم ، أنه برسالة محمد صلى الله عليه وسلم لم يبق عذر لأحد ، فكل من لم يؤمن به فليس بينه وبين النار إلا أن يموت . كما بينه تعالى بقوله : ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده الآية [ 11 \ 17 ] ، وما أجاب به بعضهم من أن عندهم بقية من إنذار الرسل الماضين ، تلزمهم بها الحجة فهو جواب باطل ، لأن نصوص القرآن مصرحة بأنهم لم يأتهم نذير كقوله تعالى : لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم [ 36 6 ] . وقوله : أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك الآية [ 32 \ 3 ] . وقوله : وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك [ 28 \ 46 ] . وقوله : ياأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير الآية [ 5 19 ] . وقوله تعالى . وما آتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير [ 34 44 ] . ![]()
__________________
|
#622
|
||||
|
||||
![]() ![]() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد التاسع الحلقة (620) بيان الناسخ والمنسوخ صـ 243 إلى صـ 256 قوله تعالى : ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة . وصف الله المؤمنين في هذه الآية بكونهم أذلة حال نصره لهم ببدر ، وقد جاء في آية أخرى وصفه تعالى لهم بأن لهم العزة وهي قوله تعالى : ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين [ 63 \ 8 ] ، ولا يخفى ما بين العزة والذلة من التنافي والتضاد . والجواب ظاهر ، وهو أن معنى وصفهم بالذلة هو قلة عددهم وعددهم يوم بدر ، [ ص: 243 ] وقوله تعالى : ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين نزل في غزوة المريسيع وهي غزوة بني المصطلق ، وذلك بعد أن قويت شوكة المسلمين وكثر عددهم وعددهم مع أن العزة والذلة يمكن الجمع بينهما باعتبار آخر ، وهو أن الذلة باعتبار حال المسلمين من قلة العدد والعدد ، والعزة باعتبار نصر الله وتأييده كما يشير إلى هذا قوله تعالى : واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره [ 8 \ 26 ] . وقوله : ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة [ 3 \ 123 ] ، فإن زمان الحال هو زمان عاملها ، فزمان النصر هو زمان كونهم أذلة ، فظهر أن وصف الذلة باعتبار ، ووصف النصر والعزة باعتبار آخر ، فانفكت الجهة ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة . هذه الآية تدل على أن المدد من الملائكة يوم بدر من ثلاثة آلاف إلى خمسة آلاف ، وقد ذكر تعالى في سورة " الأنفال " أن هذا المدد ألف بقوله : إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة [ 8 9 ] . والجواب عن هذا من وجهين : الأول : أنه وعدهم بألف أولا ثم صارت ثلاثة آلاف ثم صارت خمسة ، كما في هذه الآية . الوجه الثاني : أن آية " الأنفال " لم تقتصر على الألف بل أشارت إلى الزيادة المذكورة في " آل عمران " ولا سيما في قراءة نافع : " بألف من الملائكة مردفين " [ 8 \ 9 ] ، بفتح الدال على صيغة المفعول لأن معنى " مردفين " متبوعين بغيرهم ، وهذا هو الحق . وأما على من قال : إن المدد المذكور في " آل عمران " في يوم أحد ، والمذكور [ ص: 344 ] في " الأنفال " في يوم بدر ، فلا إشكال على قوله ، إلا في أن غزوة أحد لم يأت فيها مدد من الملائكة . والجواب : أن إتيان المدد فيها على القول به مشروط بالصبر والتقوى في قوله : بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم الآية [ 3 \ 125 ] ، ولما لم يصبروا ويتقوا لم يأت المدد ، وهذا قول مجاهد وعكرمة والضحاك والزهري وموسى بن عقبة وغيرهم ، قاله ابن كثير . قوله تعالى : فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم الآية . قوله تعالى : فأثابكم غما بغم أي غما على غم يعني حزنا على حزن أو أثابكم غما بسبب غمكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعصيان أمره ، والمناسب لهذا الغم بحسب ما يسبق الذهن أن يقول لكي تحزنوا . أما قوله : " لكيلا تحزنوا " فهو مشكل لأن الغم سبب للحزن لا لعدمه . والجواب عن هذا من أوجه : الأول : أن قوله : " لكيلا تحزنوا " متعلق بقوله تعالى : ولقد عفا عنكم [ 3 \ 152 ] ، وعليه فالمعنى أنه تعالى عفا عنكم لتكون حلاوة عفوه تزيل عنكم ما نالكم من غم القتل والجراح ، وفوت الغنيمة والظفر والجزع من إشاعة أن النبي صلى الله عليه وسلم قتله المشركون . الوجه الثاني : أن معنى الآية ، أنه تعالى غمكم هذا الغم لكي تتمرنوا على نوائب الدهر ، فلا يحصل لكم الحزن في المستقبل ، لأن من اعتاد الحوادث لا تؤثر عليه . الوجه الثالث : أن " لا " وصلة وسيأتي الكلام على زيادتها بشواهده العربية إن شاء الله تعالى في الجمع بين قوله تعالى : لا أقسم بهذا البلد [ 90 ] ، وقوله : وهذا البلد الأمين [ 95 \ 3 ] . بسم الله الرحمن الرحيم سورة النساء قوله تعالى : فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة الآية . هذه الآية الكريمة تدل على أن العدل بين الزوجات ممكن ، وقد جاء في آية أخرى ما يدل على أنه غير ممكن وهو قوله تعالى : ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم الآية [ 4 \ 129 ] . والجواب عن هذا : أن العدل بينهن الذي ذكر الله أنه ممكن هو العدل في توفية الحقوق الشرعية . والعدل الذي ذكر أنه غير ممكن هو المساواة في المحبة والميل الطبيعي ، لأن هذا انفعال لا فعل فليس تحت قدرة البشر ، والمقصود أن من كان أميل بالطبع إلى إحدى الزوجات فليتق الله وليعدل في الحقوق الشرعية ، كما يدل عليه قوله : فلا تميلوا كل الميل الآية [ 4 \ 129 ] . وهذا الجمع روي معناه عن ابن عباس وعبيدة السلماني ومجاهد والحسن البصري والضحاك بن مزاحم نقله عنهم ابن كثير في تفسير قوله : ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء الآية . وروى ابن أبي حاتم عن ابن أبي مليكة أن آية : ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء نزلت في عائشة لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يميل إليها بالطبع أكثر من غيرها . وروى الإمام أحمد وأهل السنن عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول : اللهم هذا قسمي فيما أملك ، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ، يعني القلب ، انتهى من ابن كثير . قوله تعالى : واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت الآية . [ ص: 246 ] هذه الآية تدل على أن الزانية لا تجلد بل تحبس إلى الموت أو إلى جعل الله لها سبيلا . وقد جاء في آية أخرى ما يدل على أنها لا تحبس بل تجلد مائة إن كانت بكرا ، وجاء في آية منسوخة التلاوة باقية الحكم أنها إن كانت محصنة ترجم . والجواب ظاهر ، وهو أن حبس الزواني في البيوت منسوخ بالجلد والرجم ، أو أنه كانت له غاية ينتهى إليها هي جعل الله لهن السبيل ، فجعل الله السبيل بالحد ، كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم : خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا الحديث . قوله تعالى : وأن تجمعوا بين الأختين الآية . هذه الآية تدل بعمومها على منع الجمع بين كل أختين سواء كانتا بعقد أم بملك يمين ، وقد جاءت آية تدل بعمومها على جواز جمع الأختين بملك اليمين وهي قوله تعالى في سورة " قد أفلح " وسورة " سأل سائل " : والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين [ 23 \ 5 - 6 ] . فقوله : وأن تجمعوا بين الأختين اسم مثنى محلى بأل والمحلى بها من صيغ العموم كما تقرر خرجه في علم الأصول ، وقوله : أو ما ملكت أيمانهم اسم موصول وهو أيضا من صيغ العموم ، كما تقرر في علم الأصول أيضا . فبين هاتين الآيتين عموم وخصوص من وجه يتعارضان بحسب ما يظهر في صورة هي جمع الأختين بملك اليمين ، فيدل عموم وأن تجمعوا بين الأختين على التحريم ، وعموم : أو ما ملكت أيمانهم على الإباحة ، كما قال عثمان بن عفان رضي الله عنه : أحلتهما آية وحرمتهما أخرى . وحاصل تحرير الجواب عن هاتين الآيتين أنهما لا بد أن يخصص عموم إحداهما بعموم الأخرى ، فيلزم الترجيح بين العمومين ، والراجح منهما يقدم ويخصص به عموم الآخر لوجوب العمل بالراجح إجماعا ، وعليه فعموم : وأن تجمعوا بين الأختين ، أرجح من عموم : أو ما ملكت أيمانهم من خمسة أوجه : الأول : أن عموم : وأن تجمعوا بين الأختين نص في محل المدرك المقصود [ ص: 247 ] بالذات لأن السورة سورة " النساء " وهي التي بين الله فيها من تحل منهن ومن تحرم ، وآية أو ما ملكت أيمانهم لم تذكر من أجل تحريم النساء ولا تحليلهن ، بل ذكر الله صفات المتقين ، فذكر من جملتها حفظ الفرج ، فاستطرد أنه لا يلزم حفظه عن الزوجة والسرية ، وقد تقرر في الأصول أن أخذ الأحكام من مظانها أولى من أخذها لا من مظانها . الثاني : أن آية : أو ما ملكت أيمانهم ليست باقية على عمومها بإجماع المسلمين لأن الأخت من الراضع لا تحل بملك اليمين إجماعا للإجماع على أن عموم أو ما ملكت أيمانهم يخصصه عموم : وأخواتكم من الرضاعة [ 4 23 ] ، وموطوءة الأب لا تحل بملك اليمين إجماعا للإجماع على أن عموم : أو ما ملكت أيمانهم يخصصه ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء الآية [ 4 22 ] . والأصح عن الأصوليين في تعارض العام الذي دخله التخصيص مع العام الذي لم يدخله التخصيص هو تقديم الذي لم يدخله التخصيص ووجهه ظاهر . الثالث : أن عموم : وأن تجمعوا بين الأختين غير وارد في معرض مدح ولا ذم ، وعموم أو ما ملكت أيمانهم وارد في معرض مدح المتقين . والعام الوارد في معرض المدح أو الذم اختلفت العلماء في اعتبار عمومه ، فأكثر العلماء على أن عمومه معتبر كقوله : إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم [ 82 \ 13 - 14 ] ، فإنه يعم كل بر مع أنه للمدح ، وكل فاجر مع أنه للذم . وخالف في ذلك بعض العلماء منهم الإمام الشافعي رحمه الله قائلا : إن العام الوارد في معرض المدح أو الذم لا عموم له ، لأن المقصود منه الحث في المدح والزجر في الذم . ولذا لم يأخذ الإمام الشافعي بعموم قوله تعالى : والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله [ 9 ] ، في الحلي المباح لأن الآية سيقت للذم فلا تعم عنده الحلي المباح ، فإذا حققت ذلك فاعلم أن العام الذي لم يقترن بما يمنع اعتبار عمومه أولى من المقترن بما يمنع اعتبار عمومه عند بعض العلماء . الرابع : أنا لو سلمنا المعارضة بين الآيتين فالأصل في الفروج التحريم ، حتى يدل دليل لا معارض له على الإباحة . [ ص: 248 ] الخامس : أن العموم المقتضي للتحريم أولى من المقتضي للإباحة لأن ترك مباح أهون من ارتكاب حرام كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله في سورة " المائدة " ، والعلم عند الله تعالى . فهذه الأوجه الخمسة التي بينا يرد بها استدلال داود الظاهري بهذه الآية الكريمة على جمع الأختين في الوطء بملك اليمين ولكنه يحتج بآية أخرى وهي قوله تعالى : إلا ما ملكت أيمانكم [ 4 \ 24 ] ، فإنه يقول : الاستثناء راجع أيضا إلى قوله : وأن تجمعوا بين الأختين فيكون المعنى على قوله : وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما ملكت أيمانكم ، فإنه لا يحرم فيه الجمع بين الأختين . ورجوع الاستثناء لكل ما قبله من المتعاطفات جملا كانت أو مفردات هو الجاري على أصول مالك والشافعي وأحمد ، وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود [ الرجز ] : وكل ما يكون فيه العطف من قبل الاستثناء فكلا يقف دون دليل العقل أو ذي السمع . خلافا لأبي حنيفة القائل برجوع الاستثناء للجملة الأخيرة فقط ، ولذلك لا يرى قبول شهادة القاذف ولو تاب وأصلح لأن قوله تعالى : إلا الذين تابوا [ 24 \ 5 ] ، يرجع عنده لقوله تعالى : وأولئك هم الفاسقون [ 24 \ 4 ] ، فقط أي إلا الذين تابوا ، فقد زال فسقهم بالتوبة ولا يقول برجوعه لقوله : ولا تقبلوا لهم شهادة إلا الذين تابوا فاقبلوا شهادتهم ، بل يقول : لا تقبلوها لهم مطلقا لاختصاص الاستثناء بالأخيرة عنده . ولم يخالف أبو حنيفة أصله في قوله برجوع الاستثناء في قوله تعالى : إلا من تاب وآمن وعمل صالحا [ 25 \ 70 ] ، لجميع الجمل قبله أعني قوله : والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون [ 25 \ 68 ] ، لأن جميع هذه الجمل معناها في الجملة الأخيرة وهي قوله تعالى : ومن يفعل ذلك يلق أثاما [ 25 \ 68 ] ، لأن الإشارة في قوله : " ذلك " شاملة لكل من الشرك والقتل والزنى ، فبرجوعه للأخيرة رجع للكل ، فظهر أن أبا حنيفة لم يخالف فيها أصله . [ ص: 249 ] ولأجل هذا الأصل المقرر في الأصول لو قال رجل : هذه الدار حبس على الفقراء والمساكين وبني زهرة وبني تميم إلا الفاسق منهم ، فإنه يخرج فاسق الكل عند المالكية والشافعية والحنابلة خلافا للحنفية القائلين يخرج فاسق الأخيرة فقط . وعلى هذا ، فاحتجاج داود الظاهري بهذه الآية الأخيرة جار على أصول المالكية والشافعية والحنابلة . قال مقيده عفا الله عنه : التحقيق في هذه المسألة هو ما حققه بعض المتأخرين كابن الحاجب من المالكية والغزالي من الشافعية والآمدي من الحنابلة من أن الحكم في الاستثناء الآتي بعد متعاطفات هو الوقف ، وأن لا يحكم برجوعه إلى الجميع ولا إلى الأخيرة ، وإنما قلنا إن هذا هو التحقيق ، لأن الله تعالى يقول : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول الآية [ 4 \ 59 ] . وإذا رددنا هذا النزاع إلى الله وجدنا القرآن دالا على قول هؤلاء ، الذي ذكرنا أنه هو التحقيق في آيات كثيرة منها قوله تعالى : فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا [ 4 \ 92 ] ، فالاستثناء راجع للدية فهي تسقط بتصدق مستحقها بها ولا يرجع لتحرير الرقبة قولا واحدا لأن تصدق مستحق الدية بها لا يسقط كفارة القتل خطأ ، ومنها قوله تعالى : فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا [ 24 4 - 5 ] . فالاستثناء لا يرجع لقوله : فاجلدوهم ثمانين جلدة لأن القاذف إذا تاب لا تسقط توبته حد القذف . ومنها أيضا قوله تعالى : فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق [ 4 \ 89 - 95 ] . فالاستثناء في قوله : إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق لا يرجع قولا واحدا إلى الجملة الأخيرة التي هي أقرب الجمل إليه ، أعني قوله تعالى : ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا إذ لا يجوز اتخاذ ولي ولا نصير من الكفار ، ولو وصلوا إلى قوم [ ص: 250 ] بينكم وبينهم ميثاق ، بل الاستثناء راجع للأخذ والقتل في قوله : فخذوهم واقتلوهم والمعنى فخذوهم بالأسر واقتلوهم إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق فليس لكم أخذهم بأسر ولا قتلهم لأن الميثاق الكائن لمن وصلوا إليهم يمنع من أسرهم وقتلهم ، كما اشترطه هلال بن عويمر الأسلمي في صلحه مع النبي صلى الله عليه وسلم لأن هذه الآية نزلت فيه وفي سراقة بن مالك المدلجي وفي بني جذيمة بن عامر . وإذا كان الاستثناء ربما لم يرجع لأقرب الجمل إليه في القرآن العظيم الذي هو في الطرف الأعلى من الإعجاز ، تبين أنه ليس نصا في الرجوع إلى غيرها . ومنها أيضا قوله تعالى : ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا [ 4 \ 83 ] . فالاستثناء ليس راجعا للجملة الأخيرة التي يليها أعني : ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان لأنه لولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان كلا ولم ينج من ذلك قليل ولا كثير حتى يخرج بالاستثناء . واختلف العلماء في مرجع هذا الاستثناء فقيل راجع لقوله : أذاعوا به [ 4 \ 83 ] . وقيل راجع لقوله : لعلمه الذين يستنبطونه منهم [ 4 \ 83 ] ، وإذا لم يرجع للجملة التي تليها فلا يكون نصا في رجوعه لغيرها ، وقيل إن هذا الاستثناء راجع للجملة التي تليها فلا يكون نصا في رجوعه لغيرها وقيل إن هذا الاستثناء راجع للجملة التي تليها . وعليه فالمعنى : ولولا فضل الله عليكم ورحمته بإرسال محمد لاتبعتم الشيطان في ملة آبائكم من الكفر وعبادة الأوثان إلا قليلا . كمن كان على ملة إبراهيم كورقة بن نوفل وزيد بن نفيل وقس بن ساعدة وأضرابهم ، وذكر ابن كثير أن عبد الرزاق روى عن معمر عن قتادة في قوله : لاتبعتم الشيطان إلا قليلا أن معناه لاتبعتم الشيطان كلا . قال : والعرب تطلق القلة وتريد بها العدم . واستدل قائل هذا القول بقول الطرماح بن حكيم يمدح يزيد بن المهلب [ المتقارب ] : أشم ندي كثير النوادي قليل المثالب والقادحه يعني لا مثلبة فيه ولا قادحة . [ ص: 251 ] قال مقيده عفا الله عنه : إطلاق القلة وإرادة العدم كثيرة في كلام العرب ومنه قول الشاعر : أنيخت فألقت بلدة فوق بلدة قليل بها الأصوات إلا بغامها يعني أنه لا صوت في تلك الفلاة غير بغام راحلته ، وقول الآخر : فما بأس لو ردت علينا تحية قليلا لدى من يعرف الحق عابها يعني لا عاب فيها عند من يعرف الحق ، وعلى هذين القولين الأخيرين فلا شاهد في الآية . وبهذا التحقيق الذي حررنا يرد استدلال داود الظاهري بهذه الآية الأخيرة أيضا ، والعلم عند الله تعالى .قوله تعالى : فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب . هذه الآية تدل على أن الإماء إذا زنين جلدن خمسين جلدة وقد جاءت آية أخرى تدل بعمومها على أن كل زانية تجلد مائة جلدة ، وهي قوله تعالى الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة [ 24 \ 2 ] ، والجواب ظاهر ، وهو أن هذه الآية مخصصة لآية " النور " ، لأنه لا يتعارض عام وخاص . قوله تعالى : يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم . هذه الآية تدل بظاهرها على أن شرع من قبلنا شرع لنا ، ونظيرها قوله تعالى : أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده [ 6 ] . وقد جاءت آية أخرى تدل على خلاف ذلك هي قوله تعالى : لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا الآية [ 5 \ 48 ] ، ووجه الجمع بين ذلك مختلف فيه اختلافا مبينا على الاختلاف في حكم هذه المسألة . فجمهور العلماء على أن شرع من قبلنا إن ثبت بشرعنا فهو شرع لنا ما لم يدل دليل من شرعنا على نسخه ، لأنه ما ذكر لنا في شرعنا إلا لأجل الاعتبار والعمل ، وعلى هذا القول فوجه الجمع بين الآيتين أن معنى قوله : لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا أن شرائع الرسل ربما ينسخ في بعضها حكم كان في غيرها أو يزاد في بعضها حكم لم يكن في غيرها . [ ص: 252 ] فالشرعة إذن إما بزيادة أحكام لم تكن مشروعة قبل وإما بنسخ شيء كان مشروعا قبل ، فتكون الآية لا دليل فيها على أن ما ثبت بشرعنا أنه كان شرعا لمن قبلنا ، ولم ينسخ أنه ليس من شرعنا لأن زيادة ما لم يكن قبل أو نسخ ما كان من قبل كلاهما ليس من محل النزاع . وأما على قول الشافعي ومن وافقه : أن شرع من قبلنا ليس شرعا لنا إلا بنص من شرعنا أنه مشروع لنا . فوجه الجمع أن المراد بسنن من قبلنا وبالهدى في قوله : أولئك الذين هدى الله أصول الدين التي هي التوحيد لا الفروع العلمية بدليل قوله تعالى : لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا الآية . ولكن هذا الجمع الذي ذهبت إليه الشافعية يرد عليه ما رواه البخاري في صحيحه في تفسير سورة " ص " عن مجاهد أنه سأل ابن عباس : من أين أخذت السجدة في " ص " فقال ابن عباس : ومن ذريته داود [ 6 \ 84 ] ، أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده فسجدها داود فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعلوم أن سجود التلاوة من الفروع لا من الأصول ، وقد بين ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سجدها اقتداء بداود ، وقد بينت هذه المسألة بيانا شافيا في رحلتي ، فلذلك اختصرتها هنا . قوله تعالى : والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم الآية . هذه الآية تدل على إرث الحلفاء من حلفائهم ، وقد جاءت آية أخرى تدل على خلاف ذلك وهي قوله تعالى : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله [ 8 75 ] . والجواب أن هذه الآية ناسخة لقوله : والذين عقدت أيمانكم الآية . ونسخها لها هو الحق خلافا لأبي حنيفة ومن وافقه في القول بإرث الحلفاء اليوم إن لم يكن له وارث . وقد أجاب بعضهم بأن معنى : فآتوهم نصيبهم ، أي من الموالاة والنصرة ، وعليه فلا تعارض بينهما ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : ولا يكتمون الله حديثا . [ ص: 253 ] هذه الآية تدل على أن الكفار لا يكتمون من خبرهم شيئا يوم القيامة ، وقد جاءت آيات أخرى تدل على خلاف ذلك كقوله تعالى : ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين [ 6 \ 23 ] ، وقوله تعالى : فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء [ 16 \ 28 ] . وقوله : بل لم نكن ندعو من قبل شيئا [ 40 ] . ووجه الجمع في ذلك هو ما بينه ابن عباس رضي الله عنهما لما سئل عن قوله : والله ربنا ما كنا مشركين مع قوله : ولا يكتمون الله حديثا ، وهو أن ألسنتهم تقول : والله ربنا ما كنا مشركين فيختم الله على أفواههم وتشهد أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون . فكتم الحق باعتبار اللسان وعدمه باعتبار الأيدي والأرجل ، وهذا الجمع يشير إليه قوله تعالى : اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون [ 36 65 ] . وأجاب بعض العلماء بتعدد الأماكن فيكتمون في وقت ولا يكتمون في وقت آخر ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله . لا تعارض بينه وبين قوله تعالى : ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك [ 4 79 ] . والجواب ظاهر ، وهو أن معنى قوله : وإن تصبهم حسنة أي مطر وخصب وأرزاق وعافية يقولوا هذا أكرمنا الله به ، وإن تصبهم سيئة أي جدب وقحط وفقر وأمراض ، يقولوا هذه من عندك أي من شؤمك يا محمد وشؤم ما جئت به . قل لهم : كل ذلك من الله . ومعلوم أن الله هو الذي يأتي بالمطر والرزق والعافية ، كما أنه يأتي بالجدب والقحط والفقر والأمراض والبلايا ، ونظير هذه الآية قول الله في فرعون وقومه مع [ ص: 254 ] موسى : وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه [ 7 131 ] . وقوله تعالى في قوم صالح مع صالح : قالوا اطيرنا بك وبمن معك الآية [ 27 \ 47 ] ، وقول أصحاب القرية للرسل الذين أرسلوا إليهم : قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم الآية [ 36 \ 18 ] . وأما قوله : ما أصابك من حسنة فمن الله أي لأنه هو المتفضل بكل نعمة وما أصابك من سيئة فمن نفسك أي من قبلك ومن قبل عملك أنت إذ لا تصيب الإنسان سيئة إلا بما كسبت يداه ، كما قال تعالى : وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير [ 42 ] . وسيأتي إن شاء الله تحرير المقام في قضية أفعال العباد بما يرفع الإشكال في سورة " الشمس " في الكلام على قوله تعالى : فألهمها فجورها وتقواها [ 91 \ 8 ] ، والعلم عند الله تعالى . قيد في هذه الآية الرقبة المعتقة في كفارة القتل خطأ بالإيمان ، وأطلق الرقبة التي في كفارة الظهار واليمين عن قيد الإيمان ، حيث قال في كل منهما : فتحرير رقبة ولم يقل : مؤمنة . وهذه المسألة من مسائل تعارض المطلق والمقيد وحاصل تحرير المقام فيها أن المطلق والمقيد لهما أربع حالات : الأولى : أنه يتفق حكمهما وسببهما كآية الدم التي تقدم الكلام عليها ، فجمهور العلماء يحملون المطلق على المقيد في هذه الحالة التي هي اتحاد السبب والحكم معا ، وهو أسلوب من أساليب اللغة العربية لأنهم يثبتون ثم يحذفون اتكالا على المثبت ، كقول الشاعر وهو قيس بن الخطيم : نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف فحذف راضون لدلالة راض عليها ، ونظيره أيضا قول ضابئ بن الحارث البرجمي : فمن يك أمسى بالمدينة رحله فإني وقيارا بها لغريب [ ص: 255 ] رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئا ومن أجل الطوي رماني وقال بعض العلماء : إن حمل المطلق على المقيد بالقياس ، وقيل بالعقل وهو أضعفها ، والله تعالى أعلم . الحالة الثانية : أن يتحد الحكم ويختلف السبب ، كما في هذه الآية فإن الحكم متحد وهو عتق رقبة ، والسبب مختلف وهو قتل خطأ وظهار مثلا ، ومثل هذا المطلق يحمل على المقيد عند الشافعية والحنابلة وكثير من المالكية ، ولذا أوجبوا الإيمان في كفارة الظهار حملا للمطلق على المقيد خلافا لأبي حنيفة ، ويدل لحمل هذا المطلق على المقيد ، قوله صلى الله عليه وسلم في قصة معاوية بن الحكم السلمي : أعتقها فإنها مؤمنة ولم يستفصله عنها هل هي كفارة أو لا ، وترك الاستفصال ينزل منزلة العموم في الأقوال ، قال في مراقي السعود : ونزلن ترك الاستفصال منزلة العموم في الأقوال الحالة الثالثة : عكس هذه ، وهي الاتحاد في السبب مع الاختلاف في الحكم ، فقيل : يحمل فيها المطلق على المقيد ، وقيل : لا ، وهو أكثر العلماء ، ومثاله صوم الظهار وإطعامه فسببهما واحد وهو الظهار ، وحكمهما مختلف لأن هذا صوم وهذا إطعام ، وأحدهما مقيد بالتتابع وهو الصوم ، والثاني مطلق عن قيد التتابع وهو الإطعام ، فلا يحمل هذا المطلق على هذا المقيد . والقائلون بحمل المطلق على المقيد في هذه الحالة مثلوا له بإطعام الظهار ، فإنه لم يقيد بكونه قبل أن يتماسا ، مع أن عتقه وصومه قيدا بقوله : من قبل أن يتماسا [ 58 \ 3 ] ، فيحمل هذا المطلق على المقيد فيجب كون الإطعام قبل المسيس . ومثل له اللخمي بالإطعام في كفارة اليمين حيث قيد بقوله : من أوسط ما تطعمون أهليكم [ 5 \ 89 ] . وأطلق الكسوة عن القيد بذلك حيث قال : أو كسوتهم [ 5 \ 89 ] ، فيحمل المطلق على المقيد فيشترط في الكسوة أن تكون من أوسط ما تكسون أهليكم . الحالة الرابعة : أن يختلفا في الحكم والسبب معا ولا حمل فيها إجماعا وهو واضح ، وهذا فيما إذا كان المقيد واحدا . [ ص: 256 ] أما إذا ورد مقيدان بقيدين مختلفين فلا يمكن حمل المطلق على كليهما لتنافي قيديهما ، ولكنه ينظر فيهما ، فإن كان أحدهما أقرب للمطلق من الآخر حمل المطلق على الأقرب له منهما عند جماعة من العلماء فيقيد بقيده ، وإن لم يكن أحدهما أقرب له فلا يقيد بقيد واحد منهما ، ويبقى على إطلاقه لاستحالة الترجيح بلا مرجح . مثال كون أحدهما أقرب للمطلق من الآخر صوم كفارة اليمين ، فإنه مطلق عن قيد التتابع والتفريق ، مع أن صوم الظهار مقيد بالتتابع ، وصوم التمتع مقيد بالتفريق ، واليمين أقرب إلى الظهار من التمتع لأن كلا من اليمين والظهار صوم كفارة بخلاف صوم التمتع ، فيقيد صوم كفارة اليمين بالتتابع عند من يقول بذلك ، ولا يقيد بالتفريق الذي في صوم التمتع . وقراءة ابن مسعود : " فصيام ثلاثة أيام متتابعات " لم تثبت لإجماع الصحابة على عدم كتب " متتابعات " في المصحف ، ومثال كونهما ليس أحدهما أقرب للمطلق من الآخر صوم قضاء رمضان ، فإن الله قال فيه : فعدة من أيام أخر [ 2 \ 84 ] ، ولم يقيده بتتابع ولا تفريق مع أنه قيد صوم الظهار بالتتابع وصوم التمتع بالتفريق ، وليس أحدهما أقرب إلى قضاء رمضان من الآخر ، فلا يقيد بقيد واحد منهما ، بل يبقى على الاختيار إن شاء تابعه وإن شاء فرقه ، والعلم عند الله تعالى . ![]()
__________________
|
#623
|
||||
|
||||
![]() ![]() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد التاسع الحلقة (621) بيان الناسخ والمنسوخ صـ 257 إلى صـ 270 قوله تعالى : ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما الآية . هذه الآية تدل على أن القاتل عمدا لا توبة له وأنه مخلد في النار ، وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك كقوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [ 4 \ 116 ] . وقوله تعالى : والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق - إلى قوله - إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات الآية [ 25 70 ] . وقوله تعالى : إن الله يغفر الذنوب جميعا [ 39 \ 53 ] . [ ص: 257 ] وقوله : وإني لغفار لمن تاب وآمن الآية [ 25 82 ] . وللجمع بين ذلك أوجه منها أن قوله : فجزاؤه جهنم خالدا فيها أي إذا كان مستحلا لقتل المؤمن عمدا لأن مستحل ذلك كافر . قاله عكرمة وغيره ويدل له ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن جبير وابن جرير عن ابن جريج من أنها نزلت في مقيس بن صبابة ، فإنه أسلم هو وأخوه هشام وكانا بالمدينة فوجد مقيس أخاه قتيلا في بني النجار ولم يعرف قاتله ، فأمر له النبي صلى الله عليه وسلم بالدية فأعطتها له الأنصار مائة من الإبل ، وقد أرسل معه النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من قريش من بني فهر ، فعمد مقيس إلى الفهري رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتله وارتد عن الإسلام ، وركب جملا من الدية ، وساق معه البقية ، ولحق بمكة مرتدا ، وهو يقول في شعر له : قتلت به فهرا وحملت عقله سراة بني النجار أرباب فارع وأدركت ثأري واضجعت موسدا ومقيس هذا هو الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم : لا أؤمنه في حل ولا حرم وقتل متعلقا بأستار الكعبة يوم الفتح ، فالقاتل الذي هو كمقيس بن صبابة المستحل للقتل المرتد عن الإسلام ، لا إشكال في خلوده في النار . وكنت إلى الأوثان أول راجع وعلى هذا فالآية مختصة بما يماثل سبب نزولها بدليل النصوص المصرحة بأن جميع المؤمنين لا يخلد أحد منهم في النار . الوجه الثاني : أن المعنى : " فجزاؤه " أن جوزي مع إمكان ألا يجازى إذا تاب أو كان له عمل صالح يرجح بعمله السيئ ، وهذا قول أبي هريرة وأبي مجلز وأبي صالح وجماعة من السلف . الوجه الثالث : أن الآية للتغليظ في الزجر ذكر هذا الوجه الخطيب والألوسي في تفسيريهما ، وعزاه الألوسي لبعض المحققين واستدلا عليه بقوله تعالى : ومن كفر فإن الله غني عن العالمين [ 3 \ 97 ] ، على القول بأن معناه ومن لم يحج . وبقوله صلى الله عليه وسلم الثابت في الصحيحين للمقداد حين سأله عن قتل من أسلم من الكفار بعد [ ص: 258 ] أن قطع يده في الحرب : لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله وإنك بمنزلته قبل أن يقول الكلمة التي قال . وهذا الوجه من قبيل كفر دون كفر ، وخلود دون خلود ، فالظاهر أن المراد به عند القائل به أن معنى الخلود المكث الطويل ، والعرب ربما تطلق اسم الخلود على المكث ومنه قول لبيد : فوقفت أسألها وكيف سؤالنا صما خوالد ما يبين كلامها إلا أن الصحيح في معنى الآية الوجه الثاني والأول ، وعلى التغليظ في الزجر ، حمل بعض العلماء كلام ابن عباس أن هذه الآية ناسخة لكل ما سواها ، والعلم عند الله تعالى . قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر أن القاتل عمدا مؤمن عاص له توبة ، كما عليه جمهور علماء الأمة ، وهو صريح قوله تعالى : إلا من تاب وآمن الآية وادعاء تخصيصها بالكفار لا دليل عليه ، ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى : ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء . وقوله تعالى : إن الله يغفر الذنوب جميعا . وقد توافرت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان . وصرح تعالى بأن القاتل أخو المقتول في قوله : فمن عفي له من أخيه شيء الآية [ 2 \ 178 ] ، وليس أخو المؤمن إلا المؤمن ، وقد قال تعالى : وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا [ 49 9 ] فسماهم مؤمنين مع أن بعضهم يقتل بعضا . ومما يدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين في قصة الإسرائيلي الذي قتل مائة نفس ، لأن هذه الأمة أولى بالتخفيف من بني إسرائيل ، لأن الله رفع عنها الآصار والأغلال التي كانت عليهم . [ ص: 259 ] بسم الله الرحمن الرحيم سورة المائدة قوله تعالى : اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم الآية . هذه الآية الكريمة تدل بعمومها على إباحة ذبائح أهل الكتاب مطلقا ولو سموا عليها غير الله أو سكتوا ولم يسموا الله ولا غيره لأن الكل داخل في طعامهم . وقد قال ابن عباس وأبو أمامة ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وعطاء والحسن ومكحول وإبراهيم النخعي والسدي ومقاتل بن حيان : أن المراد بطعامهم ذبائحهم . كما نقله عنهم ابن كثير ونقله البخاري عن ابن عباس ، ودخول ذبائحهم في طعامهم أجمع عليه المسلمون مع أنه جاءت آيات أخر تدل على أن ما سمي عليه غير الله لا يجوز أكله ، وعلى أن ما لم يذكر اسم الله عليه لا يجوز أكله أيضا . أما التي دلت على منع أكل ما ذكر عليه اسم غير الله ، فكقوله تعالى : وما أهل به لغير الله [ 2 \ 173 ] في سورة " البقرة " . وقوله : وما أهل لغير الله به [ 5 3 ] في المائدة ، والنحل [ 16 \ 15 ] . وقوله في " الأنعام " : أو فسقا أهل لغير الله به [ 6 145 ] . والمراد بالإهلال رفع الصوت باسم غير الله عند الذبح . وأما التي دلت على منع أكل ما لم يذكر اسم الله عليه ، فكقوله : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه الآية [ 6 121 ] . وقوله تعالى : فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه [ 6 \ 118 - 119 ] ، فإنه يفهم منه عدم الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه . [ ص: 260 ] والجواب عن مثل هذا مشتمل على مبحثين : المبحث الأول : في وجه الجمع بين عموم آية : وطعام الذين أوتوا الكتاب مع عموم الآيات المحرمة لما أهل به لغير الله فيما إذا سمى الكتابي على ذبيحته غير الله ، بأن أهل بها للصليب أو عيسى أو نحو ذلك . المبحث الثاني : في وجه الجمع بين آية : وطعام الذين أوتوا الكتاب أيضا مع قوله : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه فيما إذا لم يسم الكتابي الله ولا غيره على ذبيحته . أما المبحث الأول فحاصله أن بين قوله تعالى : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وبين قوله : وما أهل لغير الله به عموما وخصوصا من وجه ، تنفرد آية : وطعام الذين أوتوا الكتاب في الخبز والجبن من طعامهم مثلا ، وتنفرد آية : وما أهل لغير الله به في ذبح الوثني لوثنه ويجتمعان في ذبيحة الكتابي التي أهل بها لغير الله ، كالصليب أو عيسى فعموم قوله : وما أهل لغير الله به يقتضي تحريمها ، وعموم قوله : وطعام الذين أوتوا الكتاب يقتضي حليتها . وقد تقرر في علم الأصول أن الأعمين من وجه يتعارضان في الصورة التي يجتمعان فيها ، فيجب الترجيح بينهما ، والراجح منهما يقدم ويخصص به عموم الآخر . كما قدمنا في سورة " النساء " في الجمع بين قوله تعالى : وأن تجمعوا بين الأختين [ 4 \ 23 ] ، مع قوله تعالى : أو ما ملكت أيمانهم [ 23 \ 6 ] ، وكما أشار له صاحب مراقي السعود بقوله : وإن يك العموم من وجه ظهر فالحكم بالترجيح حتما معتبر فإذا حققت ذلك فاعلم أن العلماء اختلفوا في هذين العمومين أيهما أرجح ، فالجمهور على ترجيح الآيات المحرمة وهو مذهب الشافعي ورواية عن مالك ورواه إسماعيل بن سعيد عن الإمام أحمد . كما ذكره صاحب المغني وهو قول ابن عمر وربيعة ، كما نقله عنهما البغوي في تفسيره وذكره النووي في شرح المهذب عن علي وعائشة ورجح بعضهم عموم آية [ ص: 261 ] التحليل ، بأن الله أحل ذبائحهم وهو أعلم بما يقولون . كما احتج به الشعبي وعطاء على إباحة ما أهلوا به لغير الله . قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر والله تعالى أعلم ، أن عموم آيات المنع أرجح وأحق بالاعتبار من طرق متعددة . منها قوله صلى الله عليه وسلم : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك . وقوله صلى الله عليه وسلم : والإثم ما حاك في النفس الحديث . وقوله صلى الله عليه وسلم : فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه . ومنها أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح كما تقرر في الأصول ، وينبني على ذلك أن النهي إذا تعارض مع الإباحة كما هنا ، فالنهي أولى بالتقديم والاعتبار ، لأن ترك مباح أهون من ارتكاب حرام . بل صرح جماهير من الأصوليين بأن النص الدال على الإباحة في المرتبة الثالثة من النص الدال على نهي التحريم لأن نهي التحريم مقدم على الأمر الدال على الوجوب لما ذكرنا من تقديم درء المفاسد على جلب المصالح ، والدال على الأمر مقدم على الدال على الإباحة للاحتياط في البراءة من عهدة الطلب . وقد أشار إلى هذا صاحب مراقي السعود في مبحث الترجيح باعتبار المدلول بقوله : وناقل ومثبت والآمر بعد النواهي ثم هذا الآخر على إباحة إلخ . . . فإن معنى قوله : " والآمر بعد النواهي " ، أن ما دل على الأمر بعدما دل على النهي ، فالدال على النهي هو المقدم وقوله : " ثم هذا الآخر على إباحة " ، يعني أن النص الدال على الأمر مقدم على الإباحة كما ذكرنا فتحصل أن الأول النهي فالأمر فالإباحة ، فظهر تقديم النهي عما أهل به لغير الله على إباحة طعام أهل الكتاب . واعلم أن العلماء اختلفوا فيما حرم على أهل الكتاب كشحم الجوف من البقر والغنم المحرم على اليهود ، هل يباح للمسلم مما ذبحه اليهودي ؟ فالجمهور على إباحة ذلك للمسلم لأن الذكاة لا تتجزأ ، وكرهه مالك ومنعه بعض أصحابه كابن القاسم وأشهب ، واحتج عليهم الجمهور بحجج لا ينهض الاحتجاج بها عليهم فيما يظهر ، وإيضاح ذلك أن أصحاب مالك احتجوا بقوله تعالى : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم قالوا : [ ص: 262 ] المحرم عليهم ليس من طعامهم حتى يدخل فيما أحلته الآية . فاحتج عليهم الجمهور بما ثبت في صحيح البخاري من تقرير النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن مغفل رضي الله عنه على أخذه جرابا من شحم اليهود يوم خيبر . وبما رواه الإمام أحمد بن حنبل عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أضافه يهودي على خبز شعير وإهالة سنخة أي ودك متغير الريح ، وبقصة الشاة المسمومة التي سمتها اليهودية له صلى الله عليه وسلم ونهش من ذراعها ومات منها بشر بن البراء بن معرور ، وهي مشهورة صحيحة قالوا : إنه صلى الله عليه وسلم عزم على أكلها هو ومن معه ولم يسألهم هل نزعوا منها ما يعتقدون تحريمه من شحمها أو لا . وقد تقرر في الأصول أن ترك الاستفصال بمنزلة العموم في الأقوال ، كما أشار له في مراقي السعود بقوله : ونزلن ترك الاستفصال منزلة العموم في المقال والذي يظهر لمقيده عفا الله عنه : أن هذه الأدلة ليس فيها حجة على أصحاب مالك . أما حديث عبد الله بن مغفل وحديث أنس رضي الله عنهما فليس في واحد منهما النص على خصوص الشحم المحرم عليهم ، ومطلق الشحم ليس حراما عليهم بدليل قوله تعالى : إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم [ 6 146 ] ، فما في الحديثين أعم من محل النزاع والدليل على الأعم ليس دليلا على الأخص لأن وجود الأعم لا يقتضي وجود الأخص بإجماع العقلاء . ومثل رد هذا الاحتجاج بما ذكرنا هو القادح في الدليل المعروف عند الأصوليين بالقول بالموجب ، وأشار له صاحب مراقي السعود بقوله : والقول بالموجب قدحه جلا وهو تسليم الدليل مسجلا أما القول بالموجب عند البيانيين فهو من أقسام البديع المعنوي وهو ضربان معروفان في علم البلاغة ، وقصدنا هنا القول بالموجب بالاصطلاح الأصولي لا البياني ، وأما [ ص: 263 ] تركه صلى الله عليه وسلم الاستفصال في شاة اليهودية فلا يخفى أنه لا دليل فيه ، لأنه صلى الله عليه وسلم ينظر بعينه ولا يخفى عليه شحم الجوف ولا شحم الحوايا ولا الشحم المختلط بعظم ، كما هو ضروري فلا حاجة إلى السؤال عن محسوس حاضر . من مانع أن الدليل استلزما لما من الصور فيه اختصما وأجرى الأقوال على الأصول في مثل الشحم المذكور الكراهة التنزيهية لعدم دليل جازم على الحل أو التحريم ، لأن ما يعتقد الشخص أنه حرام عليه ليس من طعامه ، والذكاة لا يظهر تجزؤها فحكم المسألة مشتبه ومن ترك الشبهات استبرأ لدينه وعرضه . وأما المبحث الثاني وهو الجمع بين قوله : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم مع قوله : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه فيما إذا لم يذكر الكتابي على ذبيحته اسم الله ولا اسم غيره . فحاصله أن في قوله ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وجهين من التفسير : أحدهما : وإليه ذهب الشافعي ، وذكر ابن كثير في تفسيره لها أنه قوي ، أن المراد بما لم يذكر اسم الله عليه هو ما أهل به لغير الله ، وعلى هذا التفسير ، فمبحث هذه الآية هو المبحث الأول بعينه لا شيء آخر . الوجه الثاني : أنها على ظاهرها ، وعليه فبين الآيتين أيضا عموم وخصوص من وجه تنفرد آية : وطعام الذين أوتوا الكتاب فيما ذبحه الكتابي وذكر عليه اسم الله فهو حلال بلا نزاع . وتنفرد آية : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه فيما ذبحه وثني أو مسلم لم يذكر اسم الله عليه ، فما ذبحه الوثني حرام بلا نزاع ، وما ذبحه المسلم من غير تسمية يأتي حكمه إن شاء الله ، ويجتمعان فيما ذبحه كتابي ولم يسم الله عليه فيعارضان فيه . فيدل عموم : وطعام الذين أوتوا الكتاب على الإباحة ، ويدل عموم : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه على التحريم ، فيصار إلى الترجيح كما قدمنا . واختلف في هذين العمومين أيضا أيهما أرجح ، فذهب الجمهور إلى ترجيح عموم : وطعام الذين أوتوا الكتاب الآية . وقال بعضهم بترجيح عموم : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه . [ ص: 264 ] قال النووي في شرح المهذب : ذبيحة أهل الكتاب حلال سواء ذكروا اسم الله عليها أم لا ، لظاهر القرآن العزيز ، هذا مذهبنا ومذهب الجمهور . وحكاه ابن المنذر عن علي واللخمي وحماد بن سليمان وأبي حنيفة وأحمد وإسحاق وغيرهم ، فإن ذبحوا على صنم أو غيره لم يحل ، انتهى محل الغرض منه بلفظه . وحكى النووي القول الآخر عن علي أيضا وأبي ثور وعائشة وابن عمر . قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر والله تعالى أعلم ، أن لعموم كل من الآيتين مرجحا ، وأن مرجح آية التحليل أقوى وأحق بالاعتبار أما آية التحليل فيرجح عمومها بأمرين : الأول : أنها أقل تخصيصا ، وآية التحريم أكثر تخصيصا ، لأن الشافعي ومن وافقه خصصوها بما ذبح لغير الله ، وخصصها الجمهور بما تركت فيه التسمية عمدا قائلين إن تركها نسيانا لا أثر له وآية التحليل ليس فيها من التخصيص غير صورة النزاع إلا تخصيص واحد ، وهو ما قدمنا من أنها مخصوصة بما لم يذكر عليه اسم غير الله على القول الصحيح . وقد تقرر في الأصول أن الأقل تخصيصا مقدم على الأكثر تخصيصا ، كما أن ما لم يدخله التخصيص أصلا مقدم على ما دخله ، وعلى هذا جمهور الأصوليين . وخالف فيه السبكي والصفي الهندي ، وبين صاحب نشر البنود في شرح مراقي السعود في مبحث الترجيح باعتبار حال المروي في شرح قوله : تقديم ما خص على ما لم يخص وعكسه كل أتى عليه نص أن الأقل تخصصا مقدم على الأكثر تخصيصا ، وأن ما لم يدخله التخصيص مقدم على ما دخله عند جماهير الأصوليين ، وأنه لم يخالف فيه إلا السبكي وصفي الدين الهندي . والثاني : ما نقله ابن جرير ونقله عنه ابن كثير عن عكرمة والحسن البصري ومكحول أن آية : وطعام الذين أوتوا الكتاب ناسخة لآية : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه . [ ص: 265 ] وقال ابن جرير وابن كثير : إن مرادهم بالنسخ التخصيص ، ولكنا قدمنا أن التخصيص بعد العمل بالعام نسخ لأن التخصيص بيان والبيان لا يجوز تأخيره عن وقت العمل . ويدل لهذا أن آية : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه من سورة " الأنعام " وهي مكية بالإجماع وآية : وطعام الذين أوتوا الكتاب من " المائدة " وهي من آخر ما نزل من القرآن بالمدينة ، وأما آية التحريم فيرجح عمومها بما قدمنا من مرجحات قوله تعالى : وما أهل لغير الله به لأن كلتاهما دلت على نهي يظهر تعارضه مع إباحة ، وحاصل هذه المسألة أن ذبيحة الكتابي لها خمس حالات لا سادسة لها : الأولى : أن يعلم أنه سمى الله عليها ، وفي هذه تؤكل بلا نزاع ، ولا عبرة بخلاف الشيعة في ذلك ، لأنهم لا يعتد بهم في الإجماع . الثانية : أن يعلم أنه أهل بها لغير الله ففيها خلاف ، وقد قدمنا أن التحقيق أنها لا تؤكل لقوله تعالى : وما أهل لغير الله به . الثالثة : أن يعلم أنه جمع بين اسم الله واسم غيره ، وظاهر النصوص أنها لا تؤكل أيضا لدخولها فيما أهل لغير الله به . الرابعة : أن يعلم أنه سكت ولم يسم الله ولا غيره ، فالجمهور على الإباحة وهو الحق ، والبعض على التحريم كما تقدم . الخامسة : أن يجهل الأمر لكونه ذبح حالة انفراده فتؤكل على ما عليه جمهور العلماء ، وهو الحق إن لم يعرف الكتابي بأكل الميتة كالذي يسل عنق الدجاجة بيده ، فإن عرف بأكل الميتة لم يؤكل ما غاب عليه عند بعض العلماء ، وهو مذهب مالك ، ويجوز أكله عند البعض ، بل قال ابن العربي المالكي : إذا عايناه يسل عنق الدجاجة بيده ، قلنا الأكل منها لأنها مع طعامه ، والله أباح لنا طعامه . واستبعده ابن عبد السلام . قال مقيده عفا الله عنه : هو جدير بالاستبعاد ، فكما أن نساءهم يجوز نكاحهن ولا تجوز مجامعتهن في الحيض ، فكذلك طعامهم يجوز لنا من غير إباحة الميتة ، لأن غاية الأمر أن ذكاة الكتابي تحل مذكاة كذكاة المسلم . [ ص: 266 ] وما وعدنا به من ذكر حكم ما ذبحه المسلم ولم يسم عليه . فحاصله أن فيه ثلاثة أقوال : أرجحها : وهو مذهب الجمهور : أنه إن ترك التسمية عمدا لم تؤكل لعموم قوله تعالى : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإن تركها نسيانا أكلت لأنه لو تذكر لسمى الله . قال ابن جرير من حرم ذبيحة الناسي فقد خرج من قول الحجة وخالف الخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال ابن كثير : إن ابن جرير يعني بذلك ما رواه البيهقي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم : المسلم يكفيه اسمه إن نسي أن يسمي حين يذبح ، فليذكر اسم الله وليأكله . ثم قال ابن كثير : إن رفع الحديث خطأ أخطأ فيه معقل بن عبيد الله الجزري ، والصواب وقفه على ابن عباس . كما رواه بذلك سعيد بن منصور وعبد الله بن الزبير الحميدي . ومما استدل به البعض على أكل ذبيحة الناسي للتسمية دلالة الكتاب والسنة والإجماع على العذر بالنسيان . ومما استدل به البعض لذلك حديث رواه الحافظ أبو أحمد بن عدي عن أبي هريرة قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، أرأيت الرجل منا يذبح وينسى أن يسمي ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اسم الله على كل مسلم ذكر ابن كثير هذا الحديث وضعفه بأن في إسناده مروان بن سالم أبا عبد الله الشامي وهو ضعيف . القول الثاني : أن ذبيحة المسلم تؤكل ولو ترك التسمية عمدا ، وهو مذهب الشافعي رحمه الله كما تقدم ، لأنه يرى أنه ما لم يذكر اسم الله عليه يراد به ما أهل به لغير الله لا شيء آخر ، وقد ادعى بعضهم انعقاد الإجماع قبل الشافعي على أن متروك التسمية عمدا لا يؤكل ، ولذلك قال أبو يوسف وغيره : لو حكم حاكم بجواز بيعه لم ينفذ لمخالفته الإجماع . واستغرب ابن كثير حكاية الإجماع على ذلك قائلا : إن الخلاف فيه قبل الشافعي معروف . [ ص: 267 ] القول الثالث : أن المسلم إذا لم يسم على ذبيحته لا تؤكل مطلقا تركها عمدا أو نسيانا . وهو مذهب داود الظاهري . وقال ابن كثير : ثم نقل ابن جرير وغيره عن الشعبي ومحمد بن سيرين أنهما كرها متروك التسمية نسيانا والسلف يطلقون الكراهة على التحريم كثيرا . ثم ذكر ابن كثير أن ابن جرير لا يعتبر مخالفة الواحد أو الاثنين للجمهور فيعده إجماعا مع مخالفة الواحد أو الاثنين ، ولذلك حكى الإجماع على أكل متروك التسمية نسيانا مع أنه نقل خلاف ذلك عن الشعبي وابن سيرين . مسائل مهمة تتعلق بهذه المباحث المسألة الأولى : اعلم أن كثيرا من العلماء من المالكية والشافعية وغيرهم يفرقون بين ما ذبحه أهل الكتاب لصنم ، وبين ما ذبحوه لعيسى أو جبريل ، أو لكنائسهم ، قائلين : إن الأول مما أهل به لغير الله دون الثاني عندهم كراهة تنزيه ، مستدلين بقوله تعالى : وما ذبح على النصب [ 5 3 ] . والذي يظهر لمقيده عفا الله عنه : أن هذا الفرق باطل بشهادة القرآن لأن الذبيح على وجه القربة عبادة بالإجماع ، وقد قال تعالى : فصل لربك وانحر [ 108 ] . وقال تعالى : قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله الآية [ 6 162 ] . فمن صرف شيئا من ذلك لغير الله فقد جعله شريكا مع الله في هذه العبادة التي هي الذبح ، سواء كان نبيا أو ملكا أو بناء أو شجرا أو حجرا أو غير ذلك ، لا فرق في ذلك بين صالح وطالح ، كما نص عليه تعالى بقوله : ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا [ 3 \ 80 ] . ثم بين أن فاعل ذلك كافر بقوله تعالى : أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون [ 3 \ 80 ] . وقال تعالى : ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله الآية [ 3 \ 79 ] . [ ص: 268 ] وقال تعالى : قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله الآية [ 3 64 ] ، فإن قيل : قد رخص في أكل ما ذبحوه لكنائسهم أبو الدرداء وأبو أمامة الباهلي والعرباض بن سارية والقاسم بن مخيمرة وحمزة بن حبيب وأبو سلمة الخولاني وعمر بن الأسود ومكحول والليث بن سعد وغيرهم . فالجواب : أن هذا قول جماعة من العلماء من الصحابة ومن بعدهم ، وقد خالفهم فيه غيرهم . وممن خالفهم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها والإمام الشافعي رحمه الله ، والله تعالى يقول : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله الآية [ 4 59 ] ، فنرد هذا النزاع إلى الله فنجده حرم ما أهل به لغير الله . وقوله : لغير الله ، يدخل فيه الملك والنبي ، كما يدخل فيه الصنم والنصب والشيطان وقد وافقونا في منع ما ذبحوه باسم الصنم ، وقد دل الدليل على أنه لا فرق في ذلك بين النبي والملك ، وبين الصنم والنصب ، فلزمهم القول بالمنع . وأما استدلالهم بقوله : وما ذبح على النصب فلا دليل فيه لأن قوله تعالى : وما ذبح على النصب ليس بمخصص لقوله : وما أهل لغير الله به ، لأنه ذكر فيه بعض ما دل عليه عموم وما أهل لغير الله به . وقد تقرر في علم الأصول أن ذكر بعض أفراد الحكم العام بحكم العام ، لا يخصص على الصحيح وهو مذهب الجمهور خلافا لأبي ثور محتجا بأنه لا فائدة لذكره إلا التخصيص وأجيب من قبل الجمهور بأن مفهوم اللقب ليس بحجة ، وفائدة ذكر البعض نفي احتمال إخراجه من العام ، فإذا حققت ذلك فاعلم أن ذكر البعض لا يخصص العام سواء ذكرا في نص واحد كقوله تعالى : حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى [ 2 \ 238 ] أو ذكر كل واحد منهما على حدة ، كحديث الترمذي وغيره : أيما إهاب دبغ فقد طهر من حديث مسلم أنه صلى الله عليه وسلم مر بشاة ميتة فقال : هلا أخذتم إهابها الحديث . فذكر الصلاة الوسطى الأول لا يدل على عدم المحافظة على غيرها من الصلوات ، [ ص: 269 ] وذكر إهاب الشاة في الأخير لا يدل على عدم الانتفاع بإهاب غير الشاة ، لأن ذكر البعض لا يخصص العام . وكذلك رجوع ضمير البعض لا يخصص أيضا على الصحيح كقوله تعالى : وبعولتهن أحق بردهن في ذلك [ 2 228 ] ، فإن الضمير راجع إلى قوله : والمطلقات يتربصن [ 2 \ 228 ] ، وهو لخصوص الرجعيات من المطلقات مع أن تربص ثلاثة قروء عام للمطلقات من رجعيات وبوائن ، وإلى هذا أشار في مراقي السعود مبينا معه أيضا أن سبب الواقعة لا يخصصها وأن مذهب الراوي لا يخصص مرويه على الصحيح فيهما أيضا بقوله : ودع ضمير البعض والأسبابا وذكر ما وافقه من مفرد ومذهب الراوي على المعتمد وروي عن الشافعي وأكثر الحنفية التخصيص بضمير البعض ، وعليه فتربص البوائن ثلاثة قروء مأخوذ من دليل آخر . أما عدم التخصيص بذكر البعض فلم يخالف فيه إلا أبو ثور ، وتقدم رد مذهبه . ولو سلمنا أن الآية معارضة بقوله تعالى : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم فإنا نجد النبي صلى الله عليه وسلم أمر بترك مثل هذا الذي تعارضت فيه النصوص بقوله : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك . المسألة الثانية : اختلف العلماء في ذكاة نصارى العرب كبني تغلب وتنوخ وبهراء وجذام ولخم وعاملة ونحوهم ، فالجمهور على أن ذبائحهم لا تؤكل ، قاله ابن كثير وهو مذهب الشافعي ونقله النووي في شرح المهذب عن علي وعطاء وسعيد بن جبير . ونقل النووي أيضا إباحة ذكاتهم عن ابن عباس والنخعي والشعبي وعطاء الخراساني والزهري والحكم وحماد وأبي حنيفة وإسحاق بن راهويه وأبي ثور ، وصحح هذا القول ابن قدامة في المغني محتجا بعموم قوله : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم . وحجة القول الأول ما روي عن عمر رضي الله عنه قال : ما نصارى العرب بأهل كتاب لا تحل لنا ذبائحهم . [ ص: 270 ] وما روي عن علي رضي الله عنه : لا تحل ذبائح نصارى بني تغلب لأنهم دخلوا في النصرانية بعد التبديل ، ولا يعلم هل دخلوا في دين من بدل منهم أو في دين من لم يبدل فصاروا كالمجوس لما أشكل أمرهم في الكتاب لم تؤكل ذبائحهم ، ذكر هذا صاحب المهذب وسكت عليه النووي في الشرح قائلا : إنه حجة الشافعية في منع ذبائحهم ، ويفهم منه عدم إباحة كل ذكاة اليهود والنصارى اليوم لتبديلهم لا سيما فيمن عرفوا منهم بأكل الميتة كالنصارى . المسألة الثالثة : ذبائح المجوس لا تحل للمسلمين ؟ قال النووي في شرح المهذب : هي حرام عندنا ، وقال به جمهور العلماء ، ونقله ابن المنذر عن أكثر العلماء ، قال : وممن قال به سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح وسعيد بن جبير ومجاهد وعبد الرحمن بن أبي ليلى والنخعي وعبيد الله بن يزيد ومرة الهمداني ومالك والثوري وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق . وقال ابن كثير في تفسيره قوله : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم . وأما المجوس فإنهم وإن أخذت منهم الجزية تبعا وإلحاقا لأهل الكتاب فإنهم لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم خلافا لأبي ثور إبراهيم بن خالد الكلبي أحد الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد بن حنبل ، ولما قال ذلك واشتهر عنه أنكر عليه الفقهاء حتى قال عنه الإمام أحمد : أبو ثور كاسمه ، يعني في هذه المسألة وكأنه تمسك بعموم حديث روي مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : سنوا بهم سنة أهل الكتاب ، ولكن لم يثبت بهذا اللفظ . وإنما الذي في صحيح البخاري عن عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر ، ولو سلم صحة هذا الحديث فعمومه مخصوص بمفهوم هذه الآية : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم فدل بمفهومه مفهوم المخالفة على أن طعام من عداهم من أهل الأديان لا يحل ، انتهى كلام ابن كثير بلفظه واعترض عليه في الحاشية الشيخ السيد محمد رشيد رضا بما نصه فيه : إن هذا مفهوم لقب وهو ليس بحجة . ![]()
__________________
|
#624
|
||||
|
||||
![]() ![]() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد التاسع الحلقة (622) بيان الناسخ والمنسوخ صـ 271 إلى صـ 284 قال مقيده عفا الله عنه : الصواب مع الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى ، واعتراض الشيخ عليه سهو منه ، لأن مفهوم قوله : الذين أوتوا الكتاب مفهوم علة لا مفهوم [ ص: 271 ] لقب ، كما ظنه الشيخ لأن مفهوم اللقب في اصطلاح الأصوليين هو ما علق فيه الحكم باسم جامد سواء كان اسم جنس أو اسم عين أو اسم جمع ، وضابطه أنه هو الذي ذكر ليمكن الإسناد إليه فقط لاشتماله على صفة تقتضي تخصيصه بالذكر دون غيره . أما تعليق هذا الحكم الذي هو إباحة طعامهم بالوصف بإيتاء الكتاب فهو تعليق الحكم بعلته لأن الوصف بإيتاء الكتاب صالح لأن يكون مناط الحكم بحلية طعامهم . وقد دل المسلك الثالث من مسالك العلة المعروف بالإيماء والتنبيه على أن مناط حلية طعامهم هو إيتاؤهم الكتاب ، وذلك بعينه هو المناط لحلية نكاح نسائهم ، لأن ترتيب الحكم بحلية طعامهم ونسائهم على إيتائهم الكتاب لو لم يكن لأنه علته لما كان في التخصيص بإيتاء الكتاب فائدة ، ومعلوم أن ترتيب الحكم على وصف لو لم يكن علته لكان حشوا من غير فائدة يفهم منه أنه علته بمسلك الإيماء والتنبيه . قال في مراقي السعود في تعداد صور الإيماء : كما إذا سمع وصفا فحكم وذكره في الحكم وصفا قد ألم إن لم يكن علته لم يفد ومنعه مما يفيت استفد ترتيبه الحكم عليه واتضح إلخ . ومحل الشاهد منه قوله : " استفد ترتيبه الحكم عليه " ، وقوله : " وذكره في الحكم وصفا إن لم يكن علته لم يفد " . ومما يوضح ما ذكرنا أن قوله : الذين أوتوا الكتاب موصول وصلته جملة فعلية ، وقد تقرر عند علماء النحو في المذهب الصحيح المشهور أن الصفة الصريحة كاسم الفاعل واسم المفعول الواقعة صلة أل بمثابة الفعل مع الموصول ، ولذا عمل وصف المقترن بأل الموصولة في الماضي لأنه بمنزلة الفعل ، كما أشار له في الخلاصة بقوله : وإن يكن صلة أل ففي المضي وغيره إعماله قد ارتضي فإذا حققت ذلك علمت أن الذين أوتوا الكتاب بمثابة ما لو قلت وطعام المؤتين الكتاب بصيغة اسم المفعول ولم يقل أحد أن مفهوم اسم المفعول مفهوم لقب لاشتماله على أمر هو المصدر يصلح أن يكون المتصف به مقصودا للمتكلم دون غيره ، كما ذكروا في مفهوم الصفة . [ ص: 272 ] فظهر أن إيتاء الكتاب صفة خاصة بهم دون غيرهم ، وهي العلة في إباحة طعامهم ونكاح نسائهم ، فادعاء أنها مفهوم لقب سهو ظاهر . وظهر من التحقيق أن المفهوم في قوله : الذين أوتوا الكتاب مفهوم علة ومفهوم العلة قسم من أقسام مفهوم الصفة ، فالصفة أعم من العلة وإيضاحه كما بينه القرافي أن الصفة قد تكون مكملة للعلة لا علة تامة كوجوب الزكاة في السائمة فإن علته ليست السوم فقط ، ولو كان كذلك لوجبت في الوحوش لأنها سائمة ولكن العلة ملك ما يحصل به الغنى وهي مع السوم أتم منها مع العلف وهذا عند من لا يرى الزكاة في المعلوفة . وظهر أن ما قاله الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى هو الصواب . وقد تقرر في علم الأصول أن المفهوم بنوعيه من مخصصات العموم ، أما تخصيص العام بمفهوم الموافقة بقسميه فلا خلاف فيه . وممن حكى الإجماع عليه : الآمدي والسبكي في شرح المختصر ، ودليل جوازه أن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما . ومثاله تخصيص حديث : لي الواجد يحل عرضه وعقوبته أي يحل العرض بقوله مطلني والعقوبة بالحبس فإنه مخصص بمفهوم الموافقة الذي هو الفحوى في قوله : فلا تقل لهما أف [ 17 23 ] ، لأن فحواه تحريم أذاهما فلا يحبس الوالد بدين الولد . وأما تخصيصه بمفهوم المخالفة ففيه خلاف ، والأرجح منه هو ما مشى عليه الحافظ ابن كثير تغمده الله برحمته الواسعة وهو التخصيص به . والدليل عليه ما قدمنا من أن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما . وقيل : لا يجوز التخصيص به ، ونقله الباجي عن أكثر المالكية . وحجة هذا القول أن دلالة العام على ما دل عليه المفهوم بالمنطوق وهو مقدم على المفهوم ، ويجاب بأن المقدم عليه منطوق خاص لا ما هو من إفراد العام ، فالمفهوم مقدم عليه لأن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما . واعتمد التخصيص به صاحب مراقي السعود في قوله في مبحث الخاص في الكلام على المخصصات المنفصلة : [ ص: 273 ] واعتبر الإجماع جل الناس وقسمي المفهوم كالقياس ومثال التخصيص بمفهوم المخالفة تخصيص قوله صلى الله عليه وسلم : في أربعين شاة شاة الذي يشمل عمومه السائمة والمعلوفة بمفهوم قوله : في الغنم السائمة زكاة عند من لا يرى الزكاة في المعلوفة ، وهم أكثر لأنه يفهم منه أن غير السائمة لا زكاة فيها ، فيخصص بذلك عموم : في أربعين شاة شاة والعلم عند الله تعالى . المسألة الرابعة : ما صاده الكتابي بالجوارح والسلاح حلال للمسلم ، لأن العقر ذكاة الصيد وعلى هذا القول الأئمة الثلاثة ، وبه قال عطاء والليث والأوزاعي وابن المنذر وداود وجمهور العلماء ، كما نقله عنهم النووي في شرح المهذب . وحجة الجمهور واضحة وهي قوله تعالى : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وخالف مالك وابن القاسم ففرقا بين ذبح الكتابي وصيده مستدلين بقوله تعالى : تناله أيديكم ورماحكم [ 5 \ 94 ] ، لأنه خص الصيد بأيدي المسلمين ورماحهم دون غير المسلمين . قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر لي والله أعلم ، أن هذا الاحتجاج لا ينهض على الجمهور ، وأن الصواب مع الجمهور . وقد وافق الجمهور من المالكية أشهب وابن هارون وابن يونس والباجي واللخمي ، ولمالك في الموازنة كراهته ، قال ابن بشير : ويمكن حمل المدونة على الكراهة . المسألة الخامسة : ذبائح أهل الكتاب في دار الحرب كذبائحهم في دار الإسلام ، قال النووي : وهذا لا خلاف فيه ، ونقل ابن المنذر الإجماع عليه . قوله تعالى : فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم الآية . هذه الآية الكريمة تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم إذ تحاكم إليه أهل الكتاب مخير بين الحكم بينهم والإعراض عنهم ، وقد جاءت آية أخرى تدل على خلاف ذلك وهي قوله تعالى : وأن احكم بينهم بما أنزل الله الآية [ 5 \ 49 ] . والجواب : أن قوله تعالى : وأن احكم بينهم ناسخ لقوله : أو أعرض عنهم وهذا قول ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والسدي وزيد بن أسلم [ ص: 274 ] وعطاء الخراساني وغير واحد ، قاله ابن كثير . وقيل : معنى وأن احكم أي إذا حكمت بينهم ، فاحكم بما أنزل الله لا باتباع الهوى ، وعليه فالأولى محكمة ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : أو آخران من غيركم الآية . هذه الآية تدل على قبول شهادة الكفار على الوصية في السفر ، وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك كقوله : إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون [ 16 105 ] . وقوله : ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون [ 24 \ 4 ] ، أي فالكافرون أحرى برد شهادتهم . وقوله : وأشهدوا ذوي عدل منكم [ 65 2 ] . وقوله : واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء الآية [ 2 282 ] . والجواب عن هذا على قول من لا يقبل شهادة الكافرين على الإيصاء في السفر أنه يقول : إن قوله أو آخران من غيركم ، منسوخ بآيات اشتراط العدالة ، والذي يقول بقبول شهادتهما يقول هي محكمة مخصصة لعموم غيرها ، وهذا الخلاف معروف ووجه الجواب على كلا القولين ظاهر . وأما على قول من قال : إن معنى قوله : ذوا عدل منكم [ 5 \ 95 ] ، أي من قبيلة الموصي ، وقوله : أو آخران من غيركم أي من غير قبيلة الموصي من سائر المسلمين ، فلا إشكال في الآية . ولكن جمهور العلماء على أن قوله : من غيركم أي من غير المسلمين ، وأن قوله : منكم أي من المسلمين . وعليه فالجواب ما تقدم ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب [ ص: 275 ] هذه الآية يفهم منها أن الرسل لا يشهدون يوم القيامة ، على أممهم . وقد جاء في آيات أخر ما يدل على أنهم يشهدون على أممهم كقوله تعالى : فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا [ 4 \ 41 ] . وقوله تعالى : ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء [ 16 \ 89 ] . والجواب من ثلاثة أوجه : الأول : وهو اختيار ابن جرير ، وقال فيه ابن كثير : لا شك أنه حسن ، أن المعنى : لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا ، فلا علم لنا بالنسبة إلى علمك المحيط بكل شيء ، فنحن وإن عرفنا من أجابنا فإنما نعرف الظواهر ولا علم لنا بالبواطن ، وأنت المطلع على السرائر وما تخفي الضمائر فعلمنا بالنسبة إلى علمك كلا علم . الثاني : وبه قال مجاهد والسدي والحسن البصري ، كما نقله عنهم ابن كثير وغيره أنهم قالوا : لا علم لنا لما اعتراهم من شدة هول يوم القيامة ، ثم زال ذلك عنهم فشهدوا على أممهم . والثالث : وهو أضعفها ، أن معنى قوله : ماذا أجبتم ، ماذا عملوا بعدكم ؟ وما أحدثوا بعدكم ؟ قالوا لا علم لنا . ذكر ابن كثير وغيره هذا القول ، ولا يخفى بعده عن ظاهر القرآن . قوله تعالى : قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين . هذه الآية الكريمة تدل على أن أشد الناس عذابا يوم القيامة من كفر من أصحاب المائدة . وقد جاء في بعض الآيات ما يوهم خلاف ذلك كقوله : إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار [ 4 \ 145 ] ، وقوله : ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب [ 40 \ 46 ] . والجواب : أن آية : أدخلوا آل فرعون وآية : إن المنافقين لا منافاة بينهما ، لأن كلا من آل فرعون والمنافقين في أسفل دركات النار في أشد العذاب ، وليس [ ص: 276 ] في الآيتين ما يدل على أن بعضهم أشد عذابا من الآخر . وأما قوله : فإني أعذبه الآية ، فيجاب عنه من وجهين : الأول : وهو ما قاله ابن كثير : أن المراد بـ : العالمين عالمو زمانهم وعليه فلا إشكال ، ونظيره قوله تعالى : وأني فضلتكم على العالمين [ 2 \ 147 ] ، كما تقدم . الثاني : ما قاله البعض من أن المراد به العذاب الدنيوي الذي هو - مسخهم خنازير ، ولكن يدل لأنه عذاب الآخرة ما رواه ابن جرير عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه قال : " أشد الناس عذابا يوم القيامة ثلاثة : المنافقون ومن كفر من أصحاب المائدة وآل فرعون " . وهذا الإشكال في أصحاب المائدة لا يتوجه إلا على القول بنزول المائدة ، وأن بعضهم كفر بعد نزولها ، أما على قول الحسن ومجاهد أنهم خافوا من الوعيد فقالوا : لا حاجة لنا في نزولها فلم تنزل فلا إشكال . ولكن ظاهر قوله تعالى : إني منزلها [ 5 \ 15 ] يخالف ذلك ، وعلى القول بنزولها لا يتوجه الإشكال إلا إذا ثبت كفر بعضهم كما لا يخفى . [ ص: 277 ] بسم الله الرحمن الرحيم سورة الأنعام قوله تعالى : ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق الآية . هذه الآية الكريمة تدل على أن الله مولى الكافرين ونظيرها قوله تعالى : هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون [ 10 ] . وقد جاء في آية أخرى ما يدل على خلاف ذلك وهي قوله تعالى : ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم [ 47 \ 11 ] . والجواب عن هذا أن معنى كونه مولى الكافرين أنه مالكهم المتصرف فيهم بما شاء ، ومعنى كونه مولى المؤمنين دون الكافرين ، أي ولاية المحبة والتوفيق والنصر ، والعلم عند الله تعالى . وأما على قول من قال : إن الضمير في قوله : ردوا وقوله : مولاهم عائد إلى الملائكة فلا إشكال في الآية أصلا ، ولكن الأول أظهر . قوله تعالى : وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون هذه الآية الكريمة يفهم منها أنه لا إثم على من جالس الخائضين في آيات الله بالاستهزاء والتكذيب . وقد جاءت آية تدل على أن من جالسهم كان مثلهم في الإثم ، وهي قوله تعالى : وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها - إلى قوله - إنكم إذا مثلهم [ 4 \ 140 ] ، اعلم أولا أن في معنى قوله : وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء [ 6 ] ، وجهين للعلماء : [ ص: 278 ] الأول : أن المعنى وما على الذين يتقون مجالسة الكفار عند خوضهم في آيات الله من حساب الكفار من شيء ، وعلى هذا الوجه فلا إشكال في الآية أصلا . الوجه الثاني : أن معنى الآية : وما على الذين يتقون ما يقع من الكفار من الخوض في آيات الله في مجالستهم لهم من شيء . وعلى هذا القول فهذا الترخيص في مجالسة الكفار للمتقين من المؤمنين كان في أول الإسلام للضرورة ، ثم نسخ بقوله تعالى : إنكم إذا مثلهم . وممن قال بالنسخ فيه مجاهد والسدي وابن جريج وغيرهم كما نقله عنهم ابن كثير ، فظهر أن لا إشكال على كلا القولين . ومعنى قوله تعالى : ولكن ذكرى لعلهم يتقون [ 6 ] ، على الوجه الأول أنهم إذا اجتنبوا مجالسهم سلموا من الإثم ، ولكن الأمر باتقاء مجالستهم عند الخوض في الآيات لا يسقط وجوب تذكيرهم ووعظهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر لعلهم يتقون الله بسبب ذلك . وعلى الوجه الثاني فالمعنى أن الترخيص في المجالسة لا يسقط التذكير لعلهم يتقون الخوض في آيات الله بالباطل إذا وقعت منكم الذكرى لهم ، وأما جعل الضمير للمتقين فلا يخفى بعده ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها . يتوهم منه الجاهل أن إنذاره صلى الله عليه وسلم مخصوص بأم القرى وما يقرب منها دون الأقطار النائية عنها لقوله تعالى : ومن حولها ونظيره قوله تعالى في سورة " الشورى " وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه [ 42 \ 7 ] . وقد جاءت آيات أخر تصرح بعموم إنذاره صلى الله عليه وسلم لجميع الناس كقوله تعالى : تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا [ 25 ] ، وقوله تعالى : وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ [ 6 \ 19 ] ، وقوله : [ ص: 279 ] قل ياأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا [ 7 \ 158 ] ، وقوله : وما أرسلناك إلا كافة للناس الآية [ 34 28 ] . والجواب من وجهين : الأول : أن المراد بقوله : ومن حولها شامل لجميع الأرض كما رواه ابن جرير وغيره عن ابن عباس . الوجه الثاني : أنا لو سلمنا تسليما جدليا أن قوله : ومن حولها لا يتناول إلا القريب من مكة المكرمة حرمها الله كجزيرة العرب مثلا ، فإن الآيات الأخر نصت على العموم كقوله : ليكون للعالمين نذيرا . وذكر بعض أفراد العام بحكم العام لا يخصصه عند عامة العلماء ولم يخالف فيه إلا أبو ثور ، وقد قدمنا ذلك واضحا بأدلته في سورة " المائدة " . فالآية على هذا القول كقوله : وأنذر عشيرتك الأقربين [ 26 \ 214 ] ، فإنه لا يدل على عدم إنذار غيرهم ، كما هو واضح ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه . وقوله أيضا : والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه [ 6 141 ] ، أثبت في هاتين الآيتين التشابه للزيتون والرمان ونفاه عنهما . والجواب ما قاله قتادة رحمه الله من أن المعنى متشابها ورقها مختلفا طعمها ، والله تعالى أعلم . قوله تعالى : لا تدركه الأبصار الآية . هذه الآية الكريمة توهم أن الله تعالى لا يرى بالأبصار ، وقد جاءت آيات أخر تدل على أنه يرى بالأبصار ، كقوله تعالى : وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة [ 75 \ 22 - 23 ] ، وكقوله : للذين أحسنوا الحسنى وزيادة [ 10 \ 26 ] ، فالحسنى : الجنة ، والزيادة : النظر إلى وجه الله الكريم . وكذلك قوله : لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد [ 50 \ 35 ] ، على أحد القولين ، وكقوله تعالى في الكفار : كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون [ ص: 280 ] [ 83 \ 15 ] ، يفهم من دليل خطابه أن المؤمنين ليسوا محجوبين عن ربهم . والجواب من ثلاثة أوجه : الأول : أن المعنى لا تدركه الأبصار أي في الدنيا فلا ينافي الرؤية في الآخرة . الثاني : أنه عام مخصوص برؤية المؤمنين له في الآخرة ، وهذا قريب في المعنى من الأول . الثالث : وهو الحق ، أن المنفي في هذه الآية الإدراك المشعر بالإحاطة بالكنه ، أما مطلق الرؤية فلا تدل الآية على نفيه بل هو ثابت بهذه الآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة واتفاق أهل السنة والجماعة على ذلك . وحاصل هذا الجواب : أن الإدراك أخص من مطلق الرؤية لأن الإدراك المراد به الإحاطة ، والعرب تقول : رأيت الشيء وما أدركته ، فمعنى : لا تدركه الأبصار لا تحيط به ، كما أنه تعالى يعلمه الخلق ولا يحيطون به علما . وقد اتفق العقلاء على أن نفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم ، فانتفاء الإدراك لا يلزم منه انتفاء مطلق الرؤية ، مع أن الله تعالى لا يدرك كنهه على الحقيقة أحد من الخلق . والدليل على صحة هذا الوجه ما أخرجه الشيخان من حديث أبي موسى مرفوعا : حجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه . فالحديث صريح في عدم الرؤية في الدنيا ، ويفهم منه عدم إمكان الإحاطة مطلقا . والحاصل : أن رؤيته تعالى بالأبصار جائزة عقلا في الدنيا والآخرة لأن كل موجود يجوز أن يرى عقلا ، ويدل لجوازها عقلا قول موسى : رب أرني أنظر إليك [ 7 \ 143 ] ، لأنه لا يجهل الجائز في حق الله تعالى عقلا . وأما في الشرع فهي جائزة وواقعة في الآخرة ممتنعة في الدنيا ومن أصرح الأدلة في ذلك ما رواه مسلم وابن خزيمة مرفوعا : إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا والأحاديث برؤية المؤمنين له يوم القيامة متواترة ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : وأعرض عن المشركين الآية . [ ص: 281 ] لا يعارض آيات السيف لأنها ناسخة له . قوله تعالى : قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله الآية . هذه الآية الكريمة يفهم منها كون عذاب أهل النار غير باق بقاء لا انقطاع له أبدا ونظيرها قوله تعالى : فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك [ 11 106 - 107 ] ، وقوله تعالى : لابثين فيها أحقابا [ 78 23 ] . وقد جاءت آيات تدل على أن عذابهم لا انقطاع له كقوله : خالدين فيها أبدا [ 4 \ 57 ] . والجواب عن هذا من أوجه : أحدها : أن قوله تعالى : إلا ما شاء الله معناه إلا من شاء الله عدم خلوده فيها من أهل الكبائر من الموحدين . وقد ثبت فى الأحاديث الصحيحة أن بعض أهل النار يخرجون منها وهم أهل الكبائر من الموحدين ، ونقل ابن جرير هذا القول عن قتادة والضحاك وأبي سنان وخالد بن معدان ، واختاره ابن جرير ، وغاية " ما " في هذا القول إطلاق " ما " وإرادة من ونظيره في القرآن : فانكحوا ما طاب لكم من النساء [ 4 3 ] الثاني : أن المدة التي استثناها الله هي المدة التي بين بعثهم من قبورهم واستقرارهم في مصيرهم قاله ابن جرير أيضا . الوجه الثالث : أن قوله : إلا ما شاء الله فيه إجمال وقد جاءت الآيات والأحاديث الصحيحة مصرحة بأنهم خالدون فيها أبدا ، وظاهرها أنه خلود لا انقطاع له ، والظهور من المرجحات فالظاهر مقدم على المجمل ، كما تقرر في الأصول . ومنها أن " إلا " في سورة " هود " بمعنى : سوى ما شاء الله من الزيادة على مدة دوام السماوات والأرض . وقال بعض العلماء : إن الاستثناء على ظاهره وأنه يأتي على النار زمان ليس فيها أحد . [ ص: 282 ] وقال ابن مسعود : ليأتين على جهنم زمان تخفق أبوابها ليس فيها أحد ، وذلك بعدما يلبثون أحقابا . وعن ابن عباس : أنها تأكلهم بأمر الله . قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر لي والله أعلم ، أن هذه النار التي لا يبقى فيها أحد يتعين حملها على الطبقة التي كان فيها عصاة المسلمين ، كما جزم به البغوي في تفسيره ، لأنه يحصل به الجمع بين الأدلة ، وإعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما . وقد أطبق العلماء على وجوب الجمع إذا أمكن ، أما ما يقوله كثير من العلماء من الصحابة ، ومن بعدهم من أن النار تفنى وينقطع العذاب عن أهلها ، فالآيات القرآنية تقتضي عدم صحته ، وإيضاحه أن المقام لا يخلو من إحدى خمس حالات بالتقسيم الصحيح ، وغيرها راجع إليها . الأولى : أن يقال بفناء النار ، وأن استراحتهم من العذاب بسبب فنائها . الثانية : أن يقال إنهم ماتوا وهي باقية . الثالثة : أن يقال إنهم أخرجوا منها وهي باقية . الرابعة : أن يقال إنهم باقون فيها إلا أن العذاب يخف عليهم . وذهاب العذاب رأسا واستحالته لذا لم نذكرهما من الأقسام ، لأنا نقيم البرهان على نفي تخفيف العذاب ، ونفي تخفيفه يلزمه نفي ذهابه واستحالته لذا فاكتفينا به لدلالة نفيه على نفيهما ، وكل هذه الأقسام الأربعة يدل القرآن على بطلانه . أما فناؤها فقد نص تعالى على عدمه بقوله : كلما خبت زدناهم سعيرا [ 17 \ 97 ] . وقد قال تعالى : إلا ما شاء ربك [ 11 \ 107 ] ، في خلود أهل الجنة وخلود أهل النار وبين عدم الانقطاع في خلود أهل الجنة بقوله : عطاء غير مجذوذ [ 11 \ 108 ] ، وبقوله : إن هذا لرزقنا ما له من نفاد [ 38 \ 54 ] ، وقوله : ما عندكم ينفد وما عند الله باق [ 16 \ 96 ] . [ ص: 283 ] وبين عدم الانقطاع في خلود أهل النار بقوله : كلما خبت زدناهم سعيرا . فمن يقول إن للنار خبوة ليس بعدها زيادة سعير ، رد عليه بهذه الآية الكريمة ، ومعلوم أن كلما تقتضي التكرار بتكرار الفعل الذي بعدها ، ونظيرها قوله تعالى : كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها الآية [ 4 56 ] . وأما موتهم فقد نص تعالى على عدمه بقوله : لا يقضى عليهم فيموتوا [ 35 \ 36 ] ، وقوله : لا يموت فيها ولا يحيا [ 20 ] ، وقوله : ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت [ 14 \ 17 ] ، وقد بين صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أن الموت يجاء به يوم القيامة في صورة كبش أملج فيذبح ، وإذا ذبح الموت حصل اليقين بأنه لا موت ، كما قال صلى الله عليه وسلم : ويقال يا أهل الجنة خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود بلا موت . وأما إخراجهم منها فنص تعالى على عدمه بقوله : وما هم بخارجين من النار [ 2 \ 167 ] ، وبقوله : كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها [ 32 20 ] ، وبقوله : وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم [ 5 \ 37 ] . وأما تخفيف العذاب عنهم فنص تعالى على عدمه بقوله : ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور [ 35 \ 13 ] ، وقوله : فلن نزيدكم إلا عذابا [ 78 ] ، وقوله : لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون [ 43 ] ، وقوله : إن عذابها كان غراما [ 25 \ 65 ] ، وقوله : فسوف يكون لزاما [ 25 \ 77 ] ، وقوله تعالى : فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون [ 16 \ 85 ] . وقوله : ولهم عذاب مقيم [ 5 \ 37 ] ، ولا يخفى أن قوله : ولا يخفف عنهم من عذابها وقوله : لا يفتر عنهم كلاهما فعل في سياق النفي ، فحرف النفي بنفي المصدر الكامن في الفعل فهو في معنى لا تخفيف للعذاب عنهم ، ولا تفتير له ، والقول بفنائها يلزمه تخفيف العذاب وتفتيره المنفيان في هذه الآيات بل يلزمه ذهابهما رأسا ، كما أنه يلزمه نفي ملازمة العذاب المنصوص عليها بقوله : فسوف يكون لزاما وقوله : إن عذابها كان غراما وإقامته المنصوص عليها بقوله : ولهم عذاب مقيم . [ ص: 284 ] فظاهر هذه الآيات عدم فناء النار المصرح به في قوله : كلما خبت زدناهم سعيرا وما احتج به بعض العلماء من أنه لو فرض أن الله أخبر بعدم فنائها أن ذلك لا يمنع فناءها لأنه وعيد ، وإخلاف الوعيد من الحسن لا من القبيح ، وأن الله تعالى ذكر أنه لا يخلف وعده ولم يذكر أنه لا يخلف وعيده ، وأن الشاعر قال : وإني وإن أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي فالظاهر عدم صحته لأمرين : الأول : أنه يلزمه جواز ألا يدخل النار كافر ، لأن الخبر بذلك وعيد ، وإخلافه على هذا القول لا بأس به . الثاني : أنه تعالى صرح بحق وعيده على من كذب رسله حيث قال : كل كذب الرسل فحق وعيد [ 50 \ 14 ] . وقد تقرر في مسلك النص من مسالك العلة أن الفاء من حروف التعليل كقولهم : سها فسجد ، أي سجد لعلة سهوه ، وسرق فقطعت يده أي لعلة سرقته ، فقوله : كل كذب الرسل فحق وعيد أي وجب وقوع الوعيد عليهم لعلة تكذيب الرسل ، ونظيرها قوله تعالى : إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب [ 38 \ 14 ] . ومن الأدلة الصريحة في ذلك تصريحه تعالى بأن قوله لا يبدل فيما أوعد به أهل النار حيث قال \ 47 لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد [ 50 \ 28 - 29 ] . ويستأنس لذلك بظاهر قوله تعالى : واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده - إلى قوله - إن وعد الله حق [ 31 \ 33 ] ، وقوله : إن عذاب ربك لواقع [ 52 \ 7 ] ، فالظاهر أن الوعيد الذي يجوز إخلافه وعيد عصاة المؤمنين لأن الله بين ذلك بقوله : ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [ 4 \ 48 ] . فإذا تبين بهذه النصوص بطلان جميع هذه الأقسام تعين القسم الخامس الذي هو خلودهم فيها أبدا بلا انقطاع ولا تخفيف بالتقسيم والسبر الصحيح . ![]()
__________________
|
#625
|
||||
|
||||
![]() ![]() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد التاسع الحلقة (623) بيان الناسخ والمنسوخ صـ 285 إلى صـ 298 ولا غرابة في ذلك لأنه خبثهم الطبيعي دائم لا يزول ، فكان جزاؤهم دائما لا يزول [ ص: 285 ] والدليل على أن خبثهم لا يزول قوله تعالى : ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم الآية [ 8 \ 23 ] . فقوله : خيرا نكرة في سياق الشرط فهي تعم ، فلو كان فيهم خير ما في وقت ما لعلمه الله ، وقوله تعالى : ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه [ 6 28 ] ، وعودهم بعد معاينة العذاب ، لا يستغرب بعده عودهم بعد مباشرة العذاب لأن رؤية العذاب عيانا كالوقوع فيه لا سيما وقد قال تعالى : فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد [ 50 \ 22 ] ، وقال : أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا الآية [ 19 38 ] . وعذاب الكفار للإهانة والانتقام لا للتطهير والتمحيص ، كما أشار له تعالى بقوله ولا يزكيهم [ 2 \ 174 ] ، وبقوله : ولهم عذاب مهين [ 3 \ 178 ] ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء الآية . هذا الكلام الذي قالوه بالنظر إلى ذاته كلام صدق لا شك فيه لأن الله لو شاء لم يشركوا به شيئا ، ولم يحرموا شيئا مما لم يحرمه كالبحائر والسوائب . وقد قال تعالى : ولو شاء الله ما أشركوا [ 6 \ 107 ] وقال : ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها [ 32 \ 13 ] ، وقال : ولو شاء الله لجمعهم على الهدى [ 6 \ 35 ] ، وإذا كان هذا الكلام الذي قاله الكفار حقا فما وجه تكذيبه تعالى لهم بقوله : كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون [ 6 \ 148 ] ، ونظير هذا الإشكال بعينه في سورة " الزخرف " في قوله تعالى : وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون [ 43 \ 20 ] . والجواب أن هذا الكلام الذي قاله الكفار كلام حق أريد به باطل فتكذيب الله لهم واقع على باطلهم الذي قصدوه بهذا الكلام الحق وإيضاحه : أن مرادهم أنهم لما كان كفرهم وعصيانهم بمشيئة الله وأنه لو شاء لمنعهم من ذلك فعدم منعه لهم دليل على رضاه بفعلهم فكذبهم الله في ذلك مبينا أنه لا يرضى بكفرهم كما نص عليه بقوله : ولا يرضى لعباده الكفر [ ص: 286 ] [ 39 \ 7 ] ، فالكفار زعموا أن الإرادة الكونية يلزمها الرضا ، وهو زعم باطل بل الله يريد بإرادته الكونية ما لا يرضاه بدليل قوله : ختم الله على قلوبهم [ 2 \ 7 ] ، مع قوله : ولا يرضى لعباده الكفر والذي يلازم الرضى حقا إنما هو الإرادة الشرعية ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم الآية . هذه الآية تدل على أن هذا الذي يتلوه عليهم حرمه ربهم عليهم ، فيوهم أن معنى قوله : ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا [ 6 \ 151 ] ، أن الإحسان بالوالدين وعدم الشرك حرام ، والواقع خلاف ذلك ، كما هو ضروري . وفي هذه الآية الكريمة كلام كثير للعلماء ، وبحوث ومناقشات كثيرة لا تتسع هذه العجالة لاستيعابها ، منها أنها صلة كما يأتي ، ومنها أنها بمعنى أبينه لكم لئلا تشركوا . ومن أطاع الشيطان مستحلا فهو مشرك بدليل قوله : وإن أطعتموهم إنكم لمشركون [ 6 121 ] . ومنها أن الكلام تم عند قوله : حرم ربكم وأن قوله : عليكم ألا تشركوا : اسم فعل يتعلق بما بعده على أن معموله منها غير ذلك ، وأقرب تلك الوجوه عندنا هو ما دل عليه القرآن لأن خير ما يفسر به القرآن القرآن ، وذلك هو أن قوله تعالى : أتل ما حرم ربكم عليكم ، مضمن معنى ما وصاكم ربكم به تركا وفعلا ، وإنما قلنا إن القرآن دل على هذا لأن الله رفع هذا الإشكال وبين مراده بقوله : ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون [ 6 \ 151 ] ، فيكون المعنى : وصاكم ألا تشركوا ، ونظيره من كلام العرب قول الراجز : حج وأوصى بسليمى عبدا أن لا ترى ولا تكلم أحدا ومن أقرب الوجوه بعد هذا وجهان : الأول : أن المعنى : يبينه لكم لئلا تشركوا . والثاني : أن " أن " من قوله : ألا تشركوا مفسرة للتحريم ، والقدح فيه بأن قوله : وأن هذا صراطي مستقيما [ 6 \ 153 ] ، معطوف عليه ، وعطفه عليه ينافي [ ص: 287 ] التفسير مدفوع بعدم تعيين العطف لاحتمال حذف حرف الجر فيكون المعنى : ولأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه كما ذهب إليه بعضهم ، ولكن القول الأول هو الصحيح إن شاء الله تعالى ، وعليه فلا إشكال في الآية أصلا . [ ص: 288 ] بسم الله الرحمن الرحيم سورة الأعراف قوله تعالى : فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين . هذه الآية الكريمة تدل على أن الله يسأل جميع الناس يوم القيامة ، ونظيرها قوله تعالى : فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون [ 15 \ 92 - 93 ] ، وقوله : وقفوهم إنهم مسئولون [ 37 \ 24 ] ، وقوله : ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين [ 28 \ 65 ] . وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك ، كقوله : فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان [ 55 \ 39 ] ، وكقوله : ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون [ 28 \ 78 ] . والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه : الأول : وهو أوجهها لدلالة القرآن عليه هو أن السؤال قسمان : سؤال توبيخ وتقريع وأداته غالبا : لم ، وسؤال استخبار واستعلام وأداته غالبا : هل ، فالمثبت هو سؤال التوبيخ والتقريع ، والمنفي هو سؤال الاستخبار والاستعلام ، وجه دلالة القرآن على هذا أن سؤاله لهم المنصوص في كله توبيخ وتقريع كقوله : وقفوهم إنهم مسئولون ما لكم لا تناصرون [ 37 24 - 25 ] ، وقوله : أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون [ 52 \ 15 ] ، ألم يأتكم رسل منكم [ 39 \ 71 ] ، وكقوله : ألم يأتكم نذير [ 67 \ 8 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . وسؤال الله للرسل : ماذا أجبتم [ 5 \ 109 ] لتوبيخ الذين كذبوهم كسؤال الموءودة : بأي ذنب قتلت [ 81 \ 9 ] لتوبيخ قاتلها . [ ص: 289 ] الوجه الثاني : أن في القيامة مواقف متعددة ، ففي بعضها يسألون ، وفي بعضها لا يسألون . الوجه الثالث : هو ما ذكره الحليمي من أن إثبات السؤال محمول على السؤال عن التوحيد وتصديق الرسل وعدم السؤال محمول على ما يستلزمه الإقرار بالنبوات من شرائع الدين وفروعه ، ويدل لهذا قوله تعالى : فيقول ماذا أجبتم المرسلين [ 28 \ 65 ] ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك . في هذه الآية إشكال بين قوله : منعك مع لا النافية لأن المناسب في الظاهر لقوله : منعك بحسب ما يسبق إلى ذهن السامع لا ما في نفس الأمر ، هو حذف لا فيقول : ما منعك أن تسجد دون ألا تسجد ، وأجيب عن هذا بأجوبة : من أقربها هو ما اختاره ابن جرير في تفسيره ، وهو أن بالكلام حذفا دل المقام عليه . وعليه فالمعنى : ما منعك من السجود ، فأحوجك ألا تسجد إذ أمرتك ، وهذا الذي اختاره ابن جرير ، قال ابن كثير : إنه حسن قوي . ومن أجوبتهم أن " لا " صلة ويدل قوله تعالى في سورة " ص " ما منعك أن تسجد لما خلقت الآية [ 38 ] ، وقد وعدنا فيما مضى أنا إن شاء الله نبين القول بزيادة " لا " مع شواهده العربية في الجمع بين قوله : لا أقسم بهذا البلد [ 90 ] ، وبين قوله : وهذا البلد الأمين [ 95 \ 3 ] . قوله تعالى : قل إن الله لا يأمر بالفحشاء . هذه الآية الكريمة يتوهم خلاف ما دلت عليه من ظاهر آية أخرى ، وهي قوله تعالى : وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها الآية [ 17 \ 16 ] . والجواب عن ذلك من ثلاثة أوجه : الأول : وهو أظهرها أن معنى قوله : أمرنا مترفيها أي بطاعة الله وتصديق الرسل ففسقوا ، أي بتكذيب الرسل ومعصية الله تعالى ، فلا إشكال في الآية أصلا . [ ص: 290 ] الثاني : أن الأمر في قوله : أمرنا مترفيها أمر كوني قدري لا أمر شرعي ، أي قدرنا عليهم الفسق بمشيئتنا ، والأمر الكوني القدري كقوله تعالى : كونوا قردة خاسئين [ 2 65 ] ، إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون [ 36 \ 82 ] ، والأمر في قوله : قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أمر شرعي ديني فظهر أن الأمر المنفي غير الأمر المثبت . الوجه الثالث : أن معنى : أمرنا مترفيها : أي كثرناهم حتى بطروا النعمة ففسقوا ، ويدل لهذا المعنى الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد مرفوعا من حديث سويد بن هبيرة رضي الله عنه : خير مال امرئ مهرة مأمورة أو سكة مأبورة فقوله : " مأمورة " أي كثيرة النسل ، وهي محل الشاهد . قوله تعالى : فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم الآية . وأمثالها من الآيات كقوله : نسوا الله فنسيهم [ 9 \ 67 ] ، وقوله : وكذلك اليوم تنسى [ 20 \ 126 ] ، وقوله : وقيل اليوم ننساكم الآية [ 45 34 ] ، لا يعارض قوله تعالى : لا يضل ربي ولا ينسى [ 20 \ 52 ] ، وقوله : وما كان ربك نسيا [ 19 \ 64 ] ؛ لأن معنى : فاليوم ننساهم ونحوه ، أي نتركهم في العذاب محرومين من كل خير ، والله تعالى أعلم . قوله تعالى . فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين الآية . هذه الآية تدل على شبه العصا بالثعبان وهو لا يطلق إلا على الكبير من الحيات ، وقد جاءت آية أخرى تدل على خلاف ذلك ، وهي قوله تعالى : فلما رآها تهتز كأنها جان الآية [ 27 \ 10 ] ، لأن الجان هو الحية الصغيرة . والجواب عن هذا أنه شبهها بالثعبان في عظم خلقتها ، وبالجان في اهتزازها وخفتها وسرعة حركتها ، فهي جامعة بين العظم ، وخفة الحركة على خلاف العادة . [ ص: 291 ] بسم الله الرحمن الرحيم سورة الأنفال قوله تعالى : إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم الآية . هذه الآية تدل على أن وجل القلوب عند سماع ذكر الله من علامات المؤمنين . وقد جاء في آية أخرى ما يدل على خلاف ذلك وهي قوله : الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب [ 13 \ 28 ] . فالمنافاة بين الطمأنينة ووجل القلوب ظاهرة . والجواب عن هذا أن الطمأنينة تكون بانشراح الصدر بمعرفة التوحيد ، والوجل يكون عند خوف الزيغ والذهاب عن الهدى ، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى : تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله [ 39 \ 23 ] ، وقوله تعالى : ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا الآية [ 13 \ 8 ] . وقوله تعالى : والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون [ 23 \ 60 ] . قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم الآية . هذه الآية تدل بظاهرها على أن الاستجابة للرسول التي هي طاعته لا تجب إلا إذا دعانا لما يحيينا ، ونظيرها قوله تعالى : ولا يعصينك في معروف [ 60 \ 12 ] . وقد جاء في آيات أخر ما يدل على وجوب اتباعه مطلقا من غير قيد ، قوله : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [ 59 \ 7 ] ، وقوله قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله [ ص: 292 ] الآية [ 3 \ 31 ] . وقوله : من يطع الرسول فقد أطاع الله [ 4 \ 80 ] . والظاهر أن وجه الجمع ، والله تعالى أعلم ، أن آيات الإطلاق مبينة أنه صلى الله عليه وسلم لا يدعونا إلا لما يحيينا من خيري الدنيا والآخرة ، فالشرط المذكور في قوله : إذا دعاكم ، متوفر في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لمكان عصمته ، كما دل عليه قوله تعالى : وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى [ 53 \ 3 - 4 ] . والحاصل أن آية : إذا دعاكم لما يحييكم ، مبينة أنه لا طاعة إلا لمن يدعو إلى ما يرضي الله ، وأن الآيات الأخر بينت أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يدعو أبدا إلا إلى ذلك صلوات الله وسلامه عليه . قوله تعالى : وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون هذه الآية الكريمة تدل على أن لكفار مكة أمانين يدفع الله عنهم العذاب بسببهما : أحدهما : كونه صلى الله عليه وسلم فيهم لأن الله لم يهلك أمة ونبيهم فيهم . والثاني : استغفارهم الله وقوله تعالى : وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام [ 8 ] ، يدل على خلاف ذلك . والجواب من أربعة أوجه : الأول : وهو اختيار ابن جرير نقله عن قتادة والسدي ، وابن زيد أن الأمانين منتفيان ، فالنبي صلى الله عليه وسلم خرج من بين أظهرهم مهاجرا واستغفارهم معدوم لإصرارهم على الكفر . فجملة الحال أريد بها أن العذاب لا ينزل بهم في حالة استغفارهم لو استغفروا ولا في حالة وجود نبيهم فيهم ، لكنه خرج من بين أظهرهم ، ولم يستغفروا لكفرهم . ومعلوم أن الحال قيد لعاملها وصف لصاحبها ، فالاستغفار مثلا قيد في نفي العذاب ، لكنهم لم يأتوا بالقيد ، فتقرير المعنى : وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون لو استغفروا ، وبعد انتفاء الأمرين عذبهم بالقتل والأسر ، يوم بدر كما يشير [ ص: 293 ] إليه قوله تعالى : ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر [ 32 \ 21 ] . الوجه الثاني : أن المراد بقوله : " يستغفرون " استغفار المؤمنين المستضعفين بمكة ، وعليه فالمعنى أنه بعد خروجه صلى الله عليه وسلم كان استغفار المؤمنين سببا لرفع العذاب الدنيوي عن الكفار المستعجلين للعذاب بقولهم : فأمطر علينا حجارة من السماء الآية [ 8 ] . وعلى هذا القول فقد أسند الاستغفار إلى مجموع أهل مكة الصادق بخصوص المؤمنين منهم ، ونظير الآية عليه قوله تعالى : فعقروا الناقة [ 7 \ 77 ] ، ومع أن العاقر واحد منهم بدليل قوله تعالى : فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر [ 54 \ 29 ] ، وقوله تعالى : ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا وجعل القمر فيهن نورا [ 71 \ 15 - 16 ] ، أي جعل القمر في مجموعهن الصادق بخصوص السماء التي فيها القمر ، لأنه لم يجعل في كل سماء قمرا ، وقوله تعالى : يامعشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم [ 6 \ 130 ] ، أي من مجموعكم الصادق بخصوص الإنس على الأصح ، إذ ليس من الجن رسل . وأما تمثيل كثير من العلماء لإطلاق المجموع مرادا بعضه بقوله تعالى : يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان [ 55 \ 22 ] ، زاعمين أن معنى قوله : " منهما " أي من مجموعهما الصادق بخصوص البحر الملح ، لأن العذب لا يخرج منه لؤلؤ ولا مرجان ، فهو قول باطل بنص القرآن العظيم . فقد صرح تعالى باستخراج اللؤلؤ والمرجان من البحرين كليهما حيث قال : وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها [ 35 \ 12 ] . فقوله تعالى : ومن كل ، نص صريح في إرادة العذب والملح معا ، وقوله : حلية تلبسونها هي اللؤلؤ والمرجان . وعلى هذا القول فالعذاب الدنيوي يدفعه الله عنهم باستغفار المؤمنين الكائنين بين أظهرهم ، وقوله تعالى : وما لهم ألا يعذبهم الله [ 8 ] . أي بعد خروج المؤمنين الذين كان استغفارهم سببا لدفع العذاب الدنيوي ، فبعد خروجهم عذب الله أهل [ ص: 294 ] مكة في الدنيا بأن سلط عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم حتى فتح مكة ، ويدل لكونه تعالى يدفع العذاب الدنيوي عن الكفار بسبب وجود المسلمين بين أظهرهم ما وقع في صلح الحديبية كما بينه تعالى بقوله : ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما [ 48 \ 25 ] . فقوله : لو تزيلوا أي لو تزيل الكفار من المسلمين لعذبنا الكفار بتسليط المسلمين عليهم ، ولكنا رفعنا عن الكفار هذا العذاب الدنيوي لعدم تميزهم من المؤمنين ، كما بينه بقوله : ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات الآية . ونقل ابن جرير هذا القول عن ابن عباس والضحاك وأبي مالك وابن أبزى ، وحاصل هذا القول أن كفار مكة لما قالوا : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة الآية [ 8 ] . أنزل الله قوله : وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ، ثم لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم بقيت طائفة من المسلمين بمكة يستغفرون الله ويعبدونه ، فأنزل الله : وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ، فلما خرجت بقية المسلمين من مكة أنزل الله تعالى : وما لهم ألا يعذبهم الله [ 8 ] ، أي : أي شيء ثبت لهم يدفع عنهم الله ، وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون من بين أظهرهم ، فالآية على هذا كقوله : قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم [ 9 \ 14 ] . الوجه الثالث : أن المراد بقوله : وهم يستغفرون كفار مكة ، وعليه فوجه الجميع أن الله تعالى يرد عنهم العذاب الدنيوي بسبب استغفارهم ، أما عذاب الآخرة فهو واقع بهم لا محالة فقوله : وما كان الله ليعذبهم ، أي في الدنيا في حالة استغفارهم ، وقوله : وما لهم ألا يعذبهم الله أي في الآخرة ، وقد كانوا كفارا في الدنيا . ونقل ابن جرير هذا القول عن ابن عباس . وعلى هذا القول فعمل الكافر ينفعه في الدنيا ، كما فسر به جماعة قوله تعالى : ووجد الله عنده فوفاه حسابه [ 24 \ 39 ] ، أي أثابه من عمله الطيب في الدنيا ، وهو صريح قوله تعالى : من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها الآية [ 11 15 ] ، وقوله تعالى أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة [ 9 ] ، [ ص: 295 ] وقوله : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا [ 25 \ 23 ] ونحو ذلك من الآيات يدل على بطلان عمل الكافر من أصله ، كما أوضحه تعالى بقوله : حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة [ 2 \ 217 ] ، فجعل كلتا الدارين ظرفا لبطلان أعمالهم واضمحلالها ، وسيأتي إن شاء الله تحقيق هذا المقام في سورة " هود " . الوجه الرابع : أن معنى قوله : وهم يستغفرون أي يسلمون ، أي : وما كان الله معذبهم ، وقد سبق في علمه أن منهم من يسلم ويستغفر الله من كفره ، وعلى هذا القول فقوله : وما لهم ألا يعذبهم الله ، في الذين سبقت لهم الشقاوة كأبي جهل وأصحابه الذين عذبوا بالقتل يوم بدر . ونقل ابن جرير معنى هذا القول عن عكرمة ومجاهد ، وأما ما رواه ابن جرير عن عكرمة والحسن البصري من أن قوله : وما لهم ألا يعذبهم الله ناسخ لقوله : وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون فبطلانه ظاهر ، لأن قوله تعالى : وما كان الله معذبهم الآية ، خبر من الله بعدم تعذيبه لهم في حالة استغفارهم ، والخبر لا يجوز نسخه شرعا بإجماع المسلمين ، وأظهر هذه الأقوال الأولان . منها قوله تعالى : إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين الآية [ 8 \ 65 ] . ظاهر هذه الآية أن الواحد من المسلمين يجب عليه مصابرة عشرة من الكفار ، وقد ذكر تعالى ما يدل على خلاف ذلك بقوله : فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين الآية [ 8 \ 66 ] . والجواب عن هذا ، أن الأول منسوخ بالثاني ، كما دل عليه قوله تعالى : الآن خفف الله عنكم الآية [ 8 \ 66 ] ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا . هذه الآية الكريمة تدل على أن من لم يهاجر لا ولاية بينه وبين المؤمنين حتى يهاجر ، وقد جاءت آية أخرى يفهم منها خلاف ذلك ، وهي قوله تعالى [ ص: 296 ] والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض [ 9 \ 71 ] . فإنها تدل على ثبوت الولاية بين المؤمنين وظاهرها العموم . والجواب من وجهين : الأول : أن الولاية المنفية في قوله : ما لكم من ولايتهم من شيء هي ولاية الميراث ، أي ما لكم شيء من ميراثهم حتى يهاجروا لأن المهاجرين والأنصار كانوا يتوارثون بالمؤاخاة التي جعلها النبي صلى الله عليه وسلم بينهم ، فمن مات من المهاجرين ورثه أخوه الأنصاري دون أخيه المؤمن ، الذي لم يهاجر ، حتى نسخ ذلك بقوله تعالى : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض الآية [ 8 ] . وهذا مروي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة ، كما نقله عنهم أبو حيان وابن جرير ، والولاية في قوله : والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ، ولاية النصر والمؤازرة والتعاون والتعاضد ، لأن المسلمين كالبنيان يشد بعضه بعضا ، وكالجسد الواحد إذا أصيب منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى . وهذه الولاية لم تقصد بالنفي في قوله : ما لكم من ولايتهم من شيء بدليل تصريحه تعالى بذلك في قوله بعده يليه : وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر الآية [ 8 ] ، فأثبت ولاية النصر بينهم بعد قوله : ما لكم من ولايتهم من شيء يدل على أن الولاية المنفية غير ولاية النصر ، فظهر أن الولاية المنفية غير المثبتة ، فارتفع الإشكال . الثاني : هو ما اقتصر عليه ابن كثير مستدلا عليه بحديث أخرجه الإمام أحمد ومسلم أن معنى قوله : ما لكم من ولايتهم من شيء يعني لا نصيب لكم في المغانم ولا في خمسها إلا فيما حضرتم فيه القتال ، وعليه فلا إشكال في الآية ، ولا مانع من تناول الآية للجميع ، فيكون المراد بها نفي الميراث بينهم ، ونفي القسم لهم في الغنائم والخمس . [ ص: 297 ] بسم الله الرحمن الرحيم سورة براءة قوله تعالى : فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم . اعلم أولا أن المراد بهذه الأشهر الحرم أشهر المهلة المنصوص عليها بقوله : فسيحوا في الأرض أربعة أشهر [ 9 ] ، لا الأشهر الحرم التي هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب على الصحيح ، وهو قول ابن عباس في رواية العوفي عنه . وبه قال مجاهد وعمرو بن شعيب ومحمد بن إسحاق وقتادة والسدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم واستظهر هذا القول ابن كثير لدلالة سياق القرآن عليه ، ولأقوال هؤلاء العلماء خلافا لابن جرير . وعليه فالآية تدل بعمومها على قتال الكفار في الأشهر الحرم المعروفة بعد انقضاء أشهر الإمهال الأربعة وقد جاءت آية أخرى تدل على عدم القتال فيها وهي قوله تعالى إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم [ 9 \ 36 ] . والجواب أن تحريم الأشهر الحرم منسوخ بعموم آيات السيف ومن يقول بعدم النسخ يقول : هو مخصص لها ، والظاهر أن الصحيح كونها منسوخة ، كما يدل عليه فعل النبي صلى الله عليه وسلم في حصار ثقيف في الشهر الحرام ، الذي هو ذو القعدة ، كما ثبت في الصحيحين أنه خرج إلى هوازن في شوال ، فلما كسرهم واستفاء أموالهم ورجع فلهم لجأوا إلى الطائف ، فعمد إلى الطائف فحاصرهم أربعين يوما وانصرف ولم يفتحها ، فثبت أنه حاصر في الشهر الحرام وهذا القول هو المشهور عند العلماء وعليه فقوله تعالى : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ناسخ لقوله منها أربعة حرم وقوله : لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام [ 5 ] ، وقوله : الشهر الحرام بالشهر الحرام الآية [ 2 \ 194 ] . [ ص: 298 ] والمنسوخ من هذه ومن قوله : أربعة حرم ، هو تحريم الشهر في الأولى والأشهر في الثانية فقط دون ما تضمنتاه من الخبر ، لأن الخبر لا يجوز نسخه شرعا . قوله تعالى : وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله - إلى قوله - سبحانه عما يشركون . هذه الآية فيها التنصيص الصريح على أن كفار أهل الكتاب مشركون بدليل قوله فيهم : سبحانه عما يشركون بعد أن بين وجوه شركهم ، بجعلهم الأولاد لله واتخاذهم الأحبار والرهبان أربابا من دون الله ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به [ 4 \ 48 ] ، لإجماع العلماء أن كفار أهل الكتاب داخلون فيها . وقد جاءت آيات أخر تدل بظاهرها على أن أهل الكتاب ليسوا من المشركين كقوله تعالى : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين الآية [ 98 ] ، وقوله : إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم الآية [ 98 \ 6 ] وقوله : ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم الآية [ 2 \ 105 ] ، والعطف يقتضي المغايرة . والذي يظهر لمقيده عفا الله عنه : أن وجه الجمع أن الشرك الأكبر المقتضي للخروج من الملة أنواع ، وأهل الكتاب متصفون ببعضها وغير متصفين ببعض آخر منها ، أما البعض الذي هم غير متصفين به فهو ما اتصف به كفار مكة من عبادة الأوثان صريحا ، ولذا عطفهم عليهم لاتصاف كفار مكة بما لم يصف به أهل الكتاب من عبادة الأوثان ، وهذه المغايرة هي التي سوغت العطف ، فلا ينافي أن يكون أهل الكتاب مشركين بنوع آخر من أنواع الشرك الأكبر ، وهو طاعة الشيطان والأحبار والرهبان ، فإن مطيع الشيطان إذا كان يعتقد أن ذلك صواب فهو عابد الشيطان مشرك بعبادة الشيطان الشرك الأكبر المخلد في النار ، كما بينته النصوص القرآنية كقوله : إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا [ 4 \ 117 ] ، فقوله : وإن يدعون إلا شيطانا . . . صح . . . معناه وما يعبدون إلا شيطانا لأن عبادتهم للشيطان طاعتهم له فيما حرمه الله عليهم ، وقوله تعالى : ألم أعهد إليكم يابني آدم أن لا تعبدوا الشيطان الآية [ 36 \ 60 ] . ![]()
__________________
|
#626
|
||||
|
||||
![]() ![]() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد التاسع الحلقة (624) بيان الناسخ والمنسوخ صـ 299 إلى صـ 312 وقوله تعالى عن خليله إبراهيم : ياأبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا [ ص: 299 ] [ 19 \ 44 ] ، وقوله تعالى : بل كانوا يعبدون الجن الآية [ 34 \ 41 ] . وقوله تعالى : وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم الآية [ 6 137 ] ، فكل هذا الكفر بشرك الطاعة في معصية الله تعالى ، ولما أوحى الشيطان إلى كفار مكة أن يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الشاة تصبح ميتة من قتلها وأنه إذا قال صلى الله عليه وسلم الله قتلها أن يقولوا : ما قتلتموه بأيديكم حلال وما قتله الله حرام فأنتم إذا أحسن من الله ، أنزل الله في ذلك قوله تعالى : وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون [ 6 \ 121 ] ، فأقسم تعالى في هذه الآية على أن من أطاع الشيطان في معصية الله أنه مشرك بالله ، ولما سأل عدي بن حاتم النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا [ 9 \ 31 ] ، كيف اتخذوهم أربابا ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم : ألم يحلوا لهم ما حرم الله ويحرموا عليهم ما أحل الله فاتبعوهم ؟ ، قال : بلى ، قال : بذلك اتخذوهم أربابا ، فبان أن أهل الكتاب مشركون من هذا الوجه الشرك الأكبر ، وإن كانوا كفار مكة في صريح عبادة الأوثان ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : انفروا خفافا وثقالا الآية . هذه الآية الكريمة تدل على لزوم الخروج للجهاد في سبيل الله على كل حال ، وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك ، كقوله : ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج الآية [ 9 \ 19 ] ، وقوله تعالى : وما كان المؤمنون لينفروا كافة [ 9 \ 122 ] . والجواب أن آية : انفروا خفافا وثقالا منسوخة بآيات العذر المذكورة ، وهذا الموضع من أمثلة ما نسخ فيه الناسخ لأن قوله : انفروا خفافا وثقالا ناسخ لآيات الإعراض عن المشركين وهو منسوخ بآيات العذر ، كما ذكرنا آنفا ، والعلم عند الله تعالى . [ ص: 300 ] بسم الله الرحمن الرحيم سورة يونس قوله تعالى : ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله الآية . هذه الآية الكريمة تدل على أنهم يرجون شفاعة أصنامهم يوم القيامة وقد جاء في آيات أخر ما يدل على إنكارهم لأصل يوم القيامة كقوله تعالى : وما نحن بمبعوثين [ 6 \ 29 ] ، وقوله : وما نحن بمنشرين [ 44 \ 35 ] ، وقوله : من يحيي العظام وهي رميم [ 36 \ 78 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . والجواب أنهم يرجون شفاعتها في الدنيا لإصلاح معاشهم وفي الآخرة على تقدير وجودها لأنهم شاكون فيها ، نص على هذا ابن كثير في سورة " الأنعام " في تفسير قوله : وما نرى معكم شفعاءكم الآية [ 6 \ 94 ] ، ويدل له قوله تعالى عن الكافر : ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى [ 41 \ 50 ] ، وقوله : ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا [ 18 \ 36 ] ، لأن إن الشرطية تدل على الشك في حصول الشرط ، ويدل له قوله : وما أظن الساعة قائمة [ 18 \ 36 ] ، في الآيتين المذكورتين . قوله تعالى : ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم . نص الله تعالى في هذه الآية ، على أن هذا دعاء موسى ولم يذكر معه أحدا ثم قال : قد أجيبت دعوتكما فاستقيما . والجواب : أن موسى لما دعا أمن هارون على دعائه والمؤمن أحد الداعين ، وهذا الجمع مروي عن أبي العالية وأبي صالح وعكرمة ومحمد بن كعب القرظي والربيع بن أنس ، قاله ابن كثير ، وبهذه الآية استدل بعض العلماء على أن قراءة الإمام تكفي المأموم إذا أمن له على قراءته ، لأن تأمينه بمنزلة قراءته . [ ص: 301 ] بسم الله الرحمن الرحيم سورة هود قوله تعالى : من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون . هذه الآية الكريمة فيها التصريح بأن الكافر يجازى بحسناته كالصدقة وصلة الرحم وقرى الضيف والتنفيس عن المكروب في الدنيا دون الآخرة ، لأنه تعالى قال : نوف إليهم أعمالهم فيها يعني الحياة الدنيا ؛ ثم نص على بطلانها في الآخرة بقوله : أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها الآية [ 11 \ 16 ] . ونظير هذه الآية قوله تعالى : من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها الآية [ 42 \ 20 ] ، وقوله تعالى : ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا الآية [ 46 \ 20 ] . وعلى ما قاله ابن زيد وقوله : ووجد الله عنده فوفاه حسابه [ 24 \ 39 ] ، على أحد القولين ، وقوله : وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون [ 8 \ 33 ] ، على أحد الأقوال الماضية في سورة " الأنفال " وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أن الكافر يجازى بحسناته في الدنيا مع أنه جاءت آيات أخر تدل على بطلان عمل الكافر واضمحلاله من أصله ، وفي بعضها التصريح ببطلانه في الدنيا مع الآخرة في كفر الردة وفي غيره . أما الآيات الدالة على بطلانه من أصله فكقوله : أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف [ 14 \ 18 ] ، وكقوله : أعمالهم كسراب الآية [ 24 \ 39 ] ، وقوله : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا [ 25 \ 23 ] . وأما الآيات الدالة على بطلانه في الدنيا مع الآخرة فكقوله في كفر المرتد : ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة [ ص: 302 ] [ 2 \ 217 ] ، وكقوله في كفر غير المرتد : إن الذين يكفرون بآيات الله - إلى قوله أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين [ 3 \ 22 ] ، وبين الله تعالى في آيات أخر أن الإنعام عليهم في الدنيا ليس للإكرام بل للاستدراج والإهلاك . كقوله تعالى : سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين [ 7 \ 182 - 183 ] ، وكقوله تعالى : ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين [ 3 \ 178 ] وكقوله تعالى : فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون [ 6 \ 44 ] ، وقوله تعالى : أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون [ 23 - 56 ] ، وقوله : قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا [ 19 ] ، وقوله : ولولا أن يكون الناس أمة واحدة - إلى قوله - والآخرة عند ربك للمتقين [ 43 33 - 35 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . والجواب من أربعة أوجه : الأول : ويظهر لي صوابه لدلالة ظاهر القرآن عليه ، أن من الكفار من يثيبه الله بعمله في الدنيا كما دلت عليه آيات وصح به الحديث ، ومنهم من لا يثيبه في الدنيا كما دلت عليه آيات أخر ، وهذا مشاهد فيهم في الدنيا . فمنهم من هو في عيش رغد ، ومنهم من هو في بؤس وضيق . ووجه دلالة القرآن على هذا أنه تعالى أشار إليه بالتخصيص بالمشيئة في قوله : من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد [ 17 \ 18 ] . فهي مخصصة لعموم قوله تعالى : نوف إليهم أعمالهم [ 11 \ 15 ] ، وعموم قوله تعالى : ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها [ 42 \ 20 ] . وممن صرح بأنها مخصصة لهما الحافظ ابن حجر في فتح الباري في كتاب الرقاق في الكلام على قول البخاري : " باب المكثرون هم المقلون " ، وقوله تعالى : [ ص: 303 ] من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها الآيتين . ويدل لهذا التخصيص قوله في بعض الكفار : خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين [ 22 \ 11 ] . وجمهور العلماء على حمل العام على الخاص والمطلق على المقيد ، كما تقرر في الأصول . الثاني : وهو وجيه أيضا ، أن الكافر يثاب عن عمله بالصحة وسعة الرزق والأولاد ونحو ذلك كما صرح به تعالى في قوله : نوف إليهم أعمالهم فيها يعني الدنيا ، وأكد ذلك بقوله : وهم فيها لا يبخسون وبظاهرها المتبادر منها كما ذكرنا . فسرها ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة والضحاك كما نقله عنهم ابن جرير ، وعلى هذا فبطلان أعمالهم في الدنيا بمعنى أنها لم يعتد بها شرعا في عصمة دم ولا ميراث ولا نكاح ولا غير ذلك ، ولا تفتح لها أبواب السماء ، ولا تصعد إلى الله تعالى بدليل قوله : إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه [ 35 \ 10 ] ، ولا تدخر لهم في الأعمال النافعة ولا تكون في كتاب الأبرار في عليين ، وكفى بهذا بطلانا . أما مطلق النفع الدنيوي بها فهو عند الله كلا شيء ، فلا ينافي بطلانها بدليل قوله : وما الحياة الدنيا إلا متاع [ 3 \ 185 ] . وقوله : وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون [ 29 \ 64 ] . وقوله : ولولا أن يكون الناس أمة واحدة - إلى قوله - للمتقين [ 43 33 - 35 ] ، والآيات في مثل هذا كثيرة . ومما يوضح هذا المعنى حديث : لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء . ذكر ابن كثير هذا الحديث في تفسير قوله تعالى : ولولا أن يكون الناس أمة الآيات . [ ص: 304 ] ثم قال : أسنده البغوي من رواية زكريا بن منظور عن أبي حازم عن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره . ورواه الطبراني من طريق زمعة بن صالح عن أبي حازم عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم : لو عدلت الدنيا عند الله جناح بعوضة ما أعطى كافرا منها شيئا . قال مقيده عفا الله عنه : لا يخفى أن مراد الحافظ ابن كثير رحمه الله بما ذكرناه عنه أن كلتا الطريقتين ضعيفة إلا أن كل واحدة منهما تعتضد بالأخرى فيصلح المجموع للاحتجاج كما تقرر في علم الحديث من أن الطرق الضعيفة المعتبر بها يشد بعضها بعضا فتصلح للاحتجاج . لا تخاصم بواحد أهل بيت فضعيفان يغلبان قويا لأن زكريا بن منظور بن ثعلبة القرظي وزمعة بن صالح الجندي كلاهما ضعيف ، وإنما روى مسلم عن زمعة مقرونا بغيره لا مستقلا بالرواية كما بينه الحافظ ابن حجر في التقريب . الثالث : أن معنى نوف إليهم أعمالهم أي نعطيهم الغرض الذي عملوا من أجله في الدنيا ، كالذي قاتل ليقال جريء ، والذي قرأ ليقال قارئ ، والذي تصدق ليقال جواد ، فقد قيل لهم ذلك ، وهو المراد بتوفيتهم أعمالهم على هذا الوجه . ويدل له الحديث الذي رواه أبو هريرة مرفوعا في المجاهد والقارئ والمتصدق أنه يقال لكل واحد منهم : إنما عملت ليقال ، فقد قيل ، أخرجه الترمذي مطولا وأصله عند مسلم كما قاله ابن حجر ورواه أيضا ابن جرير ، وقد استشهد معاوية رضي الله عنه لصحة حديث أبي هريرة هذا بقوله تعالى : نوف إليهم أعمالهم فيها وهو تفسير منه رضي الله عنه لهذه الآية بما يدل لهذا الوجه الثالث . الرابع : أن المراد بالآية المنافقون الذين يخرجون للجهاد لا يريدون وجه الله ، وإنما يريدون الغنائم فإنهم يقسم لهم فيها في الدنيا ولا حظ لهم من جهادهم في الآخرة ، والقسم لهم منها هو توفيتهم أعمالهم على هذا القول ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق الآية . [ ص: 305 ] هذه الآية الكريمة تدل على أن هذا الابن من أهل نوح عليه السلام ، وقد ذكر تعالى ما يدل على خلاف ذلك حيث قال : يانوح إنه ليس من أهلك [ 11 \ 46 ] . والجواب أن معنى قوله : ليس من أهلك أي الموعود بنجاتهم في قوله : إنا منجوك وأهلك [ 29 \ 33 ] ، لأنه كافر لا مؤمن . وقول نوح : إن ابني من أهلي يظنه مسلما من جملة المسلمين الناجين كما يشير إليه قوله تعالى : فلا تسألني ما ليس لك به علم [ 11 \ 46 ] ، وقد شهد الله أنه ابنه حيث قال : ونادى نوح ابنه [ 11 \ 42 ] ، إلا أنه أخبره بأن هذا الابن عمل غير صالح لكفره ، فليس من الأهل الموعود بنجاتهم وإن كان من جملة الأهل نسبا . قوله تعالى : ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام . هذه الآية الكريمة تدل على أن إبراهيم رد السلام على الملائكة ، وقد جاء في سورة " الحجر " ما يوهم أنهم لما سلموا عليه أجابهم بأنه وجل منهم من غير رد السلام وذلك قوله تعالى : فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون [ 15 \ 52 ] . والجواب ظاهر وهو أن إبراهيم أجابهم بكلا الأمرين : رد السلام ، والإخبار بوجله منهم ، فذكر أحدهما في " هود " والآخر في " الحجر " ، ويدل لذلك ذكره تعالى ما يدل عليهما معا في سورة " الذاريات " في قوله : فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون [ 51 \ 25 ] ، لأن قوله : منكرون يدل على وجله منهم ، ويوضح ذلك قوله تعالى : فأوجس منهم خيفة [ 51 \ 28 ] ، في " هود " و " الذاريات " ، مع أن في كل منهما قال : " " سلام " . قوله تعالى : خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض الآية . تقدم وجه الجمع بينه وبين الآيات التي يظن تعارضها معه كقوله تعالى : خالدين فيها أبدا [ 4 \ 57 ] ، في سورة " الأنعام " ، وسيأتي له إن شاء الله زيادة إيضاح في سورة " النبأ " . قوله تعالى : ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم . اختلف العلماء في المشار إليه بقوله : " ذلك " فقيل : إلا من رحم ربك ، [ ص: 306 ] وللرحمة " خلقهم " ، والتحقيق أن المشار إليه هو اختلافهم إلى شقي وسعيد المذكور في قوله : ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك الاختلاف خلقهم فخلق فريقا للجنة وفريقا للسعير ، كما نص عليه بقوله تعالى : ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس الآية [ 7 \ 179 ] ، وأخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث ابن مسعود رضي الله عنه : ثم يبعث الله إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات : فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد ، وروى مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها : يا عائشة ! إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلا ، وهم في أصلاب آبائهم ، وخلق النار وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم . وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله قدر مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، وكان عرشه على الماء . وفي الصحيحين من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : كل ميسر لما خلق له . وإذا تقرر أن قوله تعالى : ولذلك خلقهم معناه أنه خلقهم لسعادة بعض وشقاوة بعض ، كما قال : ولقد ذرأنا لجهنم الآية وقال : هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن [ 64 \ 2 ] فلا يخفى ظهور التعارض بين هذه الآيات مع قوله تعالى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [ 51 \ 56 ] . والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه : الأول : ونقله ابن جرير عن زيد بن أسلم وسفيان أن معنى الآية : إلا ليعبدون أي يعبدني السعداء منهم ويعصيني الأشقياء ، فالحكمة المقصودة من إيجاد الخلق التي هي عبادة الله حاصلة بفعل السعداء منهم ، كما أشار له قوله تعالى : فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين [ 6 \ 89 ] . وغاية ما يلزم على هذا القول أنه أطلق المجموع وأراد بعضهم ، وقد بينا أمثال ذلك من الآيات التي أطلق فيها المجموع مرادا بعضه في سورة " الأنفال " . [ ص: 307 ] الوجه الثاني : هو ما رواه ابن جرير عن ابن عباس واختاره ابن جرير أن معنى قوله : إلا ليعبدون أي إلا ليقروا إلي بالعبودية طوعا أو كرها ، لأن المؤمن يطيع باختياره ، والكافر مذعن منقاد لقضاء ربه جبرا عليه . الوجه الثالث : ويظهر لي أنه هو الحق ، لدلالة القرآن عليه ، أن الإرادة في قوله : ولذلك خلقهم إرادة كونية قدرية ، والإرادة في قوله : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون إرادة شرعية دينية ، فبين في قوله : ولذلك خلقهم وقوله : ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس أنه أراد بإرادته الكونية القدرية صيرورة قوم إلى السعادة ، وآخرين إلى الشقاوة . وبين بقوله : إلا ليعبدون أنه يريد العبادة بإرادته الشرعية الدينية من الجن والإنس ، فيوفق من شاء بإرادته الكونية فيعبده ويخذل من شاء فيمتنع من العبادة . ووجه دلالة القرآن على هذا أنه تعالى بينه بقوله : وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله [ 4 \ 64 ] ، فعمم الإرادة الشرعية بقوله : إلا ليطاع وبين التخصيص في الطاعة بالإرادة الكونية ، بقوله : بإذن الله فالدعوة عامة والتوفيق خاص . وتحقيق النسبة بين الإرادة الكونية والقدرية والإرادة الشرعية الدينية أنه بالنسبة إلى وجود المراد وعدم وجوده ، فالإرادة الكونية أعم مطلقا ، لأن كل مراد شرعا يتحقق وجوده في الخارج إذا أريد كونا وقدرا ، كإيمان أبي بكر ، وليس يوجد ما لم يرد كونا وقدرا ولو أريد شرعا كإيمان أبي لهب ، فكل مراد شرعي حصل فبالإرادة الكونية وليس كل مراد كوني حصل مرادا في الشرع . وأما بالنسبة إلى تعلق الإرادتين بعبادة الإنس والجن لله تعالى ، فالإرادة الشرعية أعم مطلقا والإرادة الكونية أخص مطلقا ، لأن كل فرد من أفراد الجن والإنس أراد الله منه العبادة شرعا ولم يردها من كلهم كونا وقدرا ، فتعم الإرادة الشرعية عبادة جميع الثقلين ، وتختص الإرادة الكونية بعبادة السعداء منهم كما قدمنا من أن الدعوة عامة والتوفيق خاص ، كما بينه تعالى بقوله : والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم [ 10 \ 25 ] ، فصرح بأنه يدعو الكل ويهدي من شاء منهم . وليست بالنسبة بين الإرادة الشرعية والقدرية العموم والخصوص من وجه بل هي [ ص: 308 ] العموم والخصوص المطلق ، كما بينا إلا أن إحداهما أعم مطلقا من الأخرى باعتبار ، والثانية أعم مطلقا باعتبار آخر ، كما بينا ، والعلم عند الله تعالى . بسم الله الرحمن الرحيم سورة يوسف قوله تعالى : وجاء بكم من البدو الآية . هذه الآية يدل ظاهرها على أن بعض الأنبياء ربما بعث من البادية ، وقد جاء في موضع آخر ما يدل على خلاف ذلك وهو قوله تعالى : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى [ 12 \ 109 ] . وأجيب عن هذا بأجوبة : منها أن يعقوب نبئ من الحضر ، ثم انتقل بعد ذلك إلى البادية . ومنها أن المراد بالبدو نزول موضع اسمه بدا ، هو المذكور في قول جميل أو كثير : وأنت الذي حببت شغبا إلى بدا إلي وأوطاني بلاد سواهما حللت بهذا مرة ثم مرة وهذا القول مروي عن ابن عباس ، ولا يخفى بعد هذا القول كما نبه عليه الألوسي في تفسيره . بهذا فطاب الواديان كلاهما ومنها أن البدو الذي جاءوا منه مستند للحضر ، فهو في حكمه ، والله تعالى أعلم . [ ص: 310 ] بسم الله الرحمن الرحيم سورة الرعد قوله تعالى : إنما أنت منذر ولكل قوم هاد . هذه الآية الكريمة فيها التصريح بأن لكل قوم هاديا ، وقد جاء في آيات أخر ما يدل على أن بعض الأقوام لم يكن لهم هاد ، سواء فسرنا الهدى بمعناه الخاص أو بمعناه العام ، فمن الآيات الدالة على أن بعض الناس لم يكن لهم هاد بالمعنى الخاص ، قوله تعالى : وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك [ 6 \ 116 ] ، فهؤلاء المضلون لم يهدهم هاد الهدى الخاص ، الذي هو التوفيق ، لما يرضي الله ، ونظيرها قوله تعالى : ولكن أكثر الناس لا يؤمنون [ 11 \ 17 ] ، وقوله : وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين [ 12 \ 103 ] ، وقوله : إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين [ 26 \ 8 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . ومن الآيات الدالة على أن بعض الأقوام لم يكن لهم هاد بالمعنى العام ، الذي هو إبانة الطريق ، قوله تعالى : لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم [ 36 \ 6 ] ، بناء على التحقيق من أن " ما " نافية لا موصولة وقوله تعالى : ياأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل الآية [ 5 \ 19 ] . فالذين ماتوا في هذا الفترة ، لم يكن لهم هاد بالمعنى الأعم أيضا . والجواب عن هذا من أربعة أوجه : الأول : أن معنى قوله : ولكل قوم هاد أي داع يدعوهم ويرشدهم إما إلى خير كالأنبياء ، وإما إلى شر كالشياطين ، أي وأنت يا رسول الله منذر هاد إلى كل خير ، وهذا القول مروي عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة ، وقد جاء في القرآن استعمال الهدى في الإرشاد إلى الشر أيضا كقوله تعالى : كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير [ ص: 311 ] [ 22 \ 4 ] ، وقوله تعالى : فاهدوهم إلى صراط الجحيم [ 37 \ 23 ] ، وقوله تعالى : ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم [ 4 \ 168 ] ، كما جاء في القرآن أيضا إطلاق الإمام على الداعي إلى الشر في قوله : وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار الآية [ 28 \ 41 ] . الثاني : أن معنى الآية ، أنت يا محمد - صلى الله عليه وسلم - منذر ، وأنا هادي كل قوم ، ويروى هذا عن ابن عباس من طريق العوفي وعن محمد وسعيد بن جبير والضحاك وغير واحد ، قاله ابن كثير . وعلى هذا القول فقوله : ولكل قوم هاد يعني به نفسه جل وعلا ، ونظيره في القرآن قوله تعالى : ولا ينبئك مثل خبير [ 35 \ 14 ] ، يعني نفسه ، كما قاله قتادة ، ونظيره من كلام العرب قول قتادة بن سلمة الحنفي : ولئن بقيت لأرحلن بغزوة تحوي الغنائم أو يموت كريم يعني نفسه . وسيأتي تحرير هذا المبحث إن شاء الله في سورة " القارعة " ، وتحرير المعنى على هذا القول : أنت يا محمد منذر وأنا هادي كل قوم سبقت لهم السعادة والهدى في علمي ، لدلالة آيات كثيرة على أنه تعالى هدى قوما وأضل آخرين ، على وفق ما سبق به العلم الأزلي ، كقوله تعالى : إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل [ 16 \ 37 ] . الثالث : أن معنى ولكل قوم هاد أي قائد ، والقائد الإمام ، والإمام العمل ، قاله أبو العالية ، كما نقله عنه ابن كثير . وعلى هذا القول فالمعنى : ولكل قوم عمل يهديهم إلى ما هم صائرون إليه من خير وشر ، ويدل لمعنى هذا الوجه قوله تعالى : " هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت " [ 10 \ 30 ] ، على قراءة من قرأها بتائين بمعنى تتبع كل نفس ما أسلفت من خير وشر . وأما على القول بأن معنى : " تتلو " ، تقرأ في كتاب عملها ما قدمت من خير وشر [ ص: 312 ] فلا دليل في الآية . ويدل له أيضا حديث : لتتبع كل أمة ما كانت تعبد ، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس ، ويتبع من كان يعبد القمر القمر ، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت الحديث . الرابع : وبه قال مجاهد وقتادة وعبد الرحمن بن زيد : إن المراد بالقوم الأمة والمراد بالهادي النبي ، فيكون معنى قوله : ولكل قوم هاد أي ولكل أمة نبي ، كقوله تعالى : وإن من أمة إلا خلا فيها نذير [ 35 \ 24 ] ، وقوله : ولكل أمة رسول [ 10 \ 47 ] . وكثيرا ما يطلق في القرآن اسم القوم على الأمة ، كقوله : ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه [ 11 \ 25 ] ، وقوله : وإلى عاد أخاهم هودا قال ياقوم [ 7 \ 65 ] ، وقوله : وإلى ثمود أخاهم صالحا قال ياقوم [ 7 \ 73 ] ، ونحو ذلك . وعلى هذا القول فالمراد بالقوم في قوله : ولكل قوم هاد أعم من مطلق ما يصدق عليه اسم القوم لغة ، ومما يوضح ذلك حديث معاوية بن حيدة القشيري رضي الله عنه في السنن والمسانيد : أنتم توفون سبعين أمة الحديث . ومعلوم أن ما يطلق عليه اسم القوم لغة أكثر من سبعين بأضعاف ، وحاصل هذا الوجه الرابع أن الآية كقوله : وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ، وقوله : ولكل أمة رسول ، وهذا لا إشكال فيه لحصر الأمم في سبعين ، كما بين في الحديث ، فآباء القوم الذين لم ينذروا مثلا المذكورون في قوله : لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم [ 36 \ 6 ] ، ليسوا أمة مستقلة حتى يرد الإشكال في عدم إنذارهم ، مع قوله : وإن من أمة إلا خلا فيها نذير بل هم بعض أمة ، وقوله تعالى : وإن من أمة إلا خلا فيها نذير لا يشكل عليه قوله تعالى : ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا [ 25 \ 51 ] ، لأن المعنى أرسلنا إلى جميع القرى ، بل إلى الأسود والأحمر رسولا واحدا ، هو محمد صلى الله عليه وسلم ، مع أنا لو شئنا أرسلنا إلى كل قرية بانفرادها رسولا ، ولكن لم نفعل ذلك ليكون الإرسال إلى الناس كلهم فيه الإظهار لفضله صلى الله عليه وسلم على غيره من الرسل ، بإعطائه ما لم يعطه أحد قبله من الرسل عليه وعليهم الصلاة والسلام . كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح من أن عموم رسالته إلى الأسود والأحمر ، مما خصه الله به دون غيره من الرسل . ![]()
__________________
|
#627
|
||||
|
||||
![]() ![]() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد التاسع الحلقة (625) بيان الناسخ والمنسوخ صـ 313 إلى صـ 326 [ ص: 313 ] وأقرب الأوجه المذكورة عندنا ، هو ما يدل عليه القرآن العظيم وهو الوجه الرابع ، وهو أن معنى الآية : ولكل قوم هاد ، أي لكل أمة نبي ، فلست يا نبي الله بدعا من الرسل . ووجه دلالة القرآن على هذا كثرة إتيان مثله في الآيات ، كقوله : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت [ 16 \ 36 ] ، وقوله : ولكل أمة رسول وقوله : وإن من أمة إلا خلا فيها نذير وعليه فالحكمة في الإخبار بأن لكل أمة نبيا أن المشركين عجبوا من إرساله صلى الله عليه وسلم إليهم ، كما بينه تعالى بقوله : أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس [ 10 \ 2 ] ، وقوله : بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم [ 50 \ 2 ] ، وقوله : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا فأخبرهم أن إنذاره لهم ليس بعجب ولا غريب لأن لكل أمة منذرا ، فالآية كقوله : قل ما كنت بدعا من الرسل [ 46 \ 9 ] ، وقوله : إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده [ 4 \ 163 ] ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك الآية . هذه الآية الكريمة تدل بظاهرها على إيمان أهل الكتاب ، لأن الفرح بما أنزل على النبي دليل الإيمان . ونظيرها قوله تعالى : الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته [ 2 \ 121 ] ، وقوله : قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله الآية [ 17 \ 107 ] . وقد جاءت آيات تدل على خلاف ذلك كقوله : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين - إلى أن قال - إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم [ 98 \ 1 - 6 ] ، وبين في موضع آخر أن الكافرين من أهل الكتاب أكثر ، وهو قوله : ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون [ 3 \ 110 ] . والجواب أن الآية من العام المخصوص ، فهي في خصوص المؤمنين من أهل الكتاب ، كعبد الله بن سلام ومن أسلم من اليهود وكالثمانين الذين أسلموا من النصارى [ ص: 314 ] المشهورين ، كما قاله الماوردي وغيره ، وهو ظاهر ، ويدل عليه التبعيض في قوله تعالى وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله الآية [ 3 \ 199 ] . [ ص: 315 ] بسم الله الرحمن الرحيم سورة إبراهيم قوله تعالى : ويأتيه الموت من كل مكان الآية . يفهم من ظاهره موت الكافر في النار ، وقوله : وما هو بميت [ 14 \ 17 ] ، يصرح بنفي ذلك . والجواب أن معنى : ويأتيه الموت أي أسبابه المقتضية له عادة ، إلا أن الله يمسك روحه في بدنه مع وجود ما يقتضي موته عادة ، وأوضح هذا المعنى بعض المتأخرين ممن لا حجة في قوله بقوله : لقد قتلتك بالهجاء فلم تمت إن الكلاب طويلة الأعمار قوله تعالى : يوم تبدل الأرض غير الأرض الآية . هذه الآية الكريمة فيها التصريح بتبديل الأرض يوم القيامة ، وقد جاء في آية أخرى ما يتوهم منه أنها تبقى ولا تتغير ، وهي قوله تعالى : إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا [ 18 \ 7 - 8 ] ، فإنه تعالى في هذه الآية صرح بأنه جعل ما على الأرض زينة لها لابتلاء الخلق ، ثم بين أنه يجعل ما على الأرض صعيدا جرزا ، ولم يذكر أنه يغير نفس الأرض ، فيتوهم منه أن التغيير حاصل في ما عليها دون نفسها . والجواب هو أن حكمة ذكر ما عليها دونها ، لأن ما على الأرض من الزينة والزخارف ومتاع الدنيا ، هو سبب الفتنة والطغيان ، ومعصية الله تعالى . فالإخبار عنه بأنه فان زائل فيه أكبر واعظ وأعظم زاجر ، عن الافتتان به ، ولهذه الحكمة خص بالذكر ، فلا ينافي تبديل الأرض المصرح به في الآية الأخرى ، كما هو [ ص: 316 ] ظاهر ، مع أن مفهوم قوله : ما عليها مفهوم لقب لأن الموصول الذي هو واقع على جميع الأجناس الكائنة على الأرض زينة لها ، ومفهوم اللقب لا يعتبر عند الجمهور ، وإذا كان لا اعتبار به لم تظهر منافاة أصلا ، والعلم عند الله تعالى . [ ص: 317 ] بسم الله الرحمن الرحيم سورة الحجر قوله تعالى : ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون . ظاهر هذه الآية أن آدم خلق من صلصال ، أي طين يابس . وقد جاء في آيات أخر ما يدل على خلاف ذلك ، كقوله تعالى : من طين لازب [ 37 \ 11 ] وكقوله : كمثل آدم خلقه من تراب [ 3 \ 59 ] . والجواب أنه ذكر أطوار ذلك التراب ، فذكر طوره الأول بقوله : من تراب ، ثم بل فصار طينا لازبا ، ثم خمر فصار حمأ مسنونا ، ثم يبس فصار صلصالا كالفخار . وهذا واضح ، والعلم عند الله تعالى . [ ص: 318 ] بسم الله الرحمن الرحيم سورة النحل قوله تعالى : ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم الآية . هذه الآية الكريمة تدل على أن هؤلاء الضالين يحملون أوزارهم كاملة ، ويحملون أيضا من أوزار الأتباع الذين أضلوهم . وقد جاءت آيات أخر تدل على أنه لا يحمل أحد وزر غيره ، كقوله تعالى : وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى [ 35 \ 18 ] ، وقوله تعالى : ولا تزر وازرة وزر أخرى [ 6 \ 164 ] . والجواب أن هؤلاء الضالين ما حملوا إلا أوزار أنفسهم ، لأنهم تحملوا وزر الضلال ووزر الإضلال . فمن سن سنة سيئة فعليه وزرها ، ووزر من عمل بها ، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا ، لأن تشريعه لها لغيره ذنب من ذنوبه فأخذ به . وبهذا يزول الإشكال أيضا في قوله تعالى : وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم الآية [ 29 \ 13 ] . قوله تعالى : ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا . هذه الآية الكريمة يفهم منها أن السكر المتخذ من ثمرات النخيل والأعناب لا بأس به ، لأن الله امتن به على عباده في سورة الامتنان التي هي سورة " النحل " . وقد حرم الله تعالى الخمر بقوله : رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون الآية [ 5 \ 90 ] ، لأنه وصفها بأنها رجس ، وأنها من عمل الشيطان وأمر [ ص: 319 ] باجتنابها ورتب عليه رجاء الفلاح ، ويفهم منه أن من لم يجتنبها لم يفلح ، وهو كذلك ، وقد بين صلى الله عليه وسلم أن كل ما خامر العقل فهو خمر ، وأن كل مسكر حرام ، وأن ما أسكر كثيره فقليله حرام . والجواب ظاهر ، وهو أن آية تحريم الخمر ناسخة لقوله : تتخذون منه سكرا الآية ، ونسخها له هو التحقيق خلافا لما يزعمه كثير من الأصوليين أن تحريم الخمر ليس نسخا لإباحتها الأولى ، لأن إباحتها الأولى إباحة عقلية وهي المعروفة عند الأصوليين بالبراءة الأصولية ، وتسمى استصحاب العدم الأصلي . والإباحة العقلية ليست من الأحكام الشرعية حتى يكون رفعها نسخا ، ولو كان رفعها نسخا لكان كل تكليف في الشرع ناسخا للبراءة الأصلية من التكليف به وإلى كون الإباحة العقلية ليست من الأحكام الشرعية ، أشار في مراقي السعود بقوله : وما من الإباحة العقلية قد أخذت فليست الشرعية كما أشار إلى أن تحريم الخمر ليس نسخا لإباحتها ، لأنها إباحة عقلية ، وليست من الأحكام الشرعية حتى يكون رفعها نسخا بقوله : أباحها في أول الإسلام براءة ليست من الأحكام وإنما قلنا : إن التحقيق هو كون تحريم الخمر ناسخا لإباحتها ، لأن قوله تتخذون منه سكرا يدل على إباحة الخمر شرعا ، فرفع هذه الإباحة المدلول عليها بالقرآن رفع حكم شرعي فهو نسخ بلا شك ولا يمكن أن تكون إباحتها عقلية إلا قبل نزول هذه الآية كما هو ظاهر . ومعلوم عند العلماء أن الخمر نزلت في شأنها أربع آيات من كتاب الله : الأولى : هذه الآية الدالة على إباحتها . الثانية : الآية التي ذكر فيها بعض معائبها ، وأن فيها منافع وصرحت بأن إثمها أكبر من نفعها ، وهي قوله تعالى : قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما [ 2 \ 219 ] ، فشربها بعد نزولها قوم للمنافع المذكورة وتركها آخرون للإثم الذي هو أكبر من المنافع . [ ص: 320 ] الثالثة : الآية التي دلت على تحريمها في أوقات الصلاة دون غيرها ، وهي قوله : ياأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون الآية [ 4 \ 43 ] . الرابعة : الآية التي حرمتها تحريما باتا مطلقا وهي قوله تعالى ياأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر - إلى قوله - فهل أنتم منتهون [ 5 \ 90 - 91 ] ، والعلم عند الله تعالى . وأما على قول من زعم أن السكر الطعم ، كما اختاره ابن جرير وأبو عبيدة أو أنه الخل ، فلا إشكال في الآية . قوله تعالى : إنما سلطانه على الذين يتولونه الآية . هذه الآية الكريمة فيها التصريح بأن الشيطان له سلطان على أوليائه ، ونظيرها الاستثناء في قوله تعالى إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين [ 15 \ 42 ] . وقد جاء في بعض الآيات ما يدل على نفي سلطانه عليهم ، كقوله تعالى : ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين وما كان له عليهم من سلطان الآية [ 34 \ 20 - 21 ] . وقوله تعالى حاكيا عنه مقررا له : وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان الآية [ 14 \ 22 ] . والجواب هو أن السلطان الذي أثبته له عليهم غير السلطان الذي نفاه ، وذلك من وجهين : الأول : أن السلطان المثبت له هو سلطان إضلاله لهم بتزيينه ، والسلطان المنفي هو سلطان الحجة فلم يكن لإبليس عليهم من حجة يتسلط بها غير أنه دعاهم فأجابوه بلا حجة ولا برهان ، وإطلاق السلطان على البرهان كثير في القرآن . الثاني : أن الله لم يجعل له عليهم سلطانا ابتداء البتة ، ولكنهم هم الذين سلطوه على أنفسهم بطاعته ودخولهم في حزبه ، فلم يتسلط عليهم بقوة لأن الله يقول : إن كيد الشيطان كان ضعيفا [ ص: 321 ] الآية [ 4 \ 76 ] ، وإنما تسلط عليهم بإرادتهم واختيارهم ، ذكر هذا الجواب بوجهيه ابن القيم . قوله تعالى : إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون . هذه الآية الكريمة تدل بظاهرها على أن معية الله خاصة بالمتقين المحسنين . وقد جاء في آيات أخر ما يدل على عمومها وهي قوله : ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم [ 58 \ 7 ] . وقوله : وهو معكم أين ما كنتم [ 57 \ 4 ] . وقوله : فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين [ 7 \ 7 ] . وقوله : وما تكون في شأن الآية [ 10 \ 61 ] . والجواب أن لله معية خاصة ومعية عامة ، فالمعية الخاصة بالنصر والتوفيق والإعانة ، وهذه لخصوص المتقين المحسنين ، كقوله تعالى : إن الله مع الذين اتقوا الآية [ 16 \ 128 ] . وقوله : إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم الآية [ 8 \ 12 ] . وقوله : إنني معكما أسمع وأرى [ 20 \ 46 ] . وقوله : لا تحزن إن الله معنا [ 9 \ 40 ] . ومعية عامة بالإحاطة والعلم ، لأنه تعالى أعظم وأكبر من كل شيء ، محيط بكل شيء ، فجميع الخلائق في يده أصغر من حبة خردل في يد أحدنا ، وله المثل الأعلى ، وسيأتي له زيادة إيضاح في سورة " الحديد " إن شاء الله ، وهي عامة لكل الخلائق ، كما دلت عليه الآيات المتقدمة . [ ص: 322 ] بسم الله الرحمن الرحيم سورة بني إسرائيل قوله تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا . هذه الآية الكريمة فيها التصريح بأن الله تعالى لا يعذب أحدا حتى ينذره على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام . ونظيرها قوله تعالى : رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل [ 4 \ 165 ] . وقوله تعالى : ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك الآية [ 20 \ 134 ] . وقوله : ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون [ 6 \ 131 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . ويؤيده تصريحه تعالى بأن كل أفواج أهل النار جاءتهم الرسل في دار الدنيا في قوله تعالى : كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا الآية [ 67 \ 8 - 9 ] . ومعلوم أن " كلما " صيغة عموم ونظيرها قوله تعالى : وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا - إلى قوله - قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين [ 39 \ 71 ] . فقوله : وسيق الذين كفروا يعم كل كافر لما تقرر في الأصول ، من أن الموصولات من صيغ العموم لعمومها كلما تشمله صلاتها ، كما أشار له في مراقي السعود بقوله : [ ص: 323 ] صيغة كل أو الجميع وقد تلا الذي التي الفروع ومعنى قوله : " وقد تلا الذي إلخ . . . " أن الذي والتي وفروعها صيغ عموم ككل وجميع . ونظيره أيضا قوله تعالى : وهم يصطرخون فيها - إلى قوله - وجاءكم النذير [ 35 \ 37 ] ، فإنه عام أيضا لأن أول الكلام : والذين كفروا لهم نار جهنم [ 35 \ 36 ] . وأمثال هذا كثيرة في القرآن مع إنه جاء في بعض الآيات ما يفهم منه أن أهل الفترة في النار ، كقوله تعالى : ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ، [ 9 \ 113 ] فإن عمومها يدل على دخول من لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذلك عموم قوله تعالى : ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما [ 4 \ 18 ] . وقوله تعالى : إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين [ 2 \ 161 ] . وقوله : إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا الآية [ 3 \ 91 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . اعلم أولا أن من لم يأته نذير في دار الدنيا وكان كافرا حتى مات ، اختلف العلماء فيه ، هل هو من أهل النار لكفره ، أو هو معذور لأنه لم يأته نذير ؟ كما أشار له في مراقي السعود بقوله : ذو فترة بالفرع لا يراع وفي الأصول بينهم نزاع وسنذكر إن شاء الله جواب أهل كل واحد من القولين ، ونذكر ما يقتضي الدليل رجحانه ، فنقول وبالله نستعين : قد قال قوم : إن الكافر في النار ، ولو مات في زمن الفترة ، وممن جزم بهذا القول النووي في شرح مسلم لدلالة الأحاديث على تعذيب بعض أهل الفترة . [ ص: 324 ] وحكى القرافي في شرح التفيح الإجماع على أن موتى أهل الجاهلية في النار لكفرهم ، كما حكاه عنه صاحب نشر البنود . وأجاب أهل هذا القول عن آية : وما كنا معذبين وأمثالها من ثلاثة أوجه : الأول : أن التعذيب المنفي في قوله : وما كنا معذبين وأمثالها هو التعذيب الدنيوي ، فلا ينافي ثبوت التعذيب في الآخرة . وذكر الشوكاني في تفسيره : أن اختصاص هذا التعذيب المنفي بالدنيا دون الآخرة ، ذهب إليه الجمهور واستظهر هو خلافه ، ورد التخصيص بعذاب الدنيا بأنه خلاف الظاهر من الآيات ، وبأن الآيات المتقدمة الدالة على اعتراف أهل النار جميعا ، بأن الرسل أنذروهم في دار الدنيا صريح في نفيه . الثاني : أن محل العذر بالفترة المنصوص في قوله : وما كنا معذبين الآية ، وأمثالها في غير الواضح الذي لا يلتبس على عاقل . أما الواضح الذي لا يخفى على من عنده عقل كعبادة الأوثان فلا يعذر فيه أحد ، لأن جميع الكفار يقرون بأن الله هو ربهم وهو خالقهم ورازقهم ، ويتحققون أن الأوثان لا تقدر على جلب نفع ولا على دفع ضر ، لكنهم غالطوا أنفسهم ، فزعموا أنها تقربهم إلى الله زلفى ، وأنها شفعاؤهم عند الله ، مع أن العقل يقطع بنفي ذلك . الثالث : أن عندهم بقية إنذار مما جاءت به الرسل الذين أرسلوا قبله صلى الله عليه وسلم تقوم عليهم بها الحجة ، ومال إليه بعض الميل ابن قاسم في الآيات البينات . وقد قدمنا في سورة " آل عمران " أن هذا القول يرده القرءان في آيات كثيرة مصرحة بنفي أصل النذير عنهم ، كقوله : لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم [ 36 \ 6 ] . وقوله : أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك . وقوله : وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك [ 28 \ 46 ] . [ ص: 325 ] وقوله : وما آتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير [ 34 \ 44 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . وأجاب القائلون : بأن أهل الفترة معذورون عن مثل قوله : ما كان للنبي - إلى قوله - من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم [ 9 \ 113 ] . من الآيات المتقدمة بأنهم لا يتبين لهم أنهم من أصحاب الجحيم ولا يحكم لهم بالنار ولو ماتوا كفارا إلا بعد إنذارهم وامتناعهم من الإيمان ، كأبي طالب ، وحملوا الآيات المذكورة على هذا المعنى . واعترض هذا الجواب بما ثبت في الصحيح من دخول بعض أهل الفترة النار ، كحديث : إن أبي وأباك في النار الثابت في صحيح مسلم وأمثاله من الأحاديث ، واعترض هذا الاعتراض بأن الأحاديث وإن صحت فهي أخبار آحاد ، يقدم عليها القاطع كقوله : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا . واعترض هذا الاعتراض أيضا بأنه لا يتعارض عام وخاص ، فما أخرجه حديث صحيح خرج من العموم ، وما لم يخرجه نص صحيح بقي داخلا في العموم . واعترض هذا الاعتراض أيضا بأن هذا التخصيص يبطل علة العام لأن الله تعالى تمدح بكمال الإنصاف وصرح بأنه لا يعذب حتى يقطع حجة المعذب بإنذار الرسل في دار الدنيا ، وبين أن ذلك الإنصاف التام علة لعدم التعذيب ، فلو عذب إنسانا واحدا من غير إنذار لاختلت تلك الحكمة ، ولثبتت لذلك المعذب الحجة التي بعث الله الرسل لقطعها ، كما صرح به في قوله : رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل [ 4 \ 165 ] . وهذه الحجة بينهما في سورة " طه " بقوله : ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله [ 20 \ 134 ] . وأشار لها في سورة " القصص " بقوله : ولولا أن تصيبهم مصيبة - إلى قوله - ونكون من المؤمنين [ 28 \ 47 ] . وهذا الاعتراض الأخير يجري على الخلاف في النقض هل هو قادح في العلة أو [ ص: 326 ] تخصيص لها ؟ وهو اختلاف كثير معروف في الأصول عقده في مراقي السعود بقوله في تعداد القوادح في الدليل : منها وجود الوصف دون الحكم سماه بالنقض رعاة العلم والمحققون من أهل الأصول على أن عدم تأثير العلة ، إن كان لوجود مانع من التأثير أو انتفاء شرط التأثير ، فوجودها من تخلف الحكم لا ينقضها ، ولا يقدح فيها ، وخروج بعض أفراد الحكم حينئذ تخصيص للعلة لا نقض لها ، كالقتل عمدا عدوانا ، فإنه علة القصاص إجماعا ، ولا يقدح في هذه العلة تخلف الحكم عنها في قتل الوالد لولده ، لأن تأثيرها منع منه مانع هو الأبوة ، وأما إن كان عدم تأثيرها لا لوجود مانع أو انتفاء شرط فإنه يكون نقضا لها وقدحا فيها ، ولكن يرد على هذا التحقيق ما ذكره بعض العلماء من أن قوله تعالى : ذلك بأنهم شاقوا الله ، [ 8 \ 13 ] ، علة منصوصة لقوله : ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم الآية [ 59 \ 3 ] . والأكثرون عندهم لا يقدح بل هو تخصيص وذا مصحح وقد روي عن مالك تخصيص إن يك الاستنباط لا التنصيص وعكس هذا قد رآه البعض ومنتقى ذي الاختصار النقض إن لم يكن منصوصه بظاهر وليس فيما استنبطت بضائر إن جاء لفقد الشرط أو لما منع والوفق في مثل العرايا قد وقع مع أن هذه العلة قد توجد ولا يوجد ما عذب به بنو النضير من جلاء أو تعذيب دنيوي ، وهو يؤيد كون النقض تخصيصا مطلقا لا قدحا . ويجاب عن هذا بأن بعض المحققين من الأصوليين قال : إن التحقيق المذكور محله في العلة المستنبطة دون المنصوصة وهذه منصوصة ، كما قدمنا ذلك في أبيات مراقي السعود في قوله : . . . . . . وليس فيما استنبطت بضائر إن جاء لفقد الشرط أو لما منع . . . . . هذا ملخص كلام العلماء وحججهم في المسألة ، والذي يظهر رجحانه بالدليل هو الجمع بين الأدلة لأن الجمع واجب إذا أمكن بلا خلاف ، كما أشار له في المراقي بقوله : [ ص: 327 ] والجمع واجب إذا ما أمكنا إلخ . ![]()
__________________
|
#628
|
||||
|
||||
![]() ![]() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد التاسع الحلقة (626) بيان الناسخ والمنسوخ صـ 327 إلى صـ 340 ووجه الجمع بين هذه الأدلة هو عذرهم بالفترة وامتحانهم يوم القيامة بالأمر باقتحام نار فمن اقتحمها دخل الجنة ، وهو الذي كان يصدق الرسل لو جاءته في الدنيا ، ومن امتنع عذب بالنار ، وهو الذي كان يكذب الرسل لو جاءته في الدنيا ، لأن الله يعلم ما كانوا عاملين لو جاءتهم الرسل . وبهذا الجمع تتفق الأدلة فيكون أهل الفترة معذورين ، وقوم منهم من أهل النار بعد الامتحان ، وقوم منهم من أهل الجنة بعده أيضا ، ويحمل كل واحد من القولين على بعض منهم علم الله مصيرهم ، وأعلم به نبيه صلى الله عليه وسلم فيزول التعارض . والدليل على هذا الجمع ورود الأخبار به عنه صلى الله عليه وسلم ، قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا بعد أن ساق الأحاديث الدالة على عذرهم وامتحانهم يوم القيامة رادا على ابن عبد البر تضعيف أحاديث عذرهم وامتحانهم ما نصه : والجواب عما قال : إن أحاديث هذا الباب منها ما هو صحيح ، كما نص على ذلك كثير من أئمة العلماء ، ومنها ما هو حسن ، ومنها ما هو ضعيف يتقوى بالصحيح والحسن ، وإذا كانت أحاديث الباب الواحد متصلة متعاضدة علم هذا النمط ، أفادت الحجة عند الناظر فيها ، انتهى محل الغرض بلفظه . ثم قال : إن هذا قال به جماعة من محققي العلماء والحفاظ والنقاد وما احتج به البعض لرد هذه الأحاديث من أن الآخرة دار جزاء لا دار عمل وابتلاء ، فهو مردود من وجهين : الأول : أن ذلك لا ترد به النصوص الصحيحة عنه صلى الله عليه وسلم ، ولو سلمنا عموم من قال : من أن الآخرة ليست دار عمل ، لكانت الأحاديث المذكورة مخصصة لذلك العموم . الثاني : أنا لا نسلم انتفاء الامتحان في عرصات المحشر ، بل نقول : دل القاطع عليه لأن الله تعالى صرح في سورة " القلم " بأنهم يدعون إلى السجود في قوله جل وعلا : يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود الآية [ 68 \ 42 ] . ومعلوم أن أمرهم بالسجود تكليف في عرصات المحشر ، وثبت في الصحيح أن [ ص: 328 ] المؤمنين يسجدون يوم القيامة وأن المنافق لا يستطيع ذلك ، ويعود ظهره كالصفيحة الواحدة ، طبقا واحدا كلما أراد السجود خر قفاه . وفي الصحيحين في الرجل الذي يكون آخر أهل النار خروجا منها ، أن الله يأخذ عهوده ومواثيقه أن لا يسأل غير ما هو فيه ويتكرر ذلك مرارا ويقول الله تعالى : يا ابن آدم ما أغدرك ثم يأذن له في دخول الجنة ، ومعلوم أن تلك العهود والمواثيق تكليف في عرصات المحشر ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا . هذه الآية يظهر تعارضها مع قوله تعالى : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين [ 18 \ 55 ] ووجه الجمع أن الحصر في آية " الإسراء " ، حصر في المانع العادي . والحصر في آية " الكهف " في المانع الحقيقي ، وإيضاحه هو ما ذكره ابن عبد السلام من أن معنى آية " الكهف " : وما منع الناس أن يؤمنوا إلا أن الله أراد أن يأتيهم سنة الأولين من أنواع الهلاك في الدنيا أو يأتيهم العذاب قبلا في الآخرة ، فأخبر أنه أراد أن يصيبهم أحد الأمرين ، ولا شك أن إرادة الله مانعة من وقوع ما ينافي مراده ، فهذا حصر في المانع الحقيقي ، لأن الله هو المانع في الحقيقة . ومعنى آية : سبحان الذي أسرى [ 17 \ 1 ] ، أنه ما منع الناس من الإيمان إلا استغرابهم أن الله يبعث رسولا من البشر ، واستغرابهم لذلك ليس مانعا حقيقيا بل عاديا يجوز تخلفه فيوجد الإيمان معه بخلاف الأول فهو حقيقي لا يمكن تخلفه ، ولا وجود الإيمان معه ، ذكر هذا الجمع صاحب الإتقان ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما . هذه الآية الكريمة يدل ظاهرها على أن الكفار يبعثون يوم القيامة عميا وبكما وصما . وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك ، كقوله تعالى : أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا [ 19 \ 38 ] [ ص: 329 ] وكقوله : ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها [ 18 \ 53 ] ، وكقوله : ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا [ 32 \ 12 ] . والجواب عن هذا من أوجه : الوجه الأول : هو ما استظهره أبو حيان من كون المراد مما ذكر حقيقته ويكون ذلك في مبدأ الأمر ثم يرد الله تعالى إليهم أبصارهم ونطقهم وسمعهم فيرون النار ويسمعون زفيرها وينطقون بما حكى الله تعالى عنهم في غير موضع . الوجه الثاني : أنهم لا يرون شيئا يسرهم ، ولا يسمعون كذلك ولا ينطقون بحجة ، كما أنهم كانوا في الدنيا لا يستبصرون ولا ينطقون بالحق ولا يسمعونه ، وأخرج ذلك ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس ، وروي أيضا عن الحسن كما ذكره الألوسي في تفسيره ، فنزل ما يقولونه ويسمعونه ويبصرونه منزلة العدم لعدم الانتفاع به ، كما تقدم نظيره . الوجه الثالث : أن الله إذا قال لهم : اخسئوا فيها ولا تكلمون [ 23 \ 108 ] ، وقع بهم ذاك العمى والصم والبكم من شدة الكرب واليأس من الفرج ، قال تعالى : ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون [ 27 \ 85 ] وعلى هذا القول تكون الأحوال الثلاثة مقدرة . [ ص: 330 ] بسم الله الرحمن الرحيم سورة الكهف قوله تعالى : إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا . هذه الآية تدل بظاهرها على أن المكره على الكفر لا يفلح أبدا . وقد جاءت آية أخرى تدل على أن المكره على الكفر معذور إذا كان قلبه مطمئنا بالإيمان ، وهي قوله تعالى : إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا [ 16 : 106 ] . والجواب عن هذا من وجهين : الأول : أن رفع المؤاخذة مع الإكراه من خصائص هذه الأمة فهو داخل في قوله تعالى : ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم [ 7 \ 157 ] ، ويدل لهذا قوله صلى الله عليه وسلم : إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه فهو يدل بمفهومه على خصوصه بأمته صلى الله عليه وسلم . وليس مفهوم لقب لأن مناط التخصيص هو اتصافه بالأفضلية على من قبله من الرسل ، واتصاف أمته بها على من قبلها من الأمم ، والحديث وإن أعله أحمد وابن أبي حاتم فقد تلقاه العلماء قديما وحديثا بالقبول ، ومن أصرح الأدلة في أن من قبلنا ليس لهم عذر بالإكراه حديث طارق بن شهاب في الذي دخل النار في ذباب قربه لصنم ، مع أنه قربه ليتخلص من شر عبدة الصنم ، وصاحبه الذي امتنع من ذلك قتلوه فعلم أنه لو لم يفعل لقتلوه كما قتلوا صاحبه ، ولا إكراه أكبر من خوف القتل ، ومع هذا دخل النار ولم ينفعه الإكراه ، وظواهر الآيات تدل على ذلك ، فقوله : ولن تفلحوا إذا أبدا . ظاهر في عدم فلاحهم مع الإكراه ، لأن قوله : يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ، صريح في [ ص: 331 ] الإكراه ، وقوله : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [ 2 : 286 ] مع أنه تعالى قال : " قد فعلت " ، كما ثبت في صحيح مسلم ، يدل بظاهره على أن التكليف بذلك كان معهودا قبل ، وقوله تعالى : ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي [ 20 \ 115 ] مع قوله : وعصى آدم ربه [ 20 \ 121 ] ، فأسند إليه النسيان والعصيان معا ، يدل على ذلك أيضا ، وعلى القول بأن المراد بالنسيان الترك ، فلا دليل في الآية . وقوله : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ، مع قوله : كما حملته على الذين من قبلنا [ 2 \ 286 ] ، ويستأنس لهذا بما ذكره البغوي في تفسيره عن الكلبي من أن المؤاخذة بالنسيان كانت من الإصر على من قبلنا ، وكان عقابها يعجل لهم في الدنيا فيحرم عليهم بعض الطيبات ، وقال بعض العلماء : إن الإكراه عذر لمن قبلنا ، وعليه فالجواب هو : الوجه الثاني : أن الإكراه على الكفر قد يكون سببا لاستدراج الشيطان إلى استحسانه والاستمرار عليه ، كما يفهم من مفهوم قوله تعالى : وقلبه مطمئن بالإيمان [ 16 \ 106 ] وإلى هذا الوجه جنح صاحب روح المعاني ، والأول أظهر عندي وأوضح ، والله تعالى أعلم . قوله تعالى : فأردت أن أعيبها . هذه الآية تدل على أن عيبها يكون سببا لترك الملك الغاصب لها ، ولذلك خرقها الخضر ، وعموم قوله : وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا [ 18 \ 79 ] يقتضي أخذ الملك للمعيبة والصحيحة معا . والجواب أن في الكلام حذف الصفة ، وتقديره كل سفينة صالحة صحيحة ، وحذف النعت إذا دل المقام عليه جائز ، كما أشار له ابن مالك في الخلاصة بقوله : وما من المنعوت والنعت عقل يجوز حذفه وفي النعت يقل ومن شواهد حذف الصفة قول الشاعر : ورب أسيلة الخدين بكر مهفهفة لها فرع وجيد أي لها فرع فاحم وجيد طويل . [ ص: 332 ] وقول عبيد بن الأبرص الأسيدي : من قوله قول ومن فعله فعل ومن نائله نائل يعني من قوله قول فصل ، وفعله فعل جميل ، ونائله نائل جزل .[ ص: 333 ] بسم الله الرحمن الرحيم سورة مريم قوله تعالى : وإن منكم إلا واردها . هذه الآية الكريمة تدل على أن كل الناس لا بد لهم من ورود النار ، وأكد ذلك بقوله : كان على ربك حتما مقضيا [ 19 \ 71 ] ، وقد جاء في آية أخرى ما يدل على أن بعض الناس مبعد عنها لا يسمع لها حسا ، وهي قوله تعالى : أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها الآية [ 21 \ 101 - 102 ] . والجواب هو ما ذكره الألوسي وغيره من أن معنى قوله : " مبعدون " أي عن عذاب النار وألمها ، وقيل : المراد إبعادهم عنها بعد أن يكونوا قريبا منها ، ويدل للوجه الأول ما أخرجه الإمام أحمد والحكيم الترمذي وابن المنذر والحاكم وصححه ، وجماعة عن أبي سمية قال : اختلفنا هاهنا في الورود فقال بعضنا : لا يدخلها مؤمن ، وقال آخرون : يدخلونها جميعا ثم ينجي الله الذين اتقوا ، فلقيت جابر بن عبد الله رضي الله عنه فذكرت ذلك له ، فقال وأهوى بإصبعيه إلى أذنيه : صمتا ، إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : الورود الدخول لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم عليه السلام حتى إن للنار ضجيجا من بردهم ثم ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيا . وروى جماعة عن ابن مسعود : أن ورود النار هو المرور عليها ، لأن الناس تمر على الصراط ، وهو جسر منصوب على متن جهنم . وأخرج عبد بن حميد وابن الأنباري والبيهقي عن الحسن : الورود المرور عليها من غير دخول ، وروي ذلك أيضا عن قتادة ، قاله الألوسي . واستدل القائلون بأن الورود نفس الدخول كابن عباس بقوله تعالى : فأوردهم النار [ 11 \ 98 ] ، [ ص: 334 ] وقوله : لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها [ 21 \ 99 ] ، وقوله : حصب جهنم أنتم لها واردون [ 21 \ 98 ] ، فالورود في ذلك كله بمعنى الدخول ، واستدل القائلون بأن الورود القرب منها من غير دخول ، بقوله تعالى : ولما ورد ماء مدين [ 28 \ 23 ] . وقول زهير : فلما وردن الماء زرقا جمامه وضعن عصي الحاضر المتخيم ونظير هذا من المبالغة قوله صلى الله عليه وسلم في حديث السبعة الذين يظلهم الله : رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه وهذا القول مروي عن أكثر المفسرين ، وممن قال به ابن عباس ومجاهد وقتادة وأبو صالح كما نقله عنهم ابن جرير وجعفر الصادق ، كما نقله عنه الألوسي في تفسيره ، ويؤيد هذا القول أن في مصحف أبي : " أكاد أخفيها من نفسي " ، [ ص: 336 ] كما نقله الألوسي وغيره . [ ص: 335 ] بسم الله الرحمن الرحيم سورة طه قوله تعالى : إن الساعة آتية أكاد أخفيها . هذه الآية الكريمة يتوهم منها أنه جل وعلا لم يخفها بالفعل ولكنه قارب أن يخفيها لأن كاد فعل مقاربة . وقد جاء في آيات أخر التصريح بأنه أخفاها كقوله تعالى : وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو [ 6 \ 59 ] . وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن المراد بمفاتح الغيب الخمس المذكورة في قوله تعالى : إن الله عنده علم الساعة الآية [ 31 ] . وكقوله : قل إنما علمها عند ربي [ 7 \ 187 ] وقوله : فيم أنت من ذكراها [ 79 \ 43 ] إلى غير ذلك من الآيات . والجواب من سبعة أوجه : الأول : وهو الراجح ، أن معنى الآية : أكاد أخفيها من نفسي ، أي لو كان ذلك يمكن ، وهذا على عادة العرب ، لأن القرءان نزل بلغتهم ، والواحد منهم إذا أراد المبالغة في كتمان أمر قال : كتمته من نفسي ، أي لا أبوح لأحد ، ومنه قول الشاعر : أيام تصحبني هند وأخبرها ما كدت أكتمه عني من الخبر وروى ابن خالويه أنها في مصحف أبي كذلك بزيادة : " فكيف أظهركم عليها " ، وفي بعض القراءات بزيادة : " فكيف أظهرها لكم " وفي مصحف عبد الله بن مسعود بزيادة : " فكيف يعلمها مخلوق " كما نقله الألوسي وغيره . الوجه الثاني : أن معنى الآية أكاد أخفيها أي أخفي الأخبار بأنها آتية ، والمعنى أقرب أن أترك الإخبار عن إتيانها من أصله لشدة إخفائي لتعيين وقت إتيانها . الوجه الثالث : أن الهمزة في قوله : أخفيها ، هي همزة السلب لأن العرب كثيرا ما تجعل الهمزة أداة لسلب الفعل ، كقولهم : شكا إلي فلان فأشكيته أي أزلت شكايته ، وقولهم : عقل البعير فأعقلته ، أي أزلت عقاله . وعلى هذا فالمعنى : أكاد أخفيها أي أزيل خفاءها بأن أظهرها لقرب وقتها ، كما قال تعالى : اقتربت الساعة الآية [ 54 ] ، وهذا القول مروي عن أبي علي ، كما نقله عنه الألوسي في تفسيره ، ونقله النيسابوري في تفسيره عن أبي الفتح الموصلي . ومنه قول امرئ القيس بن عابس الكندي : فإن تدفنوا الداء لا نخفه وإن تبعثوا الحرب لا نقعد على رواية ضم النون من : لا نخفه ، وقد نقل ابن جرير في تفسير هذه الآية عن معمر بن المثنى أنه قال : أنشدنيه أبو الخطاب عن أهله في بلده بضم النون من : لا نخفه ، ومعناه : لا نظهره . أما على الرواية المشهورة بفتح النون من : لا نخفه ، فلا شاهد في البيت إلا على قراءة من قرأ : " أكاد أخفيها " بفتح الهمزة وممن قرأ بذلك أبو الدرداء وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وحميد ، وروي مثل ذلك عن ابن كثير وعاصم ، وإطلاق خفاه يخفيه بفتح الياء بمعنى أظهره إطلاق مشهور صحيح ، إلا أن القراءة به لا تخلو من شذوذ . ومنه البيت المذكور على رواية فتح النون وقول كعب بن زهير أو غيره : دأب شهرين ثم شهرا دميكا بأريكين يخفيان غميرا أي يظهرانه . وقول امرئ القيس : [ ص: 337 ] خفاهن من إنفاقهن كأنما خفاهن ودق من عشي مجلب الوجه الرابع : أن خبر كاد محذوف ، والمعنى على هذا القول أن الساعة آتية أكاد أظهرها ، فحذف الخبر ثم ابتدأ الكلام بقوله : أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى [ 20 \ 15 ] ، ونظير ذلك من كلام العرب قول ضابئ بن الحارث البرجمي : هممت ولم أفعل وكدت وليتني تركت على عثمان تبكي حلائله يعني : وكدت أفعل . الوجه الخامس : أن كاد تأتي بمعنى أراد ، وعليه فمعنى : أكاد أخفيها أريد أن أخفيها ، وإلى هذا القول ذهب الأخفش وابن الأنباري وأبو مسلم كما نقله عنهم الألوسي وغيره . قال ابن جني في المحتسب ، ومن مجيء كاد بمعنى أراد ، قول الشاعر : كادت وكدت وتلك خير إرادة لو عاد من لهو الصبابة ما مضى كما نقله الألوسي ، وقال بعض العلماء : إن من مجيء كاد بمعنى أراد قوله تعالى كذلك كدنا ليوسف [ 12 ] ، أي أردنا له كما ذكره النيسابوري وغيره . ومنه قول العرب لا أفعل كذا ولا أكاد أي لا أريد كما نقله بعضهم . الوجه السادس : أن كاد من الله تدل على الوجوب ، كما دلت عليه عسى في كلامه تعالى نحو : قل عسى أن يكون قريبا [ 17 \ 51 ] ، أي هو قريب . وعلى هذا فمعنى : أكاد أخفيها أنا أخفيها . الوجه السابع : أن كاد صلة ، وعليه فالمعنى إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى الآية ، واستدل قائل هذا القول بقول زيد الخيل : سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه فما أن يكاد قرنه يتنفس أي فما يتنفس قرنه ، قالوا : ومن هذا القبيل قوله تعالى : لم يكد يراها [ 24 \ 40 ] ، أي لم يرها ، وقول ذي الرمة : [ ص: 338 ] إذا غير النأي المحبين لم يكد رسيس الهوى من حب مية يبرح أي لم يبرح على قول هذا القائل . قالوا : ومن هذا المعنى قول أبي النجم : وإن أتاك نعي فاندبن أبا قد كاد يطلع الأعداء والخطبا أي قد اطلع الأعداء . وقد قدمنا أن أرجح الأقوال الأول ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي . لا يخفى أنه من سؤل موسى الذي قال له ربه إنه آتاه إياه بقوله : قال قد أوتيت سؤلك ياموسى [ 20 \ 36 ] ، وذلك صريح في حل العقدة من لسانه ، وقد جاء في بعض الآيات ما يدل على بقاء شيء من الذي كان بلسانه كقوله تعالى عن فرعون : أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين [ 43 \ 52 ] . وقوله تعالى عن موسى : وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي الآية [ 28 ] . والجواب أن موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، لم يسأل زوال ما كان بلسانه بالكلية ، وإنما سأل زوال القدر المانع من أن يفقهوا قوله ، كما يدل عليه قوله : يفقهوا قولي . قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى : واحلل عقدة من لساني ، ما نصه : وما سأل أن يزول ذلك بالكلية ، بل بحيث يزول العي ويحصل لهم فهم ما يريد منه ، وهو قدر الحاجة ، ولو سأل الجميع لزال ، ولكن الأنبياء لا يسألون إلا بحسب الحاجة ، ولهذا بقيت بقية ، قال تعالى إخبارا عن فرعون أنه قال : أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين [ 43 52 ] ، أي يفصح بالكلام . وقال الحسن البصري : واحلل عقدة من لساني ، قال : حل عقدة واحدة ، ولو سأل أكثر من ذلك أعطي . [ ص: 339 ] وقال ابن عباس : شكا موسى إلى ربه ما يتخوف من آل فرعون في القتيل ، وعقدة لسانه ، فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام ، وسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون يكون ردءا له ، ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه ، فآتاه سؤله ، فحل عقدة من لسانه . وقال ابن أبي حاتم : ذكر عن عمر بن عثمان ، حدثنا بقية عن أرطأة بن المنذر ، حدثني بعض أصحاب محمد بن كعب عنه ، قال : أتاه ذو قرابة له فقال له : ما بك بأس ، لولا أنك تلحن في كلامك ، ولست تعرب في قراءتك ، فقال القرظي : يا ابن أخي ألست أفهمك إذا حدثتك ؟ قال نعم ، قال : فإن موسى عليه السلام إنما سأل ربه أن يحل عقدة من لسانه كي يفقه بنو إسرائيل قوله ، ولم يزد عليها ، انتهى كلام ابن كثير بلفظه . وقد نقل فيه عن الحسن البصري وابن عباس ومحمد بن كعب القرظي ما ذكرنا من الجواب ، ويمكن أن يجاب أيضا بأن فرعون كذب عليه في قوله : هو أفصح مني لسانا [ 28 ] ، يدل على اشتراكه مع هارون في الفصاحة ، فكلاهما فصيح ، إلا أن هارون أفصح ، وعليه فلا إشكال ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : فقولا إنا رسولا ربك الآية . يدل على أنهما رسولان وهما موسى وهارون ، وقوله تعالى : فقولا إنا رسول رب العالمين [ 26 \ 16 ] ، يوهم كون الرسول واحدا . والجواب من وجهين : الأول : أن معنى قوله : إنا رسول رب العالمين أي كل واحد منا رسول رب العالمين ، كقول البرجمي : [ الطويل ] فإني وقيارا بها لغريب وإنما ساغ هذا لظهور المراد من سياق الكلام . الوجه الثاني : أن أصل الرسول مصدر كالقبول والولوع ، فاستعمل في الاسم فجاز جمعه ، وتثنيته نظرا إلى كونه بمعنى الوصف وساغ إفراده مع إرادة المثنى أو الجمع نظرا إلى أن الأصل من كونه مصدرا ، ومن إطلاق الرسول على غير المفرد ، قول الشاعر : [ ص: 340 ] ألكني إليها وخير الرسو ل أعلمهم بنواحي الخبر يعني وخير الرسل ، وإطلاق الرسول مرادا به المصدر كثير ، ومنه قوله : لقد كذب الواشون ما فهت عندهم بقول ولا أرسلتهم برسول يعني برسالة . قوله تعالى : قال فمن ربكما يا موسى . قوله تعالى : قال فمن ربكما يقتضي أن المخاطب اثنان ، وقوله : ياموسى : يقتضي أن المخاطب واحد ، والجواب من ثلاثة أوجه : الأول : أن فرعون أراد خطاب موسى وحده ، والمخاطب إن اشترك معه في الكلام غير مخاطب غلب المخاطب على غيره ، كما لو خاطبت رجلا اشترك معه آخر في شأن والثاني غائب فإنك تقول للحاضر منهما : ما بالكما فعلتما كذا والمخاطب واحد ، وهذا ظاهر . الوجه الثاني : أنه خاطبهما معا وخص موسى بالنداء ، لكونه الأصل في الرسالة . الثالث : أنه خاطبهما معا وخص موسى بالنداء لمطابقة رءوس الآي مع ظهور المراد ، ونظير الآية قوله تعالى : فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى [ 20 \ 117 ] ، ويجاب عنه بأن المرأة تبع لزوجها ، وبأن شقاء الكد والعمل يتولاه الرجال أكثر من النساء ، وبأن الخطاب لآدم وحده ، والمرأة ذكرت فيما خوطب به آدم بدليل قوله : إن هذا عدو لك ولزوجك [ 20 \ 117 ] فهي ذكرت فيما خوطب به آدم والمخاطب هو وحده ، ولذا قال : " فتشقى " لأن الخطاب لم يتوجه إليها هي ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي . ظاهر هذه الآية أن آدم ناس للعهد بالنهي عن أكل الشجرة ، لأن الشيطان قاسمه بالله أنه له ناصح حتى دلاه بغرور وأنساه العهد ، وعليه فهو معذور لا عاص . [ ص: 341 ] وقد جاءت آية أخرى تدل على خلاف ذلك ، وهي قوله تعالى : وعصى آدم ربه فغوى [ 20 \ 121 ] . والجواب عن هذا من وجهين : الأول : هو ما قدمنا من عدم العذر بالنسيان لغير هذه الأمة . الثاني : أن نسي بمعنى ترك ، والعرب ربما أطلقت النسيان بمعنى الترك ومنه قوله تعالى : فاليوم ننساهم الآية [ 7 \ 51 ] ، والعلم عند الله تعالى . ![]()
__________________
|
#629
|
||||
|
||||
![]() ![]() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد التاسع الحلقة (627) بيان الناسخ والمنسوخ صـ 341 إلى صـ 354 بسم الله الرحمن الرحيم سورة الأنبياء قوله تعالى : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون . هذه الآية تدل على أن جميع المعبودات مع عابديها في النار . وقد أشارت آيات أخر إلى أن بعض المعبودين كعيسى والملائكة ليسوا من أهل النار ، كقوله تعالى : ولما ضرب ابن مريم مثلا [ 43 \ 57 ] وقوله تعالى : ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون [ 43 \ 40 ] وقوله : أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب الآية [ 17 : 57 ] . والجواب من وجهين : الأول : أن هذه الآية لم تتناول الملائكة ولا عيسى لتعبيره بـ : " ما " الدالة على غير العاقل . وقد أشار تعالى إلى هذا الجواب بقوله : ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون [ 43 \ 58 ] لأنهم لو أنصفوا لما ادعوا دخول العقلاء في لفظ لا يتناولهم لغة . الثاني : أن الملائكة وعيسى نص الله على إخراجهم من هذا دفعا للتوهم ولهذه الحجة الباطلة بقوله : إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون الآية [ 21 \ 101 ] ، ، وقوله تعالى : قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون [ 21 \ 108 ] . عبر في هذه الآية الكريمة بلفظ : " إنما " وهي تدل على الحصر عند الجمهور ، [ ص: 343 ] وعليه فهي تدل على حصر الوحي في توحيد الألوهية . وقد جاءت آيات أخر تدل على أنه أوصى إليه غير ذلك كقوله : قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن الآية [ 72 ] ، وقوله : تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك [ 11 \ 49 ] ، وقوله : نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك الآية [ 12 \ 3 ] . والجواب أن حصر الوحي في توحيد الألوهية حصر له في أصله الأعظم الذي يرجع إليه جميع الفروع ، لأن شرائع كل الأنبياء داخلة في ضمن لا إله إلا الله ، لأن معناها خلع كل الأنداد سوى الله في جميع أنواع العبادات ، وإفراد الله بجميع أنواع العبادات ، فيدخل في ذلك جميع الأوامر والنواهي القولية والفعلية والاعتقادية . [ ص: 344 ] بسم الله الرحمن الرحيم سورة الحج قوله تعالى : أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا . هذه الآية الكريمة تدل على أن قتال الكفار مأذون فيه لا واجب ، وقد جاءت آيات تدل على وجوبه كقوله فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين الآية [ 9 \ 5 ] . وقوله : وقاتلوا المشركين كافة الآية [ 9 \ 36 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . والجواب ظاهر ، وهو أنه أذن فيه أولا من غير إيجاب ، ثم أوجب بعد ذلك كما تقدم في سورة " البقرة " ، ويدل لهذا ما قاله ابن عباس وعروة بن الزبير وزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان وقتادة ومجاهد والضحاك وغير واحد ، كما نقله عنهم ابن كثير وغيره من أن آية : أذن للذين يقاتلون هي أول آية نزلت في الجهاد ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور . ظاهر هذه الآية أن الأبصار لا تعمى ، وقد جاءت آيات أخر تدل على عمى الأبصار كقوله : أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم [ 47 \ 23 ] ، وكقوله : ليس على الأعمى حرج [ 24 \ 61 ] . والجواب أن التمييز بين الحق والباطل ، وبين الضار والنافع ، وبين القبيح والحسن ، لما كان كله بالبصائر لا بالأبصار ، صار العمى الحقيقي هو عمى البصائر لا عمى الأبصار ، ألا ترى أن صحة العينين لا تفيد مع عدم العقل كما هو ضروري ، وقوله : فأصمهم وأعمى أبصارهم يعني بصائرهم أو أعمى أبصارهم عن الحق وإن رأت غيره . [ ص: 345 ] قوله تعالى : وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون . هذه الآية الكريمة تدل على أن مقدار اليوم عند الله ألف سنة ، وكذلك قوله تعالى : يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون [ 32 \ 5 ] . وقد جاءت آية أخرى تدل على خلاف ذلك ، هي قوله تعالى في سورة " سأل سائل " : تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة الآية [ 70 \ 4 ] . اعلم أولا أن أبا عبيدة روى عن إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن ابن أبي مليكة أنه حضر كلا من ابن عباس وسعيد بن المسيب سئل عن هذه الآيات فلم يدر ما يقول فيها ، ويقول : لا أدري . وللجمع بينهما وجهان : الأول : هو ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق سماك عن عكرمة عن ابن عباس ، من أن يوم الألف في سورة " الحج " هو أحد الأيام الستة التي خلق الله فيها السماوات والأرض ، ويوم الألف في سورة " السجدة " ، هو مقدار سير الأمر وعروجه إليه تعالى ، ويوم الخمسين ألفا هو يوم القيامة . الوجه الثاني : أن المراد بجميعها يوم القيامة ، وأن الاختلاف باعتبار حال المؤمن والكافر ، ويدل لهذا قوله تعالى : فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير [ 74 \ 9 - 10 ] ، ذكر هذين الوجهين صاحب الإتقان ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته الآية . هذه الآية الكريمة تدل على أن كل رسول وكل نبي يلقي الشيطان في أمنيته ، أي تلاوته إذا تلا . ومنه قول الشاعر في عثمان رضي الله عنه : تمنى كتاب الله أول ليلة وآخرها لاقى حمام المقادر [ ص: 346 ] وقول الآخر : تمنى كتاب الله آخر ليلة تمني داود الزبور على رسل ومعنى تمنى في البيتين قرأ وتلا ، وفي صحيح البخاري عن ابن عباس أنه قال : إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته ، إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه . وقال بعض العلماء : إذا تمنى أحب شيئا وأراده ، فكل نبي يتمنى إيمان أمته ، والشيطان يلقي عليهم الوساوس والشبه ، ليصدهم عن سبيل الله ، وعلى أن تمنى بمعنى قرأ وتلا ، كما عليه الجمهور ، فمعنى إلقاء الشيطان في تلاوته ، إلقاؤه الشبه والوساوس فيما يتلوه النبي ليصد الناس عن الإيمان به ، أو إلقاؤه في المتلو ما ليس منه ليظن الكفار أنه منه . وهذه الآية لا تعارض بينها وبين الآية المصرحة بأن الشيطان لا سلطان له على عباد الله المؤمنين المتوكلين ، ومعلوم أن خيارهم الأنبياء كقوله تعالى : إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون [ 16 \ 99 - 100 ] ، وقوله تعالى : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين [ 15 \ 42 ] ، وقوله : فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين [ 38 \ 82 - 83 ] . وقوله : وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي [ 14 22 ] . ووجه كون الآيات لا تعارض بينها ، أن سلطان الشيطان المنفي عن المؤمنين المتوكلين في معناه وجهان للعلماء : الأول : أن معنى السلطان الحجة الواضحة ، وعليه فلا إشكال ، إذ لا حجة مع الشيطان البتة ، كما اعترف به فيما ذكر الله عنه في قوله : وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي . الثاني : أن معناه أنه لا تسلط له عليهم بإيقاعهم في ذنب يهلكون به ولا يتوبون منه ، فلا ينافي هذا ما وقع من آدم وحواء وغيرهما ، فإنه ذنب مغفور لوقوع التوبة منه ، فإلقاء الشيطان في أمنية النبي سواء فسرناها بالقراءة أو التمني لإيمان أمته ، لا يتضمن [ ص: 347 ] سلطانا للشيطان على النبي ، بل من جنس الوسوسة وإلقاء الشبه لصد الناس عن الحق كقوله : وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل الآية [ 27 \ 24 ] . فإن قيل : ذكر كثير من المفسرين أن سبب نزول هذه الآية الكريمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة " النجم ، بمكة ، فلما بلغ : أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى [ 53 \ 19 - 20 ] ، ألقى الشيطان على لسانه : تلك الغرانيق العلا ، وإن شفاعتهن لترجى ، فلما بلغ آخر السورة سجد وسجد معه المشركون والمسلمون ، وقال المشركون : ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم ، وشاع في الناس أن أهل مكة أسلموا بسبب سجودهم مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى رجع المهاجرون من الحبشة ، ظنا منهم أن قومهم أسلموا ، فوجدوهم على كفرهم . وعلى هذا الذي ذكره كثير من المفسرين ، فسلطان الشيطان بلغ إلى حد أدخل به في القرآن ، على لسان النبي صلى الله عليه وسلم الكفر البواح ، حسبما يقتضيه ظاهر القصة المزعومة . فالجواب أن قصة الغرانيق مع استحالتها شرعا لم تثبت من طريق صالح للاحتجاج ، وصرح بعدم ثبوتها خلق كثير من العلماء ، كما بيناه بيانا شافيا في رحلتنا . والمفسرون يروون هذه القصة عن ابن عباس من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما ، ومعلوم أن الكلبي متروك . وقد بين البزار أنها لا تعرف من طريق يجوز ذكره إلا طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير مع الشك الذي وقع في وصله . وقد اعترف الحافظ ابن حجر مع انتصاره لثبوت هذه القصة ، بأن طرقها كلها ، إما منقطعة أو ضعيفة ، إلا طريق سعيد بن جبير . وإذا علمت ذلك فاعلم أن طريق سعيد بن جبير لم يروها بها أحد متصلة إلا أمية بن خالد ، وهو وإن كان ثقة فقد شك في وصلها ، فقد أخرج البزار وابن مردويه من طريق أمية بن خالد عن شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فيما أحسب ، ثم ساق حديث القصة المذكورة ، وقال : البزار لا يروى متصلا إلا بهذا الإسناد ، تفرد بوصله أمية بن خالد ، وهو ثقة مشهور . وقال البزار : وإنما يروى من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ، والكلبي [ ص: 348 ] متروك ، فتحصل أن قصة الغرانيق لم ترد متصلة إلا من هذا الطريق الذي شك راويه في الوصل ، وما كان كذلك فضعفه ظاهر . ولذا قال الحافظ ابن كثير في تفسيره إنه لم يرها مسندة من وجه صحيح . وقال العلامة الشوكاني في هذه القصة : ولم يصح شيء من هذا ولا ثبت بوجه من الوجوه ومع عدم صحته بل بطلانه ، فقد دفعه المحققون بكتاب الله كقوله : ولو تقول علينا بعض الأقاويل الآية [ 69 \ 44 ] ، وقوله : وما ينطق عن الهوى [ 53 3 ] ، وقوله : ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم الآية [ 17 ] . فنفى المقاربة للركون فضلا عن الركون ، ثم ذكر الشوكاني عن البزار أنها لا تروى بإسناد متصل ، وعن البيهقي أنه قال : هي غير ثابتة من جهة النقل . وذكر عن إمام الأئمة ابن خزيمة أن هذه القصة من وضع الزنادقة ، وأبطلها عياض وابن العربي المالكيين والفخر الرازي وجماعات كثيرة . ومن أصرح الأدلة القرآنية في بطلانها أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بعد ذلك في سورة " النجم " قوله تعالى : إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان [ 53 \ 23 ] ، فلو فرضنا أنه قال تلك الغرانيق العلا ، ثم أبطل ذلك بقوله : إن هي إلا أسماء سميتموها فكيف يفرح المشركون بعد هذا الإبطال والذم التام لأصنامهم ، بأنها أسماء بلا مسميات ، وهذا هو الأخير . وقراءته صلى الله عليه وسلم سورة " النجم " بمكة وسجود المشركين ثابت في الصحيح ، ولم يذكر فيه شيء من قصة الغرانيق ، وعلى القول ببطلانها فلا إشكال . وأما على القول بثبوت القصة ، كما هو رأي الحافظ ابن حجر ، فإنه قال في فتح الباري : إن هذه القصة ثبتت بثلاثة أسانيد ، كلها على شرط الصحيح ، وهي مراسيل يحتج بمثلها من يحتج بالمرسل وكذا من لا يحتج به لاعتضاد بعضها ببعض لأن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها ، دل ذلك على أن لها أصلا . فللعلماء عن ذلك أجوبة كثيرة ، من أحسنها وأقربها ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرتل السورة ترتيلا تتخلله سكتات فلما قرأ : ومناة الثالثة الأخرى ، قال الشيطان لعنه الله محاكيا [ ص: 349 ] لصوته صلى الله عليه وسلم : تلك الغرانيق العلا إلخ . . . فظن المشركون أن الصوت صوته صلى الله عليه وسلم ، وهو بريء من ذلك براءة الشمس من اللمس . وقد بينا هذه المسألة بيانا شافيا في رحلتنا ، فلذلك اختصرناها هنا ، فظهر أنه لا تعارض بين الآيات ، والعلم عند الله تعالى . [ ص: 350 ] بسم الله الرحمن الرحيم سورة قد أفلح المؤمنون قوله تعالى : قال رب ارجعون . لا يخفى ما يسبق إلى الذهن فيه من رجوع الضمير إلى الرب ، والضمير بصيغة الجمع والرب جل وعلا واحد . والجواب من ثلاثة أوجه : الأول : وهو أظهرها ، أن الواو لتعظيم المخاطب ، وهو الله تعني كما في قول الشاعر : ألا فارحموني يا إله محمد فإن لم أكن أهلا فأنت له أهل وقول الآخر : وإن شئت حرمت النساء سواكم وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا الوجه الثاني : أن قوله : " رب " استغاثة به تعالى ، وقوله : " ارجعون " خطاب للملائكة ، ويستأنس لهذا الوجه بما ذكره ابن جرير عن ابن جريج قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة : إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا : نرجعك إلى دار الدنيا ؟ فيقول : إلى دار الهموم والأحزان ؟ فيقول : بل قدموني إلى الله ، وأما الكفار فيقولون له : نرجعك ، فيقول : رب ارجعون . الوجه الثالث : وهو قول المازني ، أنه جمع الضمير ليدل على التكرار فكأنه قال : رب ارجعني ارجعني . ولا يخلو هذا القول عندي من بعد ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون . هذه الآية الكريمة تدل على أنهم لا أنساب بينهم يومئذ ، وأنهم لا يتساءلون يوم [ ص: 351 ] القيامة ، وقد جاءت آيات أخر تدل على ثبوت الأنساب بينهم ، كقوله : يوم يفر المرء من أخيه الآية [ 80 ] ، وآيات أخرى تدل على أنهم يتساءلون كقوله تعالى : وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون [ 37 \ 27 ] . والجواب عن الأول : أن المراد بنفي الأنساب انقطاع فوائدها وآثارها التي كانت مترتبة عليها في الدنيا ، من العواطف والنفع والصلات والتفاخر بالآباء لا نفي حقيقتها . والجواب عن الثاني من ثلاثة أوجه : الأول : أن نفي السؤال بعد النفخة الأولى ، وقبل الثانية وإثباته بعدهما معا . الثاني : أن نفي السؤال عند اشتغالهم بالصعق والمحاسبة والجواز على الصراط ، وإثباته فيما عدا ذلك وهو عن السدي من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس . الثالث : أن السؤال المنفي سؤال خاص ، وهو سؤال بعضهم العفو من بعض فيما بينهم من الحقوق لقنوطهم من الإعطاء ، ولو كان المسؤول أبا أو ابنا أو أما أو زوجة ، ذكر هذه الأوجه الثلاثة أيضا صاحب الإتقان . قوله تعالى : قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين . هذه الآية الكريمة تدل على أن الكفار يزعمون يوم القيامة أنهم ما لبثوا إلا يوما أو بعض يوم ، وقد جاءت آيات أخر يفهم منها خلاف ذلك ، كقوله تعالى : يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا [ 20 ] ، وقوله تعالى : ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة [ 30 ] . والجواب عن هذا بما دل عليه القرءان ، وذلك أن بعضهم يقول : لبثنا يوما أو بعض يوم [ 18 \ 19 ] . وبعضهم يقول : لبثنا ساعة . وبعضهم يقول : لبثنا عشرا . ووجه دلالة القرءان على هذا أنه بين أن أقواهم إدراكا وأرجحهم عقلا وأمثلهم طريقة ، هو من يقول : إن مدة لبثهم يوم ، وذلك قوله تعالى : إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما [ 20 \ 104 ] ، فدل ذلك على اختلاف أقوالهم في مدة لبثهم ، والعلم عند الله تعالى . [ ص: 352 ] بسم الله الرحمن الرحيم سورة النور قوله تعالى : الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين هذه الآية الكريمة تدل على تحريم نكاح الزواني والزناة على الأعفاء والعفائف ، ويدل لذلك قوله : محصنات غير مسافحات الآية [ 4 \ 25 ] ، وقوله : محصنين غير مسافحين الآية [ 4 \ 24 ] . وقد جاءت آيات أخر تدل بعمومها على خلاف ذلك كقوله تعالى : وأنكحوا الأيامى منكم الآية [ 24 ] ، وقوله : وأحل لكم ما وراء ذلكم [ 4 \ 24 ] . والجواب عن هذا مختلف فيه ، اختلافا مبنيا على الاختلاف في حكم تزوج العفيف للزانية أو العفيفة للزاني ، فمن يقول هو حرام ، يقول : هذه الآية مخصصة لعموم : وأنكحوا الأيامى منكم وعموم : وأحل لكم ما وراء ذلكم . والذين يقولون بعدم المنع ، وهم الأكثر ، أجابوا بأجوبة : منها أنها منسوخة بقوله : وأنكحوا الأيامى منكم واقتصر صاحب الإتقان على النسخ ، وممن قال بالنسخ : سعيد بن المسيب والشافعي . ومنها أن النكاح في هذه الآية الوطء ، وعليه فالمراد بالآية أن الزاني لا يطاوعه على فعله ويشاركه في مراده إلا زانية مثله ، أو مشركة لا ترى حرمة الزنا . ومنها أن هذا خاص ، لأنه كان في نسوة بغايا كان الرجل يتزوج إحداهن على أن تنفق عليه مما كسبته من الزنا ، لأن ذلك هو سبب نزول الآية ، فزعم بعضهم أنها مختصة بذلك السبب بدليل قوله : وأحل لكم الآية ، وقوله : وأنكحوا الأيامى الآية ، وهذا أضعفها ، والله تعالى أعلم . [ ص: 353 ] قوله تعالى : الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات . هذه الآية الكريمة نزلت في براءة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها مما رميت به ، وذلك يؤيد ما قاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم من أن معناها : الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال ، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء ، والطيبات من النساء للطيبين من الرجال ، والطيبون من الرجال للطيبات من النساء ، أي فلو كانت عائشة رضي الله عنها غير طيبة لما جعلها الله زوجة لأطيب الطيبين صلوات الله عليه وسلامه . وعلى هذا فالآية الكريمة يظهر تعارضها مع قوله تعالى : ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط - إلى قوله - مع الداخلين [ 66 \ 10 ] . وقوله أيضا : وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون الآية [ 66 \ 11 ] . إذ الآية الأولى دلت على خبث الزوجتين الكافرتين مع أن زوجيهما من أطيب الطيبين ، وهما نوح ولوط عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام ، والآية الثانية دلت على طيب امرأة فرعون مع خبث زوجها . والجواب أن في معنى الآية وجهين للعلماء : الأول : وبه قال ابن عباس وروي عن مجاهد وعطاء وسعيد بن جبير والشعبي والحسن البصري وحبيب بن أبي ثابت والضحاك ، كما نقله عنهم ابن كثير واختاره ابن جرير : أن معناها الخبيثات من القول ، للخبيثين من الرجال والخبيثون من الرجال للخبيثات من القول ، والطيبات من القول للطيبين من الرجال والطيبون من الرجال للطيبات من القول ، أي فما نسبه أهل النفاق إلى عائشة من كلام خبيث هم أولى به ، وهي أولى بالبراءة والنزاهة منهم ، ولذا قال تعالى : أولئك مبرءون مما يقولون [ 24 \ 26 ] ، وعلى هذا الوجه فلا تعارض أصلا بين الآيات . الوجه الثاني : هو ما قدمنا عن عبد الرحمن بن زيد ، وعليه فالإشكال ظاهر بين الآيات ، والذي يظهر لمقيده عفا الله عنه أن قوله الخبيثات للخبيثين إلى آخره على هذا القول من العام المخصوص ، بدليل امرأة نوح وامرأة فرعون . [ ص: 354 ] وعليه فالغالب تقييض كل من الطيبات والطيبين والخبيثات والخبيثين لجنسه وشكله الملائم له في الخبث أو الطيب ، مع أنه تعالى ربما قيض خبيثة لطيب كامرأة نوح ولوط ، أو طيبة لخبيث كامرأة فرعون لحكمة بالغة ، كما دل عليه قوله : ضرب الله مثلا للذين كفروا وقوله : وضرب الله مثلا للذين آمنوا مع قوله : وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون [ 29 \ 43 ] . فدل ذلك على أن تقييض الخبيثة للطيب أو الطيبة للخبيث فيه حكمة لا يعقلها إلا العلماء ، وهي في تقييض الخبيثة للطيب أن يبين للناس أن القرابة من الصالحين لا تنفع الإنسان ، وإنما ينفعه عمله ، ألا ترى أن أعظم ما يدافع عنه الإنسان زوجته ، وأكرم الخلق على الله رسله ، فدخول امرأة نوح وامرأة لوط النار ، كما قال تعالى : فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين [ 66 \ 10 ] فيه أكبر واعظ وأعظم زاجر عن الاغترار بالقرابة من الصالحين والأعلام ، بأن الإنسان إنما ينفعه عمله : ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به الآية [ 4 \ 123 ] . كما أن دخول امرأة فرعون الجنة يعلم منه أن الإنسان إذا دعته الضرورة لمخالطة الكفار من غير اختياره ، وأحسن عمله وصبر على القيام بدينه أنه يدخل الجنة ولا يضره خبث الذين يخالطهم ويعاشرهم ، فالخبيث خبيث وإن خالط الصالحين ، كامرأة نوح ولوط ، والطيب طيب وإن خالط الأشرار كامرأة فرعون ، ولكن مخالطة الأشرار لا تجوز اختيارا ، كما دلت عليه أدلة أخر . قوله تعالى : حتى إذا جاءه لم يجده شيئا . لا يخفى ما يسبق إلى الذهن فيه من أن الضمير في قوله : " جاءه " يدل على شيء موجود واقع عليه المجيء ، لأن وقوع المجيء على العدم لا يعقل ، ومعلوم أن الصفة الإضافية لا تتقوم إلا بين متضائفين ، فلا تدرك إلا بإدراكهما ، فلا يعقل وقوع المجيء بالفعل إلا بإدراك فاعل وقع منه المجيء ، وقوله تعالى : لم يجده شيئا يدل على عدم وجود شيء يقع عليه المجيء في قوله تعالى : " جاءه " . ![]()
__________________
|
#630
|
||||
|
||||
![]() ![]() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد التاسع الحلقة (628) بيان الناسخ والمنسوخ صـ 355 إلى صـ 368 والجواب عن هذا من وجهين ، ذكرهما ابن جرير في تفسير هذه الآية ، قال : فإن قائل : وكيف قيل : حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ، فإن لم يكن السراب شيئا ، فعلام [ ص: 355 ] دخلت الهاء في قوله : حتى إذا جاءه ؟ . قيل : إنه شيء يرى من بعيد كالضباب الذي يرى كثيفا من بعيد ، والهباء فإذا قرب منه دق وصار كالهواء ، وقد يحتمل أن يكون معناه : حتى إذا جاء موضع السراب لم يجد السراب شيئا ، فاكتفى بذكر السراب عن ذكر موضعه ، انتهى منه بلفظه . والوجه الأول أظهر عندي وعنده بدليل قوله ، وقد يحتمل أن يكون معناه . . . إلخ . قوله تعالى : فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم . هذه الآية الكريمة تدل على أنه صلى الله عليه وسلم له الإذن لمن شاء ، وقوله تعالى : عفا الله عنك لم أذنت لهم الآية [ 9 \ 43 ] يوهم خلاف ذلك . والجواب ظاهر ، وهو أنه صلى الله عليه وسلم له الإذن لمن شاء من أصحابه الذين كانوا معه على أمر جامع ، كصلاة جمعة أو عيد أو جماعة أو اجتماع في مشورة ونحو ذلك ، كما بينه تعالى بقوله : وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم [ 24 \ 62 ] . وأما الإذن في خصوص التخلف عن الجهاد ، فهو الذي بين الله لرسوله أن الأولى فيه ألا يبادر بالإذن حتى يتبين له الصادق في عذره من الكاذب ، وذلك في قوله تعالى : عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين [ 9 : 43 ] . فظهر أن لا منافاة بين الآيات ، والعلم عند الله تعالى . [ ص: 356 ] بسم الله الرحمن الرحيم سورة الفرقان قوله تعالى : أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا . هذه الآية الكريمة تدل على انقضاء الحساب في نصف نهار ، لأن المقيل للقيلولة أو مكانها ، وهي الاستراحة نصف النهار في الحر . وممن قال بانقضاء الحساب في نصف نهار : ابن عباس وابن مسعود وعكرمة وابن جبير لدلالة هذه الآية على ذلك ، كما نقله عنهم ابن كثير وغيره . وفي تفسير الجلالين ما نصه : وأخذ من ذلك انقضاء الحساب في نصف نهار ، كما ورد في حديث ، انتهى منه ، مع أنه تعالى ذكر أن مقدار يوم القيامة خمسون ألف سنة في قوله تعالى : في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة [ 70 \ 4 ] . والظاهر في الجواب : أن يوم القيامة يطول على الكفار ويقصر على المؤمنين ، ويشير لهذا قوله تعالى بعد هذا بقليل : الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا [ 25 \ 26 ] فتخصيصه عسر ذلك اليوم بالكافرين يدل على أن المؤمنين ليسوا كذلك ، وقوله تعالى : فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير [ 74 \ 9 - 10 ] ، يدل بمفهومه أيضا على أنه يسير على المؤمنين غير عسير . كما دل عليه قوله تعالى : مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر [ 54 \ 8 ] ، وقال ابن جرير حدثني يونس أنبأنا ابن وهب أنبأنا عمرو بن الحارث أن سعيدا الصواف حدثه أنه بلغه أن يوم القيامة يقصر على المؤمنين حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس ، وأنهم يتقلبون في رياض الجنة حتى يفرغ من الناس ، وذلك قوله : أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا ونقله عنه ابن كثير في تفسيره ، ومن المعلوم أن السرور يقصر به الزمن ، والكروب والهموم سبب لطوله ، كما قال أبو سفيان بن الحارث يرثي النبي صلى الله عليه وسلم [ الوافر ] : [ ص: 357 ] أرقت فبات ليلي لا يزول وليل أخي المصيبة فيه طول وقال الآخر : فقصارهن مع الهموم طويلة وطوالهن مع السرور قصار ولقد أجاد من قال : ليلي وليلى نفى نومي اختلافهما في الطول والطول طوبى لي لو اعتدلا ومثل هذا كثير في كلام العرب جدا ، وأما على قول من فسر المقيل بأنه المأوى والمنزل ، كقتادة رحمه الله فلا تعارض بين الآيتين أصلا ، لأن المعنى على هذا القول : أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مأوى ومنزلا ، والعلم عند الله تعالى . يجود بالطول ليلي كلما بخلت بالطول ليلى وإن جادت به بخلا قوله تعالى : أولئك يجزون الغرفة بما صبروا الآية . هذه الآية الكريمة تدل على أنهم يجزون غرفة واحدة ، وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك ، كقوله تعالى : لهم غرف من فوقها غرف مبنية ، [ 39 \ 20 ] ، وكقوله : وهم في الغرفات آمنون [ 34 \ 37 ] . والجواب أن الغرفة هنا بمعنى الغرف ، كما تقدم مستوفى بشواهده في الكلام على قوله تعالى : ثم استوى إلى السماء فسواهن ، الآية [ 2 \ 29 ] . وقيل : إن المراد بالغرفة ، الدرجة العليا في الجنة ، وعليه فلا إشكال وقيل : الغرفة الجنة ، سميت غرفة لارتفاعها . [ ص: 358 ] بسم الله الرحمن الرحيم سورة الشعراء قوله تعالى : كذبت قوم نوح المرسلين . هذه الآية تدل على أن قوم نوح كذبوا جماعة من المرسلين بدليل صيغة الجمع في قوله : " المرسلين " ثم بين ذلك بما يدل على خلاف ذلك وأنهم إنما كذبوا رسولا واحدا وهو نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، بقوله : إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون - إلى قوله - قال رب إن قومي كذبون [ 26 \ 106 - 117 ] . والجواب عن هذا ، أن الرسل عليهم صلوات الله وسلامه ، لما كانت دعوتهم واحدة وهي لا إله إلا الله ، صار مكذب واحد منهم مكذبا لجميعهم ، كما يدل لذلك قوله تعالى : وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون [ 21 \ 25 ] وقوله : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا الآية [ 16 \ 36 ] ، وقد بين تعالى أن مكذب بعضهم مكذب للجميع بقوله : ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا [ 4 \ 150 - 151 ] . ويأتي مثل هذا الإشكال ، والجواب في قوله : كذبت عاد المرسلين إذ قال لهم أخوهم هود إلى آخره [ 26 \ 123 - 124 ] ، وقوله : كذبت ثمود المرسلين إذ قال لهم أخوهم صالح [ 26 \ 141 - 142 ] . وكذلك في قصة لوط وشعيب ، على الجميع وعلى نبينا الصلاة والسلام . [ ص: 359 ] بسم الله الرحمن الرحيم سورة النمل قوله تعالى إخبارا عن بلقيس : وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون . يدل على تعدد رسلها إلى سليمان وقوله : فلما جاء سليمان [ 27 \ 36 ] ، بإفراد فاعل جاء ، وقوله تعالى إخبارا عن سليمان أنه قال : ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود الآية [ 27 \ 37 ] ، يدل على أن الرسول واحد . والظاهر في الجواب ، هو ما ذكره غير واحد من أن الرسل جماعة ، وعليهم رئيس منهم ، فالجمع نظرا إلى الكل والإفراد نظرا إلى الرئيس ، لأن من معه تبع له ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا . هذه الآية يدل ظاهرها على أن الحشر خاص بهؤلاء الأفواج المكذبة ، وقوله بعد هذا بقليل : وكل أتوه داخرين [ 27 \ 87 ] ، يدل على أن الحشر عام ، كما صرحت به الآيات القرآنية عن كثرة . والجواب عن هذا ، هو ما بينه الألوسي في تفسيره من أن قوله : وكل أتوه داخرين يراد به الحشر العام وقوله : ويوم نحشر من كل أمة فوجا أي بعد الحشر العام يجمع الله المكذبين للرسل من كل أمة لأجل التوبيخ المنصوص عليه بقوله : أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما أم ماذا كنتم تعملون [ 27 \ 84 ] ، فالمراد بالفوج من كل أمة الفوج المكذب للرسل يحشر للتوبيخ حشرا خاصا ، فلا ينافي حشر الكل لفصل القضاء ، وهذا الوجه أحسن من تخصيص الفوج بالرؤساء كما ذهب إليه بعضهم . قوله تعالى : وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب . [ ص: 360 ] هذه الآية تدل بظاهرها على أن الجبال يظنها الرائي ساكنة وهي تسير ، وقد جاءت آيات أخر تدل على أن الجبال راسية ، والراسي هو الثابت في محل ، كقوله تعالى : والجبال أرساها [ 79 ] ، وقوله : وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم [ 16 \ 15 ] . وقوله : والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي [ 15 \ 19 ] ، وقوله : وجعلنا فيها رواسي شامخات [ 77 \ 27 ] . ووجه الجمع ظاهر وهو أن قوله : " أرساها " ونحوه ، يعني في الدنيا ، وقوله . وهي تمر مر السحاب يعني في الآخرة ، بدليل قوله : ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات [ 27 \ 87 ] ثم عطف على ذلك قوله : وترى الجبال الآية . ومما يدل على ذلك النصوص القرآنية على أن سير الجبال في يوم القيامة ، كقوله تعالى : ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة [ 18 \ 47 ] ، وقوله : وسيرت الجبال فكانت سرابا [ 78 \ 20 ] . [ ص: 361 ] بسم الله الرحمن الرحيم سورة القصص قوله تعالى : وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك لا تقتلوه الآية . الخطاب في قوله : " ولك " يدل على أن المخاطب واحد ، وفي قوله : " لا تقتلوه " يدل على أنه جماعة . والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه : الأول : أن صيغة الجمع للتعظيم . الثاني : أنها تعني فرعون وأعوانه الذين هموا معه بقتل موسى ، فأفردت الضمير في قولها : " لك " ، لأن كونه : " قرة عين " في زعمها يختص بفرعون دونهم وجمعته في قولها : " لا تقتلوه " ، لأنهم شركاء معه في الهم بقتله . الثالث : أنها لما استعطفت فرعون على موسى التفتت إلى المأمورين بقتل الصبيان قائلة لهم : لا تقتلوه . معللة ذلك بقولها : عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا . قوله تعالى : قال لأهله امكثوا الآية . أهله زوجته بدليل قوله : وسار بأهله [ 28 \ 29 ] ، لأن المعروف أنه سار من عند شعيب بزوجته ابنة شعيب أو غير شعيب على القول بذلك ، وقوله : " امكثوا " : خطاب جماعة الذكور ، فما وجه خطاب المرأة بخطاب جماعة الذكور . والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه : الأول : أن الإنسان يخاطب المرأة بخطاب الجماعة ، تعظيما لها ، ونظيره قول الشاعر : [ ص: 362 ] فإن شئت حرمت النساء سواكم وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا الثاني : أن معها خادما ، والعرب ربما خاطبت الاثنين خطاب الجماعة . الثالث : أنه كان له مع زوجته ولدان له اسم الأكبر منهما : جيرشوم واسم الأصغر اليعازر . والجواب الأول ظاهر ، والثاني والثالث محتملان لأنهما من الإسرائيليات ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : إنك لا تهدي من أحببت . قد قدمنا أن وجه الجمع بينه وبين قوله تعالى : وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم [ 42 \ 52 ] أن الهدى المنفي عنه صلى الله عليه وسلم هو منح التوفيق والهدى المثبت له هو إبانة الطريق . [ ص: 363 ] بسم الله الرحمن الرحيم سورة العنكبوت قوله تعالى : وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء الآية . لا يعارضه قوله تعالى : وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم [ 29 \ 13 ] ، كما تقدم بيانه مستوفى في سورة " النحل " ، فأثقالهم أوزار ضلالهم ، والأثقال التي معها أوزار إضلالهم ولا ينقص ذلك شيئا من أوزار أتباعهم الضالين . قوله تعالى : وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب . هذه الآية الكريمة تدل على أن النبوة والكتاب في خصوص ذرية إبراهيم ، وقد ذكر في سورة " الحديد " ما يدل على اشتراك نوح معه في ذلك في قوله : ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب [ 57 \ 26 ] . والجواب أن وجه الاقتصار على إبراهيم أن جميع الرسل بعده من ذريته وذكر نوح معه لأمرين : أحدهما : أن كل من كان من ذرية إبراهيم فهو من ذرية نوح . والثاني : أن بعض الأنبياء من ذرية نوح ولم يكن من ذرية إبراهيم : كهود وصالح ولوط ويونس على خلاف فيه ، ولا ينافي ذلك الاقتصار على إبراهيم ، لأن المراد من كان بعد إبراهيم لا من كان قبله أو في عصره ، كلوط عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام . [ ص: 364 ] بسم الله الرحمن الرحيم سورة الروم قوله تعالى : فأقم وجهك للدين حنيفا الآية . هذا خطاب خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وقد قال تعالى بعده : منيبين إليه واتقوه [ 30 \ 31 ] ، فقوله : منيبين إليه حال من ضمير الفاعل المستتر في قوله : فأقم وجهك الواقع على النبي صلى الله عليه وسلم ، فتقرير المعنى فأقم وجهك يا نبي الله صلى الله عليه وسلم في حال كونكم منيبين إليه ، وقد تقرر عند علماء العربية أن الحال إن لم تكن سببية لا بد أن تكون مطابقة لصاحبها إفرادا وتثنية وجمعا وتذكيرا وتأنيثا ، فما وجه الجمع بين هذه الحال وصاحبها ؟ فالحال جمع وصاحبها مفرد ، والجواب أن الخطاب الخاص بالنبي صلى الله عليه وسلم ، يعم حكمه جميع الأمة ، فالأمة تدخل تحت خطابه صلى الله عليه وسلم ، فتكون الحالة من الجميع الداخل تحت خطابه صلى الله عليه وسلم . ونظير هذه الآية في دخول الأمة تحت الخطاب الخاص به صلى الله عليه وسلم ، قوله تعالى : ياأيها النبي إذا طلقتم النساء [ 65 ] . فقوله : طلقتم النساء بعد ياأيها النبي دليل على دخول الأمة تحت لفظ " النبي " . وقوله : ياأيها النبي لم تحرم [ 66 ] ، ثم قال : قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم [ 66 \ 2 ] وقوله : ياأيها النبي اتق الله [ 33 \ 1 ] ، ثم قال : إن الله كان بما تعملون خبيرا [ 33 \ 2 ] . وقوله : فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها [ 33 \ 37 ] ، ثم قال : لكي لا يكون على المؤمنين حرج الآية [ 33 \ 37 ] . وقوله : وما تكون في شأن [ 10 \ 61 ] ، ثم قال : ولا تعملون من عمل [ 10 \ 61 ] . ودخول الأمة في الخطاب الخاص بالنبي صلى الله عليه وسلم هو مذهب الجمهور وعليه مالك وأبو حنيفة وأحمد رحمهم الله تعالى ، خلافا للشافعي رحمه الله . [ ص: 365 ] بسم الله الرحمن الرحيم سورة لقمان قوله تعالى : وصاحبهما في الدنيا معروفا . هذه الآية الكريمة تدل على الأمر ببر الوالدين الكافرين ، وقد جاءت آية أخرى يفهم منها خلاف ذلك وهي قوله تعالى : لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله [ 58 \ 22 ] . ثم نص على دخول الآباء في هذا بقوله : ولو كانوا آباءهم [ 58 \ 22 ] ، والذي يظهر لي والله تعالى أعلم ، أنه لا معارضة بين الآيتين . ووجه الجمع بينهما أن المصاحبة بالمعروف أعم من الموادة ، لأن الإنسان يمكنه إسداء المعروف لمن يوده ومن لا يوده ، والنهي عن الأخص لا يستلزم النهي عن الأعم ، فكأن الله حذر من المودة المشعرة بالمحبة والموالاة بالباطن لجميع الكفار يدخل في ذلك الآباء وغيرهم ، وأمر الإنسان بأن لا يفعل لوالديه إلا المعروف وفعل المعروف لا يستلزم المودة لأن المودة من أفعال القلوب لا من أفعال الجوارح . ومما يدل لذلك إذنه صلى الله عليه وسلم لأسماء بنت أبي بكر الصديق أن تصل أمها وهي كافرة ، وقال بعض العلماء : إن قصتها سبب لنزول قوله تعالى : لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين الآية [ 60 \ 8 ] . قوله تعالى : ياأيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده الآية . هذه الآية تدل بظاهرها على أن يوم القيامة لا ينفع فيه والد ولده ، وقد جاءت آية أخرى تدل على رفع درجات الأولاد بسبب صلاح آبائهم حتى يكونوا في درجة الآباء مع أن عملهم - أي الأولاد - لم يبلغهم تلك الدرجة إقرارا لعيون الآباء بوجود الأبناء معهم في منازلهم من الجنة وذلك نفع لهم ، وهي قوله تعالى : والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء الآية [ 52 \ 21 ] . [ ص: 366 ] ووجه الجمع أشير إليه بالقيد الذي في هذه الآية وهو قوله تعالى : واتبعتهم ذريتهم بإيمان وعين فيها النفع بأن إلحاقهم بهم في درجاتهم يقيد الإيمان ، فهي أخص من الآية الأخرى والأخص لا يعارض الأعم ، وعلى قول من فسر الآية بأن معنى قوله : لا يجزي والد عن ولده لا يقضي عنه حقا لزمه ولا يدفع عنه عذابا حق عليه ، فلا إشكال في الآية . وسيأتي لهذا زيادة إيضاح في سورة " النجم " في الكلام على : وأن ليس للإنسان إلا ما سعى الآية [ 53 \ 39 ] ، إن شاء الله تعالى . [ ص: 367 ] بسم الله الرحمن الرحيم سورة السجدة قوله تعالى : قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم الآية . أسند في هذه الآية الكريمة التوفي إلى ملك واحد وأسنده في آيات أخر إلى جماعة الملائكة كقوله : إن الذين توفاهم الملائكة الآية [ 8 \ 50 ] . وقوله : ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم الآية [ 6 \ 93 ] . وأسنده في آية أخرى إلى نفسه جل وعلا وهي قوله تعالى . الله يتوفى الأنفس حين موتها الآية [ 39 \ 42 ] . والجواب عن هذا ظاهر ، وهو أن إسناده التوفي إلى نفسه ، لأن ملك الموت لا يقدر أن يقبض روح أحد إلا بإذنه ومشيئته تعالى : وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا [ 3 \ 145 ] ، وأسنده لملك الموت لأنه هو المأمور بقبض الأرواح ، وأسنده للملائكة لأن ملك الموت له أعوان من الملائكة تحت رئاسته ، يفعلون بأمره وينزعون الروح إلى الحلقوم ، فيأخذها ملك الموت ، والعلم عند الله تعالى . [ ص: 368 ] بسم الله الرحمن الرحيم سورة الأحزاب قوله تعالى : ياأيها النبي . لا منافاة بينه وبين قوله في آخر الآية : إن الله كان بما تعملون خبيرا [ 33 \ 2 ] ، بصيغة الجمع لدخول الأمة تحت الخطاب الخاص بالنبي صلى الله عليه وسلم لأنه قدوتهم كما تقدم بيانه مستوفى في سورة " الروم " . قوله تعالى : ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه . هذه الآية الكريمة تدل بفحوى خطابها أنه لم يجعل لامرأة من قلبين في جوفها . وقد جاءت آية أخرى يوهم ظاهرها خلاف ذلك وهي قوله تعالى في حفصة وعائشة : إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما الآية [ 66 \ 4 ] ، فقد جمع القلوب لهاتين المرأتين . والجواب عن هذا من وجهين : أحدهما : أن المثنى إذا أضيف إليه شيئان هما جزآه ، جاز في ذلك المضاف الذي هو شيئان الجمع والتثنية والإفراد ، وأفصحها الجمع فالإفراد فالتثنية على الأصح سواء كانت الإضافة لفظا أو معنى . فاللفظ مثاله : شويت رءوس الكبشين أو رأسهما أو رأسيهما . والمعنى : قطعت الكبشين رأسهما أو رأسيهما . والمعنى : قطعت الكبشين رءوسا وقطعت منها الرءوس ، فإن فرق المثنى فالمختار الإفراد نحو : على لسان داود وعيسى ابن مريم [ 5 \ 78 ] ، وإن كان الاثنان المضافان منفصلين عن المثنى المضاف إليه ، أي كانا غير جزأيه ، فالقياس الجمع وفاقا للفراء ، وفي الحديث : ما أخرجكما من بيوتكما إذ أويتما إلى مضاجعكما و : هذه فلانة وفلانة يسألانك عن إنفاقهما على أزواجهما ألهما فيه أجر ، و : لقي عليا وحمزة فضرباه بأسيافهما . ![]()
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |