|
ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
![]() ![]() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد الثامن الحلقة (589) سُورَةُ الطَّارِقِ صـ 489 إلى صـ 498 قوله تعالى : هل أتاك حديث الجنود فرعون وثمود بعد عرض قصة أصحاب الأخدود ; تسلية للمؤمنين وتثبيتا لهم ، وزجرا للمشركين وردعا لهم ، جاء بأخبار لبعض من سبق من الأمم وفرعون وثمود ، بدل من الجنود ، وهم جمع جند ، وهم الكثرة وأصحاب القوة ، وحديثه ما قص الله من خبره مع موسى وبني إسرائيل . وفي اختيار فرعون هنا بعد أصحاب الأخدود ; لما بينهما من المشاكلة والمشابهة ، إذ فرعون طغى وادعى الربوبية ، كملك أصحاب الأخدود الذي قال لجليسه : ألك رب غيري ؟ ولتعذيبه بني إسرائيل بتقتيل الأولاد واستحياء النساء ، وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ، ولتقديم الآيات والبراهين على صدق الداعية ، إذ موسى - عليه السلام - قدم لفرعون من آيات ربه الكبرى ، فكذب وعصى ، والغلام قدم لهذا الملك الآيات الكبرى : إبراء الأكمه والأبرص بإذن الله ، وعجز فرعون عن موسى وإدراكه ، وعجز الملك عن قتل الغلام ; إذ نجاه الله من الإغراق والدهدهة من قمة الجبل ، فكان لهذا أن يرعوي عن ذلك ويتفطن للحقيقة ، ولكن سلطانه أعماه كما أعمى فرعون . وكذلك آمن السحرة ; لما رأوا آية موسى ، وخروا لله سجدا . وهكذا هنا آمن الناس برب الغلام ، فوقع الملك فيما وقع فيه فرعون ، إذ جمع فرعون السحرة ; ليشهد الناس عجز موسى وقدرته ، فانقلب الموقف عليه ، وكان أول [ ص: 489 ] الناس إيمانا هم أعوان فرعون على موسى ، وهكذا هنا كان أسرع الناس إيمانا الذي جمعهم الملك ليشهدوا قتله للغلام . فظهر تناسب ذكر فرعون دون غيره من الأمم الطاغية السابقة ، وإن كان في الكل عظة وعبرة ، ولكن هذا منتهى الإعجاز في قصص القرآن وأسلوبه - والله تعالى أعلم . وكذلك ثمود ، لما كان منهم من مظاهر القوة والطغيان ، وقد جمعها الله أيضا معا في سورة " الفجر " في قوله : وثمود الذين جابوا الصخر بالوادي وفرعون ذي الأوتاد [ 89 \ 9 - 10 ] ، وهكذا جمعها هنا " فرعون وثمود " . قوله تعالى : بل الذين كفروا في تكذيب أي : مستمر في كل الأمم ، وتقدم في سورة " الانشقاق " قبلها : بل الذين كفروا يكذبون [ 84 \ 22 ] . فقال الكرماني : محمود بن حمزة بن نصر تاج القراء ، في كتابه " أسرار التكرار في القرآن " : إن المغايرة لمراعاة رءوس الآي والفواصل ، ولكن الظاهر من السياق في الموضعين مراعاة السياق لا فواصل الآي ; لأن في سورة " الانشقاق " الحديث مع المشركين : لتركبن طبقا عن طبق فما لهم لا يؤمنون وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون بل الذين كفروا يكذبون [ 84 \ 19 - 22 ] . وفي سورة " البروج " هنا ذكر الأمم من فرعون ، وثمود ، وأصحاب الأخدود ، والمشركين في مكة ، ثم قال : بل الذين كفروا يكذبون [ 85 \ 19 ] فناسب هذا هنا ، وناسب ذاك هناك ، والله تعالى أعلم . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ الطَّارِقِ قوله تعالى : والسماء والطارق أصل الطرق في اللغة : الدق ، ومنه المطرقة ; ولذا قالوا للآتي ليلا : طارق ; لأنه يحتاج إلى طرق الباب . وعليه قول امرئ القيس : فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع فألهيتها عن ذي تمائم محول أي جئتها ليلا ، وقول الآخر : ألم ترياني كلما جئت طارقا وجدت بها طيبا وإن لم تطيب وقول جرير : طرقتك صائدة القلوب وليس ذا وقت الزيارة فارجعي بسلام وفي الحديث : " أعوذ بك من شر طوارق الليل والنهار ، إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن " ، فهو لفظ عم في كل ما يأتي شيئه المفاجئ ، ولكأنه يأتي في حالة غير متوقعة ، ولكنه هنا خص بما فسر به بعده في :قوله تعالى : وما أدراك ما الطارق النجم الثاقب فقيل : ما يثقب الشياطين عند استراق السمع ، كما تقدم في قوله تعالى : فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا [ 72 \ 9 ] فيكون عاما في كل نجم . وقيل : خاص ، فقيل : زحل ، وقيل : المريخ ، وقيل : الثريا ; لأنه إذا أطلق النجم عند العرب كان مرادا به الثريا . وتقدم هذا للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في أول سورة " النجم " . [ ص: 491 ] وقيل : " الثاقب " : المضيء ، يثقب الظلام بضوئه ، وعليه فهو للجنس عامة ; لأن النجوم كلها مضيئة . قال القرطبي ، وقال سفيان : كل ما في القرآن ، " وما أدراك " فقد أخبره به ، وكل شيء قال فيه : " وما يدريك " ، لم يخبره به . والواقع أنه الغالب ، فقد جاءت : " وما أدراك " ثلاث عشرة مرة ، كلها أخبره بها إلا واحدة ، وهي في الحاقة : وما أدراك ما الحاقة [ 69 \ 3 ] ، وما عداها ، فقد أخبره بها ، وهي : وما أدراك ما سقر لا تبقي ولا تذر [ 74 \ 27 - 28 ] . وفي " المرسلات " : وما أدراك ما يوم الفصل [ 77 \ 14 ] . وفي " الانفطار " : وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين يوم لا تملك نفس لنفس شيئا [ 82 \ 17 - 19 ] . وفي " المطففين " : وما أدراك ما سجين كتاب مرقوم [ 83 \ 8 - 9 ] . وفي " البلد " : وما أدراك ما العقبة فك رقبة [ 90 \ 12 - 13 ] . وفي " القدر " : وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر [ 97 \ 2 - 3 ] . وفي " القارعة " : وما أدراك ما القارعة [ 101 \ 3 ] . وأيضا : فأمه هاوية وما أدراك ما هيه نار حامية [ 101 \ 9 - 11 ] ، وفي هذه السورة : وما أدراك ما الطارق النجم الثاقب ، فكلها أخبره عنها إلا في " الحاقة " . تنبيه . يلاحظ أنها كلها في قصار السور من " الحاقة " وما بعدها ، أما " ما يدريك " ، فقد جاءت ثلاث مرات فقط : وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا [ 33 \ 63 ] ، في " الأحزاب " : وما يدريك لعل الساعة قريب [ 42 \ 17 ] ، في " الشورى " ، وما يدريك لعله يزكى [ 80 \ 3 ] في " عبس وتولى " ، فلم يخبره فيها صراحة ، إلا أنه في [ ص: 492 ] الثالثة قد يكون أخبره ; لأنه قال : لعله يزكى ، فهو وإن لم يصرح : هل هو تزكى أم لا ؟ إلا أن لعل من الله تعالى للتحقيق ، كما هو معلوم . تنبيه آخر . قال كثير من المفسرين : أقسم الله بالسماء ، وبالنجم الطارق ; لعظم أمرهما ، وكبر خلقهما ، كما في قوله : فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم [ 56 \ 75 - 76 ] ; ولأنه أقسم بالنجم إذا هوى . وفيما تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - ترجيح كون مواقع النجوم : والنجم إذا هوى [ 53 \ 1 ] : إنما هو نجوم القرآن ، وتنزيله منجما وهو به نزول الملك به على النبي - صلى الله عليه وسلم - . قوله تعالى : إن كل نفس لما عليها حافظ قيل : " حافظ " لأعماله يحصيها عليه ، كما في قوله : ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد [ 50 \ 18 ] . وقيل : " حافظ " أي : حارس ، كقوله تعالى : له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله [ 13 \ 11 ] ، والسياق يشهد للمعنيين معا ; لأن قوله تعالى بعده : فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب [ 86 \ 5 - 7 ] يدل على أنه في تلك المراحل في حفظ ، فهو أولا : " في قرار مكين " [ 23 \ 13 ] . وفي الحديث : " أن الله وكل بالرحم ملكا " . الحديث . وبعد بلوغه سن التكليف يجري عليه القلم ، فيحفظ عليه عمله ، فلا مانع من إرادة المعنيين معا ، وليس هذا من حمل المشترك على معنييه ; لأن كلا من المعنيين له متعلق يختص بزمن خلاف الآخر . قوله تعالى : فلينظر الإنسان مم خلق " الإنسان " هنا خاص ببني آدم وذريته عامة ، ولم يدخل فيه آدم ولا حواء ولا عيسى - عليه السلام - لأنه بين ما خلق منه ، وهو في قوله تعالى : خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب . [ ص: 493 ] وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان هذه الآية عند قوله تعالى : خلق الإنسان من نطفة [ 16 \ 4 ] ، في سورة " النحل " ، وفي سورة " الواقعة " عند قوله تعالى : أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون [ 56 \ 58 - 59 ] ، وتقدمت الإشارة إليه عند قوله تعالى : إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج [ 76 \ 2 ] ، في سورة " الدهر " . قوله تعالى : إنه على رجعه لقادر ، " إنه " هنا أي : إن الله " على رجعه " ، الضمير فيه قيل : راجع للماء الدافق ، أي : أنه سبحانه قادر على رجع هذا الماء من حيث خرج ، كرد اللبن إلى الضرع مثلا ، ورد الطفل إلى الرحم ، وهذا مروي عن عكرمة ومجاهد . وقيل : على رجع الإنسان بعد الموت ، وهذا وإن كان في الأول دلالة على القدرة ، ولا يقدر عليه إلا الله ، إلا أن في السياق ما يدل على أن المراد هو الثاني ; لعدة أمور : الأول : أن رد الماء لم يتعلق به حكم ولا أمر آخر سوى إثبات القدرة ، بخلاف رجع الإنسان بعد الموت ، فهو قضية الإيمان بالبعث . ويتعلق به كل أحكام يوم القيامة . الثاني : مجيء القرآن بالخلق الأول دليل على الإعادة بعد الموت ، كقوله تعالى في " يس " : وضرب لنا مثلا ونسي خلقه أي : من ماء دافق : قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة [ 36 \ 78 - 79 ] ، أي : " من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب " . الثالث : أن الأول يحتاج معه إلى تقدير عامل لـ " يوم تبلى السرائر " ، نحو اذكر مثلا ، بخلاف الثاني ، فإن العامل فيه : هو " لقادر " ، أي : لقادر على رجعه يوم تبلى السرائر . ونقل أبو حيان عن ابن عطية قوله : وكل من خالف ذلك إنما فر من أن يكون : " لقادر " هو العامل في الظرف ; لأنه يوهم أن قدرته على رجعه مقيدة بذلك ، ولكن بتأمل أسلوب العرب يعلم جوازه ; لأنه قال : إنه على رجعه لقادر على الإطلاق أولا وآخرا ، وفي كل وقت ، ثم ذكر تعالى وخصص من الأوقات الوقت الأهم [ ص: 494 ] على الكفار ; لأنه وقت الجزاء والوصول إلى العذاب للتحذير منه . اهـ . فظهر بذلك أن الضمير في " رجعه " عائد للإنسان ، أي : بعد موته بالبعث ، وأن العامل هو : " لقادر " . قوله تعالى : يوم تبلى السرائر تقدم للشيخ - رحمة الله علينا وعليه - بيانه عند الكلام على قوله تعالى : هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت [ 10 \ 30 ] ، وساق عندها هذه الآية ، وسيأتي التصريح به في سورة " العاديات " عند قوله تعالى : أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور [ 100 \ 9 - 10 ] . وقد أجمل ابتلاء السرائر . وكذلك أجمل الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بإيراد الآيات . وذكر المفسرون : أن المراد بها أمانة التكليف فيما لا يعلمه إلا الله ، ومثلوا لذلك : بالحفاظ على الطهارة للصلاة ، وغسل الجنابة ، وحفظ الصوم ، ونحو ذلك . ومنه العقائد وصدق الإيمان أو النفاق ، عياذا بالله . والسرائر : هي كل ما يخفيه الإنسان حتى في المعاملات مع الناس ، كما في الأثر : " الكيس من كانت له عند الله خبيئة سر " ، وقوله : وأسروا قولكم أو اجهروا به [ 67 \ 13 ] ، فالسر ضد الجهر ، وقال الأحوص : سيبقى لها في مضمر القلب والحشا سريرة ود يوم تبلى السرائر قال أبو حيان : سمعه الحسن ، فقال : ما أغفله عما في السماء والطارق . قوله تعالى : فما له من قوة ولا ناصر قالوا : ليس من قوة في نفسه لضعفه ، ويدل عليه قوله : وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة [ 18 \ 48 ] . وقوله : خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة [ 68 \ 43 ] ، أي : من الضعف وشدة الخوف ، ولا ناصر له من غيره ، كما في قوله : ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا [ 18 \ 43 ] . [ ص: 495 ] وقوله : يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله [ 82 \ 19 ] . . قوله تعالى : والسماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع قيل : رجع السماء : إعادة ضوء النجوم والشمس والقمر . وقيل : " الرجع " : الملائكة ترجع بأعمال العباد . وقيل : " الرجع " : المطر وأرزاق العباد . " والأرض ذات الصدع " قيل : تنشق عن الخلائق يوم البعث . وقيل : تنشق بالنبات . والذي يشهد له القرآن : أن الرجع والصدع متقابلان من السماء والأرض : بالمطر والنبات . كما في قوله تعالى : فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا " [ 80 \ 24 - 28 ] . والله تعالى أعلم . قوله تعالى : إنه لقول فصل : قال ابن كثير : قال ابن عباس : حق . وكذا قال قتادة ، وقال آخرون : حكم عدل . وقال القرطبي : إنه أي القرآن ، يفصل بين الحق والباطل . وقيل : هو ما تقدم من الوعيد في هذه السورة : إنه على رجعه لقادر يوم تبلى السرائر [ 86 \ 8 - 9 ] . وقال أبو حيان بما قال به القرطبي أولا ، ثم جوز أن يكون مرادا به الثاني ، أي : أن الإخبار عن رجع الإنسان يوم تبلى السرائر ، قول فصل ، وهذا ما يفيده كلام ابن جرير ، وعزاه النيسابوري إلى القفال . وسياق السورة يشهد لهذا القول الثاني ; لأن السورة كلها في معرض إثبات القدرة على البعث ، وإعادة الإنسان بعد الفناء ، حيث تضمنت ثلاثة أدلة من أدلة البعث : الأول : السماء ذات الطارق ; لعظم خلقتها ، وعظم دلالتها على القدرة . [ ص: 496 ] الثاني : خلق الإنسان أولا من ماء دافق ، كما في قوله : قل يحييها الذي أنشأها أول مرة [ 36 \ 79 ] . الثالث : مجموع قوله : والسماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع ، أي : إنزال المطر ، وإنبات النبات وهو إحياء الأرض بعد موتها . فناسب أن يكون الإقسام على تحقق البعث . وأكد هذا ما جاء بعده من الوعيد بالإمهال رويدا ، وقد سمي يوم القيامة بيوم الفصل ، كما في قوله : لأي يوم أجلت ليوم الفصل وما أدراك ما يوم الفصل ويل يومئذ للمكذبين [ 77 \ 12 - 15 ] . وذكر الويل في هذه الآية للمكذبين ، يعادل الإمهال في هذه السورة للكافرين ، وإذا ربطنا بين القسم والمقسم عليه ، لكان أظهر وأوضح ; لأن رجع الماء بعد فنائه بتلقيح السحاب من جديد ، يعادل رجع الإنسان بعد فنائه في الأرض ، وتشقق الأرض عن النبات يناسب تشققها يوم البعث عن الخلائق . والله تعالى أعلم . قوله تعالى : إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا نسبة هذا الفعل له تعالى ، قالوا إنه : من باب المقابلة كقوله : ومكروا ومكر الله [ 3 \ 54 ] ، وقوله : إنما نحن مستهزئون الله يستهزئ بهم [ 2 \ 14 - 15 ] ، وهو في اللغة كقول القائل : لما سئل عن أي الطعام يريد ، وهو عار يريد كسوة : قالوا اختر طعاما نجد لك طبخة قلت اطبخوا لي جبة وقميصا وقد اتفق السلف ، أنه لا ينسب إلى الله تعالى على سبيل الإطلاق ، ولا يجوز أن يشتق له منه اسم ، وإنما يطلق في مقابل فعل العباد ; لأنه في غير المقابلة لا يليق بالله تعالى ، وفي معرض المقابلة فهو في غاية العلم والحكمة والقدرة ، والكيد أصله المعاجلة للشيء بقوة . وقال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة : والعرب قد تطلق الكيد على المكر ، والعرب قد يسمون المكر كيدا ، قال الله تعالى : أم يريدون كيدا [ 52 \ 42 ] ، وعليه فالكيد هنا لم يبين ، فإذا كان بمعنى المكر ، فقد تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - [ ص: 497 ] بيان شيء منه عند قوله تعالى : ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين [ 3 \ 54 ] ; بأن مكرهم محاولتهم قتل عيسى ، ومكر الله إلقاء الشبه ، أي : شبه عيسى على غير عيسى . وتقدم قوله تعالى : قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون [ 16 \ 26 ] ، وهذا في قصة النمرود ، فكان مكرهم بنيان الصرح ليصعد إلى السماء ، فكان مكر الله بهم أن تركهم حتى تصاعدوا بالبناء ، فأتى الله بنيانهم من القواعد ، فهدمه عليهم . وهكذا الكيد هنا ، إنهم يكيدون للإسلام والمسلمين ، يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم ، والله يكيد لهم بالاستدراج حتى يأتي موعد إهلاكهم ، وقد وقع تحقيقه في بدر ; إذ خرجوا محادة لله ولرسوله ، وفي خيلائهم ومفاخرتهم ، وكيد الله لهم : أن قلل المؤمنين في أعينهم ، حتى طمعوا في القتال ، وأمطر أرض المعركة ، وهم في أرض سبخة ، والمسلمون في أرض رملية فكان زلقا عليهم وثباتا للمؤمنين ، ثم أنزل ملائكته لقتالهم . والله تعالى أعلم . قوله تعالى : فمهل الكافرين أمهلهم رويدا قال الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في دفع إيهام الاضطراب ما نصه : هذا الإمهال المذكور هنا ينافيه قوله تعالى : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم الآية [ 9 \ 5 ] . والجواب : أن الإمهال منسوخ بآيات السيف . اهـ . وهذا ما يفيده كلام الطبري ، وإن لم يصرح به وهو منصوص القرطبي . ولعل في نفس الآية ما يدل على ذلك ، وهو قوله : أمهلهم رويدا ; لأن " رويدا " : بمعنى قليلا ، فقد قيد الإمهال بالقلة ، مما يشعر بمجيء النسخ وأنه ليس نهائيا . والله تعالى أعلم . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . سُورَةُ الْأَعْلَى . قوله تعالى : سبح اسم ربك الأعلى تقدم معنى التسبيح ، وهو التنزيه عن كل ما لا يليق ، والأمر بالتسبيح هنا منصب على اسم ربك ، وفي آيات أخر جاء الأمر بتسبيح الله تعالى كقوله : ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا [ 76 \ 26 ] . ومثل : فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون [ 30 \ 17 ] . وتسبيح الرب سبحانه كقوله : سبحان ربك رب العزة عما يصفون [ 37 \ 180 ] ، فاختلف في هذه الآية ، هل المراد تسبيح الله سبحانه ، أو المراد تسبيح اسمه تعالى ، كما هو هنا ؟ ثم اختلف في المراد بتسبيح اسم الله تعالى ، وجاءت مسألة الاسم والمسمى . وقد تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في سورة " الواقعة " ، عند قوله تعالى : فسبح باسم ربك العظيم [ 56 \ 96 ] ، قوله : إن الباء هناك داخلة على المفعول كدخولها عليه في قوله : وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا [ 19 \ 25 ] ، وأحال على متقدم في ذلك ، وحكى كلام القرطبي أن الاسم بمعنى المسمى ، واستشهد له من كلام العرب بقول لبيد : إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر ![]()
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() ![]() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد الثامن الحلقة (590) سُورَةُ الْأَعْلَى . صـ 499 إلى صـ 508 وقال : لا يلزم في نظري أن الاسم بمعنى المسمى هنا ; لإمكان كون المراد نفس الاسم ; لأن أسماء الله ألحد فيها قوم ونزهها آخرون ، ووصفها الله بأنها بالغة غاية الحسن ; لاشتمالها على صفاته الكريمة ، كما في قوله : ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها [ 7 \ 180 ] . [ ص: 499 ] وقوله تعالى : أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى [ 17 \ 110 ] . ثم قال : ولسنا نريد أن نذكر كلام المتكلمين في الاسم والمسمى : هل الاسم هو المسمى أو لا ؟ لأن مرادنا هنا بيان معنى الآية . اهـ . فتضمن كلامه - رحمة الله تعالى علينا وعليه - احتمال كون المراد : تنزيه اسم الله عما ألحد فيه الملحدون ، كاحتمال تنزيه الله تعالى عن كل ما لا يليق بجلاله ، كما تضمن عدم لزوم كون الاسم هنا بمعنى المسمى ، ولعلنا نورد مجمل بيان تلك النقاط . إن شاء الله . أما تنزيه أسماء الله فهو على عدة معان ، منها : تنزيهها عن إطلاقها على الأصنام : كاللات ، والعزى ، واسم الآلهة . ومنها : تنزيهها عن اللهو بها واللعب ، كالتلفظ بها في حالة تنافي الخشوع والإجلال : كمن يعبث بها ويلهو ، ونظيره من يلهو ويسهو عن صلاته : فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون [ 107 \ 4 - 5 ] ، أو وضعها في غير مواضعها : كنقش الثوب ، أو الفراش الممتهن . ومنها : تنزيهها عن المواطن غير الطاهرة ، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل الخلاء نزع خاتمه ; لما فيه من نقش محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . ومنه : صيانة الأوراق المكتوبة من الابتذال صونا لاسم الله . وعلى هذا تكون هذه الآية موضحة لآية " الواقعة " ، وأن اسم ربك واقع موقع المفعول به ، وهو المراد بالتسبيح ، وعلى أن المراد تسبيح الله تعالى ، ، فقالوا : إن الاسم هو المسمى ، كما قال القرطبي وغيره ، وقالوا : الاسم صلة ، كما في بيت لبيد المتقدم . أما مسألة الاسم : هل هو عين المسمى أم لا ؟ فقد أشار إليها الفخر الرازي ، وقال : إنه وصف ركيك . أما قول الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - : ولا يلزم في نظري كون الاسم بمعنى المسمى هنا ، فإنه بلازم إلى بسط قليل ; ليظهر صحة ما قاله . [ ص: 500 ] وقد ناقشها الرازي بعد مقدمة ، قال فيها : من الناس من تمسك بهذه الآية ، في أن الاسم نفس المسمى . فأقول : إن الخوض في الاستدلال لا يمكن إلا بعد تلخيص محل النزاع ، فلا بد ها هنا من بيان أن الاسم ما هو ؟ والمسمى ما هو ؟ فنقول : إن كان المراد من الاسم هو هذا اللفظ ، وبالمسمى تلك الذات ، فالعاقل لا يمكن أن يقول : الاسم هو المسمى ، وإن كان المراد من الاسم هو تلك الذات ، وبالمسمى أيضا تلك الذات . كان قولنا : الاسم نفس المسمى ; هو أن تلك الذات هي تلك الذات . وهذا لا يمكن أن ينازع فيه عاقل ، فعلمنا أن هذه المسألة في وصفها ركيكة ، وذكر الاشتباه على المتأخرين ; بسبب لفظ الاسم الذي هو قسيم الفعل والحرف ، إذ هو مراد المتقدمين في إطلاقه وإرادة مسماه . ومن هنا تعلم لماذا أعرض الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - عن بيانها ؟ وقد أوردنا هذا البيان المجمل ; لنطلع القارئ إليه ، وعلى كل تقدير عند المتقدمين أو المتأخرين ; فإنه إن وقع الاحتمال في الذوات الأخرى ، فلا يقع في ذات الله وأسمائه ; لأن لأسماء الله أحكاما لا لأسماء الآخرين ، ولأسمائه سبحانه حق التسبيح والتنزيه ، والدعاء بها . كما تقدم . وهنا وجهة نظر لم أر من صرح بها ، ولكن قد تفهم من كلام بعض المفسرين ، وتشير إليها السنة . وهي : أن يكون التسبيح هنا بمعنى الذكر والتعبد : كالتحميد ، والتهليل ، والتكبير . وقد جاء في كلام الرازي قوله : ويكون المعنى سبح ربك بذكر أسمائه ، ونحوه في بعض نقول الطبري . أما إشارة السنة إلى ذلك ، فقد روى الطبري وغيره عنه - صلى الله عليه وسلم - : أنها لما نزلت ، قال - صلى الله عليه وسلم - بعد أن قرأها : " سبحان ربي الأعلى " . وكذلك ما روي : أنه - صلى الله عليه وسلم - لما نزلت : فسبح باسم ربك العظيم [ 56 \ 74 ] ، قال : " اجعلوها في ركوعكم " ولما نزلت هذه ، قال : " اجعلوها في سجودكم " . [ ص: 501 ] وساق القرطبي أثرا طويلا في فضلها في الصلاة وخارج الصلاة ، لكنه ليس بصحيح . وجاء الحديث الصحيح : " وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين ، وتكبرون ثلاثا وثلاثين ، وتختمون المائة بلا إله إلا الله " . وقد صح عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت : " ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة ، بعد أن نزلت عليه : إذا جاء نصر الله والفتح [ 110 \ 1 ] ، إلا يقول : " سبحانك ربنا وبحمدك ، اللهم اغفر لي " ، وقالت : يتأول القرآن . وقالت أم سلمة : " إنه كان يقولها في قيامه وقعوده ، ومجيئه وذهابه - صلى الله عليه وسلم - فيكون : " سبح اسم ربك " : أي : اذكر ربك . وهذا ما دلت عليه الآية الأخرى في هذه السورة نفسها في قوله تعالى : قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى [ 87 \ 14 - 15 ] ، فصرح بذكر اسم ربك ، كما جاء سبح اسم ربك ، فوضع الذكر موضع التسبيح ، وهو ما أشرنا إليه . وبالله تعالى التوفيق . قوله تعالى : الذي خلق فسوى أطلق الخلق ; ليعم كل مخلوق كما تقدم في " السجدة " ، " الذي أحسن كل شيء خلقه " [ 32 \ 7 ] ، والتسوية : التقويم والتعديل ، وقد خلق الله كل مخلوق مستو على أحسن ما يتناسب لخلقته وما خلق له ، فخلق السموات فسواها في أقوى بناء ، وأعلى سمك ، وأشد تماسك ، لا ترى فيها من تشقق ولا فطور ، وزينها بالنجوم ، وخلق الأرض ودحاها ، وأخرج منها ماءها ومرعاها ، والجبال أرساها وجعلها فراشا ومهادا ، وخلق الأشجار فسواها على ما تصلح له من ذوات الثمار ، ووقود النار ، وغير ذلك . وهذه الحيوانات في خلقتها وتسويتها آية : أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت [ 88 \ 17 - 20 ] . أما الإنسان فهو في أحسن تقويم ، كل ذلك مما يستوجب حقا له سبحانه أن يسبح [ ص: 502 ] اسمه في ذاته ، وجميع صفاته ، حيث جمع بين الخلق والتسوية ، فلكمال القدرة والتنزيه عن كل نقص . قوله تعالى : والذي قدر فهدى أطلق هنا التقدير ; ليعم كل مقدور ، وهو عائد على كل مخلوق ; لأن من لوازم الخلق التقدير ، كما قال تعالى : إنا كل شيء خلقناه بقدر [ 54 \ 49 ] ، وقوله : قد جعل الله لكل شيء قدرا [ 65 \ 3 ] ، وهذه الآية ومثيلاتها من أعظم آيات القدرة ، وقد جمعها تعالى عند التعريف التام لله تعالى ، لما سأل فرعون نبي الله موسى عن ربه ، قال : فمن ربكما ياموسى قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى [ 20 \ 49 - 50 ] . وقد تقدم بيان عموم قوله تعالى : الذي خلق فسوى [ 87 \ 2 ] ، وهنا قدر كل ما خلق ، وهدى كل مخلوق إلى ما قدره له ، ففي العالم العلوي قدر مقادير الأمور ، وهدى الملائكة لتنفيذها ، وقدر مسير الأفلاك ، وهداها إلى ما قدر لها : " كل في فلك يسبحون " [ 21 \ 33 ] . وفي الأشجار والنباتات ; قدر لها أزمنة معينة في إيتائها وهدايتها إلى ما قدر لها ، فالجذر ينزل إلى أسفل والنبتة تنمو إلى أعلى ، وهكذا الحيوانات في تلقيحها ، ونتاجها ، وإرضاعها . كل قد هداه إلى ما قدر له ، وهكذا الإنسان . وقد قال الفخر الرازي : إن العالم كله داخل تحت منطوق هذه الآية . أما معناها بالتفصيل ، فتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في سورة " طه " عند الكلام على قوله تعالى : قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى [ 20 \ 50 ] . قوله تعالى : سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - معنى : نقرئك في سورة " طه " ، في الكلام على قوله تعالى : ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه [ 20 \ 114 ] ، وبينه بآية " القيامة " : لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه [ 75 \ 16 ] . [ ص: 503 ] وقوله : " فلا تنسى " : بحثه - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في دفع إيهام الاضطراب مع ما ينسخ من الآيات فينساه . وسيطبع - إن شاء الله تعالى - مع هذه التتمة ، تتمة للفائدة . قوله تعالى : فذكر إن نفعت الذكرى هل : إن هنا بمعنى إذ أو أنها شرطية ؟ وهل للشرط مفهوم مخالفة أم لا ؟ كل ذلك بحثه الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بتوسع في دفع إيهام الاضطراب ، ورجح أنها شرطية ، وقسم المدعو إلى ثلاثة أقسام : مقطوع بنفعه ، ومقطوع بعدم نفعه ، ومحتمل ، وقال : محل التذكير ما لم يكن مقطوعا بعدم نفعه ، كمن بين له مرارا فأعرض ، كأبي لهب ، وقد أخبر الله عنه بمآله فلا نفع في تذكيره . قوله تعالى : سيذكر من يخشى تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان الحكمة من الذكرى . ومنها تذكير المؤمنين ، وذلك في الكلام على قوله تعالى : وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين [ 51 \ 55 ] ، في سورة " الذاريات " . قوله تعالى : ويتجنبها الأشقى الذي يصلى النار الكبرى أي : بسبب شقائهم السابق أزلا ، كما قال تعالى : فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق [ 11 \ 106 ] . قوله تعالى : ثم لا يموت فيها ولا يحيا نفى عنه الضدين ; لأن الإنسان بالذات إما حي وإما ميت ، ولا واسطة بينهما ، ولكن في يوم القيامة تتغير الموازين والمعايير ، وهذا أبلغ في التعذيب ، إذ لو مات لاستراح ، ومع أنه يتلقى من العذاب ما لا حياة معه ، كما في قوله تعالى : لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها وقوله ( ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ) [ 35 \ 36 ] . وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان معنى ذلك في سورة " طه " عند الكلام [ ص: 504 ] على قوله تعالى : إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا [ 20 \ 74 ] . قوله تعالى : قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى أسند الفلاح هنا إلى : " من تزكى وذكر اسم ربه فصلى " وفي غير هذه الآية أسند التزكية لمشيئة الله في قوله : ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا [ 24 \ 21 ] ، وفي آية أخرى ، نهى عن تزكية النفس . وقد تقدم للشيخ بيان ذلك في سورة " النور " عند الكلام على قوله تعالى : ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد على أن " زكا " بمعنى تطهر من الشكر والمعاصي ، لا على أنه أخرج الزكاة ، والذي يظهر أن آية " النجم " إنما نهى فيها عن تزكية النفس ; لما فيه من امتداحها ، وقد لا يكون صحيحا كما في سورة " الحجرات " : قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا [ 49 \ 14 ] والله تعالى أعلم . قوله تعالى : بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى قرئ : " تؤثرون " بالتاء وبالياء راجعا إلى الأشقى الذي يصلى النار الكبرى [ 87 \ 11 - 12 ] ، وعلى أنها بالتاء للخطاب أعم ، وحيث إن هذا الأمر عام في الأمم الماضية ، ويذكر في الصحف الأولى كلها عامة ، وفي صحف إبراهيم وموسى ، مما يدل على خطورته ، وأنه أمر غالب على الناس . وقد جاءت آيات دالة على أسباب ذلك منها : الجهل ، وعدم العلم بالحقائق ، كما في قوله تعالى : وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون [ 29 \ 64 ] ، أي : الحياة الدائمة . وقد روى القرطبي عن مالك بن دينار قوله : لو كانت الدنيا من ذهب يفنى ، والآخرة من خزف يبقى ، لكان الواجب أن يؤثر خزف يبقى على ذهب يفنى ، فكيف والآخرة من ذهب يبقى والدنيا من خزف يفنى ؟ ومن أسباب ذلك أن الدنيا زينت للناس ، وعجلت لهم كما في قوله : [ ص: 505 ] زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث [ 3 \ 14 ] . ثم قال : ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب [ 3 \ 14 ] . وبين تعالى هذا المآب الحسن وهو في وصفه يقابل : والآخرة خير وأبقى ، فقال : قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد [ 3 \ 15 ] . تأمل هذا البديل ، ففي الدنيا : ذهب ، وخيل ، ونساء ، والأنعام ، والحرث ، وقد قابل ذلك كله بالجنة ; فعمت وشملت . ولكن نص على أزواج مطهرة ; ليعرف الفرق بين نساء الدنيا ونساء الآخرة ، كما تقدم في : وأنهار من عسل مصفى ، ولبن لم يتغير طعمه ، وماء غير آسن ، وخمر لذة للشاربين ، لا يصدعون عنها ولا ينزفون [ 56 \ 19 ] ، وغير ذلك مما ينص على الخيرية في الآخرة . ولا شك أن من آثر الآخرة غالب على من آثر الدنيا ، وظاهر عليه ، كما صرح تعالى بذلك في قوله : زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حساب [ 2 \ 212 ] . فمن هذا ; يظهر أن أسباب إيثار الناس للحياة الدنيا ، هو تزيينها وزخرفتها في أعينهم : بالمال ، والبنين ، والخيل ، والأنعام : المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا [ 18 \ 46 ] . وقد سيق هذا ، لا على سبيل الإخبار بالواقع فحسب ، بل إن من ورائه ما يسمى لازم الفائدة ، وهو ذم من كان هذا حاله ، فوجب البحث عن العلاج لهذه الحالة . وإذا ذهبنا نتطلب العلاج ، فإننا في الواقع نواجه أخطر موضوع على الإنسان ; لأنه يشمل حياته الدنيا ومآله في الآخرة ، ويتحكم في سعادته وفوزه ، أو شقاوته وحرمانه ، وإن أقرب مأخذ لنا لهو هذا الموطن بالذات من هذه السورة ، وهو بضميمة ما قبلها إليها من قوله تعالى : سيذكر من يخشى ويتجنبها الأشقى الذي يصلى النار الكبرى [ 87 \ 10 - 12 ] ، وبعدها قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى [ 87 \ 14 14 - 6 ] [ ص: 506 ] فقد قسمت هذه الآيات الأمة كلها أمة الدعوة إلى قسمين . أما التذكير والإنذار ، إذ قال تعالى : فذكر إن نفعت الذكرى [ 87 \ 9 ] ، فهذا موقف النبي - صلى الله عليه وسلم - وجاء تقسيم الأمة إلى القسمين في الآيتين : سيذكر من يخشى : فينتفع بالذكرى وتنفعه : ويتجنبها الأشقى ، فلا تنفعه ولا ينتفع بها ، ثم جاء الحكم بالفلاح : قد أفلح من تزكى ، أي : من يخشى وذكر اسم ربه فصلى ، ولم يغفل عن ذكر الله تعالى ، وهذا الموقف بنفسه هو المفصل في سورة " الحديد " ، وفي معرض التوجيه لنا والتوبيخ للأمم الماضية أيضا : ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون [ 57 \ 16 ] . فقسوة القلب ، وطول الأمد والتسويف : هي العوامل الأساسية للغفلة وإيثار الدنيا . والخشية والذكر : هي العوامل الأساسية لإيثار الآخرة ، ثم عرض الدنيا في حقيقتها بقوله : اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث إلى قوله والله ذو الفضل العظيم [ 57 \ 20 - 21 ] . فوصف الداء والدواء معا في هذا السياق . فالداء : هو الغرور ، والدواء : هو المسابقة إلى مغفرة من الله ورضوانه . وقوله : إن هذا لفي الصحف الأولى ، قيل : اسم الإشارة راجع إلى السورة كلها ; لتضمنها معنى التوحيد والمعاد ، والذكر ، والعبادات . والصحف الأولى : هي " صحف إبراهيم وموسى " ، على أنها بدل من الأولى . وجاء عند القرطبي : أن صحف إبراهيم كانت أمثالا ، وصحف موسى كانت مواعظ ، وذكر نماذج لها . وعند الفخر الرازي من رواية أبي ذر - رضي الله عنه - : أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " كم أنزل الله من كتاب ؟ فقال : مائة وأربعة كتب : على آدم عشر صحف ، وعلى شيث خمسين صحيفة ، وعلى إدريس ثلاثين صحيفة ، وعلى إبراهيم عشر صحائف ، والتوراة ، والإنجيل ، والزبور ، والفرقان " . [ ص: 507 ] وفي هذا نص على أن في القرآن مما في الصحف الأولى ، وقد جاء ما يدل أن معان أخرى كذلك في صحف إبراهيم وموسى كما في سورة " النجم " في قوله : أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى [ 53 \ 36 - 40 ] . وهذا يؤيد أنها أكثرها أمثالا ومواعظ ، كما يؤكد ترابط الكتب السماوية . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . سُورَةُ الْغَاشِيَةِ . قوله تعالى : هل أتاك حديث الغاشية وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا حامية تسقى من عين آنية ليس لهم طعام إلا من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع الكلام في هل هنا ، كالكلام في هل التي في أول سورة " الإنسان " ، أنها استفهامية أو أنها بمعنى قد ؟ ورجح أبو السعود وغيره : أنها استفهامية ; للفت النظر ، وشدة التعجب ، والتنويه بشأن هذا الحديث ، وهو مروي عن ابن عباس ، قال - رضي الله عنه - : " لم يكن أتاه فأخبره به " وحديث الغاشية هو خبرها الذي يتحدث عنها . والغاشية قال أبو حيان : أصلها في اللغة : الداهية تغشى الناس ، واختلف في المراد بها هنا ، فقيل : يوم القيامة . وقيل : النار . واستدل كل قائل بنصوص . فمن الأول قوله : يوم يغشاهم العذاب [ 29 \ 55 ] . قال الفخر الرازي : وإنما سميت القيامة بهذا الاسم ; لأن ما أحاط بالشيء من جميع جهاته فهو غاش له ، والقيامة كذلك من وجوه : الأول : أنها ترد على الخلق بغتة ، وهو كقوله : أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة [ 12 \ 107 ] . والثاني : أنها تغشى الناس جميعا من الأولين والآخرين . والثالث : أنها تغشى الناس بالأهوال والشدائد . ![]()
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() ![]() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد الثامن الحلقة (591) سُورَةُ الْغَاشِيَةِ . صـ 509 إلى صـ 518 [ ص: 509 ] ومن استدلالهم على أنها النار ، قوله تعالى : وتغشى وجوههم النار [ 14 \ 50 ] . وقيل : الغاشية أهل النار يغشونها ، أي : يدخلونها ، فالغاشية كالدافة في حديث الأضاحي . وقال الطبري : والراجح عندي أن الله تعالى أطلق ليعم ، فيجب أن تطلق ; ليعم أيضا . والذي يظهر رجحانه - والله تعالى أعلم - : أنها في عموم القيامة ، وليس في خصوص النار ; فالنار من أهوال ودواهي القيامة ، وهو ما يشهد له القرآن في هذا السياق من عدة وجوه ، ومنها : أنه جاء بعدها قوله : وجوه يومئذ [ 88 \ 2 ] ، ويوم أنسب للقيامة منه للنار . ومنها : التصريح بعد ذلك ; بأن من كانت تلك صفاتهم : " تصلى نارا حامية " ، مما يدل على أن الغاشية شيء آخر سوى النار الحامية . ومنها : أن التعميم ليوم القيامة يشمل جميع الخلائق ، وهو الأنسب بالموقف ، ثم ينجي الله الذين اتقوا . وقد بين تعالى قسيم هذا الصنف ، مما يدل على أن الحديث المراد إلغاؤه ، إنما هو عن حالة عموم الموقف . قوله تعالى : وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا حامية الآيات . اتفقوا على أن " يومئذ " يعني : يوم القيامة . وقال أبو حيان : والتنوين فيه تنوين عوض . وهو تنوين عوض عن جملة ، ولم تتقدم جملة تصلح أن يكون التنوين عوضا عنها ، ولكن لما تقدم لفظ الغاشية . وأل موصولة باسم الفاعل ، فتنحل للتي غشيت ، أي : للداهية التي غشيت ، فالتنوين عوض من هذه الجملة التي انحل لفظ الغاشية إليها ، وإلى الموصول الذي هو التي ، وهذا مما يرجح ويؤيد ما قدمناه ، من أن الغاشية هي القيامة [ ص: 510 ] " وجوه يومئذ خاشعة " ، بمعنى : ذليلة . قال أبو السعود : هذا وما بعده وقع جوابا عن سؤال ، نشأ من الاستفهام التشويقي المتقدم ، كأنه قيل من جانبه - صلى الله عليه وسلم - : " ما أتاني حديثها " ، فأخبره الله تعالى . فقال : " وجوه " إلخ . قال : ولا بأس بتنكيرها ; لأنها في موقع التنويع ، أي : سوغ الابتداء بالنكرة كونها في موقع التنويع : وجوه كذا ، ووجوه كذا . وخاشعة : خبر المبتدأ ، أي : وما بعده من صفاتهم . وقوله : عاملة ناصبة العمل معروف ، والنصب : التعب ، وقد اختلف في زمن العمل والنصب هذين : هل هو كان منها في الدنيا أم هو واقع منهم فعلا في الآخرة ؟ وما هو على كلا التقديرين : فالذين قالوا : هو كان منهم في الدنيا ، منهم من قال : عمل ونصب في العبادات الفاسدة : كعمل الرهبان والقسيسين والمبتدعة الضالين ، فلم ينفعهم يوم القيامة ، أي : كما في قوله : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا [ 25 \ 23 ] . ومنهم من قال : عمل ونصب والتذ ، فيما لا يرضي الله ، فعامله الله بنقيض قصده في الآخرة ، ولكن هذا الوجه ضعفه ظاهر ; لأن من هذه حالهم لا يعدون في عمل ونصب ، بل في متعة ولذة . والذين قالوا : سيقع منهم بالفعل يوم القيامة ، اتفقوا على أنه عمل ونصب في النار من جر السلاسل ، عياذا بالله ، وصعودهم وهبوطهم الوهاد والوديان ، أي : كما في قوله : سأرهقه صعودا [ 74 \ 17 ] ، وقوله : ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا [ 72 \ 17 ] . وقد ذكر الفخر الرازي تقسيما ثلاثيا ، فقال : إما أن يكون ذلك كله في الدنيا أو كله في الآخرة ، أو بعضه في الدنيا وبعضه في الآخرة ، ولم يرجح قسما منها إلا أن وجه القول : بأنها في الدنيا وهي في القسيسين ونحوهم . فقال : لما نصبوا في عبادة إله وصفوه بما ليس متصفا به ، وإنما تخيلوه تخيلا ، أي بقولهم : ثالث ثلاثة [ 5 \ 73 ] ، وقولهم : عزير ابن الله [ 9 \ 30 ] ، فكانت عبادتهم لتلك الذات المتخيلة لا لحقيقة الإله سبحانه . [ ص: 511 ] ولا يبعد أن يقال على هذا الوجه : إن من كان ممن لا ينطق بالشهادتين ، ويعمل على جهالة فيما لا يعذر بجهله أن يخشى عليه من هذه الآية ، كما يخشى على من يعمل على علم ، ولكن في بدعة وضلالة . ومما يشهد للأول حديث المسيء صلاته . ولأثر حذيفة : " رأى رجلا يصلي فطفق ، فقال له : منذ كم تصلي هذه الصلاة ؟ قال : منذ أربعين سنة . قال له : ما صليت منذ أربعين سنة ، ولو مت على ذلك ، مت على غير فطرة محمد - صلى الله عليه وسلم - " . والأحاديث الواردة في ذلك على سبيل العمومات ، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - : " من عمل عملا ليس عليه أمري فهو رد " أي : مردود . وحديث الحوض : " فيذاد أقوام عن حوضي ، فأقول : أمتي أمتي ، فيقال : إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك ; إنهم غيروا وبدلوا " . ونحو ذلك مما يوجب الانتباه إلى صحة العمل ، وموافقته لما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - . وكذلك القسم الثاني ، كما في قوله : قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم الآية [ 18 \ 103 - 104 ] . أما الراجح من القولين في زمن : عاملة ناصبة في صبة أهو في الدنيا أم في الآخرة ؟ فإنه القول بيوم القيامة ، وهو مروي عن ابن عباس وجماعة ، والأدلة على ذلك من نفس السياق . ولابن تيمية كلام جيد جدا في هذا الترجيح ، ولم أقف على قول لغيره أقوى منه ، نسوق مجمله للفائدة : قال في المجموع في تفسير هذه السورة بعد حكاية القولين : الحق هو الثاني لوجوه ، وساق سبعة وجوه : الأول : أنه على القول الثاني يتعلق الظرف بما يليه ، أي : وجوه يوم الغاشية ، خاشعة عاملة ناصبة صالية . أما على القول الأول فلا يتعلق إلا بقوله : " تصلى " . ويكون قوله : " خاشعة " صفة للوجوه ، قد فصل بينها وبين الموصوف بأجنبي متعلق بصفة أخرى . والتقدير : وجوه [ ص: 512 ] خاشعة عاملة ناصبة يومئذ تصلى نارا حامية ، والتقديم والتأخير على خلاف الأصل ، فالأصل إقرار الكلام على نظمه وترتيبه ، لا تغيير ترتيبه ، والتقديم والتأخير إنما يكون مع قرينة . والثاني : أن الله ذكر وجوه الأشقياء ووجوه السعداء في السورة بعد ذلك : وجوه يومئذ ناعمة لسعيها راضية في جنة عالية [ 88 \ 8 - 10 ] ، أي : في ذلك اليوم ، وهو يوم الآخرة : فالواجب تناظر القسمين ، أي : في الظرف . الثالث : أن نظير هذين القسمين ما ذكر في موضع آخر في قوله : وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة [ 75 \ 22 - 25 ] ، وفي موضع آخر في قوله : وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة أولئك هم الكفرة الفجرة [ 80 \ 38 - 42 ] ، وهذا كله وصف للوجوه في الآخرة . الرابع : أن المراد بالوجوه أصحابها ; لأن الغالب في القرآن وصف الوجوه بالعلامة كقوله : سيماهم في وجوههم [ 48 \ 29 ] ، وقوله : فلعرفتهم بسيماهم [ 47 \ 30 ] ، وهذا الوجه لم تتضح دلالته على المقصود . الخامس : أن قوله : " خاشعة عاملة ناصبة " ، لو جعل صفة لهم في الدنيا لم يكن في هذا اللفظ ذم ; فإن هذا إلى المدح أقرب ، وغايته أنه وصف مشترك بين عباده المؤمنين وعباده الكافرين ، والذم لا يكون بالوصف المشترك ، ولو أريد المختص لقيل : خاشعة للأوثان مثلا ، عاملة لغير الله ، ناصبة في طاعة الشيطان ، وليس في القرآن ذم لهذا الوصف مطلقا ولا وعيد عليه ، فحمله على هذا المعنى خروج عن الخطاب المعروف في القرآن ، وهذا الوجه من أقواها في المعنى ، وأوضحها دلالة . وقد يشهد له أن هؤلاء قد يكون منهم العوام المغرورون بغيرهم ، ويندمون غاية الندم يوم القيامة على اتباعهم إياهم ، كما في قوله تعالى : وقال الذين كفروا ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين [ 41 \ 29 ] . السادس : - وهو مهم أيضا - أنه لو جعل لهم في الدنيا ; لكان خاصا ببعض الكفار دون [ ص: 513 ] بعض ، وكان مختصا بالعباد منهم ، مع أن غير العباد منهم يكونون أسوأ عملا ، ويستوجبون أشد عقوبة . السابع : أن هذا الخطاب لو جعل لهم في الدنيا ; لكان مثله ينفر من أصل العبادة والتنسك ابتداء ، أي : وقد جاءت السنة بترك أصحاب الصوامع والمتنسكين ، دون التعرض لهم بقتل ولا قتال ، كما أنها أقرت أصحاب الديانات على دياناتهم ، مما يشعر باحترام أصل التعبد لعموم الجنس ، كما أشار . وقد أوردنا مجمل كلامه - رحمه الله - ; لئلا تتخذ الآية على غير ما هو الراجح فيها ، أو يحمل السياق على غير ما سيق له ، وقد ختم كلامه بتوجيه لطيف بقوله : ثم إذا قيد ذلك بعبادة الكفار والمبتدعة ، وليس في الخطاب تقييد ، كان هذا سعيا في إصلاح الخطاب بما لم يذكر فيه . اهـ . ومن الذي يعطي نفسه حق إصلاح الخطاب في كلام رب العالمين ، إنها لفتة إلى ضرورة ومدى أهمية تفسير القرآن بالقرآن ، الذي نهجه الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن . وقد بدا لي وجه آخر ، وهو لو جعل هذا العمل الكفار والمبتدعة ; لكان منطوقه : أن العذاب وقع عليهم مجازاة على عملهم ونصبهم في عبادتهم تلك ، والحال أن عذاب الكفار عموما إنما هو على ترك العمل لله وحده ، وعقاب المبتدعة فيما ابتدعوه من ضلال ، فإذا كان ما ابتدعوه لا علاقة له بأركان الإسلام ولا بالعقيدة ، وإنما هو في فروع من العبادات ابتدعوها لم تكن في السنة ، فإنهم وإن عملوا ونصبوا فلا أجر لهم فيها ، ولا يقال : إنهم يعذبون عليها بطل ذلك المذكور مع سلامة العقيدة في التوحيد ، والقيام بالواجب في أركان الإسلام ، إذ العذاب المذكور ليس مقابلا بالعمل والنصب المذكور . والله تعالى أعلم . قوله تعالى : تسقى من عين آنية قيل : حاضرة ، وقيل : شديدة الحرارة ، وهذا الأخير هو ما يشهد له القرآن في قوله تعالى : يطوفون بينها وبين حميم آن ، ومعلوم أن الحميم شديد الحرارة ، كما أن حملها على معنى حاضرة لم يكن فيه بيان معنى ما في تلك العين من أنواع الشراب [ ص: 514 ] المعد والمحضر لهم ، وفي المعجم : " حميم آن " : قد انتهى حره ، والفعل : أنى الماء المسخن يأني بكسر النون . قال عباس : علانية والخيل يغشى متونها حميم وآن من دم الجوف ناقع قوله تعالى : ليس لهم طعام إلا من ضريع تكلم الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب في الجمع بينه وبين قوله تعالى : فليس له اليوم هاهنا حميم ولا طعام إلا من غسلين [ 69 \ 35 - 36 ] ، وبين الصحيح من معنى الضريع ما هو ، وأنه نبت معروف للعرب ، وهو على الحقيقة لا المجاز . وقد أورد الفخر الرازي سؤالا والجواب عليه ، وهو : كيف ينبت الضريع في النار ؟ فأجاب بالإحالة على تصور : كيف يبقى جسم الكفار حيا في النار ؟ وكذلك الحيات والعقارب في النار . وهذا وإن كان وجيها من حيث منطق القدرة ، ولكن القرآن قد صرح بأن النار فيها شجرة الزقوم ، وأنها فتنة للظالمين في قوله : أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم إنا جعلناها فتنة للظالمين إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم طلعها كأنه رءوس الشياطين فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون [ 37 \ 62 - 66 ] ، فأثبت شجرة تخرج في أصل الجحيم ، وأثبت لها لازمها وهو : طلعها في تلك الصورة البشعة ، وأثبت لازم اللازم وهو : أكلهم منها حتى ملء البطون . والحق أن هذا السؤال وجوابه قد أثاره المبطلون ، ولكن غاية ما في الأمر سلب خاصية الإحراق في النار عن النبات ، وليس هذا ببعيد على قدرة من خلق النار وجعل لها الخاصية . وقد وجد نظيره في الدنيا فتلك نار النمروذ ، كانت تحرق الطير في الجو إذا اقترب منها ، وعجزوا عن الدنو إليها ; ليلقوا فيها إبراهيم ووضعوه في المنجنيق ورموه من بعيد ، ومع ذلك حفظه الله منها بقوله تعالى لها : كوني بردا وسلاما على إبراهيم [ 21 \ 69 ] ، فسبحان من بيده ملكوت كل شيء . قوله تعالى : وجوه يومئذ ناعمة لسعيها راضية في جنة عالية لا تسمع فيها لاغية فيها عين جارية فيها سرر مرفوعة وأكواب موضوعة ونمارق مصفوفة وزرابي مبثوثة [ ص: 515 ] وهذا هو قسيم القسم الأول في بيان حال أهل الجنة ، ولم يعطف بالواو ; إيذانا بكمال تباين مضمونيهما . و " يومئذ " : هو يوم الغاشية المتقدم ، وهذا يقتضي أن الغاشية عامة في الفريقين . وإن اختلفت أحوالها مع مختلف الناس ، وعليه فمنهم من تغشاه بهولها ، ومنهم من تغشاه بنعيمها . وهي بالنسبة لكل منهما متناهية فيما تغشاهم به ، وهي صادقة على الفريقين . ومعلوم أن الغاشية تطلق على الخير كما تطلق على الشر ، بمعنى الشمول والإحاطة التامة . ومن إطلاقها على الخير ما جاء في الحديث : " ما جلس قوم مجلسا يذكرون الله تعالى فيه إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ، وذكرهم الله فيمن عنده " أخرجه مسلم . وبيان ذلك وتحقيقه في حق كلا القسمين كالآتي : أما الأول منهما : - وهو الغاشية في حق أهل النار - فقد غشيهم العذاب حسا ومعنى ، ظاهرا وباطنا أو لا خشوع في ذلة ، وهي ناحية نفسية ، وهي أثقل أحيانا من الناحية المادية ، فقد يختار بعض الناس الموت عنها ، ثم مع الذلة العمل والنصب حسا وبدنا ، ومع النصب الشديد " تصلى نارا حامية " وكان يكفي تصلى نارا . ولكن إتباعها بوصفها حامية ; فهو زيادة في إبراز عذابهم ، وزيادة في غشيان العذاب لهم ، ثم يسقون " من عين آنية " : متناهية في الحرارة ; فيكونون بين نار حامية من الخارج وحميم من الداخل تصهر منه البطون ، فهو أتم في الشمول للغاشية لهم من جميع الوجوه ، وفي حق القسم المقابل تعميم كامل وسرور شامل كالآتي ، وجوه ناعمة مكتملة النعمة ، تعرف في وجوههم نضرة النعيم . وهذا في شموله من الناحية المعنوية ، كمقابلة في القسم الأول بدلا من خاشعة في ذلة ناعمة في نضرة " لسعيها راضية " الذي سعته في الدنيا ، والذي تسعى لتحصيله أو ثوابه " في جنة عالية " بدلا من عمل ونصب . " لا تسمع فيها لاغية " : منزلة أدبية رفيعة ; حيث لا تسمع فيها كلمة لغو ولا يليق بها ، فهو إكرام لهم حتى في الكلمة التي يسمعونها ، كما في قوله : [ ص: 516 ] لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما [ 56 \ 25 - 26 ] . فيها عين جارية ومعلوم أنها عيون وأنهار تجري ، كقوله : في جنات وعيون [ 15 \ 45 ] ، ومن لوازم العيون والأنهار ، هو كمال النعيم ، فأشجار ورياحين ، فروح وريحان وجنة نعيم . وهذا في التعميم يقابل العين الآنية في الحميم للقسم الأول . " فيها سرر مرفوعة " وهم عليها متكئون ، بدل من عمل الآخرين في نصب وشقاء . " وأكواب موضوعة " لإتمام التمتع وكمال الخدمة والرفاهية . " ونمارق مصفوفة " متكأ " وزرابي مبثوثة " مفروشة في كل مكان ، فاكتمل النعيم من كل جانب ، حيث اشتمل ما تراه العين وما تسمعه الأذن ، وما يتذوقون طعمه من شراب وغيره . فيكون بذلك قد غشيتهم النعمة ، كما غشيت أولئك النقمة ، وتكون الغاشية بمعنى الشاملة ، وعلى عمومها للفريقين ، وهي صالحة لغة وشرعا للمعذبين بالعذاب ، وللمنعمين بالنعيم . وبالله تعالى التوفيق . تنبيه . مجيء فيها مرتين : فيها عين جارية ، فيها سرر مرفوعة ; للدلالة على قسمي نعيم الجنة . الأول : عيون ونزهة . والثاني : سرر وسكن . قوله تعالى : أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت فذكر إنما أنت مذكر توجيه الأنظار إلى تلك المذكورات الأربعة ; لما فيها من عظيم الدلائل على القدرة ، وعلى البعث ، وثم الإقرار لله تعالى بالوحدانية والألوهية ، نتيجة لإثبات ربوبيته تعالى لجميع خلقه . أما الإبل : فلعلها أقرب المعلومات للعرب ، وألصقها بحياتهم في مطعمهم من لحمها ومشربهم من ألبانها ، وملبسهم من أوبارها وجلودها ، وفي حلهم وترحالهم بالحمل عليها ، مما لا يوجد في غيرها في العالم كله لا في الخيل ولا في الفيلة ، ولا في أي حيوان آخر ، وقد وجه الأنظار إليها مع غيرها في معرض امتنانه تعالى عليهم في قوله : [ ص: 517 ] أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون [ 36 \ 71 - 73 ] . وكذلك في خصوصها في قوله : والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرءوف رحيم [ 16 \ 5 - 7 ] . إنها نعم متعددة ومنافع بالغة لم توجد في سواها البتة ، وكل منها دليل على القدرة بذاته . أما الجبال : فهي مما يملأ عيونهم في كل وقت ، ويشغل تفكيرهم في كل حين ; لقربها من حياتهم في الأمطار والمرعى في سهولها ، والمقيل في كهوفها وظلها ، والرهبة والعظمة في تطاولها وثباتها في مكانها . وقد وجه الأنظار إليها أيضا في موطن آخر في قوله تعالى : ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا [ 78 \ 6 - 7 ] ، ثوابت كما بين تعالى أنها رواسي للأرض أن تميد بكم والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم فهي مرتبطة بحياتهم وحياة أنعامهم كما أسلفنا . أما السماء ورفعها : أي : ورفعتها في خلقها ، وبدون عمد ترونها ، وبدون فطور أو تشقق على تطاول زمنها ، فهي أيضا محط أنظارهم ، وملتقى طلباتهم في سقيا أنعامهم . ومعلوم أن خلق السماء والأرض من آيات الله الدالة على البعث ، كما تقدم مرارا . وتقدم للشيخ عند قوله تعالى : إن في خلق السماوات والأرض الآية [ 2 \ 164 ] . بيان كونها آية . أما الأرض وكيف سطحت ، فإن الآية فيها مع عمومها كما في قوله : لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس [ 40 \ 57 ] . وقوله : كيف سطحت [ 88 \ 20 ] آية ثابتة ; لأن جرمها مع إجماع المفسرين على تكويرها ، فإنها ترى مسطحة ، أي : من النقطة التي هي في امتداد البصر ، وذلك يدل على سعتها وكبر حجمها ; لأن الجرم المتكور إذا بلغ من الكبر والضخامة حدا بعيدا يكاد سطحه يرى مسطحا من نقطة النظر إليه ، وفي كل ذلك آيات متعددات للدلالة على قدرته تعالى على بعث الخلائق ، وعلى إيقاع ما يغشاهم على مختلف أحوالهم . وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - التنبيه على هذا المعنى ، عند الكلام على [ ص: 518 ] قوله تعالى : قل انظروا ماذا في السماوات والأرض [ 10 \ 101 ] . الآية من سورة " يونس " . تنبيه . التوجيه هنا بالنظر إلى الكيفية في خلق الإبل ، ونصب الجبال ، ورفع السماء ، وتسطيح الأرض ، مع أن الكيف للحالة ، والله تعالى لم يشهد أحدا على شيء من ذلك كله : ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض [ 18 \ 51 ] . فكيف يوجه السؤال إليهم للنظر إلى الكيفية وهي شيء لم يشهدوه ؟ ! ! . والجواب - والله تعالى أعلم - : هو أنه بالتأمل في نتائج خلق الإبل ، ونصب الجبال إلخ . وإن لم يعلموا الكيف ، بل ويعجزون عن كنهه وتحقيقه ، فهو أبلغ في إقامة الدليل عليهم ، كمن يقف أمام صنعة بديعة يجهل سر صنعتها ، فيتساءل كيف تم صنعها ؟ وقد وقع مثل ذلك : وهو الإحالة على الأثر بدلا من كشف الكنه والكيف ، وذلك في سؤال الخليل - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - ربه : أن يريه كيف يحيي الموتى . فكان الجواب : أن أراه الطيور تطير ، بعد أن ذبحها بيده وقطعها ، وجعل على كل جبل منها جزءا . فلم يشاهد كيفية وكنه ، وحقيقة الإحياء ، وهو دبيب الروح فيها وعودة الحياة إليها ; لأن ذلك ليس في استطاعته ، ولكن شاهد الآثار المترتبة على ذلك ، وهي تحركها وطيرانها ، وعودتها إلى ما كانت عليه قبل ذبحها . مع أنه كان للعزير موقف مماثل وإن كان أوضح في البيان ; حيث شاهد العظام وهو سبحانه ينشرها ، ثم يكسوها لحما . والله تعالى أعلم . أما قوله تعالى بعد ذلك : فذكر إنما أنت مذكر ، فإن مجيء هذا الأمر بالفاء في هذا الموطن ، فإنه يشعر بأن النظر الدقيق والفكر الدارس ، مما قد يؤدي بصاحبه إلى الاستدلال على وجود الله وعلى قدرته ، كما نطق مؤمن الجاهلية : قس بن ساعدة ، في خطبته المشهورة : ليل داج ، ونهار ساج ، وسماء ذات أبراج ، ونجوم تزهر ، وبحار تزخر ، وجبال مرساة ، وأرض مدحاة ، وأنهار مجراة . فقد ذكر السماء ، والجبال ، والأرض . ![]()
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() ![]() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد الثامن الحلقة (592) سُورَةُ الْفَجْرِ . صـ 519 إلى صـ 528 وكقول زيد بن عمرو بن نفيل ، مؤمن الجاهلية المعروف : وأسلمت وجهي لمن أسلمت له الأرض تحمل صخرا ثقالا [ ص: 519 ] دحاها فلما استوت شدها سواء وأرسى عليها الجبالا وأسلمت وجهي لمن أسلمت له المزن تحمل عذبا زلالا إذا هي سيقت إلى بلدة أطاعت فصبت عليها سجالا وأسلمت وجهي لمن أسلمت له الريح تصرف حالا فحالا فكان على هؤلاء العقلاء أن ينظروا بدقة وتأمل ، فيما يحيط بهم عامة . وفي تلك الآيات الكبار خاصة ، فيجدون فيها ما يكفيهم . كما قيل : وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد فإذا لم يهدهم تفكيرهم ، ولم تتجه أنظارهم . فذكرهم إنما أنت مذكر . وهذا عام ، أي : سواء بالدلالة على القدرة من تلك المصنوعات ، أو بالتلاوة من آيات الوحي . والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم فيه الدلالة على أن الإياب هو المرجع . قال عبيد : وكل ذي غيبة يئوب وغائب الموت لا يئوب كما في قوله : إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون [ 5 \ 48 ] ، وهو على الحقيقة كما في صريح منطوق قوله تعالى : ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم الآية [ 3 \ 55 ] . وقوله : ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون [ 6 \ 164 ] . وقوله : ثم إن علينا حسابهم [ 88 \ 26 ] ، الإتيان بثم ; للإشعار ما بين إيابهم وبدء حسابهم : وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون [ 22 \ 47 ] . وقوله : إن علينا ، بتقدم حرف التأكيد ، وإسناد ذلك لله تعالى ، وبحرف " على " مما يؤكد ذلك لا محالة ، وأنه بأدق ما يكون ، وعلى الصغيرة والكبيرة كما في قوله : وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله [ 2 \ 284 ] . [ ص: 520 ] ومن الواضح مجيء إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم ، بعد قوله تعالى : فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر إلا من تولى وكفر فيعذبه الله العذاب الأكبر ; تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتخويفا لأولئك الذين تولوا وأعرضوا ، ثم إن الحساب في اليوم الآخر ليس خاصا بهؤلاء ، بل هو عام بجميع الخلائق . ولكن إسناده لله تعالى مما يدل على المعاني المتقدمة . نسأل الله العفو والسلامة . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . سُورَةُ الْفَجْرِ . قوله تعالى : والفجر وليال عشر والشفع والوتر والليل إذا يسري اختلف في المراد بالفجر ، فقيل : انفجار النهار من ظلمة الليل . وقيل : صلاة الفجر . وكلا القولين له شاهد من القرآن . أما انفجار النهار ، فكما في قوله تعالى : والصبح إذا تنفس [ 81 \ 18 ] . وأما صلاة الفجر فكما في قوله : وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا [ 17 \ 78 ] ، ولكن في السياق ما يقرب القول الأول ، إذ هو في الأيام والليالي : " الفجر وليال عشر " ، " الليل إذا يسري " ، وكلها آيات زمنية أنسب لها انفجار النهار . بقي بعد ذلك اختلافهم في أي الفجر عنى هنا ؟ فقيل بالعموم في كل يوم ، وقيل : بالخصوص . والأول قول ابن عباس وابن الزبير وعلي - رضي الله عنهم - . وعلى الثاني ، فقيل : خصوص الفجر يوم النحر . وقيل : أول يوم المحرم ، وليس هناك نص يعول عليه . إلا أن فجر يوم النحر أقرب إلى الليالي العشر ، إن قلنا : هي عشر ذي الحجة على ما يأتي . إن شاء الله . أما الليالي العشر : فأقوال المفسرين محصورة في عشر ذي الحجة ، وعشر المحرم ، والعشر الأواخر من رمضان . والأول : جاء عن مسروق أنها العشر التي ذكرها الله في قصة موسى - عليه السلام - : وأتممناها بعشر " [ 7 \ 142 ] ، وكلها الأقوال الثلاثة مروية عن ابن عباس . وليس في القرآن نص بعينها . وفي السنة بيان فضيلة عشر ذي الحجة ، وعشر رمضان كما هو معلوم ، فإن جعل الفجر خاصا بيوم النحر ، كان عشر ذي الحجة أقرب للسياق . والله تعالى أعلم . [ ص: 522 ] " والشفع والوتر " : ذكر المفسرون أكثر من عشرين قولا ، ومجموعها يشمل جميع المخلوقات جملة وتفصيلا . أما جملة ، فقالوا : إنما الوتر هو الله ; للحديث : " إن الله وتر يحب الوتر " ، وما سواه شفع ، كما في قوله تعالى : ومن كل شيء خلقنا زوجين [ 51 \ 49 ] ، فهذا شمل كل الوجود الخالق والمخلوق ، كما في عموم فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون [ 69 \ 38 - 39 ] . أما التفصيل ، فقالوا : المخلوقات إما شفع كالحيوانات أزواجا ، والسماء ، والأرض ، والجبل ، والبحر ، والنار ، والماء . وهكذا ذكروا لكل شيء مقابله ، ومن الأشياء الفرد كالهواء . وكلها من باب الأمثلة . والواقع أن أقرب الأقوال عندي - والله أعلم - : أنه هو الأول ; لأنه ثبت علميا أنه لا يوجد كائن موجود بمعنى الوتر قط حتى الحصاة الصغيرة . فإنه ثبت أن كل كائن جماد أو غيره مكون من ذرات ، والذرة لها نواة ومحيط ، وبينهما ارتباط وعن طريقهما التفجير الذي اكتشف في هذا العصر ، حتى في أدق عالم الصناعة : كالكهرباء ; فإنها من سالب وموجب ، وهكذا لا بد من دورة كهربائية للحصول على النتيجة من أي جهاز كان ، حتى الماء الذي كان يظن به البساطة ; فهو زوج وشفع من عنصرين : أوكسجين وهدروجين ، ينفصلان إذا وصلت درجة حرارة الماء إلى مائة - أي : الغليان - ويتآلفان إذا نزلت الدرجة إلى حد معين فيتاقطران ماء . وهكذا . ونفس الهواء عدة غازات وتراكيب ، فلم يبق في الكون شيء قط فردا وترا بذاته ، إلا ما نص عليه الحديث : " إن الله وتر يحب الوتر " ، ويمكن حمل الحديث على معنى الوتر فيه مستغن بذاته عن غيره ، والواحد في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله . فصفاته كلها وتر : كالعلم بلا جهل والحياة بلا موت . إلخ . بخلاف المخلوق ، وقلنا : المستغني بذاته عن غيره ; لأن كل مخلوق شفعا ، فإن كل عنصر منه في حاجة إلى العنصر الثاني ; ليكون معه ذاك الشيء والله سبحانه بخلاف ذلك . ولهذا كان القول الأول ، وهو أن الوتر هو الله ، والشفع هو المخلوقات جميعها ، هو القول الراجح ، وهو الأعم في المعنى . قوله : والليل إذا يسري ، اتفق المفسرون على المعنى وهو سريان الليل ، ولكن [ ص: 523 ] الخلاف في التعيين : هل المراد به عموم الليالي في كل ليلة أم ليلة معينة ؟ وما هي ؟ فقيل : بالعموم كقوله : والليل إذا عسعس [ 81 \ 17 ] . وقيل : بالخصوص في ليلة مزدلفة أو ليلة القدر . وأيضا يقال : إذا كان الفجر فجر النحر ، والعشر عشر ذي الحجة فيكون : والليل إذا يسري ، ليلة الجمع . والله تعالى أعلم . وقد رجح القرطبي وغيره عموم الليل ، وقد جمع في هذا القسم جميع الموجودات جملة وتفصيلا ، فشملت الخالق والمخلوق والشفع والوتر إجمالا وتفصيلا ، في انفجار الفجر ، وانتشار الخلق ، وسريان الليل ، وسكون الكون ، والعبادات في الليالي العشر . فكان من أعظم ما أقسم الله به قوله تعالى : هل في ذلك قسم لذي حجر [ 89 \ 5 ] ، أي : عقل ، والحجر كل مادته تدور على الإحكام والقوة ، فالحجر ; لقوته . والحجرة ; لإحكام ما فيها . والعقل سمي حجرا - بكسر الحاء - ; لأنه يحجر صاحبه عما لا يليق . والمحجور عليه ; لمنعه من تصرفه وإحكام أمره ، وحجر المرأة لطفلها ، فهذه المقسم بها الخمسة هل فيها قسم كاف لذي عقل ؟ والجواب : بلى ، وهذا ما يقوي هذا القسم بلا شك . ثم اختلف في جواب هذا القسم : حيث لم يصرح تعالى به كما صرح به في نظيره ، وهو قوله : فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم [ 56 \ 75 - 76 ] . ثم صرح بالمقسم عليه : إنه لقرآن كريم الآية [ 56 \ 77 ] . وهنا لم يصرح به مع عظم القسم ; فوقع الخلاف في تعيينه . فقيل : هو مقدر تقديره ليعذبن يدل له قوله : ألم تر كيف فعل ربك بعاد إلى قوله : فصب عليهم ربك سوط عذاب [ 89 \ 6 - 14 ] . وقيل : موجود وهو قوله : إن ربك لبالمرصاد [ 89 \ 14 ] ، قاله القرطبي . وهذا من حيث الصناعة في اللغة وأساليب التفسير وجيه ، ولكن يوجد في نظري - والله تعالى أعلم - : ارتباط بين القسم وجوابه ، وبين ما يجيء في آخر السورة من قوله [ ص: 524 ] كلا إذا دكت الأرض دكا دكا [ 89 \ 21 ] ، إلى آخر السورة . كما أنه يظهر ارتباط كبير بينه وبين آخر السورة التي قبلها ، إذ جاء فيها : فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر إلا من تولى وكفر فيعذبه الله العذاب الأكبر [ 88 \ 21 - 24 ] ، والفجر وليال عشر إلى قوله : هل في ذلك قسم لذي حجر [ 89 \ 1 - 5 ] ; لأن ما فيه من الوعيد بالعذاب الأكبر والقصر في إيابهم إلى الله وحده وحسابهم عليه فحسب يتناسب معه هذا القسم العظيم . أما ارتباطه بما في آخر السورة ، فهو أن المقسم به هنا خمس مسميات : والفجر وليال عشر والشفع والوتر والليل إذا يسر [ 89 \ 1 - 4 ] ، والذي في آخر السورة أيضا خمس مسميات : دكت الأرض دكا دكا وجاء ربك والملك صفا صفا وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى [ 89 \ 21 - 23 ] . صور اشتملت على اليوم الآخر كله من أول النفخ في الصور ، ودك الأرض إلى نهاية الحساب ، وتذكر كل إنسان ما له وما عليه ، تقابل ما اشتمل عليه القسم المتقدم من أمور الدنيا . قوله تعالى : ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد وثمود الذين جابوا الصخر بالواد وفرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد لم يبين هنا ماذا ولا كيف فعل ، بمن ذكروا ، وهم : عاد ، وثمود ، وفرعون . وقد تقدم ذكر ثلاثتهم في سورة " الحاقة " عند قوله تعالى : فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية سخرها عليهم إلى قوله فأخذهم أخذة رابية [ 69 \ 105 - 10 ] . والجديد هنا : هو وصف كل من عاد من أنها ذات العماد ، ولم يخلق مثلها في البلاد ، وثمود أنهم جابوا الصخر بالواد ، وفرعون أنه ذو أوتاد . وقد اختلف في المعنى بهذه الصفات كلها : أما عاد ، فقيل : العماد عماد بيوت الشعر ، والمراد بها القبيلة . وطول عماد [ ص: 525 ] بيوتها : كناية عن طول أجسامهم ، كما قيل في صخر : رفيع العماد طويل النجاد وطول الأجسام يدل على قوة أصحابها . وقيل : إرم كانت مدينة رفيعة البنيان ، وذكروا في أخبارها قصصا تفوق الخيال ، وأنها في الربع الخالي ، ولكن حيث لم تثبت أخبارها بسند يعول عليه ، ولم يصدقه الواقع ، فقال قوم : قد خسف بها ولم تعد موجودة . أما ثمود : فقد جابوا ، أي : نحتوا الصخر بالواد ، بواد القرى في مدائن صالح ، وهي بيوتهم موجودة حتى الآن . وأما فرعون ذو الأوتاد ، فقيل : هي أوتاد الخيام ، كان يتدها لمن يعذبهم . وقيل : هي كناية عن الجنود يثبت بها ملكه . وقيل : هي أكمات وأسوار مرتفعات ، يلعب له في مرابعها . قال ابن جرير ما نصه : حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال ثنا سعيد ، عن قتادة : " وفرعون ذي الأوتاد " ، ذكر لنا أنها كانت مطال ، وملاعب يلعب له تحتها من أوتاد وجبال " . والذي يظهر - والله تعالى أعلم - : أن هذا القول هو الصحيح ، وأنها مرتفعة ، وأنها هي المعروفة الآن بالأهرام بمصر ، ويرجح ذلك عدة أمور : منها : أنها تشبه الأوتاد في منظرها طرفه إلى أعلى ، إذ القمة شبه الوتد ، مدببة بالنسبة لضخامتها ، فهي بشكل مثلث ، قاعدته إلى أسفل وطرفه إلى أعلى . ومنها : ذكره مع ثمود الذين جابوا الصخر بالواد ، بجامع مظاهر القوة ، فأولئك نحتوا الصخر بيوتا فارهين ، وهؤلاء قطعوا الصخر الكبير من موطن لا جبال حوله ، مما يدل أنها نقلت من مكان بعيد . والحال أنها قطع كبار صخرات عظام ففي اقتطاعها وفي نقلها إلى محل بنائها ، وفي نفس البناء كل ذلك مما يدل على القوة والجبروت ، وتسخير العباد في ذلك . ومنها : أن حملها على الأهرام القائمة بالذات والمشاهدة في كل زمان ولكل جيل ، [ ص: 526 ] أوقع في العظة والاعتبار ; بأن من أهلك تلك الأمم ، قادر على إهلاك المكذبين من قريش وغيرهم . صدق الله العظيم : إن ربك لبالمرصاد [ 89 \ 14 ] . قوله تعالى : فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن كلا بين تعالى أنه يعطي ويمسك ابتلاء للعبد . وقوله تعالى : كلا ، وهي كلمة زجر وردع ، وبيان أن المعنى لا كما قلتم ، فيه تعديل لمفاهيم الكفار ; بأن العطاء والمنع لا عن إكرام ولا لإهانة ، ولكنه ابتلاء ، كما في قوله تعالى : كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة [ 21 \ 35 ] . وقوله : واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة [ 8 \ 28 ] . قوله تعالى : كلا بل لا تكرمون اليتيم ولا تحاضون على طعام المسكين وتأكلون التراث أكلا لما وتحبون المال حبا جما بعد ما بين سبحانه صحة المفاهيم في العطاء والمنع ، جاء في هذه الآيات وبين حقيقة فتنة المال إيجابا وسلبا جمعا وبذلا ، فبدأ بأقبح الوجوه من : الإمساك من عدم إكرام اليتيم ، مهيض الجناح ، مكسور الخاطر ، والتقاعس عن إطعام المسكين ، خالي اليد ، جائع البطن ، ساكن الحركة ، وهذان الجانبان أهم مهمات بذل المال وهم يمسكون عنها ، وقد بين تعالى أن هذا الجانب هو اقتحام العقبة عند الشدة ، في قوله تعالى في سورة " البلد " : فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة [ 90 \ 11 - 16 ] . ومن الجانب الآخر : وتأكلون التراث أكلا لما أي : الميراث ، فلا يعطون النسوة وهن ضعيفات الشخصية ، أحوج إلى مال مورثهن ، وتحبون المال حبا حتى استعبدكم وألهاكم التكاثر فيه . وهنا لفت نظر للفريقين ، فمن أعطي منهم : لا ينبغي له أن يغفل طرق البذل الهامة ، ومن منع : لا ينبغي له أن يستشرف إلى ما لا ينبغي له . وبالله تعالى التوفيق . قوله تعالى : كلا إذا دكت الأرض دكا دكا وجاء ربك والملك صفا صفا . [ ص: 527 ] تقدم في سورة " الحاقة " أيضا هذا السياق نفسه ، بعد ذكر ثمود ، وعاد ، وفرعون ، في قوله : فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة إلى قوله والملك على أرجائها [ 69 \ 13 - 17 ] . مما يبين معنى " صفا صفا " ، أي : على أرجائها صفا بعد صف . وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - الإحالة على ما يفسرها في سورة " الرحمن " على قوله تعالى : إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض [ 55 \ 33 ] . وقوله تعالى : وجاء ربك والملك صفا صفا [ 89 \ 22 ] ، " وجاء ربك " : من آيات الصفات . مواضع البحث والنظر . وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - مرارا في الأضواء في عدة محلات ; وليعلم أنها والاستواء وحديث النزول والإتيان المذكور في قوله تعالى : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر وإلى الله ترجع الأمور [ 2 \ 210 ] . وقد أورد الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - مبحث آيات الصفات كاملة في محاضرة أسماها : " آيات الصفات " ، وطبعت مستقلة . كما تقدم له - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في سورة " الأعراف " عند قوله تعالى : ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار [ 7 \ 54 ] ، وإن كان لم يتعرض لصفة المجيء بذاتها ، إلا أنه قال : إن جميع الصفات من باب واحد ، أي : أنها ثابتة لله تعالى على مبدأ : " ليس كمثله شيء وهو السميع البصير " [ 42 \ 11 ] ، على غير مثال للمخلوق ، فثبت استواء يليق بجلاله على غير مثال للمخلوق . وكذلك هنا كما ثبت استواء ثبت مجيء ، وكما ثبت مجيء ثبت نزول . والكل من باب ليس كمثله شيء ، أي : على ما قال الشافعي - رحمه الله - : نحن كلفنا بالإيمان ، فعلينا أن نؤمن بصفات الله على ما يليق بالله على مراد الله ، وليس علينا أن نكيف ، إذ الكيف ممنوع على الله سبحانه . [ ص: 528 ] قوله تعالى : يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى قد بين تعالى موضوع تذكر الإنسان ، وهو قوله : يقول ياليتني قدمت لحياتي [ 89 \ 24 ] . وقد تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان ذلك في سورة " الفرقان " عند قوله تعالى : ويوم يعض الظالم على يديه يقول ياليتني اتخذت مع الرسول سبيلا [ 25 \ 27 ] الآيات . ![]()
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
![]() ![]() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد الثامن الحلقة (593) سورة البلد . صـ 529 إلى صـ 538 بسم الله الرحمن الرحيم . سورة البلد . قوله تعالى : لا أقسم بهذا البلد تقدم الكلام على هذه اللام ، وهل هي لنفي القسم أو لتأكيده ، وذلك عند قوله تعالى : لا أقسم بيوم القيامة [ 75 \ 1 ] ، إلا أنها هنا ليست للنفي ; لأن الله تعالى قد أقسم بهذا البلد في موضع آخر ، وهو في قوله تعالى : والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين [ 95 \ 1 - 3 ] ; لأن هذا البلد مراد به مكة إجماعا ; لقوله تعالى بعده : وأنت أي : الرسول - صلى الله عليه وسلم - حل ، أي : حال أو حلال بهذا البلد [ 90 \ 2 ] ، أي مكة ، على ما سيأتي إن شاء الله . وقد ذكر القرطبي وغيره نظائرها من القرآن ، والشعر العربي ، مما لا يدل على نفي ، كقوله تعالى : ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك [ 7 \ 12 ] ، مع أن المراد ما منعك من السجود ، وكقول الشاعر : تذكرت ليلى فاعترتني صبابة وكاد صميم القلب لا يتقطع أي : وكاد صميم القلب يتقطع . وقد بحثها الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بحثا مطولا في دفع إيهام الاضطراب . قوله تعالى : وأنت حل بهذا البلد ، " حل " : بمعنى حال ، والفعل المضعف يأتي مضارعه من باب نصر وضرب ، فإن كان متعديا كان من باب نصر . تقول : حل العقدة يحلها - بالضم - ، وتقول : حل بالمكان يحل - بالكسر - : إذا أقام فيه ، والإحلال دون الإحرام . [ ص: 530 ] وقد اختلف في المراد بحل : هل هو من الإحلال بالمكان ؟ أو هو من التحلل ضد الإحرام ؟ فأكثر المفسرين : أنه من الإحلال ضد الإحرام ، واختلفوا في المراد بالإحلال هذا . فقيل : هو إحلال مكة له في عام الفتح ، ولم تحل لأحد قبله ولا بعده . وقيل : " حل " : أي : حلال له ما يفعل بمكة غير آثم ، بينما هم آثمون بفعلهم . وقيل : " حل " : أي : أن المشركين معظمون هذا البلد وحرمته في نفوسهم ، ولكنهم مستحلون إيذاءك وإخراجك . وذكر أبو حيان : أنه من الحلول والبقاء والسكن ، أي : وأنت حال بها . اهـ . وعلى الأول يكون إخبارا عن المستقبل ووعدا بالفتح ، وأنها تحل له بعد أن كانت حراما ، فيقاتل أهلها وينتصر عليهم ، أو أنه تسلية له وأن الله عالم بما يفعلون به ، وسينصره عليهم . وعلى الثاني : يكون تأكيدا لشرف مكة ; إذ هي أولا فيها بيت الله وهو شرف عظيم ، ثم فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حال فيها بين أهلها . والذي يظهر - والله تعالى أعلم - : أن هذا الثاني هو الراجح ، وإن كان أقل قائلا ; وذلك لقرائن من نفس السورة ومن غيرها من القرآن الكريم . منها : أن حلوله - صلى الله عليه وسلم - بهذا البلد له شأن عظيم فعلا ، وأهمه أن الله رافع عنهم العذاب ; لوجوده فيهم ، كما في قوله تعالى : وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم [ 8 \ 33 ] ، فكأنه تعالى يقول : وهذا البلد الأمين من العذاب ، وهؤلاء الآمنون من العذاب بفضل وجودك فيهم . ومنها : أنه - صلى الله عليه وسلم - بحلوله فيها بين أظهرهم ، يلاقي من المشاق ، ويصبر عليها . وفيه أروع المثل للصبر على المشاق في الدعوة ، فقد آذوه كل الإيذاء ، حتى وضعوا سلا الجزور عليه وهو يصلي عند الكعبة ، وهو يصبر عليهم ، وآذوه في عودته من الطائف ، وجاءه ملك الجبال نصرة له ، فأبى وصبر ودعا لهم ، ومنعوه الدخول إلى [ ص: 531 ] بلده مسقط رأسه فصبر ، ولم يدع عليهم ، ورضي الدخول في جوار رجل مشرك وهذا هو المناسب ; لقوله بعده لقد خلقنا الإنسان في كبد [ 90 \ 4 ] ، وهذا من أعظمه . فإذا كان كل إنسان يكابد في حياته ، أيا كان هو ، ولأي غرض كان ، فمكابدتك تلك جديرة بالتقدير والإعظام ، حتى يقسم بها . والله تعالى أعلم . قوله تعالى : ووالد وما ولد قيل : الوالد : هو آدم ، وما ولد ، قيل : " ما " نافية . وقيل : مصدرية . فعلى أنها نافية : أي : وكل عظيم لم يولد له . وعلى المصدرية : أي : بمعنى الولادة من تخليص نفس من نفس ، وما يسبق ذلك من تلقيح وحمل ، ونمو الجنين ، وتفصيله وتخليقه ، وتسهيل ولادته . وقيل : " ووالد وما ولد " : كل والد مولود من حيوان وإنسان . وقد رجح بعض العلماء أن الوالد هو آدم ، وما ولد ذريته ، بأنه المناسب مع هذا البلد ; لأنها أم القرى ، وهو أبو البشر ، فكأنه أقسم بأصول الموجودات وفروعها . قوله تعالى : لقد خلقنا الإنسان في كبد تقدم بيانه عند قوله تعالى : ياأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه [ 84 \ 6 ] . قوله تعالى : يقول أهلكت مالا لبدا أيحسب أن لم يره أحد لم يبين أيراه أحد ؟ ومن الذي يراه ؟ ومعلوم أنه سبحانه وتعالى يراه ، ولكن جاء الجواب مقرونا بالدليل والإحصاء في قوله تعالى بعده : ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين [ 90 \ 8 - 10 ] ; لأن من جعل للإنسان عينين يبصر بهما ، ويعلم منه خائنة الأعين ، ولسانا ينطق به ويحصي عليه : " ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد " [ 50 \ 18 ] ، وهداه الطريق ، طريق البذل وطريق الإمساك ، وإذا كان الأمر كذلك ; فلن ينفق درهما إلا وهو سبحانه يعلمه ويراه . [ ص: 532 ] قوله تعالى : وهديناه النجدين النجد : الطريق ، وهو كما تقدم في سورة " الإنسان " بعد تفصيل خلق الإنسان : إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا إنا هديناه السبيل [ 76 \ 2 - 3 ] ، أي : الطريق على كلا الأمرين بدليل : إما شاكرا وإما كفورا [ 76 \ 3 ] . وتقدم المعنى هناك ، ويأتي في السورة بعدها عند قوله تعالى : فألهمها فجورها وتقواها [ 91 \ 8 ] . زيادة إيضاح له . إن شاء الله تعالى . قوله تعالى : فلا اقتحم العقبة وقد بين المراد بالعقبة فيما بعد بقوله : وما أدراك ما العقبة [ 90 \ 12 ] ، ثم ذكر تفصيلها . وقد ذكر أن كل ما جاء بصيغة " وما أدراك " ، فقد جاء تفصيله بعده كقوله تعالى : القارعة ما القارعة وما أدراك ما القارعة يوم يكون الناس كالفراش المبثوث [ 101 \ 1 - 4 ] ، وما بعدها . وتقدم عند قوله تعالى : الحاقة ما الحاقة [ 69 \ 1 - 2 ] . وفي تفسير العقبة بالمذكورات ، فك الرقبة ، وإطعام اليتيم والمسكين ، توجيه إلى ضرورة الإنفاق حقا لا ما يدعيه الإنسان بدون حقيقة في قوله : أهلكت مالا لبدا [ 90 \ 6 ] . أما فك الرقبة : فإنه الإسهام في عتق الرقيق ، والاستقلال في عتقها يعبر عنه بفك النسمة . وهذا العنصر من العمل بالغ الأهمية ، حيث قدم في سلم الاقتحام لتلك العقبة . وقد جاءت السنة ببيان فضل هذا العمل حتى أصبح عتق الرقيق أو فك النسمة ، يعادل به عتق المعتق من النار كل عضو بعضو ، وفيه نصوص عديدة ساقها ابن كثير ، وفي هذا إشعار بحقيقة موقف الإسلام من الرق ، ومدى حرصه وتطلعه إلى تحرير الرقاب . [ ص: 533 ] فها هو هنا يجعل عتق الرقبة ، سلم اقتحام العقبة ، وجعله عتقا للمعتق من النار كل عضو بعضو . ومعلوم أن كل مسلم يسعى لذلك ، وجعله كفارة لكل يمين وللظهار بين الزوجين ، وكفارة القتل الخطأ ، كل ذلك نوافذ إطلاق الأسارى ، وفك الرقاب في الوقت الذي لم يفتح للاسترقاق إلا باب واحد ، هو الأسر في القتال مع المشركين لا غير ، وهما مما سبق تنبيها عليه ردا على المستشرقين ومن تأثر بهم ; في ادعائهم على الإسلام : أنه متعطش لاسترقاق الأحرار . وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - الكلام على قوله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] في سورة " الإسراء " . وقوله تعالى : أو إطعام في يوم ذي مسغبة [ 90 \ 14 ] . أي : شدة وجوع . والساغب : الجائع ; قال القرطبي : وأنشد أبو عبيدة : فلو كنت جارا يا بن قيس لعاصم لما بت شبعانا وجارك ساغبا أي : لو كنت جارا بحق تعني بحق الجار ، لما حدث لجارك هذا . وهذا القيد لحال الإطعام ; دليل على قوة الإيمان بالجزاء ، وتقديم ما عند الله ; على ما في قوله تعالى : ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا [ 76 \ 8 ] ، على ما تقدم من أن الضمير في حبه أنه للطعام ، وهذا غالب في حالات الشدة والمسغبة . وقوله : ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة [ 59 \ 9 ] ، فهي أعلى منازل الفضيلة في الإطعام . قوله تعالى : يتيما ذا مقربة ، فاليتيم من حرم أبويه أو أحدهما ، وقد خصوا في اللغة يتيم الحيوان ، من فقد الأم ، وفي الطيور من فقد الأبوين ، وفي الإنسان من فقد الأب . و " ذا مقربة " : أي : قرابة ، وخص به ; لأن الإطعام في حقه أفضل وأولى من غيره ، وفيه الحديث : " إن الصدقة على القريب صدقة وصلة ، وعلى البعيد صدقة فقط " . [ ص: 534 ] والأحاديث في الإحسان إلى اليتيم متضافرة ، ويكفي قوله - صلى الله عليه وسلم - : " أنا وكافل اليتيم في الجنة كهذين " أي : السبابة والتي تليها . قوله تعالى : أو مسكينا ذا متربة قيل : المسكين من السكون وقلة الحركة ، والمتربة : اللصوق بالتراب . وقد اختلف في التفريق بين المسكين والفقير : أيهما أشد احتياجا وما حد كل منهما ؟ فاتفقوا أولا : على أنه إذا افترقا اجتمعا ، وإذا اجتمعا افترقا ، وإذا ذكر أحدهما فقط ، فيشمل الثاني معه ، ويكون الحكم جامعا لهما كما هو هنا ، فالإطعام يشمل الاثنين معا ، وإذا اجتمعا فرق بينهما بالتعريف . فالمسكين كما تقدم ، والفقير ، قالوا : مأخوذ من الفقرة وهي : الحفرة تحفر للنخلة ونحوها للغرس ، فكأنه نزل إلى حفرة لم يخرج منها . وقيل : من فقار الظهر ، وإذا أخذت فقار منها عجز عن الحركة ، فقيل : على هذا الفقير أشد حاجة ، ويرجحه ما جاء في قوله تعالى : أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر [ 18 \ 79 ] ، فسماهم مساكين مع وجود سفينة لهم يتسببون عليها للمعيشة ، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - : " اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا " الحديث . مع قوله - صلى الله عليه وسلم - : " اللهم إني أعوذ بك من الفقر " ، وهذا الذي عليه الجمهور ، خلافا لمالك . وقد قالوا في تعريف كل منهما : المسكين من يجد أقل ما يكفيه ، والفقير : من لا يجد شيئا ، والله تعالى أعلم . قوله تعالى : ثم كان من الذين آمنوا هذا قيد في اقتحام العقبة بتلك الأعمال من عتق ، أو إطعام ; لأن عمل غير المؤمن لا يجعله يقتحم العقبة يوم القيامة ; لإحباط عمله ولاستيفائه إياه في الدنيا ، و " ثم " هنا للترتيب الذكري لا الزمني ; لأن الإيمان مشروط وجوده عند العمل . وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان شروط قبول العمل وصحته في سورة " الإسراء " عند قوله تعالى : ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن [ 20 \ 112 ] ، وكقوله : ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن [ 17 \ 19 ] ، وقوله : [ ص: 535 ] من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن [ 16 \ 97 ] ; لأن الإيمان هو العمل الأساسي في حمل العبد على عمل الخير يبتغي به الثواب ، وخاصة الإنفاق في سبيل الله ; لأنه بذل بدون عوض عاجل . وقد بحث العلماء موضوع عمل الكافر الذي عمله حالة كفره ثم أسلم ، هل ينتفع به بعد إسلامه أم لا ؟ والراجح : أنه ينتفع به ، كما ذكر القرطبي : أن حكيم بن حزام بعد ما أسلم ، قال : يا رسول الله ، إنا كنا نتحنث بأعمال في الجاهلية ; فهل لنا منها شيء ؟ فقال - عليه السلام - : " أسلمت على ما أسلفت من الخير " ، وحديث عائشة ، قالت : " يا رسول الله ، إن ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ، ويطعم الطعام ، ويفك العاني ، ويعتق الرقاب ، ويحمل على إبله لله - فهل ينفعه ذلك شيئا ؟ قال : " لا ، إنه لم يقل يوما : رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين " . ومفهومه أنه لو قالها ، أي : لو أسلم فقالها كان ينفعه . والله تعالى أعلم . وقوله تعالى : وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة تتمة لصفاتهم ، والصبر عام على الطاعة وعن المعصية ، والمرحمة زيادة في الرحمة ، والحديث : " الراحمون يرحمهم الرحمن " . وذكر المرحمة هنا يتناسب مع العطف على الرقيق والمسكين واليتيم . والله تعالى أعلم . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . سُورَةُ الشَّمْسِ . قوله تعالى : والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها والنهار إذا جلاها والليل إذا يغشاها والسماء وما بناها والأرض وما طحاها ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها في تلك الآيات العشر : يقسم الله تعالى سبع مرات بسبع آيات كونية ، هي : الشمس ، والقمر ، والليل ، والنهار ، والسماء ، والأرض ، والنفس البشرية ، مع حالة لكل مقسم به ، وذلك على شيء واحد ، وهو فلاح من زكى تلك النفس وخيبة من دساها ، ومع كل آية جاء القسم بها توجيها إلى أثرها العظيم المشاهد الملموس ، الدال على القدرة الباهرة . وذلك كالآتي أولا : والشمس وضحاها ، فالشمس وحدها آية دالة على قدرة خالقها ، لما فيها من طاقة حرارية في ذاتها تفوق كل تقدير ، وهي على الزمان بدون انتقاص ، فهي في ذاتها آية . ثم جاء وصف أثرها وهو : " ضحاها " ، وهو انتشار ضوئها ضحوة النهار ، وهذا وحده آية ، لأنه نتيجة لحركتها ، وحركتها آية من آيات الله كما قال تعالى : وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم [ 36 \ 37 - 38 ] ، وهي الآية التي حاج بها إبراهيم - عليه السلام - نمروذ في قوله : فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر [ 2 \ 258 ] . ففي هذا السير قدرة باهرة ودقة متناهية ، " وضحاها " : نتيجة لهذا السير ، ثم " ضحاها " نعم جزيلة على الكون كله ، من انتشار في الأرض ، وانتفاع بضوئها وأشعتها . وقد قالوا : لو اقتربت درجة أو ارتفعت درجة ، لما استطاع أحد أن ينتفع منها بشيء ; لأنها تحرق باقترابها ، ويتجمد العالم من بعدها ، ذلك تقدير العزيز العليم . [ ص: 537 ] فالضحى وحده آية وهو حرها كقوله : وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى [ 20 \ 119 ] ، أي : بحر الشمس ، وقد أقسم تعالى بالضحى وحده في قوله تعالى : والضحى والليل إذا سجى [ 93 \ 1 - 2 ] . وقوله : والقمر إذا تلاها ، فهو كذلك القمر وحده آية ، وكذلك تلوه للشمس ونظام مسيره بهذه الدقة ، وهذا النظام فلا يسبقها ولا تفوته : لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون [ 36 \ 40 ] . وفي قوله تعالى : إذا تلاها ، أي : تلا الشمس ، دلالة على سير الجميع ، وأنها سابقته وهو تاليها . فقيل : تاليها عند أول الشهر تغرب ، ويظهر من مكان غروبها . وقد قال بعض أهل الهيئة : تاليها في منزلة الحجم ، أي : كبرى وهو كبير بعدها في الحجم ، وفيه نظر . ولا يخفى ما في القمر من فوائد للخليقة ، من تخفيف ظلمة الليل ، وكذلك بعض الخصائص على الزرع ، وأهم خصائصه بيان الشهور بتقسيم السنة ، ومعرفة العبادات من صوم ، وحج ، وزكاة ، وعدة النساء ، وكفارات بصوم ، وحلول الديون ، وشروط المعاملات ، وكل ما له صلة بالحساب في عبادة أو معاملة . وقد جاء القسم بالقمر في " المدثر " في قوله : كلا والقمر والليل إذ أدبر [ 74 \ 32 - 33 ] ، وقوله : والقمر إذا اتسق [ 84 \ 18 ] ، مما يدل على عظم آيته ودقة دلالته . وقوله : والنهار إذا جلاها ، " والنهار " هو أثر من آثار ضوء الشمس . و " جلاها " قيل : الضمير فيه راجع للشمس كما في الذي قبله ، ولكن اختار ابن كثير أن يكون راجعا للأرض ، أي : كشفها وأوضح كل ما فيها ; ليتيسر طلب المعاش والسعي ، كقوله : هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا [ 10 \ 67 ] ، وقوله : وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا [ 25 \ 47 ] . [ ص: 538 ] وقد أقسم تعالى بالنهار إذا تجلى : أي : ظهر ووضح بدون ضمير إلى غيره في قوله تعالى : والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى [ 92 \ 1 - 2 ] ، أي : في مقابلة غشاوة الليل يكون بتجلي النهار . وقد بين تعالى عظم آية النهار ، وعظم آية الليل ، وأنه لا يقدر على الإتيان بهما إلا الله ، كما في قوله : قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون [ 28 \ 71 - 72 ] . وقوله : والليل إذا يغشاها ، قالوا : يغشى الشمس فيحجب ضياؤها ، والكلام على الليل ، كالكلام على النهار ، من حيث الآية والدلالة على قدرته تعالى . وتقدمت النصوص الكافية ، وسيأتي الإقسام بالليل في قوله : والليل إذا يغشى [ 92 \ 1 ] ، أي : يغشى الكون كله ، كما في قوله : والليل وما وسق [ 84 \ 17 ] ، أي : جمع واشتمل بظلامه . والضمير في " يغشاها " : راجع إلى الشمس ، وعليه قيل : إن الإقسام في هذه الأربعة راجع كله إلى الشمس في حالات مختلفة ، في ضحاها ثم تجليها ، ثم تلو القمر لها ، ثم بغشيان الليل إياها ، وهنا سؤال : كيف يغشى الليل الشمس مع أن الليل وهو الظلمة نتيجة لغروب الشمس عن الجهة التي فيها الليل ؟ فقيل : إن الليل يغطي ضوء الشمس ، فتتكون الظلمة ، والواقع خلاف ذلك . وهو أن الشمس ظاهرة وضوءها منتشر ، ولكن في قسم الأرض المقابل للظلمة الموجودة ، كما أن الظلمة تكون في القسم المقابل للنهار ، وهكذا . ولذا قال ابن كثير : إن الضمير في " يغشاها " و " جلاها " راجع إلى الأرض ، إلا أن فيه مغايرة في مرجع الضمير . والله تعالى أعلم . ![]()
__________________
|
#6
|
||||
|
||||
![]() ![]() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد الثامن الحلقة (594) سُورَةُ اللَّيْلِ . صـ 539 إلى صـ 548 وقوله : والسماء وما بناها ، قيل : " ما " بمعنى الذي ، وجيء بها بدلا عن " من " التي لأولي العلم ; لإشعارها معنى الوصفية ، أي : " والسماء " والقادر الذي " بناها " ، وكذلك ما بعدها في " الأرض وما طحاها ونفس " ، والحكيم العليم [ ص: 539 ] " الذي سواها " ، و " ما " مشترك بين العالم وغيره ، كقوله : ولا أنتم عابدون ما أعبد [ 109 \ 3 ] ، ومثله : فانكحوا ما طاب لكم من النساء [ 4 \ 3 ] . وتقدم مرارا أحوال السماء في بنائها ورفعها ، وجعلها سبعا طباقا ، وقد بين في تلك النصوص كيفية بنائها ، وأنه سبحانه وتعالى بناها بقوة ، كما في قوله تعالى : والسماء بنيناها بأيد [ 51 \ 47 ] ، أي : بقوة وقوله تعالى : والأرض وما طحاها [ 91 \ 6 ] ، مثل " دحاها " [ 79 \ 30 ] . وقالوا : إبدال الدال طاء مشهور ، وطحا تأتي بمعنى خلق ، وبمعنى ذهب في كل شيء ، فمن الأول : وما تدري جذيمة من طحاها ولا من ساكن العرش الرفيع ومن الثاني قول علقمة : طحا بك قلب في الحسان طروب يعيد الشباب عصر حان مشيب ولا منافاة في ذلك بأنه تعالى خلقها ومدها ، وذهب بأطرافها كل مذهب ، أي : في مدها . تنبيه . قالوا : ذكر السماء وما بناها ; للدلالة على حدوثها ، وبالتالي على حدوث الشمس والقمر ، وأن تدبيرهما لله . وقوله : ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها [ 91 \ 7 - 8 ] ، قالوا : النفس تحمل كامل خلقة الإنسان بجسمه وروحه وقواه الإنسانية ، من تفكير وسلوك . . . إلخ . وقيل : النفس هنا بمعنى القوى المفكرة ، المدركة مناط الرغبة والاختيار ، وعليه ; فذكر النفس بالمعنى الأول ، تكون تسويتها في استواء خلقتها وتركيب أعضائها ، وهي غاية في الدلالة على القدرة والكمال والعلم ، كما في قوله : لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم [ 95 \ 4 ] ، وقال : وفي أنفسكم أفلا تبصرون [ 51 \ 21 ] ، أي : من أعضاء وأجزاء وتراكيب ، وعدة أجهزة تبهر العقول في السمع ، وفي البصر ، وفي الشم ، وفي الذوق ، وفي الحس ، ومن داخل الجسم ما هو أعظم ، فحق أن يقسم بها . [ ص: 540 ] " وما سواها " : أي : بالقدرة الباهرة ، والعلم الشامل . وذكرها بالمعنى الثاني ، فإنه في نظري أعظم من المعنى الأول ; وذلك أن القوى المدركة والمفكرة والمقدرة للأمور التي لها الاختيار ، ومنها القبول والرفض والرضى والسخط والأخذ والمنع ، فإنها عالم مستقل . وإنها كما قلنا أعظم مما تقدم ; لأن الجانب الخلقي قال تعالى فيه : لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس [ 40 \ 57 ] ، ولكن في هذا الجانب ، قال : إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا [ 33 \ 72 ] . ومعلوم أن بعض أفراد الإنسان حملها بصدق وأداها بوفاء ، ونال رضى الله تعالى ، رضي الله عنهم ورضوا عنه . فهذه النفس في تسويتها لتلقي معاني الخير والشر ، واستقبال الإلهام الإلهي للفجور ، والتقوى أعظم دلالة على القدرة من تلك الجمادات التي لا تبدي ولا تعيد ، والتي لا تملك سلبا ولا إيجابا . وهنا مثال بسيط فيما استحدث من آلات حفظ وحساب ، كالآلة الحاسبة والعقل الألكتروني ، فإنها لا تخطئ كما يقولون ، وقد بهرت العقول في صفتها ، ولكن بنظرة بسيطة نجدها أمام النفس الإنسانية كقطرة من بحر . فنقول : إنها أولا من صنع هذه النفس ذات الإدراك النامي والاستنتاج الباهر . ثانيا : هي لا تخطئ ; لأنها لا تقدر أن تخطئ ; لأن الخطأ ناشئ عن اجتهاد فكري ، وهي لا اجتهاد لها ، إنما تشير وفق ما رسم لها : كالمادة المسجلة في شريط ، فإن المسجل مع دقة حفظه لها ، فإنه لا يقدر أن يزيد ولا ينقص حرفا واحدا . أما الإنسان : فإنه يغير ويبدل ، وعندما يبدل كلمة مكان كلمة ، فلقدرته على إيجاد الكلمة الأخرى ، أو لاختياره ترك الكلمة الأولى . وهكذا هنا ، فالله تعالى هنا خلق تلك النفس أولا ، ثم سواها على حالة تقبل تلقي الإلهام بقسيمه : الفجور والتقوى ، ثم تسلك أحد الطريقين ، فكأن مجيء القسم بها بعد [ ص: 541 ] تلك المسميات دلالة على عظم ذاتها وقوة دلالتها على قدرة خالقها ، وما سواها مستعدة قابلة لتلقي إلهام الله إياها . تنبيه . وفي مجيئها بعد الآيات الكونية ; من شمس ، وقمر ، وليل ، ونهار ، وسماء ، وأرض ، لفت إلى وجوب التأمل في تلك المخلوقات ، يستلهم منها الدلالة على قدرة خالقها ، والاستدلال على تغير الأزمان ، وحركة الأفلاك ، وإحداث السماء بالبناء ; أنه لا بد لهذا العالم من صانع ، ولا بد للمحدث المتجدد من فناء وعدم . كما عرض إبراهيم - عليه السلام - على النمروذ نماذج الاستدلال على الربوبية والألوهية ، فأشار إلى الشمس أولا ، ثم إلى القمر ، ثم انتقل به إلى الله سبحانه . وقوله : فألهمها فجورها وتقواها ، إن كان " ألهمها " بمعنى هداها وبين لها ، فهو كما في قوله : وهديناه النجدين [ 90 \ 10 ] ، وقوله : إنا هديناه السبيل [ 76 \ 3 ] ، وهذا على الهداية العامة ، التي بمعنى الدلالة والبيان . وإن كان بمعنى التيسير والإلزام ، ففيه إشكال القدر في الخير الاختيار . وقد بحث هذا المعنى الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في دفع إيهام الاضطراب بحثا وافيا . قوله تعالى : قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها هذا هو جواب القسم فيما تقدم ، فالواو قد حذفت منه اللام ; لطول ما بين المقسم به والمقسم عليه . وقد نوه عنه الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - عند الكلام على قوله تعالى : إن ذلك لحق تخاصم أهل النار [ 38 \ 64 ] ، من سورة " ص " ، وأنهم استدلوا لهذه الآية عليه . والأصل : لقد أفلح ، فحذفت اللام لطول الفصل ، و " زكاها " بمعنى طهرها ، وأول ما يطهرها منه دنس الشرك ورجسه ، كما قال تعالى : إنما المشركون نجس [ 9 \ 28 ] ، وتطهيرها منه بالإيمان ثم من المعاصي بالتقوى ، كما في قوله تعالى : فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى [ 53 \ 32 ] ، ثم بعمل الطاعات قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى [ 87 \ 14 - 15 ] . [ ص: 542 ] واختلف في مرجع الضمير في " زكاها " و " دساها " ، وهو يرجع إلى اختلافهم في : فألهمها فجورها وتقواها ، فهل يعود إلى الله تعالى ، كما في : ونفس وما سواها ، أم يعود على العبد . ويمكن أن يستدل لكل قول ببعض النصوص . فمما يستدل به للقول الأول قوله تعالى : بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا [ 4 \ 49 ] ، وقوله : ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا [ 24 \ 21 ] ، وفي الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقول عند هذه الآية : " اللهم آت نفسي تقواها ، وزكها ; أنت خير من زكاها ، وأنت وليها ومولاها " . ومما استدل به للقول الثاني فكقوله : قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى [ 87 \ 14 - 15 ] ، وقوله : ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير [ 35 \ 18 ] ، وقوله : فقل هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى [ 79 \ 18 - 19 ] ، وقوله : وما يدريك لعله يزكى [ 80 \ 3 ] ، وكلها كما ترى محتملة ، والإشكال فيها كالإشكال فيما قبلها . والذي يظهر - والله تعالى أعلم - : أن الجمع بين تلك النصوص كالجمع في التي قبلها ، وأن ما يتزكى به العبد من إيمان وعمل في طاعة وترك لمعصية ، فإنه بفضل من الله ، كما في قوله تعالى المصرح بذلك : ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا [ 24 \ 21 ] . وكل النصوص التي فيها عود الضمير ، أو إسناد التزكية إلى العبد ، فإنها بفضل من الله ورحمته ، كما تفضل عليه بالهدى والتوفيق للإيمان ، فهو الذي يتفضل عليه بالتوفيق إلى العمل الصالح ، وترك المعاصي ، كما في قولك : " لا حول ولا قوة إلا بالله " ، وقوله : فلا تزكوا أنفسكم [ 53 \ 32 ] ، وقوله : ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم [ 4 \ 49 ] ، إنما هو بمعنى المدح والثناء ، كما في قوله تعالى : قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا [ 49 \ 14 ] ، بل إن في قوله تعالى : بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا [ 4 \ 49 ] ، الجمع بين الأمرين ، القدري والشرعي : بل الله يزكي من يشاء [ ص: 543 ] بفضله ، ولا يظلمون فتيلا بعدله . والله تعالى أعلم . قوله تعالى : كذبت ثمود بطغواها إذ انبعث أشقاها فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها فكذبوه فعقروها " ثمود " : اسم للقبيلة أسند إليها التكذيب ، أي : بنبي الله صالح ، و " أشقاها " هو عاقر الناقة أسند الانبعاث له وحده بين ما جاء بعده : فكذبوه فعقروها ، فأسند العقر لهم . وقد تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - الجمع بين ذلك في سورة " الزخرف " ، ومضمونه أنهم متواطئون معه كما في قوله : فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر [ 54 \ 29 ] ، فكانوا شركاء له في عقرها ، كما قال الشاعر : والسامع الذم شريك لقائله ومطعم المأكول شريك للآكل وفي قصة أبي طلحة في صيد الحمار الوحشي ، سألهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم محرمون للعمرة : " هل دله عليه منكم أحد ؟ قالوا : لا ، قال : هل عاونه عليه منكم أحد ؟ قالوا : لا ، قال : فكلوا إذا : " لأن مفهومه : لو عاونوا أو دلوا لكانوا شركاء في صيده ، فيحرم عليهم ; لقوله تعالى : لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم [ 5 \ 95 ] ، وبعدم اشتراكهم حل لهم ، فلو عاونوا أو شاركوا لحرم عليهم ، وهنا لما كانوا راضين ، ونادوه وتعاطى ، سواء عهودهم أو عطاؤهم أو غير ذلك فعقرها وحده ، كان هذا باسم الجميع ، فكانت العقوبة باسم الجميع ، ويؤخذ من هذا قتل الجماعة بالواحد ، وعقوبة الربيئة مع الجاني . والله تعالى أعلم . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . سُورَةُ اللَّيْلِ . قوله تعالى : والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى يقسم الله تعالى بالليل والنهار وأثرهما على الكون ، على أنهما آيتان عظيمتان . وتقدم الكلام عليهما في السورة قبلها عند قوله : والنهار إذا جلاها والليل إذا يغشاها [ 91 \ 3 - 4 ] . وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - الكلام على هاتين الآيتين ، عند قوله تعالى : وجعلنا الليل والنهار آيتين [ 17 \ 12 ] ، في سورة " بني إسرائيل " ، وذكر كل النصوص في هذا المعنى . وأثر الليل والنهار في حياة الناس ، ومعرفة الحساب ونحوه . قوله تعالى : وما خلق الذكر والأنثى تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بحث هذه المسألة ، وإيراد كل النصوص في عدة مواضع ، أشار إليها كلها في سورة " النجم " عند قوله تعالى : وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى [ 53 \ 45 - 46 ] ، وقد قرئت بعدة قراءات منها : خلق الذكر والأنثى ، ومنها " والذكر والأنثى " . وذكرها ابن كثير مرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في صحيح البخاري ومسلم ، وعلى القراءة المشهورة . وما خلق الذكر والأنثى ، اختلف في لفظة : " ما " فقيل : إنها مصدرية ، أي : وخلق الذكر والأنثى . وقيل : بمعنى من ، أي : والذي خلق الذكر والأنثى . فعلى الأول يكون القسم [ ص: 545 ] بصفة من صفات الله - وهي صفة الخلق ، ويكون خص الذكر والأنثى ; لما فيهما من بديع صنع الله وقوة قدرته سبحانه على ما يأتي . وعلى قراءة : " والذكر والأنثى " . يكون القسم بالمخلوق كالليل والنهار ، لما في الخلق من قدرة الخالق أيضا ، وعلى أنها بمعنى الذي يكون القسم بالخالق سبحانه ، وتكون ما هنا مثل ما في قوله : والسماء وما بناها [ 91 \ 5 ] ، وغاية ما فيه استعمالها وهي في الأصل لغير أولي العلم ، إلا أنها لوحظ فيها معنى الصفة ، وهي صفة الخلق أو على ما تستعمله العرب عند القرينة ، كقوله تعالى : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم [ 4 \ 22 ] ، وقوله : فانكحوا ما طاب لكم من النساء [ 4 \ 3 ] ، لما لوحظ فيه معنى الصفة وهو الاستمتاع ; ساغ استعمال ما بدلا عن من . وفي اختصاص خلق الذكر والأنثى في هذا المقام لفت نظر إلى هذه الصفة ، لما فيها من إعجاز البشر عنها ، كما في الليل والنهار من الإعجاز للبشر : من أن يقدروا على شيء في خصوصه ، كما قدمنا في السورة قبلها . وذلك : أن أصل التذكير والتأنيث أمر فوق إدراك وقوى البشر ، وهي كالآتي : أولا : في الحيوانات الثديية ، وهي ذوات الرحم تحمل وتلد ، فإنها تنتج عن طريق اتصال الذكور بالإناث . وتذكير الجنين أو تأنيثه ليس لأبويه دخل فيه ، إنه من نطفة أمشاج ، أي : أخلاط من ماء الأب والأم ، وجعل هذا ذكرا وذاك أنثى ، فهو هبة من الله كما في قوله : يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير [ 42 \ 49 - 50 ] . وقد ثبت علميا أن سبب التذكير والتأنيث من جانب الرجل ، أي : أن ماء المرأة صالح لهذا وذاك ، وماء الرجل هو الذي به يكون التمييز ; لانقسام يقع فيه . فالمرأة لا تعدو أن تكون حرثا ، والرجل هو الزارع ، ونوع الزرع يكون عن طريقه ، كما أشارت إليه الآية الكريمة : نساؤكم حرث لكم [ 2 \ 223 ] ، والحرث لا يتصرف في الزرع ، وإنما التصرف عن طريق الحارث . ويتم ذلك عن طريق مبدأ معلوم علميا ، وهو أن خلية التلقيح في الأنثى دائما وأبدا [ ص: 546 ] مكونة من ثمانية وأربعين جزءا ، وهي دائما وأبدا تنقسم إلى قسمين متساويين : أربعة وعشرين ، فيلتحم قسم منها مع قسم خلية الذكر ، وخلية الذكر سبعة وأربعون ، وإنما أبدا تنقسم أيضا عند التلقيح إلى قسمين ، ولكن أحدهما أربعة وعشرون ، والآخر ثلاثة وعشرون ، فإذا أراد الله تذكير الحمل سبق القسم الذي من ثلاثة وعشرين . فيندمج مع قسيم خلية الأنثى ، وهو أربعة وعشرون ، فيكون مجموعهما سبعة وأربعين ، فيكون الذكر بإذن الله . وإذا أراد الله تأنيث الحمل سبق القسم الذي هو أربعة وعشرون من الرجل ، فيندمج مع قسيم خلية المرأة أربعة وعشرين ، فيكون من مجموعهما ثمانية وأربعون ، فتكون الأنثى بإذن الله ، وهكذا في جميع الحيوانات . أما النباتات فإن بعض الأشجار تتميز فيه الذكور من الإناث ، كالنخل ، والتوت مثلا ، وبقية الأشجار تكون الشجرة الواحدة تحمل زهرة الذكورة وزهرة الأنوثة ، فتلقح الرياح بعضها من بعض . وقد حدثني عدة أشخاص عن غريبتين في ذلك : إحداهما : أن نخلة موجودة حتى الآن ، في بعض السنين فحلا يؤخذ منه ليؤبر النخيل ، وفي بعض السنين نخلة تطلع وتثمر . وحدثني آخر في نفس المجلس : من أنه توجد عندهم شجرة نخل يكون أحد شقيها فحلا ; يؤخذ منه الطلع يلقح به النخل ، وشقها الآخر نخلة يتلقح من الشق الآخر لمجاورته . كما حدثني ثالث : أن والده قطع بعض فحل النخل ; لكثرته في النخيل ، وبعد قطعه نبت في أصله ومن جذعه وجذوره نخلة تثمر . وكل ذلك على خلاف العادة ، ولكنه دال على قدرة الله تعالى ، وأنه خالق الذكر والأنثى . أما عمل هذا الجهاز في الحيوانات ، بل وفي الحشرات الدقيقة وتكاثرها ، فهو فوق الحصر والحد . وقد ذكروا في عالم الحشرات ، ما يلقح نفسه بنفسه ، باحتكاك بعض فخذية ببعض ، وكل ذلك مما لا يعلمه ولا يقدر على إيجاده إلا الله سبحانه وتعالى ، مما لو [ ص: 547 ] تأمله العاقل لوجد فيه كما أسلفنا القدرة الباهرة ، أعظم مما في الليل إذا يغشى وما في النهار إذا تجلى ، ولا سيما إذا صغر الكائن : كالبعوضة فما دونها مما لا يكاد يرى بالعين ، ومع ذلك فإن فيه الذكورة والأنوثة . سبحانك اللهم ما أعظم شأنك . قوله تعالى : إن سعيكم لشتى تقدم في السورة الأولى قوله تعالى : قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها [ 91 \ 9 - 10 ] ، وكلاهما بالسعي إليه والعمل من أجله ، وهنا يقول : " إن سعيكم " مهما كان " لشتى " ، أي : متباعد بعض عن بعض . والشتات : التباعد والافتراق ، وشتى : جمع شتيت ، كمرضى ومريض ، وقتلى وقتيل ونحوه ، ومنه قول الشاعر : قد يجمع الله الشتيتين بعد ما يظنان كل الظن ألا تلاقيا وهذا جواب القسم ، وفي القسم ما يشعر بالارتباط به ، كبعد ما بين الليل والنهار ، وما بين الذكر والأنثى ، فهما مختلفان تماما ، وهكذا هما مفترقان في النتائج والوسائل ، كبعد ما بين فلاح من زكاها ، وخيبة من دساها المتقدم في السورة قبلها . ثم فصل هذا الشتات في التفصيل الآتي : فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى وما أبعد ما بين العطاء ، والبخل ، والتصديق ، والتكذيب ، واليسرى ، والعسرى ، وقد أطلق : " أعطى " ; ليعم كل عطاء من ماله وجاهه وجهده حتى الكلمة الطيبة ، بل حتى طلاقة الوجه ، كما في الحديث : " ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق " . والحسنى : قيل المجازاة على الأعمال . وقيل : للخلف على الإنفاق . وقيل : لا إله إلا الله . وقيل : الجنة . والذي يشهد له القرآن هو الأخير ; لقوله تعالى : للذين أحسنوا الحسنى وزيادة [ 10 \ 26 ] ، فقالوا : الحسنى هي الجنة ، والزيادة النظر إلى وجهه الكريم ، وهذا [ ص: 548 ] المعنى يشمل كل المعاني ; لأنها أحسن خلف لكل ما ينفق العبد ، وخير وأحسن مجازاة على أي عمل مهما كان ، ولا يتوصل إليها إلا بلا إله إلا الله . وقوله : فسنيسره لليسرى ، وقوله : فسنيسره للعسرى بعد ذكر " أعطى واتقى " في الأولى ، و " بخل واستغنى " في الثانية . قيل : هو دلالة على أن فعل الطاعة ييسر إلى طاعة أخرى ، وفعل المعصية يدفع إلى معصية أخرى . قال ابن كثير : مثل قوله تعالى : ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون [ 6 \ 110 ] . ثم قال : والآيات في هذا المعنى كثيرة ، دالة على أن الله - عز وجل - يجازي من قصد الخير بالتوفيق له ، ومن قصد الشر بالخذلان ، وكل ذلك بقدر مقدر . والأحاديث الدالة على ذلك كثيرة . وذكر عن أبي بكر عند أحمد ، وعن علي عند البخاري ، وعبد الله بن عمر عند أحمد ، وعدد كثير بروايات متعددة ، أشملها وأصحها حديث علي عند البخاري ، قال علي : " كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بقيع الغرقد في جنازة ، فقال : " ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار " ، فقالوا : يا رسول الله ، أفلا نتكل ؟ فقال : اعملوا ، فكل ميسر لما خلق له " ، ثم قرأ : فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى إلى قوله للعسرى " فهي من الآيات التي لها تعلق ببحث القدر . وتقدم مرارا بحث هذه المسألة . والعلم عند الله تعالى . ![]()
__________________
|
#7
|
||||
|
||||
![]() ![]() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد الثامن الحلقة (595) سُورَةُ الضُّحَى . صـ 549 إلى صـ 559 تنبيه . قال أبو حيان : جاء قوله : فسنيسره للعسرى على سبيل المقابلة ; لأن العسرى لا تيسير فيها . اهـ . وهذا من حيث الأسلوب ممكن ، ولكن لا يبعد أن يكون معنى التيسير موجودا بالفعل ، إذ المشاهد أن من خذلهم الله - عياذا بالله - يوجد منهم إقبال وقبول وارتياح ، لما يكون أثقل وأشق ما يكون على غيرهم ، ويرون ما هم فيه سهلا ميسرا لا غضاضة [ ص: 549 ] عليهم فيه ، بل وقد يستمرئون الحرام ويستطعمونه . كما ذكر لي شخص : أن لصا قد كف عن السرقة ; حياء من الناس ، وبعد أن كثر ماله وكبر سنه أعطى رجلا دراهم ; ليسرق له من زرع جاره ، فذهب الرجل ودار من جهة أخرى وأتاه بثمرة من زرعه هو ، أي : زرع اللص نفسه ، فلما أكلها تفلها ، وقال : ليس فيه طعمة المسروق ، فمن أين أتيت به ؟ قال : أتيت به من زرعك ، ألا تستحي من نفسك ، تسرق وعندك ما يغنيك . فخجل وكف . وقد جاء عن عمر نقيض ذلك تماما ، وهو أنه لما طلب من غلامه أن يسقيه مما في شكوته من لبنه ، فلما طعمه استنكر طعمه ، فقال للغلام : من أين هذا ؟ فقال : مررت على إبل الصدقة فحلبوا لي منها ، وها هو ذا ، فوضع عمر إصبعه في فيه ، واستقاء ما شرب . إنها حساسية الحرام استنكرها عمر ، وأحس بالحرام فاستقاءه ، وهذا وذاك بتيسير من الله تعالى ، وصدق - صلى الله عليه وسلم - : " اعملوا فكل ميسر لما خلق له " . ونحن نشاهد في الأمور العادية أصحاب المهن والحرف كل واحد راض بعمله وميسر له ، وهكذا نظام الكون كله ، والذي يهم هنا أن كلا من الطاعة أو المعصية له أثره على ما بعده . تنبيه . قيل : إن هذه المقارنة بين : من أعطى واتقى وصدق بالحسنى " ، و " من بخل واستغنى وكذب بالحسنى " ، واقعة بين أبي بكر - رضي الله عنه - وبين غيره من المشركين . ومعلوم أن العبرة بعموم اللفظ فهي عامة في كل من " أعطى واتقى وصدق " ، أو " بخل واستغنى وكذب " . والله تعالى أعلم . قوله تعالى : وما يغني عنه ماله إذا تردى رد على " من بخل واستغنى " ، و " ما " هنا يمكن أن تكون نافية ، أي : لا يغني عنه شيء ، كما في قوله : ما أغنى عني ماليه [ 69 \ 28 ] ، وقوله : يوم لا ينفع مال ولا بنون [ 26 \ 88 ] . [ ص: 550 ] ويمكن أن تكون استفهامية ، وقوله : إذا تردى ، أي : في النار - عياذا بالله - أو تردى في أعماله ، فمآله إلى النار ; بسبب بخله في الدنيا ، كما يشهد له قوله تعالى : ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة الآية [ 3 \ 180 ] . قوله تعالى : إن علينا للهدى فيه للعلماء أوجه ، منها : إن طريق الهدى دال وموصل علينا بخلاف الضلال . ومنها : التزام الله للخلق عليه لهم الهدى ، وهذا الوجه محل إشكال ; إذ إن بعض الخلق لم يهدهم الله . وقد بحث هذا الأمر الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في دفع إيهام الاضطراب : من أن الجواب عليه من حيث إن الهدى عام وخاص . والله تعالى أعلم . قوله تعالى : وإن لنا للآخرة والأولى أي : بكمال التصرف والأمر ، وقد بينه تعالى في سورة " الفاتحة " : الحمد لله رب العالمين [ 1 \ 2 ] ، أي : المتصرف في الدنيا مالك يوم الدين [ 1 \ 4 ] ، أي : المتصرف في الآخرة وحده : لمن الملك اليوم لله الواحد القهار [ 40 \ 16 ] . وهذا كدليل على تيسيره لعباده إلى ما يشاء في الدنيا ، ومجازاتهم بما شاء في الآخرة . قوله تعالى : فأنذرتكم نارا تلظى أي : تتلظى ، واللظى : اللهب الخالص ، وفي وصف النار هنا بتلظى مع أن لها صفات عديدة منها : السعير ، وسقر ، والجحيم ، والهاوية ، وغير ذلك . وذكر هنا صنفا خاصا ، وهو من " كذب وتولى " [ 92 \ 16 ] ، كما تقدم في موضع آخر في وصفها أيضا بلظى في قوله تعالى : كلا إنها لظى نزاعة للشوى [ 70 \ 15 - 16 ] ، ثم بين أهلها بقوله : تدعوا من أدبر وتولى وجمع فأوعى [ 70 \ 17 ] . [ ص: 551 ] وهو كما هو هنا : فأنذرتكم نارا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى [ 92 \ 14 - 16 ] ، وهو المعنى في قوله قبله : وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى [ 92 \ 8 - 9 ] ، مما يدل أن للنار عدة حالات أو مناطق أو منازل ، كل منزلة تختص بصنف من الناس ، فاختصت لظى بهذا الصنف ، واختصت سقر بمن لم يكن من المصلين ، وكانوا يخوضون مع الخائضين ، ونحو ذلك . ويشهد له قوله : إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار [ 4 \ 145 ] ، كما أن الجنة منازل ودرجات ، حسب أعمال المؤمنين . والله تعالى أعلم . قوله تعالى : لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى هذه الآية من مواضع الإيهام ، ولم يتعرض لها في دفع إيهام الاضطراب ، وهو أنها تنص وعلى سبيل الحصر ، أنه لا يصلى النار إلا الأشقى مع مجيء قوله تعالى : وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا [ 19 \ 71 ] ; مما يدل على ورود الجميع . والجواب من وجهين : الأول كما قال الزمخشري : إن الآية بين حالي عظيم من المشركين وعظيم من المؤمنين ، فأريد أن يبالغ في صفتيهما المتناقضتين . فقيل : الأشقى وجعل مختصا بالصلى ، كأن النار لم تخلق إلا له ، وقال الأتقى ، وجعل مختصا بالجنة ، وكأن الجنة لم تخلق إلا له ، وقيل عنهما : هما أبو جهل ، أو أمية بن خلف المشركين ، وأبو بكر الصديق - رضي الله عنه - حكاه أبو حيان عن الزمخشري . والوجه الثاني : هو أن الصلى الدخول والشيء ، وأن يكون وقود النار على سبيل الخلود ، والورود والدخول المؤقت بزمن غير الصلى ; لقوله في آية الورود ، التي هي قوله تعالى : وإن منكم إلا واردها [ 19 \ 71 ] ، ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا [ 19 \ 72 ] ، ويبقى الإشكال ، بين الذين اتقوا وبين الأتقى ، ويجاب عنه : بأن التقي يرد ، والأتقى لا يشعر بورودها ، كمن يمر عليها كالبرق الخاطف . والله تعالى أعلم . ولولا التأكيد في آية الورود بالمجيء بحرف " من " و " إلا " ، وقوله : كان على ربك حتما مقضيا ، لولا هذه المذكورات لكان يمكن أن يقال : إنها مخصوصة بهذه [ ص: 552 ] الآية ، وأن الأتقى لا يردها ، إلا أن وجود تلك المذكورات يمنع من القول بالتخصيص . والله تعالى أعلم . وفيه تقرير مصير القسمين المتقدمين ، " من أعطى واتقى وصدق " ، و " من بخل واستغنى وكذب " ، وأن صليها بسبب التكذيب والتولي والإعراض وهو عين الشقاء ، ويتجنبها الأتقى الذي صدق ، وكان نتيجة تصديقه أنه أعطى ماله يتزكى ، وجعل إتيان المال نتيجة التصديق أمرا بالغ الأهمية . وذلك أن العبد لا يخرج من ماله شيئا إلا بعوض ; لأن الدنيا كلها معاوضة ، حتى الحيوان تعطيه علفا يعطيك ما يقابله من خدمة أو حليب . إلخ . فالمؤمن المصدق بالحسنى يعطي ، وينتظر الجزاء الأوفى ، الحسنة بعشر أمثالها ; لأنه مؤمن أنه متعامل مع الله ، كما في قوله : من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا [ 2 \ 245 ] . أما المكذب : فلم يؤمن بالجزاء آجلا ، فلا يخرج شيئا ; لأنه لم يجد عوضا معجلا ، ولا ينتظر ثوابا مؤجلا ، ولذا كان الذين تبوءوا الدار والإيمان ، يحبون من هاجر إليهم ويواسونهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ، إيمانا بما عند الله ، بينما كان المنافقون لا ينفقون إلا كرها ولا يخرجون إلا الرديء ، الذي لم يكونوا ليأخذوه من غيرهم إلا ليغمضوا فيه ، وكل ذلك سببه التصديق بالحسنى أو التكذيب بها . ولذا جاء في الحديث الصحيح : " والصدقة برهان " أي : على صحة الإيمان بما وعد الله المتقين ، من الخلف المضاعفة الحسنة . وقوله : يؤتي ماله يتزكى ، أي : يتطهر ويستزيد ، إذ التزكية تأتي بمعنى النماء ، كقوله تعالى : خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها [ 9 \ 103 ] ، وهذا رد على قوله تعالى : قد أفلح من تزكى [ 87 \ 14 ] ، وعلى عموم : فأما من أعطى واتقى [ 92 \ 5 ] ، ولا يقال : إنها زكاة المال ; لأن الزكاة لم تشرع إلا بالمدينة ، والسورة مكية عند الجمهور ، وقيل : مدنية . والصحيح الأول . تنبيه . [ ص: 553 ] قد قيل أيضا : إن المراد بقوله : وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى ، إلى آخر السورة . نازل في أبي بكر - رضي الله عنه - لما كان يعتق ضعفة المسلمين ، ومن يعذبون على إسلامهم في مكة ، فقيل له : لو اشتريت الأقوياء يساعدونك ويدافعون عنك . فأنزل الله الآيات إلى قوله : وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى [ 92 \ 19 - 20 ] ، وابتغاء وجه رب هو بعينه ، وصدق بالحسنى ، أي : لوجه الله يرجو الثواب من الله . وكما تقدم ، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وإن صورة السبب قطعية الدخول . فهذه بشرى عظيمة للصديق - رضي الله عنه - : " ولسوف يرضى " في غاية من التأكيد من الله تعالى ، على وعده إياه - صلى الله عليه وسلم - وأرضاه . وذكر ابن كثير : أن في الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من أنفق زوجين في سبيل الله دعته خزنة الجنة : يا عبد الله هذا خير ، فقال أبو بكر : يا رسول الله ، ما على من يدعى منها ضرورة ، فهل يدعى منها كلها أحد ؟ " نعم ، وأرجو أن تكون منهم " . اهـ . وإنا لنرجو الله كذلك فضلا منه تعالى . تنبيه . في قوله تعالى : ولسوف يرضى [ 92 \ 21 ] ، وذكر ابن كثير إجماع المفسرين أنها في أبي بكر - رضي الله عنه - أعلى منازل البشرى ; لأن هذا الوصف بعينه ، قيل للرسول - صلى الله عليه وسلم - قطعا في السورة بعدها ، سورة " الضحى " : وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى [ 93 \ 4 - 5 ] ، فهو وعد مشترك للصديق وللرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا أنه في حق الرسول - صلى الله عليه وسلم - أسند العطاء فيه لله تعالى بصفة الربوبية : ولسوف يعطيك ربك ، كما ذكر فيه العطاء ، مما يدل على غيره - صلى الله عليه وسلم - وهو معلوم بالضرورة من أنه - صلى الله عليه وسلم - له عطاءات لا يشاركه فيها أحد ، على ما سيأتي إن شاء الله . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . سُورَةُ الضُّحَى . قوله تعالى : والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى تقدم معنى الضحى في السورة المتقدمة . وقيل : المراد به هنا النهار كله ، كما في قوله : أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون أوأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون [ 7 \ 97 - 98 ] ، وقوله : والليل إذا سجى قيل : أقبل ، وقيل : شدة ظلامه ، وقيل : غطى ، وقيل : سكن . واختار الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في إملائه معنى : سكن . واختار ابن جرير أنه سكن بأهله ، وثبت بظلامه ، قال : كما يقال : بحر ساج ، إذا كان ساكنا ، ومنه قول الأعشى : فما ذنبنا إن جاش بحر ابن عمكم وبحرك ساج ما يواري الدعامصا وقول الراجز : يا حبذا القمراء والليل الساج وطرق مثل ملاء النساج وأنشدهما القرطبي ، وذكر قول جرير : ولقد رميتك يوم رحن بأعين ينظرن من خلل الستور سواج أقسم تعالى بالضحى والليل هنا فقط ; لمناسبتها للمقسم عليه ; لأنهما طرفا الزمن وظرف الحركة والسكون ، فإنه يقول له مؤانسا : " ما ودعك ربك وما قلى " ، لا في ليل ولا في نهار ، على ما سيأتي تفصيله إن شاء الله . وقوله : ما ودعك ربك ، قرئ بالتشديد من توديع المفارق . وقرئ : " ما [ ص: 555 ] ودعك " ، بالتخفيف من الودع ، أي : من الترك ، كما قال أبو الأسود : ليت شعري عن خليل ما الذي نما له في الحب حتى ودعه أي تركه ، وقول الآخر : وثم ودعنا آل عمرو وعامر فرائس أطراف المثقفة السمر أي تركوهم فرائس السيوف . قال أبو حيان : والتوديع مبالغة في الودع ; لأن من ودعك مفارقا ، فقد بالغ في تركك . اهـ . والقراءة الأولى أشهر وأولى ; لأن استعمال ودع بمعنى ترك قليل . قال القرطبي ، وقال المبرد : لا يكادون يقولون : ودع ولا وذر ; لضعف الواو إذا قدمت واستغنوا عنها بترك ، ويدل على قول المبرد سقوط الواو في المضارع ، فتقول في مضارع ودع يدع كيزن ويهب ويرث ، من وزن ووهب وورث ، وتقول في الأمر : دع وزن ، وهب ، أما ذر بمعنى اترك ، فلم يأت منه الماضي ، وجاء المضارع : يذرهم ، والأمر : ذرهم . فترجحت قراءة الجمهور بالتشديد من : " ودعك " من التوديع . وقد ذكرنا هذا الترجيح ; لأن ودع بمعنى ترك فيها شدة وشبه جفوة وقطيعة ، وهذا لا يليق بمقام المصطفى - صلى الله عليه وسلم - عند ربه . أما الموادعة والوداع ، فقد يكون مع المودة والصلة ، كما يكون بين المحبين عند الافتراق ، فهو وإن وادعه بجسمه فإنه لم يوادعه بحبه وعطفه ، والسؤال عنه وهو ما يتناسب مع قوله تعالى : وما قلى . تنبيه . هنا : " ما ودعك " بصيغة الماضي ، وهو كذلك للمستقبل ، بدليل الواقع وبدليل : وللآخرة خير لك من الأولى [ 93 \ 4 ] ; لأنها تدل على مواصلة عناية الله به ، حتى يصل إلى الآخرة فيجدها خيرا له من الأولى ، فيكون ما بين ذلك كله في عناية ورعاية ربه . وقد جاء في صلح الحديبية ، قال لعمر : " أنا عبد الله ورسوله " ، أي : تحت رحمته وفي رعايته . [ ص: 556 ] وقوله : " وما قلى " ، حذف كاف الخطاب لثبوتها فيما معها ، فدلت عليها ، هكذا قال المفسرون . وقال بعضهم : تركت لرأس الآية ، والذي يظهر من لطيف الخطاب ورقيق الإيناس ومداخل اللطف ، أن الموادعة تشعر بالوفاء والود ، فأبرزت فيها كاف الخطاب ، أي : لم تتأت موادعتك وأنت الحبيب ، والمصطفى المقرب . أما : " قلى " : ففيها معنى البغض ، فلم يناسب إبرازها إمعانا في إبعاد قصده - صلى الله عليه وسلم - بشيء من هذا المعنى ، كما تقول لعزيز عليك : لقد أكرمتك ، وما أهنت ، لقد قربتك ، وما أبعدت ، كراهية أن تنطق بإهانته وكراهيته ، أو تصرح بها في حقه ، والقلى : يمد ويقصر هو البغض ، يمد إذا فتحت القاف ، ويقصر إذا كسرتها ، وهو واوي ويائي ، وذكر القرطبي ، قال : أنشد ثعلب : أيام أم الغمر لا نقلاها ولو تشاء قبلت عيناها وقال كثير عزة : أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة لدينا ولا مقلية إن تقلت فالأول قال : فقلاها من الواوي ، والثاني قال : مقلية من الياء ، وهما في اللسان شواهد . وقد جاء في السيرة ما يشهد لهذا المعنى ، ويثبت دوام موالاته سبحانه لحبيبه ، وعنايته به وحفظه له بما كان بكاؤه به عمه ، وقد قال عمه في ذلك : والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا وذكر ابن هشام في رعاية عمه له ، أنه كان إذا جن الليل وأرادوا أن يناموا ، تركه مع أولاده ينامون ، حتى إذا أخذ كل مضجعه ، عمد عمه إلى واحد من أبنائه ، فأقامه وأتى بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ينام موضعه ، وذهب بولده ينام مكان محمد - صلى الله عليه وسلم - ، حتى إذا كان هناك من يريد به سوءا فرأى مكانه في أول الليل ، ثم جاء من يريده بسوء وقع السوء بابنه ، وسلم محمد - صلى الله عليه وسلم - ، كما فعل الصديق - رضي الله عنه - عند الخروج إلى الهجرة في طريقهما إلى الغار ، فكان - رضي الله عنه - تارة يمشي أمامه - صلى الله عليه وسلم - ، وتارة يمشي وراءه ، فسأله - صلى الله عليه وسلم - عن [ ص: 557 ] ذلك ، فقال : " أذكر الرصيد فأكون أمامك ، وأذكر الطلب فأكون وراءك ، فقال : " أتريد لو كان سوء يكون بك يا أبا بكر ؟ " قال : بلى ، فداك أبي وأمي يا رسول الله ، ثم قال : إن أهلك أهلك وحدي ، وإن تهلك تهلك معك الدعوة " ، فذاك عمه في جاهلية وليس على دينه - صلى الله عليه وسلم - وهذا أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - . قوله تعالى : وللآخرة خير لك من الأولى " خير " تأتي مصدرا كقوله : " إن ترك خيرا " [ 2 \ 180 ] أي : مالا كثيرا ، وتأتي أفعل تفضيل محذوفة الهمزة ، وهي هنا أفعل تفضيل بدليل ذكر المقابل ، وذكر حرف " من " ، مما يدل على أنه سبحانه أعطاه في الدنيا خيرات كثيرة ، ولكن ما يكون له في الآخرة فهو خير وأفضل مما أعطاه في الدنيا ، ويوهم أن الآخرة خير له - صلى الله عليه وسلم - وحده من الأولى ، ولكن جاء النص كدليل ذكر المقابل ، وذكر حرف " من " ، مما يدل على أنه سبحانه أعطاه في الدنيا خيرات كثيرة ، ولكن ما يكون له في الآخرة فهو خير وأفضل مما أعطاه في الدنيا ، ويوهم أن الآخرة خير له - صلى الله عليه وسلم - وحده من الأولى ، ولكن جاء النص على أنها خير للأبرار جميعا ، وهو قوله تعالى : وما عند الله خير للأبرار [ 3 \ 198 ] . وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان الخيرية للأبرار عند الله ، أي : يوم القيامة بما أعد لهم ، كما في قوله : إن الأبرار لفي نعيم [ 82 \ 13 ] ، وقوله : إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا [ 76 \ 5 ] . أما بيان الخيرية هنا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبيان الخير في الدنيا أولا ، ثم بيان الأفضل منه في الآخرة . أما في الدنيا المدلول عليه بأفعل التفضيل ، أي : لدلالته على اشتراك الأمرين في الوصف ، وزيادة أحدهما على الآخر ، فقد أشار إليه في هذه السورة والتي بعدها ، ففي هذه السورة قوله تعالى : ألم يجدك يتيما فآوى [ 93 \ 6 ] ، أي : منذ ولادته ونشأته ، ولقد تعهده الله سبحانه من صغره فصانه عن دنس الشرك ، وطهره وشق صدره ونقاه ، وكان رغم يتمه سيد شباب قريش ، حيث قال عمه عند خطبته خديجة لزواجه بها ، فقال : " فتى لا يعادله فتى من قريش ، حلما وعقلا وخلقا ، إلا رجح عليه " . وقوله : ووجدك ضالا فهدى ووجدك عائلا فأغنى [ 93 \ 7 - 8 ] . على ما سيأتي بيانه كله ، فهي نعم يعددها تعالى عليه ، وهي من أعظم خيرات الدنيا [ ص: 558 ] من صغره إلى شبابه وكبره ، ثم اصطفائه بالرسالة ، ثم حفظه من الناس ، ثم نصره على الأعداء ، وإظهار دينه وإعلاء كلمته . ومن الناحية المعنوية ما جاء في السورة بعدها : ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك ورفعنا لك ذكرك [ 94 \ 1 - 4 ] . أما خيرية الآخرة على الأولى ، فعلى حد قوله : ولسوف يعطيك ربك فترضى [ 93 \ 5 ] ، وليس بعد الرضى مطلب ، وفي الجملة : فإن الأولى دار عمل وتكليف وجهاد ، والآخرة دار جزاء وثواب وإكرام ، فهي لا شك أفضل من الأولى . قوله تعالى : ولسوف يعطيك ربك فترضى جاء مؤكدا باللام وسوف ، وقال بعض العلماء : يعطيه في الدنيا من إتمام الدين وإعلاء كلمة الله ، والنصر على الأعداء . والجمهور : أنه في الآخرة ، وهذا وإن كان على سبيل الإجمال ، إلا أنه فصل في بعض المواضع ، فأعظمها ما أشار إليه قوله تعالى : عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا [ 17 \ 79 ] . وجاء في السنة بيان المقام المحمود ، وهو الذي يغبطه عليه الأولون والآخرون ، كما في حديث الشفاعة العظمى حين يتخلى كل نبي ، ويقول : " نفسي نفسي ، حتى يصلوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقول : أنا لها أنا لها " إلخ . ومنها : الحوض المورود ، وما خصت به أمته غرا محجلين ، يردون عليه الحوض . ومنها : الوسيلة ، وهي منزلة رفيعة عالية لا تنبغي إلا لعبد واحد ، كما في الحديث : " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ، ثم صلوا علي وسلوا الله لي الوسيلة ، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد واحد ، وأرجو أن أكون أنا هو " . وإذا كانت لعبد واحد فمن يستقدم عليها ، وإذا رجا ربه أن تكون له طلب من الأمة طلبها له ، فهو مما يؤكد أنها له ، وإلا لما طلبها ولا ترجاها ، ولا أمر بطلبها له . وهو بلا شك أحق بها من جميع الخلق ، إذ الخلق أفضلهم الرسل ، وهو - صلى الله عليه وسلم - مقدم عليهم في الدنيا ، كما في الإسراء تقدم عليهم في الصلاة في بيت المقدس . [ ص: 559 ] ومنها : الشفاعة في دخول الجنة ، كما في الحديث : " أنه - صلى الله عليه وسلم - أول من تفتح له الجنة ، وأن رضوان خازن الجنة يقول له : أمرت ألا أفتح لأحد قبلك " . ومنها : الشفاعة المتعددة حتى لا يبقى أحد من أمته في النار ، كما في الحديث : " لا أرضى وأحد من أمتي في النار " أسأل الله أن يرزقنا شفاعته ، ويوردنا حوضه . آمين . وشفاعته الخاصة في الخاص في عمه أبي طالب ، فيخفف عنه بها ما كان فيه . ومنها : شهادتة على الرسل ، وشهادة أمته على الأمم وغير ذلك ، وهذه بلا شك عطايا من الله العزيز الحكيم لحبيبه وصفيه الكريم ، - صلوات الله وسلامه عليه - ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما . تنبيه . اللام في وللآخرة وفي ولسوف للتأكيد وليست للقسم ، وهي في الأول دخلت على المبتدأ ، وفي الثانية المبتدأ محذوف تقديره : لأنت سوف يعطيك ربك فترضى . قاله أبو حيان وأبو السعود . قوله تعالى : ألم يجدك يتيما فآوى تقدم بيان معنى اليتيم عند قوله تعالى : ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا [ 76 \ 8 ] . والرسول - صلى الله عليه وسلم - مات أبوه ، وهو حمل له ستة أشهر ، وماتت أمه وهي عائدة من المدينة بالأبواء وعمره - صلى الله عليه وسلم - . وقد قيل : إن يتمه ; لأنه لا يكون لأحد حق عليه ، نقله أبو حيان . والذي يظهر أن يتمه راجع إلى قوله : ما ودعك ربك ، أي : ليتولى الله تعالى أمره من صغره ، وتقدم معنى إيواء الله له ، فكان يتمه لإبراز فضله ; لأن يتيم الأمس أصبح سيد الغد ، وكافل اليتامى . ![]()
__________________
|
#8
|
||||
|
||||
![]() ![]() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد الثامن الحلقة (596) سُورَةُ الضُّحَى . صـ 560 إلى صـ 570 قوله تعالى : ووجدك ضالا فهدى [ ص: 560 ] الضلال : يكون حسا ومعنى ، فالأول : كمن تاه في طريق يسلكه ، والثاني : كمن ترك الحق فلم يتبعه . فقال قوم : المراد هنا هو الأول ، كأن قد ضل في شعب من شعاب مكة ، أو في طريقه إلى الشام . ونحو ذلك . وقال آخرون : إنما هو عبارة عن عدم التعليم أولا ، ثم منحه من العلم مما لم يكن يعلم ، كقوله : ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا [ 42 \ 52 ] . وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بحث هذه المسألة في عدة مواضع : أولا : في سورة " يوسف " عند قوله تعالى : إن أبانا لفي ضلال مبين [ 12 \ 8 ] ، وساق شواهد الضلال لغة هناك . وثانيا : في سورة " الكهف " عند قوله تعالى : الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا [ 18 \ 104 ] . وثالثا : في سورة " الشعراء " عند قوله تعالى : قال فعلتها إذا وأنا من الضالين [ 26 \ 20 ] . وفي دفع إيهام الاضطراب أيضا ، وهذا كله يغني عن أي بحث آخر . ومن الطريف ما ذكره أبو حيان عند هذه الآية ، حيث قال : ولقد رأيت في النوم ، أني أفكر في هذه الجملة ، فأقول على الفور : " ووجدك " : أي : وجد رهطك " ضالا " فهداه بك ، ثم أقول : على حذف مضاف ، نحو : " واسأل القرية " [ 12 \ 82 ] . اهـ . وقد أورد النيسابوري هذا وجها في الآية . وبهذه المناسبة أذكر منامين كنت رأيتهما ولم أرد ذكرهما حتى رأيت هذا لأبي حيان ، فاستأنست به لذكرهما ، وهما : الأول : عندما وصلت إلى سورة " ن " عند قوله تعالى : وإنك لعلى خلق عظيم [ 68 \ 4 ] ، ومن منهج الأضواء تفسير القرآن بالقرآن ، وهذا وصف مجمل ، وحديث عائشة : " كان خلقه القرآن " فأخذت في التفكير ، كيف أفصل هذا المعنى من القرآن ، وأبين حكمه وصفحه وصبره وكرمه وعطفه ورحمته [ ص: 561 ] ورأفته وجهاده وعبادته ، وكل ذلك مما جعلني أقف حائرا وأمكث عن الكتابة عدة أيام ، فرأيت الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في النوم ، كأننا في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ، وكأنه ليس في نشاطه العادي ، فسألته ماذا عندك اليوم ؟ فقال : عندي تفسير . فقلت : أتدرس اليوم ؟ قال : لا ، فقلت : وما هذا الذي بيدك ؟ - لدفتر في يده - ، فقال : مذكرة تفسير ، أي : التي كان سيفسرها - وهي مخطوطة - ، فقلت له : من أين في القرآن ؟ فقال : من أول " ن " إلى آخر القرآن ، فحرصت على أخذها لأكتب منها ، ولم أتجرأ على طلبها صراحة ، ولكن قلت له : إذا كنت لم تدرس اليوم فأعطنيها أبيضها وأجلدها لك ، وآتيك بها غدا ، فأعطانيها فانتبهت فرحا بذلك وبدأت في الكتابة . والمرة الثانية في سورة " المطففين " ، لما كتبت على معنى التطفيف ، ثم فكرت في التوعد الشديد عليه مع ما يتأتى فيه من شيء طفيف ، حتى فكرت في أن له صلة بالربا ، إذا ما بيع جنس بجنسه ، فحصلت مغايرة في الكيل ووقع تفاضل ، ولكني لم أجد من قال به ، فرأيت فيما يرى النائم ، أني مع الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - ، ولكن لم يتحدث معي في شيء من التفسير . وبعد أن راح عني ، فإذا بشخص لا أعرفه يقول وأنا أسمع دون أن يوجه الحديث إلي : إن في التطفيف ربا ، إذا بيع الحديد بحديد ، وكلمة أخرى في معناها نسيتها بعد أن انتبهت . وقد ذكرت ذلك تأسيا بأبي حيان ، لما أجد فيه من إيناس ، والله أسأل أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه ، وأن يهدينا سواء السبيل ، وعلى ما جاء في الرؤيا من مبشرات . وبالله تعالى التوفيق . قوله تعالى : ووجدك عائلا فأغنى العائل : صاحب العيال ، وقيل : العائل الفقير ، على أنه من لازم العيال الحاجة ، ولكن ليس بلازم ، ومقابلة " عائلا " بأغنى ، تدل على أن معنى " عائلا " أي : فقيرا ، ولذا قال الشاعر : فما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل وما تدري وإن ذمرت سقبا لغيرك أم يكون لك الفصيل [ ص: 562 ] وهذا مما يذكره الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - من تعداد النعم عليه ، وأنه لم يودعه وما قلاه ، لقد كان فقيرا من المال فأغناه الله بمال عمه . وقد قال عمه في خطبة نكاحه بخديجة : وإن كان في المال قل فما أحببتم من الصداق فعلي ، ثم أغناه الله بمال خديجة ، حيث جعلت مالها تحت يده . قال النيسابوري ما نصه : يروى أنه - صلى الله عليه وسلم - دخل على خديجة وهو مغموم ، فقالت : ما لك ؟ فقال : " الزمان زمان قحط ، فإن أنا بذلت المال ينفد مالك ، فأستحيي منك ، وإن أنا لم أبذل أخاف الله " ، فدعت قريشا وفيهم الصديق ، قال الصديق : فأخرجت دنانير حتى وضعتها ، بلغت مبلغا لم يقع بصري على من كان جالسا قدامي ، ثم قالت : اشهدوا أن هذا المال ماله ، إن شاء فرقه ، وإن شاء أمسكه . فهذه القصة وإن لم يذكر سندها ، فليس بغريب على خديجة - رضي الله عنها - أن تفعل ذلك له - صلى الله عليه وسلم - ، وقد فعلت ما هو أعظم من ذلك ، حين دخلت معه الشعب فتركت مالها ، واختارت مشاركته - صلى الله عليه وسلم - لما هو فيه من ضيق العيش ، حتى أكلوا ورق الشجر ، وأموالها طائلة في بيتها . ثم كانت الهجرة وكانت مواساة الأنصار ، لقد قدم المدينة تاركا ماله ومال خديجة ، حتى إن الصديق ليدفع ثمن المربد لبناء المسجد ، وكان بعد ذلك فيء بني النضير ، وكان يقضي الهلال ، ثم الهلال ، ثم الهلال ، لا يوقد في بيته - صلى الله عليه وسلم - نار ، إنما هما الأسودان : التمر والماء . ثم جاءت غنائم حنين ، فأعطى عطاء من لا يخشى الفقر ، ورجع بدون شيء ، وجاء مال البحرين فأخذ العباس ما يطيق حمله ، وأخيرا توفي - صلى الله عليه وسلم - ودرعه مرهونة في آصع من شعير . وقوله تعالى : ووجدك عائلا فأغنى ، يشير إلى هذا الموضع ; لأن " أغنى " تعبير بالفعل ، وهو يدل على التجدد والحدوث ، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - من حيث المال حالا فحالا ، والواقع أن غناه - صلى الله عليه وسلم - كان قبل كل شيء ، هو غنى النفس والاستغناء عن الناس ، ويكفي أنه - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس . وكان إذا لقيه جبريل ودارسه القرآن كالريح المرسلة ، فكان - صلى الله عليه وسلم - القدوة في [ ص: 563 ] الحالتين ، في حالي الفقر والغنى ، إن قل ماله صبر ، وإن كثر بذل وشكر . استغن ما أغناك ربك بالغنى وإذا تصبك خصاصة فتجمل ومما يدل على عظم عطاء الله له مما فاق كل عطاء . قوله تعالى : ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم [ 15 \ 87 ] ، ثم قال : لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين [ 15 \ 88 ] . وقد اختلفوا في المقارنة بين الفقير الصابر والغني الشاكر ، ولكن الله تعالى قد جمع لرسوله - صلى الله عليه وسلم - كلا الأمرين ; ليرسم القدوة المثلى في الحالتين . تنبيه . في الآية إشارة إلى أن الإيواء والهدى والغنى من الله ; لإسنادها هنا لله تعالى . ولكن في السياق لطيفة دقيقة ، وهي معرض التقرير ، يأتي بكاف الخطاب : ألم يجدك يتيما ، ألم يجدك ضالا ، ألم يجدك عائلا ، لتأكيد التقرير ، لم يسند اليتم ولا الإضلال ولا الفقر لله ، مع أن كله من الله ، فهو الذي أوقع عليه اليتم ، وهو سبحانه الذي منه كلما وجده عليه ، ذلك لما فيه من إيلام له ، فما يسنده لله ظاهرا ، ولما فيه من التقرير عليه أبرز ضمير الخطاب . وفي تعداد النعم : فآوى ، فهدى ، فأغنى . أسند كله إلى ضمير المنعم ، ولم يبرز ضمير الخطاب . قال المفسرون : لمراعاة رءوس الآي والفواصل ، ولكن الذي يظهر - والله تعالى أعلم - : أنه لما كان فيه امتنان ، وأنها نعم مادية لم يبرز الضمير لئلا يثقل عليه المنة ، بينما أبرزه في : ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك [ 94 \ 1 - 2 ] ، ورفعنا لك ذكرك [ 94 \ 4 ] ; لأنها نعم معنوية ، انفرد بها . صلى الله عليه وسلم . والله تعالى أعلم . قوله تعالى : فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر وأما بنعمة ربك فحدث مجيء الفاء هنا مشعر ، إما بتفريع وهذا ضعيف ، وإما بإفصاح عن تعدد ، وقد ذكر الجمل بتقدير مهما يكن من شيء . [ ص: 564 ] وقد ساق تعالى هنا ثلاث مسائل : الأولى : معاملة الأيتام ، فقال : فأما اليتيم فلا تقهر ، أي : كما آواك الله فآوه ، وكما أكرمك فأكرمه . وقالوا : قهر اليتيم أخذ ماله وظلمه . وقيل : قرئ بالكاف : " تكهر " ، فقالوا : هو بمعنى القهر إلا أنه أشد . وقيل : هو بمعنى عبوسة الوجه ، والمعنى أعم ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : " اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ومن العجز والكسل ، ومن الجبن والبخل ، ومن غلبة الدين وقهر الرجال " فالقهر أعم من ذلك . وبالنظر في نصوص القرآن العديدة في شأن اليتيم ، والتي زادت على العشرين موضعا ، فإنه يمكن تصنيفها إلى خمسة أبواب كلها تدور حول دفع المضار عنه ، وجلب المصالح له في ماله وفي نفسه ، فهذه أربعة ، وفي الحالة الزوجية ، وهي الخامسة . أما دفع المضار عنه في ماله ، ففي قوله تعالى : ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ، جاءت مرتين في سورة " الأنعام " والأخرى في سورة " الإسراء " [ 17 \ 34 ] ، وفي كل من السورتين ضمن الوصايا العشر المعروفة في سورة " الأنعام " ، بدأت بقوله تعالى : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا [ 6 \ 151 ] . وذكر قتل الولد ، وقربان الفواحش ، وقتل النفس ، ثم مال اليتيم : " ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن " . ويلاحظ أن النهي منصب على مجرد الاقتراب من ماله إلا بالتي هي أحسن ، وقد بين تعالى التي هي أحسن بقوله : ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف [ 4 \ 6 ] . وقد نص الفقهاء على أن من ولي مال اليتيم واستحق أجرا ، فله الأقل من أحد أمرين : إما نفقته في نفسه ، وإما أجرته على عمله ، أي : إن كان العمل يستحق أجرة ألف ريال ، ونفقته يكفي لها خمسمائة أخذ نفقته فقط ، وإن كان العمل يكفيه أجرة مائة ريال ، ونفقته خمسمائة أخذ أجرته مائة فقط ; حفظا لماله . ثم بعد النهي عن اقتراب مال اليتيم ذلك ، فقد تتطلع بعض النفوس إلى فوارق [ ص: 565 ] بسيطة من باب التحيل أو نحوه ، من استبدال شيء مكان شيء ، فيكون طريقا لاستبدال طيب بخبيث ، فجاء قوله تعالى : وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا [ 4 \ 2 ] . والحوب : أعظم الذنب ، ففيه النهي عن استبدال طيب ماله بخبيث مال الولي أو غيره حسدا له على ماله ، كما نهى عن خلط ماله مع مال غيره كوسيلة لأكله مع مال الغير ، وهذا منع للتحيل ، وسد للذريعة ; حفظا لماله . ثم يأتي الوعيد الشديد في صورة مفزعة في قوله تعالى : إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا [ 4 \ 10 ] . وقد اتفق العلماء : أن الآية شملت في النهي عن أكل أموال اليتامى كل ما فيه إتلاف أو تفويت ، سواء كان بأكل حقيقة ، أو باختلاس ، أو بإحراق ، أو إغراق ، وهو المعروف عند الأصوليين بالإلحاق بنفي الفارق ، إذ لا فرق في ضياع مال اليتيم عليه ، بين كونه بأكل أو إحراق بنار أو إغراق في ماء حتى الإهمال فيه ، فهو تفويت عليه وكل ذلك حفظا لماله . وأخيرا ، فإذا تم الحفاظ على ماله لم يقربه إلا بالتي هي أحسن ، ولم يبدله بغيره أقل منه ، ولم يخلطه بماله ليأكله عليه ، ولم يعتد عليه بأي إتلاف كان محفوظا له ، إلى أن يذهب يتمه ويثبت رشده ، فيأتي قوله تعالى : وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا [ 4 \ 6 ] . ثم أحاط دفع المال إليه بموجبات الحفظ بقوله في آخر الآية : فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم [ 4 \ 6 ] أي : حتى لا تكون مناكرة فيما بعد . وفي الختام ينبه الله فيهم وازع مراقبة الله بقوله : وكفى بالله حسيبا [ 4 \ 6 ] وفيه إشعار بأن أمواله تدفع إليه بعد محاسبة دقيقة فيما له وعليه . ومهما يكن من دقة الحساب ، فالله سيحاسب عنه ، وكفى بالله حسيبا ، وهذا كله في حفظ ماله . أما جلب المصالح ، فإننا نجد فيها أولا جعله مع الوالدين والأقربين في عدة [ ص: 566 ] مواطن ، منها قوله تعالى : قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى [ 2 \ 215 ] . ومنها قوله إيراده في أنواع البر من الإيمان بالله وإنفاق المال : ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين [ 2 \ 177 ] إلى آخر الآية . ومنها : ما هو أدخل في الموضوع حيث جعل له نصيبا في التركة في قوله : وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه [ 4 \ 8 ] ، بصرف النظر عن مباحث الآية من جهات أخرى ، ومرة أخرى يجعل لهم نصيبا فيما هو أعلى منزلة في قوله تعالى : واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله [ 8 \ 41 ] . وكذلك في سورة " الحشر " في قوله تعالى : ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل الآية [ 59 \ 7 ] . فجعلهم الله مع ذي القربى من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وقد جعله الله في عموم وصف الأبرار ، وسببا للوصول إلى أعلى درجات النعيم في قوله تعالى : إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا [ 76 \ 5 ] . وذكر أفعالهم التي منها : " أنهم يوفون بالنذر " [ 76 \ 7 ] ثم بعدها أنهم : " ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا " [ 76 \ 8 ] . وجعل هذا الإطعام اجتياز العقبة في قوله : فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة الآية [ 90 \ 11 - 15 ] . ولقد وجدنا ما هو أعظم من ذلك ، وهو أن يسوق الله الخضر وموسى - عليهما السلام - ليقيما جدارا ليتيمين على كنز لهما حتى يبلغا أشدهما ، في قوله تعالى : وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري [ 18 \ 82 ] . [ ص: 567 ] هذا هو الجانب المالي من دفع المضرة عنه في حفظ ماله ، ومن جانب جلب النفع إليه عن طريق المال . أما الجانب النفسي فكالآتي : أولا : عدم مساءته في نفسه ، فمنها قوله تعالى : أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين [ 107 \ 1 - 3 ] . ومنها قوله : كلا بل لا تكرمون اليتيم ولا تحاضون على طعام المسكين [ 89 \ 17 - 18 ] ، فقدم إكرامه إشارة له . ثانيا : في الإحسان إليه ، منه قوله تعالى : لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى [ 2 \ 83 ] فيحسن إليه كما يحسن لوالديه ولذي القربى . ومنها سؤال وجوابه من الله تعالى : ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح [ 2 \ 220 ] ، أي : تعاملونهم كما تعاملون الإخوان ، وهذا أعلى درجات الإحسان والمعروف ; ولذا قال تعالى : والله يعلم المفسد من المصلح . وفي تقديم ذكر المفسد على المصلح : إشعار لشدة التحذير من الإفساد في معاملته ، ولأنه محل التحذير في موطن آخر جعلهم بمنزلة الأولاد في قوله : وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا [ 4 \ 9 ] . أي : حتى في مخاطبتهم إياهم لأنهم بمنزلة أولادهم ، بل ربما كان لهم أولاد فيما بعد أيتاما من بعدهم ، فكما يخشون على أولادهم إذا صاروا أيتاما من بعدهم ، فليحسنوا معاملة الأيتام في أيديهم ، وهذه غاية درجات العناية والرعاية . تلك هي نصوص القرآن في حسن معاملة اليتيم وعدم الإساءة إليه ، مما يفصل مجمل قوله : فأما اليتيم فلا تقهر [ 93 \ 9 ] . لا بكلمة غير سديدة ، ولا بحرمانه من شيء يحتاجه ، ولا بإتلاف ماله ، ولا بالتحيل على أكله وإضاعته ، ولا بشيء بالكلية ، لا في نفسه ولا في ماله . [ ص: 568 ] والأحاديث من السنة على ذلك عديدة بالغة مبلغها في حقه ، وكان - صلى الله عليه وسلم - أرحم الناس به وأشفقهم عليه ، حتى قال : " أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين " ، يشير إلى السبابة والوسطى وفرج بينهما . رواه البخاري ، وأبو داود ، والترمذي . وفي رواية أبي هريرة عند مسلم ومالك : " كافل اليتيم له أو لغيره " أي : قريب له ، أو بعيد عنه . وعند أحمد والطبراني مرفوعا : " من ضم يتيما من بين أبوين مسلمين إلى طعامه وشرابه ، وجبت له الجنة " قال المنذري : رواة أحمد محتج بهم إلا علي بن زيد . وعند ابن ماجه ، عن أبي هريرة : أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : " خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم ، يحسن إليه . وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه " . وجاء عند أبي داود ما هو أبعد من هذا وذلك ، حتى إن الأم لتعطل مصالحها من أجل أيتامها ، في قوله - صلى الله عليه وسلم - : " أنا وامرأة سفعاء الخدين كهاتين يوم القيامة " ، وأومأ بيده يزيد بن زريع - بفتح الزاي وإسكان الياء - بالوسطى والسبابة " امرأة آمت زوجها " - بألف ممدودة وميم مفتوحة وتاء - أصبحت أيما بوفاة زوجها ، ذات منصب وجمال حبست نفسها على يتاماها حتى بانوا أو ماتوا " . وجعله الله دواء لقساوة القلب ، كما روى أحمد ، ورجاله رجال الصحيح : عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رجلا شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسوة قلبه ، فقال : " امسح رأس اليتيم ، وأطعم المسكين " . وهنا يتجلى سر لطيف في مثالية التشريع الإسلامي ، حيث يخاطب الله تعالى أفضل الخلق وأرحمهم ، وأرأفهم بعباد الله ، الموصوف بقوله تعالى : بالمؤمنين رءوف رحيم [ 9 \ 128 ] وبقوله : وإنك لعلى خلق عظيم [ 68 \ 4 ] ، ليكون مثالا مثاليا في أمة قست قلوبها وغلظت طباعها ، فلا يرحمون ضعيفا ، ولا يؤدون حقا إلا من قوة يدينون لمبدأ : من عز بز ، ومن غلب استلب ، يفاخرون بالظلم ويتهاجون بالأمانة ، كما قال شاعرهم : قبيلة لا يخفرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل ويقول حكيمهم : [ ص: 569 ] ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه يهدم ومن لم يظلم الناس يظلم قوم يئدون بناتهم ، ويحرمون من الميراث نساءهم ، وتأكلون التراث أكلا لما ، وتحبون المال حبا ، فقلب مقاييسهم ، وعدل مفاهيمهم ، فألان قلوبهم ورقق طباعهم ، فلانوا مع هذا الضعيف وحفظوا حقه . وحقيقة هذا التشريع الإلهي الحكيم منذ أربعة عشر قرنا ، تأتي فوق كل ما تتطلع إليه آمال الحضارات الإنسانية كلها ، مما يحقق كمال التكامل الاجتماعي بأبهى معانيه ، المنوه عنه في الآية الكريمة وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا [ 4 \ 9 ] ، فجعل كافل اليتيم اليوم ، إنما يعمل حتى فيما بعد لو ترك ذرية ضعافا ، وعبر هنا عن الأيتام بلازمهم ، وهو الضعف إبرازا لحاجة اليتيم إلى الإحسان ، بسبب ضعفه فيكونون موضع خوفهم عليهم لضعفهم ، فليعاملوا الأيتام تحت أيديهم ، كما يحبون أن يعامل غيرهم أيتامهم من بعدهم . وهكذا تضع الآية أمامنا تكافلا اجتماعيا في كفالة اليتيم ، بل إن اليتيم نفسه ، فإنه يتيم اليوم ورجل الغد ، فكما تحسن إليه يحسن هو إلى أيتامك من بعدك ، وكما تدين تدان ، فإن كان خيرا كان الخير بالخير والبادئ أكرم ، وإن شرا كان بمثله والبادئ أظلم . ومع هذا الحق المتبادل ، فإن الإسلام يحث عليه ويعني به ، ورغب في الإحسان إليه وأجزل المثوبة عليه ، وحذر من الإساءة عليه ، وشدد العقوبة فيه . وقد يكون فيما أوردناه إطالة ، ولكنه وفاء بحق اليتيم أولا ، وتأثر بكثرة ما يلاقيه اليتيم ثانيا . تنبيه . ليس من باب الإساءة إلى اليتيم تأديبه والحزم معه ، بل ذلك من مصلحته كما قيل : قسا ليزدجروا ومن يك حازما فليقس أحيانا على من يرحم وقوله : وأما السائل فلا تنهر ، قالوا : السائل : الفقير والمحتاج ، يسأل ما يسد حاجته وهو مقابل لقوله : ووجدك عائلا فأغنى أي : فكما أغناك الله وبدون سؤال [ ص: 570 ] فإذا أتاك سائل فلا تنهره ، ولو في رد الجواب بالتي هي أحسن . ومعلوم : أن الجواب بلطف ، قد يقوم مقام العطاء في إجابة السائل ، وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا لم يجد ما يعطيه للسائل يعده وعدا حسنا لحين ميسرة ; أخذا من قوله تعالى : وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا [ 17 \ 28 ] . وقد أورد الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيتين عند هذه الآية في هذا المعنى ، هما قول الشاعر : إن لم تكن ورق يوما أجود بها للسائلين فإني لين العود لا يعدم السائلون الخير من خلقي إما نوالي وإما حسن مردود فليسعد النطق إن لم يسعد المال . وقيل : السائل المستفسر عن مسائل الدين والمسترشد ، وقالوا هذا مقابل قوله : ووجدك ضالا فهدى أي : لا تنهر مستغنيا ولا مسترشدا ، كقوله تعالى : عبس وتولى أن جاءه الأعمى [ 80 \ 1 - 2 ] . وقد كان - صلى الله عليه وسلم - رحيما شفيقا على الجاهل حتى يتعلم ، كما في قصة الأعرابي الذي بال في المسجد حين صاح به الصحابة ، فقال لهم : " لا تزرموه " إلى أن قال الأعرابي : اللهم ارحمني وارحم محمدا ولا ترحم معنا أحدا أبدا " وكالآخر الذي جاء يضرب صدره وينتف شعره ، ويقول : " هلكت وأهلكت ، واقعت أهلي في رمضان ، حتى كان من أمره أن أعطاه فرقا من طعامه يكفر به عن ذنبه ، فقال : أعلى أفقر منا يا رسول الله ؟ فقال : قم فأطعمه أهلك " . وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يقف للمرأة في الطريق يصغي إليها حتى يضيق من معه ، وهو يصبر لها ولم ينهرها ، بل يجيبها على أسئلتها . وقد حث - صلى الله عليه وسلم - على إكرام طالب العلم ، وبين أن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم ، وأن الحيتان في البحر لتستغفر له رضى بما يصنع . ![]()
__________________
|
#9
|
||||
|
||||
![]() ![]() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد الثامن الحلقة (597) سُورَةُ الشَّرْحِ . صـ 571 إلى صـ 580 وقوله : وأما بنعمة ربك فحدث : النعمة كل ما أنعم الله به على العبد ، وهي كل ما ينعم به العبد من : مال ، وعافية ، وهداية ، ونصرة من النعومة واللين ، فقيل : المراد بها [ ص: 571 ] المذكورات والتحدث بها شكرها عمليا من إيواء اليتيم كما آواه الله ، وإعطاء السائل كما أغناه الله ، وتعليم المسترشد كما علمه الله ، وهذا من شكر النعمة ، أي : كما أنعم الله عليك ، فتنعم أنت على غيرك ; تأسيا بفعل الله معك . وقيل : التحدث بنعمة الله هو التبليغ عن الله من آية وحديث ، والنعمة هنا عامة ; لتنكيرها وإضافتها ، كما في قوله تعالى : وما بكم من نعمة فمن الله [ 16 \ 53 ] ، أي : كل نعمة ، ولكن الذي يظهر أنها في الوحي أظهر أو هو أولى بها ، أو هو أعظمها ; لقوله تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا [ 5 \ 3 ] فقال : " نعمتي " ، وهنا " نعمة ربك " . ولا يبعد عندي أن يكون - صلى الله عليه وسلم - إنما نحر مائة ناقة في حجة الوداع ، لما أنزل الله عليه هذه الآية ، ففعل شكرا لله على إتمام النعمة بإكمال الدين . وقد قالوا في مناسبة هذه السورة بما قبلها : إن التي قبلها في الصديق : وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى [ 92 \ 17 - 21 ] ، وهنا في الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ما ودعك ربك وما قلى وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى [ 93 \ 3 - 5 ] مع الفارق الكبير في العطاء والخطاب . والواقع أن مناسبات السور القصار أظهر من مناسبات الآي في السورة الواحدة ، كما بين هاتين السورتين : " والليل " مع " والضحى " ، ثم ما بين : " والضحى " و " ألم نشرح " إنها تتمة النعم التي يعددها الله تعالى على رسوله . وهكذا على ما ستأتي الإشارة إليه في محله إن شاء الله تعالى . أعلم علما ; بأن بعض العلماء لم يعتبر تلك المناسبات . ولكن ما كانت المناسبة فيه واضحة ، فلا ينبغي إغفاله ، وما كانت خفية لا ينبغي التكلف له . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . سُورَةُ الشَّرْحِ . قوله تعالى : ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك ورفعنا لك ذكرك ذكر تعالى هنا ثلاث مسائل : شرح الصدر ، ووضع الوزر ، ورفع الذكر . وهي وإن كانت مصدرة بالاستفهام ، فهو استفهام تقريري لتقرير الإثبات ، فقوله تعالى : ألم نشرح بمعنى شرحنا على المبدأ المعروف ، من أن نفي النفي إثبات . وذلك ; لأن همزة الاستفهام وهي فيها معنى النفي دخلت على لم وهي للنفي ، فترافعا فبقي الفعل مثبتا . قالوا : ومثله قوله تعالى : أليس الله بكاف عبده [ 39 \ 36 ] . وقوله : ألم نربك فينا وليدا [ 26 \ 18 ] . وعليه قول الشاعر : ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح فتقرر بذلك أنه تعالى يعدد عليه نعمه العظمى ، وقد ذكرنا سابقا ارتباط هذه السورة بالتي قبلها في تتمة نعم الله تعالى على رسوله - صلى الله عليه وسلم . وروى النيسابوري عن عطاء وعمر بن عبد العزيز : أنهما كانا يقولان : هذه السورة وسورة " الضحى " سورة واحدة ، وكانا يقرآنهما في الركعة الواحدة ، وما كانا يفصلان بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم ، والذي دعاهما إلى ذلك هو أن قوله تعالى : ألم نشرح لك صدرك كالعطف على قوله : ألم يجدك يتيما [ 93 \ 6 ] ، ورد هذا الادعاء - أي من كونهما سورة واحدة - وعلى كل فإن هذا إذا لم يجعلهما سورة واحدة فإنه يجعلهما مرتبطتين معا في المعنى ، كما في " الأنفال " و " التوبة " . [ ص: 573 ] واختلف في معنى شرح الصدر ، إلا أنه لا منافاة فيما قالوا ، وكلها يكمل بعضها بعضا . فقيل : هو شق الصدر سواء كان مرة أو أكثر ، وغسله وملؤه إيمانا وحكمة ، كما في رواية مالك بن صعصعة في ليلة الإسراء ، ورواية أبي هريرة في غيرها . وفيه كما في رواية أحمد : أنه شق صدره ، وأخرج منه الغل والحسد ، في شيء كهيئة العلقة ، وأدخلت الرأفة والرحمة . وقيل : شرح الصدر إنما هو توسيعه للمعرفة والإيمان ومعرفة الحق ، وجعل قلبه وعاء للحكمة . وفي البخاري عن ابن عباس : " شرح الله صدره للإسلام " . وعند أبي كثير : نورناه وجعلناه فسيحا رحيبا واسعا ، كقوله : فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام [ 6 \ 125 ] . والذي يشهد له القرآن : أن الشرح هو الانشراح والارتياح . وهذه حالة نتيجة استقرار الإيمان والمعرفة والنور والحكمة . كما في قوله تعالى : أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه [ 39 \ 22 ] فقوله : " فهو على نور من ربه " : بيان لشرح الصدر للإسلام . كما أن ضيق الصدر ، دليل على الضلال ، كما في نفس الآية : ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا الآية [ 6 \ 125 ] . وفي حاشية الشيخ زادة علي البيضاوي ، قال : لم يشرح صدر أحد من العالمين ، كما شرح صدره - عليه السلام - حتى وسع علوم الأولين والآخرين ، فقال : " أوتيت جوامع الكلم " اهـ . ومراده بعلوم الأولين والآخرين ، ما جاء في القرآن من أخبار الأمم الماضية مع رسلهم وأخبار المعاد ، وما بينه وبين ذلك مما علمه الله تعالى . والذي يظهر - والله تعالى أعلم - : أن شرح الصدر الممتن به عليه - صلى الله عليه وسلم - أوسع وأعم [ ص: 574 ] من ذلك ، حتى إنه ليشمل صبره وصفحه وعفوه عن أعدائه ، ومقابلته الإساءة بالإحسان ، حتى إنه ليسع العدو ، كما يسع الصديق . كقصة عودته من ثقيف : إذ آذوه سفهاؤهم ، حتى ضاق ملك الجبال بفعلهم ، وقال له جبريل : إن ملك الجبال معي ، إن أردت أن يطبق عليهم الأخشبين فعل ، فينشرح صدره إلى ما هو أبعد من ذلك ، ولكأنهم لم يسيئوا إليه فيقول : " اللهم اهد قومي ; فإنهم لا يعلمون ، إني لأرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يقول : لا إله إلا الله محمد رسول الله " . وتلك أعظم نعمة وأقوى عدة في تبليغ الدعوة وتحمل أعباء الرسالة ، ولذا توجه نبي الله موسى إلى ربه يطلبه إياها ، لما كلف الذهاب إلى الطاغية فرعون كما في قوله تعالى : اذهب إلى فرعون إنه طغى قال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري [ 20 \ 24 - 31 ] . فذكر هنا من دواعي العون على أداء الرسالة أربعة عوامل : بدأها بشرح الصدر ، ثم تيسير الأمر ، وهذان عاملان ذاتيان ، ثم الوسيلة بينه وبين فرعون ، وهو اللسان في الإقناع : واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي ، ثم العامل المادي أخيرا في المؤازرة : واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري ، فقدم شرح الصدر على هذا كله لأهميته ; لأنه به يقابل كل الصعاب ، ولذا قابل به ما جاء به السحرة من سحر عظيم ، وما قابلهم به فرعون من عنت أعظم . وقد بين تعالى من دواعي انشراح الصدر وإنارته ، ما يكون من رفعة وحكمة وتيسير ، وقد يكون من هذا الباب مما يساعد عليه تلقي تلك التعاليم من الوحي ، كقوله تعالى : خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين [ 7 \ 199 ] ، وكقوله : والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين [ 3 \ 134 ] مما لا يتأتى إلا ممن شرح الله صدره . ومما يعين الملازمة عليه على انشراح الصدر ، وفعلا قد صبر على أذى المشركين بمكة ، ومخادعة المنافقين بالمدينة ، وتلقى كل ذلك بصدر رحب . [ ص: 575 ] وفي هذا كما قدمنا توجيه لكل داعية إلى الله ، أن يكون رحب الصدر ، هادئ النفس ، متجملا بالصبر . وقوله : ووضعنا عنك وزرك [ 24 \ 2 ] ، والوضع يكون للحط والتخفيف ، ويكون للحمل والتثقيل ، فإن عدي بعن كان للحط ، وإن عدي بعلى كان للحمل ، في قولهم : وضعت عنك ، ووضعت عليك ، والوزر لغة الثقل . ومنه : حتى تضع الحرب أوزارها ، أي : ثقلها من سلاح ونحوه . ومنه : الوزير المتحمل ثقل أميره وشغله ، وشرعا الذنب كما في الحديث : " ومن سن سنة سيئة ، فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة " ، وقد يتعاوران في التعبير كقوله تعالى : ليحملوا أوزارهم كاملة [ 16 \ 25 ] ، وقوله مرة أخرى : وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم [ 29 \ 13 ] . وقد أفرد لفظ الوزر هنا وأطلق ، ولم يبين ما هو وما نوعه ، فاختلف فيه اختلافا كثيرا . فقيل : ما كان فيه من أمر الجاهلية ، وحفظه من مشاركته معهم ، فلم يلحقه شيء منه . وقيل : ثقل تألمه مما كان عليه قومه ، ولم يستطع تغييره ، وشفقته - صلى الله عليه وسلم - بهم ، أي : كقوله تعالى : فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا [ 18 \ 6 ] ، أي : أسفا عليهم . وقال أبو حيان : هو كناية عن عصمته - صلى الله عليه وسلم - من الذنوب ، وتطهيره من الأرجاس . وقال ابن جرير : وغفرنا لك ما سلف من ذنوبك ، وحططنا عنك ثقل أيام الجاهلية التي كنت فيها . وقال ابن كثير : هو بمعنى : ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر . فكلام أبي حيان : يدل على العصمة ، وكلام ابن جرير يدل على شيء في الجاهلية ، وكلام ابن كثير مجمل . [ ص: 576 ] وفي هذا المجال مبحث عصمة الأنبياء عموما ، وهو مبحث أصولي يحققه كتب الأصول لسلامة الدعوة ، وقد تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بحثه في سورة " طه " عند الكلام على قوله تعالى : وعصى آدم ربه فغوى [ 20 \ 121 ] ، وأورد كلام المعتزلة والشيعة والحشوية ، ومقياس ذلك ، عقلا وشرعا ، وفي سورة " ص " عند قوله تعالى : وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه [ 38 \ 24 ] ، ونبه عندها على أن كل ما يقال في داود - عليه السلام - حول هذا المعنى ، كله إسرائيليات لا تليق بمقام النبوة . اهـ . أما في خصوصه - صلى الله عليه وسلم - فإنا نورد الآتي : إنه مهما يكن من شيء ، فإن عصمته - صلى الله عليه وسلم - من الكبائر والصغائر بعد البعثة يجب القطع بها ; لنص القرآن الكريم في قوله تعالى : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [ 33 \ 21 ] ; لوجوب التأسي به ، وامتناع أن يكون فيه شيء من ذلك قطعا . أما قبل البعثة ، فالعصمة من الكبائر أيضا ، يجب الجزم بها ; لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان في مقام التهيؤ للنبوة من صغره ، وقد شق صدره في سن الرضاع ، وأخرج منه حظ الشيطان ، ثم إنه لو كان قد وقع منه شيء لأخذوه عليه حين عارضوه في دعوته ، ولم يذكر من ذلك ولا شيء فلم يبق إلا القول في الصغائر ، فهي دائرة بين الجواز والمنع ، فإن كانت جائزة ووقعت ، فلا تمس مقامه - صلى الله عليه وسلم - لوقوعها قبل البعثة والتكليف ، وأنها قد غفرت وحط عنه ثقلها ، فإن لم تقع ولم تكن جائزة في حقه ، فهذا المطلوب . وقد ساق الألوسي - رحمه الله - في تفسيره : أن عمه أبا طالب ، قال لأخيه العباس يوما : " لقد ضممته إلي وما فارقته ليلا ولا نهارا ولا ائتمنت عليه أحدا " ، وذكر قصة بنيه ومنامه في وسط أولاده أول الليل ، ثم نقله إياه محل أحد أبنائه حفاظا عليه ، ثم قال : " ولم أر منه كذبة ، ولا ضحكا ، ولا جاهلية ، ولا وقف مع الصبيان وهم يلعبون " . وذكرت كتب التفسير : أنه - صلى الله عليه وسلم - أراد مرة في صغره أن يذهب لمحل عرس ليرى ما فيه ، فلما دنا منه أخذه النوم ولم يصح إلا على حر الشمس ، فصانه الله من رؤيه أو سماع شيء من ذلك . ومنه قصة مشاركته في بناء الكعبة حين تعرى ومنع منه حالا ، وعلى المنع من وقوع شيء منه - صلى الله عليه وسلم - بقي الجواب على معنى الآية ، فيقال - والله تعالى أعلم - : إنه تكريم له - صلى الله عليه وسلم - كما [ ص: 577 ] جاء في أهل بدر قوله - صلى الله عليه وسلم - : " لعل الله اطلع على أهل بدر ، فقال : افعلوا ما شئتم ; فقد غفرت لكم " مع أنهم لن يفعلوا محرما بذلك ، ولكنه تكريم لهم ورفع لمنزلتهم . وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يتوب ، ويستغفر ، ويقوم الليل حتى تورمت قدماه ، وقال : " أفلا أكون عبدا شكورا " . فكان كل ذلك منه شكرا لله تعالى ، ورفعا لدرجاته - صلى الله عليه وسلم - . وقد جاء : " نعم العبد صهيب ، لو لم يخف الله لم يعصه " ، وهو حسنة من حسناته - صلى الله عليه وسلم - . أو أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يعتد على نفسه بالتقصير ، ويعتبر ذنبا يستثقله ويستغفر منه ، كما كان إذا خرج من الخلاء قال : " غفرانك " . ومعلوم أنه ليس من موجب للاستغفار ، إلا ما قيل شعوره بترك الذكر في تلك الحالة ، استوجب منه ذلك . وقد استحسن العلماء قول الجنيد : حسنات الأبرار سيئات المقربين ، أو أن المراد مثل ما جاء في القرآن من بعض اجتهاداته - صلى الله عليه وسلم - وفي سبيل الدعوة ، فيرد اجتهاده فيعظم عليه : كقصة ابن أم مكتوم ، وعوتب فيه : عبس وتولى أن جاءه الأعمى الآية [ 80 \ 1 - 2 ] ، ونظيرها ولو كان بعد نزول هذه السورة ، إلا أنه من باب واحد كقوله : عفا الله عنك لم أذنت لهم [ 9 \ 43 ] ، وقصة أسارى بدر ، وقوله : ليس لك من الأمر شيء [ 3 \ 128 ] ، واجتهاده في إيمان عمه ، حتى قيل له : إنك لا تهدي من أحببت [ 28 \ 56 ] ونحو ذلك . فتحمل الآية عليه ، أو أن الوزر بمعناه اللغوي ، وهو ما كان يثقله من أعباء الدعوة ، وتبليغ الرسالة ، كما ذكر ابن كثير في سورة " الإسراء " عن الإمام أحمد من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لما كان ليلة أسري بي فأصبحت بمكة فظعت ، وعرفت أن الناس مكذبي ، فقعدت معتزلا حزينا ، فمر بي أبو جهل ، فجاء حتى جلس إليه ، فقال له كالمستهزئ : هل كان من شيء ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " نعم " ، وقص عليه الإسراء " . ففيه التصريح بأنه - صلى الله عليه وسلم - فظع ، والفظاعة : ثقل وحزن ، والحزن : ثقل . وتوقع تكذيبهم إياه أثقل على النفس من كل شيء . والله تعالى أعلم . [ ص: 578 ] وقوله تعالى : الذي أنقض ظهرك ، أي : ثقله ، مشعر بأن للذنب ثقلا على المؤمن ينوء به ، ولا يخففه إلا التوبة وحطه عنده . وقوله : ورفعنا لك ذكرك لم يبين هنا بم ولا كيف رفع له ذكره ، والرفع يكون حسيا ويكون معنويا ، فاختلف في المراد به أيضا . فقيل : هو حسي في الأذان والإقامة ، وفي الخطب على المنابر وافتتاحيات الكلام في الأمور الهامة ، واستدلوا لذلك بالواقع فعلا ، واستشهدوا بقول حسان - رضي الله عنه - وهي أبيات في ديوانه من قصيدة دالية : أغر عليه للنبوة خاتم من الله مشهود يلوح ويشهد وضم الإله اسم النبي إلى اسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهد وشق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد ومن رفع الذكر معنى ، أي : من الرفعة ، ذكره - صلى الله عليه وسلم - في كتب الأنبياء قبله ، حتى عرف للأمم الماضية قبل مجيئه . وقد نص القرآن أن الله جعل الوحي ذكرا له ولقومه ، في قوله تعالى : فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم وإنه لذكر لك ولقومك [ 43 \ 43 - 44 ] ، ومعلوم أن ذكره قومه ذكر له ، كما قال الشاعر : وكم أب قد علا بابن ذرى رتب كما علت برسول الله عدنان فتبين أن رفع ذكره - صلى الله عليه وسلم - ، إنما هو عن طريق الوحي ، سواء كان بنصوص من توجيه الخطاب إليه بمثل : ياأيها الرسول [ 5 \ 41 ] ، ياأيها النبي [ 8 \ 64 ] ، ياأيها المدثر [ 74 \ 1 ] ، والتصريح باسمه في مقام الرسالة : محمد رسول الله [ 48 \ 29 ] ، أو كان في فروع التشريع ، كما تقدم في أذان ، وإقامة ، وتشهد ، وخطب ، وصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - . والله تعالى أعلم . قوله تعالى : فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب النصب : التعب بعد الاجتهاد ، كما في قوله : وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة [ 88 \ 2 - 3 ] . [ ص: 579 ] وقد يكون النصب للدنيا أو للآخرة ، ولم يبين المراد بالنصب في أي شيء ، فاختلف فيه ، ولكنها أقوال متقاربة . فقيل : في الدعاء بعد الفراغ من الصلاة . وقيل : في النافلة من الفريضة ، والذي يشهد له القرآن ، أنه توجيه عام للأخذ بحظ الآخرة بعد الفراغ من عمل الدنيا ، كما في مثل قوله تعالى : ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ، وقوله : إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا [ 73 \ 6 ] ، أي لأنها وقت الفراغ من عمل النهار وفي سكون الليل ، وقوله : إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا [ 110 \ 1 - 3 ] ، فيكون وقته كله مشغولا ، إما للدنيا وإما للدين . وفي قوله فإذا فرغت فانصب ، حل لمشكلة الفراغ التي شغلت العالم حيث لم تترك للمسلم فراغا في وقته ; لأنه إما في عمل للدنيا ، وإما في عمل للآخرة . وقد روي عن ابن عباس : " أنه مر على رجلين يتصارعان ، فقال لهما : ما بهذا أمرنا بعد فراغنا " . وروي عن عمر أنه قال : " إني لأكره لأحدكم أن يكون خاليا سبهللا ، لا في عمل دنيا ولا دين " ولهذا لم يشك الصدر الأول فراغا في الوقت . ومما يشير إلى وضع الصدر الأول ، ما رواه مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه أنه قال : قلت لعائشة - رضي الله عنها - وأنا يومئذ حديث السن : " أرأيت قول الله تعالى : إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما [ 2 \ 158 ] ، فما على الرجل شيء ألا يطوف بهما ؟ فقالت عائشة : كلا ; لو كان كما تقول لكانت : فلا جناح عليه ألا يطوف بهما . فانظر رحمك الله وإياي ، فيم يفكر حديث السن ، وكيف يستشكل معاني القرآن ، فمثله لا يوجد عنده فراغ . تنبيه . [ ص: 580 ] ذكر الألوسي في قوله تعالى : فانصب قراءة شاذة بكسر الصاد ، وأخذها الشيعة على الفراغ من النبوة ، ونصب علي إماما ، وقال : ليس الأمر متعينا بعلي ; فالسني يمكن أن يقول : فانصب أبا بكر ، فإن احتج الشيعي بما كان في غدير خم ، احتج السني ; بأن وقته لم يكن وقت الفراغ من النبوة . بلى إن قوله - صلى الله عليه وسلم - : " مروا أبا بكر فليصل بالناس " كان بعده ، وفي قرب فراغه - صلى الله عليه وسلم - من النبوة ، إذ كان في مرضه الذي مات فيه . فإن احتج الشيعي بالفراغ من حجة الوداع ، رده السني بأن الآية قبل ذلك ، انتهى . وعلى كل إذا كان الشيعة يحتجون بها ، فيكفي لرد احتجاجهم أنها شاذة ، وتتبع الشواذ قريب من التأويل المسمى باللعب عند علماء التفسير ، وهو صرف اللفظ عن ظاهره ، لا لقرينة صارفة ولا علاقة رابطة . ومن اللعب في التأويل في هذه الآية ، ما يفعله بعض العوام : رأيت رجلا عاميا عاديا ، قد لبس حلة كاملة من : عمامة ، وثوب صقيل ، وحزام جميل مما يسمونه نصبة ، أي : بدلة كاملة ، فقال له رجل : ما هذه النصبة يا فلان ؟ فقال له : لما فرغت من عملي نصبت ، كما قال تعالى : فإذا فرغت فانصب . كما سمعت آخر يتوجع لقلة ما في يده ، ويقول لزميله : ألا تعرف لي شخصا أنصب عليه ، أي : آخذ قرضة منه ، فقلت له : ولم تنصب عليه ؟ والنصب كذب وحرام . فقال : إذا لم يكن عند الإنسان شيء ، ويده خالية فلا بأس ; لأن الله قال : فإذا فرغت فانصب ، وهذا وأمثاله مما يتجرأ عليه العامة لجهلهم ، أو أصحاب الأهواء لنحلهم . ![]()
__________________
|
#10
|
||||
|
||||
![]() ![]() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد التاسع الحلقة (598) سُورَةُ التِّين صـ 3 إلى صـ 12 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم سُورَةُ التِّين قوله تعالى : والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين . التين هو الثمرة المعروفة التي لا عجم لها ولا قشرة ، والزيتون هو كذلك الثمرة التي منها الزيت ، وطور سينين هو جبل الطور الذي ناجى موسى عنده ربه ، والبلد الأمين هو مكة المكرمة ، والواو للقسم . وقد اختلف في المراد بالمقسم به في الأول ، والثاني التين والزيتون ، واتفقوا عليه في الثالث والرابع على ما سيأتي . أما التين والزيتون ، فعن ابن عباس رضي الله عنهما : أنهما الثمرتان المعروفتان " وهو قول عكرمة والحسن ومجاهد . كلهم يقول : التين : تينكم الذي تأكلون ، والزيتون : زيتونكم الذي تعصرون . وعن كعب : التين : مسجد دمشق ، والزيتون بيت المقدس . وكذا عن قتادة . وأرادوا منابت التين والزيتون بقرينة الطور والبلد الأمين ، على أن منبت التين والزيتون لعيسى ، وطور سينين لموسى ، والبلد الأمين لمحمد صلى الله عليه وسلم . ولكن حمل التين والزيتون على منابتهما لا دليل عليه ، فالأولى إبقاؤهما على أصلهما ، ويشهد لذلك الآتي : أولا التين : قالوا : إنه أشبه ما يكون من الثمار بثمر الجنة ، إذ لا عجم له ولا قشر ، وجاء عنه في السنة : " أنه صلى الله عليه وسلم أهدي له طبق فيه تين ، فأكل منه ثم قال لأصحابه : فلو قلت : إن فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذه ; لأن فاكهة الجنة بلا عجم فكلوه ، فإنه يقطع البواسير وينفع من النقرس " ذكره النيسابوري ولم يذكر من خرجه . وذكره ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد ، قائلا : ويذكر عن أبي الدرداء " أهدي إلى [ ص: 4 ] النبي صلى الله عليه وسلم طبق من تين " وساق النص المتقدم . ثم قال : وفي ثبوت هذا نظر . وقد ذكر المفسرون وابن القيم وصاحب القاموس : للتين خواص ، وقالوا : إنها مما تجعله محلا للقسم به ، وجزم ابن القيم : أنه المراد في السورة . ومما ذكروا من خواصه ، قالوا : إنه يجلو رمل الكلى والمثانة ويؤمن من السموم ، وينفع خشونة الحلق والصدر وقصبة الرئة ، ويغسل الكبد والطحال ، وينقي الخلط البلغمي من المعدة ، ويغذي البدن غذاء جيدا ، ويابسه يغذي وينفع العصب . وقال جالينوس : وإذا أكل مع الجوز والسذاب ، قبل أخذ السم القاتل نفع ، وحفظ من الضر ، وينفع السعال المزمن ويدر البول ويسكن العطش الكائن عن البلغم المالح ، ولأكله على الريق منفعة عجيبة . وقال ابن القيم : لما لم يكن بأرض الحجاز والمدينة ، لم يأت له ذكر في السنة ، ولكن قد أقسم الله به في كتابه ، لكثرة منافعه وفوائده . والصحيح : أن المقسم به هو التين المعروف . ا هـ . وكما قال ابن القيم : لم يذكر في السنة لعدم وجوده بالحجاز والمدينة ، فكذلك لم يأت ذكره في القرآن قط إلا في هذا الموضع ، ولم يكن من منابت الحجاز والمدينة لمنافاة جوه لجوها ، وهو وإن وجد أخيرا إلا أنه لا يجود فيها جودته في غيرها . فترجح أن المراد بالتين هو هذا المأكول ، كما جاء عمن سمينا : ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن . أما الزيتون ، فقد تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في المقدمة ، أن من أنواع البيان إذا اختلف في المعنى المراد ، وكان مجيء أحد المعنيين أو المعاني المحتملة أكثر في القرآن ، فإنه يكون أولى بحمل اللفظ عليه . وقد جاء ذكر الزيتون في القرآن عدة مرات مقصودا به تلك الشجرة المباركة ، فذكر في ضمن الأشجار خاصة في قوله تعالى من سورة الأنعام : وجنات من أعناب والزيتون والرمان إلى قوله : إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون [ 6 \ 99 ] ، وسماها بذاتها في قوله تعالى من سورة المؤمنين : وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين [ 23 \ 20 ] [ ص: 5 ] وذكرها مع النخل والزرع في عبس في قوله تعالى : فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا [ 80 \ 27 - 29 ] ، وذكر من أخص خصائص الأشجار ، في قوله في سورة النور في المثل العظيم المضروب : الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور [ 24 \ 35 ] . فوصفها بالبركة ووصف زيتها بأنه يكاد يضيء ، ولو لم تمسسه نار ، واختيارها لهذا المثل العظيم يجعلها أهلا لهذا القسم العظيم هنا . أما طور سينين : فأكثرهم على أنه جبل الطور ، الذي ناجى الله موسى عنده ، كما جاء في عدة مواطن ، وذكر الطور فيها للتكريم وللقسم ، فمن ذكره للتكريم قوله تعالى : وناديناه من جانب الطور الأيمن [ 19 \ 52 ] ، ومن ذكره للقسم به قوله تعالى : والطور وكتاب مسطور [ 52 \ 1 - 2 ] . وقد تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في سورة الطور قوله ، وقد أقسم الله بالطور في قوله تعالى : والتين والزيتون وطور سينين [ 95 \ 2 ] . ا هـ . أما البلد الأمين فهو مكة لقوله تعالى : ومن دخله كان آمنا ، فالأمين بمعنى الآمن ، أي : من الأعداء ، أن يحاربوا أهله أو يغزوهم ، كما قال تعالى : أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم [ 29 \ 67 ] ، والأمين بمعنى آمن ، جاء في قول الشاعر : ألم تعلمي يا اسم ويحك أنني حلفت يمينا لا أخون أميني يريد : آمني . قوله تعالى : لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم . وهذا هو المقسم عليه ، والتقويم التعديل كما في قوله : ولم يجعل له عوجا قيما [ 18 \ 1 - 2 ] ، وأحسن تقويم شامل لخلق الإنسان حسا ومعنى أي شكلا وصورة وإنسانية ، وكلها من آيات القدرة ودلالة البعث . وروي عن علي رضي الله عنه : دواؤك منك ولا تشعر وداؤك منك ولا تبصر [ ص: 6 ] وتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الكبير وقد بين تعالى خلقه ابتداء من نطفة فعلقة إلى آخره في أكثر من موضع ، كما في قوله : ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى [ 75 \ 34 - 40 ] . وكذلك في هذه السورة التنبيه على البعث بقوله : فما يكذبك بعد بالدين [ 95 \ 7 ] . أما الجانب المعنوي فهو الجانب الإنساني ، وهو المتقدم في قوله : ونفس وما سواها على ما قدمنا هناك ، من أن النفس البشرية هي مناط التكليف ، وهو الجانب الذي به كان الإنسان إنسانا ، وبهما كان خلقه في أحسن تقويم ، ونال بذلك أعلى درجات التكريم : ولقد كرمنا بني آدم [ 17 \ 70 ] . والإنسان وإن كان لفظا مفردا إلا أنه للجنس بدلالة قوله : ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا [ 95 \ 5 - 6 ] ، وهذا مثل ما في سورة : والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر [ 103 \ 1 - 6 ] ، فباستثناء الجمع منه ، علم أن المراد به الجنس . والتأكيد بالقسم المتقدم على خلق الإنسان في أحسن تقويم يشعر أن المخاطب منكر لذلك ، مع أن هذا أمر ملموس محسوس ، لا ينكره إنسان . وقد أجاب الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في دفع إيهام الاضطراب على ذلك : بأن غير المنكر إذا ظهرت عليه علامات الإنكار ، عومل معاملة المنكر ، كقول الشاعر : جاء شقيق عارضا رمحه وإن بني عمك فيهم رماح وأمارات الإنكار على المخاطبين ، إنما هي عدم إيمانهم بالبعث ; لأن العاقل لو تأمل خلق الإنسان ، لعرف منه أن القادر على خلقه في هذه الصورة ، قادر على بعثه . وهذه المسألة أفردها الشيخ في سورة الجاثية بتنبيه على قوله تعالى : وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون [ 45 \ 4 ] ، وتكرر هذا البحث في عدة مواضع ، وأصرح دلالة على هذا المعنى ما جاء في آخر يس : وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم [ 36 \ 78 - 79 ] . قوله تعالى : ثم رددناه أسفل سافلين . قيل : رد إلى الكبر والهرم وضعف الجسم والعقل . إن الثمانين وبلغتها قد أحوجت سمعي إلى ترجمان كما في قوله تعالى : ومن نعمره ننكسه في الخلق [ 36 \ 68 ] . وذكر الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه هذا القول ، وساق معه قوله : الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة [ 30 \ 54 ] ، وساق آية التين هذه : ثم رددناه أسفل سافلين ، وقال : على أحد التفسيرين ، وقوله : ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا [ 22 \ 5 ] ، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس ، رواه ابن جرير . وقيل : رد إلى النار بسبب كفره ، وهذا مروي عن مجاهد والحسن . وقد رجح ابن جرير المعنى الأول ، وهو كما ترى ، ما يشهد له القرآن في النصوص التي قدمنا ، واستدل لهذا الوجه من نفس السورة . وذلك لأن الله تعالى قال في آخرها : فما يكذبك بعد بالدين [ 95 \ 7 ] ، أي : بعد هذه الحجج الواضحة ، وهي بدء خلق الإنسان وتطوره إلى أحسن أمره ، ثم رده إلى أحط درجات العجز أسفل سافلين ، وهذا هو المشاهد لهم ، يحتج به عليهم . أما رده إلى النار فأمر لم يشهده ولم يؤمنوا به ، فلا يصلح أن يكون دليلا يقيمه عليهم ; لأن من شأن الدليل أن ينقل من المعلوم إلى المجهول ، والبعث هو موضع إنكارهم ، فلا يحتج عليهم لإثبات ما ينكرونه بما ينكرونه ، وهذا الذي ذهب إليه واضح . ومما يشهد لهذا الوجه : أن حالة الإنسان هذه في نشأته من نطفة ، فعلقة ، فطفل ، فغلام ، فشيخ ، فهرم ، وعجز . جاء مثلها في النبات وكلاهما من دلائل البعث ، كما في قوله : اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو إلى قوله : كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان [ 57 \ 20 ] [ ص: 8 ] وقوله : ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب [ 39 \ 21 ] . فكذلك الإنسان ; لأنه كالنبات سواء كما قال تعالى : والله أنبتكم من الأرض نباتا ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا [ 71 \ 17 - 18 ] . ويكون الاستثناء إلا الذين آمنوا فإنهم لا يصلون إلى حالة الخوف وأرذل العمر ; لأن المؤمن مهما طال عمره ، فهو في طاعة ، وفي ذكر الله فهو كامل العقل ، وقد تواتر عند العامة والخاصة أن حافظ كتاب الله المداوم على تلاوته ، لا يصاب بالخرف ولا الهذيان . وقد شاهدنا شيخ القراء بالمدينة المنورة الشيخ حسن الشاعر ، لا زال على قيد الحياة عند كتابة هذه الأسطر تجاوز المائة بكثير ، وهو لا يزال يقرئ تلاميذه القرآن ، ويعلمهم القراءات العشر ، وقد يسمع لأكثر من شخص يقرءون في أكثر من موضع وهو يضبط على الجميع . وقد روى الشوكاني مثله ، عن ابن عباس أنه قال ذلك . قوله تعالى : فلهم أجر غير ممنون . أي : غير مقطوع أو غير ممنون به عليهم . وعلى الأول : فالأجر هو الثواب ، إما بدوام أعمالهم لكمال عقولهم ، وإما بأن الله يأمر الملائكة أن تكتب لهم من الأجر ما كانوا يعملونه في حال قوتهم من صيام وقيام ، وتصدق من كسبهم ونحو ذلك ، للأحاديث في حق المريض والمسافر ، فيظل ثواب أعمالهم مستمرا عليهم غير مقطوع . وعلى الثاني : فيكون الأجر هو النعيم في الجنة يعطونه ولا يمن به عليهم ، ولا يقطع عنهم كما قال تعالى :أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا [ 13 \ 35 ] . تنبيه وهنا وجهة نظر من وجهين : وجه خاص وآخر عام . [ ص: 9 ] أما الخاص : فإن كلمة رددناه ، فالرد يشعر إلى رد لأمر سابق ، والأمر السابق هو خلق الإنسان في أحسن تقويم ، وأحسن تقويم شامل لشكله ومعناه ، أي جسمه وإنسانيته ، فرده إلى أسفل سافلين ، يكون بعدم الإيمان كالحيوان بل هو في تلك الحالة أسفل دركا من الحيوان ، وأشرس نفسا من الوحش ، فلا إيمان يحكمه ولا إنسانية تهذبه ، فيكون طاغية جبارا يعيث في الأرض فسادا ، وعليه يكون الاستثناء إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فبإيمانهم وعملهم الصالحات يترفعون عن السفالة ، ويرتفعون إلى الأعلى فلهم أجر غير ممنون . والوجهة العامة وهي الشاملة لموضوع السورة من أولها ابتداء من التين والزيتون وما معه في القسم إلى : لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا الآية [ 95 \ 4 - 6 ] . فإنه إن صح ما جاء في قصة آدم في قوله : فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة [ 20 \ 121 ] . روى المفسرون أن آدم لما بدت له سوأته ذهب إلى أشجار الجنة ليأخذ من الورق ليستر نفسه ، وكلما جاء شجرة زجرته ولم تعطه ، حتى مر بشجرة التين فأعطته ، فأخلفها الله الثمرة مرتين في السنة ، وكافأها بجعل ثمرتها باطنها كظاهرها لا قشر لها ولا عجم . وقد روى الشوكاني في أنها شجرة التين التي أخذ منها الورق . فقال : وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : " لما أسكن الله آدم الجنة كساه سربالا من الظفر ، فلما أصاب الخطيئة سلبه السربال فبقي في أطراف أصابعه " . قال : وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي وابن عساكر عن ابن عباس قال : " كان لباس آدم وحواء كالظفر - وذكر الأثر - وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة " قال : ينزعان ورق التين ، فيجعلانه على سوآتهما . وبهذا النقل يكون ذكر التين هنا مع خلق الإنسان في أحسن تقويم ، ثم رده أسفل سافلين إلا الذين آمنوا سر لطيف جدا ، وهو إشعار الإنسان الآن ، أن جنس الإنسان كله بالإنسان الأول أبي البشر ، وقد خلقه الله في أحسن حالة حسا ومعنى ، حتى رفعه إلى [ ص: 10 ] منزلة إسجاد الملائكة له وسكناه الجنة ، فهي أعلى منزلة التكريم ، وله فيها أنه لا يجوع ولا يعرى ولا يظمأ فيها ولا يضحى ، وظل كذلك على ذلك إلى أن أغواه الشيطان ونسي عهد ربه إليه ، ووقع فيما وقع فيه وكان له ما كان ، فدلاهما بغرور وانتقلا من أعلى عليين إلى أسفل سافلين ، فنزل إلى الأرض يحرث ويزرع ويحصد ويطحن ويعجن ويخبز ، حتى يجد لقمة العيش ، فهذا خلق الإنسان في أحسن تقويم ورده أسفل سافلين . وهذا شأن أهل الأرض جميعا ، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون برجوعهم إلى الجنة كما رجع إليها آدم بالتوبة فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه [ 2 \ 37 ] ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى [ 20 \ 122 ] . وإن في ذكر البلد الأمين لترشيح لهذا المعنى ; لأن الله جعل الحرم لأهل مكة أمنا كصورة الآمن في الجنة ، فإن امتثلوا وأطاعوا نعموا بهذا الأمن ، وإن تمردوا وعصوا ، فيخرجون منها ويحرمون أمنها . وهكذا تكون السورة ربطا بين الماضي والحاضر ، وانطلاقا من الحاضر إلى المستقبل ، فما يكذبك بعد بالدين أليس الله بأحكم الحاكمين [ 95 \ 7 - 8 ] . فيما فعل بآدم وفيما يفعل بأولئك ، حيث أنعم عليهم بالأمن والعيش الرغد ، وإرسالك إليهم وفيما يفعل لمن آمن أو بمن يكفر ، اللهم بلى . قوله تعالى : فما يكذبك بعد بالدين . فالدين هو الجزاء كما في سورة الفاتحة : مالك يوم الدين [ 1 \ 4 ] والخطاب قيل للرسول صلى الله عليه وسلم . وأن " ما " في قوله : " فما " هي بمعنى " من " أي ، فمن الذي يكذبك بعد هذا البيان ، بمجيء الجزاء والحساب ليلقى كل جزاء عمله . قوله تعالى : أليس الله بأحكم الحاكمين . السؤال كما تقدم في : ألم نشرح [ 94 \ 1 ] ، أي : للإثبات ، وهو سبحانه وتعالى بلا شك أحكم الحاكمين ، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قرأها قال : " اللهم بلى " كما سيأتي . وأحكم الحاكمين ، قيل : أفعل تفضيل من الحكم أي : أعدل الحاكمين ، كما في [ ص: 11 ] قوله تعالى : ولا يظلم ربك أحدا [ 18 \ 49 ] . وقيل : من الحكمة ، أي : في الصنع والإتقان والخلق ، فيكون اللفظ مشتركا ، ولا يبعد أن يكون من المعنيين معا ، وإن كان هو في الحكم أظهر ; لأن الحكيم من الحكمة يجمع على الحكماء . فعلى القول بالأمرين : يكون من استعمال المشترك في معنييه معا ، وهو هنا لا تعارض بل هما متلازمان ; لأن الحكيم لا بد أن يعدل ، والعادل لا بد أن يكون حكيما يضع الأمور في مواضعها . وقد بين تعالى هذا المعنى في عدة مواطن كقوله تعالى : أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار [ 38 \ 28 ] ، الجواب : لا ، وكقوله : أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون [ 45 \ 21 ] ، وفي قوله ساء ما يحكمون بيان لعدم عدالتهم في الحكم ، وبعده عن الحكمة . ومعلوم أن عدم التسوية بينهم في مماتهم أنه بالبعث والجزاء ، فهو سبحانه أحكم الحاكمين في صنعه وخلقه . خلق الإنسان في أحسن تقويم ، وأعدل الحكام في حكمه لم يسو بين المحسن والمسيء . وقد اتفق المفسرون على رواية الترمذي لحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا : " من قرأ والتين والزيتون ، فقرأ أليس الله بأحكم الحاكمين ، فليقل : بلى ، وأنا على ذلك من الشاهدين " . ومثله عن جابر مرفوعا ، وعن ابن عباس قوله : " سبحانك اللهم ، فبلى " . والعلم عند الله تعالى . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ الْعَلَق قوله تعالى : اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم . في هذه الآيات الخمس تسع مسائل مرتبط بعضها ببعض ارتباط السبب بالمسبب ، والعام بالخاص ، والدليل بالمدلول عليه ، وكلها من منهج هذا الكتاب المبارك . وفي الواقع أنها كلها مسائل أساسية بالغة الأهمية عظيمة الدلالة . وقد قال عنها ابن تيمية : إنها وأمثالها من السور التي فيها العجائب ، وذلك لما جاء فيها من التأسيس لافتتاحية تلك الرسالة العظيمة ، ولا تستطيع إيفاءها حقها عجزا وقصورا . وقد كتب فيها شيخ الإسلام ابن تيمية بأسلوبه مائتين وعشرين صفحة متتالية ، وفصلا آخر في مباحث تتصل بها ، ولو أوردنا كل ما يسعنا مما تحتمله ، لكان خروجا عن موضوع الكتاب ، ولذا فإنا نقصر القول على ما يتصل بموضوعه ، إلا ما جرى القلم به مما لا يمكن تركه ، وبالله تعالى التوفيق . أما المسائل التسع التي ذكرت هنا ، فإنا نوردها لنتقيد بها وهي : أولا : الأمر بالقراءة ، يوجه لنبي أمي . والثانية : كون القراءة هذه باسم الرب سبحانه مضافا للمخاطب صلى الله عليه وسلم باسم ربك . الثالثة : وصف للرب الذي خلق بدلا من اسم الله ، واسم الذي يحيي ويميت أو غير ذلك . الرابعة : خلق الإنسان بخصوصه ، بعد عموم خلق وإطلاقه . ![]()
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |