تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى - الصفحة 6 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         روائع قرآنية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 28 - عددالزوار : 154 )           »          ‏تأملات في آيتين عجيبتين في كتاب الله تعالى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          الكلمة الطيِّبة (لا إله إلا الله ) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          أسد بن الفرات بن سنان رحمة الله فاتح صقلية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          صدق الله فصدقه الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          لماذا التأريخ بالهجرة لا بغيرها؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          الهجرة النبويّة فن التخطيط والإعداد وبراعة الأخذ بالأسباب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          معاهدة محمد الثالث مع ملك فرنسا لويس الخامس عشر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          أمية بن أبي الصلت الداني (460-529هـ/1067-1134م) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          فرق كبير بين الصالح والمصلح (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير > هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن
التسجيل التعليمـــات التقويم

هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 02-01-2023, 04:38 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,025
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (4)
سورة آل عمران
من صــ 276 الى صــ 283
الحلقة (211)




لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد

قوله تعالى : لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء ذكر تعالى قبيح قول الكفار ولا سيما اليهود . وقال أهل التفسير : لما أنزل الله من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا قال قوم من اليهود - منهم حيي بن أخطب ; في قول الحسن . وقال عكرمة وغيره : هو فنحاص بن عازوراء - إن الله فقير ونحن أغنياء يقترض منا . وإنما قالوا هذا تمويها على ضعفائهم ، لا أنهم يعتقدون هذا ; لأنهم أهل كتاب . ولكنهم كفروا بهذا القول ; لأنهم أرادوا تشكيك الضعفاء منهم ومن المؤمنين ، وتكذيب النبي - صلى الله عليه وسلم - . أي إنه فقير على قول محمد - صلى الله عليه وسلم - ; لأنه اقترض منا .

سنكتب ما قالوا سنجازيهم عليه . وقيل : سنكتبه في صحائف أعمالهم ، أي نأمر الحفظة بإثبات قولهم حتى يقرءوه يوم القيامة في كتبهم التي يؤتونها ; حتى يكون أوكد [ ص: 276 ] للحجة عليهم . وهذا كقوله : وإنا له كاتبون . وقيل : مقصود الكتابة الحفظ ، أي سنحفظ ما قالوا لنجازيهم . " وما " في قوله ما قالوا في موضع نصب " بسنكتب " . وقرأ الأعمش وحمزة " سيكتب " بالياء ; فيكون " ما " اسم ما لم يسم فاعله . واعتبر حمزة ذلك بقراءة ابن مسعود : " ويقال ذوقوا عذاب الحريق " .

قوله تعالى : وقتلهم الأنبياء بغير حق أي ونكتب قتلهم الأنبياء ، أي رضاءهم بالقتل . والمراد قتل أسلافهم الأنبياء ; لكن لما رضوا بذلك صحت الإضافة إليهم . وحسن رجل عند الشعبي ، قتل عثمان - رضي الله عنه - فقال له الشعبي : شركت في دمه . فجعل الرضا بالقتل قتلا ; - رضي الله عنه - .

قلت : وهذه مسألة عظمى ، حيث يكون الرضا بالمعصية معصية . وقد روى أبو داود عن العرس بن عميرة الكندي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها - وقال مرة فأنكرها - كمن غاب عنها ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها . وهذا نص . قوله تعالى : بغير حق تقدم معناه في البقرة . ونقول ذوقوا عذاب الحريق أي يقال لهم في جهنم ، أو عند الموت ، أو عند الحساب هذا . ثم هذا القول من الله تعالى ، أو من الملائكة ; قولان . وقراءة ابن مسعود " ويقال " . والحريق اسم للملتهبة من النار ، والنار تشمل الملتهبة وغير الملتهبة .

قوله تعالى : ذلك بما قدمت أيديكم أي ذلك العذاب بما سلف من الذنوب . وخص الأيدي بالذكر ليدل على تولي الفعل ومباشرته ; إذ قد يضاف الفعل إلى الإنسان بمعنى أنه أمر به ; كقوله : يذبح أبناءهم وأصل " أيديكم " أيديكم فحذفت الضمة لثقلها ، والله أعلم .
قوله تعالى : الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير

[ ص: 277 ] قوله تعالى : الذين في موضع خفض بدلا من " الذين " في قوله عز وجل لقد سمع الله قول الذين قالوا أو نعت " للعبيد " أو خبر ابتداء ، أي هم الذين قالوا . وقال الكلبي وغيره . نزلت في كعب بن الأشرف ، ومالك بن الصيف ، ووهب بن يهوذا وفنحاص بن عازوراء وجماعة أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - ; فقالوا له : أتزعم أن الله أرسلك إلينا ، وإنه أنزل علينا كتابا عهد إلينا فيه ألا نؤمن لرسول يزعم أنه من عند الله حتى يأتينا بقربان تأكله النار ، فإن جئنا به صدقناك . فأنزل الله هذه الآية . فقيل : كان هذا في التوراة ، ولكن كان تمام الكلام : حتى يأتيكم المسيح ومحمد فإذا أتياكم فآمنوا بهما من غير قربان . وقيل : كان أمر القرابين ثابتا إلى أن نسخت على لسان عيسى ابن مريم . وكان النبي منهم يذبح ويدعو فتنزل نار بيضاء لها دوي وحفيف لا دخان لها ، فتأكل القربان . فكان هذا القول دعوى من اليهود ; إذ كان ثم استثناء فأخفوه ، أو نسخ ، فكانوا في تمسكهم بذلك متعنتين ، ومعجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - دليل قاطع في إبطال دعواهم ، وكذلك معجزات عيسى ; ومن وجب صدقه وجب تصديقه . ثم قال تعالى : إقامة للحجة عليهم : قل يا محمد قد جاءكم يا معشر اليهود رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم من القربان فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين يعني زكريا ويحيى وشعيا ، وسائر من قتلوا من الأنبياء عليهم السلام ولم تؤمنوا بهم . أراد بذلك أسلافهم . وهذه الآية هي التي تلاها عامر الشعبي - رضي الله عنه - ، فاحتج بها على الذي حسن قتل عثمان - رضي الله عنه - كما بيناه . وإن الله تعالى سمى اليهود قتلة لرضاهم بفعل أسلافهم ، وإن كان بينهم نحو من سبعمائة سنة . والقربان ما يتقرب به إلى الله تعالى من نسك وصدقة وعمل صالح ; وهو فعلان من القربة . ويكون اسما ومصدرا ; فمثال الاسم السلطان والبرهان . والمصدر العدوان والخسران . وكان عيسى بن عمر يقرأ " بقربان " بضم الراء إتباعا لضمة القاف ; كما قيل في جمع ظلمة : ظلمات ، وفي حجرة حجرات . ثم قال تعالى معزيا لنبيه ومؤنسا له : فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات أي بالدلالات . والزبر أي الكتب المزبورة ، يعني المكتوبة . والزبر جمع زبور وهو الكتاب . وأصله من زبرت أي كتبت . وكل زبور فهو كتاب ; قال امرؤ القيس :


لمن طلل أبصرته فشجاني كخط زبور في عسيب يماني
وأنا أعرف تزبرتي أي كتابتي . وقيل : الزبور من الزبر بمعنى الزجر . وزبرت الرجل انتهرته . وزبرت البئر : طويتها بالحجارة . وقرأ ابن عامر " بالزبر وبالكتاب المنير " بزيادة باء في الكلمتين . وكذلك هو في مصاحف أهل الشام . والكتاب المنير أي الواضح [ ص: 278 ] المضيء ; من قولك : أنرت الشيء أنيره ، أي أوضحته : يقال : نار الشيء وأناره ونوره واستناره بمعنى ، وكل واحد منهما لازم ومتعد . وجمع بين الزبر والكتاب - وهما بمعنى - لاختلاف لفظهما ، وأصلها كما ذكرنا .
قوله تعالى : كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور

فيه سبع مسائل :

الأولى : لما أخبر جل وتعالى عن الباخلين وكفرهم في قولهم : إن الله فقير ونحن أغنياء وأمر المؤمنين بالصبر على أذاهم في قوله : لتبلون الآية - بين أن ذلك مما ينقضي ولا يدوم ; فإن أمد الدنيا قريب ، ويوم القيامة يوم الجزاء . ذائقة الموت من الذوق ، وهذا مما لا محيص عنه للإنسان ، ولا محيد عنه لحيوان . وقد قال أمية بن أبي الصلت :


من لم يمت عبطة يمت هرما للموت كأس وإن المرء ذائقها
وقال آخر :


الموت باب وكل الناس داخله فليت شعري بعد الباب ما الدار


الثانية : قراءة العامة ذائقة الموت بالإضافة . وقرأ الأعمش ويحيى وابن أبي إسحاق " ذائقة الموت " بالتنوين ونصب الموت . قالوا : لأنها لم تذق بعد . وذلك أن اسم الفاعل على ضربين : أحدهما أن يكون بمعنى المضي . والثاني بمعنى الاستقبال ; فإن أردت الأول لم يكن فيه إلا الإضافة إلى ما بعده ; كقولك : هذا ضارب زيد أمس ، وقاتل بكر أمس ; لأنه يجري مجرى الاسم الجامد وهو العلم ، نحو غلام زيد ، وصاحب بكر . قال الشاعر :


الحافظو عورة العشيرة لا يأ تيهم من ورائهم وكف
وإن أردت الثاني جاز الجر . والنصب والتنوين فيما هذا سبيله هو الأصل ; لأنه يجري [ ص: 279 ] مجرى الفعل المضارع فإن كان الفعل غير متعد ، لم يتعد نحو قائم زيد . وإن كان متعديا عديته ونصبت به ، فتقول : زيد ضارب عمرا بمعنى يضرب عمرا . ويجوز حذف التنوين والإضافة تخفيفا ، كما قال المرار " :


سل الهموم بكل معطي رأسه ناج مخالط صهبة متعيس
مغتال أحبله مبين عنقه في منكب زبن المطي عرندس
فحذف التنوين تخفيفا ، والأصل : معط رأسه بالتنوين والنصب ، ومثل هذا أيضا في التنزيل قوله تعالى هل هن كاشفات ضره وما كان مثله .

الثالثة : ثم اعلم أن للموت أسبابا وأمارات ، فمن علامات موت المؤمن عرق الجبين . أخرجه النسائي من حديث بريدة قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : المؤمن يموت بعرق الجبين . وقد بيناه في " التذكرة " فإذا احتضر لقن الشهادة ; لقوله عليه السلام : لقنوا موتاكم لا إله إلا الله لتكون آخر كلامه فيختم له بالشهادة ; ولا يعاد عليه منها لئلا يضجر . ويستحب قراءة " يس " ذلك الوقت ; لقوله عليه السلام : اقرءوا يس على موتاكم أخرجه أبو داود . وذكر الآجري في كتاب النصيحة من حديث أم الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما من ميت يقرأ عنده سورة يس إلا هون عليه الموت . فإذا قضي وتبع البصر الروح كما [ ص: 280 ] أخبر - صلى الله عليه وسلم - في صحيح مسلم وارتفعت العبادات وزال التكليف ، توجهت على الأحياء أحكام ; منها : تغميضه ، وإعلام إخوانه الصلحاء بموته . وكرهه قوم وقالوا : هو من النعي . والأول أصح ، وقد بيناه في غير هذا الموضع . ومنها الأخذ في تجهيزه بالغسل والدفن لئلا يسرع إليه التغير ; قال - صلى الله عليه وسلم - لقوم أخروا دفن ميتهم : عجلوا بدفن جيفتكم وقال : أسرعوا بالجنازة الحديث ، وسيأتي .

الرابعة : فأما غسله فهو سنة لجميع المسلمين حاشا الشهيد على ما تقدم . قيل : غسله واجب قاله القاضي عبد الوهاب . والأول : مذهب الكتاب ، وعلى هذين القولين العلماء . وسبب الخلاف قوله عليه السلام لأم عطية في غسلها ابنته زينب ، على ما في كتاب مسلم . وقيل : هي أم كلثوم ، على ما في كتاب أبي داود : اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك الحديث . وهو الأصل عند العلماء في غسل الموتى . فقيل : المراد بهذا الأمر بيان حكم الغسل فيكون واجبا . وقيل : المقصود منه تعليم كيفية الغسل فلا يكون فيه ما يدل على الوجوب . قالوا ويدل عليه قوله : ( إن رأيتن ذلك ) وهذا يقتضي إخراج ظاهر الأمر عن الوجوب ; لأنه فوضه إلى نظرهن . قيل لهم : هذا فيه بعد ; لأن ردك ( إن رأيتن ) إلى الأمر ، ليس السابق إلى الفهم بل السابق رجوع هذا الشرط إلى أقرب مذكور ، وهو ( أكثر من ذلك ) أو إلى التخيير في الأعداد . وعلى الجملة فلا خلاف في أن غسل الميت مشروع معمول به في الشريعة لا يترك . وصفته كصفة غسل الجنابة على ما هو معروف . ولا يجاوز السبع غسلات في غسل الميت بإجماع ; على ما حكاه أبو عمر . فإن خرج منه شيء بعد السبع غسل الموضع [ ص: 281 ] وحده ، وحكمه حكم الجنب إذا أحدث بعد غسله . فإذا فرغ من غسله كفنه في ثيابه وهي :

الخامسة : والتكفين واجب عند عامة العلماء ، فإن كان له مال فمن رأس ماله عند عامة العلماء إلا ما حكي عن طاوس أنه قال : من الثلث كان المال قليلا أو كثيرا . فإن كان الميت ممن تلزم غيره نفقته في حياته من سيد إن كان عبدا أو أب أو زوج أو ابن ; فعلى السيد باتفاق ، وعلى الزوج والأب والابن باختلاف . ثم على بيت المال أو على جماعة المسلمين على الكفاية . والذي يتعين منه بتعيين الفرض ستر العورة ; فإن كان فيه فضل غير أنه لا يعم جميع الجسد غطي رأسه ووجهه إكراما لوجهه وسترا لما يظهر من تغير محاسنه .

والأصل في هذا قصة مصعب بن عمير ، فإنه ترك يوم أحد نمرة كان إذا غطي رأسه خرجت رجلاه ، وإذا غطي رجلاه خرج رأسه ; فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ضعوها مما يلي رأسه واجعلوا على رجليه من الإذخر أخرج الحديث مسلم .

والوتر مستحب عند كافة العلماء في الكفن ، وكلهم مجمعون على أنه ليس فيه حد والمستحب منه البياض قال - صلى الله عليه وسلم - : البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم أخرجه أبو داود . وكفن - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثة أثواب بيض سحولية من كرسف . والكفن في غير البياض جائز إلا أن يكون حريرا أو خزا .

فإن تشاح الورثة في الكفن قضي عليهم في مثل لباسه في جمعته وأعياده قال - صلى الله عليه وسلم - : إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه أخرجه مسلم . إلا أن يوصي بأقل من ذلك . فإن أوصى بسرف قيل : يبطل الزائد . وقيل : يكون في الثلث . والأول أصح ; لقوله تعالى : ولا تسرفوا . وقال أبو بكر : إنه للمهلة . فإذا فرغ من غسله وتكفينه ووضع على سريره واحتمله الرجال على أعناقهم وهي :

السادسة : فالحكم الإسراع في المشي ; لقوله عليه السلام : أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه وإن تكن غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم . لا كما يفعله اليوم [ ص: 282 ] الجهال في المشي رويدا والوقوف بها المرة بعد المرة ، وقراءة القرآن بالألحان إلى ما لا يحل ولا يجوز حسب ما يفعله أهل الديار المصرية بموتاهم . روى النسائي : أخبرنا محمد بن عبد الأعلى قال حدثنا خالد قال أنبأنا عيينة بن عبد الرحمن قال حدثني أبي قال : شهدت جنازة عبد الرحمن بن سمرة وخرج زياد يمشي بين يدي السرير ، فجعل رجال من أهل عبد الرحمن ومواليهم يستقبلون السرير ويمشون على أعقابهم ويقولون : رويدا رويدا ، بارك الله فيكم ! فكانوا يدبون دبيبا ، حتى إذا كنا ببعض طريق المربد لحقنا أبو بكرة - رضي الله عنه - على بغلة فلما رأى الذين يصنعون حمل عليهم ببغلته وأهوى إليهم بالسوط فقال : خلوا ! فوالذي أكرم وجه أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم - لقد رأيتنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنها لنكاد نرمل بها رملا ، فانبسط القوم . وروى أبو ماجدة عن ابن مسعود قال سألنا نبينا صلى الله عليه سلم عن المشي مع الجنازة فقال : دون الخبب إن يكن خيرا يعجل إليه وإن يكن غير ذلك فبعدا لأهل النار الحديث . قال أبو عمر : والذي عليه جماعة العلماء في ذلك الإسراع فوق السجية قليلا ، والعجلة أحب إليهم من الإبطاء . ويكره الإسراع الذي يشق على ضعفة الناس ممن يتبعها . وقال إبراهيم النخعي : بطئوا بها قليلا ولا تدبوا دبيب اليهود والنصارى . وقد تأول قوم الإسراع في حديث أبي هريرة تعجيل الدفن لا المشي ، وليس بشيء لما ذكرنا . وبالله التوفيق .

السابعة : وأما الصلاة عليه فهي واجبة على الكفاية كالجهاد . هذا هو المشهور من مذاهب العلماء : مالك وغيره ; لقوله في النجاشي : قوموا فصلوا عليه . وقال أصبغ : إنها سنة . وروى عن مالك . وسيأتي لهذا المعنى زيادة بيان في " براءة " .

الثامنة : وأما دفنه في التراب ودسه وستره فذلك واجب ; لقوله تعالى : فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه . وهناك يذكر حكم بنيان القبر وما [ ص: 283 ] يستحب منه ، وكيفية جعل الميت فيه . ويأتي في " الكهف " حكم بناء المسجد عليه ، إن شاء الله تعالى . فهذه جملة من أحكام الموتى وما يجب لهم على الأحياء . وعن عائشة قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا أخرجه مسلم . وفي سنن النسائي عنها أيضا قالت : ذكر عند النبي - صلى الله عليه وسلم - هالك بسوء فقال : لا تذكروا هلكاكم إلا بخير .

قوله تعالى : وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فأجر المؤمن ثواب ، وأجر الكافر عقاب ، ولم يعتد بالنعمة والبلية في الدنيا أجرا وجزاء ; لأنها عرصة الفناء .

فمن زحزح عن النار أي أبعد . وأدخل الجنة فقد فاز ظفر بما يرجو ، ونجا مما يخاف . وروى الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة عن عبد الله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من سره أن يزحزح عن النار وأن يدخل الجنة فلتأته منيته وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويأتي إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه . عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها اقرءوا إن شئتم فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 22-01-2023, 03:46 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,025
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (5)
سُورَةُ النِّسَاءِ
من صــ 51 الى صــ 58
الحلقة (221)





روى عكرمة قال : أرسل ابن عباس إلى زيد بن ثابت يسأل عن امرأة تركت زوجها وأبويها . قال : للزوج النصف ، وللأم ثلث ما بقي . فقال : تجده في كتاب الله أو تقول برأي ؟ قال : أقوله برأي ؛ لا أفضل أما على أب . قال أبو سليمان : فهذا من باب تعديل الفريضة إذا لم يكن فيها نص ؛ وذلك أنه اعتبرها بالمنصوص عليه ، وهو قوله تعالى : وورثه أبواه فلأمه الثلث . فلما وجد نصيب الأم الثلث ، وكان باقي المال هو الثلثان للأب ، قاس النصف الفاضل من المال بعد نصيب الزوج على كل المال إذا لم يكن مع الوالدين ابن أو ذو سهم ؛ فقسمه بينهما على ثلاثة ، للأم سهم وللأب سهمان وهو الباقي . وكان هذا أعدل في القسمة من أن يعطي الأم من النصف الباقي ثلث جميع [ ص: 51 ] المال ، وللأب ما بقي وهو السدس ، ففضلها عليه فيكون لها وهي مفضولة في أصل الموروث أكثر مما للأب وهو المقدم والمفضل في الأصل . وذلك أعدل مما ذهب إليه ابن عباس من توفير الثلث على الأم ، وبخس الأب حقه برده إلى السدس ؛ فترك قوله وصار عامة الفقهاء إلى زيد . قال أبو عمر : وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنه في زوج وأبوين : ( للزوج النصف ، وللأم ثلث جميع المال ، وللأب ما بقي ) . وقال في امرأة وأبوين : ( للمرأة الربع ، وللأم ثلث جميع المال ، والباقي للأب ) . وبهذا قال شريح القاضي ومحمد بن سيرين وداود بن علي ، وفرقة منهم أبو الحسن محمد بن عبد الله الفرضي المصري المعروف بابن اللبان في المسألتين جميعا . وزعم أنه قياس قول علي في المشتركة . وقال في موضع آخر : إنه قد روي ذلك عن علي أيضا . قال أبو عمر : المعروف المشهور عن علي وزيد وعبد الله وسائر الصحابة وعامة العلماء ما رسمه مالك . ومن الحجة لهم على ابن عباس : ( أن الأبوين إذا اشتركا في الوراثة ، ليس معهما غيرهما ، كان للأم الثلث وللأب الثلثان ) . وكذلك إذا اشتركا في النصف الذي يفضل عن الزوج ، كانا فيه كذلك على ثلث وثلثين . وهذا صحيح في النظر والقياس .

الثالثة : واختلفت الروايات في سبب نزول آية المواريث ؛ فروى الترمذي وأبو داود وابن ماجه والدارقطني ، عن جابر بن عبد الله أن امرأة سعد بن الربيع قالت : يا رسول الله ، إن سعدا هلك وترك بنتين وأخاه ، فعمد أخوه فقبض ما ترك سعد ، وإنما تنكح النساء على أموالهن ؛ فلم يجبها في مجلسها ذلك . ثم جاءته فقالت : يا رسول الله ، ابنتا سعد ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ادع لي أخاه فجاء فقال له : ادفع إلى ابنته الثلثين وإلى امرأته الثمن ولك ما بقي . لفظ أبي داود . في رواية الترمذي وغيره : فنزلت آية المواريث . قال : هذا حديث صحيح .

وروى جابر أيضا قال : عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في بني سلمة يمشيان ، فوجداني لا أعقل ، فدعا بماء فتوضأ ، ثم رش علي منه فأفقت . فقلت : كيف أصنع في مالي يا رسول الله ؟ فنزلت يوصيكم الله في أولادكم . أخرجاه في الصحيحين . وأخرجه الترمذي وفيه " فقلت يا نبي الله كيف أقسم مالي بين ولدي ؟ فلم يرد علي شيئا فنزلت يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين الآية . قال : " حديث حسن صحيح " .

وفي البخاري ، عن ابن عباس ( أن نزول ذلك كان من أجل أن المال كان للولد ، والوصية للوالدين ؛ فنسخ ذلك بهذه الآيات ) . وقال مقاتل والكلبي : نزلت في أم كجة ؛ وقد ذكرناها . السدي : نزلت بسبب بنات عبد الرحمن بن ثابت أخي حسان بن ثابت . وقيل : إن أهل الجاهلية كانوا لا يورثون إلا من لاقى الحروب [ ص: 52 ] وقاتل العدو ؛ فنزلت الآية تبيينا أن لكل صغير وكبير حظه . ولا يبعد أن يكون جوابا للجميع ؛ ولذلك تأخر نزولها . والله أعلم .

قال الكيا الطبري : وقد ورد في بعض الآثار أن ما كانت الجاهلية تفعله من ترك توريث الصغير كان في صدر الإسلام إلى أن نسخته هذه الآية ولم يثبت عندنا اشتمال الشريعة على ذلك ، بل ثبت خلافه ؛ فإن هذه الآية نزلت في ورثة سعد بن الربيع . وقيل : نزلت في ورثة ثابت بن قيس بن شماس . والأول أصح عند أهل النقل . فاسترجع رسول الله صلى الله عليه وسلم الميراث من العم ، ولو كان ذلك ثابتا من قبل في شرعنا ما استرجعه . ولم يثبت قط في شرعنا أن الصبي ما كان يعطى الميراث حتى يقاتل على الفرس ويذب عن الحريم .

قلت : وكذلك قال القاضي أبو بكر بن العربي قال : ودل نزول هذه الآية على نكتة بديعة ؛ وهو أن ما كانت عليه الجاهلية تفعله من أخذ المال لم يكن في صدر الإسلام شرعا مسكوتا مقرا عليه ؛ لأنه لو كان شرعا مقرا عليه لما حكم النبي صلى الله عليه وسلم على عم الصبيتين برد ما أخذ من مالهما ؛ لأن الأحكام إذا مضت وجاء النسخ بعدها إنما يؤثر في المستقبل فلا ينقض به ما تقدم وإنما كانت ظلامة رفعت . قاله ابن العربي .

الرابعة : قوله تعالى : يوصيكم الله في أولادكم قالت الشافعية : قول الله تعالى يوصيكم الله في أولادكم حقيقة في أولاد الصلب ، فأما ولد الابن فإنما يدخل فيه بطريق المجاز ؛ فإذا حلف أن لا ولد له وله ولد ابن لم يحنث ؛ وإذا أوصى لولد فلان لم يدخل فيه ولد ولده . وأبو حنيفة يقول : إنه يدخل فيه إن لم يكن له ولد صلب . ومعلوم أن الألفاظ لا تتغير بما قالوه .

الخامسة : قال ابن المنذر : لما قال تعالى : يوصيكم الله في أولادكم فكان الذي يجب على ظاهر الآية أن يكون الميراث لجميع الأولاد ، المؤمن منهم والكافر ؛ فلما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا يرث المسلم الكافر علم أن الله أراد بعض الأولاد دون بعض ، فلا يرث المسلم الكافر ، ولا الكافر المسلم على ظاهر الحديث .

[ ص: 53 ] قلت : ولما قال تعالى : في أولادكم دخل فيهم الأسير في أيدي الكفار ؛ فإنه يرث ما دام تعلم حياته على الإسلام . وبه قال كافة أهل العلم ، إلا النخعي فإنه قال : لا يرث الأسير . فأما إذا لم تعلم حياته فحكمه حكم المفقود . ولم يدخل في عموم الآية ميراث النبي صلى الله عليه وسلم لقوله : لا نورث ما تركنا صدقة وسيأتي بيانه في " مريم " إن شاء الله تعالى . وكذلك لم يدخل القاتل عمدا لأبيه أو جده أو أخيه أو عمه بالسنة وإجماع الأمة ، وأنه لا يرث من مال من قتله ولا من ديته شيئا ؛ على ما تقدم بيانه في البقرة . فإن قتله خطأ فلا ميراث له من الدية ، ويرث من المال في قول مالك ، ولا يرث في قول الشافعي وأحمد وسفيان وأصحاب الرأي ، من المال ولا من الدية شيئا ؛ حسبما تقدم بيانه في البقرة . وقول مالك أصح ، وبه قال إسحاق وأبو ثور . وهو قول سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح ومجاهد والزهري والأوزاعي وابن المنذر ؛ لأن ميراث من ورثه الله تعالى في كتابه ثابت لا يستثنى منه إلا بسنة أو إجماع . وكل مختلف فيه فمردود إلى ظاهر الآيات التي فيها المواريث .

السادسة : اعلم أن الميراث كان يستحق في أول الإسلام بأسباب : منها الحلف والهجرة والمعاقدة ، ثم نسخ على ما يأتي بيانه في هذه السورة عند قوله تعالى : ولكل جعلنا موالي . إن شاء الله تعالى . وأجمع العلماء على أن الأولاد إذا كان معهم من له فرض مسمى أعطيه ، وكان ما بقي من المال للذكر مثل حظ الأنثيين ؛ لقوله عليه السلام : ألحقوا الفرائض بأهلها رواه الأئمة . يعني الفرائض الواقعة في كتاب الله تعالى . وهي ستة : النصف والربع والثمن والثلثان والثلث والسدس . فالنصف فرض خمسة : ابنة الصلب ، وابنة الابن ، والأخت الشقيقة ، والأخت للأب ، والزوج . وكل ذلك إذا انفردوا عمن يحجبهم عنه . والربع فرض الزوج مع الحاجب ، وفرض الزوجة والزوجات مع [ ص: 54 ] عدمه . والثمن فرض الزوجة والزوجات مع الحاجب . والثلثان فرض أربع : الاثنتين فصاعدا من بنات الصلب ، وبنات الابن ، والأخوات الأشقاء ، أو للأب . وكل هؤلاء إذا انفردن عمن يحجبهن عنه . والثلث فرض صنفين : الأم مع عدم الولد ، وولد الابن ، وعدم الاثنين فصاعدا من الإخوة والأخوات ، وفرض الاثنين فصاعدا من ولد الأم . وهذا هو ثلث كل المال . فأما ثلث ما يبقى فذلك للأم في مسألة زوج أو زوجة وأبوان ؛ فللأم فيها ثلث ما يبقى . وقد تقدم بيانه . وفي مسائل الجد مع الإخوة إذا كان معهم ذو سهم وكان ثلث ما يبقى أحظى له . والسدس فرض سبعة : الأبوان والجد مع الولد وولد الابن ، والجدة والجدات إذا اجتمعن ، وبنات الابن مع بنت الصلب ، والأخوات للأب مع الأخت الشقيقة ، والواحد من ولد الأم ذكرا كان أو أنثى . وهذه الفرائض كلها مأخوذة من كتاب الله تعالى إلا فرض الجدة والجدات فإنه مأخوذ من السنة . والأسباب الموجبة لهذه الفروض بالميراث ثلاثة أشياء : نسب ثابت ، ونكاح منعقد ، وولاء عتاقة . وقد تجتمع الثلاثة الأشياء فيكون الرجل زوج المرأة ومولاها وابن عمها . وقد يجتمع فيه منها شيئان لا أكثر ، مثل أن يكون زوجها ومولاها ، أو زوجها وابن عمها ؛ فيرث بوجهين ويكون له جميع المال إذا انفرد : نصفه بالزوجية ونصفه بالولاء أو بالنسب . ومثل أن تكون المرأة ابنة الرجل ومولاته ، فيكون لها أيضا المال إذا انفردت : نصفه بالنسب ونصفه بالولاء .

السابعة : ولا ميراث إلا بعد أداء الدين والوصية ؛ فإذا مات المتوفى أخرج من تركته الحقوق المعينات ، ثم ما يلزم من تكفينه وتقبيره ، ثم الديون على مراتبها ، ثم يخرج من الثلث الوصايا ، وما كان في معناها على مراتبها أيضا ، ويكون الباقي ميراثا بين الورثة . وجملتهم سبعة عشر . عشرة من الرجال : الابن وابن الابن وإن سفل ، والأب وأب الأب وهو الجد وإن علا ، والأخ وابن الأخ ، والعم وابن العم ، والزوج ومولى النعمة . ويرث من النساء سبع : البنت وبنت الابن وإن سفلت ، والأم والجدة وإن علت ، والأخت والزوجة ، ومولاة النعمة وهي المعتقة . وقد نظمهم بعض الفضلاء فقال :
والوارثون إن أردت جمعهم مع الإناث الوارثات معهم عشرة من جملة الذكران
وسبع أشخاص من النسوان وهم ، وقد حصرتهم في النظم
الابن وابن الابن وابن العم والأب منهم وهو في الترتيب
والجد من قبل الأخ القريب وابن الأخ الأدنى أجل والعم
والزوج والسيد ثم الأم [ ص: 55 ] وابنة الابن بعدها والبنت
وزوجة وجدة وأخت والمرأة المولاة أعني المعتقه
خذها إليك عدة محققه


الثامنة : لما قال تعالى : في أولادكم يتناول كل ولد كان موجودا أو جنينا في بطن أمه ، دنيا أو بعيدا ، من الذكور أو الإناث ما عدا الكافر كما تقدم . قال بعضهم : ذلك حقيقة في الأدنين مجاز في الأبعدين . وقال بعضهم : هو حقيقة في الجميع ؛ لأنه من التولد ، غير أنهم يرثون على قدر القرب منه ؛ قال الله تعالى : يا بني آدم . وقال عليه السلام : أنا سيد ولد آدم قال : يا بني إسماعيل ارموا فإن أباكم كان راميا إلا أنه غلب عرف الاستعمال في إطلاق ذلك على الأعيان الأدنين على تلك الحقيقة ؛ فإن كان في ولد الصلب ذكر لم يكن لولد الولد شيء ، وهذا مما أجمع عليه أهل العلم . وإن لم يكن في ولد الصلب ذكر وكان في ولد الولد بدئ بالبنات للصلب ، فأعطين إلى مبلغ الثلثين ، ثم أعطي الثلث الباقي لولد الولد إذا استووا في القعدد ، أو كان الذكر أسفل ممن فوقه من البنات ، للذكر مثل حظ الأنثيين . هذا قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي . وبه قال عامة أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ؛ إلا ما يروى عن ابن مسعود أنه قال : ( إن كان الذكر من ولد الولد بإزاء الأنثى رد عليها ، وإن كان أسفل منها يرد عليها ) ؛ مراعيا في ذلك قوله تعالى : فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك فلم يجعل للبنات وإن كثرن إلا الثلثين .

قلت : هكذا ذكر ابن العربي هذا التفصيل عن ابن مسعود ، والذي ذكره ابن المنذر والباجي عنه : ( أن ما فضل عن بنات الصلب لبني الابن دون بنات الابن ) ، ولم يفصلا . وحكاه ابن المنذر ، عن أبي ثور . ونحوه حكى أبو عمر ، قال أبو عمر : وخالف في ذلك ابن مسعود فقال : وإذا استكمل البنات الثلثين فالباقي لبني الابن دون أخواتهم ، ودون من فوقهم من بنات الابن ، ومن تحتهم . وإلى هذا ذهب أبو ثور وداود بن علي . وروي مثله عن علقمة . وحجة من ذهب هذا المذهب حديث ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : اقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر خرجه [ ص: 56 ] البخاري ومسلم وغيرهما . ومن حجة الجمهور قول الله عز وجل : يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين لأن ولد الولد ولد . ومن جهة النظر والقياس أن كل من يعصب من في درجته في جملة المال فواجب أن يعصبه في الفاضل من المال ؛ كأولاد الصلب . فوجب بذلك أن يشرك ابن الابن أخته ، كما يشرك الابن للصلب أخته . فإن احتج لأبي ثور وداود أن بنت الابن لما لم ترث شيئا من الفاضل بعد الثلثين منفردة لم يعصبها أخوها . فالجواب أنها إذا كان معها أخوها قويت به وصارت عصبة معه . وظاهر قوله تعالى : يوصيكم الله في أولادكم وهي من الولد .

التاسعة : قوله تعالى فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك الآية . فرض الله تعالى للواحدة النصف ، وفرض لما فوق الثنتين الثلثين ، ولم يفرض للثنتين فرضا منصوصا في كتابه ؛ فتكلم العلماء في الدليل الذي يوجب لهما الثلثين ما هو ؟ فقيل : الإجماع وهو مردود ؛ لأن الصحيح عن ابن عباس أنه أعطى البنتين النصف ؛ لأن الله عز وجل قال : فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وهذا شرط وجزاء . قال : فلا أعطي البنتين الثلثين . وقيل : أعطيتا الثلثين بالقياس على الأختين ؛ فإن الله سبحانه لما قال في آخر السورة : وله أخت فلها نصف ما ترك وقال تعالى : فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك فألحقت الابنتان بالأختين في الاشتراك في الثلثين ، وألحقت الأخوات إذا زدن على اثنتين بالبنات في الاشتراك في الثلثين . واعترض هذا بأن ذلك منصوص عليه في الأخوات ، والإجماع منعقد عليه فهو مسلم بذلك . وقيل : في الآية ما يدل على أن للبنتين الثلثين ، وذلك أنه لما كان للواحدة مع أخيها الثلث إذا انفردت ، علمنا أن للاثنتين الثلثين . احتج بهذه الحجة وقال هذه المقالة إسماعيل القاضي وأبو العباس المبرد . قال النحاس : وهذا الاحتجاج عند أهل النظر غلط ؛ لأن الاختلاف في البنتين وليس في الواحدة . فيقول مخالفه : إذا ترك بنتين وابنا فللبنتين النصف ؛ فهذا دليل على أن هذا فرضهم . وقيل : فوق زائدة أي إن كن نساء اثنتين . كقوله تعالى : فاضربوا فوق الأعناق أي الأعناق . ورد هذا القول النحاس وابن عطية وقالا : هو خطأ ؛ لأن الظروف وجميع الأسماء لا يجوز في كلام العرب أن تزاد لغير معنى . قال ابن عطية : ولأن قوله تعالى : فاضربوا فوق الأعناق هو الفصيح ، وليست فوق زائدة بل هي محكمة للمعنى ؛ لأن ضربة العنق إنما يجب أن تكون فوق العظام في المفصل دون الدماغ . كما قال دريد بن [ ص: 57 ] الصمة : اخفض عن الدماغ وارفع عن العظم ، فهكذا كنت أضرب أعناق الأبطال . وأقوى الاحتجاج في أن للبنتين الثلثين الحديث الصحيح المروي في سبب النزول . ولغة أهل الحجاز وبني أسد الثلث والربع إلى العشر . ولغة بني تميم وربيعة الثلث بإسكان اللام إلى العشر . ويقال : ثلثت القوم أثلثهم ، وثلثت الدراهم أثلثها إذا تممتها ثلاثة ، وأثلثت هي ؛ إلا أنهم قالوا في المائة والألف : أمأيتها وآلفتها وأمأت وآلفت .

العاشرة : قوله تعالى : وإن كانت واحدة فلها النصف قرأ نافع وأهل المدينة " واحدة " بالرفع على معنى وقعت وحدثت ، فهي كانت التامة ؛ كما قال الشاعر :


إذا كان الشتاء فأدفئوني فإن الشيخ يهرمه الشتاء
والباقون بالنصب . قال النحاس : وهذه قراءة حسنة . أي وإن كانت المتروكة أو المولودة " واحدة " مثل فإن كن نساء . فإذا كان مع بنات الصلب بنات ابن ، وكان بنات الصلب اثنتين فصاعدا حجبن بنات الابن أن يرثن بالفرض ؛ لأنه لا مدخل لبنات الابن أن يرثن بالفرض في غير الثلثين . فإن كانت بنت الصلب واحدة فإن ابنة الابن أو بنات الابن يرثن مع بنات الصلب تكملة الثلثين ؛ لأنه فرض يرثه البنتان فما زاد . وبنات الابن يقمن مقام البنات عند عدمهن . وكذلك أبناء البنين يقومون مقام البنين في الحجب والميراث . فلما عدم من يستحق منهن السدس كان ذلك لبنت الابن ، وهي أولى بالسدس من الأخت الشقيقة للمتوفى . على هذا جمهور الفقهاء من الصحابة والتابعين ؛ إلا ما يروى عن أبي موسى وسليمان بن أبي ربيعة أن للبنت النصف ، والنصف الثاني للأخت ، ولا حق في ذلك لبنت الابن . وقد صح عن أبي موسى ما يقتضي أنه رجع عن ذلك ؛ رواه البخاري : حدثنا آدم حدثنا شعبة حدثنا أبو قيس سمعت هزيل بن شرحبيل يقول : سئل أبو موسى عن ابنة وابنة ابن وأخت . فقال : ( للابنة النصف ، وللأخت النصف ) ؛ وأت ابن مسعود فإنه سيتابعني . فسئل ابن مسعود وأخبر بقول أبي موسى فقال : ( لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين ! أقضي فيها بما قضى النبي صلى الله عليه وسلم : للابنة النصف ، ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين ، وما بقي فللأخت ) . فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود فقال : ( لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم ) . فإن كان مع بنت الابن أو بنات الابن ابن في درجتها أو أسفل منها عصبها ، فكان النصف الثاني بينهما ، للذكر مثل حظ الأنثيين بالغا ما بلغ - خلافا لابن مسعود على ما تقدم إذا استوفى بنات الصلب ، أو بنت الصلب وبنات الابن الثلثين وكذلك يقول في الأخت لأب وأم ، وأخوات وإخوة لأب : للأخت من الأب والأم النصف ، والباقي للإخوة والأخوات ، ما لم [ ص: 58 ] يصبهن من المقاسمة أكثر من السدس ؛ فإن أصابهن أكثر من السدس أعطاهن السدس تكملة الثلثين ، ولم يزدهن على ذلك . وبه قال أبو ثور .

الحادية عشرة : إذا مات الرجل وترك زوجته حبلى فإن المال يوقف حتى يتبين ما تضع . وأجمع أهل العلم على أن الرجل إذا مات وزوجته حبلى أن الولد الذي في بطنها يرث ويورث إذا خرج حيا واستهل . وقالوا جميعا : إذا خرج ميتا لم يرث ؛ فإن خرج حيا ولم يستهل فقالت طائفة : لا ميراث له وإن تحرك أو عطس ما لم يستهل . هذا قول مالك والقاسم بن محمد وابن سيرين والشعبي والزهري وقتادة . وقالت طائفة : إذا عرفت حياة المولود بتحريك أو صياح أو رضاع أو نفس فأحكامه أحكام الحي . هذا قول الشافعي وسفيان الثوري والأوزاعي . قال ابن المنذر : الذي قال الشافعي يحتمل النظر ، غير أن الخبر يمنع منه وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخا من نخسة الشيطان إلا ابن مريم وأمه . وهذا خبر ، ولا يقع على الخبر النسخ .

الثانية عشرة : لما قال تعالى : في أولادكم تناول الخنثى وهو الذي له فرجان . وأجمع العلماء على أنه يورث من حيث يبول ؛ إن بال من حيث يبول الرجل ورث ميراث رجل ، وإن بال من حيث تبول المرأة ورث ميراث المرأة . قال ابن المنذر : ولا أحفظ عن مالك فيه شيئا ، بل قد ذكر ابن القاسم أنه هاب أن يسأل مالكا عنه . فإن بال منهما معا فالمعتبر سبق البول ؛ قاله سعيد بن المسيب وأحمد وإسحاق . وحكي ذلك عن أصحاب الرأي . وروى قتادة عن سعيد بن المسيب أنه قال في الخنثى : يورثه من حيث يبول ؛ فإن بال منهما جميعا فمن أيهما سبق ، فإن بال منهما معا فنصف ذكر ونصف أنثى . وقال يعقوب ومحمد : من أيهما خرج أكثر ورث ؛ وحكي عن الأوزاعي . وقال النعمان : إذا خرج منهما معا فهو مشكل ، ولا أنظر إلى أيهما أكثر . وروي عنه أنه وقف عنه إذا كان هكذا . وحكي عنه قال : إذا أشكل يعطى أقل النصيبين . وقال يحيى بن آدم : إذا بال من حيث يبول الرجل ويحيض كما تحيض المرأة ورث من حيث يبول ؛ لأن في الأثر : يورث من مباله . وفي قول الشافعي : إذا خرج منهما جميعا ولم يسبق أحدهما الآخر يكون مشكلا ، ويعطى من الميراث ميراث أنثى ، ويوقف الباقي بينه وبين سائر الورثة حتى يتبين أمره أو يصطلحوا ، وبه قال أبو ثور . وقال الشعبي : يعطى نصف ميراث الذكر ، ونصف ميراث الأنثى ؛ وبه قال الأوزاعي ، وهو مذهب مالك .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 20-03-2023, 09:22 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,025
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (6)
سُورَةُ الْمَائِدَةِ
من صــ 171 الى صــ 178
الحلقة (284)




[ ص: 171 ] الثانية عشرة : ذلك بأنهم قوم لا يعقلون أي : أنهم بمنزلة من لا عقل له يمنعه من القبائح . روي أن رجلا من النصارى وكان بالمدينة إذا سمع المؤذن يقول : " أشهد أن محمدا رسول الله " قال : حرق الكاذب ; فسقطت في بيته شرارة من نار وهو نائم فتعلقت بالبيت فأحرقته وأحرقت ذلك الكافر معه ; فكانت عبرة للخلق " والبلاء موكل بالمنطق " وقد كانوا يمهلون مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى يستفتحوا ، فلا يؤخروا بعد ذلك ; ذكره ابن العربي .
قوله تعالى : قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل

قوله تعالى : قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا قال ابن عباس رضي الله عنه : جاء نفر من اليهود فيهم أبو ياسر بن أخطب ورافع بن أبي رافع - إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه عمن يؤمن به من الرسل عليهم السلام ; فقال : نؤمن بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل إلى قوله ونحن له مسلمون ، فلما ذكر عيسى عليه السلام جحدوا نبوته وقالوا : والله ما نعلم أهل دين أقل حظا في الدنيا والآخرة منكم ولا دينا شرا من دينكم ; فنزلت هذه الآية وما بعدها ، وهي متصلة بما سبقها من إنكارهم الأذان ; فهو جامع للشهادة لله بالتوحيد ، ولمحمد بالنبوة ، والمتناقض دين من فرق بين أنبياء الله لا دين من يؤمن بالكل ، ويجوز إدغام اللام في التاء لقربها منها . وتنقمون معناه تسخطون ، وقيل : تكرهون وقيل : تنكرون ، والمعنى متقارب ; يقال : نقم من كذا ينقم ونقم ينقم ، والأول أكثر قال عبد الله بن قيس الرقيات :


ما نقموا من بني أمية إلا أنهم يحلمون إن غضبوا
وفي التنزيل وما نقموا منهم ويقال : نقمت على الرجل بالكسر فأنا ناقم إذا عتبت عليه ; يقال : ما نقمت عليه الإحسان . قال الكسائي : نقمت بالكسر لغة ، ونقمت الأمر أيضا ونقمته إذا كرهته ، وانتقم الله منه أي : عاقبه ، والاسم منه النقمة ، والجمع نقمات ونقم مثل كلمة [ ص: 172 ] وكلمات وكلم ، وإن شئت سكنت القاف ونقلت حركتها إلى النون فقلت : نقمة والجمع نقم ; مثل نعمة ونعم ، إلا أن آمنا بالله في موضع نصب ب تنقمون و تنقمون بمعنى تعيبون ، أي : هل تنقمون منا إلا إيماننا بالله وقد علمتم أنا على الحق . وأن أكثركم فاسقون أي : في ترككم الإيمان ، وخروجكم عن امتثال أمر الله فقيل هو مثل قول القائل : هل تنقم مني إلا أني عفيف وأنك فاجر ، وقيل : أي : لأن أكثركم فاسقون تنقمون منا ذلك .

قوله تعالى : قل هل أنبئكم بشر من ذلك أي : بشر من نقمكم علينا ، وقيل : بشر ما تريدون لنا من المكروه ; وهذا جواب قولهم : ما نعرف دينا شرا من دينكم . مثوبة نصب على البيان وأصلها مفعولة فألقيت حركة الواو على الثاء فسكنت الواو وبعدها واو ساكنة فحذفت إحداهما لذلك ; ومثله مقولة ومجوزة ومضوفة على معنى المصدر ; كما قال الشاعر :


وكنت إذا جاري دعا لمضوفة أشمر حتى ينصف الساق مئزري
وقيل : مفعلة كقولك مكرمة ومعقلة . من لعنه الله من في موضع رفع ; كما قال : بشر من ذلكم النار والتقدير هو لعن من لعنه الله ، ويجوز أن يكون في موضع نصب بمعنى : قل هل أنبئكم بشر من ذلك من لعنه الله ، ويجوز أن يكون في موضع خفض على البدل من ( شر ) والتقدير : هل أنبئكم بمن لعنه الله ; والمراد اليهود ، وقد تقدم القول في الطاغوت ، أي : وجعل منهم من عبد الطاغوت ، والموصول محذوف عند الفراء ، وقال البصريون : لا يجوز حذف الموصول ; والمعنى من لعنه الله وعبد الطاغوت .

وقرأ ابن وثاب النخعي " وأنبئكم " بالتخفيف ، وقرأ حمزة : " عبد الطاغوت " بضم الباء وكسر التاء ; جعله اسما على فعل كعضد فهو بناء للمبالغة والكثرة كيقظ وندس وحذر ، وأصله الصفة ; ومنه قول النابغة :


من وحش وجرة موشي أكارعه طاوي المصير كسيف الصيقل الفرد
بضم الراء ونصبه ب جعل ; أي : جعل منهم عبدا للطاغوت ، وأضاف عبد إلى الطاغوت فخفضه ، وجعل بمعنى خلق ، والمعنى وجعل منهم من يبالغ في عبادة الطاغوت . وقرأ الباقون بفتح الباء والتاء ; وجعلوه فعلا ماضيا ، وعطفوه على فعل ماض وهو غضب ولعن ; والمعنى عندهم من لعنه الله ومن عبد الطاغوت ، أو منصوبا ب جعل ; أي : جعل منهم القردة والخنازير وعبدة الطاغوت ، ووحد الضمير في عبد حملا على لفظ من دون معناها . وقرأ أبي وابن مسعود " وعبدوا الطاغوت " على المعنى . ابن عباس : " وعبد الطاغوت " ، [ ص: 173 ] فيجوز أن يكون جمع عبد كما يقال : رهن ورهن ، وسقف وسقف ، ويجوز أن يكون جمع عباد كما يقال : مثال ومثل ، ويجوز أن يكون جمع عبيد كرغيف ورغف ، ويجوز أن يكون جمع عادل كبازل وبزل ; والمعنى : وخدم الطاغوت ، وعن ابن عباس أيضا " وعبد الطاغوت " جعله جمع عابد كما يقال شاهد وشهد وغايب وغيب ، وعن أبي واقد : وعباد الطاغوت للمبالغة ، جمع عابد أيضا ; كعامل وعمال ، وضارب وضراب ، وذكر محبوب أن البصريين قرءوا : ( وعباد الطاغوت ) جمع عابد أيضا ، كقائم وقيام ، ويجوز أن يكون جمع عبد . وقرأ أبو جعفر الرؤاسي ( وعبد الطاغوت ) على المفعول ، والتقدير : وعبد الطاغوت فيهم ، وقرأ عون العقيلي وابن بريدة : ( وعابد الطاغوت ) على التوحيد ، وهو يؤدي عن جماعة ، وقرأ ابن مسعود أيضا ( وعبد الطاغوت ) وعنه أيضا وأبي ( وعبدت الطاغوت ) على تأنيث الجماعة ; كما قال تعالى : قالت الأعراب وقرأ عبيد بن عمير : ( وأعبد الطاغوت ) مثل كلب وأكلب . فهذه اثنا عشر وجها .

قوله تعالى : أولئك شر مكانا لأن مكانهم النار ; وأما المؤمنون فلا شر في مكانهم ، وقال الزجاج : أولئك شر مكانا على قولكم . النحاس : ومن أحسن ما قيل فيه : أولئك الذين لعنهم الله شر مكانا في الآخرة من مكانكم في الدنيا لما لحقكم من الشر ، وقيل : أولئك الذين لعنهم الله شر مكانا من الذين نقموا عليكم ، وقيل : أولئك الذين نقموا عليكم شر مكانا من الذين لعنهم الله ، ولما نزلت هذه الآية قال المسلمون لهم : يا إخوة القردة والخنازير فنكسوا رءوسهم افتضاحا ، وفيهم يقول الشاعر :


فلعنة الله على اليهود إن اليهود إخوة القرود
قوله تعالى : وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به والله أعلم بما كانوا يكتمون وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون

قوله تعالى : وإذا جاءوكم قالوا آمنا هذه صفة المنافقين ، والمعنى أنهم لم ينتفعوا بشيء مما سمعوه ، بل دخلوا كافرين وخرجوا كافرين . والله أعلم بما كانوا يكتمون [ ص: 174 ] أي : من نفاقهم ، وقيل : المراد اليهود الذين قالوا : آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار إذا دخلتم المدينة ، واكفروا آخره إذا رجعتم إلى بيوتكم ، يدل عليه ما قبله من ذكرهم وما يأتي . قوله تعالى : وترى كثيرا منهم يعني من اليهود . يسارعون في الإثم والعدوان أي : يسابقون في المعاصي والظلم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون

قوله تعالى : لولا ينهاهم الربانيون والأحبار لولا بمعنى فلا . ينهاهم يزجرهم . الربانيون علماء النصارى . والأحبار ) علماء اليهود قاله الحسن ، وقيل الكل في اليهود ; لأن هذه الآيات فيهم . ثم وبخ علماءهم في تركهم نهيهم فقال : لبئس ما كانوا يصنعون كما وبخ من يسارع في الإثم بقوله : لبئس ما كانوا يعملون ودلت الآية على أن تارك النهي عن المنكر كمرتكب المنكر ; فالآية توبيخ للعلماء في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقد مضى القول في هذا المعنى في ( البقرة ) و ( آل عمران ) ، وروى سفيان بن عيينة قال : حدثني سفيان بن سعيد عن مسعر قال : بلغني أن ملكا أمر أن يخسف بقرية فقال : يا رب فيها فلان العابد فأوحى الله تعالى إليه : ( أن به فابدأ فإنه لم يتمعر وجهه في ساعة قط ) ، وفي صحيح الترمذي : ( إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده ) ، وسيأتي . والصنع بمعنى العمل إلا أنه يقتضي الجودة ; يقال : سيف صنيع إذا جود عمله .
قوله : وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين

قوله تعالى : وقالت اليهود يد الله مغلولة قال عكرمة : إنما قال هذا فنحاص بن عازوراء ، لعنه الله ، وأصحابه ، وكان لهم أموال فلما كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم قل مالهم ; فقالوا : إن الله بخيل ، ويد الله مقبوضة عنا في العطاء ; فالآية خاصة في بعضهم ، وقيل : لما قال قوم هذا ولم ينكر الباقون صاروا كأنهم بأجمعهم قالوا هذا ، وقال الحسن : المعنى يد الله مقبوضة عن [ ص: 175 ] عذابنا ، وقيل : إنهم لما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم في فقر وقلة مال وسمعوا من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا ورأوا النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يستعين بهم في الديات قالوا : إن إله محمد فقير ، وربما قالوا : بخيل ; وهذا معنى قولهم : يد الله مغلولة فهذا على التمثيل كقوله : ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ، ويقال للبخيل : جعد الأنامل ، ومقبوض الكف ، وكز الأصابع ، ومغلول اليد ; قال الشاعر :


كانت خراسان أرضا إذ يزيد بها وكل باب من الخيرات مفتوح فاستبدلت بعده جعدا أنامله
كأنما وجهه بالخل منضوح
واليد في كلام العرب تكون للجارحة كقوله تعالى : وخذ بيدك ضغثا وهذا محال على الله تعالى ، وتكون للنعمة ; تقول العرب : كم يد لي عند فلان ، أي : كم من نعمة لي قد أسديتها له ، وتكون للقوة ; قال الله عز وجل : واذكر عبدنا داود ذا الأيد ، أي : ذا القوة وتكون للملك والقدرة ; قال الله تعالى : قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء . وتكون بمعنى الصلة ، قال الله تعالى : مما عملت أيدينا أنعاما أي : مما عملنا نحن ، وقال : أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح البقرة : 2 أي الذي له عقدة النكاح ، وتكون بمعنى التأييد والنصرة ، ومن قوله عليه السلام : يد الله مع القاضي حتى يقضي والقاسم حتى يقسم ، وتكون لإضافة الفعل إلى المخبر عنه تشريفا له وتكريما ; قال الله تعالى : يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي فلا يجوز أن يحمل على الجارحة ; لأن الباري جل وتعالى واحد لا يجوز عليه التبعيض ، ولا على القوة والملك والنعمة والصلة ، لأن الاشتراك يقع حينئذ . بين وليه آدم وعدوه إبليس ، ويبطل ما ذكر من تفضيله عليه ; لبطلان معنى التخصيص ، فلم يبق إلا أن تحمل على صفتين تعلقتا بخلق آدم تشريفا له دون خلق إبليس تعلق القدرة بالمقدور ، لا من طريق المباشرة ولا من حيث المماسة ; ومثله ما روي أنه عز اسمه وتعالى علاه وجده أنه كتب التوراة بيده ، وغرس دار الكرامة بيده لأهل الجنة ، وغير ذلك تعلق الصفة بمقتضاها .

[ ص: 176 ] قوله تعالى : غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا حذفت الضمة من الياء لثقلها ; أي : غلت في الآخرة ، ويجوز أن يكون دعاء عليهم ، وكذا ولعنوا بما قالوا والمقصود تعليمنا كما قال : لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله ; علمنا الاستثناء كما علمنا الدعاء على أبي لهب بقوله : تبت يدا أبي لهب وقيل : المراد أنهم أبخل الخلق ; فلا ترى يهوديا غير لئيم ، وفي الكلام على هذا القول إضمار الواو ; أي : قالوا : يد الله مغلولة وغلت أيديهم . واللعن الإبعاد ، وقد تقدم .

قوله تعالى : بل يداه مبسوطتان ابتداء وخبر ; أي : بل نعمته مبسوطة ; فاليد بمعنى النعمة . قال بعضهم : هذا غلط ; لقوله : بل يداه مبسوطتان فنعم الله تعالى أكثر من أن تحصى فكيف تكون بل نعمتاه مبسوطتان ؟ وأجيب بأنه يجوز أن يكون هذا تثنية جنس لا تثنية واحد مفرد ; فيكون مثل قوله عليه السلام : مثل المنافق كالشاة العائرة بين الغنمين . فأحد الجنسين نعمة الدنيا ، والثاني نعمة الآخرة . وقيل : نعمتا الدنيا النعمة الظاهرة والنعمة الباطنة ; كما قال : وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة . وروى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال فيه : النعمة الظاهرة ما حسن من خلقك ، والباطنة ما ستر عليك من سيئ عملك ، وقيل : نعمتاه المطر والنبات اللتان النعمة بهما ومنهما . وقيل : إن النعمة للمبالغة ; كقول العرب : ( لبيك وسعديك ) وليس يريد الاقتصار على مرتين ; وقد يقول القائل : ما لي بهذا الأمر يد أي : قوة . قال السدي ; معنى قوله يداه قوتاه بالثواب والعقاب ، بخلاف ما قالت اليهود : إن يده مقبوضة عن عذابهم ، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله تعالى قال لي أنفق أنفق عليك ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يمين الله ملأى لا يغيضها سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق مذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه - قال - وعرشه على الماء وبيده الأخرى القبض يرفع ويخفض . السح الصب الكثير ، ويغيض ينقص ; ونظير هذا الحديث قوله جل ذكره : والله يقبض ويبسط . وأما هذه الآية ففي قراءة ابن مسعود [ ص: 177 ] " بل يداه بسطان " حكاه الأخفش ، وقال يقال : يد بسطة ، أي : منطلقة منبسطة . ينفق كيف يشاء أي : يرزق كما يريد ، ويجوز أن تكون اليد في هذه الآية بمعنى القدرة ; أي : قدرته شاملة ، فإن شاء وسع وإن شاء قتر . وليزيدن كثيرا منهم لام قسم . ما أنزل إليك من ربك أي : بالذي أنزل إليك . طغيانا وكفرا أي : إذا نزل شيء من القرآن فكفروا ازداد كفرهم . وألقينا بينهم قال مجاهد : أي : بين اليهود والنصارى ; لأنه قال قبل هذا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ، وقيل : أي : ألقينا بين طوائف اليهود ، كما قال : تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى فهم متباغضون غير متفقين ; فهم أبغض خلق الله إلى الناس . كلما أوقدوا نارا للحرب يريد اليهود . وكلما ظرف أي : كلما جمعوا وأعدوا شتت الله جمعهم ، وقيل : إن اليهود لما أفسدوا وخالفوا كتاب الله - التوراة - أرسل الله عليهم بختنصر ، ثم أفسدوا فأرسل عليهم بطرس الرومي ، ثم أفسدوا فأرسل عليهم المجوس ، ثم أفسدوا فبعث الله عليهم المسلمين ; فكانوا كلما استقام أمرهم شتتهم الله فكلما أوقدوا نارا أي : أهاجوا شرا ، وأجمعوا أمرهم على حرب النبي صلى الله عليه وسلم أطفأها الله وقهرهم ووهن أمرهم فذكر النار مستعار . قال قتادة : أذلهم الله عز وجل ; فلقد بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم وهم تحت أيدي المجوس ، ثم قال جل وعز : ويسعون في الأرض فسادا أي : يسعون في إبطال الإسلام ، وذلك من أعظم الفساد ، والله أعلم وقيل : المراد بالنار هنا نار الغضب ، أي : كلما أوقدوا نار الغضب في أنفسهم وتجمعوا بأبدانهم وقوة النفوس منهم باحتدام نار الغضب أطفأها الله حتى يضعفوا ; وذلك بما جعله من الرعب نصرة بين يدي نبيه صلى الله عليه وسلم .
قوله : ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون

قوله تعالى : ولو أن أهل الكتاب أن في موضع رفع ، وكذا ولو أنهم أقاموا التوراة . آمنوا صدقوا . واتقوا أي الشرك والمعاصي . لكفرنا عنهم ، اللام جواب [ ص: 178 ] لو . ( كفرنا ) غطينا ، وقد تقدم ، وإقامة التوراة والإنجيل العمل بمقتضاهما وعدم تحريفهما ; وقد تقدم هذا المعنى في ( البقرة ) مستوفى . وما أنزل إليهم من ربهم أي القرآن ، وقيل : كتب أنبيائهم . لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم قال ابن عباس وغيره : يعني المطر والنبات ; وهذا يدل على أنهم كانوا في جدب . وقيل : المعنى لوسعنا عليهم في أرزاقهم وأكلوا أكلا متواصلا ; وذكر فوق وتحت للمبالغة فيما يفتح عليهم من الدنيا ; ونظير هذه الآية ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ، وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض فجعل تعالى التقى من أسباب الرزق كما في هذه الآيات ، ووعد بالمزيد لمن شكر فقال : لئن شكرتم لأزيدنكم ، ثم أخبر تعالى أن منهم مقتصدا . المؤمنون منهم كالنجاشي وسلمان وعبد الله بن سلام اقتصدوا فلم يقولوا في عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام إلا ما يليق بهما ، وقيل : أراد بالاقتصاد قوما لم يؤمنوا ، ولكنهم لم يكونوا من المؤذين المستهزئين ، والله أعلم ، والاقتصاد الاعتدال في العمل ; وهو من القصد ، والقصد إتيان الشيء ; تقول : قصدته وقصدت له وقصدت إليه بمعنى . ساء ما يعملون أي : بئس شيء عملوه ; كذبوا الرسل ، وحرفوا الكتب وأكلوا السحت .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 09-02-2023, 04:32 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,025
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (5)
سُورَةُ النِّسَاءِ
من صــ 211 الى صــ 218
الحلقة (241)

يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا

قوله تعالى : ياأيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا قال ابن إسحاق : كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤساء من أحبار يهود منهم عبد الله بن صوريا الأعور وكعب بن أسد فقال لهم : يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا فوالله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به الحق قالوا : ما نعرف ذلك يا محمد . وجحدوا ما عرفوا وأصروا على الكفر ؛ فأنزل الله عز وجل فيهم يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها إلى آخر الآية .

قوله تعالى : مصدقا لما معكم نصب على الحال . من قبل أن نطمس وجوها الطمس استئصال أثر الشيء ؛ ومنه قوله تعالى : فإذا النجوم طمست . ونطمس ونطمس بكسر الميم وضمها في المستقبل لغتان . ويقال في الكلام : طسم يطسم ويطسم بمعنى طمس ؛ يقال : طمس الأثر وطسم أي امحى ، كله لغات ؛ ومنه قوله تعالى : ربنا اطمس على أموالهم أي أهلكها ؛ عن ابن عرفة . ويقال : طمسته فطمس لازم ومتعد . وطمس الله [ ص: 211 ] بصره ، وهو مطموس البصر إذا ذهب أثر العين ؛ ومنه قوله تعالى : ولو نشاء لطمسنا على أعينهم يقول أعميناهم .

واختلف العلماء في المعنى المراد بهذه الآية ؛ هل هو حقيقة فيجعل الوجه كالقفا فيذهب بالأنف والفم والحاجب والعين . أو ذلك عبارة عن الضلال في قلوبهم وسلبهم التوفيق ؟ قولان . روي عن أبي بن كعب أنه قال : من قبل أن نطمس من قبل أن نضلكم إضلالا لا تهتدون بعده . يذهب إلى أنه تمثيل وأنهم إن لم يؤمنوا فعل هذا بهم عقوبة . وقال قتادة : معناه من قبل أن نجعل الوجوه أقفاء . أي يذهب بالأنف والشفاه والأعين والحواجب ؛ هذا معناه عند أهل اللغة . وروي عن ابن عباس وعطية العوفي : أن الطمس أن تزال العينان خاصة وترد في القفا ؛ فيكون ذلك ردا على الدبر ويمشي القهقرى . وقال مالك رحمه الله : كان أول إسلام كعب الأحبار أنه مر برجل من الليل وهو يقرأ هذه الآية : يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا فوضع كفيه على وجهه ورجع القهقرى إلى بيته فأسلم مكانه وقال : والله لقد خفت ألا أبلغ بيتي حتى يطمس وجهي . وكذلك فعل عبد الله بن سلام ، لما نزلت هذه الآية وسمعها أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي أهله وأسلم وقال : يا رسول الله ، ما كنت أدرى أن أصل إليك حتى يحول وجهي في قفاي . فإن قيل : كيف جاز أن يهددهم بطمس الوجوه إن لم يؤمنوا ثم لم يؤمنوا ولم يفعل ذلك بهم ؛ فقيل : إنه لما آمن هؤلاء ومن اتبعهم رفع الوعيد عن الباقين . وقال المبرد : الوعيد باق منتظر . وقال : لا بد من طمس في اليهود ومسخ قبل يوم القيامة .

قوله تعالى : ( أو نلعنهم ) أي أصحاب الوجوه كما لعنا أصحاب السبت أي نمسخهم قردة وخنازير ؛ عن الحسن وقتادة . وقيل : هو خروج من الخطاب إلى الغيبة وكان أمر الله مفعولا أي كائنا موجودا . ويراد بالأمر المأمور فهو مصدر وقع موقع المفعول ؛ فالمعنى أنه متى أراده أوجده . وقيل : معناه أن كل أمر أخبر بكونه فهو كائن على ما أخبر به .

قوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به روي أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا : إن الله يغفر الذنوب جميعا فقال له رجل : يا رسول الله والشرك ! فنزل إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء . وهذا من المحكم المتفق عليه الذي لا اختلاف فيه بين الأمة . ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء من المتشابه الذي قد تكلم العلماء فيه . فقال [ ص: 212 ] محمد بن جرير الطبري : قد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة ففي مشيئة الله تعالى إن شاء عفا عنه ذنبه ، وإن شاء عاقبه عليه ما لم تكن كبيرته شركا بالله تعالى . وقال بعضهم : قد بين الله تعالى ذلك بقوله : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم فاعلم أنه يشاء أن يغفر الصغائر لمن اجتنب الكبائر ولا يغفرها لمن أتى الكبائر . وذهب بعض أهل التأويل إلى أن هذه الآية ناسخة للتي في آخر " الفرقان " . قال زيد بن ثابت : نزلت سورة " النساء " بعد " الفرقان " بستة أشهر ، والصحيح أن لا نسخ ؛ لأن النسخ في الأخبار يستحيل . وسيأتي بيان الجمع بين الآي في هذه السورة وفي " الفرقان " إن شاء الله تعالى . وفي الترمذي عن علي بن أبي طالب قال : ما في القرآن آية أحب إلي من هذه الآية إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء قال : هذا حديث حسن غريب .

قوله تعالى : ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم فيه ثلاث مسائل :

الأولى : قوله تعالى : ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم هذا اللفظ عام في ظاهره ولم يختلف أحد من المتأولين في أن المراد اليهود . واختلفوا في المعنى الذي زكوا به أنفسهم ؛ فقال قتادة والحسن : ذلك قولهم : نحن أبناء الله وأحباؤه ، وقولهم : لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى وقال الضحاك والسدي : قولهم لا ذنوب لنا وما فعلناه نهارا غفر لنا ليلا وما فعلناه ليلا غفر لنا نهارا ، ونحن كالأطفال في عدم الذنوب . وقال مجاهد وأبو مالك وعكرمة : تقديمهم الصغار للصلاة ؛ لأنهم لا ذنوب عليهم . وهذا يبعد من مقصد الآية . وقال ابن عباس : ذلك قولهم آباؤنا الذين ماتوا يشفعون لنا ويزكوننا . وقال عبد الله بن مسعود : ذلك ثناء بعضهم على بعض . وهذا أحسن ما قيل ؛ فإنه الظاهر من معنى الآية ، والتزكية : التطهير والتبرية من الذنوب .

الثانية : هذه الآية وقوله تعالى : فلا تزكوا أنفسكم يقتضي الغض من المزكي لنفسه بلسانه ، والإعلام بأن الزاكي المزكى من حسنت أفعاله وزكاه الله عز وجل فلا عبرة بتزكية الإنسان نفسه ، وإنما العبرة بتزكية الله له . وفي صحيح مسلم عن محمد بن عمرو بن عطاء قال : سميت ابنتي برة ؛ فقالت لي زينب بنت أبي سلمة : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا الاسم ، وسميت برة ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البر منكم فقالوا : بم نسميها ؟ فقال : سموها زينب . فقد دل الكتاب والسنة على المنع من تزكية [ ص: 213 ] الإنسان نفسه ، ويجري هذا المجرى ما قد كثر في هذه الديار المصرية من نعتهم أنفسهم بالنعوت التي تقتضي التزكية ؛ كزكي الدين ومحيي الدين وما أشبه ذلك ، لكن لما كثرت قبائح المسمين بهذه الأسماء ظهر تخلف هذه النعوت عن أصلها فصارت لا تفيد شيئا .

الثالثة : فأما تزكية الغير ومدحه له ؛ ففي البخاري من حديث أبي بكرة أن رجلا ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فأثنى عليه رجل خيرا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ويحك قطعت عنق صاحبك - يقوله مرارا - إن كان أحدكم مادحا لا محالة فليقل أحسب كذا وكذا إن كان يرى أنه كذلك وحسيبه الله ولا يزكي على الله أحدا فنهى صلى الله عليه وسلم أن يفرط في مدح الرجل بما ليس فيه فيدخله في ذلك الإعجاب والكبر ، ويظن أنه في الحقيقة بتلك المنزلة فيحمله ذلك على تضييع العمل وترك الازدياد من الفضل ؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : ويحك قطعت عنق صاحبك . وفي الحديث الآخر قطعتم ظهر الرجل حين وصفوه بما ليس فيه . وعلى هذا تأول العلماء قوله صلى الله عليه وسلم : احثوا التراب في وجوه المداحين إن المراد به المداحون في وجوههم بالباطل وبما ليس فيهم ، حتى يجعلوا ذلك بضاعة يستأكلون به الممدوح ويفتنونه ؛ فأما مدح الرجل بما فيه من الفعل الحسن والأمر المحمود ليكون منه ترغيبا له في أمثاله وتحريضا للناس على الاقتداء به في أشباهه فليس بمداح ، وإن كان قد صار مادحا بما تكلم به من جميل القول فيه . وهذا راجع إلى النيات والله يعلم المفسد من المصلح . وقد مدح صلى الله عليه وسلم في الشعر والخطب والمخاطبة ولم يحث في وجوه المداحين التراب ، ولا أمر بذلك . كقول أبي طالب :


وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل
وكمدح العباس وحسان له في شعرهما ، ومدحه كعب بن زهير ، ومدح هو أيضا أصحابه فقال : ( إنكم لتقلون عند الطمع وتكثرون عند الفزع ) . وأما قوله صلى الله عليه وسلم في صحيح الحديث : لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم وقولوا : عبد الله ورسوله فمعناه لا تصفوني بما ليس في من الصفات تلتمسون بذلك مدحي ، كما وصفت النصارى عيسى بما لم يكن فيه ، فنسبوه إلى أنه ابن الله فكفروا بذلك وضلوا . وهذا يقتضي أن من رفع امرأ فوق حده وتجاوز مقداره بما ليس فيه فمعتد آثم ؛ لأن ذلك لو جاز في أحد لكان أولى الخلق بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم .

[ ص: 214 ] ولا يظلمون فتيلا الضمير في " يظلمون " عائد على المذكورين ممن زكى نفسه وممن يزكيه الله عز وجل . وغير هذين الصنفين علم أن الله تعالى لا يظلمه من غير هذه الآية . والفتيل الخيط الذي في شق نواة التمرة ؛ قاله ابن عباس وعطاء ومجاهد . وقيل : القشرة التي حول النواة بينها وبين البسرة . وقال ابن عباس أيضا وأبو مالك والسدي : هو ما يخرج بين أصبعيك أو كفيك من الوسخ إذا فتلتهما ؛ فهو فعيل بمعنى مفعول . وهذا كله يرجع إلى كناية عن تحقير الشيء وتصغيره ، وأن الله لا يظلمه شيئا . ومثل هذا في التحقير قوله تعالى : ولا يظلمون نقيرا وهو النكتة التي في ظهر النواة ، ومنه تنبت النخلة ، وسيأتي . قال الشاعر يذم بعض الملوك :


تجمع الجيش ذا الألوف وتغزو ثم لا ترزأ العدو فتيلا
انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا ثم عجب النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك فقال : انظر كيف يفترون على الله الكذب في قولهم : نحن أبناء الله وأحباؤه . وقيل : تزكيتهم لأنفسهم ؛ عن ابن جريج . وروي أنهم قالوا : ليس لنا ذنوب إلا كذنوب أبنائنا يوم تولد . والافتراء الاختلاق ؛ ومنه افترى فلان على فلان أي رماه بما ليس فيه . وفريت الشيء قطعته . وكفى به إثما مبينا نصب على البيان . والمعنى تعظيم الذنب وذمه . العرب تستعمل مثل ذلك في المدح والذم .

قوله تعالى : ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يعني اليهود . يؤمنون بالجبت والطاغوت اختلف أهل التأويل في تأويل الجبت والطاغوت ؛ فقال ابن عباس وابن جبير [ ص: 215 ] وأبو العالية : الجبت الساحر بلسان الحبشة ، والطاغوت الكاهن . وقال الفاروق عمر رضي الله عنه : الجبت السحر والطاغوت الشيطان . ابن مسعود : الجبت والطاغوت هاهنا كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب . عكرمة : الجبت حيي بن أخطب والطاغوت كعب بن الأشرف ؛ دليله قوله تعالى : يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت . قتادة : الجبت الشيطان والطاغوت الكاهن . وروى ابن وهب عن مالك بن أنس : الطاغوت ما عبد من دون الله . قال : وسمعت من يقول إن الجبت الشيطان ؛ ذكره النحاس . وقيل : هما كل معبود من دون الله ، أو مطاع في معصية الله ؛ وهذا حسن . وأصل الجبت الجبس وهو الذي لا خير فيه ، فأبدلت التاء من السين ؛ قاله قطرب . وقيل : الجبت إبليس والطاغوت أولياؤه . وقول مالك في هذا الباب حسن ؛ يدل عليه قوله تعالى : أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت وقال تعالى : والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها . وروى قطن بن المخارق عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الطرق والطيرة والعيافة من الجبت . الطرق الزجر ، والعيافة الخط ؛ خرجه أبو داود في سننه . وقيل : الجبت كل ما حرم الله ، الطاغوت كل ما يطغي الإنسان . والله أعلم .

قوله تعالى : ويقولون للذين كفروا أي يقول اليهود لكفار قريش أنتم أهدى سبيلا من الذين آمنوا بمحمد . وذلك أن كعب بن الأشرف خرج في سبعين راكبا من اليهود إلى مكة بعد وقعة أحد ليحالفوا قريشا على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزل كعب على أبي سفيان فأحسن مثواه ، ونزلت اليهود في دور قريش فتعاقدوا وتعاهدوا ليجتمعن على قتال محمد ؛ فقال أبو سفيان : إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم ، ونحن أميون لا نعلم ، فأينا أهدى سبيلا وأقرب إلى الحق . نحن أم محمد ؟ فقال كعب : أنتم والله أهدى سبيلا مما عليه محمد .

قوله تعالى : أم لهم نصيب من الملك أي ألهم ؟ والميم صلة . نصيب حظ من الملك وهذا على وجه الإنكار ؛ يعني ليس لهم من الملك شيء ، ولو كان لهم منه شيء لم يعطوا أحدا منه شيئا لبخلهم وحسدهم . وقيل : المعنى بل ألهم نصيب ؛ فتكون أم منقطعة ومعناها الإضراب عن الأول والاستئناف للثاني . وقيل : هي عاطفة على محذوف ؛ لأنهم أنفوا من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم . والتقدير : أهم أولى بالنبوة ممن أرسلته أم لهم نصيب من الملك ؟ . فإذا لا يؤتون الناس نقيرا أي يمنعون الحقوق . خبر الله عز وجل عنهم بما يعلمه منهم . والنقير : النكتة في ظهر النواة ، عن ابن عباس وقتادة وغيرهما . وعن ابن عباس أيضا : النقير : [ ص: 216 ] ما نقر الرجل بأصبعه كما ينقر الأرض . وقال أبو العالية : سألت ابن عباس عن النقير فوضع طرف الإبهام على باطن السبابة ثم رفعهما وقال : هذا النقير . والنقير : أصل خشبة ينقر وينبذ فيه ؛ وفيه جاء النهي ثم نسخ . وفلان كريم النقير أي الأصل . و " إذا " هنا ملغاة غير عاملة لدخول فاء العطف عليها ، ولو نصب لجاز . قال سيبويه : " إذا " في عوامل الأفعال بمنزلة " أظن " في عوامل الأسماء ، أي تلغى إذا لم يكن الكلام معتمدا عليها ، فإن كانت في أول الكلام وكان الذي بعدها مستقبلا نصبت ؛ كقولك : أنا أزورك فيقول مجيبا لك : إذا أكرمك . قال عبد الله بن عنمة الضبي :


اردد حمارك لا يرتع بروضتنا إذا يرد وقيد العير مكروب
نصب لأن الذي قبل " إذن " تام فوقعت ابتداء كلام . فإن وقعت متوسطة بين شيئين كقولك . زيد إذا يزورك ألغيت ؛ فإن دخل عليها فاء العطف أو واو العطف فيجوز فيها الإعمال والإلغاء ؛ أما الإعمال فلأن ما بعد الواو يستأنف على طريق عطف الجملة على الجملة ، فيجوز في غير القرآن فإذا لا يؤتوا . وفي التنزيل وإذا لا يلبثون الإسراء : وفي مصحف أبي " وإذا لا يلبثوا " . وأما الإلغاء فلأن ما بعد الواو لا يكون إلا بعد كلام يعطف عليه ، والناصب للفعل عند سيبويه إذا لمضارعتها " أن " ، وعند الخليل أن مضمرة بعد إذا . وزعم الفراء أن إذا تكتب بالألف وأنها منونة . قال النحاس : وسمعت علي بن سليمان يقول : سمعت أبا العباس محمد بن يزيد يقول : أشتهي أن أكوي يد من يكتب إذا بالألف ؛ إنها مثل لن وإن ، ولا يدخل التنوين في الحروف .
قوله تعالى : أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا

فيه أربع مسائل :

الأولى : قوله تعالى : أم يحسدون يعني اليهود . الناس يعني النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ؛ عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما . حسدوه على النبوة وأصحابه على الإيمان به . وقال قتادة قلت : [ ص: 117 ] " الناس " : العرب ، حسدتهم اليهود على النبوة . الضحاك : حسدت اليهود قريشا ؛ لأن النبوة فيهم . والحسد مذموم وصاحبه مغموم وهو يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ؛ رواه أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقال الحسن : ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من حاسد ؛ نفس دائم ، وحزن لازم ، وعبرة لا تنفد . وقال عبد الله بن مسعود : لا تعادوا نعم الله . قيل له : ومن يعادي نعم الله ؟ قال : الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ، يقول الله تعالى في بعض الكتب : الحسود عدو نعمتي متسخط لقضائي غير راض بقسمتي . ولمنصور الفقيه :


ألا قل لمن ظل لي حاسدا أتدري على من أسأت الأدب أسأت على الله في حكمه
إذا أنت لم ترض لي ما وهب
ويقال : الحسد أول ذنب عصي الله به في السماء ، وأول ذنب عصي به في الأرض ؛ فأما في السماء فحسد إبليس لآدم ، وأما في الأرض فحسد قابيل لهابيل . ولأبي العتاهية في الناس :


فيا رب إن الناس لا ينصفونني فكيف ولو أنصفتهم ظلموني
وإن كان لي شيء تصدوا لأخذه وإن شئت أبغي شيئهم منعوني
وإن نالهم بذلي فلا شكر عندهم وإن أنا لم أبذل لهم شتموني
وإن طرقتني نكبة فكهوا بها وإن صحبتني نعمة حسدوني
سأمنع قلبي أن يحن إليهمو وأحجب عنهم ناظري وجفوني
وقيل : إذا سرك أن تسلم من الحاسد فغم عليه أمرك . ولرجل من قريش :


حسدوا النعمة لما ظهرت فرموها بأباطيل الكلم
وإذا ما الله أسدى نعمة لم يضرها قول أعداء النعم
ولقد أحسن من قال :


اصبر على حسد الحسو د فإن صبرك قاتله
فالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله
وقال بعض أهل التفسير في قول الله تعالى : ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين . إنه إنما أراد بالذي من الجن إبليس والذي [ ص: 218 ] من الإنس قابيل ؛ وذلك أن إبليس كان أول من سن الكفر ، وقابيل كان أول من سن القتل ، وإنما كان أصل ذلك كله الحسد . وقال الشاعر :


إن الغراب وكان يمشي مشية فيما مضى من سالف الأحوال
حسد القطاة فرام يمشي مشيها فأصابه ضرب من التعقال


الثانية : قوله تعالى : فقد آتينا ثم أخبر تعالى أنه آتى آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتاهم ملكا عظيما . قال همام بن الحارث : أيدوا بالملائكة . وقيل : يعني ملك سليمان ؛ عن ابن عباس . وعنه أيضا : المعنى أم يحسدون محمدا على ما أحل الله له من النساء فيكون الملك العظيم على هذا أنه أحل لداود تسعا وتسعين امرأة ولسليمان أكثر من ذلك . واختار الطبري أن يكون المراد ما أوتيه سليمان من الملك وتحليل النساء . والمراد تكذيب اليهود والرد عليهم في قولهم : لو كان نبيا ما رغب في كثرة النساء ولشغلته النبوة عن ذلك ؛ فأخبر الله تعالى بما كان لداود وسليمان يوبخهم ، فأقرت اليهود أنه اجتمع عند سليمان ألف امرأة ، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : ألف امرأة ؟ قالوا : نعم ثلاثمائة مهرية ، وسبعمائة سرية ، وعند داود مائة امرأة . فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : ألف عند رجل ومائة عند رجل أكثر أو تسع نسوة ؟ فسكتوا . وكان له يومئذ تسع نسوة .

الثالثة : يقال : إن سليمان عليه السلام كان أكثر الأنبياء نساء . والفائدة في كثرة تزوجه أنه كان له قوة أربعين نبيا ، وكل من كان أقوى فهو أكثر نكاحا . ويقال : إنه أراد بالنكاح كثرة العشيرة ؛ لأن لكل امرأة قبيلتين قبيلة من جهة الأب وقبيلة من جهة الأم ؛ فكلما تزوج امرأة صرف وجوه القبيلتين إلى نفسه فتكون عونا له على أعدائه . ويقال : إن كل من كان أتقى فشهوته أشد ؛ لأن الذي لا يكون تقيا فإنما يتفرج بالنظر والمس ، ألا ترى ما روي في الخبر : ( العينان تزنيان واليدان تزنيان ) . فإذا كان في النظر والمس نوع من قضاء الشهوة قل الجماع ، والمتقي لا ينظر ولا يمس فتكون الشهوة مجتمعة في نفسه فيكون أكثر جماعا . وقال أبو بكر الوراق : كل شهوة تقسي القلب إلا الجماع فإنه يصفي القلب ؛ ولهذا كان الأنبياء يفعلون ذلك .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 05-03-2023, 02:01 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,025
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (5)
سُورَةُ النِّسَاءِ
من صــ 373 الى صــ 389
الحلقة (261)


[ ص: 373 ] قوله تعالى : وما قتلوه يقينا قال ابن عباس والسدي : المعنى ما قتلوا ظنهم يقينا ؛ كقولك : قتلته علما إذا علمته علما تاما ؛ فالهاء عائدة على الظن . قال أبو عبيد : ولو كان المعنى وما قتلوا عيسى يقينا لقال : وما قتلوه فقط . وقيل : المعنى وما قتلوا الذي شبه لهم أنه عيسى يقينا ؛ فالوقف على هذا على يقينا . وقيل : المعنى وما قتلوا عيسى ، والوقف على وما قتلوه ويقينا نعت لمصدر محذوف ، وفيه تقديران : أحدهما : أي قالوا هذا قولا يقينا ، أو قال الله هذا قولا يقينا . والقول الآخر : أن يكون المعنى وما علموه علما يقينا . النحاس : إن قدرت المعنى بل رفعه الله إليه يقينا فهو خطأ ؛ لأنه لا يعمل ما بعد بل فيما قبلها لضعفها . وأجازابن الأنباري الوقف على وما قتلوه على أن ينصب يقينا بفعل مضمر هو جواب القسم ، تقديره : ولقد صدقتم يقينا أي صدقا يقينا . بل رفعه الله إليه ابتداء كلام مستأنف ؛ أي إلى السماء ، والله تعالى متعال عن المكان ؛ وقد تقدم كيفية رفعه في " آل عمران " . وكان الله عزيزا أي قويا بالنقمة من اليهود فسلط عليهم بطرس بن أستيسانوس الرومي فقتل منهم مقتلة عظيمة . حكيما حكم عليهم باللعنة والغضب .
قوله تعالى : وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا

قوله تعالى : وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته قال ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة : المعنى ليؤمنن بالمسيح قبل موته أي الكتابي ؛ فالهاء الأولى عائدة على عيسى ، والثانية على الكتابي ؛ وذلك أنه ليس أحد من أهل الكتاب اليهود والنصارى إلا ويؤمن بعيسى عليه السلام إذا عاين الملك ، ولكنه إيمان لا ينفع ؛ لأنه إيمان عند اليأس وحين التلبس بحالة الموت ؛ فاليهودي يقر في ذلك الوقت بأنه رسول الله ، والنصراني يقر بأنه كان رسول الله . وروي أن الحجاج سأل شهر بن حوشب عن هذه الآية فقال : إني لأوتى بالأسير من اليهود والنصارى فآمر بضرب عنقه ، وأنظر إليه في ذلك الوقت فلا أرى منه الإيمان ؛ فقال له شهر بن حوشب : إنه حين عاين أمر الآخرة يقر بأن عيسى عبد الله ورسوله فيؤمن به ولا ينفعه ؛ فقال له الحجاج : من أين أخذت هذا ؟ قال : أخذته من محمد بن الحنفية ؛ فقال له الحجاج : أخذت من عين صافية . وروي عن مجاهد أنه قال : ما من أحد من أهل الكتاب إلا يؤمن بعيسى قبل موته ؛ فقيل له : إن غرق أو احترق أو أكله السبع يؤمن بعيسى ؟ فقال : نعم ! [ ص: 374 ] وقيل : إن الهاءين جميعا لعيسى عليه السلام ؛ والمعنى ليؤمنن به من كان حيا حين نزوله يوم القيامة ؛ قال قتادة وابن زيد وغيرهما واختاره الطبري . وروى يزيد بن زريع عن رجل عن الحسن في قوله تعالى : وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته قال : قبل موت عيسى ؛ والله إنه لحي عند الله الآن ؛ ولكن إذا نزل آمنوا به أجمعون ؛ ونحوه عن الضحاك وسعيد بن جبير . وقيل : ليؤمنن به أي بمحمد عليه السلام وإن لم يجر له ذكر ؛ لأن هذه الأقاصيص أنزلت عليه والمقصود الإيمان به ، والإيمان بعيسى يتضمن الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام أيضا ؛ إذ لا يجوز أن يفرق بينهم . وقيل : ليؤمنن به أي بالله تعالى قبل أن يموت ولا ينفعه الإيمان عند المعاينة . والتأويلان الأولان أظهر . وروى الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لينزلن ابن مريم حكما عدلا فليقتلن الدجال وليقتلن الخنزير وليكسرن الصليب وتكون السجدة واحدة لله رب العالمين ، ثم قال أبو هريرة : واقرءوا إن شئتم وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته قال أبو هريرة : قبل موت عيسى ؛ يعيدها ثلاث مرات . وتقدير الآية عند سيبويه : وإن من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن به . وتقدير الكوفيين : وإن من أهل الكتاب إلا من ليؤمنن به ، وفيه قبح ، لأن فيه حذف الموصول ، والصلة بعض الموصول فكأنه حذف بعض الاسم .

قوله تعالى : ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا أي بتكذيب من كذبه وتصديق من صدقه .
قوله تعالى : فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما

فيه مسألتان :

الأولى : قوله تعالى : فبظلم من الذين هادوا قال الزجاج : هذا بدل من فبما نقضهم [ ص: 375 ] . والطيبات ما نصه في قوله تعالى : وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر وقدم الظلم على التحريم إذ هو الغرض الذي قصد إلى الإخبار عنه بأنه سبب التحريم . وبصدهم عن سبيل الله أي وبصدهم أنفسهم وغيرهم عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم . وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل كله تفسير للظلم الذي تعاطوه ، وكذلك ما قبله من نقضهم الميثاق وما بعده ؛ وقد مضى في " آل عمران " أن اختلاف العلماء في سبب التحريم على ثلاثة أقوال هذا أحدها .

الثانية : قال ابن العربي : لا خلاف في مذهب مالك أن الكفار مخاطبون ، وقد بين الله في هذه الآية أنهم قد نهوا عن الربا وأكل الأموال بالباطل ؛ فإن كان ذلك خبرا عما نزل على محمد في القرآن وأنهم دخلوا في الخطاب فبها ونعمت ، وإن كان خبرا عما أنزل الله على موسى في التوراة ، وأنهم بدلوا وحرفوا وعصوا وخالفوا فهل يجوز لنا معاملتهم والقوم قد أفسدوا أموالهم في دينهم أم لا ؟ فظنت طائفة أن معاملتهم لا تجوز ؛ وذلك لما في أموالهم من هذا الفساد . والصحيح جواز معاملتهم مع رباهم واقتحام ما حرم الله سبحانه عليهم ؛ فقد قام الدليل القاطع على ذلك قرآنا وسنة ؛ قال الله تعالى : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وهذا نص ؛ وقد عامل النبي صلى الله عليه وسلم اليهود ومات ودرعه مرهونة عند يهودي في شعير أخذه لعياله . والحاسم لداء الشك والخلاف اتفاق الأمة على جواز التجارة مع أهل الحرب ؛ وقد سافر النبي صلى الله عليه وسلم إليهم تاجرا ، وذلك من سفره أمر قاطع على جواز السفر إليهم والتجارة معهم . فإن قيل : كان ذلك قبل النبوة ؛ قلنا : إنه لم يتدنس قبل النبوة بحرام - ثبت ذلك تواترا - ولا اعتذر عنه إذ بعث ، ولا منع منه إذ نبئ ، ولا قطعه أحد من الصحابة في حياته ، ولا أحد من المسلمين بعد وفاته ؛ فقد كانوا يسافرون في فك الأسرى وذلك واجب ، وفي الصلح كما أرسل عثمان وغيره ؛ وقد يجب وقد يكون ندبا ؛ فأما السفر إليهم لمجرد التجارة فمباح .
قوله تعالى : لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما

[ ص: 376 ] قوله تعالى : لكن الراسخون في العلم منهم استثنى مؤمني أهل الكتاب ؛ وذلك أن اليهود أنكروا وقالوا : إن هذه الأشياء كانت حراما في الأصل وأنت تحلها ولم تكن حرمت بظلمنا ؛ فنزل لكن الراسخون في العلم والراسخ هو المبالغ في علم الكتاب الثابت فيه ، والرسوخ الثبوت ؛ وقد تقدم في " آل عمران " والمراد عبد الله بن سلام وكعب الأحبار ونظراؤهما . والمؤمنون أي من المهاجرين والأنصار ، أصحاب محمد عليه السلام . والمقيمين الصلاة وقرأ الحسن ومالك بن دينار وجماعة : " والمقيمون " على العطف ، وكذا هو في حرف عبد الله ، وأما حرف أبي فهو فيه " والمقيمين " كما في المصاحف . واختلف في نصبه على أقوال ستة ؛ أصحها قول سيبويه بأنه نصب على المدح ؛ أي وأعني المقيمين ؛ قال سيبويه : هذا باب ما ينتصب على التعظيم ؛ ومن ذلك والمقيمين الصلاة وأنشد :


وكل قوم أطاعوا أمر سيدهم إلا نميرا أطاعت أمر غاويها
ويروى ( أمر مرشدهم ) .


الظاعنين ولما يظعنوا أحدا والقائلون لمن دار نخليها
وأنشد :


لا يبعدن قومي الذين هم سم العداة وآفة الجزر
النازلين بكل معترك والطيبون معاقد الأزر
قال النحاس : وهذا أصح ما قيل في المقيمين . وقال الكسائي : والمقيمين معطوف على ما قال النحاس قال الأخفش : وهذا بعيد ؛ لأن المعنى يكون ويؤمنون بالمقيمين . وحكى محمد بن جرير أنه قيل له : إن المقيمين هاهنا الملائكة عليهم السلام ؛ لدوامهم على الصلاة والتسبيح والاستغفار ، واختار هذا القول ، وحكى أن النصب على المدح بعيد ؛ لأن المدح إنما يأتي بعد تمام الخبر ، وخبر الراسخين في أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما فلا ينتصب المقيمين على المدح . قال النحاس : ومذهب سيبويه في قوله : والمؤتون رفع بالابتداء . وقال غيره : هو مرفوع على إضمار مبتدأ ؛ أي هم المؤتون الزكاة . وقيل : والمقيمين عطف على الكاف التي في قبلك . أي من قبلك ومن قبل المقيمين . وقيل : المقيمين عطف على الكاف التي في إليك . وقيل : هو عطف على الهاء والميم ، أي منهم ومن المقيمين ؛ وهذه الأجوبة الثلاثة لا تجوز ؛ لأن فيها عطف مظهر على مضمر مخفوض .

والجواب السادس : ما روي أن عائشة رضي الله عنها سئلت عن هذه الآية [ ص: 377 ] وعن قوله : إن هذان لساحران ، وقوله : والصابئون في المائدة ، فقالت للسائل : يا ابن أخي الكتاب أخطئوا . وقال أبان بن عثمان : كان الكاتب يملى عليه فيكتب فكتب لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون ثم قال له : ما أكتب ؟ فقيل له : اكتب والمقيمين الصلاة فمن ثم وقع هذا . قال القشيري : وهذا المسلك باطل ؛ لأن الذين جمعوا الكتاب كانوا قدوة في اللغة ، فلا يظن بهم أنهم يدرجون في القرآن ما لم ينزل . وأصح هذه الأقوال قول سيبويه وهو قول الخليل ، وقول الكسائي هو اختيار القفال والطبري ، والله أعلم .
إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا

قوله تعالى : إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح هذا متصل بقوله : يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء ، فأعلم تعالى أن أمر محمد صلى الله عليه وسلم كأمر من تقدمه من الأنبياء . وقال ابن عباس فيما ذكره ابن إسحاق : نزلت في قوم من اليهود - منهم سكين وعدي بن زيد - قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : ما أوحى الله إلى أحد من بعد موسى فكذبهم الله . والوحي إعلام في خفاء ؛ يقال : وحى إليه بالكلام يحي وحيا ، وأوحى يوحي إيحاء . إلى نوح قدمه لأنه أول نبي شرعت على لسانه الشرائع . وقيل غير هذا ؛ ذكر الزبير بن بكار حدثني أبو الحسن علي بن المغيرة عن هشام بن محمد بن السائب عن أبيه قال : أول نبي بعثه الله تبارك وتعالى في الأرض إدريس واسمه أخنوخ ؛ ثم انقطعت الرسل حتى بعث الله نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ ، وقد كان سام بن نوح نبيا ، ثم انقطعت الرسل حتى بعث الله إبراهيم نبيا واتخذه خليلا ؛ وهو إبراهيم بن تارخ واسم تارخ آزر ، ثم بعث إسماعيل بن إبراهيم فمات بمكة ، ثم إسحاق بن إبراهيم فمات بالشام ، ثم لوط وإبراهيم عمه ، ثم يعقوب وهو إسرائيل بن إسحاق ثم يوسف بن يعقوب ثم شعيب بن يوبب ، ثم هود بن عبد الله ، ثم صالح بن أسف ، ثم موسى وهارون ابنا عمران ، ثم أيوب ثم الخضر وهو خضرون ، ثم داود بن إيشا ، ثم سليمان بن داود ، ثم يونس بن متى ، ثم إلياس ، ثم ذا الكفل واسمه عويدنا [ ص: 378 ] من سبط يهوذا بن يعقوب ؛ قال : وبين موسى بن عمران ومريم بنت عمران أم عيسى ألف سنة وسبعمائة سنة وليسا من سبط ؛ ثم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب النبي صلى الله عليه وسلم . قال الزبير : كل نبي ذكر في القرآن من ولد إبراهيم غير إدريس ونوح ولوط وهود وصالح . ولم يكن من العرب أنبياء إلا خمسة : هود وصالح وإسماعيل وشعيب ومحمد صلى الله عليه وعليهم أجمعين ؛ وإنما سموا عربا لأنه لم يتكلم بالعربية غيرهم .

قوله تعالى : والنبيين من بعده هذا يتناول جميع الأنبياء ثم قال : وأوحينا إلى إبراهيم فخص أقواما بالذكر تشريفا لهم ؛ كقوله تعالى : وملائكته ورسله وجبريل وميكال ثم قال وعيسى وأيوب قدم عيسى على قوم كانوا قبله ؛ لأن الواو لا تقتضي الترتيب ، وأيضا فيه تخصيص عيسى ردا على اليهود . وفي هذه الآية تنبيه على قدر نبينا صلى الله عليه وسلم وشرفه ، حيث قدمه في الذكر على أنبيائه ؛ ومثله قوله تعالى : وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح الآية ؛ ونوح مشتق من النوح ؛ وقد تقدم ذكره موعبا في " آل عمران " وانصرف وهو اسم أعجمي ؛ لأنه على ثلاثة أحرف فخف ؛ فأما إبراهيم وإسماعيل وإسحاق فأعجمية وهي معرفة ولذلك لم تنصرف ، وكذا يعقوب وعيسى وموسى إلا أن عيسى وموسى يجوز أن تكون الألف فيهما للتأنيث فلا ينصرفان في معرفة ولا نكرة ؛ فأما يونس ويوسف فروي عن الحسن أنه قرأ " ويونس " بكسر النون وكذا " يوسف " يجعلهما من آنس وآسف ، ويجب على هذا أن يصرفا ويهمزا ويكون جمعهما يآنس ويآسف . ومن لم يهمز قال : يوانس ويواسف . وحكى أبو زيد : يونس ويوسف بفتح النون والسين ؛ قال المهدوي : وكأن " يونس " في الأصل فعل مبني للفاعل ، و " يونس " فعل مبني للمفعول ، فسمي بهما .

قوله تعالى : وآتينا داود زبورا الزبور كتاب داود وكان مائة وخمسين سورة ليس فيها حكم ولا حلال ولا حرام ، وإنما هي حكم ومواعظ . والزبر الكتابة ، والزبور بمعنى المزبور أي المكتوب ، كالرسول والركوب والحلوب . وقرأ حمزة " زبورا " بضم الزاي جمع زبر كفلس وفلوس ، وزبر بمعنى المزبور ؛ كما يقال : هذا الدرهم ضرب الأمير أي مضروبه ؛ والأصل في الكلمة التوثيق ؛ يقال : بئر مزبورة أي مطوية بالحجارة ، والكتاب يسمى زبورا لقوة الوثيقة به . وكان داود عليه السلام حسن الصوت ؛ فإذا أخذ في قراءة الزبور اجتمع إليه الإنس والجن والطير والوحش لحسن صوته ، وكان متواضعا يأكل من عمل يده ؛ روى أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه قال : أن كان داود صلى الله عليه وسلم ليخطب الناس وفي يده القفة [ ص: 379 ] من الخوص ، فإذا فرغ ناولها بعض من إلى جنبه يبيعها ، وكان يصنع الدروع ؛ وسيأتي . وفي الحديث : الزرقة في العين يمن وكان داود أزرق .
قوله تعالى : ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما

قوله تعالى : ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل يعني بمكة . ورسلا منصوب بإضمار فعل ، أي وأرسلنا رسلا ؛ لأن معنى وأوحينا إلى نوح وأرسلنا نوحا . وقيل : هو منصوب بفعل دل عليه قصصناهم أي وقصصنا رسلا ؛ ومثله ما أنشد سيبويه :


أصبحت لا أحمل السلاح ولا أملك رأس البعير إن نفرا والذئب أخشاه إن مررت به
وحدي وأخشى الرياح والمطرا
أي وأخشى الذئب . وفي حرف أبي " ورسل " بالرفع على تقدير ومنهم رسل . ثم قيل : إن الله تعالى لما قص في كتابه بعض أسماء أنبيائه ، ولم يذكر أسماء بعض ، ولمن ذكر فضل على من لم يذكر . قالت اليهود : ذكر محمد الأنبياء ولم يذكر موسى ؛ فنزلت وكلم الله موسى تكليما تكليما مصدر معناه التأكيد ؛ يدل على بطلان من يقول : خلق لنفسه كلاما في شجرة فسمعه موسى ، بل هو الكلام الحقيقي الذي يكون به المتكلم متكلما . قال النحاس : وأجمع النحويون على أنك إذا أكدت الفعل بالمصدر لم يكن مجازا ، وأنه لا يجوز في قول الشاعر :


امتلأ الحوض وقال قطني
أن يقول : قال قولا ؛ فكذا لما قال : تكليما وجب أن يكون كلاما على الحقيقة من الكلام الذي يعقل . وقال وهب بن منبه : إن موسى عليه السلام قال : " يا رب بم اتخذتني كليما " ؟ طلب العمل الذي أسعده الله به ليكثر منه ؛ فقال الله تعالى له : أتذكر إذ ند من غنمك جدي فاتبعته أكثر النهار وأتعبك ، ثم أخذته وقبلته وضممته إلى صدرك وقلت له : أتعبتني وأتعبت نفسك ، ولم تغضب عليه ؛ من أجل ذلك اتخذتك كليما .
قوله تعالى : رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما

[ ص: 380 ] قوله تعالى : رسلا مبشرين ومنذرين هو نصب على البدل من ورسلا قد قصصناهم ويجوز أن يكون على إضمار فعل ؛ ويجوز نصبه على الحال ؛ أي كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده رسلا . لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل فيقولوا ما أرسلت إلينا رسولا ، وما أنزلت علينا كتابا ؛ وفي التنزيل : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وقوله تعالى : ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك وفي هذا كله دليل واضح أنه لا يجب شيء من ناحية العقل . وروي عن كعب الأحبار أنه قال : كان الأنبياء ألفي ألف ومائتي ألف . وقال مقاتل : كان الأنبياء ألف ألف وأربعمائة ألف وأربعة وعشرين ألفا . وروى أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : بعثت على أثر ثمانية آلاف من الأنبياء منهم أربعة آلاف من بني إسرائيل ذكره أبو الليث السمرقندي في التفسير له ؛ ثم أسند عن شعبة عن أبي إسحاق عن الحارث الأعور عن أبي ذر الغفاري قال : قلت يا رسول الله كم كانت الأنبياء وكم كان المرسلون ؟ قال : كانت الأنبياء مائة ألف نبي وأربعة وعشرين ألف نبي وكان المرسلون ثلاثمائة وثلاثة عشر .

قلت : هذا أصح ما روي في ذلك ؛ خرجه الآجري وأبو حاتم البستي في المسند الصحيح له .
قوله تعالى : لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا

قوله تعالى : لكن الله يشهد رفع بالابتداء ، وإن شئت شددت النون ونصبت . وفي الكلام حذف دل عليه الكلام ؛ كأن الكفار قالوا : ما نشهد لك يا محمد فيما تقول فمن يشهد لك ؟ فنزل لكن الله يشهد . ومعنى أنزله بعلمه أي وهو يعلم أنك أهل لإنزاله عليك ؛ ودلت الآية على أنه تعالى عالم بعلم . والملائكة يشهدون ذكر شهادة الملائكة ليقابل بها نفي شهادتهم . وكفى بالله شهيدا أي كفى الله شاهدا ، والباء زائدة .
قوله تعالى : إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا

[ ص: 381 ] قوله تعالى : إن الذين كفروا يعني اليهود أي ظلموا . وصدوا عن سبيل الله أي عن اتباع الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بقولهم : ما نجد صفته في كتابنا ، وإنما النبوة في ولد هارون وداود ، وإن في التوراة أن شرع موسى لا ينسخ . قد ضلوا ضلالا بعيدا لأنهم كفروا ومع ذلك منعوا الناس من الإسلام .
قوله تعالى : إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا وكان ذلك على الله يسيرا

قوله تعالى : إن الذين كفروا وظلموا يعني اليهود ؛ أي ظلموا محمدا بكتمان نعته ، وأنفسهم إذ كفروا ، والناس إذ كتموهم . لم يكن الله ليغفر لهم هذا فيمن يموت على كفره ولم يتب .
قوله تعالى : ياأيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما

قوله تعالى : يا أيها الناس هذا خطاب للكل . قد جاءكم الرسول يريد محمدا عليه الصلاة والسلام . بالحق بالقرآن . وقيل : بالدين الحق ؛ وقيل : بشهادة أن لا إله إلا الله ، وقيل : الباء للتعدية ؛ أي جاءكم ومعه الحق ؛ فهو في موضع الحال .

قوله تعالى : فآمنوا خيرا لكم في الكلام إضمار ؛ أي وأتوا خيرا لكم ؛ هذا مذهب سيبويه ، وعلى قول الفراء نعت لمصدر محذوف ؛ أي إيمانا خيرا لكم ، وعلى قول أبي عبيدة يكن خيرا لكم .
يتبع




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 20-03-2023, 09:13 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,025
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (6)
سُورَةُ الْمَائِدَةِ
من صــ 147 الى صــ 154
الحلقة (281)




الخامسة والعشرون : قال العلماء : الشجاج في الرأس ، والجراح في البدن . وأجمع أهل العلم على أن فيما دون الموضحة أرش فيما ذكر ابن المنذر ; واختلفوا في ذلك الأرش وما دون الموضحة شجاج خمس : الدامية والدامعة والباضعة والمتلاحمة والسمحاق ; فقال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي في الدامية حكومة ، وفي الباضعة حكومة ، وفي المتلاحمة حكومة ، وذكر عبد الرزاق عن زيد بن ثابت قال : في الدامية بعير ، وفي الباضعة بعيران ، وفي المتلاحمة ثلاثة أبعرة من الإبل ، وفي السمحاق أربع ، وفي الموضحة خمس ، وفي الهاشمة عشر ، وفي المنقلة خمس عشرة ، وفي المأمومة ثلث الدية ، وفي الرجل يضرب حتى يذهب عقله الدية كاملة ، أو يضرب حتى يغن ولا يفهم الدية كاملة ، أو حتى يبح ولا يفهم الدية كاملة ، وفي جفن العين ربع الدية ، وفي حلمة الثدي ربع الدية . قال ابن المنذر : وروي عن علي في السمحاق مثل قول زيد ، وروي عن عمر وعثمان أنهما قالا : فيها نصف الموضحة ، وقال الحسن البصري وعمر بن عبد العزيز والنخعي فيها حكومة ; وكذلك قال مالك والشافعي وأحمد ، ولا يختلف العلماء أن الموضحة فيها خمس من الإبل ; على ما في حديث عمرو بن حزم ، وفيه : وفي الموضحة خمس ، وأجمع أهل العلم على أن الموضحة تكون في الرأس والوجه ، واختلفوا في تفضيل موضحة الوجه على موضحة الرأس ; فروي عن أبي بكر وعمر أنهما سواء ، وقال بقولهما جماعة من التابعين ; وبه يقول الشافعي وإسحاق ، وروي عن سعيد بن المسيب تضعيف موضحة الوجه على موضحة الرأس ، وقال أحمد : [ ص: 148 ] موضحة الوجه أحرى أن يزاد فيها ، وقال مالك : المأمومة والمنقلة والموضحة لا تكون إلا في الرأس والوجه ، ولا تكون المأمومة إلا في الرأس خاصة إذا وصل إلى الدماغ ، قال : والموضحة ما تكون في جمجمة الرأس ، وما دونها فهو من العنق ليس فيه موضحة . قال مالك : والأنف ليس من الرأس وليس فيه موضحة ، وكذلك اللحي الأسفل ليس فيه موضحة ، وقد اختلفوا في الموضحة في غير الرأس والوجه ; فقال أشهب وابن القاسم : ليس في موضحة الجسد ومنقلته ومأمومته إلا الاجتهاد ، وليس فيها أرش معلوم . قال ابن المنذر : هذا قول مالك والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق ، وبه نقول . وروي عن عطاء الخراساني أن الموضحة إذا كانت في جسد الإنسان فيها خمس وعشرون دينارا . قال أبو عمر : واتفق مالك والشافعي وأصحابهما أن من شج رجلا مأمومتين أو موضحتين أو ثلاث مأمومات أو موضحات أو أكثر في ضربة واحدة أن فيهن كلهن - وإن انخرقت فصارت واحدة - دية كاملة ، وأما الهاشمة فلا دية فيها عندنا بل حكومة . قال ابن المنذر : ولم أجد في كتب المدنيين ذكر الهاشمة ، بل قد قال مالك فيمن كسر أنف رجل إن كان خطأ ففيه الاجتهاد ، وكان الحسن البصري لا يوقت في الهاشمة شيئا . وقال أبو ثور : إن اختلفوا فيه ففيها حكومة . قال ابن المنذر : النظر يدل على هذا ; إذ لا سنة فيها ولا إجماع ، وقال القاضي أبو الوليد الباجي : فيها ما في الموضحة ; فإن صارت منقلة فخمسة عشر ، وإن صارت مأمومة فثلث الدية . قال ابن المنذر : ووجدنا أكثر من لقيناه وبلغنا عنه من أهل العلم يجعلون في الهاشمة عشرا من الإبل ، وروينا هذا القول عن زيد بن ثابت ; وبه قال قتادة وعبيد الله بن الحسن والشافعي ، وقال الثوري وأصحاب الرأي : فيها ألف درهم ، ومرادهم عشر الدية ، وأما المنقلة فقال ابن المنذر : جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : في المنقلة خمس عشرة من الإبل وأجمع أهل العلم على القول به . قال ابن المنذر : وقال كل من يحفظ عنه من أهل العلم إن المنقلة هي التي تنقل منها العظام ، وقال مالك والشافعي وأحمد وأصحاب الرأي - وهو قول قتادة وابن شبرمة - إن المنقلة لا قود فيها ; وروينا عن ابن الزبير - وليس بثابت عنه - أنه أقاد من المنقلة . قال ابن المنذر : والأول أولى ; لأني لا أعلم أحدا خالف في ذلك وأما المأمومة فقال ابن المنذر : جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : في المأمومة ثلث الدية ، وأجمع عوام أهل العلم على القول به ، ولا نعلم أحدا خالف ذلك إلا مكحولا فإنه قال : إذا كانت المأمومة عمدا ففيها ثلثا الدية ، وإذا كانت خطأ ففيها ثلث الدية ; وهذا قول شاذ ، وبالقول الأول أقول . واختلفوا في القود من المأمومة ; فقال كثير من أهل العلم : لا قود فيها ; وروي عن ابن الزبير أنه أقص من المأمومة ، فأنكر ذلك الناس ، وقال عطاء : ما علمنا أحدا أقاد منا قبل ابن الزبير ، وأما الجائفة ففيها ثلث الدية على [ ص: 149 ] حديث عمرو بن حزم ; ولا خلاف في ذلك إلا ما روي عن مكحول أنه قال : إذا كانت عمدا ففيها ثلثا الدية ، وإن كانت خطأ ففيها ثلث الدية ، والجائفة كل ما خرق إلى الجوف ولو مدخل إبرة ; فإن نفذت من جهتين فهي عندهم جائفتان ، وفيها من الدية الثلثان . قال أشهب : وقد قضى أبو بكر الصديق رضي الله عنه في جائفة نافذة من الجنب الآخر بدية جائفتين . وقال عطاء ومالك والشافعي وأصحاب الرأي كلهم يقولون : لا قصاص في الجائفة . قال ابن المنذر : وبه نقول .

السادسة والعشرون : واختلفوا في القود من اللطمة وشبهها ; فذكر البخاري عن أبي بكر وعلي وابن الزبير وسويد بن مقرن رضي الله عنهم أنهم أقادوا من اللطمة وشبهها ، وروي عن عثمان وخالد بن الوليد مثل ذلك ; وهو قول الشعبي وجماعة من أهل الحديث ، وقال الليث : إن كانت اللطمة في العين فلا قود فيها ; للخوف على العين ويعاقبه السلطان ، وإن كانت على الخد ففيها القود ، وقالت طائفة : لا قصاص في اللطمة ; روي هذا عن الحسن وقتادة ، وهو قول مالك والكوفيين والشافعي ; واحتج مالك في ذلك فقال : ليس لطمة المريض الضعيف مثل لطمة القوي ، وليس العبد الأسود يلطم مثل الرجل ذي الحالة والهيئة ; وإنما في ذلك كله الاجتهاد لجهلنا بمقدار اللطمة .

السابعة والعشرون : واختلفوا في القود من ضرب السوط ; فقال الليث والحسن : يقاد منه ، ويزاد عليه للتعدي . وقال ابن القاسم : يقاد منه . ولا يقاد منه عند الكوفيين والشافعي إلا أن يجرح ; قال الشافعي إن جرح السوط ففيه حكومة ، وقال ابن المنذر : وما أصيب به من سوط أو عصا أو حجر فكان دون النفس فهو عمد ، وفيه القود ; وهذا قول جماعة من أصحاب الحديث ، وفي البخاري وأقاد عمر من ضربة بالدرة ، وأقاد علي بن أبي طالب من ثلاثة أسواط ، واقتص شريح من سوط وخموش ، وقال ابن بطال : وحديث لد النبي صلى الله عليه وسلم لأهل البيت حجة لمن جعل القود في كل ألم وإن لم يكن جرح .

الثامنة والعشرون : واختلفوا في عقل جراحات النساء ; ففي " الموطأ " عن مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه كان يقول : تعاقل المرأة الرجل إلى ثلث دية الرجل ، إصبعها كإصبعه وسنها كسنه ، وموضحتها كموضحته ، ومنقلتها كمنقلته . قال ابن بكير : [ ص: 150 ] قال مالك : فإذا بلغت ثلث دية الرجل كانت على النصف من دية الرجل . قال ابن المنذر : روينا هذا القول عن عمر وزيد بن ثابت ، وبه قال سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز وعروة بن الزبير والزهري وقتادة وابن هرمز ومالك وأحمد بن حنبل وعبد الملك بن الماجشون ، وقالت طائفة : دية المرأة على النصف من دية الرجل فيما قل أو كثر ; روينا هذا القول عن علي بن أبي طالب ، به قال الثوري والشافعي وأبو ثور والنعمان وصاحباه ; واحتجوا بأنهم لما أجمعوا على الكثير وهو الدية كان القليل مثله ، وبه نقول .

التاسعة والعشرون : قال القاضي عبد الوهاب : وكل ما فيه جمال منفرد عن منفعة أصلا ففيه حكومة ; كالحاجبين وذهاب شعر اللحية وشعر الرأس وثديي الرجل وأليته ، وصفة الحكومة أن يقوم المجني عليه لو كان عبدا سليما ، ثم يقوم مع الجناية فما نقص من ثمنه جعل جزءا من ديته بالغا ما بلغ ، وحكاه ابن المنذر عن كل من يحفظ عنه من أهل العلم ; قال : ويقبل فيه قول رجلين ثقتين من أهل المعرفة ، وقيل : بل يقبل قول عدل واحد ، والله سبحانه أعلم . فهذه جمل من أحكام الجراحات والأعضاء تضمنها معنى هذه الآية ، فيها لمن اقتصر عليها كفاية ، والله الموفق للهداية بمنه وكرمه .

الموفية ثلاثين : قوله تعالى : فمن تصدق به فهو كفارة له شرط وجوابه ; أي : تصدق بالقصاص فعفا فهو كفارة له ، أي : لذلك المتصدق ، وقيل : هو كفارة للجارح فلا يؤاخذ بجنايته في الآخرة ; لأنه يقوم مقام أخذ الحق منه ، وأجر المتصدق عليه . وقد ذكر ابن عباس القولين ; وعلى الأول أكثر الصحابة ومن بعدهم ، وروي الثاني عن ابن عباس ومجاهد ، وعن إبراهيم النخعي والشعبي بخلاف عنهما ; والأول أظهر لأن العائد فيه يرجع إلى مذكور ، وهو " من " ، وعن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم : ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيهبه إلا رفعه الله به درجة وحط عنه به خطيئة . قال ابن العربي : والذي يقول إنه إذا عفا عنه المجروح عفا الله عنه لم يقم عليه دليل ; فلا معنى له .
قوله : وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون

[ ص: 151 ] قوله تعالى : وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم أي : جعلنا عيسى يقفو آثارهم ، أي : آثار النبيين الذين أسلموا . مصدقا لما بين يديه يعني التوراة ; فإنه رأى التوراة حقا ، ورأى وجوب العمل بها إلى أن يأتي ناسخ . ( مصدقا ) نصب على الحال منعيسى . فيه هدى في موضع رفع بالابتداء . ونور عطف عليه . ومصدقا فيه وجهان ; يجوز أن يكون لعيسى وتعطفه على ( مصدقا ) الأول ، ويجوز أن يكون حالا من الإنجيل ، ويكون التقدير : وآتيناه الإنجيل مستقرا فيه هدى ونور ومصدقا . وهدى وموعظة عطف على مصدقا أي : هاديا وواعظا للمتقين وخصهم لأنهم المنتفعون بهما ، ويجوز رفعهما على العطف على قوله : فيه هدى ونور .

قوله تعالى : وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه قرأ الأعمش وحمزة بنصب الفعل على أن تكون اللام لام كي ، والباقون بالجزم على الأمر ; فعلى الأول تكون اللام متعلقة بقوله : وآتيناه فلا يجوز الوقف ; أي : وآتيناه الإنجيل ليحكم أهله بما أنزل الله فيه ، ومن قرأه على الأمر فهو كقوله : وأن احكم بينهم فهو إلزام مستأنف يبتدأ به ، أي : ليحكم أهل الإنجيل أي : في ذلك الوقت ، فأما الآن فهو منسوخ ، وقيل : هذا أمر للنصارى الآن بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ; فإن في الإنجيل وجوب الإيمان به ، والنسخ إنما يتصور في الفروع لا في الأصول . قالمكي : والاختيار الجزم ; لأن الجماعة عليه ; ولأن ما بعده من الوعيد والتهديد يدل على أنه إلزام من الله تعالى لأهل الإنجيل . قال النحاس : والصواب عندي أنهما قراءتان حسنتان ; لأن الله عز وجل لم ينزل كتابا إلا ليعمل بما فيه ، وأمر بالعمل بما فيه ; فصحتا جميعا .
قوله : وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون

[ ص: 152 ] قوله تعالى : وأنزلنا إليك الكتاب الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم . و ( الكتاب ) القرآن ( بالحق ) أي : هو بالأمر الحق ( مصدقا ) حال لما بين يديه من الكتاب أي : من جنس الكتب . و ( مهيمنا عليه ) أي : عاليا عليه ومرتفعا ، وهذا يدل على تأويل من يقول بالتفضيل أي : في كثرة الثواب ، على ما تقدمت إليه الإشارة في " الفاتحة " وهو اختيار ابن الحصار في كتاب شرح السنة له ، وقد ذكرنا ما ذكره في كتابنا في شرح الأسماء الحسنى ، والحمد لله ، وقال قتادة : المهيمن معناه الشاهد ، وقيل : الحافظ ، وقال الحسن : المصدق ; ومنه قول الشاعر :


إن الكتاب مهيمن لنبينا والحق يعرفه ذوو الألباب
وقال ابن عباس : ومهيمنا عليه أي : مؤتمنا عليه . قال سعيد بن جبير : القرآن مؤتمن على ما قبله من الكتب ، وعن ابن عباس والحسن أيضا : المهيمن الأمين . قال المبرد : أصله مؤيمن أبدل من الهمزة هاء ; كما قيل في أرقت الماء هرقت ، وقاله الزجاج أيضا وأبو علي ، وقد صرف فقيل : هيمن يهيمن هيمنة ، وهو مهيمن بمعنى كان أمينا . الجوهري : هو من آمن غيره من الخوف ; وأصله أأمن فهو مؤأمن بهمزتين ، قلبت الهمزة الثانية ياء كراهة لاجتماعهما فصار مؤيمن ، ثم صيرت الأولى هاء كما قالوا : هراق الماء وأراقه ; يقال منه : هيمن على الشيء يهيمن إذا كان له حافظا ، فهو مهيمن ; عن أبي عبيد ، وقرأ مجاهد وابن محيصن : " ومهيمنا عليه " بفتح الميم . قال مجاهد : أي : محمد صلى الله عليه وسلم مؤتمن على القرآن .

قوله تعالى : فاحكم بينهم بما أنزل الله يوجب الحكم ; فقيل : هذا نسخ للتخيير في قوله : فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وقيل : ليس هذا وجوبا ، والمعنى : فاحكم بينهم إن شئت ; إذ لا يجب علينا الحكم بينهم إذا لم يكونوا من أهل الذمة ، وفي أهل الذمة تردد وقد مضى الكلام فيه ، وقيل : أراد فاحكم بين الخلق ; فهذا كان واجبا عليه .

قوله تعالى : ولا تتبع أهواءهم فيه مسألتان :

الأولى : قوله تعالى : ولا تتبع أهواءهم يعني لا تعمل بأهوائهم ومرادهم على ما [ ص: 153 ] جاءك من الحق ; يعني لا تترك الحكم بما بين الله تعالى من القرآن من بيان الحق وبيان الأحكام . والأهواء جمع هوى ; ولا يجمع أهوية ; وقد تقدم في " البقرة " . فنهاه عن أن يتبعهم فيما يريدونه ; وهو يدل على بطلان قول من قال : تقوم الخمر على من أتلفها عليهم ; لأنها ليست مالا لهم فتكون مضمونة على متلفها ; لأن إيجاب ضمانها على متلفها حكم بموجب أهواء اليهود ; وقد أمرنا بخلاف ذلك . ومعنى عما جاءك على ما جاءك . لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا يدل على عدم التعلق بشرائع الأولين . والشرعة والشريعة الطريقة الظاهرة التي يتوصل بها إلى النجاة ، والشريعة في اللغة : الطريق الذي يتوصل منه إلى الماء ، والشريعة ما شرع الله لعباده من الدين ; وقد شرع لهم يشرع شرعا أي : سن ، والشارع الطريق الأعظم ، والشرعة أيضا الوتر ، والجمع شرع وشراع جمع الجمع ; عن أبي عبيد ; فهو مشترك ، والمنهاج الطريق المستمر ، وهو النهج والمنهج ، أي البين ; قال الراجز :


من يك ذا شك فهذا فلج ماء رواء وطريق نهج
وقال أبو العباس محمد بن يزيد : الشريعة ابتداء الطريق ; المنهاج الطريق المستمر ، وروي عن ابن عباس والحسن وغيرهما شرعة ومنهاجا سنة وسبيلا ، ومعنى الآية أنه جعل التوراة لأهلها ; والإنجيل لأهله ; والقرآن لأهله ; وهذا في الشرائع والعبادات ; والأصل التوحيد لا اختلاف فيه ; روي معنى ذلك عن قتادة ، وقال مجاهد : الشرعة والمنهاج دين محمد عليه السلام ; وقد نسخ به كل ما سواه .

قوله تعالى : ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة أي : لجعل شريعتكم واحدة فكنتم على الحق ; فبين أنه أراد بالاختلاف إيمان قوم وكفر قوم . ولكن ليبلوكم في ما آتاكم في الكلام حذف تتعلق به لام كي ; أي : ولكن جعل شرائعكم مختلفة ليختبركم ; والابتلاء الاختبار .

قوله تعالى : فاستبقوا الخيرات أي : سارعوا إلى الطاعات ; وهذا يدل على أن تقديم الواجبات أفضل من تأخيرها ، وذلك لا اختلاف فيه في العبادات كلها إلا في الصلاة في أول الوقت ; فإن أبا حنيفة يرى أن الأولى تأخيرها ، وعموم الآية دليل عليه ; قاله إلكيا ، وفيه دليل على أن الصوم في السفر أولى من الفطر ، وقد تقدم جميع هذا في " البقرة " . إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون أي : بما اختلفتم فيه ، وتزول الشكوك .
قوله تعالى : وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون

[ ص: 154 ] قوله تعالى : وأن احكم بينهم بما أنزل الله تقدم الكلام فيها ، وأنها ناسخة للتخيير . قال ابن العربي : وهذه دعوى عريضة ; فإن شروط النسخ أربعة : منها معرفة التاريخ بتحصيل المتقدم والمتأخر ، وهذا مجهول من هاتين الآيتين ; فامتنع أن يدعى أن واحدة منهما ناسخة للأخرى ، وبقي الأمر على حاله .

قلت : قد ذكرنا عن أبي جعفر النحاس أن هذه الآية متأخرة في النزول ; فتكون ناسخة إلا أن يقدر في الكلام وأن احكم بينهم بما أنزل الله إن شئت ; لأنه قد تقدم ذكر التخيير له ، فآخر الكلام حذف التخيير منه لدلالة الأول عليه ; لأنه معطوف عليه ، فحكم التخيير كحكم المعطوف عليه ، فهما شريكان وليس الآخر بمنقطع مما قبله ; إذ لا معنى لذلك ولا يصح ، فلا بد من أن يكون قوله : وأن احكم بينهم بما أنزل الله معطوفا على ما قبله من قوله : وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط ومن قوله : فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم فمعنى وأن احكم بينهم بما أنزل الله أي احكم بذلك إن حكمت واخترت الحكم ; فهو كله محكم غير منسوخ ، لأن الناسخ لا يكون مرتبطا بالمنسوخ معطوفا عليه ، فالتخيير للنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك محكم غير منسوخ ، قاله مكي رحمه الله . وأن احكم في موضع نصب عطفا على الكتاب ; أي : وأنزلنا إليك أن احكم بينهم بما أنزل الله ، أي : بحكم الله الذي أنزله إليك في كتابه . ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك أن بدل من الهاء والميم في واحذرهم وهو بدل اشتمال . أو مفعول من أجله ; أي : من أجل أن يفتنوك ، وعن ابن إسحاق قال ابن عباس : اجتمع قوم من الأحبار منهم ابن صوريا وكعب بن أسد وابن صلوبا وشأس بن عدي وقالوا : اذهبوا بنا إلى محمد فلعلنا نفتنه عن دينه فإنما هو بشر ; فأتوه فقالوا : قد عرفت يا محمد أنا أحبار اليهود ، وإن اتبعناك لم يخالفنا أحد من اليهود ، وإن بيننا وبين قوم خصومة فنحاكمهم إليك ، فاقض لنا عليهم حتى نؤمن بك ; فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية ، وأصل الفتنة الاختبار حسبما تقدم ، ثم يختلف معناها ; فقوله تعالى هنا يفتنوك معناه يصدوك ويردوك ; وتكون الفتنة بمعنى الشرك ; ومنه قوله : والفتنة أكبر من القتل




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 10-05-2024, 10:45 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,025
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (6)
سُورَةُ الْأَنْعَامِ
من صــ 307 الى صــ 313
الحلقة (301)



قوله تعالى : ليجمعنكم اللام لام القسم ، والنون نون التأكيد . وقال الفراء وغيره : يجوز أن يكون تمام الكلام عند قوله : الرحمة ويكون ما بعده مستأنفا على جهة التبيين ; فيكون معنى ليجمعنكم ليمهلنكم وليؤخرن جمعكم . وقيل : المعنى ليجمعنكم أي : في القبور إلى اليوم الذي أنكرتموه . وقيل : إلى بمعنى في ، أي : ليجمعنكم في يوم القيامة . [ ص: 307 ] وقيل : يجوز أن يكون موضع ليجمعنكم نصبا على البدل من الرحمة ; فتكون اللام بمعنى ( أن ) المعنى : كتب ربكم على نفسه ليجمعنكم ، أي : أن يجمعكم ; وكذلك قال كثير من النحويين في قوله تعالى : ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه أي : أن يسجنوه . وقيل : موضعه نصب ب كتب ; كما تكون ( أن ) في قوله عز وجل كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة وذلك أنه مفسر للرحمة بالإمهال إلى يوم القيامة ; عن الزجاج . لا ريب فيه لا شك فيه . الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون ابتداء وخبر ، قاله الزجاج ، وهو أجود ما قيل فيه ; تقول : الذي يكرمني فله درهم ، فالفاء تتضمن معنى الشرط والجزاء . وقال الأخفش : إن شئت كان الذين في موضع نصب على البدل من الكاف والميم في ليجمعنكم أي : ليجمعن المشركين الذين خسروا أنفسهم ; وأنكره المبرد وزعم أنه خطأ ; لأنه لا يبدل من المخاطب ولا من المخاطب ، لا يقال : مررت بك زيد ولا مررت بي زيد لأن هذا لا يشكل فيبين . قال القتبي : يجوز أن يكون الذين جزاء على البدل من المكذبين الذين تقدم ذكرهم . أو على النعت لهم . وقيل : الذين نداء مفرد .

قوله تعالى : وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين

قوله تعالى : وله ما سكن في الليل والنهار أي : ثبت ، وهذا احتجاج عليهم أيضا . وقيل : نزلت الآية لأنهم قالوا : علمنا أنه ما يحملك على ما تفعل إلا الحاجة ، فنحن نجمع لك من أموالنا حتى تصير أغنانا ; فقال الله تعالى : أخبرهم أن جميع الأشياء لله ، فهو قادر على أن يغنيني . و ( سكن ) معناه هدأ واستقر ; والمراد ما سكن وما تحرك ، فحذف لعلم السامع . وقيل : خص الساكن بالذكر لأن ما يعمه السكون أكثر مما تعمه الحركة . وقيل المعنى ما [ ص: 308 ] خلق ، فهو عام في جميع المخلوقات متحركها وساكنها ، فإنه يجري عليه الليل والنهار ; وعلى هذا فليس المراد بالسكون ضد الحركة بل المراد الخلق ، وهذا أحسن ما قيل ; لأنه يجمع شتات الأقوال . وهو السميع لأصواتهم العليم بأسرارهم .

قوله تعالى : قل أغير الله أتخذ وليا مفعولان ; لما دعوه إلى عبادة الأصنام دين آبائه أنزل الله تعالى قل يا محمد : أغير الله أتخذ وليا أي : ربا ومعبودا وناصرا دون الله . فاطر السماوات والأرض بالخفض على النعت لاسم الله ; وأجاز الأخفش الرفع على إضمار مبتدأ . وقال الزجاج : ويجوز النصب على المدح . أبو علي الفارسي : ويجوز نصبه على فعل مضمر كأنه قال : أترك فاطر السماوات والأرض ؟ لأن قوله : أغير الله أتخذ وليا يدل على ترك الولاية له ، وحسن إضماره لقوة هذه الدلالة . وهو يطعم ولا يطعم كذا قراءة العامة ، أي : يرزق ولا يرزق ; دليله على قوله تعالى : ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون وقرأ سعيد بن جبير ومجاهد والأعمش : وهو يطعم ولا يطعم ، وهي قراءة حسنة ; أي : أنه يرزق عباده ، وهو سبحانه غير محتاج إلى ما يحتاج إليه المخلوقون من الغذاء . وقرئ بضم الياء وكسر العين في الفعلين ، أي : إن الله يطعم عباده ويرزقهم والولي لا يطعم نفسه ولا من يتخذه . وقرئ بفتح الياء والعين في الأول أي : الولي ( ولا يطعم ) بضم الياء وكسر العين . وخص الإطعام بالذكر دون غيره من ضروب الإنعام ; لأن الحاجة إليه أمس لجميع الأنام . قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم أي استسلم لأمر الله تعالى . وقيل : أول من أخلص أي : من قومي وأمتي ; عن الحسن وغيره . ولا تكونن من المشركين أي : وقيل لي : ولا تكونن من المشركين . قل إني أخاف إن عصيت ربي أي : بعبادة غيره أن يعذبني ، والخوف توقع المكروه . قال ابن عباس : أخاف هنا بمعنى أعلم . من يصرف عنه أي العذاب ( يومئذ ) يوم القيامة فقد رحمه أي : فاز ونجا ورحم .

وقرأ الكوفيون " من يصرف " بفتح الياء وكسر الراء ، وهو اختيار أبي حاتم وأبي عبيد ; لقوله : قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله ولقوله : فقد رحمه ولم يقل رحم على المجهول ، ولقراءة أبي " من يصرفه الله عنه " واختار سيبويه القراءة الأولى - قراءة أهل المدينة وأبي عمرو - قال سيبويه : وكلما قل الإضمار في الكلام كان أولى ; فأما قراءة من قرأ " من يصرف " بفتح الياء فتقديره : من يصرف الله عنه العذاب ، وإذا قرئ ( من يصرف عنه ) فتقديره : من يصرف عنه العذاب . وذلك الفوز المبين أي النجاة البينة .

[ ص: 309 ] قوله تعالى : وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير

قوله تعالى : وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو المس والكشف من صفات الأجسام ، وهو هنا مجاز وتوسع ; والمعنى : إن تنزل بك يا محمد شدة من فقر أو مرض فلا رافع وصارف له إلا هو ، وإن يصبك بعافية ورخاء ونعمة فهو على كل شيء قدير من الخير والضر روى ابن عباس قال : كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي : يا غلام - أو يا بني - ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن ؟ فقلت : بلى ; فقال : احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده أمامك تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله فقد جف القلم بما هو كائن فلو أن الخلق كلهم جميعا أرادوا أن يضروك بشيء لم يقضه الله لك لم يقدروا عليه واعمل لله بالشكر واليقين واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا وأن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا أخرجه أبو بكر بن ثابت الخطيب في كتاب ( الفصل والوصل ) وهو حديث صحيح ; وقد خرجه الترمذي ، وهذا أتم .

قوله تعالى : وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون

قوله تعالى : وهو القاهر فوق عباده القهر الغلبة ، والقاهر الغالب ، وأقهر الرجل إذا صير بحال المقهور الذليل ; قال الشاعر :


تمنى حصين أن يسود جذاعه فأمسى حصين قد أذل وأقهرا
وقهر غلب . ومعنى فوق عباده فوقية الاستعلاء بالقهر والغلبة عليهم ; أي : هم تحت [ ص: 310 ] تسخيره لا فوقية مكان ; كما تقول : السلطان فوق رعيته أي : بالمنزلة والرفعة . وفي القهر معنى زائد ليس في القدرة ، وهو منع غيره عن بلوغ المراد . وهو الحكيم في أمره الخبير بأعمال عباده ، أي : من اتصف بهذه الصفات يجب ألا يشرك به .

قوله تعالى : قل أي شيء أكبر شهادة وذلك أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : من يشهد لك بأنك رسول الله فنزلت الآية ; عن الحسن وغيره . ولفظ شيء هنا واقع موقع اسم الله تعالى ; المعنى الله أكبر شهادة أي انفراده بالربوبية ، وقيام البراهين على توحيده أكبر شهادة وأعظم ; فهو شهيد بيني وبينكم على أني قد بلغتكم وصدقت فيما قلته وادعيته من الرسالة . وأوحي إلي هذا القرآن أي : والقرآن شاهد بنبوتي . لأنذركم به يا أهل مكة . ومن بلغ أي : ومن بلغه القرآن . فحذف ( الهاء ) لطول الكلام . وقيل : ومن بلغ الحلم . ودل بهذا على أن من لم يبلغ الحلم ليس بمخاطب ولا متعبد . وتبليغ القرآن والسنة مأمور بهما ، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتبليغهما ; فقال : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك . وفي صحيح البخاري ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار . وفي الخبر أيضا ; من بلغته آية من كتاب الله فقد بلغه أمر الله أخذ به أو تركه . وقال مقاتل : من بلغه القرآن من الجن والإنس فهو نذير له . وقال القرظي : من بلغه القرآن فكأنما قد رأى محمدا صلى الله عليه وسلم وسمع منه . وقرأ أبو نهيك : ( وأوحي إلي هذا القرآن ) مسمى الفاعل ; وهو معنى قراءة الجماعة . أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى استفهام توبيخ وتقريع . وقرئ ( أئنكم ) بهمزتين على الأصل . وإن خففت الثانية قلت : ( أينكم ) . وروى الأصمعي عن أبي عمرو ونافع ( آئنكم ) ; وهذه لغة معروفة ، تجعل بين الهمزتين ألف ، كراهة لالتقائهما ; قال الشاعر ( ذو الرمة ) :
أيا ظبية الوعساء بين جلاجل وبين النقا آأنت أم أم سالم
ومن قرأ " إنكم " على الخبر فعلى أنه قد حقق عليهم شركهم . وقال : آلهة أخرى ولم يقل : ( أخر ) ; قال الفراء : لأن الآلهة جمع والجمع يقع عليه التأنيث ; ومنه قوله : [ ص: 311 ] ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ، وقوله : فما بال القرون الأولى ولو قال : الأول والآخر صح أيضا . قل لا أشهد أي : فأنا لا أشهد معكم فحذف لدلالة الكلام عليه ، ونظيره فإن شهدوا فلا تشهد معهم .

قوله تعالى : الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون

قوله تعالى : الذين آتيناهم الكتاب . يريد اليهود والنصارى الذين عرفوا وعاندوا ، وقد تقدم معناه في البقرة ، و ( الذين ) في موضع رفع بالابتداء . يعرفونه في موضع الخبر ; أي : يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم ; عن الحسن وقتادة ، وهو قول الزجاج . وقيل : يعود على الكتاب ، أي : يعرفونه على ما يدل عليه ، أي : على الصفة التي هو بها من دلالته على صحة أمر النبي صلى الله عليه وسلم وآله . الذين خسروا أنفسهم في موضع النعت ; ويجوز أن يكون مبتدأ وخبره فهم لا يؤمنون .

قوله تعالى : ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون

قوله تعالى : ومن أظلم ابتداء وخبر ، أي : لا أحد أظلم ممن افترى أي اختلق على الله كذبا أو كذب بآياته يريد القرآن والمعجزات . إنه لا يفلح الظالمون قيل : معناه في الدنيا . ويوم نحشرهم جميعا ثم استأنف فقال ويوم نحشرهم جميعا على معنى واذكر ( يوم نحشرهم ) وقيل : معناه أنه لا يفلح الظالمون في الدنيا ولا يوم نحشرهم ; فلا يوقف على هذا التقدير على قوله : الظالمون لأنه متصل . وقيل : هو متعلق بما بعده وهو ( انظر ) أي انظر كيف كذبوا يوم نحشرهم ; أي : كيف يكذبون يوم نحشرهم ؟ . ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم سؤال إفضاح لا إفصاح . الذين كنتم تزعمون أي : في أنهم شفعاء لكم عند الله [ ص: 312 ] بزعمكم ، وأنها تقربكم منه زلفى ; وهذا توبيخ لهم . قال ابن عباس : كل زعم في القرآن فهو كذب .

قوله تعالى : ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين

قوله تعالى : ثم لم تكن فتنتهم الفتنة الاختبار أي : لم يكن جوابهم حين اختبروا بهذا السؤال ، ورأوا الحقائق ، وارتفعت الدواعي . إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين تبرءوا من الشرك وانتفوا منه لما رأوا من تجاوزه ومغفرته للمؤمنين . قال ابن عباس : يغفر الله تعالى لأهل الإخلاص ذنوبهم ، ولا يتعاظم عليه ذنب أن يغفره ، فإذا رأى المشركون ذلك ; قالوا إن ربنا يغفر الذنوب ولا يغفر الشرك ، فتعالوا نقول إنا كنا أهل ذنوب ولم نكن مشركين ; فقال الله تعالى : أما إذ كتموا الشرك فاختموا على أفواههم ، فيختم على أفواههم ، فتنطق أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون ، فعند ذلك يعرف المشركون أن الله لا يكتم حديثا ; فذلك قوله : يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا . وقال أبو إسحاق الزجاج : تأويل هذه الآية لطيف جدا ، أخبر الله عز وجل بقصص المشركين وافتتانهم بشركهم ، ثم أخبر أن فتنتهم لم تكن حين رأوا الحقائق إلا أن انتفوا من الشرك ، ونظير هذا في اللغة أن ترى إنسانا يحب غاويا فإذا وقع في هلكة تبرأ منه ، فيقال : ما كانت محبتك إياه إلا أن تبرأت منه . وقال الحسن : هذا خاص بالمنافقين جروا على عادتهم في الدنيا ، ومعنى ( فتنتهم ) عاقبة فتنتهم أي : كفرهم . وقال قتادة : معناه معذرتهم . وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال : ( فيلقى العبد فيقول أي : قل ألم أكرمك وأسودك ( وأزوجك ) وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع فيقول بلى أي : رب : فيقول أفظننت أنك ملاقي فيقول لا ، فيقول إني أنساك كما نسيتني . ثم يلقى الثاني فيقول له ويقول هو مثل ذلك بعينه ، ثم يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك فيقول يا رب آمنت بك وبكتابك وبرسولك وصليت وصمت وتصدقت ويثني بخير ما استطاع قال : فيقال هاهنا إذا ثم يقال له الآن نبعث شاهدا عليك ويتفكر في نفسه من ذا الذي يشهد علي فيختم على فيه ، ويقال لفخذه ولحمه وعظامه انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله وذلك ليعذر من نفسه وذلك المنافق وذلك الذي سخط الله عليه ) .

قوله تعالى : انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون

[ ص: 313 ] قوله تعالى : انظر كيف كذبوا على أنفسهم كذب المشركين قولهم : إن عبادة الأصنام تقربنا إلى الله زلفى ، بل ظنوا ذلك وظنهم الخطأ لا يعذرهم ولا يزيل اسم الكذب عنهم ، وكذب المنافقين باعتذارهم بالباطل ، وجحدهم نفاقهم . وضل عنهم ما كانوا يفترون أي : فانظر كيف ضل عنهم افتراؤهم أي : تلاشى وبطل ما كانوا يظنونه من شفاعة آلهتهم . وقيل : وضل عنهم ما كانوا يفترون أي : فارقهم ما كانوا يعبدون من دون الله فلم يغن عنهم شيئا ; عن الحسن . وقيل : المعنى عزب عنهم افتراؤهم لدهشهم ، وذهول عقولهم . والنظر في قوله : انظر يراد به نظر الاعتبار ; ثم قيل : كذبوا بمعنى يكذبون ، فعبر عن المستقبل بالماضي ; وجاز أن يكذبوا في الآخرة لأنه موضع دهش وحيرة وذهول عقل . وقيل : لا يجوز أن يقع منهم كذب في الآخرة ; لأنها دار جزاء على ما كان في الدنيا - وعلى ذلك أكثر أهل النظر - وإنما ذلك في الدنيا ; فمعنى والله ربنا ما كنا مشركين على هذا : ما كنا مشركين عند أنفسنا ; وعلى جواز أن يكذبوا في الآخرة يعارضه قوله : ولا يكتمون الله حديثا ; ولا معارضة ولا تناقض ; لا يكتمون الله حديثا في بعض المواطن إذا شهدت عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بعملهم ، ويكذبون على أنفسهم في بعض المواطن قبل شهادة الجوارح على ما تقدم . والله أعلم . وقال سعيد بن جبير في قوله تعالى : والله ربنا ما كنا مشركين قال : اعتذروا وحلفوا ; وكذلك قال ابن أبي نجيح وقتادة : وروي عن مجاهد أنه قال : لما رأوا أن الذنوب تغفر إلا الشرك بالله والناس يخرجون من النار قالوا : والله ربنا ما كنا مشركين وقيل : والله ربنا ما كنا مشركين أي : علمنا أن الأحجار لا تضر ولا تنفع ، وهذا وإن كان صحيحا من القول فقد صدقوا ولم يكتموا ، ولكن لا يعذرون بهذا ; فإن المعاند كافر غير معذور . ثم قيل في قوله : ثم لم تكن فتنتهم خمس قراءات : قرأ حمزة والكسائي " يكن " بالياء " فتنتهم " بالنصب خبر " يكن " إلا أن قالوا اسمها أي إلا قولهم ; فهذه قراءة بينة . وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو " تكن " بالتاء " فتنتهم " بالنصب إلا أن قالوا أي إلا مقالتهم . وقرأ أبي وابن مسعود وما كان - بدل قوله ( ثم لم تكن - فتنتهم ) . إلا أن قالوا وقرأ ابن عامر وعاصم من رواية حفص ، والأعمش من رواية المفضل ، والحسن وقتادة وغيرهم ( ثم لم تكن ) بالتاء ( فتنتهم ) بالرفع اسم " تكن " والخبر إلا أن قالوا فهذه أربع قراءات . الخامسة : ( ثم لم يكن ) بالياء ( فتنتهم ) ; رفع ويذكر الفتنة لأنها [ ص: 314 ] بمعنى الفتون ، ومثله فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى . ( والله ) الواو واو القسم ( ربنا ) نعت لله عز وجل ، أو بدل . ومن نصب فعلى النداء أي : يا ربنا وهي قراءة حسنة ; لأن فيها معنى الاستكانة والتضرع ، إلا أنه فصل بين القسم وجوابه بالمنادى .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 30-06-2024, 07:35 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,025
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (7)
سُورَةُ الْأَنْعَامِ
من صــ 38 الى صــ 45
الحلقة (311)




قال أبو عمر : وأسلم [ ص: 38 ] عبد الله بن سعد بن أبي سرح أيام الفتح فحسن إسلامه ، ولم يظهر منه ما ينكر عليه بعد ذلك . وهو أحد النجباء العقلاء الكرماء منقريش ، وفارس بني عامر بن لؤي المعدود فيهم ، ثم ولاه عثمان بعد ذلك مصر سنة خمس وعشرين . وفتح على يديه إفريقية سنة سبع وعشرين ، وغزا منها الأساود من أرض النوبة سنة إحدى وثلاثين ، وهو هادنهم الهدنة الباقية إلى اليوم . وغزا الصواري من أرض الروم سنة أربع وثلاثين ; فلما رجع من وفاداته منعه ابن أبي حذيفة من دخول الفسطاط ، فمضى إلى عسقلان ، فأقام فيها حتى قتل عثمان رضي الله عنه . وقيل : بل أقام بالرملة حتى مات فارا من الفتنة . ودعا ربه فقال : اللهم اجعل خاتمة عملي صلاة الصبح ; فتوضأ ثم صلى فقرأ في الركعة الأولى بأم القرآن والعاديات ، وفي الثانية بأم القرآن وسورة ، ثم سلم عن يمينه ، ثم ذهب يسلم عن يساره فقبض الله روحه . ذكر ذلك كله يزيد بن أبي حبيب وغيره . ولم يبايع لعلي ولا لمعاوية رضي الله عنهما . وكانت وفاته قبل اجتماع الناس على معاوية . وقيل : إنه توفي بإفريقية . والصحيح أنه توفي بعسقلان سنة ست أو سبع وثلاثين . وقيل : سنة ست وثلاثين . وروى حفص بن عمر عن الحكم بن أبان عن عكرمة أن هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث ; لأنه عارض القرآن فقال : والطاحنات طحنا . والعاجنات عجنا . فالخابزات خبزا . فاللاقمات لقما .

قوله تعالى ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت أي شدائده وسكراته . والغمرة الشدة ; وأصلها الشيء الذي يغمر الأشياء فيغطيها . ومنه غمره الماء . ثم وضعت في معنى الشدائد والمكاره . ومنه غمرات الحرب . قال الجوهري : والغمرة الشدة ، والجمع غمر مثل نوبة ونوب . قال القطامي يصف سفينة نوح عليه السلام :
وحان لتالك الغمر انحسار
وغمرات الموت شدائده .

والملائكة باسطو أيديهم ابتداء وخبر . والأصل [ ص: 39 ] باسطون . قيل : بالعذاب ومطارق الحديد ; عن الحسن والضحاك . وقيل : لقبض أرواحهم ; وفي التنزيل : ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم فجمعت هذه الآية القولين . يقال : بسط إليه يده بالمكروه .

أخرجوا أنفسكم أي خلصوها من العذاب إن أمكنكم ، وهو توبيخ . وقيل : أخرجوها كرها ; لأن روح المؤمن تنشط للخروج للقاء ربه ، وروح الكافر تنتزع انتزاعا شديدا ، ويقال : أيتها النفس الخبيثة اخرجي ساخطة مسخوطا عليك إلى عذاب الله وهوانه ; كذا جاء في حديث أبي هريرة وغيره . وقد أتينا عليه في كتاب " التذكرة " والحمد لله . وقيل : هو بمنزلة قول القائل لمن يعذبه : لأذيقنك العذاب ولأخرجن نفسك ; وذلك لأنهم لا يخرجون أنفسهم بل يقبضها ملك الموت وأعوانه . وقيل : يقال هذا للكفار وهم في النار . والجواب محذوف لعظم الأمر ; أي ولو رأيت الظالمين في هذه الحال لرأيت عذابا عظيما . والهون والهوان سواء .

تستكبرون أي تتعظمون وتأنفون عن قبول آياته .

قوله تعالى ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون

قوله تعالى ولقد جئتمونا فرادى هذه عبارة عن الحشر وفرادى في موضع نصب على الحال ، ولم ينصرف لأن فيه ألف تأنيث . وقرأ أبو حيوة " فرادا " بالتنوين وهي لغة تميم ، ولا يقولون في موضع الرفع فراد . وحكى أحمد بن يحيى " فراد " بلا تنوين ، قال : مثل ثلاث ورباع . وفرادى جمع فردان كسكارى جمع سكران ، وكسالى جمع كسلان . وقيل : واحده " فرد " بجزم الراء ، و " فرد " بكسرها ، و " فرد " بفتحها ، و " فريد " . والمعنى : جئتمونا واحدا واحدا ، كل واحد منكم منفردا بلا أهل ولا مال ولا ولد ولا ناصر ممن كان يصاحبكم في الغي ، ولم ينفعكم ما عبدتم من دون الله . وقرأ الأعرج " فردى " مثل سكرى وكسلى بغير ألف .

كما خلقناكم أول مرة أي منفردين كما خلقتم . وقيل : عراة كما خرجتم من بطون أمهاتكم حفاة غرلا بهما ليس معهم شيء . وقال العلماء : يحشر العبد غدا وله من [ ص: 40 ] الأعضاء ما كان له يوم ولد ; فمن قطع منه عضو يرد في القيامة عليه . وهذا معنى قوله : " غرلا " أي غير مختونين ، أي يرد عليهم ما قطع منهم عند الختان .

قوله تعالى : وتركتم ما خولناكم أي أعطيناكم وملكناكم . والخول : ما أعطاه الله للإنسان من العبيد والنعم .

وراء ظهوركم أي خلفكم .

وما نرى معكم شفعاءكم أي الذين عبدتموهم وجعلتموهم شركاء يريد الأصنام أي شركائي . وكان المشركون يقولون : الأصنام شركاء الله وشفعاؤنا عنده .

لقد تقطع بينكم قرأ نافع والكسائي وحفص بالنصب على الظرف ، على معنى لقد تقطع وصلكم بينكم . ودل على حذف الوصل قوله وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم . فدل هذا على التقاطع والتهاجر بينهم وبين شركائهم : إذ تبرءوا منهم ولم يكونوا معهم . ومقاطعتهم لهم هو تركهم وصلهم لهم ; فحسن إضمار الوصل بعد تقطع لدلالة الكلام عليه . وفي حرف ابن مسعود ما يدل على النصب فيه " لقد تقطع ما بينكم " وهذا لا يجوز فيه إلا النصب ، لأنك ذكرت المتقطع وهو " ما " . كأنه قال : لقد تقطع الوصل بينكم . وقيل : المعنى لقد تقطع الأمر بينكم . والمعنى متقارب . وقرأ الباقون " بينكم " بالرفع على أنه اسم غير ظرف ، فأسند الفعل إليه فرفع . ويقوي جعل " بين " اسما من جهة دخول حرف الجر عليه في قوله تعالى : ومن بيننا وبينك حجاب و هذا فراق بيني وبينك . ويجوز أن تكون قراءة النصب على معنى الرفع ، وإنما نصب لكثرة استعماله ظرفا منصوبا وهو في موضع رفع ، وهو مذهب الأخفش ; فالقراءتان على هذا بمعنى واحد ، فاقرأ بأيهما شئت .

وضل عنكم أي ذهب .

ما كنتم تزعمون أي تكذبون به في الدنيا . روي أن الآية نزلت في النضر بن الحارث . وروي أن عائشة رضي الله عنها قرأت قول الله تعالى : ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة فقالت : يا رسول الله ، واسوءتاه ! إن الرجال والنساء يحشرون جميعا ، ينظر بعضهم إلى سوءة بعض ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال شغل بعضهم عن بعض . وهذا حديث ثابت في الصحيح أخرجه مسلم بمعناه .

[ ص: 41 ]

قوله تعالى إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون

قوله تعالى إن الله فالق الحب والنوى عد من عجائب صنعه ما يعجز عن أدنى شيء منه آلهتهم . والفلق : الشق ; أي يشق النواة الميتة فيخرج منها ورقا أخضر ، وكذلك الحبة . ويخرج من الورق الأخضر نواة ميتة وحبة ; وهذا معنى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي عن الحسن وقتادة . وقال ابن عباس والضحاك : معنى فالق : خالق . وقال مجاهد : عني بالفلق الشق الذي في الحب وفي النوى . والنوى جمع نواة . ويجري في كل ما له عجم كالمشمش والخوخ .

يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي يخرج البشر الحي من النطفة الميتة ، والنطفة الميتة من البشر الحي ; عن ابن عباس . وقد تقدم قول قتادة والحسن . وقد مضى ذلك في " آل عمران " . وفي صحيح مسلم عن علي : والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إلي أن لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق .

ذلكم الله ابتداء وخبر .

فأنى تؤفكون فمن أين تصرفون عن الحق مع ما ترون من قدرة الله جل وعز .

قوله تعالى فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم

قوله تعالى : فالق الإصباح نعت لاسم الله تعالى ، أي ذلكم الله ربكم فالق الإصباح . وقيل : المعنى أن الله فالق الإصباح . والصبح والصباح أول النهار ، وكذلك الإصباح ; أي فالق الصبح كل يوم ، يريد الفجر . والإصباح مصدر أصبح . والمعنى : شاق الضياء عن الظلام وكاشفه . وقال الضحاك : فالق الإصباح : خالق النهار . وهو معرفة لا يجوز فيه [ ص: 42 ] التنوين عند أحد من النحويين . وقرأ الحسن وعيسى بن عمر " فالق الأصباح " بفتح الهمزة ، وهو جمع صبح . وروى الأعمش عن إبراهيم النخعي أنه قرأ " فلق الإصباح " على فعل ، والهمزة مكسورة والحاء منصوبة . وقرأ الحسن وعيسى بن عمر وحمزة والكسائي وجعل الليل سكنا بغير ألف . ونصب الليل حملا على معنى فالق في الموضعين ; لأنه بمعنى فلق ، لأنه أمر قد كان فحمل على المعنى . وأيضا فإن بعده أفعالا ماضية وهو قوله : جعل لكم النجوم . أنزل من السماء ماء . فحمل أول الكلام على آخره . يقوي ذلك إجماعهم على نصب الشمس والقمر على إضمار فعل ، ولم يحملوه على فاعل فيخفضوه ; قاله مكي رحمه الله . وقال النحاس : وقد قرأ يزيد بن قطيب السكوني " جاعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا " بالخفض عطفا على اللفظ . قلت : فيريد مكي والمهدوي وغيرهما إجماع القراء السبعة . والله أعلم . وقرأ يعقوب في رواية رويس عنه " وجاعل الليل ساكنا " . وأهل المدينة " وجاعل الليل سكنا " أي محلا للسكون . وفي الموطإ عن يحيى بن سعيد أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو فيقول : اللهم فالق الإصباح وجاعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا اقض عني الدين واغنني من الفقر وأمتعني بسمعي وبصري وقوتي في سبيلك . فإن قيل : كيف قال وأمتعني بسمعي وبصري وفي كتاب النسائي والترمذي وغيرهما واجعله الوارث مني وذلك يفنى مع البدن ؟ قيل له : في الكلام تجوز ، والمعنى اللهم لا تعدمه قبلي . وقد قيل : إن المراد بالسمع والبصر هنا أبو بكر وعمر ; لقوله عليه السلام فيهما : هما السمع والبصر . وهذا تأويل بعيد ، إنما المراد بهما الجارحتان .

ومعنى حسبانا أي بحساب يتعلق به مصالح العباد . وقال ابن عباس في قوله جل وعز : والشمس والقمر حسبانا أي بحساب . قال الأخفش : حسبان جمع حساب ; مثل شهاب وشهبان . وقال يعقوب : حسبان مصدر حسبت الشيء أحسبه حسبانا وحسابا وحسبة ، والحساب الاسم . وقال غيره : جعل الله تعالى سير الشمس والقمر بحساب لا يزيد ولا ينقص ; فدلهم الله عز وجل بذلك على قدرته ووحدانيته . وقيل : حسبانا أي ضياء . [ ص: 43 ] والحسبان : النار في لغة ; وقد قال الله تعالى : ويرسل عليها حسبانا من السماء . قال ابن عباس : نارا . والحسبانة : الوسادة الصغيرة .

قوله تعالى وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون قوله تعالى وهو الذي جعل لكم النجوم بين كمال قدرته ، وفي النجوم منافع جمة . ذكر في هذه الآية بعض منافعها ، وهي التي ندب الشرع إلى معرفتها ; وفي التنزيل : وحفظا من كل شيطان مارد . وجعلناها رجوما للشياطين . وجعل هنا بمعنى خلق .

قد فصلنا الآيات أي بيناها مفصلة لتكون أبلغ في الاعتبار .

لقوم يعلمون خصهم لأنهم المنتفعون بها .

قوله تعالى وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون قوله تعالى وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة يريد آدم عليه السلام . وقد تقدم في أول السورة .

فمستقر قرأ ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن وأبو عمرو وعيسى والأعرج وشيبة والنخعي بكسر القاف ، والباقون بفتحها . وهي في موضع رفع بالابتداء ، إلا أن التقدير في من كسر القاف فمنها " مستقر " والفتح بمعنى لها مستقر . قال عبد الله بن مسعود : فلها مستقر في الرحم ومستودع في الأرض التي تموت فيها ; وهذا التفسير يدل على الفتح . وقال الحسن : فمستقر في القبر . وأكثر أهل التفسير يقولون : المستقر ما كان في الرحم ، والمستودع ما كان في الصلب ; رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وقاله النخعي . وعن ابن عباس أيضا : مستقر في الأرض ، ومستودع في الأصلاب . قال سعيد بن جبير : قال لي ابن عباس هل تزوجت ؟ قلت : لا ; فقال : إن الله عز وجل يستخرج من ظهرك ما استودعه فيه . وروي عن ابن عباس أيضا أن المستقر من خلق ، والمستودع من لم يخلق ; ذكره الماوردي . وعن ابن عباس أيضا : ومستودع عند الله .

[ ص: 44 ] قلت : وفي التنزيل ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين والاستيداع إشارة إلى كونهم في القبر إلى أن يبعثوا للحساب . وقد تقدم في البقرة .

قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون قال قتادة : فصلنا بينا وقررنا . والله أعلم .

وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون

فيه سبع مسائل :

الأولى قوله تعالى وهو الذي أنزل من السماء ماء أي المطر .

فأخرجنا به نبات كل شيء أي كل صنف من النبات . وقيل : رزق كل حيوان .

فأخرجنا منه خضرا قال الأخفش : أي أخضر ; كما تقول العرب : أرنيها نمرة أركها مطرة . والخضر رطب البقول . وقال ابن عباس : يريد القمح والشعير والسلت والذرة والأرز وسائر الحبوب .

نخرج منه حبا متراكبا أي يركب بعضه على بعض كالسنبلة .

الثانية قوله تعالى ومن النخل من طلعها قنوان دانية ابتداء وخبر . وأجاز الفراء في غير القرآن " قنوانا دانية " على العطف على ما قبله . قال سيبويه : ومن العرب من يقول : قنوان . قال الفراء : هذه لغة قيس ، وأهل الحجاز يقولون : قنوان ، وتميم يقولون : قنيان ; ثم يجتمعون في الواحد فيقولون : قنو وقنو . والطلع : الكفرى قبل أن ينشق عن الإغريض . والإغريض يسمى طلعا أيضا . والطلع ما يرى من عذق النخلة . والقنوان : جمع قنو ، وتثنيته قنوان كصنو وصنوان " بكسر النون " . وجاء الجمع على لفظ الاثنين . قال الجوهري وغيره : الاثنان صنوان والجمع صنوان " برفع النون " . والقنو : العذق والجمع القنوان والأقناء ; قال :
طويلة الأقناء والأثاكل
[ ص: 45 ] غيره : " أقناء " جمع القلة . قال المهدوي : قرأ ابن هرمز " قنوان " بفتح القاف ، وروي عنه ضمها . فعلى الفتح هو اسم للجمع غير مكسر ، بمنزلة ركب عند سيبويه ، وبمنزلة الباقر والجامل ; لأن فعلان ليس من أمثلة الجمع ، وضم القاف على أنه جمع قنو وهو العذق " بكسر العين " وهي الكباسة ، وهي عنقود النخلة . والعذق " بفتح العين " النخلة نفسها . وقيل : القنوان الجمار .

دانية : قريبة ، ينالها القائم والقاعد . عن ابن عباس والبراء بن عازب وغيرهما . وقال الزجاج : منها دانية ومنها بعيدة ; فحذف ; ومثله : سرابيل تقيكم الحر . وخص الدانية بالذكر ، لأن من الغرض في الآية ذكر القدرة والامتنان بالنعمة ، والامتنان فيما يقرب متناوله أكثر .

الثالثة : قوله تعالى : وجنات من أعناب أي وأخرجنا جنات . وقرأ محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى والأعمش ، وهو الصحيح من قراءة عاصم " وجنات " بالرفع . وأنكر هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم ، حتى قال أبو حاتم : هي محال ; لأن الجنات لا تكون من النخل . قال النحاس : والقراءة جائزة ، وليس التأويل على هذا ، ولكنه رفع بالابتداء والخبر محذوف ; أي ولهم جنات . كما قرأ جماعة من القراء " وحور عين " . وأجاز مثل هذا سيبويه والكسائي والفراء ; ومثله كثير . وعلى هذا أيضا " وحورا عينا " حكاه سيبويه ، وأنشد :
جئني بمثل بني بدر لقومهم أو مثل أسرة منظور بن سيار
وقيل : التقدير وجنات من أعناب أخرجناها ; كقولك : أكرمت عبد الله وأخوه ، أي وأخوه أكرمت أيضا . فأما الزيتون والرمان فليس فيه إلا النصب للإجماع على ذلك . وقيل : " وجنات " بالرفع عطف على قنوان لفظا ، وإن لم تكن في المعنى من جنسها .

والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه أي متشابها في الأوراق ; أي ورق الزيتون يشبه ورق الرمان في اشتماله على جميع الغصن وفي حجم الورق ، وغير متشابه في الذواق ; عن قتادة وغيره . قال ابن جريج : متشابها في النظر وغير متشابه في الطعم ; مثل الرمانتين لونهما واحد وطعمهما مختلف . وخص الرمان والزيتون بالذكر لقربهما منهم ومكانهما عندهم . وهو كقوله : أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت . ردهم إلى الإبل لأنها أغلب ما يعرفونه .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 06-11-2024, 09:08 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,025
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (7)
سُورَةُ الْأَنْفَالِ
من صــ 336 الى صــ 345
الحلقة (341)




[ ص: 336 ] الرأي والحرب والمكيدة ؟ فقال عليه السلام : بل هو الرأي والحرب والمكيدة . فقال : يا رسول الله ، إن هذا ليس لك بمنزل ، فانهض بنا إلى أدنى ماء من القوم فننزله ونعور ما وراءه من القلب ، ثم نبني عليه حوضا فنملأه فنشرب ولا يشربون . فاستحسن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك من رأيه ، وفعله . ثم التقوا فنصر الله نبيه والمسلمين ، فقتل من المشركين سبعين وأسر منهم سبعين ، وانتقم منهم للمؤمنين ، وشفى الله صدر رسوله عليه السلام وصدور أصحابه من غيظهم . وفي ذلك يقول حسان : عرفت ديار زينب بالكثيب كخط الوحي في الورق القشيب تداولها الرياح وكل جون
من الوسمي منهمر سكوب فأمسى ربعها خلقا وأمست
يبابا بعد ساكنها الحبيب فدع عنك التذكر كل يوم
ورد حرارة الصدر الكئيب وخبر بالذي لا عيب فيه
بصدق غير إخبار الكذوب بما صنع الإله غداة بدر
لنا في المشركين من النصيب غداة كأن جمعهم حراء
بدت أركانه جنح الغروب فلاقيناهم منا بجمع
كأسد الغاب مردان وشيب أمام محمد قد وازروه
على الأعداء في لفح الحروب بأيديهم صوارم مرهفات
وكل مجرب خاظي الكعوب بنو الأوس الغطارف وازرتها
بنو النجار في الدين الصليب فغادرنا أبا جهل صريعا
وعتبة قد تركنا بالجبوب [ ص: 337 ]
وشيبة قد تركنا في رجال
ذوي نسب إذا نسبوا حسيب
يناديهم رسول الله لما قذفناهم كباكب في القليب
ألم تجدوا كلامي كان حقا وأمر الله يأخذ بالقلوب
فما نطقوا ، ولو نطقوا لقالوا أصبت وكنت ذا رأي مصيب
وهنا ثلاث مسائل :

الأولى : قال مالك : بلغني أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم : كيف أهل بدر فيكم ؟ قال : خيارنا . قال : إنهم كذلك فينا . فدل هذا على أن شرف المخلوقات ليس بالذوات ، وإنما هو بالأفعال . فللملائكة أفعالها الشريفة من المواظبة على التسبيح الدائم . ولنا أفعالنا بالإخلاص بالطاعة . وتتفاضل الطاعات بتفضيل الشرع لها ، وأفضلها الجهاد ، وأفضل الجهاد يوم بدر ; لأن بناء الإسلام كان عليه .

الثانية : ودل خروج النبي صلى الله عليه وسلم ليلقى العير على جواز النفير للغنيمة لأنها كسب حلال . وهو يرد ما كره مالك من ذلك ; إذ قال : ذلك قتال على الدنيا ، وما جاء أن من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله دون من يقاتل للغنيمة ، يراد به إذا كان قصده وحده وليس للدين فيه حظ . وروى عكرمة عن ابن عباس قال : قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم حين فرغ من بدر : عليك بالعير ، ليس دونها شيء . فناداه العباس وهو في الأسرى : لا يصلح هذا . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ولم ؟ قال : لأن الله وعدك إحدى الطائفتين ، وقد أعطاك الله ما وعدك . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : صدقت . وعلم ذلك العباس بحديث أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وبما كان من شأن بدر ، فسمع ذلك في أثناء الحديث .

الثالثة : روى مسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك قتلى بدر ثلاثا ، ثم قام عليهم فناداهم فقال : يا أبا جهل بن هشام يا أمية بن خلف يا عتبة بن ربيعة يا شيبة بن ربيعة أليس قد وجدتم ما وعد ربكم حقا فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا . فسمع عمر قول النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، كيف يسمعون ، وأنى يجيبون وقد جيفوا ؟ قال : والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا . ثم أمر بهم فسحبوا فألقوا في [ ص: 338 ] القليب ، قليب بدر .

" جيفوا " بفتح الجيم والياء ، ومعناه أنتنوا فصاروا جيفا . وقول عمر : " يسمعون " استبعاد على ما جرت به حكم العادة . فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم يسمعون كسمع الأحياء . وفي هذا ما يدل على أن الموت ليس بعدم محض ولا فناء صرف ، وإنما هو انقطاع تعلق الروح بالبدن ومفارقته ، وحيلولة بينهما ، وتبدل حال وانتقال من دار إلى دار . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الميت إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم الحديث . أخرجه الصحيح .

قوله تعالى : ويثبت به الأقدام الضمير في به عائد على الماء الذي شد دهس الوادي ، كما تقوم . وقيل : هو عائد على ربط القلوب ; فيكون تثبيت الأقدام عبارة عن النصر والمعونة في موطن الحرب .

قوله تعالى إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان

قوله تعالى إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم العامل في " إذ " يثبت ، أي يثبت به الأقدام ذلك الوقت . وقيل : العامل " ليربط " أي وليربط إذ يوحي . وقد يكون التقدير : اذكر إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم في موضع نصب ، والمعنى : بأني معكم ، أي بالنصر والمعونة . معكم بفتح العين ظرف ، ومن أسكنها فهي عنده حرف .

فثبتوا الذين آمنوا أي بشروهم بالنصر أو القتال معهم أو الحضور معهم من غير قتال ; فكان الملك يسير أمام الصف في صورة الرجل ويقول : سيروا فإن الله ناصركم . ويظن المسلمون أنه منهم ; وقد تقدم في " آل عمران " أن الملائكة قاتلت ذلك اليوم . فكانوا يرون رءوسا تندر عن الأعناق من غير ضارب يرونه . وسمع بعضهم قائلا يسمع قوله ولا يرى شخصه : أقدم حيزوم . وقيل : كان هذا التثبيت ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين نزول الملائكة مددا .

قوله تعالى سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب تقدم في " آل عمران " بيانه .

[ ص: 339 ] فاضربوا فوق الأعناق هذا أمر للملائكة . وقيل : للمؤمنين ، أي اضربوا الأعناق ، وفوق زائدة ; قاله الأخفش والضحاك وعطية . وقد روى المسعودي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لم أبعث لأعذب بعذاب الله وإنما بعثت بضرب الرقاب وشد الوثاق . وقال محمد بن يزيد : هذا خطأ ; لأن فوق تفيد معنى فلا يجوز زيادتها ، ولكن المعنى أنهم أبيح لهم ضرب الوجوه وما قرب منها . وقال ابن عباس : كل هام وجمجمة . وقيل : أي ما فوق الأعناق ، وهو الرءوس ; قال عكرمة . والضرب على الرأس أبلغ ; لأن أدنى شيء يؤثر في الدماغ . وقد مضى شيء من هذا المعنى في " النساء " وأن فوق ليست بزائدة ، عند قوله : فوق اثنتين .

واضربوا منهم كل بنان قال الزجاج : واحد البنان بنانة ، وهي هنا الأصابع وغيرها من الأعضاء . والبنان مشتق من قولهم : أبن الرجل بالمكان إذا أقام به . فالبنان يعتمل به ما يكون للإقامة والحياة . وقيل : المراد بالبنان هنا أطراف الأصابع من اليدين والرجلين . وهو عبارة عن الثبات في الحرب وموضع الضرب ; فإذا ضربت البنان تعطل من المضروب القتال بخلاف سائر الأعضاء . قال عنترة :
وكان فتى الهيجاء يحمي ذمارها ويضرب عند الكرب كل بنان
ومما جاء أن البنان الأصابع قول عنترة أيضا :
وأن الموت طوع يدي إذا ما وصلت بنانها بالهندواني


وهو كثير في أشعار العرب ، البنان : الأصابع . قال ابن فارس : البنان الأصابع ، ويقال : الأطراف . وذكر بعضهم أنها سميت بنانا لأن بها صلاح الأحوال التي بها يستقر الإنسان ويبن وقال الضحاك : البنان كل مفصل .

قوله تعالى ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار

قوله تعالى ذلك بأنهم شاقوا الله ذلك في موضع رفع على الابتداء ، والتقدير : ذلك الأمر ، أو الأمر ذلك . شاقوا الله أي أولياءه . والشقاق : أن يصير كل واحد في شق . [ ص: 340 ] وقد تقدم .

ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار قال الزجاج : ذلكم رفع بإضمار الأمر أو القصة ، أي الأمر ذلكم فذوقوه . ويجوز أن يكون في موضع نصب ب ذوقوا كقولك : زيدا فاضربه . ومعنى الكلام التوبيخ للكافرين . و أن في موضع رفع عطف على ذلكم . قال الفراء : ويجوز أن يكون في موضع نصب بمعنى : وبأن للكافرين . قال : ويجوز أن يضمر : واعلموا أن . الزجاج : لو جاز إضمار " واعلموا " لجاز زيد منطلق وعمرا جالسا ، بل كان يجوز في الابتداء : زيدا منطلقا ; لأن المخبر معلم ، وهذا لا يقوله أحد من النحويين .

قوله تعالى ياأيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير

فيه سبع مسائل :

الأولى : قوله تعالى : زحفا

قوله تعالى : زحفا الزحف الدنو قليلا قليلا . وأصله الاندفاع على الألية ; ثم سمي كل ماش في الحرب إلى آخر زاحفا . والتزاحف : التداني والتقارب ; يقال : زحف إلى العدو زحفا . وأزحف القوم ، أي مشى بعضهم إلى بعض . ومنه زحاف الشعر ، وهو أن يسقط بين الحرفين حرف فيزحف أحدهما إلى الآخر . يقول : إذا تدانيتم وتعاينتم فلا تفروا عنهم ولا تعطوهم أدباركم . حرم الله ذلك على المؤمنين حين فرض عليهم الجهاد وقتال الكفار . قال ابن عطية : والأدبار جمع دبر . والعبارة بالدبر في هذه الآية متمكنة الفصاحة ; لأنها بشعة على الفار ، ذامة له .

الثانية : أمر الله عز وجل في هذه الآية ألا يولي المؤمنون أمام الكفار . وهذا الأمر مقيد بالشريطة المنصوصة في مثلي المؤمنين ; فإذا لقيت فئة من المؤمنين فئة هي ضعف المؤمنين من المشركين فالفرض ألا يفروا أمامهم . فمن فر من اثنين فهو فار من الزحف . ومن فر من ثلاثة فليس بفار من الزحف ، ولا يتوجه عليه الوعيد . والفرار كبيرة موبقة بظاهر القرآن وإجماع الأكثر من الأئمة . وقالت فرقة ، منهم ابن الماجشون في الواضحة : إنه يراعى الضعف والقوة والعدة ; فيجوز على قولهم أن يفر مائة فارس من مائة فارس إذا علموا أن ما عند المشركين من النجدة والبسالة ضعف ما عندهم . وأما على قول الجمهور فلا يحل فرار مائة إلا مما زاد على المائتين ; فمهما كان في مقابلة مسلم أكثر من اثنين فيجوز الانهزام ، والصبر أحسن . وقد وقف [ ص: 341 ] جيش مؤتة وهم ثلاثة آلاف في مقابلة مائتي ألف ، منهم مائة ألف من الروم ، ومائة ألف من المستعربة من لخم وجذام .

قلت : ووقع في تاريخ فتح الأندلس ، أن طارقا مولى موسى بن نصير سار في ألف وسبعمائة رجل إلى الأندلس ، وذلك في رجب سنة ثلاث وتسعين من الهجرة ; فالتقى وملك الأندلس لذريق وكان في سبعين ألف عنان ; فزحف إليه طارق وصبر له فهزم الله الطاغية لذريق ، وكان الفتح . قال ابن وهب : سمعت مالكا يسأل عن القوم يلقون العدو أو يكونون في محرس يحرسون فيأتيهم العدو وهم يسير ، أيقاتلون أو ينصرفون فيؤذنون أصحابهم ؟ قال : إن كانوا يقوون على قتالهم قاتلوهم ، وإلا انصرفوا إلى أصحابهم فآذنوهم .

الثالثة : واختلف الناس هل الفرار يوم الزحف مخصوص بيوم بدر أم عام في الزحوف كلها إلى يوم القيامة ؟ فروي عن أبي سعيد الخدري أن ذلك مخصوص بيوم بدر ، وبه قال نافع والحسن وقتادة ويزيد بن أبي حبيب والضحاك ، وبه قال أبو حنيفة . وأن ذلك خاص بأهل بدر فلم يكن لهم أن ينحازوا ، ولو انحازوا لانحازوا للمشركين ، ولم يكن في الأرض يومئذ مسلمون غيرهم ، ولا للمسلمين فئة إلا النبي صلى الله عليه وسلم ; فأما بعد ذلك فإن بعضهم فئة لبعض . قال إلكيا : وهذا فيه نظر ; لأنه كان بالمدينة خلق كثير من الأنصار لم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج ولم يكونوا يرون أنه قتال ، وإنما ظنوا أنها العير ; فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن خف معه . ويروى عن ابن عباس وسائر العلماء أن الآية باقية إلى يوم القيامة . احتج الأولون بما ذكرنا ، وبقوله تعالى : يومئذ فقالوا : هو إشارة إلى يوم بدر ، وأنه نسخ حكم الآية بآية الضعف . وبقي حكم الفرار من الزحف ليس بكبيرة . وقد فر الناس يوم أحد فعفا الله عنهم ، وقال الله فيهم يوم حنين ثم وليتم مدبرين ولم يقع على ذلك تعنيف . وقال الجمهور من العلماء : إنما ذلك إشارة إلى يوم الزحف الذي يتضمنه قوله تعالى : إذا لقيتم . وحكم الآية باق إلى يوم القيامة بشرط الضعف الذي بينه الله تعالى في آية أخرى ، وليس في الآية نسخ . والدليل عليه أن الآية نزلت بعد القتال وانقضاء الحرب وذهاب اليوم بما فيه . وإلى هذا ذهب مالك والشافعي وأكثر العلماء . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : اجتنبوا السبع الموبقات - وفيه - والتولي يوم الزحف وهذا نص في المسألة . وأما يوم أحد فإنما فر الناس من أكثر [ ص: 342 ] من ضعفهم ومع ذلك عنفوا . وأما يوم حنين فكذلك من فر إنما انكشف عن الكثرة ; على ما يأتي بيانه .

الرابعة : قال ابن القاسم : لا تجوز شهادة من فر من الزحف ، ولا يجوز لهم الفرار وإن فر إمامهم ; لقوله عز وجل : ومن يولهم يومئذ دبره الآية . قال : ويجوز الفرار من أكثر من ضعفهم ، وهذا ما لم يبلغ عدد المسلمين اثني عشر ألفا ; فإن بلغ اثني عشر ألفا لم يحل لهم الفرار وإن زاد عدد المشركين على الضعف ; لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ولن يغلب اثنا عشر ألفا من قلة فإن أكثر أهل العلم خصصوا هذا العدد بهذا الحديث من عموم الآية .

قلت : رواه أبو بشر وأبو سلمة العاملي ، وهو الحكم بن عبد الله بن خطاف وهو متروك . قالا : حدثنا الزهري عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يا أكثم بن الجون اغز مع غير قومك يحسن خلقك وتكرم على رفقائك . يا أكثم بن الجون خير الرفقاء أربعة وخير الطلائع أربعون وخير السرايا أربعمائة وخير الجيوش أربعة آلاف ولن يؤتى اثنا عشر ألفا من قلة . وروي عن مالك ما يدل على ذلك من مذهبه وهو قوله للعمري العابد إذ سأله هل لك سعة في ترك مجاهدة من غير الأحكام وبدلها ؟ فقال : إن كان معك اثنا عشر ألفا فلا سعة لك في ذلك .

الخامسة : فإن فر فليستغفر الله عز وجل . روى الترمذي عن بلال بن يسار بن زيد قال : حدثني أبي عن جدي سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفر الله له وإن كان قد فر من الزحف . قال : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه .

السادسة : قوله تعالى إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة التحرف : الزوال عن جهة الاستواء . فالمتحرف من جانب إلى جانب لمكايد الحرب غير منهزم ; وكذلك المتحيز إذا نوى التحيز إلى فئة من المسلمين ليستعين بهم فيرجع إلى القتال غير منهزم أيضا . روى أبو [ ص: 343 ] داود عن عبد الله بن عمر أنه كان في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فحاص الناس حيصة ، فكنت فيمن حاص ، قال : فلما برزنا قلنا كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب . فقلنا : ندخل المدينة فنتثبت فيها ونذهب ولا يرانا أحد . قال : فدخلنا فقلنا لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن كانت لنا توبة أقمنا ، وإن كان غير ذلك ذهبنا . قال : فجلسنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل صلاة الفجر ، فلما خرج قمنا إليه فقلنا ، نحن الفرارون ; فأقبل إلينا فقال : لا بل أنتم العكارون . قال : فدنونا فقبلنا يده . فقال : أنا فئة المسلمين . قال ثعلب : العكارون هم العطافون . وقال غيره : يقال للرجل الذي يولي عند الحرب ثم يكر راجعا : عكر واعتكر . وروى جرير عن منصور عن إبراهيم قال : انهزم رجل من القادسية فأتى المدينة إلى عمر فقال : يا أمير المؤمنين ، هلكت ! فررت من الزحف . فقال عمر : أنا فئتك . وقال محمد بن سيرين : لما قتل أبو عبيدة جاء الخبر إلى عمر فقال : لو انحاز إلي لكنت له فئة ، فأنا فئة كل مسلم . وعلى هذه الأحاديث لا يكون الفرار كبيرة ; لأن الفئة هنا المدينة والإمام وجماعة المسلمين حيث كانوا . وعلى القول الآخر يكون كبيرة ; لأن الفئة هناك الجماعة من الناس الحاضرة للحرب . هذا على قول الجمهور أن الفرار من الزحف كبيرة . قالوا : وإنما كان ذلك القول من النبي صلى الله عليه وسلم وعمر على جهة الحيطة على المؤمنين ، إذ كانوا في ذلك الزمان يثبتون لأضعافهم مرارا . والله أعلم . وفي قوله : والتولي يوم الزحف ما يكفي .

السابعة : قوله تعالى فقد باء بغضب من الله أي استحق الغضب . وأصل " باء " رجع وقد تقدم .

ومأواه جهنم أي مقامه . وهذا لا يدل على الخلود ; كما تقدم في غير موضع . وقد قال صلى الله عليه وسلم : من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم غفر له وإن كان قد فر من الزحف .

قوله تعالى فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين [ ص: 344 ] قوله تعالى فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم أي يوم بدر . روي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صدروا عن بدر ذكر كل واحد منهم ما فعل : قتلت كذا ، فعلت كذا ; فجاء من ذلك تفاخر ونحو ذلك . فنزلت الآية إعلاما بأن الله تعالى هو المميت والمقدر لجميع الأشياء ، وأن العبد إنما يشارك بتكسبه وقصده . وهذه الآية ترد على من يقول بأن أفعال العباد خلق لهم . فقيل : المعنى فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم بسوقهم إليكم حتى أمكنكم منهم . وقيل : ولكن الله قتلهم بالملائكة الذين أمدكم بهم .

وما رميت إذ رميت مثله ولكن الله رمى . واختلف العلماء في هذا الرمي على أربعة أقوال :

الأول : إن هذا الرمي إنما كان في حصب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين رواه ابن وهب عن مالك . قال مالك : ولم يبق في ذلك اليوم أحد إلا وقد أصابه ذلك . وكذلك روى عنه ابن القاسم أيضا .

الثاني : أن هذا كان يوم أحد حين رمى أبي بن خلف بالحربة في عنقه ; فكر أبي منهزما . فقال له المشركون : والله ما بك من بأس . فقال : والله لو بصق علي لقتلني . أليس قد قال : بل أنا أقتله . وكان أوعد أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتل بمكة ; فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل أنا أقتلك فمات عدو الله من ضربة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرجعه إلى مكة ، بموضع يقال له " سرف " . قال موسى بن عقبة عن ابن شهاب : لما كان يوم أحد أقبل أبي مقنعا في الحديد على فرسه يقول : لا نجوت إن نجا محمد ; فحمل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد قتله . قال موسى بن عقبة قال سعيد بن المسيب : فاعترض له رجال من المؤمنين ، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخلوا طريقه ; فاستقبله مصعب بن عمير يقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ; فقتل مصعب بن عمير ، وأبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ترقوة أبي بن خلف من فرجة بين سابغة البيضة والدرع ; فطعنه بحربته فوقع أبي عن فرسه ، ولم يخرج من طعنته دم . قال سعيد : فكسر ضلعا من أضلاعه ; فقال : ففي ذلك نزل وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى . وهذا ضعيف ; لأن الآية نزلت عقيب بدر .

الثالث : أن المراد السهم الذي رمى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حصن خيبر ، فسار في الهواء [ ص: 345 ] حتى أصاب ابن أبي الحقيق وهو على فراشه . وهذا أيضا فاسد ، وخيبر وفتحها أبعد من أحد بكثير . والصحيح في صورة قتل ابن أبي الحقيق غير هذا .

الرابع : أنها كانت يوم بدر ; قال ابن إسحاق . وهو أصح ; لأن السورة بدرية ، وذلك أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم : خذ قبضة من التراب . فأخذ قبضة من التراب فرمى بها وجوههم فما من المشركين من أحد إلا وأصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة وقاله ابن عباس وسيأتي . قال ثعلب : المعنى وما رميت الفزع والرعب في قلوبهم إذ رميت بالحصباء فانهزموا ولكن الله رمى أي أعانك وأظفرك . والعرب تقول : رمى الله لك ، أي أعانك وأظفرك وصنع لك . حكى هذا أبو عبيدة في كتاب المجاز . وقال محمد بن يزيد : وما رميت بقوتك ، إذ رميت ، ولكنك بقوة الله رميت .

وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا البلاء هاهنا النعمة . واللام تتعلق بمحذوف ; أي وليبليي المؤمنين فعل ذلك .

موهن كيد الكافرين قراءة أهل الحرمين وأبي عمرو . وقراءة أهل الكوفة ( موهن كيد الكافرين ) . وفي التشديد معنى المبالغة . وروي عن الحسن ( موهن كيد الكافرين ) بالإضافة والتخفيف . والمعنى : أن الله عز وجل يلقي في قلوبهم الرعب حتى يتشتتوا ويتفرق جمعهم فيضعفوا . والكيد : المكر . وقد تقدم .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 18-12-2024, 07:30 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,025
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (8)
سُورَةُ بَرَاءَةٌ
من صــ 126 الى صــ 135
الحلقة (361)





[ قوله تعالى كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون فيه ثلاث مسائل :

الأولى : قوله تعالى كالذين من قبلكم قال الزجاج : الكاف في موضع نصب ، أي وعد الله الكفار نار جهنم وعدا كما وعد الذين من قبلهم . وقيل : المعنى فعلتم كأفعال الذين من قبلكم في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف ، فحذف المضاف . وقيل : أي أنتم كالذين من قبلكم ، فالكاف في محل رفع لأنه خبر ابتداء محذوف . ولم ينصرف ( أشد ) لأنه أفعل [ ص: 126 ] صفة . والأصل فيه أشدد ، أي كانوا أشد منكم قوة فلم يتهيأ لهم ولا أمكنهم رفع عذابالله عز وجل .

الثانية : روى سعيد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال تأخذون كما أخذت الأمم قبلكم ذراعا بذراع وشبرا بشبر وباعا بباع حتى لو أن أحدا من أولئك دخل جحر ضب لدخلتموه . قال أبو هريرة : وإن شئتم فاقرءوا القرآن : كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم قال أبو هريرة : والخلاق : الدين فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم حتى فرغ من الآية . قالوا : يا نبي الله ، فما صنعت اليهود والنصارى ؟ قال : وما الناس إلا هم . وفي الصحيح عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه . قالوا : يا رسول الله ، اليهود والنصارى ؟ قال : فمن ؟ وقال ابن عباس : ما أشبه الليلة بالبارحة ، هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم . ونحوه عن ابن مسعود .

الثالثة : فاستمتعوا بخلاقهم أي انتفعوا بنصيبهم من الدين كما فعل الذين من قبلهم .

( وخضتم ) خروج من الغيبة إلى الخطاب . كالذي خاضوا أي كخوضهم . فالكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف ، أي وخضتم خوضا كالذين خاضوا . و " الذي " اسم ناقص مثل من ، يعبر به عن الواحد والجمع . وقد مضى في ( البقرة ) ويقال : خضت الماء أخوضه خوضا وخياضا . والموضع مخاضة ، وهو ما جاز الناس فيها مشاة وركبانا . وجمعها المخاض والمخاوض أيضا ، عن أبي زيد . وأخضت دابتي في الماء . وأخاض القوم ، أي خاضت خيلهم . وخضت الغمرات : اقتحمتها . ويقال : خاضه بالسيف ، أي حرك سيفه في المضروب . وخوض في نجيعه شدد للمبالغة . والمخوض للشراب كالمجدع للسويق ، يقال منه : خضت الشراب . وخاض القوم في الحديث وتخاوضوا أي [ ص: 127 ] تفاوضوا فيه ، فالمعنى : خضتم في أسباب الدنيا باللهو واللعب . وقيل : في أمر محمد صلى الله عليه وسلم بالتكذيب .

أولئك حبطت بطلت ، وقد تقدم . ( أعمالهم ) حسناتهم . وأولئك هم الخاسرون وقد تقدم أيضا .

[ قوله تعالى ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون

قوله تعالى ألم يأتهم نبأ أي خبر

الذين من قبلهم الألف لمعنى التقرير والتحذير ، أي ألم يسمعوا إهلاكنا الكفار من قبل .

قوم نوح وعاد وثمود بدل من الذين .

وقوم إبراهيم أي نمرود بن كنعان وقومه .

وأصحاب مدين مدين اسم للبلد الذي كان فيه شعيب ، أهلكوا بعذاب يوم الظلة .

" والمؤتفكات " قيل : يراد به قوم لوط ؛ لأن أرضهم ائتفكت بهم ، أي انقلبت ، قاله قتادة . وقيل : المؤتفكات كل من أهلك ، كما يقال : انقلبت عليهم الدنيا .

أتتهم رسلهم بالبينات يعني جميع الأنبياء . وقيل : أتت أصحاب المؤتفكات رسلهم ، فعلى هذا رسولهم لوط وحده ، ولكنه بعث في كل قرية رسولا ، وكانت ثلاث قريات ، وقيل أربع . وقوله تعالى في موضع آخر : " والمؤتفكة " على طريق الجنس . وقيل : أراد بالرسل الواحد ، كقوله : يا أيها الرسل كلوا من الطيبات ولم يكن في عصره غيره .

قلت : وهذا فيه نظر ، للحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله خاطب المؤمنين بما أمر به المرسلين الحديث . وقد تقدم في " البقرة " . والمراد جميع الرسل ، والله أعلم .

قوله تعالى : فما كان الله ليظلمهم أي ليهلكهم حتى يبعث إليهم الأنبياء .

ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ولكن ظلموا أنفسهم بعد قيام الحجة عليهم .

[ ص: 128 ] قوله تعالى والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم فيه أربع مسائل :

الأولى : قوله تعالى بعضهم أولياء بعض أي قلوبهم متحدة في التواد والتحاب والتعاطف . وقال في المنافقين بعضهم من بعض لأن قلوبهم مختلفة ولكن يضم بعضهم إلى بعض في الحكم .

الثانية : قوله تعالى يأمرون بالمعروف أي بعبادة الله تعالى وتوحيده ، وكل ما أتبع ذلك .

وينهون عن المنكر عن عبادة الأوثان وكل ما أتبع ذلك . وذكر الطبري عن أبي العالية أنه قال : كل ما ذكر الله في القرآن من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو النهي عن عبادة الأوثان والشياطين . وقد مضى القول في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في سورة ( المائدة ) و ( آل عمران ) والحمد لله .

الثالثة : قوله تعالى ويقيمون الصلاة تقدم في أول البقرة القول فيه . وقال ابن عباس : هي الصلوات الخمس ، وبحسب هذا تكون الزكاة هنا المفروضة . ابن عطية : والمدح عندي بالنوافل أبلغ ; إذ من يقيم النوافل أحرى بإقامة الفرائض .

الرابعة : قوله تعالى ويطيعون الله في الفرائض ورسوله فيما سن لهم . والسين في قوله : سيرحمهم الله مدخلة في الوعد مهلة لتكون النفوس تتنعم برجائه ; وفضله تعالى زعيم بالإنجاز .

[ قوله تعالى وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم

قوله تعالى وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات أي بساتين تجري من تحتها الأنهار أي من تحت أشجارها وغرفها الأنهار . وقد تقدم في " البقرة " أنها تجري منضبطة بالقدرة في غير أخدود . خالدين فيها ومساكن طيبة قصور من الزبرجد والدر [ ص: 129 ] والياقوت ، يفوح طيبها من مسيرة خمسمائة عام . في جنات عدن أي في دار إقامة . يقال : عدن بالمكان إذا أقام به ; ومنه المعدن . وقال عطاء الخراساني : جنات عدن هي قصبة الجنة ، وسقفها عرش الرحمن جل وعز . وقال ابن مسعود : هي بطنان الجنة ، أي وسطها . وقال الحسن : هي قصر من ذهب لا يدخلها إلا نبي أو صديق أو شهيد أو حكم عدل ; ونحوه عن الضحاك . وقال مقاتل والكلبي : " عدن " : أعلى درجة في الجنة ، وفيها عين التسنيم ، والجنان حولها محفوفة بها ، وهي مغطاة من يوم خلقها الله حتى ينزلها الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون ومن يشاء الله .

ورضوان من الله أكبر أي أكبر من ذلك ذلك هو الفوز العظيم

[ قوله تعالى يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير فيه مسألتان :

الأولى : قوله تعالى يا أيها النبي جاهد الكفار الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وتدخل فيه أمته من بعده . قيل : المراد جاهد بالمؤمنين الكفار . وقال ابن عباس : أمر بالجهاد مع الكفار بالسيف ، ومع المنافقين باللسان وشدة الزجر والتغليظ . وروي عن ابن مسعود أنه قال : جاهد المنافقين بيدك ، فإن لم تستطع فبلسانك ، فإن لم تستطع فاكفهر في وجوههم . وقال الحسن : جاهد المنافقين بإقامة الحدود عليهم وباللسان - واختاره قتادة - وكانوا أكثر من يصيب الحدود . ابن العربي : أما إقامة الحجة باللسان فكانت دائمة ، وأما بالحدود لأن أكثر إصابة الحدود كانت عندهم فدعوى لا برهان عليها ، وليس العاصي بمنافق ، إنما المنافق بما يكون في قلبه من النفاق كامنا ، لا بما تتلبس به الجوارح ظاهرا ، وأخبار المحدودين يشهد سياقها أنهم لم يكونوا منافقين .

الثانية : قوله تعالى واغلظ عليهم الغلظ : نقيض الرأفة ، وهي شدة القلب على إحلال الأمر بصاحبه . وليس ذلك في اللسان ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب عليها . ومنه قوله تعالى : ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك [ ص: 130 ] ومنه قول النسوة لعمر : أنت أفظ وأغلظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعنى الغلظ خشونة الجانب . فهي ضد قوله تعالى : واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين . واخفض لهما جناح الذل من الرحمة . وهذه الآية نسخت كل شيء من العفو والصلح والصفح .

[ قوله تعالى يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير

فيه ست مسائل :

الأولى : قوله تعالى يحلفون بالله ما قالوا روي أن هذه الآية نزلت في الجلاس بن سويد بن الصامت ، ووديعة بن ثابت ; وقعوا في النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا : والله لئن كان محمد صادقا على إخواننا الذين هم ساداتنا وخيارنا لنحن شر من الحمير . فقال له عامر بن قيس : أجل والله إن محمدا لصادق مصدق ; وإنك لشر من حمار . وأخبر عامر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم . وجاء الجلاس فحلف بالله عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم إن عامرا لكاذب . وحلف عامر لقد قال ، وقال : اللهم أنزل على نبيك الصادق شيئا ، فنزلت . وقيل : إن الذي سمعه عاصم بن عدي . وقيل حذيفة . وقيل : بل سمعه ولد امرأته واسمه عمير بن سعد ; فيما قال ابن إسحاق . وقال غيره : اسمه مصعب . فهم الجلاس بقتله لئلا يخبر بخبره ; ففيه نزل : وهموا بما لم ينالوا . قال مجاهد : وكان الجلاس لما قال له صاحبه إني سأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولك هم بقتله ، ثم لم يفعل ، عجز عن ذلك . قال ، ذلك هي الإشارة بقوله وهموا بما لم ينالوا . وقيل : إنها نزلت في عبد الله بن أبي ، رأى رجلا من غفار يتقاتل مع رجل من جهينة ، وكانت جهينة حلفاء الأنصار ، فعلا [ ص: 131 ] الغفاري الجهني . فقال ابن أبي : يا بني الأوس والخزرج ، انصروا أخاكم فوالله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل : سمن كلبك يأكلك ، ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل . فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، فجاءه عبد الله بن أبي فحلف أنه لم يقله ; قاله قتادة . وقول ثالث أنه قول جميع المنافقين ; قاله الحسن . ابن العربي : وهو الصحيح ; لعموم القول ووجود المعنى فيه وفيهم ، وجملة ذلك اعتقادهم فيه أنه ليس بنبي .

الثانية : قوله تعالى ولقد قالوا كلمة الكفر قال النقاش : تكذيبهم بما وعد الله من الفتح . وقيل : كلمة الكفر قول الجلاس : إن كان ما جاء به محمد حقا لنحن أشر من الحمير . وقول عبد الله بن أبي : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل . قال القشيري : كلمة الكفر سب النبي صلى الله عليه وسلم والطعن في الإسلام .

وكفروا بعد إسلامهم أي بعد الحكم بإسلامهم . فدل هذا على أن المنافقين كفار ، وفي قوله تعالى : ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا دليل قاطع .

ودلت الآية أيضا على أن الكفر يكون بكل ما يناقض التصديق والمعرفة ; وإن كان الإيمان لا يكون إلا بلا إله إلا الله دون غيره من الأقوال والأفعال إلا في الصلاة . قال إسحاق بن راهويه : ولقد أجمعوا في الصلاة على شيء لم يجمعوا عليه في سائر الشرائع ; لأنهم بأجمعهم قالوا : من عرف بالكفر ثم رأوه يصلي الصلاة في وقتها حتى صلى صلوات كثيرة ، ولم يعلموا منه إقرارا باللسان أنه يحكم له بالإيمان ، ولم يحكموا له في الصوم والزكاة بمثل ذلك .

الثالثة : قوله تعالى وهموا بما لم ينالوا يعني المنافقين من قتل النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة في غزوة تبوك ، وكانوا اثني عشر رجلا . قال حذيفة : سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عدهم كلهم . فقلت : ألا تبعث إليهم فتقتلهم ؟ فقال : أكره أن تقول العرب لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم بل يكفيهم الله بالدبيلة . قيل : يا رسول الله وما الدبيلة ؟ قال : شهاب من جهنم يجعله على نياط فؤاد أحدهم حتى تزهق نفسه . فكان كذلك . خرجه مسلم بمعناه . وقيل هموا بعقد التاج على رأس ابن أبي ليجتمعوا عليه . وقد تقدم قول مجاهد في هذا .

[ ص: 132 ] الرابعة : قوله تعالى : وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله أي ليس ينقمون شيئا ; كما قال النابغة :


ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
ويقال : نقم ينقم ، ونقم ينقم ; قال الشاعر في الكسر :


ما نقموا من بني أمية إلا أنهم يحلمون إن غضبوا
وقال زهير :


يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ليوم الحساب أو يعجل فينقم
ينشد بكسر القاف وفتحها . قال الشعبي : كانوا يطلبون دية فيقضي لهم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستغنوا . ذكر عكرمة أنها كانت اثني عشر ألفا . ويقال : إن القتيل كان مولى الجلاس . وقال الكلبي : كانوا قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم في ضنك من العيش ، لا يركبون الخيل ولا يحوزون الغنيمة ، فلما قدم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم استغنوا بالغنائم . وهذا المثل مشهور : اتق شر من أحسنت إليه . قال القشيري أبو نصر : قيل للبجلي أتجد في كتاب الله تعالى اتق شر من أحسنت إليه ؟ قال نعم ، وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله .

الخامسة : قوله تعالى فإن يتوبوا يك خيرا لهم روي أن الجلاس قام حين نزلت الآية فاستغفر وتاب . فدل هذا على توبة الكافر الذي يسر الكفر ويظهر الإيمان ; وهو الذي يسميه الفقهاء الزنديق . وقد اختلف في ذلك العلماء ; فقال الشافعي : تقبل توبته . وقال مالك : توبة الزنديق لا تعرف ; لأنه كان يظهر الإيمان ويسر الكفر ، ولا يعلم إيمانه إلا بقوله . وكذلك يفعل الآن في كل حين ، يقول : أنا مؤمن وهو يضمر خلاف ما يظهر ; فإذا عثر عليه وقال : تبت ، لم يتغير حاله عما كان عليه . فإذا جاءنا تائبا من قبل نفسه قبل أن يعثر عليه قبلت توبته ; وهو المراد بالآية . والله أعلم .

السادسة : قوله تعالى وإن يتولوا أي يعرضوا عن الإيمان والتوبة

يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا بالقتل ، وفي الآخرة بالنار وما لهم في الأرض من ولي أي مانع يمنعهم ولا نصير أي معين . وقد تقدم .

[ ص: 133 ]

[ قوله تعالى ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب

فيه ثمان مسائل :

الأولى : قوله تعالى ومنهم من عاهد الله قال قتادة : هذا رجل من الأنصار قال : لئن رزقني الله شيئا لأؤدين فيه حقه ولأتصدقن ; فلما آتاه الله ذلك فعل ما نص عليكم ، فاحذروا الكذب فإنه يؤدي إلى الفجور . وروى علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة الباهلي أن ثعلبة بن حاطب الأنصاري - فسماه - قال للنبي صلى الله عليه وسلم ادع الله أن يرزقني مالا . فقال عليه السلام ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه ثم عاود ثانيا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أما ترضى أن تكون مثل نبي الله لو شئت أن تسير معي الجبال ذهبا لسارت فقال : والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله فرزقني مالا لأعطين كل ذي حق حقه . فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم ; فاتخذ غنما فنمت كما تنمي الدود ، فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها ونزل واديا من أوديتها حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة ، وترك ما سواهما . ثم نمت وكثرت حتى ترك الصلوات إلا الجمعة ، وهي تنمي حتى ترك الجمعة أيضا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا ويح ثعلبة ثلاثا . ثم نزل خذ من أموالهم صدقة . فبعث صلى الله عليه وسلم رجلين على الصدقة ، وقال لهما : مرا بثعلبة وبفلان - رجل من بني سليم - فخذا صدقاتهما فأتيا ثعلبة وأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما هذه إلا أخت الجزية انطلقا حتى تفرغا ثم تعودا . الحديث ، وهو مشهور . وقيل : سبب غناء ثعلبة أنه ورث ابن عم له . قاله ابن عبد البر : قيل إن ثعلبة بن حاطب هو الذي نزل فيه ومنهم من عاهد الله . . . الآية ; إذ منع الزكاة ، فالله أعلم . وما جاء فيمن شاهد بدرا يعارضه قوله تعالى في الآية : فأعقبهم نفاقا في قلوبهم . . . الآية .

[ ص: 134 ] قلت : وذكر عن ابن عباس في سبب نزول الآية أن حاطب بن أبي بلتعة أبطأ عنه ماله بالشام فحلف في مجلس من مجالس الأنصار : إن سلم ذلك لأتصدقن منه ولأصلن منه . فلما سلم بخل بذلك فنزلت .

قلت : وثعلبة بدري أنصاري وممن شهد الله له ورسوله بالإيمان ; حسب ما يأتي بيانه في أول الممتحنة فما روي عنه غير صحيح . قال أبو عمر : ولعل قول من قال في ثعلبة أنه مانع الزكاة الذي نزلت فيه الآية غير صحيح ، والله أعلم . وقال الضحاك : إن الآية نزلت في رجال من المنافقين نبتل بن الحارث وجد بن قيس ومعتب بن قشير .

قلت : وهذا أشبه بنزول الآية فيهم ; إلا أن قوله فأعقبهم نفاقا يدل على أن الذي عاهد الله لم يكن منافقا من قبل ، إلا أن يكون المعنى : زادهم نفاقا ثبتوا عليه إلى الممات ، وهو قوله تعالى : إلى يوم يلقونه على ما يأتي .

الثانية : قال علماؤنا : لما قال الله تعالى : ومنهم من عاهد الله احتمل أن يكون عاهد الله بلسانه ولم يعتقده بقلبه . واحتمل أن يكون عاهد الله بهما ثم أدركته سوء الخاتمة ; فإن الأعمال بخواتيمها والأيام بعواقبها . و ( من ) رفع بالابتداء ، والخبر في المجرور . ولفظ اليمين ورد في الحديث وليس في ظاهر القرآن يمين إلا بمجرد الارتباط والالتزام ، أما إنه في صيغة القسم في المعنى : فإن اللام تدل عليه ، وقد أتى بلامين : الأولى للقسم ، والثانية لام الجواب ، وكلاهما للتأكيد . ومنهم من قال : إنهما لاما القسم ; والأول أظهر ، والله أعلم .

الثالثة : العهد والطلاق وكل حكم ينفرد به المرء ولا يفتقر إلى غيره فيه فإنه يلزمه منه ما يلتزمه بقصده وإن لم يلفظ به ; قاله علماؤنا . وقال الشافعي وأبو حنيفة : لا يلزم أحدا حكم إلا بعد أن يلفظ به وهو القول الآخر لعلمائنا . ابن العربي : والدليل على صحة ما ذهبنا إليه ما رواه أشهب عن مالك ، وقد سئل : إذا نوى الرجل الطلاق بقلبه ولم يلفظ به بلسانه فقال : يلزمه ; كما يكون مؤمنا بقلبه ، وكافرا بقلبه . قال ابن العربي : وهذا أصل بديع ، وتحريره أن يقال : عقد لا يفتقر فيه المرء إلى غيره في التزامه فانعقد عليه بنية . أصله الإيمان والكفر .

قلت : وحجة القول الثاني ما رواه مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به ورواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح ، والعمل على هذا عند أهل العلم إذا حدث نفسه بالطلاق لم يكن [ ص: 135 ] شيئا حتى يتكلم به . قال أبو عمر : ومن اعتقد بقلبه الطلاق ولم ينطق به لسانه فليس بشيء . هذا هو الأشهر عن مالك . وقد روي عنه أنه يلزمه الطلاق إذا نواه بقلبه ; كما يكفر بقلبه وإن لم ينطق به لسانه . والأول أصح في النظر وطريق الأثر ; لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : تجاوز الله لأمتي عما وسوست به نفوسها ما لم ينطق به لسان أو تعمله يد .

الرابعة : إن كان نذرا فالوفاء بالنذر واجب من غير خلاف وتركه معصية . وإن كانت يمينا فليس الوفاء باليمين واجبا باتفاق . بيد أن المعنى فيه إن كان الرجل فقيرا لا يتعين عليه فرض الزكاة ; فسأل الله مالا تلزمه فيه الزكاة ويؤدي ما تعين عليه من فرضه ، فلما آتاه الله ما شاء من ذلك ترك ما التزم مما كان يلزمه في أصل الدين لو لم يلتزمه ، لكن التعاطي بطلب المال لأداء الحقوق هو الذي أورطه إذ كان طلبه من الله تعالى بغير نية خالصة ، أو نية لكن سبقت فيه البداية ، المكتوب عليه فيها الشقاوة . نعوذ بالله من ذلك .

قلت : ومن هذا المعنى قوله عليه السلام : إذا تمنى أحدكم فلينظر ما يتمنى فإنه لا يدري ما كتب له في غيبالله عز وجل من أمنيته أي من عاقبتها ، فرب أمنية يفتتن بها أو يطغى فتكون سببا للهلاك دنيا وأخرى ؛ لأن أمور الدنيا مبهمة عواقبها خطرة غائلتها . وأما تمني أمور الدين والأخرى فتمنيها محمود العاقبة محضوض عليها مندوب إليها .

الخامسة : قوله تعالى لئن آتانا من فضله لنصدقن دليل على أن من قال : إن ملكت كذا وكذا فهو صدقة فإنه يلزمه ; وبه قال أبو حنيفة : وقال الشافعي : لا يلزمه . والخلاف في الطلاق مثله ، وكذلك في العتق . وقال أحمد بن حنبل : يلزمه ذلك في العتق ولا يلزمه في الطلاق ; لأن العتق قربة وهي تثبت في الذمة بالنذر ; بخلاف الطلاق فإنه تصرف في محل ، وهو لا يثبت في الذمة . احتج الشافعي بما رواه أبو داود والترمذي وغيرهما عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا نذر لابن آدم فيما لا يملك ولا عتق له فيما لا يملك ولا طلاق له فيما لا يملك لفظ الترمذي . وقال : وفي الباب عن علي ومعاذ وجابر وابن عباس وعائشة حديث عبد الله بن عمرو حديث حسن ، وهو أحسن شيء روي في هذا الباب . وهو قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم . ابن العربي : وسرد [ ص: 136 ] أصحاب الشافعي في هذا الباب أحاديث كثيرة لم يصح منها شيء فلا يعول عليها ، ولم يبق إلا ظاهر الآية .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 8 ( الأعضاء 0 والزوار 8)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 474.69 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 468.80 كيلو بايت... تم توفير 5.88 كيلو بايت...بمعدل (1.24%)]