تفسير أيسر التفاسير**** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري ) - الصفحة 59 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4974 - عددالزوار : 2091543 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4552 - عددالزوار : 1366296 )           »          شرح صحيح مسلم الشيخ مصطفى العدوي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 409 - عددالزوار : 58147 )           »          روائع قرآنية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 38 )           »          السلطان نور الدين والقبر النبوي الشريف (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 40 )           »          وليمة جابر بن عبد الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 48 )           »          سمك العنبر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »          لأنسين الروم وساوس الشيطان بخالد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »          الصحابي عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 29 )           »          أو حسبت أن نيل العلا بالتمني..؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 46 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #581  
قديم 18-05-2021, 03:29 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,873
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )

الشرك بالله تعالى أفظع وأبشع أنواع الظلم
أقول: ما هو أفظع أنواع الظلم؟ ما هو قتل أبيك أو أمك فقط، أو سرقة جارك، أو الزنا بامرأة جارك، أو بانغماسك في البنك تأكل الربا، إن أفظع وأعظم أنواع الظلم هو الشرك بالله عز وجل؛ لأنه ذنبٌ لا يُغفر إلا بالتوبة النصوح قبل أن يغرغر، أما إذا حشرجت في الصدر فلا ينفع توبة، وحشرجة في الصدر الروح هي أن تؤخذ الروح من الجسم شيئاً فشيئاً حتى تصل إلى الحلقوم، فلا ترجع بعد ذلك، ويشاهد المحتضر ملك الموت وأعوانه أمامه، وهنا إذا قال: أتوب إلى الله، استغفر الله، وهذا على فرض، وإلا فإنه لا يلهم لهذا أبداً، قال تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ [النساء:17-18]، إذاً أفظع أنواع الظلم هو الشرك بالله تعالى، والشرك بالله تعالى كأن تعلق الصليب في عنقك وتعبد المسيح، أو اتخاذك تمثالاً من ذهب أو من فضة أو من طين أو من خشب في بيتك وتنحني أمامه وتسجد بين يديه.وبالتالي فالشرك هو عبادة غير الله كيفما كان المعبود، حتى لو كان جبريل أو ميكائيل عليهما السلام، إذ قد عبد المشركون من العرب الملائكة وقالوا: إنهم بنات الله، وأن الله قد أصهر إلى الجن فأنجب الملائكة، فأنكر الله عليهم فقال: أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [الصافات:153-154]، فعبادة غير الله هي الشرك الأعظم، سواء كان المعبود ملكاً في السماء أو نبياً في الأرض أو ولياً صالحاً بيننا، أو كان غير ذلك، فالله عز وجل لم يسمح ولم يأذن ولم يرض لعبد من عباده أن يعبُد غيره، إذ خلقه ورزقه وحفظه من أجل أن يعبده، فإذا رآه يلتفت إلى غيره ويعبده بأي نوع من أنواع العبادة فقد أغضب عليه ربه عز وجل، وظلم مولاه، واعتدى على حقه، إذ حق الله ثابت علينا وهو: أن نعبده مقابل خلقنا ورزقنا وحفظنا، ومقابل إيجاد هذه الحياة كلها لنا ومن أجلنا.
الدعاء هو العبادة ولا يجوز صرفه لغير الله
واسمعوا! والذي نفسي بيده، لا يرضى الله عز وجل عن عبد ينادي غيره ويتركه هو، وذلك لينقذه أو يسعفه، فلهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( الدعاء هو العبادة )، ومعناه: من لم يدع الله ما عبد الله تعالى، ومعناه: من دعا غير الله فقد كفر بالله، إذ الدعاء هو العبادة، فلا عبادة تصح أبداً من عبد يدعو غير الله أو لا يدعو الله تعالى.ومن لطائف الدرس: أن جماعة من المتصوفة وغلاتهم احتالوا على مريدين وقالوا لهم: كيف تدعون الله؟ الله ما يعرفكم؟! ما يعلم بحاجاتكم حتى ترفعون إليه أيديكم وتقولون: أعطني كذا وكذا، وافعل لي كذا وكذا؟! ووضعوا لذلك قاعدة لا تحفظوها، فقالوا: حالي يغني عن سؤالي، أي: هو يعرف مرضي إن كنت مريضاً، وجوعي إن كنت جائعاً، وغربتي إن كنت غريباً، فلمَ ندعوه؟ ومعنى هذا الكلام: لا تدعوا، واستشهدوا لهذا بقضية خاصة وهي أن الخليل إبراهيم عليه السلام يوم أن حكم عليه بالإعدام بأرض بابل بالعراق، وأججت النيران، وأعدت إعداداً خاصاً، وجيء به بالفعل مكتوف اليدين والرجلين، ووضع في المنجنيق ودفعوه إلى النار؛ لأنهم ما استطاعوا أن يقربوا منها، فقد كانت من مسافات بعيدة ملتهبة وحارة جداً، حتى الطير لا يستطيع أن يحوم فوقها، فلما ألقي عرض عليه جبريل على الفور فقال له: ألك حاجة يا إبراهيم؟ فقالوا كذباً عليه: حالي يغني عن سؤالي! ونحن قد أخبرنا حفيده صلى الله عليه وسلم بأنه قال: أما إليك فلا، وأما إلى الله فنعم، أي: لا حاجة لي عندك، وإنما حاجتي عند ربي، فصدر أمر الله عز وجل إلى النار، إذ هي مخلوقة من مخلوقاته، ومربوبة من مربوباته: يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]، وقد علمنا من قبل نبينا صلى الله عليه وسلم أن الله لو ما قال: وَسَلامًا [الأنبياء:69]، لمات إبراهيم في النار بالبرد، إذ البرد قاتل كالحر، والآن يموتون في الثلج، لكن قوله: بَرْدًا وَسَلامًا [الأنبياء:69]، فخرج -بعدما احترق القيد من يديه ورجليه- وهو يتفصد عرقاً، فانبهر ذلك الشعب واندهش، وقال: هيا نترك هذه الديار وأهلها، فخرج مع ابن أخيه لوط وزوجه سارة، إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي [العنكبوت:26] سَيَهْدِينِ [الصافات:99]، ولا يدري أين يذهب، وقد هداه ربه عز وجل، والشاهد عندنا في كلمة: حالي يغني عن سؤالي، إذ معناها: لا تدعو الله!! أعوذ بالله، إنه لا أعظم من الدعاء، فاصرخ يا عبد الله بين يدي ربك، إذ إن هذه أعظم عبادة لله تعالى، حتى قيل: إن الدعاء مخ العبادة، فمخ الحيوان إذا زال مات، وكذلك إذا نزع الدعاء ما بقيت عبادة.ولنا صورة دائماً نمثلها للحاضرين: قف يا إدريس! وارفع يديك إلى الله، فماذا تقرءون في هيئته هذه؟ أنا أقرأ وأنتم تسمعون: إن هذا العبد فقير محتاج إلى الله تعالى، والدليل أنه رفع كفيه إلى السماء، وهي علامة على فقره، والله يحب من عبده أن يعلن عن فقره، وأنه لا غنى له عن ربه، وثانياً: أن هذا العبد قد علم وأيقن أن ربه يسمع كلامه وإن أسره وأخفاه، فهو بين يديه يسمعه، ولولا أنه يعلم أن الله يسمعه هل يدعو بهذا الدعاء فقط؟ وإذا رفع صوته فربه قريب منه في الملكوت الأعلى؟ لكن علم هذا العبد أن الله عليم بذات الصدور، وأنه يعلم السر والنجوى، وأنه يعلم السر وأخفى، ويعلم ما في الظلمات، وما في الليل والنهار، وما في البر والبحر، وبالتالي فهذا مؤمن بأن الله يسمعه ويراه، وثالثاً: لولا علمه أن الله يرى مكانه في المدينة أو في مراكش أو في الليل أو في النهار فكيف يدعو هنا؟ ليذهب إلى مكان يراه الله، أو إلى كعبته وبيته، إذاً هو مؤمن بأن الله يراه حيث ما كان، وأضف إلى هذا: لو عرف أن غير الله يعطيه حاجته لعمل بيديه هكذا، أي: مدها إلى من يطلب منه، لكنه ما رفع يديه إلا إلى أعلى، علماً منه أنه لا يوجد أبداً في الكون من يعطيه أو يقضي حاجته إلا الله تعالى، وإلا لنكَّس يديه إلى أسفل، أو قال يا فلان.فهل عرفتم أن الدعاء هو العبادة؟ إذاً فادعوا الله عز وجل وابكوا وعفروا وجوهكم في التراب، وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العلق:19]، إذ إن أعظم حالة لاستجابة الدعاء وأنت ساجد بين يدي الله تعالى، فتعفر وجهك بين التراب، لا على هذا الحرير، والدموع تسيل، فلا ترفع رأسك حتى تُعطى حاجتك، واقرءوا: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العلق:19]، وقال عليه الصلاة والسلام: ( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد )، واحفظوا هذه الكلمة عن نبينا صلى الله عليه وسلم، فهيا بالبالون نطلع خمسين عاماً في السماء، هل نقرب إلى الله أكثر ممن هو هنا؟ والله ما كان، حتى لو تخترق السموات السبع ما تقرب من الله كما تقرب منه وأنت ساجد ووجهك في التراب على الأرض؛ لأن الملكوت كله في يديه وقبضته.معاشر المستمعين! إن الشرك أعظم ذنب وصاحبه إن لم يتب منه فهو خاسر خسراناً أبدياً.
ذكر بعض مظاهر الشرك بالله تعالى
كما يجب علينا أن نعرف مظاهر الشرك مظهراً بعد آخر، وذلك حتى ننقذ إخواننا من الشرك، والحمد لله فقد أنقذ الله بهذه الدعوة من المؤمنين والمؤمنات الكثير، وذلك ممن كانوا يعيشون والله على أفظع الشرك، فقد كانوا يستغيثون ويدعون ويصرخون وينادون بأسماء غير أسماء الله تعالى! وقد كانت قلوبهم متعلقة بالأولياء وبالقبور والأضرحة، ولذا فقد كانوا يحلفون بها ويستغيثون بها وينذرون لها ويحبون فيها ويبغضون فيها، والحمد لله قد نجانا الله من ذلك، ونجى أيضاً من عاشرناه.وخلاصة القول: من الآن إياك يا عبد الله ويا أمة الله أن تحلف بغير ربك، صادقاً كنت أو كاذباً؛ لأن الحلف بغير الله شرك في عظمة الله عز وجل، إذ إن الذي تحلف به يكون قد عظمته وأعطيته منزلة حتى أصبح لأن يُحلف به، ومعناه أنك رفعته إلى مستوى الألوهية والربوبية، فإياي وإياكم أن يسمعنا الله نحلف بغيره، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في رواية الترمذي في جامعه الصحيح: ( من حلف بغير الله فقد أشرك )، صدقت يا رسول الله، إذ لما نقول: وحقك، ورأسك، وسيدي فلان، يكون قد عظمته، وأعطيت من عظمة الله لهذا المخلوق عظمة وأشركته فيها، وهذا أمر واضح للمتأمل.والرسول صلى الله عليه وسلم على المنبر يقول: ( ألا )، ألو، أستغفر الله، ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ألو، لكن أنتم تعرفونها أكثر من ألا، ( ألا إن الله ورسوله ينهيانكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت )، وفعلاً فقد كانوا يحلفون بآبائهم، وقد كانوا يحلفون باللات والعزى، إذ إن الرجل أسلم أمس، فلا يستطيع أن يترك الحلف بإلهه الذي عاش معه أربعين سنة، إذ إنه ما يشعر حتى يقول: واللات أو والعزى، فكانت مشكلة عالجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أستاذ الحكمة ومعلمها، فقال عليه السلام: ( من حلف باللات فليقل: لا إله إلا الله )، وهل استفاد إخواننا الذين تعودوا: بحق سيدي عبد القادر، والنبي؟ قل: لا إله إلا الله تمحها على الفور، إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114]، وبعضهم قد عاش في مكة على القمار سنين عديدة، فما يدري إلا وقد بدون شعور أو بدون قصد: تعال أقامرك، فقال عليه الصلاة والسلام: ( ومن قال: تعال أقامرك فليتصدق )، بصدقة مطلقاً، فإنها تمحو هذه الكلمة، فهذا هو العلاج للمجتمع الذي تعود على القمار؛ لأنه بقوله: تعال أقامرك أو ألعب معك، يكون قد زلت قدمه، ومع هذا قد تدست النفس، فإنه يحتاج إلى محو وإزالة هذا الأثر بصدقة ولو بحفنة تمر.وأما من يقول: علي الطلاق، أو بالطلاق، أو والطلاق، فما هو الطلاق؟ جبل أحد هذا؟ ماذا عليه؟ إن هذه من ألفاظ الجهال، إذ حقيقة الطلاق يا عباد الله أن المؤمن وهو ولي الله، والمؤمنة وهي ولية الله، إذا تأذى هذا الرجل من امرأته وصبر وبقي في آلامه، فإن سيده ومولاه لا يرضى له أن يعذب طول حياته، فله أن يطلق، وكذلك المؤمنة أمة الله، فإن تأذت من هذا الزوج، وصبرت عاماً وعامين، فإن الله لا يرضى لأمته أن تعذب، فلها عند ذلك أن تطلب الطلاق، إذ إن الطلاق هو لرفع الضرر على عباد الله الصالحين، فكيف أصنع؟ نأتي باثنين من الرجال العدول، ونجلس معاً في البيت، ونقدم لهم طعاماً أو شراباً، ثم نقول لهما: أشهدكما أني قد طلقت فلانة، يا فلانة أنت طالق، ابق في بيتك حتى تنتهي عدتك، ثم الحقي بأهلك، فهذا هو الطلاق، وأي طلاق غير هذا فهو بدعة وضلال ومنكر.مرة أخرى: يكون الطلاق عندما يؤذى عبد الله أو أمة الله عاماً أو عامين، ولا يستطيع أن يصبر أكثر من ذلك، إذ كيف يرضى الله بأذيته وهو وليه؟ وكذلك المؤمنة لا يرضى الله لها أن تبقى معذبة، ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )، إذاً: فأذن الله في الطلاق، فكيف نطلق؟ علي الطلاق؟! وبالطلاق؟! وبجامعة الأيمان؟! كل هذه ألفاظ مبدعة محدثة، إذ إن الطلاق هو أن تأتي باثنين من عدول القرية أو من جماعتك أو من حيك، وتدخلون المنزل وتقول لهما: أشهدكما أني قد طلقت فلانة، فقط بهذه الكلمة، وهي تسمع، ثم يقول لها: يا فلانة! ابق في بيتك، وكلي واشربي واستريحي حتى تنتهي العدة، وهي ثلاثة حيض أو أقراء، ثم تذهبين إلى أهلك، وإن قالت: لا، اسمح لي من الآن اذهب إلى بيتنا، فلا يمنعها، ثم يسألها: هل لك عندنا شيء؟ قالت: نعم، لي عليك ألفين ريال من يوم كذا، فيعطيها إياها، وإن قالت: أمتعني وأكرمني بشيء فأنا الآن ذاهبة إلى بيت أبي، فأعطها ألف ريال، ومع السلامة يا أمة الله، فهذا هو الطلاق، وهذا هو الإسلام، وهذا الموضوع طويل كموضوع الشرك، وسنعود إليه إن شاء الله يوم غد.وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #582  
قديم 18-05-2021, 03:31 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,873
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (82)
الحلقة (304)
تفسير سورة النساء (85)


بعث الله عز وجل رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم برسالة الإسلام، وأنزل عليه القرآن، وأمره بتبليغ دينه لكل من على وجه البسيطة من الإنس والجن، وأمر الناس من جانب آخر باتباع هذا النبي الخاتم، الذي ختمت برسالته الرسالات، وجاء الكتاب المنزل عليه مهيمناً على الكتاب كله، مبيناً لهم أن إيمانهم به هو خير لهم، ومن كفر منهم فإن الله غني عنه.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة النساء
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، فاللهم حقق رجاءنا، فإنك ولينا ولا لي لنا سواك.ومازلنا مع سورة النساء المدنية المباركة الميمونة، ومع هذه الآيات الأربع، ولكنا سندرس الآية الرابعة الأخيرة منها، وتلاوة هذه الآيات الأربع تذكيراً للناسين وتعليماً لغير العالمين بعد أعوذ بالله من الشيطان: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيدًا * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:167-170].معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! علمنا -والحمد لله- أن الصد عن سبيل بعد الكفر صاحبه ضال ضلالة لا يهتدي بعده، فيا ويل من كفر وصد عن سبيل الله، وذلك لقول ربنا: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:167].ثانياً: أن الذي يكفر ويزيد فوق كفره ظلماً، أي: ظلم نفسه وظلم غيره، إذ الظلم يتناول أولاً ظلمه لنفسه ثم ظلمه لغيره، وقد يظلم ربه فيأخذ حق سيده ومولاه ويعطيه لعبيده ومخلوقاته، ألا وإن الشرك من أعظم أنواع الظلم، إذ هو اعتداء على حقوق الله عز وجل، فهذا الذي كفر وظلم يخبر تعالى عنه أنه لن يغفر له، ولن يهديه طريق السلامة والنجاة والسعادة، ولكن سيهديه طريق جهنم والخزي والعذاب الأبدي، وتأملوا قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [النساء:168-169]، فما هو بالصعب أبداً ولا الشاق الممتنع، فالله أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له: كن، فهو والله يكون، فلا يعجز أن يدخل البشرية كلها والجن كلهم والملائكة كلهم في عالم الشقاء، إذ إنه على كل شيء قدير.ومن أراد أن ينظر إلى قدرة الله فليرفع رأسه إلى الشمس، ويسأل علماء الفلك: من أوجد هذا الكوكب العظيم؟ بنو فلان؟! الدولة الفلانية؟! إن هذا الكوكب كتلة من النار، فمن أوجد هذه الكتلة من النار؟ ما مادتها؟ إن هذا الكوكب العظيم أكبر من كوكبنا الأرضي بمليون ونصف المليون مرة، فمن أوجده؟ من سخره وأداره في فلكه لحكمة أرادها؟ أبعد هذا تشك في قدرة الله تعالى يا ابن آدم؟! وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:284].
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم...)
قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:170]. ‏
نداء الله للخلق كافة وإخبارهم بمجيء الرسول صلى الله عليه وسلم
قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ [النساء:170]، هذا النداء عام، فيشمل الكتابي والمشرك والمؤمن والكافر والأبيض والأصفر، أي: كل بني آدم، ولكن في الدرجة الأولى يتناول اليهود والنصارى؛ لأنهم كفروا بالنبي الخاتم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، مع علم علمائهم ورجال العلم عندهم أنه النبي الخاتم محمد بن عبد الله الذي يخرج في جبال فاران، والله ليعرفونه كما يعرفون أبناءهم، ولكن الحفاظ على المنصب والكرسي والطعام والشهوات حرمهم أن يعترفوا بالحق، قال تعالى: يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146]، قال عبد الله بن سلام الحبر العظيم من بني إسرائيل من اليهود في المدينة، وقد أسلم أول من أسلم: والله إني لأعرف رسول الله أكثر مما أعرف ابني، لم؟ قال: لأن أم ولدي يمكن أن تخونني وأنا لا أدري، أما هذا فوالله لرسول الله، وقد ورد ذكره في الكتب السابقة، كالتوراة والإنجيل، إذ إن فيهما صفات ونعوت رسول الله، بل تكاد هذه الكتب أن تنطق بها، واسمع ما قاله عيسى عليه السلام لبني إسرائيل: وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف:6]، وهو موجود في الإنجيل.والشاهد عندنا: ثقوا وصدقوا بأن التوراة والإنجيل تحملان صفات رسولنا ونعوته التي تكاد أن تنطق بها، لكن أعداء الله وأعداء البشرية وأرباب المادة وعباد الشهوات والشياطين والأهواء، قد جحدوا الحق بعدما عرفوه، ولا تعجب، بل ولا غرابة في هذا، إذ إن المسلمين بينهم وفيهم من جحد الحق وأنكره وتنكر له وكذب به أيضاً، لا لشيء إلا لمصالح دنيوية هابطة ولشهوة البطن والفرج.فاسمع يا عبد الله! إلى نداء الحق جل جلاله وعظم سلطانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ [النساء:170]، ما قال: قد جاءكم رسول، وإنما (الرسول) المعهود عندكم، والمعروف بينكم، والذي جحدتموه وأنكرتموه وكذبتموه، وقلتم فيه ما قلتم، الرسول الأعظم الأكمل في رسالته وكمالاته، وإنه والله لمحمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم القرشي العدناني، من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهم السلام.فهذا النداء ينبغي أن تصغي إليه الآذان، إذ إنه نداء خالقنا ومالك أمرنا ومولانا، فهو يقول لنا: قد جاءكم الرسول، فقولوا: مرحباً به، وأهلاً وسهلاً بمجيء حبيب الله ورسوله ومصطفاه، لكن قالوا: لا، هذا يريد أن يحكم ويسود، ويريد أن يستغلنا وأن يستعبدنا، فأخذوا يحرفون كلام الله ويبدلونه ويغيرونه، فيا ويلهم من عذاب جهنم، وثَّم يذكرون حالهم ويبكون ولا يجديهم البكاء، وتتمزق قلوبهم حسرات ولا ينفعهم ذلك في شيء.إن هذه إنعامات الله وإفضالاته علينا، إذ إنه ينادي البشرية بعنوانها العام: يا أيها الناس! قد جاءكم الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم بالحق يحمله إليكم من أجل أن تكملوا في دنياكم وتسعدوا فيها وفي أخراكم، وما جاء ليجمع أموالكم أو ليتسلط عليكم أو ليسودكم، وإنما جاء بالحق يحمله، من أين؟ قال: مِنْ رَبِّكُمْ [النساء:170]، فكيف نرد ما جاءنا من ربنا؟! مجانين نحن لا عقول لنا؟! أيجيئنا رسولٌ يحمل الهدى والنور من ربنا وسيدنا وخالقنا والذي إليه مصيرنا فنرده؟! لماذا لا نقول: أهلاً وسهلاً ومرحباً؟! لكن إبليس وأعوانه وقفوا في الطريق؛ لأنهم ما يريدون لهذا الآدمي أن يكمل أو يسعد أبداً، ولذا حسبنا أن نسمع كلمة العدو وهو بين يدي الله تعالى، وهو يحلف بالله فيقول: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص:82]، أي: فبعزتك يا الله لأغوين بني آدم عن آخرهم، لم يا عدو الله؟ قال: لأنني أُبلست وأيست من الخير بسببهم، بل وطردت من الجنة وحق عليَّ القول بأنني من أهل النار، وبالتالي فسأعمل أيضاً على إضلالهم وإغوائهم حتى يدخلوا معي النار.وأنت يا أبا مرة! يا عدو الله، يا عدو الإنسانية! ألست أنت الذي أخرجت أبانا وأمنا من دار السلام بفتنتك؟ بل أنت ما أبلست ولا طردت إلا لأنك تكبرت، إذ أمرك مولاك أن تسجد لآدم، فحملك الكبر كيف تسجد لهذا المخلوق من الطين وأنت المخلوق من النار؟ فمن سبب الشقاء إذاً؟ أنت يا إبليس عليك لعائن الرحمن.ولذلك لما خلق الله آدم بيديه، وهذه ميزة خاصة بآدم، ونفخ فيه من روحه، أمر ملائكته أن يحيوه، وذلك بأن يسجدوا لآدم، فسجد الملائكة كلهم، كم ملياراً؟ والله لا تعرف عددهم، وهذا الملعون عدو الله الذي يوجد الفتن بيننا، ويوغر صدورنا، وينفخ فينا الخبث والباطل، قال: أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا [الإسراء:61]؟ أي: كيف أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا [الإسراء:61]؟ ثم قال: أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ [الإسراء:62]، أي: إذا طولت في عمري إلى آخر الدنيا سأفعل وسأفعل بأولاده وذريته كذا وكذا.إذاً: إبليس عدو الله هو السبب، لكن لسنا بأنعام ولا أبقار ولا أغنام، فينفخ فينا روح الباطل فننتفخ ونهتز، بل يجب أن نحذر هذا العدو، وعندك مشعل من نار لا يقوى هذا العدو أبداً على أن يقرب منك إذا قلته، ألا وهو قولك: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فإذا شعرت به وحام حول قلبك، فاستعمل هذا الجهاز الإلهي: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فإنه يرجل عنك بعيداً.ولكن معاشر المستمعين! هذه القضية تحتاج إلى إيجاد جهاز سليم صحيح، فالذي لا يملك هذا الجهاز لا يستطيع، فاسمعوا هذه الآية من سورة الأعراف، يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ [الأعراف:201-202].فتأملوا هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا [الأعراف:201]، اتقوا ماذا؟ الحر والبرد والجوع والظمأ؟ لا والله ، وإنما اتقوا الله ربهم، فلم يجاهروا بمعاصيه، ولم يعلنوا العصيان والخروج عن طاعته، وإنما إذا قال: صوموا صاموا، وإذا قال: أفطِروا أفطَروا، وإذا قال: امشوا مشوا، وإذا قال: قفوا وقفوا، وبهذا يتقى الله عز وجل، إلا أنه لابد من معرفة فيمَ نطيع الله تعالى؟ وما هي أوامره التي نقف عندها وننهض بها؟ وما هي نواهيه ومحرماته التي نتجنبها ونبتعد عنها؟ لابد من العلم، أحببنا أم كرهنا، إذ من لم يعلم لن يصل إلى مستوى الكمال بحال من الأحوال. إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا [الأعراف:201]، فانظر إلى حالهم: إِذَا مَسَّهُمْ [الأعراف:201]، طيف، طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201]، فالعدو يحوم كالطائرة الغازية للعدو حول مركز حي في البلد، وإذا بالأجهزة المتهيئة لذلك تشعر بها وتطردها، والذي ما عنده جهاز صالح فإن الشيطان يحوم ويدخل قلبه، ويتصرف فيه ويسخره كالبقرة، فيقوده ويدفعه إلى الجرائم والشهوات التي قد تشمئز منها الحيوانات.وتأملوا هذه الكلمة من كلام الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا [الأعراف:201]، أي: ربهم، بماذا؟ بطاعته، في ماذا؟ فيما أمرهم به ففعلوه، وفيما نهاهم عنه فتركوه، فأصبحت قلوبهم مشرقة وأرواحهم زكية، والأنوار تملأ قلوبهم، إذ ما إن يحوم الشيطان حول قلوبهم حتى يتفطنوا له ويلعنوه فيبعد، والذي ما عنده إشعاع ولا نور ولا حراسة، يأتي إليه الشيطان وينزل على قلبه، ثم يسخره كما يشاء، والرسول الكريم قد علمنا فقال: ( إذا اعتراك الشيطان -أي: اعترضك- وأنت في الصلاة فالتفت عن يسارك وقل ثلاث مرات: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فإنه يرحل )، وبالتالي فما من إنسان يشعر بأنه يريد أن يرتكب معصية قد زينها له العدو، فتفطن وقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، والله لقد نجا، ولا يقع في تلك المعصية. يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ [النساء:170]، و(أل) في (الرسول) للتفخيم والتعظيم، وللإجلال والإكبار، وهي للعهد، أي: الرسول المعهود عندكم في التوراة والإنجيل، ومع ذلك تحاولون تحريف كلام الله تعالى، وتقولون: هذا الرسول ليس هو، وهذا الرسول كذا وكذا، وهو في الحقيقة الرسول المعروف، وقد جاءكم بالحق، فهل جاء رسول الله بالباطل؟ والله لو تجتمع البشرية وتأخذ تحلل وترتب وتقدم وتؤخر في شريعته الثابتة عنه في كتابه، والله ما عثروا على شيء اسمه باطل، لا في الآداب ولا في الأخلاق ولا في السياسة ولا في الحرب ولا في السلم ولا في التقنين ولا في التشريع، إذ مستحيل أن يكون هناك باطل يحويه كتاب الله وتثبته سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #583  
قديم 18-05-2021, 03:31 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,873
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )

بيان مجيء الحق من الله تعالى
ومن أين جاء هذا التشريع والتقنين والآداب والعبادات وهذه الكمالات؟ أي: من أين مصدرها؟ قال: مِنْ رَبِّكُمْ [النساء:170]، قالوا: مَن ربنا؟! سبحان الله! قل لي: من ربك أنت؟ كوكب؟! هل رأيت الكوكب قد صنعك؟ جبل؟ هل رأيت الجبل قد صنعك؟ إنه لا يسعك إلا أن تقول: ربي اسمه الله، أي: خالقي ورازقي وواهب حياتي ومعطيني ما طلبته منه، ولا رب سواه عز وجل.ملحوظة: قبل المذهب الشيوعي البلشفي الأحمر، والذي قد أراحنا من الصليبية! مزقها؟ داسها؟ ماذا فعل بها؟ سلبها عقيدة وجود الله والإيمان به وبلقائه، إذ إن ثلاثة أرباع المسيحيين ملاحدة بلاشفة، وثلاثة أرباع الصليبيين في هذا القرن لا يؤمنون بالله ولا بالجنة ولا بالأنبياء ولا بالرسل، فمن فعل بهم هذا؟ بنو عمنا اليهود؛ لأنهم حجر عثرة في طريقهم من أجل إيجاد مملكتهم وسيادتهم، وقد قلت ألف ما مرة: أيام كان المسيحي يؤمن بالله وبلقائه وبدار السلام، كان ينظر إلى اليهودي لا يستطيع أن يفتح عينيه فيه أبداً، وذلك لشدة بغضه له؛ لأنه قد قتل إلهه وصلبه كما يزعم! وبالتالي فكيف ينظر إليه؟! فاستطاعوا بهذه الحيلة العجيبة أن يرموا النصارى بالبلشفة ولا إله والحياة مادة، كما واستطاعوا أن يكسبوا مغانم كبيرة لا يشك في هذا ذو علم ومعرفة، وهم الآن يتحكمون في أوروبا وأمريكا والعالم، وقد نجحوا، لكن الذي أردت أن أقوله: إنه قد تهيأت لنا أوروبا وأمريكا واليابان، فقبل وجود البلشفة والشيوعية الحمراء كان لا يستطيع المؤمن أن يؤذن في أوروبا أو يدخلها أبداً، لكن شاء الله وهو يدبر، وهو العليم الحكيم، أن تأتي هذه البلشفة وتهبط تلك العقيدة وتزول، وتصبح أوروبا كأمريكا داراً مفتوحة للإسلام والمسلمين، فتجد فيها المساجد والتعليم، ووالله لقد صلينا في المطارات، وقبل ذلك لا يمكن أن يظهر مسلم أبداً.فهيا نغتنم هذه الفرصة وننشر دعوة الله في تلك الديار التي فتح الله لنا أبوابها، وقد نادينا وصرخنا: يجب أن تتكون لجنة عليا للعالم الإسلامي يشارك فيها كل قطر وإقليم بعالم أو عالمين، وتضرب تلك اللجنة العليا فريضة على كل مؤمن بدرهم أو دينار في العام أو في الشهر، فتوجد ميزانية ضخمة لا تعادلها أي ميزانية في الدنيا، وتقوم فقط بنشر دعوة الله في تلك الأرض التي فتح الله لنا أبوابها، وتبعث بالمرشدين والمعلمين البصراء، وتبني المسجد وتعطي تكاليف المسجد من الإمام وما إلى ذلك، وتوزع الكتاب في هدوء، وتربي تلك الجماعات، وتنتزع من نفسها ذاك الشرك والخرافة والضلالات والحزبيات والوطنيات، فيصبح المسلمون في أوروبا أو في أمريكا جسم واحد، لا قبلي ولا بربري ولا عربي، لا حنفي ولا شافعي ولا مالكي، وإنما مسلم فقط، وكأنهم الملائكة، وما إن ينظر إخواننا الكفار هذه الأنوار حتى يتدفقوا عليها، إذ من يكره هذه الأنوار؟! فيشاهدون المسلمون وهم كلمة واحدة، والصوت ليس مرفوعاً، فلا ضجيج ولا صخب ولا حرب ولا قتال، وإنما الطهر والصفاء والمودة والإخاء، والتعاون على البر والتقوى، والبعد عن الإثم والعدوان، وكأنهم كالملائكة، ووالله ما تمضي خمسة وعشرون سنة وإلا تدفق الناس على الإيمان والإسلام، لكن للأسف الفرصة الآن قد ضاعت، فالفتنة دائرة في بلاد العرب، إذ إنهم يقتلون النساء والأطفال، ويذبحون بعضهم بعضاً، ويفعلون الأعاجيب، فيقولون: انظروا إلى هذا الإسلام! ووقفوا الآن موقفاً، وأنا أخشى ذلك، وقد قلت لكم: والله إن لم نستقم حقاً ونعود فإن إخواننا المسلمين في أوروبا وفي أمريكا سيرمونا في البحر وينهون وجودنا، فما لنا لا نستيقظ ولا نفيق ولا ننهض ولا نتحرك؟! أين الصحوة هذه؟ إنها سكرة من أعظم السكرات، والعجب أنهم سموها صحوة!
الهدف من مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم
قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ [النساء:170]، يحمله معه، مِنْ رَبِّكُمْ [النساء:170]، لا من جهة من الجهات، ولا طائفة من الطوائف، ولا زعيم من الزعماء، ولا ملك من الملوك، وإنما مِنْ رَبِّكُمْ [النساء:170]، إذاً: فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ [النساء:170]، أي: آمنوا بهذا الرسول خيراً لكم من الكفر ألف مرة، إذ إن إيمانكم يكن خيراً لكم من الكفر، فهذه دعوة الله بين أيدينا نحن بني آدم على هذه الأرض، يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ [النساء:170]، ولا تقل: جاء من ألف وأربعمائة سنة، لا، إذ إن رسالته هي هي، وكلماته التي قالها محفوظة بالحرف الواحد، إذ ما ضاع منها شيء أبداً، قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا [النساء:170]، وهذا أمر الله، وآمنوا، أي: صدقوا بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وامشوا وراءه يصل بكم إلى دار السلام، فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ [النساء:170]، فالله هو خالق الخير والشر، يعلمنا أن إيماننا به خيرٌ لنا من الكفر به، وهو والله لكذلك، خير لنا في الدنيا والآخرة على حد سواء.
غنى الله المطلق عن عباده
ثم قال تعالى: وَإِنْ تَكْفُرُوا [النساء:170]، فهل معنى ذلك أنكم انتصرتم؟ أي: إن رفضتم أمر الله وما قبلتموه وكفرتم به، فهل معناه: أنكم سوف تغلبون الله، ولا تبالون بسلطانه ولا بدولته؟! يقول تعالى: فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [النساء:170]، فكل شيء في الملكوت الأعلى والأسفل بيده سبحانه وتعالى، فأين تذهبون؟ أنتم كالنعاج فقط بين يدي الله، فلا تفهموا أنكم إذا رددتم أمر الله وقلتم: ما نؤمن بهذا الرسول ونكفر به، تظنون أنكم غلبتم الله، واستطعتم أن تعجزوه؛ لأنكم ما آمنتم، لا، إذ إن له ما في السموات وما في الأرض، وهم في قبضته وملكه، فيعطي ويمنع، ويرفع ويضع، ويحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير.
إثبات صفتي العلم والحكمة لله تعالى
وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا [النساء:170]، بخفايا الأمور وبظواهرها وعلانيتها، عليماً بالكافر من هو؟ وبالمؤمن من هو؟ والبار والفاجر والصالح والطالح والحاضر والغائب والحي والميت، حكيماً [النساء:170]، والحكيم هو الذي يضع الشيء في موضعه، ومعنى هذا: إن كفرتم فقد وقعتم في المحنة ولن تخرجوا منها، ألا وهي خزي الدنيا وعذاب الآخرة؛ لأن الملك جل جلاله يملك كل شيء فينا، ومما يملكه فينا رقابنا، فهو يسوقنا حيث شاء، ويدخلنا حيث يريد، وهو حكيم، والحكيم لا يضع أبداً أهل الإيمان والطهر في أتون جهنم، ولا يضع أهل الكفر والشرك والنفاق والمعصية في دار السلام، إذ حاشاه سبحانه وتعالى عن ذلك.
معنى الإيمان برسول الله ولوازمه
قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ [النساء:170]، الحق الكامل المعروف عندكم في كتبكم، وقد جاءكم بالحق مصحوباً به يحمله إليكم، ألا وهو دين الله الإسلام، وبناء على هذا: فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ [النساء:170]، أي: الإيمان خير لكم من الكفر، وَإِنْ تَكْفُرُوا [النساء:170]، وقد فعلوا، فلتعلموا أن لله ما في السموات وما في الأرض، وأنتم من جملة ما يملك سبحانه وتعالى، وسوف يجزيكم بعملكم، فإنه عليم بخلقه، حكيم في قضائه وتدبيره، فلا إله إلا الله! فمن يبلغ هذا لأهل الكتاب من اليهود والنصارى؟ ومن يقرأ هذا عليهم؟ لا نستطيع الآن، لكن أيام كنا سادة وقادة، وكانت الأنوار تغمرنا والعالم يتطلع إلى وجودنا، مشينا وغزونا وفتحنا ونشرنا دين الله تعالى، أما اليوم والظلام معتم علينا، ونحن في محنة الجهل والظلم والشر والفساد، فمن يقبل منا الإسلام؟! لقد صرفناهم عن الإسلام! بل وصددناهم صداً كاملاً بسلوكنا وبعجزنا وضعفنا وبمكرنا وخداعنا لبعضنا البعض!معاشر المستمعين! نعود مع رسولنا صلى الله عليه وسلم، فأولاً: هل نحن مؤمنون به أم لا؟ يا رب! آمنا برسولك الذي أرسلته إلينا بالحق، فاجعل إيماننا خيراً لنا يا ربنا، ويبقى السؤال التالي وهو: ما هو الإيمان بالرسول؟ الإيمان به يعني أن تؤمن به رسولاً لله تعالى، ولا يتم هذا ولا يصدق صاحبه فيه إلا إذا أطاع رسوله صلى الله عليه وسلم، إذ إذ الذي لا يطيع رسول الله ما آمن به، والذي لا يطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوامره ونواهيه الملزمة للفعل والترك ما آمن به أيضاً، وهو القائل: ( من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني )، فطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي دليل الإيمان وبرهانه، والذي يأمره الرسول فلا يمتثل، وينهاه فلا يترك، ويرغبه فلا يرغب، ويخوفه فلا يخاف، فكيف نقول: إنه قد آمن؟ وفوق الطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم الحب له عليه السلام، إذ من لم يحب رسول الله ما آمن به، واسمعوه وهو يقرر هذه الحقيقة فيقول فداه أبي وأمي: ( والذي نفسي بيده! لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين )، أي: والذي نفسي بيده! لا يؤمن أحدكم، ويصبح المؤمن بحق، والصادق في إيمانه، حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين، فهل نحب رسول الله فعلاً؟ ولذا فالحب له عليه السلام: أن يحب شيئاً فتحبه بحبه، ويكره شيئاً فتكرهه لكرهه، وهذه علامة الحب، أي: علامة الحب، فإذ كان يحب المحبوب شيئاً فتحبه بحبه وإن كان غير موافق لمزاجك وطبعك، وغير محقق لرغبتك، لكن مادام حبيبك يحبه فأنت تحبه، وإذا كان حبيبك يكره الشيء فإن كنت محباً صادقاً فتكره ذلك الشيء، وإن كانت نفسك تريده وترغب فيه وتتلذ به، لكن مادام الحبيب قد كرهه، فتحمل نفسك على كرهه والابتعاد عنه، وقد سمعتموه وهو يقول: ( والذي نفسي بيده! )، وهو الله تعالى، ( لا يؤمن أحدكم )، معاشر المؤمنين والمؤمنات! ( حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين ).وقد جاء عمر إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم يماشيه فقال له: ( يا رسول الله! والله إنك لأحب إليَّ من ولدي ووالدي والناس أجمعين إلا نفسي، فقال عليه السلام: والله لا تؤمن حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال عمر: والله لأنت أحب إلي من نفسي، فقال: الآن يا عمر )، أي: الآن آمنت يا عمر، فهل بلغكم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد سمع زمارة راع في السفر فأدخل أصبعيه في أذنيه وأبى أن يسمع؟ هو يكره الزمارة، والزمارة هي البيانو والكمان وغيرها من آلات اللهو والعبث، فكيف أنت تصغي إليها وتجعلها في غرفتك، بل وتجلس أنت وأبناؤك دونها تسمعون؟! وهل هذا يحب رسول الله؟! لا، ووالله لولا الجهل لقلنا: ما آمن، إذ إن أغلب الناس جهال لا يعرفون ما يحب الله ولا ما يكره، وهذا مثال واحد فقط، ولذلك فإن كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحب كذا فيجب أن تحبه وإن كان منافياً لغرائزك وطباعك وعاداتك، وذلك حتى تصبح المحب والمؤمن الصادق، واسمع إلى هذا البيان من النبي صلى الله عليه وسلم، إذ يقول صلى الله عليه وسلم: ( كلكم يدخل الجنة إلا من أبى )، يخاطب أمته في صورة أصحابه، ( كلكم يدخل الجنة إلا من أبى، قالوا: يا رسول الله! ومن يأبى؟ )، أحمق هذا أو مجنون؟ كيف يأبى فلا يدخل الجنة؟! فقال عليه السلام: ( من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى )، فكلكم أيها المستمعون! تدخلون الجنة إلا من أبى فقال: لا أدخل، فهل يوجد عاقل يقول: أنا لا أدخل؟ قال: ( من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى )، أي: أبى أن يدخل.فأين أهل العلم والدرس في هذه الحلقة المباركة؟ ما السر في هذا؟ هل أراد فقط أن يستعبد الناس ويخضعهم لطاعته، وبذلك يدخلون الجنة أو لا يدخلونها؟ اسمع وهو يقول: ( كلكم يدخل الجنة إلا من أبى )، فإنه لا يدخل، فعجباً يا رسول الله! ومن يأبى؟ قال: ( من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى )، فهل يريد منا أن نطيعه ويستعبدنا ويستغل طاقاتنا وأن يرأسنا؟! إياك أن تفهم هذا، إن سر هذه يا معشر المستمعين هي: أن طاعة رسول الله هي طاعة لله تعالى، قال تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80]، أي: أن طاعة الرسول هي طاعة لله تعالى، والذي لا يطيع رسول الله والله ما أطاع الله تعالى، ومن لم يطع الله يكرمه ويدخله في جواره في دار السلام؟! حاشا وكلا والله، وإنما يدخله دار البوار ومقرات الفجار والكفار.والسر والحكمة في طاعة الله وطاعة الرسول معاشر المستمعين هي: أن هذه الطاعات عبارة عن عبادات مقننة بالكمية والكيفية والأزمنة والأمكنة والهيئات والصفات، فتولد وتنتج الحسنات المعبر عنها بالنور، فمن عمل بها طاعة لله ولرسوله زكت نفسه وطابت روحه، وأصبحت أهلاً للملكوت الأعلى حيث النور والملائكة، ومن عصى الله ورسوله فعمل بالملوثات لروحه والمدسيات لها والمخبثات لها، فأصبحت روحه كأرواح الشياطين والكافرين، فيستحيل في حقه أن يدخل دار السلام.وأمامكم هذه الآية الكريمة فاسمعوها، وهي بيان إلهي: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40]، أي: حتى يدخل البعير في عين الإبرة، وهذا مستحيل جداً، فكذلك صاحب الروح الخبيثة العفنة المنتنة بأوضار الشرك والمعاصي، يستحيل في حقه أن تدخل روحه دار السلام، وهذه هي الحقيقة، أي: أن طاعة رسول الله هي طاعة الله تعالى، فمن يطع الرسول فقد أطاع الله تعالى، والسر في فعل الأوامر هي تزكية النفوس وتطهيرها والله العظيم، وإن أحببتم أن أريكم صورة، فخذوا هذا المثل: أعطوني عالماً بربه عارفاً بعبادة مولاه يعبد الله، وأحضروه أمامكم، هل يزني ويسرق ويكذب ويغش ويخدع ويتكبر ويسب ويشتم؟ لا والله؛ لأن روحه طاهرة، ونفسه زكية، وليس عليها ظلمات الخبث والنتن والشر والفساد، وأعطني مجرماً من مجرمي المدينة أو فاسق من فساق البلاد، وانظر إلى حاله، ستجد فيه الجهل وارتكاب الذنوب والمعاصي، فهذه هي الحقيقة التي يقول عنها صلى الله عليه وسلم: ( كلكم يدخل الجنة إلا من أبى )، أي: أن يدخل، قالوا: كيف ذلك يا رسول الله؟ قال: ( من أطاعني يدخل الجنة ) لماذا؟ لأنه زكى نفسه وطيبها طهرها، ولأنه استعمل أدوات التزكية من أنواع العبادات من الحج إلى الجهاد، إذ هذه كلها موضوعة لتزكية النفس، كما أنه أبعد نفسه عن الشرك والخرافات والضلالات والبدع المدسية للنفس الملوثة لها، فمات وروحه طاهرة نقية، فأين ينزل؟ والله في الملكوت الأعلى، ومن لم يطع رسول الله فما أطاع الله، وعلى أي شيء تزكو نفسه؟ على لعب الكرة؟! أعطونا ألعاباً تزكو بها النفس؟ أغاني، رقص، أكلات، شطحات تزكو بها النفس؟ على عقاقير وضعها الجبار، فقولك: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم مائة مرة تمحو كل ما على نفسك من قذر ووسخ؛ لأنها فعالة، وصلاة ركعتين مستقبل بهما بيت الله الحرام، فتتكلم مع ربك وعيناك هكذا حياءً منه، تخرج بعدهما وكأنك كتلة من نور، فلو تُعرض لك الدنيا كلها أمامك والله لتعزف نفسك عنها ولا تقبلها.إذاً: الإيمان برسول الله يحمل صاحبه على أن يحب رسول الله أكثر من نفسه فضلاً عن غيره، وأن يطيعه في أمره ونهيه، ويؤثر طاعته على طاعة هواه ودنياه وأهله وقبيلته.
ذكر بعض الآداب التي تجب على المسلم تجاه نبيه عليه السلام
وأخيراً: الأدب معه صلى الله عليه وسلم، إذ إن الذين لا يتأدبون مع رسول الله فإيمانهم ليس بشيء، فاسمع يا عبد الله! إن من الآداب التي أمرنا الله بها مع نبيه صلى الله عليه وسلم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [الحجرات:1]، لبيك اللهم لبيك، مرنا يا ربنا، لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات:1]، امشوا وراءه، ولا تأتي عن يمينه وتريد أن تقنن وتشرع كما يشرع هو ويقنن، ولا تمش أمامه تهديه وتدل على ما هو خير ومصلحة! بل يجب أن تمشي وراء رسول الله، فما أحله هو الحلال، وما حرمه هو الحرام، وما قبحه هو القبيح، وما مدحه هو الممدوح، وما أعطاه هو المعطى، وما منعه هو الممنوع، ومن أراد أن يمشي أمام رسول الله هلك، ومن أراد أن يمشي إلى جنبه الأيمن والأيسر يتصرف كما يتصرف، فيبيح ويمنع بهواه، فهذا ليس والله بالمؤمن، لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات:1].وهذا نداء آخر: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [الحجرات:2]، لبيك اللهم لبيك، مرنا يا ربنا، لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات:2]، فلا يحل لمؤمن الآن في مسجد عليه السلام وخاصة عند حجرته أن يرفع صوته، فهذا عمر رأى رجلاً من الطائف قد رفع صوته في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ائتوني به لأؤدبه، فجيء به ترتعد فرائصه، فقال له عمر: ما لك ترفع صوتك في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقيل: يا عمر! إن هذا الرجل ليس من أهل البلاد، إذ إنه ما تأدب بعد ولا تعلم، فقال عمر: لو كنت من أهل المدينة لأوجعتك ضرباً، فهل عرفتم الأدب مع رسول الله؟ لا ترفع صوتك في حضرته عليه السلام، فكيف بالذي يترك العمل بسنة رسول الله ويعمل ببدعة ابتدعها الشيطان عدو الله؟! وهذا مالك وهو يدرس السنة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إذا أراد أن يدرس السنة يتطهر ويتطيب، ويستحي أن يرفع صوته في مسجد رسول الله وهو يعلم. ومن الآداب أيضاً مع رسولنا صلى الله عليه وسلم: ألا تناديه فتقول: يا محمد! لقول الله تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور:63]، وإنما قل: يا نبي الله، أو يا رسول الله، أما يا محمد! فقد أسأت الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.إذاً: معاشر المؤمنين والمؤمنات! نسأل الله تعالى أن يحقق إيماننا به وبرسوله، اللهم إنا آمنا بك وبرسولك، وآمنا بكل ما أمرتنا أن نؤمن به، فأعنا ربنا على ذلك وثبتنا، وحقق لنا الإيمان يا رب العالمين، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك، وتوفنا وأنت راض عنا، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، اللهم اجمع كلمة المؤمنين، اللهم أذهب هذه الغفلة عنهم، رب أنقذهم يا رب العالمين، وحد كلمتهم واجمع قلوبهم على تقواك، ليتعانقوا ويتحابوا ويدفعوا الشر والبذاءة والأذى عنهم يا رب العالمين.
الأسئلة

حكم الصلاة خلف إمام يدعو الأولياء ويستغيث بهم
السؤال: هنا سؤال وهو: إمام يصلي بنا في ديارنا وهو يدعو الأولياء ويستغيث بهم! فهل تصح الصلاة خلفه؟الجواب: والله لا تصح، وحرام أن يبقى هذا الرجل يؤم الناس، بل ترفع به شكوى إلى حاكمكم ليبعده، إذ كيف مشرك يدعو ويستغيث غير الله، ويحاد الله بذكر فلان وفلان؟! لا يصح السكوت أبداً عن هذا، إذ الدعاء هو العبادة، فمن دعا غير الله فقد انمسخ وسقط، ووالله لو يموت قبل التوبة ما رأى الجنة ولا شم ريحها، وإن كان ابن النبي أو أباه؛ لأن حكم الله قاطع: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].فإن قيل: إذا الإمام يحلق لحيته، قلنا: حلق الإمام لوجهه شيء آخر، فلا تساوي الشرك بالحلق للحية، إذ إن حلق الوجه معصية وصاحبه آثم، لكن داعي غير الله مشرك هالك، وما هو بالمؤمن.فيا معاشر المستمعين! بلغوا إخوانكم: أنه لا يصح لمؤمن أبداً أن يقول: يا رسول الله المدد،! أو يا سيدي فلان أعطني كذا! أو يا مولاي فلان كن لي كذا! إذ إن الذي ينادي غيره إنما ينادي غائباً لا يسمع صوته ولا يرى مكانه، بل ولا يستطيع أن يعطيه حاجته، ومع ذلك فقد أشرك بالله وكفر به، ولم يعترف بكتابه ولا برسوله، والذي ندعوه في البر والبحر، في الظلام والضياء، في الحاجة وغيرها هو الذي يسمع الدعاء، قال تعالى: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل:62]، فهذا الذي نرفع أصواتنا به، أما يا فاطمة! يا رسول الله! يا سيدي فلان! يا عبد القادر! والله لمغضبة لله عز وجل، ولو سمعها الرسول لغضب غضباً شديداً، ولذلك قيل للرسول صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت! فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( قل: ما شاء الله وحده، ما زدت أن جعلتني لله نداً )، فكيف يرضى رسول الله بذلك؟ وكيف أن الله خالقك ورازقك وأنت بين يديه تعمى عنه وتقول: يا رسول الله! أعطني كذا، أو يا سيدي عبد القادر، أو يا فلان اعمل لي كذا؟! تغضب ربك هذا الغضب وأنت لا تدري، ولا نلوم أكثر؛ لأننا ما عرفنا، ما دلونا عن الطريق، فقد صرفونا عن الحق، ونحن أيضاً قد شردنا وبعدنا، إذ لا نجتمع على قال الله وقال رسوله، وإنما نقضي أوقاتنا في الملاهي والمقاهي، وهذا جزاؤنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #584  
قديم 18-05-2021, 03:32 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,873
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



تفسير القرآن الكريم

- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )

تفسير سورة النساء - (83)
الحلقة (305)
تفسير سورة النساء (86)



نهى الله عز وجل أهل الكتاب عن الغلو في الدين من التكلف والتنطع، والرهبنة واعتزال النساء، وغير ذلك من البدع التي حملهم عليها الغلو، كما حذرهم من قول غير الحق من زعم وجود الولد لله سبحانه وتعالى، مبيناً لهم أن هذا الذي ادعوه ولداً له سبحانه وهو عيسى عليه السلام لن يستنكف عن عبادة الله وحده، فهو عبده ورسوله وكلمته ألقاها على مريم، لأن كل من يستنكف عن عبادة الله فإن مصيره العذاب الأليم في نار الجحيم.
تفسير قوله تعالى: (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق رجاءنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وما زلنا مع سورة النساء المدنية المباركة الميمونة، وها نحن مع هذه الآيات الثلاث، فهيا نتغنى بها بعض الدقائق ثم نأخذ في شرحها وبيان مراد الله تعالى منها، فإن كان عقيدة عقدناها في نفوسنا فلا تنحل بإذن ربنا حتى نلقى الله مولانا، وإن كانت أمراً من أوامره من أجل إسعادنا أو إكمالنا، فإننا نعزم على النهوض بهذا الواجب والقيام بهذا الأمر الإلهي، وإن كانت تحمل منهياً عنه؛ لأنه ضار ومفسد، عزمنا على التخلي عنه والابتعاد من ساحته، وإن كانت تحمل نوراً وهداية سألنا الله تعالى تحقيقها لنا، وأصبحنا من أهل النور والهداية، وإن كانت تحمل آداباً رفيعة وسامية، عزمنا على التأدب بها والتزامها؛ لنسمو ونكمل بين الناس، وإن كانت تحمل خلقاً أحبه الله ورسوله ورغب فيه، عزمنا على التخلق به مادمنا قادرين نعي ونسمع ونقدر على أن نفعل ونترك، ولذا فمن أجل هذا يُدَّرس كتاب الله عز وجل، وتلاوة هذه الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا * لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [النساء:171-173]، إنه كلام عالي وسامي، ولا عجب إذ إنه كلام الله رب العالمين.
النهي عن الغلو في الدين
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ [النساء:171]، من القائل؟ إنه الله عز وجل الذي أنزل هذا القرآن الكريم، على من أنزله؟ على نبيه ومصطفاه ومختاره الذي اختاره من بين البشر وهو محمد صلى الله عليه وسلم، وها نحن في مدينته النبوية وفي مسجده وذاك قبره الشريف في حجراته الطاهرة، وكلنا يقين على ذلك، وما عندنا أدنى شك ولا وهم. يَا أَهْلَ الْكِتَابِ [النساء:171]، ومن هم أهل الكتاب؟ غالباً هم اليهود والنصارى، لكن في هذا السياق هم النصارى، واليوم النصارى هم المسيحيون أو الصليبيون، فيناديهم الرب تبارك وتعالى في كتابه ليبلغهم رسوله ما دعاهم الله إليه وأمرهم به ونهاهم عنه، وذلك من أجل أن يكملوا ويسعدوا لأنهم عبيد الله تعالى. يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ [النساء:171]، والغلو من غلا يغلو، إذا تجاوز الحد وازداد وابتعد، والغلو في الدين حرام، وهو الزيادة في الدين؛ لأن الدين إذا زيد فيه أو نقص منه فقد بطل مفعوله، فلا يزكي الأرواح البشرية ولا يطهرها ولا يحقق أمناً ولا طهراً ولا محبة؛ لأنه قد فسد بالزيادة أو النقصان.فأما اليهود فقد غلوا في سب عيسى وشتمه وانتقاصه، إذ رموه بالسحر، ورموا والدته بالزنا، فأفرطوا -والعياذ بالله- في الغلو، أو فرَّطوا أعظم تفريط في شأن عيسى عبد الله ورسوله، وأما النصارى فقد غلوا في عيسى حتى جعلوه هو الله، وجعلوه ابن الله، وجعلوه ثالث أقنوم من الأقانيم الثلاثة التي تكوِّن الله، وهذا كفر -والعياذ بالله- بشع قذر، إذ إن الله رب العالمين، ومالك الملك، وهو الذي أوجد العوالم كلها وأدارها ونظمها في الأكوان كلها، فهل يحتاج إلى ولد فينسب إليه فيقال: عيسى ابن الله؟ وهل هذا الرب العظيم الجليل يتكون من عناصر ثلاثة حتى يكون الإله الرب؟ لقد عبث بهم اليهود، فهم الذين أفسدوا عقيدة المسيحيين، وحسدوهم وأبغضوهم، إذ كيف يظفرون بعيسى وباتباعه والهداية على يديه؟ وما هي إلا فترة سبعين سنة واحتالوا على النصارى وجعلوهم من أبشع المشركين والكافرين والعياذ بالله رب العالمين.فاسمع الله عز وجل وهو يناديهم فيقول: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ [النساء:171]، وأهل الكتاب المفروض فيهم أن يكونوا علماء صلحاء عرفاء عدولاً أوعياء مستقيمين. يَا أَهْلَ الْكِتَابِ [النساء:171]، ناداهم لينهاهم عن الغلو في الدين، فقال: لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ [النساء:171]، ونحن مثلهم، فلا يحل لنا أن نغلو في ديننا بزيادة كلمة أو حركة، واسمعوا قول الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( إياكم -احذروا- ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة )، أحدثت بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يعملها رسول الله وأصحابه، ولم يبينها لأمته، فاحذروا المحدثات، ( فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة )، فإياكم يا معشر المسلمين! ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، فهاهو تعالى ينهى أهل الكتاب عن الغلو في الدين، فهل يسمح لنا بذلك؟ معاذ الله عز وجل.مرة أخرى: يا معشر المستمعين والمستمعات! إن الدين عبارة عن قانون أنزله الله عز وجل ووكل إلى رسوله بيانه، وهذا القانون أُنزل وشرع من أجل أن يسعد الإنسان عليه في هذه الدار، ويكمل ويسعد عليه في الدار الآخرة، فمن هنا إذا زاد فيه من زاد فقد أفسده، ومن نقص منه شيئاً فقد أفسده أيضاً.وعندكم مثال محسوس لا يجهله إلا من لا عقل له، وتأملوه: صلاة المغرب ثلاث ركعات، فقد نزل جبريل وعلم رسول الله في مكة وصلى به ثلاث ركعات، فلو قال قائل: نحن في فراغ وفي شوق إلى لقاء الله فنصلي المغرب أربع ركعات! وصلى أربع ركعات، فهل يفتيه عالم فقيه في المسلمين ويقول: صلاتك صحيحة؟ والله ما كان، بل كل فقيه يقول له: صلاتك باطلة؛ لأنك زدت فيها ركعة، وكذلك لو قال قائل: نحن في شغل وفي تعب، وسوف نصلي العصر ثلاث ركعات! وصلوا العصر فعلاً ثلاث ركعات، فهل يوجد عالم في الإنس في بني آدم من فقهاء الإسلام من يقول: صلاتكم صحيحة؟ الجواب: لا والله، ولو قال آخر: يا معشر المسلمين! إننا في شوق إلى عبادة الله، وطالما كنا مفرطين، فهذه السنة نصوم واحداً وثلاثين يوماً! وفعلاً صمنا واحداً وثلاثين يوماً، فهل يوجد فقيه فيقول: لا بأس وصيامكم صحيح؟ لا والله، بل صيامكم باطل فاسد، أو لو قلنا: إن هذا العام نكتفي بتسعة وعشرين يوماً، وصمنا تسعة وعشرين يوماً وأفطرنا وما زال من رمضان يوم، فهل يوجد من يقول: صيامكم صحيح؟ والله ما يوجد، بل باطل، ومعنى بطلانه: أن هذه العبادة لا تزكي النفس ولا تطهرها ولا تؤهل الإنسان للكمال والإسعاد إلا إذا أداها كما نزلت من السماء وبينها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أن هذه العبادة لا تزكي النفس، أو لا توجد الطهارة والصفاء في الروح البشرية التي بين جنبينا، ومن هنا فالزيادة في الدين كالنقصان، فإن قال قائل: يا شيخ! إن هذا بعيد، فأقول: أرأيتم من قال: أنا لا أغسل وجهي إلا أربع فقط ما نكتفي بثلاث، فيزيد غسلة رابعة متعمداً، فهل تجد فقيهاً يقول له: لا بأس؟ لا والله؛ لأنها عبادة مقننة بتقنين حكيم، فالزيادة تبطلها والنقص يبطلها، فإما أن تؤدى كما هي وإلا ما تنتج أو ما تولد النور للقلب البشري.وها نحن نسمع ما يقول تعالى لأهل الكتاب فيقول: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ [النساء:171]، أي غلو، وأي زيادة.
حرمة القول على الله بغير علم
قوله تعالى: وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ [النساء:171]، أي: الثابت القطعي الثبوت بوحي الله تعالى في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، أو الثابت بالعقل السليم الصحيح، فلا تقولوا على الله قولاً إلا أن يكون حقاً ثابتاً، أما أن نقول: الله له ولد أو له زوجة! فبأي حق أثبتنا هذا؟ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ [النساء:171]، أي: لا تكذبوا على الله فتقولون: قال الله كذا وهو ما قال، ولا حرم الله كذا والله ما حرم، ولا أحل الله كذا والله ما أحل، ولا شرع الله كذا وهو ما شرع، إذ لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يقول كلمة عن الله إلا إذا علمها يقيناً في كتابه وفي هدي نبيه صلى الله عليه وسلم، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ [الصف:7]، فهل يوجد من هو أظلم ممن يكذب على الله؟ لا والله، والذين يكذبون على الله إنما يكذبون لأجل تحقيق مصالح، أو لأجل الدينار والدرهم، أو من أجل حب العلو والرياسة والسلطان، أو من أجل أن يحصلوا على مادة فاسدة في هذه الحياة الدنيا.ونحن معاشر المؤمنين والمؤمنات! لا نكذب على إنسان فكيف نكذب على الله الرحمن؟! إذ الكذب حرام، فلا يحل لمؤمن أن يقول: قال فلان وهو ما قال، أو يقول: رأيت كذا وهو ما رأى، أو فعل فلان وهو ما فعل، فكيف إذاً يكذب على الله؟!
المعتقد الحق في عيسى عليه السلام
ثم قال تعالى مبيناً غلوهم وباطلهم: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ [النساء:171]، والمسيح هو عيسى عليه السلام، وسمي بالمسيح لأنه ممسوح الذنوب، إذ إنه لم يقارف ذنباً قط، وقد عاش ثلاث وثلاثين سنة ولم يذنب ذنباً قط، وقد بين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا في حديث الشفاعة الكبرى أو العظمى يوم القيامة، إذ يأتي الناس إلى آدم وهم في عرصات القيامة في ساحة فصل القضاء، فيعتذر آدم على أن يكلم لهم الله ليقضي بينهم ويحيلهم إلى نوح، ونوح يحيلهم إلى إبراهيم، وإبراهيم يحيلهم إلى موسى، وموسى يحيلهم إلى عيسى، فكل من أحيل إليه ذكر ذنباً وقال: كيف أكلم ربي اليوم وقد غضب غضباً لم يغضب قبله ولا بعده مثله؟ عليكم بفلان، ثم قال نبينا صلى الله عليه وسلم: ( إلا عيسى فإنه لم يذكر ذنباً قط )، ومع هذا قال: عليكم بمحمد صلى الله عليه وسلم.وإذا نزل من السماء -ولا ندري متى ينزل غداً أو بعد غد؟- فإنه يحج ويعتمر، والحبيب يقول: ( كأني بابن مريم في فج الروحاء ملبياً بحج وعمرة أو بعمرة أو حج )، لكن لا يفرحن النصارى واليهود بنزوله فيقولون: حينئذ نسلم، إذ لن يجزهم إسلام ولم ينفعهم إيمان؛ لأن الساعة قد دقت وانتهى العمل، فالمؤمن مؤمن والكافر كافر، قال تعالى في هذه الحقيقة، وهي إذا ظهرت علامات الساعة أغلق باب التوبة: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ [الأنعام:158]، فيؤمنون، أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ [الأنعام:158]، عز وجل فيؤمنون، أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ [الأنعام:158]، فيؤمنون، ثم ماذا قال تعالى؟ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [الأنعام:158]، ونزول عيسى من العلامات الكبرى.والمسيح عيسى بن مريم ليس له أب، إذ لو كان له أب لسماه الله عز وجل، وإنما له أم اسمها مريم بالعبرية، وبالعربية: خادمة الله.قال تعالى في الإخبار عنه: رَسُولُ اللَّهِ [النساء:171]، وليس هو ابن الله، وإنما رسول الله أرسله إلى اليهود فقط، فرسالته خاصة وليست عامة كرسالة الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم، فلهذا ناداهم فقال: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ [الصف:6]، أما محمد: أَيُّهَا النَّاسُ [الأعراف:158]، أبيضهم وأسودهم.ثم قال تعالى أيضاً في الإخبار عنه: وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ [النساء:171]، ما هذه الكلمة التي ألقاها إلى مريم؟ اللفظ يدل دلالتين سليمتين صحيحتين: الأولى: اقرءوا من سورتها: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا [مريم:16-19]، إذاً فهذه الكلمة هي كلمة الله عز وجل التي بعث بها عبده ورسوله جبريل فبلغها مريم، أي: ألقاها إلى مريم.والثانية: كلمة التكوين؛ لأن عيسى كان بكلمة الله (كن)، إذ بعث الله جبريل عليه السلام وأمره أن ينفخ في كم درعها، فنفخ فسرت النفخة الهوائية فدخلت في بطنها وقال الله لعيسى: كن، فكان. إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ [النساء:171]، وهذا أولاً، وثانياً: وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ [النساء:171]، وثالثاً: وَرُوحٌ مِنْهُ [النساء:171]، أي: روح من الله عز وجل، فجبريل هو الذي نفخها، والذي أمره أن ينفخ هذه الروح هو الله عز وجل.وهنا النصارى قالوا: إن كلمة (منه) في الآية: وَرُوحٌ مِنْهُ [النساء:171]معناها: أن عيسى جزء من الله عز وجل! وقد حدث على عهد الرشيد العباسي أن طبيباً نصرانياً كان عنده في مجلسه وهناك عالم جليل، فقال هذا النصراني: سبحان الله! الله يقول في كتابه العزيز: وَرُوحٌ مِنْهُ [النساء:171]، وأنتم تقولون: ليس هو بجزء من الله! فكيف ذلك؟ فألهم الله ذلك العالم الجليل فقال له: اسمع قوله تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [الجاثية:13]، ثم قال: إذاً هذه الأكوان كلها جزء من الله أو عيسى وحده فقط؟! فأسكته وأسلم وتاب إلى الله عز وجل ونجا من عذاب الله.

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #585  
قديم 18-05-2021, 03:32 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,873
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )

نهي الله لأهل الكتاب أن يقولوا: إن الله ثالث ثلاثة
قوله تعالى: وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ [النساء:171]، وهذا نهي من الله تعالى، انتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ [النساء:171]، أي: كفوا عن هذا الباطل وهذا الهراء والكلام الماجن. وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ [النساء:171] لماذا؟ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ [النساء:171]، أي: إنما الله معبود واحد، و(إله) بمعنى: معبود، فلا ثاني ولا ثالث، ما هو إلا الله الواحد الأحد، فالذي أوجد الخلائق هو الذي يعبد، والموجود هو في حد ذاته محتاج إلى أن يعبد من أوجده، بل الخلائق كلها مفتقرة إلى الله والله غني عنها، فكيف يوجد من يعبد مع الخلائق؟ إن المعبود هو الخالق الغني فقط، أما ما عداه فيجب أن يَعبد لا أن يُعبد مع الله، فلهذا كلمة الحق: (لا إله إلا الله) لن ينقضها ذو عقل أبداً، وتنقض بأحد أمرين: إما بأن يوجد مع الله إله آخر أو ثاني أو ثالث، ومن ثَمَّ نقول: لا إله إلا فلان وفلان وفلان، وما نقول: إلا الله، أو تنقض بأنه لا وجود لله، فإن قلنا: تنقض بوجود آلهة، فأين الآلهة التي خلقت مع الله وأدارت الحياة والكون؟ لا أحد، وإن قلنا: يوجد إله خلق ورزق، فنقول: دلونا عن إله خلق أو رزق أو دبر الكون؟ إذاً فلم يبق إلا كلمة: (لا إله إلا الله) التي لا تنقض بحال من الأحوال لا بالنفي ولا بالإثبات، ومن أراد أن يدخل في الإسلام من عهد آدم إلى اليوم فلا بد وأن يعترف يقيناً على علم أنه لا يوجد من يُعبد إلا الله، وثَمَّ ينبغي ألا يعبد إلا الله الذي اعترف أنه لا إله إلا هو، وألا يعترف بعبادة غير الله كائناً من كان، إذ لا يستحق العبادة إلا الله.ثم يقول الله تعالى لهم: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ [النساء:171]؛ لأن اليهود يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، بل يقتلون الرسل، والنصارى أيضاً لمَ ما يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم كما يؤمنون بزكريا وموسى وعيسى وإبراهيم؟ ثم هل من المنطق أو الذوق العقلي أو العرفي أن ملكك أو حاكمك يأمرك بأن تقول كذا وكذا، أو تصدق بكذا وكذا، فتقول: نعم يا سيدي إلا فلاناً فأنا ما أؤمن به أو لا أقول به! فهل يقبل هذا الكلام؟ وهل يعتبر مطيعاً لحاكمه؟ يقطع رأسه، فكيف تؤمنون برسل الله وتقولون: هذا ما نؤمن برسالته؟ إن الرسل ثلاثمائة وأربعة عشر رسولاً، فالذي يكذب واحداً كفر بإجماع المسلمين من عهد آدم، والأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألفاً، فلو أنكر وقال: أنا لا أؤمن برسالة يوشع فهو كافر؛ لأن من كذب الله في جزء اعتبر أنه قد كذبه في الكل، وما أصبح مؤمناً أبداً. وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ [النساء:171]، أي: أن الله ثالث ثلاثة، وهذه للمسيحيين، انتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ [النساء:171]، أي: من الآن قولوا: لا إله إلا الله، أما أن عيسى ابن الله، أو أن الله وابنه وروح القدس -جبريل- هي الله، أو أن عيسى وأمه والله عز وجل، وكلها أباطيل وترهات لا يقبلها عقل ولا فهم آدمي أبداً ولا تقبل. انتَهُوا [النساء:171]، أي: انتهوا عن هذا القول وعن هذا الاعتقاد، خَيْرًا لَكُمْ [النساء:171]، أليس انتهاؤهم به خيراً لهم؟ نعم؛ لأنهم إذا انتهوا فقد أسلموا ودخلوا في رحمة الله تعالى، لكن ما داموا أنهم يصرون أن الله جزء من ثلاثة أجزاء فهذا هو الكذب والكفر والعياذ بالله، والقول على الله بدون علم، فهل الله أعلمهم بأنه مكون من ثلاثة أقانيم؟ثم قال تعالى: إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ [النساء:171]، لا ثاني له ولا ثالث له، و(إله) أي: معبود واحد، لماذا كان المعبود الأوحد؟ لأنه لا يُعبد بالقلب والإذعان والخضوع والحب والطاعة إلا الذي وهبني حياتي، وأعطاني سمعي وبصري، وأعطاني عقلي وفهمي، وأعطاني ذاتي، وأوجد لي هذه الأرض وما فيها من نعيم لأعيش عليها، فهذا هو الذي أعبده، أما الذي حاله كحالي ومثله مثلي فهو فقير محتاج مخلوق مربوب، فكيف أرفعه إلى مستوى الإلهية وأدعوه مع الله أو أتقرب إليه مع الله؟! لا يعقل هذا ولا يقبل أبداً.معاشر المستمعين! وهل المسلمين نجوا من هذا الخلط والخبط والسقوط؟ ما نجوا، بل ما إن انتهت القرون الثلاثة التي أخبر عنها رسول الله بأنها خير القرون حتى ظهرت الضلالات في أمة الإسلام، فوجد أولئك الذين يدفنون أخاهم ويبنون عليه قبة ويجعلون على قبره تابوتاً ويكسونه بالأزر الحريرية، ثم يوقدون الشموع له، ثم يأتون ويعكفون حوله، ثم يحلفون به، ثم يتقربون إليه ويدعونه ويستغيثون به، فكم إلهاً عبدوا؟! وما انتهت هذه المشكلة إلا في هذه البلاد على يد السلطان عبد العزيز تغمده الله برحمته، فهو الذي هدم القباب والقبور وقطع الأشجار وصرف الناس بالحديد والنار عن عبادة غير الله، أما العالم الإسلامي عربه كعجمه القباب إلى الآن، وإن اتضح الحال وعرف الناس ربهم، لكن ما زال آلاف أو ملايين يستغيثون بالأولياء ويستعيذون بهم ويدعونهم: يا سيدي! يا فلان! وكأنهم آلهة، وما قرءوا هذه الآية: إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ [النساء:171]، أي: تنزه وتقدس أن يكون له ولد. لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [النساء:171]، فلو أن شخصاً يملك مدينة بكاملها، فهل تنسب إليه خروفاً من الغنم أو شاة من الماعز وتقول: هذه له؟! إن الذي يملك كل ما في الكون يكون له ولد يعينه؟! ماذا يصنع به؟ سُبْحَانَهُ [النساء:171]، أي: تقدس وتنزه وتطهر أن يكون له ولد، لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا [النساء:171]. وقضية نسبة الولد أن اليهود تورطوا فيها وقالوا: عزير ابن الله، وهذا في كتاب الله ويعترفون به، ومن العرب قبيلة كبيرة اسمها: بنو لحيان كانت تقول: إن الملائكة بنات الله! بل إن هناك أمماً ينسبون إلى الله عن جهل أشياء وأشياء، ولهذا احفظ هذه الكلمة: إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا [النساء:171].
تفسير قوله تعالى: (لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله...)
قوله تعالى: لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا [النساء:172].ثم قال تعالى واسمعوا يا بني إسرائيل واسمعوا يا أهل الكتاب، ولنسمع نحن أيضاً: لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ [النساء:172]، أي: أن المسيح عليه السلام والملائكة المقربون لن يتكبروا أو يأنفوا أن يكونوا عبيداً لله تعالى، فالمسيح العبد الطاهر النقي الصالح ما يتكبر ويقول: كيف أطأطئ رأسي لله أو أعبده؟ وكذلك الملائكة المقربون، فماذا تعرفون عن الملائكة؟ جبريل عليه السلام والله له ستمائة جناح، ولما تجلى وظهر لرسول الله في مكة سد الأفق كله بأجنحته، وهذا ملك تحت العرش رأسه ملوية ورجلاه في تخوم الأرض السابعة، فهذه العظمة عندهم وهذه القدرة والله ما يستنكفون عن عبادة الله، بل يسبحون الليل والنهار لا يفترون.فعيسى عليه السلام لا يتكبر ولا يستنكف أبداً ويقول: لا أكون عبد لله، بل هو عبد الله ورسوله، وأنتم تريدونه أن يكون مثل الله، فأين يُذهب بعقولكم؟ وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ [النساء:172]، عنها فلا يعبده، فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا [النساء:172]، في ساحة واحدة من آدم إلى آخر مولود، في ساحة فصل القضاء، في أرض غير هذه، في عالم غير هذا، فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا [النساء:172]، للحساب أولاً ثم الجزاء.
تفسير قوله تعالى: (فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله ...)
قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [النساء:173]. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [النساء:173]، من هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات؟ نسأل الله أن نكون منهم، آمنا بالله ولقائه، آمنا بالله ورسوله، آمنا بالله وبعبادته ولم نعبد غيره، بل لو نقطع أو نصلب أو نحرق فلا نعبد غير الله أبداً، فهؤلاء آمنوا إيماناً كاملاً صادقاً لا دخن فيه أبداً، فآمنا بالله وبكل ما أمرنا الله أن نؤمن به، سواء أدركناه بعقولنا أو عجزنا عن إدراكه لضعفنا وقلة قدرتنا، آمنا بالله وبكل ما أمرنا الله أن نؤمن به من شأن الغيب والشهادة، ولا نفرق بين أحد من رسله. آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [النساء:173]، ما هي الصالحات التي عملوها؟ هل البدع يقال فيها: صالحة؟ لا والله، وإنما عملوا الصالحات، أي: عبدوا الله تعالى بما شرع لهم، فلا زيادة ولا نقصان، ولا تقديم ولا تأخير، لا في الزمان ولا في المكان، وسر ذلك أن هذه العبادات -منها كلمة: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم- مشروعة لتزكية النفس وتطهيرها، فمثلاً ركعة الوتر إن أديتها كما هي فإنها تولد لك النور كالذي تولده أمامك الآلات وذلك في قلبك فتزكو به نفسك وتطيب وتطهر، فإذا طبت يا عبد الله وطهرت فحاشا لله أن يبعدك من جواره، بل ينزل ملائكته ليرفعوك إليه.واسمع هذا البيان مرة أخرى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا [النساء:173] أولاً؛ لأن الأعمال الصالحة بدون إيمان باطلة، ولا تتأتى أيضاً ولا يأتي بها عبد على الوجه المطلوب، وإذا فعلها نافقاً فقط فإنما ليضلل الآخرين أو ليخدعهم، فالإيمان أولاً والعمل الصالح ثانياً، والعمل الصالح كل العبادات كالصلاة والزكاة والصيام والرباط والجهاد والذكر وتلاوة القرآن، حتى إماطة الأذى عن طريق المؤمنين عبادة تعبدك الله بها، فهذه هي التي تزكي النفس، وأصحابها قال الله فيهم: فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ [النساء:173]، أي: مقابل أعمالهم، وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [النساء:173]، فلا يجزيهم فقط بالحساب الدقيق، صلى كذا ركعة، تصدق بكذا دينار، وإنما يجزيهم ويزيدهم من فضله، وهذا هو الصنف الأول.وأما الصنف الثاني فقد قال تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا [النساء:173]، عن عبادة الله والاعتراف بألوهيته وطاعة رسوله، والاستنكاف هو الاستكبار، مثل أنف، فلا يريد أن يطأطئ رأسه أو يعترف بالحق، إذ كيف يعفر وجهه بالتراب؟! أو يقول: كيف أنقض ما اعتقدته عن أمي وأبي؟ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [النساء:173]، ولكي تعرف العذاب الأليم راجع صفحات القرآن تقف على صنوف العذاب وألوانه، إذ إن العذاب الأليم ذاك الذي يسلب الإنسان كل عذوبة في حياته، وحسبنا منظر من مناظر عذاب الدار الآخرة، قال تعالى: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ [الحج:19]، والخصمان هم المؤمنون والكافرون، فالمؤمنون قالوا: لا إله إلا الله، والكافرون قالوا: الآلهة متعددة، هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [الحج:19-22]، والشاهد عندنا في العذاب الأليم الموجز في هذه الكلمات مبين ومفصل غاية التفصيل والبيان في كتاب الله عز وجل. وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا [النساء:173]، أي: عن عبادة الله واستكبروا عنها، استنكفوا واستكبروا أن يوحدوا الله، أن يقولوا: لا إله إلا الله، فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [النساء:173]، فهل في ساحة القيامة والجزاء يجدون ولياً يتولاهم أو ناصراً ينصرهم؟ مستحيل، إذ لا ناصر لهم إلا الله، فإذا خذلهم الله فمن ينصرهم؟!
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
معاشر المستمعين! نسمعكم الشرح الموجود في الكتاب لنزداد يقيناً ومعرفة، فتأملوا.
معنى الآيات
قال [معنى الآيات: ما زال السياق مع أهل الكتاب، ففي الآية الأولى نادى الرب تبارك وتعالى النصارى بلقب الكتاب الذي هو الإنجيل، ونهاهم عن الغلو في دينهم من التنطع والتكلف، كالترهب واعتزال النساء ]، فالرهبان عند النصارى يعتزلون النساء، فلا يجامعون النساء ولا يتزوجون، وإنما ينقطعون إلى الصوامع ولا يخرجون منها، وبذلك يوقفون الحياة، وهذا كله ابتداع ابتدعوه وغلو غلوا في دين الله.قال: [ وما إلى ذلك من البدع التي حمل عليها الغلو، كما نهاهم عن قولهم على الله تبارك وتعالى غير الحق، وذلك بنسبة الولد إليه تعالى عن ذلك علواً كبيراً، وأخبرهم بأن عيسى لم يكن أبداً غير رسول الله، وكلمته التي ألقاها إلى مريم، حيث بعث إليها جبريل فبشرها بأن الله تعالى قد يهبها غلاماً زكياً، ونفخ -وهو روح الله- في كم درعها فكان عيسى بكلمة التكوين وهي (كن)، وبسبب تلك النفخة من روح الله جبريل عليه السلام، فلم يكن عيسى الله ولا ابن الله، فارجعوا إلى الحق، وآمنوا بالله ورسله جبريل وعيسى ومحمد عليه الصلاة والسلام، ولا تقولوا زوراً -وبهتاناً- وباطلاً: الله ثالث ثلاثة آلهة، انتهوا عن القول الكذب يكن انتهاؤكم خيراً لكم حالاً -الآن- ومآلاً -يوم القيامة- إنما الله سبحانه وتعالى إله واحد لا شريك له ولا ند ولا ولد، سبحانه تنزه وعلا وجل وعظم أن يكون له ولد، ولم تكن له صاحبة -أي: زوجة- ولم يكن ذا حاجة، وله ما في السموات وما في الأرض خلقاً وملكاً وحكماً وتدبيراً، وكفى به سبحانه وتعالى وكيلاً شاهداً عليماً، فحسبكم الله تعالى رباً وإلهاً، فإنه يكفيكم كل ما يهمكم، فلا تفتقرون إلى غيره ولا تطلبون سواه، هذا ما دلت عليه الآية الأولى.وأما الآيتان الثانية والثالثة، فقد أخبر تعالى أن عبده ورسوله المسيح عليه السلام لن يستنكف أبداً أن يعبد الله، وينسب إليه بعنوان العبودية فيقال: عبد الله ورسوله، حتى الملائكة المقربون منهم فضلاً عن غيرهم لا يستنكفون عن عبادة الله تعالى وعن لقب العبودية، فهم عباد الله وملائكته، ثم توعد الله تعالى كل من استنكف عن عبادته واستكبر عنها من سائر الناس بأنه سيحشرهم جميعاً ويحاسبهم على أعمالهم، فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات، آمنوا بألوهيته تعالى وحده، وعبدوه وحده، بما شرع لهم من أنواع العبادات وهي الأعمال الصالحة، فهؤلاء يوفيهم أجورهم كاملة، ويزيدهم من فضله الحسنة بعشر أمثالها، وقد يضاعف إلى سبعمائة ضعف.وأما الذين استنكفوا واستكبروا، أي: حملتهم الأنفة والكبر على عدم قبول الحق والرجوع إليه، فأصروا على الاعتقاد الباطل والعمل الفاسد، فيعذبهم تعالى عذاباً أليماً، أي: موجعاً، ولا يجدون لهم من دونه ولياً ولا نصيراً، فينتهي أمرهم إلى عذاب الخلد جزاء بما كانوا يعملون ].
هداية الآيات
قال: [ من هداية الآيات: أولاً: حرمة الغلو في الدين، إذ هي من الأسباب الموجبة للابتداع والضلال ]، الغلو في الدين محرم؛ لأنه سبب في الابتداع والزيادة في دين الله، والزيادة في الدين تفسده وتبطل مفعوله، وهذه قصة ثلاثة تعهدوا فقال أحدهم: أنا لا أطأ النساء حتى الموت، وآخر قال: أنا أصوم ولا أفطر أبداً، وآخر قال: أنا أصلي ولا أنام، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستدعاهم وقال: ( ما بال أقوام يقولون كذا وكذا، أما أنا فأصوم وأفطر، وآتي النساء، وأصلي وأنام )، ونهاهم عن الغلو؛ لأن الغلو إذا انفتح أفسد الدين.قال: [ ثانياً: حرمة القول على الله تعالى بدون علم مطلقاً، والقول عليه بغير الحق بصورة خاصة ]، فهل يجوز لأحد أن يقول: الله صفته كذا وكذا بدون علم؟ أو الله أمر بكذا وهو ما أمر؟ ليس هناك أفظع من القول على الله بدون علم.قال: [ ثالثاً: بيان المعتقد الحق في عيسى عليه السلام، وأنه عبد الله ورسوله، كان بكلمة الله ونفخة جبريل ]، أي: كان بكلمة الله: (كن) فكان، ونفخة جبريل التي أمره الله أن ينفخها، وجبريل هو روح الله وروح القدس.قال: [ رابعاً: حرمة الاستنكاف عن الحق والاستكبار عن قبوله ]، فاحذر يا عبد الله! أن يبلغك عن الله أو عن رسوله شيئاً وتستنكف وتستكبر عنه.قال: [ خامساً: بيان الجزاء الأخروي وهو إما نعيم وإما جحيم ]، فهل هناك شيء آخر؟ الجزاء الأخروي إما نعيم وإما جحيم، والله أسأل أن ينجينا من عذابه، وأن يبعدنا من كل موجبات عذابه.وصلى الله على نبينا محمد وآله.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #586  
قديم 24-05-2021, 04:21 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,873
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )




تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (84)
الحلقة (306)

تفسير سورة النساء (87)






ينادي الله عز وجل الناس في أرجاء الأرض ممتناً عليهم بأنه بعث إليهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وجعله برهاناً على قدرته وعظمته، حيث بعثه وهو أمي إلى أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب، وأنزل عليه القرآن معجزة أبدية، أذهلت ألباب العرب الفصحاء، وعقدت ألسنتهم أن يأتوا بمثله، وقد جعل الله ثواب من يؤمن برسوله ويصدق بكتابه أن يدخله في رحمته وفضله ويهديه صراطاً مستقيماً.
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم رجاءنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وما زلنا مع سورة النساء المدنية المباركة الميمونة، وها نحن مع هاتين الآيتين الكريمتين، وتلاوتهما بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [النساء:174-175].معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! لقد سبق في الآيات السابقة أن الله عز وجل قد أبطل حجج اليهود ولا حجة لهم والله، ولكن أبطل ترهاتهم وأباطيلهم ودعاواهم الباطلة الكاذبة، إذ قالوا: لا نشهد أبداً برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا نقر بها ولا نعترف بها؛ لأن الأنبياء من قبله كانوا يشهدون لبعضهم البعض، وهو وجدت في وقت لا نبي فيه ولا رسول، فكيف إذاً نؤمن به ونقبل رسالته؟! فرد الله تعالى عليهم بحجج لإقامة الحجة عليهم، وآخر ما سمعتم قول الله تعالى: لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [النساء:166]، أي: أتطلبون شهادة مخلوق وترفضون شهادة الخالق؟! أتطلبون من يشهد لي بالنبوة والرسالة والله خالقي وخالقكم قد شهد لي بالرسالة؟! وَالْمَلائِكَةُ [النساء:166]، فجبريل الذي يتردد عليَّ صباح مساء يحمل أنوار الله إلي في هذا الكتاب، ثم بعد تحتاجون إلى شهادة أخرى؟! فألقمهم الحجر وقطع حجتهم وأذلهم وأخزاهم.أما النصارى فقد تبجحوا وقالوا وقالوا، لكن قال تعالى لهم: لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ [النساء:172]، أي: عيسى بن مريم، أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ [النساء:172]، وأنتم ما شأنكم؟ كما علمهم أن عيسى ما هو بابن لله، ولا هو ثاني اثنين مع الله، ولا ثالث ثلاثة، وإنما هو عبد الله ورسوله، عبد كسائر عبيده الذين خلقهم لعبادته، ورسوله أرسله برسالته إلى بني إسرائيل، وكونه ولد بدون أب فهذا أمر الله تعالى، فلقد أوجد آدم بلا أب ولا أم، وأوجد حواء بدون أم، وأوجد البشرية كلها من أب وأم، أما عيسى فقد كان بكلمة الله أو كلمة التكوين، كما قال تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:59]، فهو روح من الله، إذ أرسل الله جبريل روح الله عليه السلام، فوجد البتول العذراء في مكان في ديارها فبشرها فقال: إني رسول ربكِ إليكِ لأهب لكِ غلاماً زكياً، فنفخ من فيه في كم درعها فسرت النفخة إليها ودخلت فرجها، وقال تعالى لعيسى: كن، فما هي إلا ساعة وإلا والطلق يهزها، فتذهب إلى جذع النخلة لتنتظر متى يسقط هذا الولد، وما إن سقط حتى صاح إخوانها وأعمامها وأقرباؤها كيف هذا يا بتول؟ كيف جاء هذا؟ فقالت: كلموه، فقال تعالى مصوراً ذلك المشهد: فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا [مريم:29]، فأنطق الله عيسى فقال: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا * ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ [مريم:30-34].فهل عرفتم عن عيسى بن مريم شيئاً؟ ماذا تقولون أيها المؤمنون؟ إنه عبد الله ورسوله، فلم يتجاوز هذا المستوى، وإنما عبد الله ورسوله أرسله إلى بني إسرائيل فكذبوا برسالته وحاربوه وصلبوه وقتلوا من شبه به، وما زالوا إلى الآن يتبجحون بأن عيسى ابن زنا وساحر ودجال. والآن بعد أن أسقط الله بنيان المفسدين من يهود ونصارى ومشركين، ناداهم بهذا النداء العام، والذي يدخل فيه العرب والعجم، والأبيض والأسود، والكتابي والمشرك، بل وكل واحد؛ لأن لفظ (الناس) يدخل فيه كل إنسي من بني الناس من ذرية آدم، وقيل: ما سمي الإنسان إنسان إلا لأنه من الأنس، أو لأنه من ناس ينوس إذا تحرك، وعلى كل لا حاجة لنا إلى هذا، فكلمة الناس تشمل كل البشر عرباً وعجماً.
إطلاق البرهان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه دليل على وجود الله وعلمه ورحمته
يَا أَيُّهَا النَّاسُ [النساء:174]، هذا نداء الله لكم يناديكم في كتابه القرآن العظيم ليقول لكم: قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ [النساء:174]، والبرهان هو محمد بن عبد الله العربي من ذرية إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وهو برهان أكثر من قوة الشمس وإشعاعها، وأكثر من نور القمر، على أنه رسول الله، وعلى أنه لا إله إلا الله، وعلى أنه لا يستحق أن يُعبد إلا الله تعالى، وعلى أنه لا سعادة ولا كمال للآدميين إلا إذا آمنوا به ومشوا وراءه وقادهم إلى السعادة والكمال.وإن قلت: ما دليل البرهنة والبرهان عل ذلك؟ فأقول: إن من أبسط الأدلة هي أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم قد عاش في مكة، وأهلها لا يقرءون ولا يكتبون، إذ يندر بينهم من يكتب أو يقرأ، وقد عاش عليه السلام هذه الفترة فلم يجلس أبداً بين يدي معلم يعلمه، لا في مسجد ولا في مدرسة، بل آباؤه وأجداده أميون لا يقرءون ولا يكتبون، وقد عاش أربعين سنة وهو فترة من أولاد العرب وفترة من شبانهم وفترة من رجالهم حتى بلغ الأربعين سنة، وفي هذه الفترة حدثت آيات وبراهين نبوته خارقة للعادة، وسنذكر منها نبذاً:
بعض براهين نبوته صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وبعدها
لما ولدته أمه آمنة رأت رؤيا قبل ولادتها أن نوراً خرج منها أشرق له الشرق والغرب، أو لاحت أنواره في الشرق والغرب، وأضاء قصور بصرى والشام، وهذا أقوى برهان، ثم أخذته أمه وأعطته بواسطة جده عبد المطلب من يرضعه، فبعثوا به إلى صحراء بني سعد، فأخذته حليمة السعدية ترضعه وهو يتيم، فشاهدت العجب العجاب من أمره، فالغنم التي كانت قد جف لبنها وانقطع من جدب ذلك العام وقحطه عادت ذات ألبان غزيرة، وفي يوم من الأيام وهو يلعب مع طفل من أطفال بني سعد، فإذا بعملية جراحية تُجرى له في قلبه، فيشاهد ذلك الطفل الرجلين يضجعانه على الأرض، فيصرخ ويأتي إلى أمه السعدية: أخي قتلوه، أخي قد قتل، فذهبوا إليه فإذا به مصفر الوجه يعاني من تعب، حيث قد أخذت منه تلك اللحمة أو تلك القطعة التي هي مقر الشيطان، والتي ينزل فيها ويلقي بالوساوس والفتن، ثم عاد بعد أربع سنوات إلى مكة، وأخذ ينمو نماءً عجباً، وكان يرعى غنماً بمقابل على عادتهم في رعي الأغنام، وفي ليلة من الليالي أقامت قريش حفلاً أو عرساً من الأعراس لأحد أغنيائها، وأخذوا يعدون العدد لحضور العديد من الناس المتفرجين، وبلغ رسول الله الخبر وهو في البادية -خارج مكة- فقال لأخيه الذي يرعى معه أو زميله: اسمح لي أن أذهب الليلة لأشهد حفلاً في مكة، وأنت تتحمل مسئولية الغنم، فجاء بفطرته ليحضر العرس، فوجدهم يعدون الدفوف والطبول والنيران، فأخذه النوم فنام، ووالله ما استيقظ إلا على حر الشمس، وما سمع صوت دف ولا مغنية، ولا رأى راقصاً ولا راقصة، فمن حفظه؟ إنه الله تعالى. وأخرى: لما أخذوا يجددون بناء الكعبة على عهد أبي طالب، فاختلفوا: من الذي يضع الحجر الأسود في مكانه؟ وكادوا يقتتلون، وكل قبيلة تقول: نحن أولى بهذا، ووقف البناء وانتظروا كيف المخرج من هذه الفتنة؟ فجاء محمد صلى الله عليه وسلم الغلام الحسن فقال لهم: ضعوا الحجر في لحاف، ولتأخذ كل قبيلة بطرف منه حتى تشاركوا كلكم في حمله، ثم أخذه ووضعه بيده الشريفة، وانطفأت نار الفتنة التي لو اشتعلت لكان يموت المئات والآلاف، فمن وفقه لهذا؟ إنه الله، فهذه مظاهر النبوة وإعداداتها وإرهاصاتها.وفي مرة من المرات خرج وهو شاب مع عمه أبي طالب إلى الشام، فرآه الراهب فقال لعمه: إن لابنك هذا شأناً عظيماً، وأنا أخاف عليه من اليهود، فارجع بابن أخيك، فشهادة هذا الراهب قاطعة وبرهان قوي على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ومن ثَمَّ ما صار يخرج إلى الشام إلا مرة خرج في تجارة لخديجة، فالمرة الأولى كان مع عمه؛ لأن عمه أبا طالب كان يحبه حباً جماً، إذ كان لا يستطيع أن يفارقه، فأخذه معه إلى الشام وهو طفل؛ لتتجلى تلك الأنوار لذلك القس والراهب، ويعترف بأن هذا نبياً من أنبياء الله تعالى.وأخرى: لما خرج أبو سفيان في تجارة إلى الشام، فدعاهم هرقل عظيم الروم وأجلس من يعرفون لغة العرب إلى جنبه، وأخذ يسأل أبا سفيان عن هذا النبي الذي ظهر، فكان كل ما يسأله سؤالاً يجيبه أبو سفيان، وما إن فرغ أبو سفيان حتى قال هرقل: لو قدرت على أن أغسل قدميه لفعلت، فكانت شهادة من هذا الملك على أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.ثم إن أعظم شهادة قبيل الوحي الإلهي: أن النبي صلى الله عليه وسلم شعر بأن المجتمع ليس ملائماً له؛ لما يشاهد من المنكر والباطل والشرك والفساد، فكان عليه السلام ينقطع إلى غار حراء، وهو في جبل يقال له: جبل حراء، فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد؛ ليخلص من مشاهدة الشرك والباطل والخبث والفساد، وفي الغار في رمضان فوجئ صلى الله عليه وسلم بجبريل في صورة إنسان من كُمَّل الناس وأفاضلهم، وينزل بين يديه ويضمه إلى صدره ويقول له: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:1-5]، ثلاث مرات، وهنا بدأ الوحي الإلهي، وقبله ستة أشهر كان لا يرى الرؤيا إلا جاءت كانفلاق الصبح.إذاً: سمى الله محمداً صلى الله عليه وسلم برهاناً، برهان على ماذا؟ حجة قوية قاطعة على ماذا؟ أولاً: على أنه نبي الله ورسوله، فالذي يأتي بهذه العلوم والمعارف التي يحويها القرآن الكريم، والذي يأتي بعلوم الأولين والآخرين، وعلوم السماء والملكوت الأعلى، وعلوم كل الكائنات والذرات، هل يقال فيه: إنه غير نبي، ثم نطلب دليلاً على نبوته أو برهان عليه؟! لقد أخبره الله عن عالم الملكوت الأعلى في كتاب الله، فمن يقوى على أن يتكلم بها أو يخبر عن شيء منها؟ إنه ما من ذرة في هذا الكون إلا وفي هذا القرآن إشارة أو عبارة واضحة صريحة، فكيف لا يكون هذا برهان على أنه نبي الله ورسوله؟! وكما قدمنا: حسبنا أن الله تعالى يسميه برهاناً، أي: قد شهد له بالرسالة، والآن هو سبحانه يعلم البشرية كلها على أنه برهان، وبالتالي فلا يحتاج إلى برهان، ونور لا يحتاج إلى نور يُعرف به، فهو في حد ذاته نور وبرهان.وعليه فمحمد صلى الله عليه وسلم برهان أولاً على أنه رسول الله، وثانياً: على أنه لا إله إلا الله، وثالثاً: على أن عامة ما عليه البشرية يوم أوحى الله إليه الهبوط، إذ لا دين لها حق تعبد الله به، فمن يوم أن بعثه ربه تعالى رسولاً للناس أجمعين، ما كان على الأرض دين لا يهودية ولا نصرانية ولا غيرها من سائر الأديان يُعبد الله تعالى بها، وتؤهل العابدين إلى السعادة والكمال في الدنيا والآخرة.

يتبع


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #587  
قديم 24-05-2021, 04:21 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,873
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )

القرآن نور لما يحصل به من الاهتداء إلى سبيل النجاة
ثم قال تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا [النساء:174]، فالنور المبين الذي أنزله الله تعالى هو القرآن العظيم، فإن قيل: بين لنا وجه النور؟ فأقول: ما من عبد إنسياً كان أو جنياً آمن بالقرآن، وفهمه وعمل بما فيه، والله ما شقي ولا ضل أبداً، بل ما من أمة أو ما من جيل أو ما من شعب أو ما من قرية أخذوا بالقرآن إلا استنارت الحياة أمامهم، وانتهى الظلم والظلمات، وكانوا أطهر الناس وأعزهم وأشهدهم، وأكبر دليل وأقوى برهان على أن القرآن نور: كيف كان العرب في الجاهلية؟ كانوا قبائل شتى، وكيف كانت ديارهم؟ كانت ظلاماً فوق ظلام، فالغزو والقتل وسفك الدماء والوثنية بأبشع صورها، فما من بيت إلا وفيه صنم يُعبد، بل يحملون الأصنام على الإبل حيثما نزلوا في شعب أو وادي وعبدوه، ولنذكر ذلك الأعرابي الذي كان له صنم يعبده، فجاء يوماً لعبادته وهو في شعب من شعاب الأرض، فوجد ثعلباً رفع رجله ويبول عليه كشأن الثعالب والكلاب، فنظر الأعرابي نظرة فاحصة واندفع فقال: رب يبول الثعلبان برأسهلقد ذل من بالت عليه الثعالبوتركه ولم يرجع إليه قط، وأدرك هذا بالفطرة، كما أنهم كانوا يقتلون أطفالهم ويذبحونهم، وذلك مخافة الفقر والجدب والقحط، بل ويقتلون بناتهم خشية العار، وما إن شاعت في تلك البلاد أنوار القرآن الكريم حتى أصبحت مضرب المثل في الكمال البشري، ولم تكتحل عين الوجود بمثلها في الكمال والعز والطهر أبداً، وقد أخفى هذا المغرضون وحرفوا التاريخ الحق لهذه الأمة، وفي الحقيقة والله ما رأت الدنيا أمة أطهر ولا أصفى ولا أعدل ولا أعز ولا أكرم ولا أرحم ولا أعلم من تلك الأمة في قرونها الثلاثة، بسبب ماذا؟ بالاشتراكية؟ بالشيوعية؟ بالفلسفات الكاذبة؟ باليهودية؟ النصرانية؟ بالمجوسية؟ بماذا؟ بالقرآن العظيم، بنور الله تعالى.ومن الأمثلة التي تحضرنا الآن: أن علياً رضي الله عنه ادعى أن الدرع التي مع اليهودي هي درعه، وحاكمه إلى القاضي شريح، فقال القاضي لـعلي : من يشهد لك على أن الدرع درعك؟ فقال: ولدي الحسن أو الحسين، فقال القاضي: الابن لا يشهد لأبيه، وحكم بالدرع لليهودي، وما إن صدر الحكم حتى قال اليهودي: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والدرع درعك يا علي، ودخل في رحمة الله، فتأمل كيف أن السلطان أو الملك يحكم عليه قاضيه بأن هذا الدرع لفلان اليهودي، ولا يقبل شهادة ابنه وولده؟! وخلاصة القول: والله ما عرفت البشرية كمالاً بمعناه إلا بأنوار القرآن الكريم.
حرص أعداء الإسلام على إطفاء نور القرآن وانتزاعه من صدور المسلمين
وبرهنة أخرى: لما عرف العدو المكون من المجوس واليهود والنصارى أن هذا النور هو الذي أحيا هذه الأمة قالوا: يجب أن نقطع هذا النور عنهم وأن نطفئه، ففي مؤامرات سرية خلال سنين متعددة قالوا: إن هذا القرآن أو هذا النور هو الذي أحياهم، وهو الذي أنار الحياة لهم، ولن نفلح معهم إلا إذا أطفأناه، واجتهدوا وعملوا وعقدوا مؤتمرات لذلك، وفي الأخير قالوا: نحوله ليقرأ على الموتى، فصرفوا المسلمين عن قراءة القرآن إلا على الموتى، وبالتالي لا تجد اثنين تحت شجرة أو تحت جدار أو تحت ظل يقول أحدهما للآخر: اقرأ علي من القرآن، بل ولا تجدهم في بيت أو في مسجد يقول أحدهم للآخر: أسمعني شيئاً من كلام الله، وإنما إذا سمعت قراءة القرآن فاعلم أن هناك ميتاً، ووالله العظيم لقد أصبح القرآن لا يقرأ إلا على الأموات، ولا يصح لواحد أن يقول: قال الله، إذ قالوا: تفسير القرآن الكريم صوابه خطأ وخطؤه كفر، وراجعوا حواشي المصنفات الفقهية تجدون هذا الكلام، ومعنى ذلك أنك إذا فسرت آية وأصبت فأنت مخطئ، إذ لا حق لك في التفسير، وإن أخطأت فقد كفرت والعياذ بالله، فألجموا الأمة وكمموها، وما أصبح من يقول: قال الله، إذاً ماذا يصنعون بالقرآن؟ قالوا: يقرءونه على موتاهم فقط.ومن قال: كيف هذا يا شيخ؟ فالبرهان: أما أذلونا وسادونا واستعمرونا وحكمونا من إندونيسيا إلى موريتانيا؟ ثم كيف يحكمون المسلمين ويسوسونهم ويسودونهم ويذلونهم؟ وهل لو كانوا أحياء والنور بين أيديهم يُفعل بهم ذلك؟ لا والله، إذ إن القرآن روح ونور، قال تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52]، وإلى الآن لو أن أمة من الأمم أو بلداً من البلاد أو قرية فقط أقبلت على القرآن تدرسه وتقرؤه وتعمل به لأصبحت ككوكب في السماء بالنسبة إلى البلاد الأخرى.
سيادة دولة الإسلام بتمكين شرع الله وحفظ كتابه
والشاهد عندنا فلا ننكره ولا نجحده، بل حرام علينا إن فعلنا ذلك: ألا وهو هذه الدولة المسلمة، أي: دولة عبد العزيز رحمه الله تعالى، فتصفحوا التاريخ قبل ثمانين سنة كيف كانت هذه الديار؟ والله هنا في مدينة الرسول يأتي الرجل فيأخذ باب بيتك ويبيعه في السوق ولا تستطيع أن تتكلم، بل لا تتصوروا الظلم والفساد الذي كان في العالم بكامله، لكن هذه الديار بالذات ما إن رفعت فيها راية لا إله إلا الله محمد رسول الله وهي تقول: إن أرضاً تظللها كلمة لا إله إلا الله لا يُعبد فيها إلا الله، فما ترك عبد العزيز ورجاله قبة ولا شجرة ولا قبراً ولا في كامل هذه الديار إلا أزالوها، ولم يبق يعبد إلا الله فقط.ثم ماذا تم؟ ساد هذه البلاد أمن وطهر ما رأتهما إلا في القرون الذهبية الثلاثة، وأقسم بالله على ذلك، وسبب هذا هو القرآن، وجربوا ذلك أيها المسلمون، وقد وضع الله للدولة الإسلامية أربع دعائم، قال تعالى في بيان ذلك من سورة الحج: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ ، أي: حكموا وسادوا، أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41]، فقوله: (أقاموا الصلاة)، كيف يقيمونها؟ يقيمونها بحيث يؤدونها في بيوت الله، فلا يتخلف رجل إلا مريض أو ممرض، والصبح كالظهر وكالعصر وكالمغرب وكالعشاء، وقد طبق هذا عبد العزيز وأولاده بصورة عجب، ووالله لو أن الإمام في القرية لا في مدينة الرسول فقط، عنده قائمة بأسماء أهل القرية كلهم، فيتفقدهم في أوقات الصلوات، فإذا ما أجاب واحد منهم عند التحضير وسكتوا سأل: أين فلان؟ فيذهبون إلى بيته، فإن كان مريضاً أعادوه، وإن كان مسافراً عرفوا ذلك، وإن عبث به الشيطان أدبوه.(أقاموا الصلاة) بحيث إذا أذن المؤذن لا يمكنك أن ترى رجلاً إلا ذاهب إلى المسجد، وبذلك حصل الذي حصل من الأمن والطهر والصفاء. وأما هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل قرية، وليس في حاجة إلى بوليس، وإنما رجال يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ولا أطيل في هذا الباب، فالله يقول: نور، فماذا نقول؟ إذا لاح النور في أرض هل يبقى فيها ظلام؟ ومن هنا من أراد الله كماله وسعادته يقبل على هذا القرآن العظيم، فإنه نور الله وروح الله، فلا حياة بدونه ولا هداية بدونه. يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، لبيك اللهم لبيك، قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ [النساء:174]، فهو الذي قد أرسله، وهو الذي قد خلقه، وهو الذي أنعم به علينا، وهو الذي أوجده لنا، مِنْ رَبِّكُمْ ، أي: من خالقكم أيها المخلوقون، من رازقكم أيها المرزوقون، من مدبر حياتكم أيها المدبرون، ففوقكم الله هو الذي أنعم بهذا الإنعام عليكم من ربكم، وما أرسلته جهة من الجهات، ولا طائفة من الطوائف، وإنما مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا [النساء:174]، ألا وهو القرآن العظيم.وعندنا ما نقول به: أنتم تشاهدون العالم الإسلامي كيف هبط أولا ؟ أسألكم بالله، هل يوجد بلد ما يشكو أهله من الخبث ومن الظلم ومن الشر ومن الفساد ومن الجوع ومن الكذب ومن أنواع الهبوط البشري؟ فهيا نطبق القرآن الكريم حتى نرى هذا النور وهذه الروح، وتحيا بها أمة وتستنير بحياتها، فلو أن أهل قرية فقط في جبل أو في سهل يؤمنون ويعلنون عن إسلامهم الحق، أي: إعطاءهم قلوبهم ووجوههم لربهم، إذ الإسلام هو إسلام القلب والوجه لله تعالى، قال تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ [النساء:125]، فأهل القرية عرباً كانوا أو عجماً فقط يعلنون عن إسلامهم الحق، وباسم الله يجتمعون في مسجدهم الجامع، فإن كان ضيقاً وسعوه، وإن كان ما عندهم القدرة على التوسيع فيوسعونه بالأخشاب وباللبن، وليسوا في حاجة إلى الحديد والإسمنت، والمهم أن يتسع لنسائهم وأطفالهم، وقد أسلموا قلوبهم ووجوههم لله، فإذا دقت الساعة السادسة مساء ومالت الشمس إلى الغروب، فيغسلون أيديهم وينفضونها من العمل، فالصانع كالتاجر كالفلاح، ويتطهرون ويأتون بنسائهم وأطفالهم يريدون ربهم، وكلهم قلبه متعلق بربه، فيصلون المغرب ويجلسن النساء من وراء الستائر، والأطفال كالملائكة صفوفاً صغاراً لا يتكلمون ولا يتحركون، والفحول أمامهم، ويجلس لهم المربي العليم الرباني، وليلة آية من هذا النور الإلهي، كهذه الآية التي درسناها وندرسها، فيقرءونها بصوت عجيب، ويتغنون بها فتحفظ في ربع ساعة، ثم يأخذ المربي الحكيم فيبين لهم مراد الله منها، فإن كانت تحمل عقيدة اعتقدوها، وإن كانت تحمل واجباً عزموا على النهوض به، وإن كانت تحمل منهياً أو مكروهاً صمموا على تركه والتخلي عنه، وإن كانت تحمل أدباً من الآداب عزموا على التأدب بها، وإن كانت تحمل خلقاً من الأخلاق عزموا على التخلق به، والليلة الثانية يأخذون حديثاً من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم المبينة والمفسرة، فيحفظون ذلك الحديث، وتوضع أيديهم على ما يحمله من هدى وخير ونور، وهكذا يوماً بعد يوم، ووالله ما يبلغون السنة إلا وهم أشبه بالملائكة في السماء، فلا تسمع من أحدهم كلمة سوء أو نظرة شزراً أو معاملة سيئة، بل ولا يمكن أن ترى أو تسمع بخبث بينهم أو يظلم بعضهم بعضاً، أو جوع أو عري إلا إذا جاعوا كلهم أو عروا كلهم.ومن ثم توقن أن رسول الله برهان، وأن هذا القرآن نور، وصاحب النور لا يضل أبداً، ومن طلب برهنة فقد قدمنا، إذ كيف كانت ديار العرب؟! ما إن ارتفعت فيها راية لا إله إلا الله وسادتها حكومة القرآن حتى أصبحت مثلاً للكمال البشري.
تفسير قوله تعالى: (فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ...)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [النساء:175]. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ [النساء:175] أي: آمنوا بالله واعتصموا بحبل الله وبنور الله وبالقرآن العظيم وبياناته النبوية، فهؤلاء يعدهم الرحمن وعد الصدق، ألا وهو فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ [النساء:175]، فهل يخلف الله وعده؟ مستحيل.إن البشرية كلها وليس العرب والمسلمون والعجم فقط، وإنما البشرية كلها من يرفع يده ويقول: إن الإقليم الفلاني في أوروبا الشرقية أو في الغربية، أو في أمريكا الشمالية، أو في الجنوبية، أو وراء الشرق الأقصى، أو الصين، أو اليابان، يدلنا على قرية أو مدينة سادها الطهر والعدل والمودة والإخاء والصفاء، فليرفع يده؟ لا يوجد أحد، إذ إن الدنيا قد تعفنت من الخبث والشر والفساد والعمى والضلال، فقد جربوا الشيوعية، وصاحوا وضجوا: الشيوعية! فماذا أكسبت أهلها ومعتنقيها ودعاتها؟ انفضحت سوأتها في خمسة وسبعين سنة، وهبطت وأصبحوا شر الخلق، ولطالما تبجح بها حتى العرب الهابطون، لكن ما أعطتهم طهراً ولا صفاء ولا مودة ولا محبة ولا إخاء ولا كمالاً بشرياً؟ إذاً فماذا أنتجت لهم؟ الطرق على اختلافها، من المتصوفة وغيرها، فماذا حققت لأمة الإسلام في بلادها؟ هل أطفأت نار الفتن؟ وهل أبعدت الزنا واللواط والجرائم والموبقات والسحر والتدجيل والتكذيب؟ ماذا فعلت؟!هيا نعود إلى الله تعالى، ووالله الذي لا إله غيره لا ترتفع أمة وهي هابطة إلا بهذا القرآن الكريم فقط، وما تأتي من طريق المتحمسين: الجهاد، الجهاد، وهم يوقدون في بلاد المسلمين أشر من الاستعمار، فوالله لن ينتج هذا نوراً ولا هداية، إذ إن الطريق الصحيح هو أن أهل القرية يؤمنون بالله، ويعطون وجوههم وقلوبهم لله، فيجتمعون في بيت ربهم يتعلمون الكتاب والحكمة ويزكون أنفسهم يوماً بعد يوم حتى تلوح أنوار الهداية بينهم، وحينئذ إذا قالوا: يا فلان! أنت إمامنا، قال: مرحباً، فيأمرهم بأمر الله فقد فيمتثلوا، وينهاهم بنهي الله فيمتثلوا، وكلهم مستعد لطاعة الله ورسوله وأولي الأمر.أما بهذه الصيحات وهذه الانتفاضات وهذه الدماء التي تسيل هنا وهناك، وهذا الترويع، فقد أصبح الكفار يضحكون علينا ويقولون: هل هذا هو الإسلام؟! يقتل بعضهم بعضاً؟! وهل المسلم يقتل مسلماً؟! فصرفنا قلوب البشر عن الإسلام بهبوطنا، وبذلنا وبفقرنا وبجهلنا، وبظلمنا وفسادنا، ولا سبب إلا أن العدو الماكر الثالوث الأسود المكون من المجوس واليهود والنصارى قد عرفوا سبب حياتنا وسبب هدايتنا، فحالوا بيننا وبين سبب الهداية والحياة، فأبعدونا عن القرآن والسنة فمتنا، ولما متنا تمزقنا وتشتتنا، وأصبحنا أحزاباً وجماعات وطوائف، فالقرية الواحدة فيها العديد من الفرق، ولما استقللنا أصبحنا ثلاثة وأربعين أمة أو دولة، فلا إله إلا الله! يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، أبيضكم وأسودكم، عربكم وعجمكم، قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ ، فلا توجد جهة بعثت به أبداً مع عميل لها، وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا [النساء:174]، أي: موضح للحياة بكاملها.أتعرفون هذا النور المبين؟ اسمعوا إلى أبي هريرة وهو يقول: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى علمنا كل شيء حتى الخراءة، أما كيف نجامع؟ أو كيف نقاتل؟ أو كيف نكتب؟ أو كيف نصلي؟ فلا تسأل، ولكن أبعدونا عن النور المحمدي وعن القرآن، فأصبحنا على ما نحن عليه اليوم، يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا [النساء:174]، ألا وهو القرآن. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ [النساء:175] رباً ولا رب سواه، وإلهاً ولا إله غيره، ولا معبود يعبد سواه، فآمنوا بأسمائه وصفاته وبحقه على خلقه من عبادته وحده دون من سواه، وَاعْتَصَمُوا بِهِ [النساء:175]، أي: بالقرآن، فالحلال ما أحله القرآن، والحرام ما حرمه القرآن، والواجب ما أوجبه القرآن، والمحرم ما حرمه القرآن.ثم قال تعالى في وعد الصدق: فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ [النساء:175]، والمراد من الرحمة هنا: الجنة دار السلام، والمراد بالفضل هنا: النظر إلى وجه الله الكريم، إذ لا أسعد أبداً من عبد لم ير وجه ربه، فلهذا لما ينعمون في ذات النعيم يناديهم ربهم ويرفع الحجاب عن وجهه وينظر إليهم ويسألهم، فما هناك أعظم من أن ينظر المؤمن إلى وجه الله الكريم، فتغمرهم فرحة ما عرفوها لا في الطعام ولا في الشراب ولا في اللباس ولا في الحياة بكلها. وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ [النساء:175]، فالذين اعتصموا بالقرآن يضلون؟ والله ما يضلون، ولذلك لما اعتصم السلف الصالح بالقرآن والله ما ضلوا، لكن لما تركوه وحولوه إلى أمواتهم ضلوا وما هداهم الله تعالى. وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [النساء:175]، أي: لا اعوجاج فيه ولا انحراف أبداً، وسكت تعالى عمن لا يؤمنون بالله ولا يعتصمون بحبله، إذ إن مصيرهم معروف، فماذا يقول فيهم؟ إذاً فسيدخلهم في جهنم ويزيدهم عذاباً فوق العذاب، ويحرمهم النظر إلى وجهه الكريم، ويخلدهم في عالم الشقاء، وهذا أمر ضروري، فالطعام يشبع، والماء يروي، والنار تحرق، والحديد يقطع، فهل هذه السنن تتبدل؟ يعني: أصبحنا في يوم الطعام لا يشبع؟! أعوذ بالله، الحديد أصبح ما يقطع؟! أبداً، وبالتالي فسنن الله لا تتبدل.إذاً فالأخذ بهذا الكتاب العظيم، بهذا الدين الإسلامي على النحو الذي عرفتم، وهو أن يجتمع أهل القرية، أو أهل الحي مقبلين على الله في صدق يتعلمون الكتاب والحكمة، يوماً بعد يوم، حتى تستنير قلوبهم وتتضح الحياة لهم ويصبحون ربانيين وأولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ومن ثم يعزون ويسعدون ويكملون، أما بدون الأخذ بهذا النور وهذه الهداية فهيهات هيهات أن تنفعنا النسبة: مسلمون أو مؤمنون، والله ما تجزئ إلا من استعصم وتمسك بهذا الحبل العظيم.وأخيراً أسمعكم الآيتين: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ [النساء:174] وهو محمد صلى الله عليه وسلم، وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا [النساء:174]، أي: القرآن الكريم فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [النساء:175]، وأما الذين لم يؤمنوا به، ولم يعتصموا بحبله، فسيدخلهم العذاب والشقاء والخزي والذل والعار في الدنيا، والخلود والبوار في دار البوار يوم القيامة.فالله تعالى أسأل أن يتوب علينا، وأن يرجع بنا إلى كتابه وأنواره حتى نكمل ونسعد، ونشعر بالطمأنينة والطهر، ونرضى بلقاء ربنا ونفرح به في دار السلام، اللهم حقق لنا ذلك يا رب العالمين.وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #588  
قديم 24-05-2021, 04:22 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,873
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (85)
الحلقة (307)

تفسير سورة النساء (88)


بين الله عز وجل في أوائل هذه السورة حكم من مات وخلف مالاً، وليس له آباء ولا أبناء ولا زوج وله إخوة من الأم فإنهم يرثونه، فإن كان واحداً فله السدس، وإن كانوا أكثر من واحد فهم شركاء في الثلث، أما في هذه الآية وهي آخر آية في السورة فقد بين نصيب الإخوة الأشقاء أو من أب، فالأخت الواحدة لها من أخيها نصف ما ترك، والأختان لهما الثلثان، والأخ يرث مال أخته كاملاً، والإخوة مع الأخوات يرثون الأخ أو الأخت فيكون للذكر مثل حظ الأنثيين.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم... ) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق لنا هذا الفضل واجعلنا من أهله يا ذا الفضل العظيم.وها نحن مع آخر آية من سورة النساء المدنية المباركة الميمونة، سورة الأحكام الشرعية، هذه الآية هي آية الكلالة، وقبل الشروع فيها أذكر نفسي والمستمعين والمستمعات بما اشتملت عليه الآيتان اللتان درسناهما بالأمس، وذلك بعد قراءتهما تذكيراً للناسين: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [النساء:174-175].
هداية الآيات
قال الشارح: [ من هداية هاتين الآيتين الكريمتين: أولاً: الدعوة الإسلامية دعوة عامة، فهي للأبيض والأصفر على حد سواء ]، وأخذنا هذا من قوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ [النساء:174]، فلفظ (الناس) عام في البشر كلهم، لا فرق بين العرب والعجم، ولا بين الأبيض والأصفر، وإنما دعوة الإسلام دعوة عامة، وينبغي أن تنشر في العالم بأسره، وليست خاصة بجيل من الأجيال ولا بقبيلة من القبائل، وإنما هي دعوة الله للبشرية جمعاء من أجل أن تطهر وتكمل وتسعد في حياتها الدنيوية، ثم تسعد في الحياة الخالدة الباقية في العالم الأعلى.فقوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ [النساء:174]، أخذنا منه أن الدعوة الإسلامية دعوة عامة، فهي للأبيض والأصفر على حد سواء.قال: [ ثانياً: إطلاق لفظ البرهان على النبي صلى الله عليه وسلم ]، فنبينا اسمه محمد وأحمد، وقد سماه الله برهاناً، قال تعالى: قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ [النساء:174]، والبرهان هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، لماذا؟ قال: [ لأنه بأميته وكماله الذي لا مطمع لبشري أن يساميه فيه، برهان على وجود الله وعلمه ورحمته ]، أي: أن محمداً صلى الله عليه وسلم برهان على أنه نبي الله ورسوله، فلا يحتاج إلى حجج أخرى تقوى أو تضعف، فهو أمي لم يقرأ ولم يكتب، فيخرج على البشرية بعلوم ومعارف ما كانت تعلمها ولا تحلم بها، فكيف لا يكون رسول الله؟!قال: [ ثالثاً: القرآن نور ]، إي والله فالقرآن نور، والنور يستفاد منه في الظلام، والحياة كلها ظلام، فلا شمس تغني ولا القمر، ولكن النور الذي به النجاة هو القرآن العظيم، فمن آمن به وقرأه وعرف ما يحمله من الهدى والنور، وأخذ يعمل به فقد نجا، واهتدى إلى دار الكمال والسعادة، ومن رماه وراء ظهره ولم يؤمن به ولم يقرأ ما فيه ولم يتعرف إلى ما يحمله من الشرع والهداية الإلهية، فهو والعياذ بالله في عداد الخاسرين.قال: [ ثالثاً: القرآن نور من أجل ما يحصل به من الاهتداء إلى سبل النجاة وطرق السعادة والكمال ]؛ لأن الله تعالى قال: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ ماذا؟ ما قال: قرآناً، وإنما قال: نُورًا مُبِينًا [النساء:174]، وفي آية أخرى قال: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا [التغابن:8]، فهيا نبلغ البشرية أنها إذا لم تؤمن بالقرآن وتعمل بما فيه فهي والله لفي الظلام، ولا يمكنها أن تهتدي لسعادتها وكمالها في الدارين إلا بهذا النور، والواقع شاهد على ذلك، فانظر إلى الشرق والغرب، وانظر إلى البشرية في عصور رقيها وحضارتها، هل تجاوزت موضع شبر البهائم؟ هل خلت من الخبث ومن الظلم ومن الشر ومن الفساد؟ والله لم تخلو منه ولن تخلو.قال: [ رابعاً: ثمن السعادة ودخول الجنة الإيمان بالله ورسوله ولقائه والعمل الصالح، وهو التمسك بالكتاب والسنة المعبر عنه بالاعتصام ]، إذ قال: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ [النساء:175]، ألا وهي الجنة دار السلام، وَفَضْلٍ [النساء:175]، أي: ويزيدهم من فضله من أنواع الإنعامات والإفضالات، ومن النظر إلى وجهه الكريم.
تفسير قوله تعالى: (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة...)
والآن مع آخر آية من سورة النساء، وتلاوة هذه الآية الكريمة بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [النساء:176].
سبب نزول الآية
تسمى هذه الآية بآية الصيف، وقد ذكر أهل العلم أن سبب نزول هذه الآية الكريمة: أن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه وعن والده مرض كما يمرض الناس -ووالده هو عبد الله بن حرام، وقد استشهد في غزوة أحد- فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: زاره في مرضه، وزيارة المريض سنة، وتسمى بعيادة المريض، ولذلك إذا مرض أخوك ومضى على مرضه ثلاثة أيام فإنه يسن لك أن تزوره، إذ إن هذه الزيارة من حقه عليك، وعلى كل عاده رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر، وأبو بكر هو خليل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه، فأغمي على جابر بن عبد الله من شدة المرض، والإغماء ينتاب المريض ساعة وساعة، وذلك أن المريض قد يفقد شعوره من شدة الألم، فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صب عليه من فضل وضوئه، أي: توضأ في إناء وبقي في الإناء شيء من الماء فأخذ منه وصبه على جابر رضي الله عنه، فأفاق فقال: يا رسول الله! اقض في مالي، أي: احكم يا سول الله! في مالي، وكان له تسع أخوات، فلم يرد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم شيئاً حتى نزلت هذه الآية الكريمة.
ميراث الكلالة
قوله تعالى: يَسْتَفْتُونَكَ [النساء:176]، أي: يستفتونك يا رسولنا! من الذي يستفتيه؟ جابر بن عبد الله رضي الله عنه، قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ [النساء:176]، أي: الله هو الذي يفتيكم فيها، والكلالة قد تقدم نوع منها في أول السورة مع آيات الفرائض، وهذه الآية أيضاً في الكلالة.فالكلالة: أن يموت إنسان ولم يترك ولداً، ولا ولد ولد، ولا أباً، ولا جداً، فيرثه إخوته الذين يحوطون به كالإكليل، فإن كان إخوته من أمه فالأخ له السدس، وإن كانوا اثنين فأكثر فلهما الثلث، وإن كان الإخوة من أب وأم، أو من أب كهذه الآية، إِنْ امْرُؤٌ [النساء:176]، إنسان ذكر أو أنثى، هَلَكَ [النساء:176]، يقال: هلك يهلك إذا مات، فكل من مات فقد هلك، لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ [النساء:176]، أي: ما له ولد، وليس له والد، إذ لو كان له والد فإن الوالد يرث ولده، ولا يرث معه أخ، لا ولد ولا والد ولا ولد ولد؛ لأن ولد الولد يقوم مقام الولد مباشرة، وَلَهُ أُخْتٌ [النساء:176]، أي: من أبيه أو شقيقة، فما لها من تركة أخيها الذي توفي وما خلف ولداً ولا ولد ولد ولا أباً؟ فلها النصف فرضاً خاصاً بها، والنصف الباقي للعصبة، قال تعالى: فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ [النساء:176] ولا ولد ولد، أيضاً أخوها يرث مالها كله إذا لم تترك ولداً ولا ولد ولد، وهو يرثها بشرط إن لم يكن لها ولد، وهذه هي الأخت.وإن فرضنا أنهما أختان، فقد قال تعالى: فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ [النساء:176]، كأن مات إنسان وترك أختين له من أبيه وأمه أو من أبيه فقط، ولم تترك الأختان ولداً ولا ولد ولد، فقد قال تعالى: فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ [النساء:176]، والثلث الآخر للعصبة كالأعمام وأبناء الأعمام أو لبيت المال. وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً [النساء:176]، إخوة: بنت وولد، أو بنتان وولدان، أي: خليط من الرجال والنساء، من الذكران والإناث، فهنا قال تعالى: فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:176]، فالذكر يأخذ اثنين، والأنثى تأخذ واحداً.ثم قال تعالى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ [النساء:176]، أي: هذا الذي يبين، أَنْ تَضِلُّوا [النساء:176]، أي: لئلا تضلوا أو خشية أن تضلوا، إذ الضلال هو أن توزعوا المال على غير الوجه الذي يرضي الله عز وجل، أو تعطوا المال لمن لا يستحقه فيكون هذا من الضلال قطعاً وعدم الهداية، فكراهة أن تضلوا أنزل الله هذه الآيات وبين هذا الحكم. يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء:176]، أي: كراهة أن تضلوا، أو لئلا تضلوا، وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [النساء:176]، فلا يخفى عليه شيء، فاقبلوا إذاً بيانه وحكمه، وقسمته وارضوا بها، فإن الله عليم بأحكامه وقضائه.الآية مرة أخرى: يَسْتَفْتُونَكَ [النساء:176]، هذا الخبر من جاء به؟ الله عز وجل، يَسْتَفْتُونَكَ [النساء:176]، أي: يسألونك، فمن هو الذي يُسأل ويُستفتى؟ إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذاً الله يكلم الرسول مباشرة؟ إي نعم، إذ كيف لا يكون رسول الله إذاً؟ أين يُذهب بعقول اليهود والنصارى والمجوس؟ أيكلمه مباشرة وتقول: ما هو برسول الله؟ والله ما نفوا رسالته ولا جحدوها ولا أنكروها ولا كذبوا بها إلا لجهلهم ومصالح دنياهم، إذ هل تشك في رجل يكلمه الله ويحدثه في مئات المواطن وتقول: ما هو برسول؟! يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا [النساء:174-175]، أي: بهذا الدين الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء هم أهل الجنة ودار السلام، وأهل الإنعام الذي لا حد له في الملكوت الأعلى، ومن كفر وكذب وعاش على الشهوات والأهواء فمصيره معلوم، ألا وهو الخسران الأبدي في دار البوار والشقاء. يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ [النساء:176]، أي: أعلمهم يا رسولنا! بأن الله هو الذي يفتيكم؛ لأن الرسول ما عنده علم قبل أن يوحى إليه، قال: إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ [النساء:176]، ولا والد، ولا ولد ولد؛ لأنه يورث كلالة، وهو من الإكليل الذي يوضع على الرأس، فالذي يرثه إخوته يكونون قد أحاطوا به، إذ ما هم أسفل فيكونون أولاداً، ولا هم فوق فيكونون آباءً وأجداداً. إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ [النساء:176]، فما نصيب هذه الأخت من أخيها الشقيق أو لأب؟ ترث نصف ماله، وإن ماتت هي فأخوها يرث كل مالها، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]، فما دام أنها ورثت النصف عند موت أخيها، فهو يأخذ نصفين، والنصفان هو كل المال. فَإِنْ كَانَتَا [النساء:176]، أي: الأختان، اثْنَتَيْنِ [النساء:176]، أو أكثر، فما القسمة؟ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ [النساء:176]، لا زيادة، مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً [النساء:176]، كأن هلك هالك وترك إخوة له خليطاً من النساء والرجال، أو من البنين والبنات، فكيف يقتسمون تركة أخيهم؟ للذكر مثل حظ الأنثيين.لماذا للذكر مثل حظ الأنثيين؟ تمشدق وتمنطق وتكلم الملاحدة والزنادقة والهابطون إلى الحضيض، ولو استحوا وخجلوا، بل لو كان لهم عقل لعلموا أن واهب المال يعطي ويمنع من شاء من ماله، فكيف يعترضون عليه فيقولون: لم تعط فلاناً كذا وكذا؟ إن هذا ليس مالك، بل هو مال الله تعالى، ثم هل يعقل أن رب الجلال والكمال الرحمن الرحيم يجور في قسمته ولا يعدل؟! من يخطر هذا بباله فهو كافر، ومع هذا فقد بين لهم أولو العلم والنهى، وعرفوا أن المرأة ما كانت ترث لا في الجاهلية ولا في الصين ولا في اليابان ولا في الروس وفي الأمريكان، بل ولا في العالم نهائياً، فجاء الإسلام فورثها وأعطاها نصيبها بحسب حالها، فالمرأة قد ضمن الله لها عيشها، فما دامت طفلة في حجر أبيها فيجب على أبيها أن ينفق عليها، حتى وإن جاع لتشبع هي، وإذا بلغت سن التكليف وتزوجت فيجب على زوجها أن ينفق عليها حتى وإن جاع وهي تشبع، وإن أصبحت أم أولاد ومات الوالد -أي: الزوج- فعلى أولادها أن ينفقوا عليها وجوباً وإن ماتوا جوعاً.إذاً: ضمن الله قوتها، وما كلفها أن تحمل المسحاة أبداً وتصبح فلاحة، ولا أن تحمل القدوم وتصبح نجاراً، ولا أن تحمل الدنانير وتصبح تاجرة جوالة في الأسواق، بل أراحها الله تعالى، ثم بعد هذا يقولون: لمَ يعطيها الثلث فقط؟ لم ما يسويها بأخيها؟ إن أخاها عليه تكاليف ينهض بها، ومنها أنه ينفق على أبويه وعلى امرأته وأولاده، وهي كذلك يُنفق عليها، فكيف تعطى ما يعطى الرجل الذكر؟! ولكن: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46]، وما هناك عمى إلا الحسد فقط، فقد حسدوا هذه الأمة على أنوار الله التي تغمرها في حياتها، فلم تسموا بهذا الكمال وتعز وتسود وهم يعيشون كالحيوانات؟ يَسْتَفْتُونَكَ [النساء:176]، يا رسول الله! قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ [النساء:176]، والكلالة هي أن يورث الرجل من قِبل إخوانه وأخواته، فأبوه غير موجود، وأولاده وأولاد أولاده غير موجودين كذلك، فالذي يرثه هم الذي يحوطون به كالإكليل، فإن كانوا إخوة لأم فالواحد له السدس، وإن كانوا اثنين فأكثر فلهم الثلث، وإن كانوا إخوة لأب أو أشقاء فقد بين تعالى ذلك، إذ قال تعالى: إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ [النساء:176]، ولكن له أخت، وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا [النساء:176]، في كل مالها، إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ [النساء:176]، وإلا ليس هو إكليل، فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ [النساء:176]، فأكثر، فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:176]، فالذي يقول: لم ما سوى الله بين البنين والبنات فأولاً: والله ما عرف الله ولا آمن به، وثانياً: لو فهم فقط فهم البادية أن الله هو رب هذا المال يعطيه من يشاء، فأي وجه له أن يعترض؟ إن هذا ماله يعطيه من أراد. وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ [النساء:176]، قولوا: الحمد لله، إذ الله جل جلاله، والغني عنا وعن وجودنا يتولى البيان لنا ولا نحمده؟! يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ [النساء:176]، كراهة، أَنْ تَضِلُّوا [النساء:176]، فتهلكوا، إذ ما يريد ضلالكم أبداً، بل يريد سموكم وكمالكم وعزكم؛ لأنه وليكم وأنتم أولياؤه.

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #589  
قديم 24-05-2021, 04:23 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,873
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )

ذكر ما تنال به ولاية الله تعالى
بم ثبتت هذه الولاية؟ بالقبلية المعروفة؟! بالشيك والدينار والدرهم؟! يا زائري المسجد النبوي! مرحباً بكم في مسجد نبيكم، وهنيئاً لكم زيارتكم مسجد نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، وعندنا لكم سؤال وهو: بم نلنا ولاية الله وأصبح الله ولينا ونحن أولياؤه؟قال أحد الأبناء: باتباع سنة الرسول، هذا فيه إجمال، وهذا آخر يقول: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9]، وهذا لو سألنا وقلنا: ما هو الحكم الإلهي الذي أصدره الله على عباده؟ لقلتَ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10].نحن نقول: بم تنال الولاية؟ كيف أصبحنا أولياء يا من يرغب أن يكون ولي الله الذي لا خوف عليه ولا حزن، لا في الدنيا ولا في الآخرة؟ بم نحقق ولاية الله تعالى؟ فالجواب: بالإيمان والتقوى تتحقق ولاية الله عز وجل للعبد، والدليل قول الله تعالى من سورة يونس عليه السلام: أَلا [يونس:62]، أتعرفون (ألا) هذه؟ ألو، فإن قيل: لمَ هذا الشيخ يقول في مسجد الرسول: ألو؟ فالجواب: لأننا اعتدنا ألو، ألو، حتى البنت التي تزحف تأخذ السماعة فتقول: ألو، وكذلك النساء والرجال والعوام كلهم تعودوا على ألو، وعندنا في القرآن (ألا) ما نفهم لها معنى أبداً، واسأل عامة الناس عن (ألا) ما يجيبك.إن (ألا) معناها: أأنت حاضر لتستمع وتتلقى عني؟ هل ألقي إليك بالخبر أو لا؟ فهذه (ألا) أخذوا منها (ألو)، ولم لا يقولوا: ألا؟ لأن (ألا) قرآنية ومن كلام الله، فجاءوا بألو فقط، وقد بحث أحد الإخوان قديماً خمسين سنة مع النصارى ومع اليهود عن معنى ألو؟ فقالوا: (ألو) هكذا وجدت مع التليفون، فلا نعرف لها معنى، فقلنا لهم: سبقكم سيبويه العالم اللغوي إذ سألوه عن (أي) في لسان العرب، فمرة تأتي مبنية ومرة معربة ومرة كذا، فما لها؟ فقال: (أي) هكذا خلقت، وكذلك (ألا)، أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، لو يأتي هذا برقية من حاكم من الحكام فإن أهل البلاد سيطيرون من الفرح بهذا النبأ.
أوصاف أولياء الله تعالى وذكر جزائهم
قال تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، فمن هم أولياء الله؟ الذين لا خوف عليهم لا في هذه الحياة ولا في البرزخ ولا يوم القيامة، ولا يحزنون اليوم ولا بعد اليوم أبداً، ووالله ليجوع ولا يحزن، ووالله ليمرض ولا يحزن، ووالله ليموت أولاده واحداً بعد الواحد ولا يحزن، لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62].وكأن سائلاً يقول: من هم يا رب أولياؤك الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؟ فقال تعالى في الجواب: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63]، أي: آمنوا بالله رباً وإلهاً، وآمنوا برسله أنبياءً ورسلاً، وآمنوا بكتبه، وآمنوا بلقائه، وآمنوا بكل ما أمرهم الله أن يؤمنوا به، سواء أطاقته عقولهم أو لم تطقه، وَكَانُوا ، دائماً وأبداً، يَتَّقُونَ [يونس:63]، أي: يتقون غضب الرب وسخطه، وذلك بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، إذ الله لا يتقى بالأسوار العالية، ولا أن تدخل في السراديب تحت الأرض، وإنما يتقى الله عز وجل بطاعته فيما أمر به ونهى عنه، فالمأمور يُفعل والمنهي يُترك، وبهذا يتقى الله عز وجل.ثم قال تعالى: لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [يونس:64]، وهذا خير عظيم، فبكم يقدر؟ لَهُمُ الْبُشْرَى [يونس:64]، الأخبار السارة المثلجة للصدر، والذي تجعل وجهك كأنه قمر من فرحه وسروره، فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [يونس:64]، اليوم، وَفِي الآخِرَةِ [يونس:64].وقد فسر الحبيب صلى الله عليه وسلم لأصحابه وأمته البشرى فقال: البشرى في الحياة الدنيا هي: ( الرؤيا الصالحة يراها العبد الصالح أو ترى له )، فهل فهمتم معشر الأبناء والإخوان! البشرى العظيمة التي لهم من نصيبهم ومن حظهم أعطاهم الله إياها؟ فوالله لا تموتن يا ولي الله حتى تبشر، إما أن تراها أنت أو يراها عبد صالح ويقصها عليك ويقول لك: رأيتك في كذا وكذا. لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [يونس:64]، وأخرى أيضاً عندما يكون الولي على سرير الموت في محط العناية كما يسمونها، وقد قال الأطباء: أخوكم قد انتهى أمره، وهو كذلك حتى يأتي فوج من الملائكة كله نور، أي: ملك الموت وأعوانه، فيشاهدهم ويبتسم في وجوههم ويكاد يطير من الفرح، وينسى الدنيا وما فيها، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [فصلت:30]، أي: ما اعوجوا، وما انحرفوا، وما مالوا، وما زاغوا، وإنما استقامة إلى باب دار السلام، إذ يفعلون أوامر في حدود طاقتهم، وينتهون عن المناهي، فهذه هي الاستقامة، تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ بماذا؟ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30].
سر تبشير المؤمن بالجنة عند موته
معشر المستمعين! يا أهل هذه الحلقة المباركة! ما السر في هذا الكمال والإسعاد؟ ألا إنه طهارة أرواحهم وزكاة نفوسهم؛ لأن فعل الأوامر آلة لتزكية النفس والله وتطهيرها، بل أعظم من الماء والصابون للأبدان والأجسام، ولأن المنهيات أوساخ وأدران تلوث النفس البشرية فتحولها إلى عفنة ومنتنة كأرواح الشياطين، وهم قد تركوا المحرمات فأبعدوا أنفسهم عنها، فبقي طهرها وصفاؤها، فتأتي الملائكة وكأنهم جنس واحد يتكلمون معها، ويتحدثون إليها، ويبشرونها، إذاً فطهارة الروح وزكاة النفس هو الذي أهلهم لهذا الكمال. وأعطيكم مسألة علمية أيها الزوار، لكن مع الأسف ما لا تبلغون، بل ما بلغنا أن زائراً فهم مسألة في المسجد النبوي وبلغها في بلاده أبداً، ولذا فاسمعوا، لقد عاشت أمتنا قروناً لا تعرف ولياً من أولياء الله يمشي في الشارع، أو يبيع ويشتري في السوق، أو يحرث الأرض، إذ ما تعرف الولي إلا الذي قد مات وبني على قبره قبة، ورفع فوق قبره تابوت من خشب، ووضع عليه الأزر الحريرية، وأصبح يزار فتوضع النقود إلى جنبه، وتوقد الشموع في قبره.واسلوا العجائز عندكم يخبرنكم بذلك، فتجد الواحد منهم يقول: وحق سيدي عبد القادر، وحق سيدي مبروك، وحق سيدي إدريس، وحق مولاي فلان، فما فيه ولي حي أبداً، لكن لما يموت يُعبد من دون الله، وأقول: هيا نمشي إلى قرية من القرى عرب وعجم، على شرط ما يكون قد بلغهم هذا الكلام، فندخل على القرية ونلقى أول رجل نقول له: يا سيد! أنا جئت من بلاد بعيدة وأريد أن أزور ولياً من أولياء هذه البلاد، دلني عليه؟ والله ما يأتي بك إلا إلى ضريح، ولا يفهم أن في القرية ولياً بين الناس، ومن أراد أن يجرب فليجرب، وقبل هذا والله لو تدخل إلى القاهرة المعزية وتقول: أنا الآن نزلت من الباخرة أو من الطائرة، وقد جئت فقط لزيارة ولي من أولياء هذه البلاد، فدلني يا فلان؟ والله ما يأخذ بيدك إلا إلى ضريح، والملايين في السوق ما فيهم ولي! والسر في ذلك أن العدو الثالوث الأسود المكون من المجوسية واليهودية والصليبية قد عزموا على إطفاء نور الله من قلوب الناس، وإبعادهم عن رحمة الله، إذ قالوا: لمَ يفوز المسلمون بدار السلام؟ لمَ يفوزون بالطهر والسلام؟ لم يفوزون بالعز والكرامة ونحن نعيش كالبهائم؟ إذاً يجب أن نسوي بيننا وبينهم.فاحتالوا على المسلمين وحصروا الولاية في الموتى، ومن ثم فإن الرجل المسلم في القرية أو في المدينة يزني بامرأة مسلم والله العظيم، أو يزني ببنت مسلم، أو مسلم في القرية يسرق مال مسلم، أو مسلم في القرية يسب آخر ويفلق رأسه لأجل كلمة قالها، ولا طهر ولا أمن ولا صفاء؛ لأنهم ما عرفوا أنهم أولياء الله، وأن الله يقول: ( من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )، ويدلك على أن الولي عندهم هو الميت أنهم ترتعد فرائصهم عند زيارته، إذ لا يستطيعون أن يقولوا كلمة سوء عند قبره، بل يعظمونه ويحترمون أهله وذويه لأنهم من إخوان الولي الفلاني، وأما عامة المسلمين فافجر بنسائهم، واسرق أموالهم، وسب واشتم ولا تخف؛ لأنهم ليسوا بأولياء الله! وبهذه الأذن سمعت في القرية مجموعة من الرجال يتحدثون كما تتحدث عوام الناس، فقالوا: فلان كان إذا زنا لا يمر بسيدي فلان، وإنما يمر من جهة أخرى في القرية حتى لا يمر بالولي وهو ملطخ بالزنا! يخون أخاه المؤمن في أهله، ويفجر عن طاعة ربه فيزني وقد حرم مولاه الزنا، ولا يبالي بالله ولا بشيء أبداً، ويخاف أن يمر على ضريح فلان! أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، فمن هم يا رب أولياؤك؟ عبد القادر الجيلاني؟ البدوي؟ العيدروس؟ إن أولياء الله هم المؤمنون المتقون، فلا يحل لك أن تنظر نظرة شزراً في وجه هذا المؤمن التقي، وحرام أن تقول فيه كلمة واحدة تزعجه، وحرام أن تنال منه ولو لطمة بإصبعك، ولو فلس من ديناره ودرهمه، فكيف تزني بامرأته أو تفجر بابنته؟!
سر انحطاط المسلمين في العصر الحاضر
لكن للأسف فعل بنا هذا الأعداء ومددنا أعناقنا وسكتنا، فما سر هذا؟ إنه الجهل، فمن جهلنا؟ هم حملونا على أن نبعد من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذه الأمة لن تعلم إلا إذا كانت في كل ليلة تجتمع في بيوت ربها بنسائها وأطفالها ورجالها، في قراها ومدنها، وطول العمر تشتغل من صلاة الصبح إلى غروب الشمس في دنياها، أما هذا الوقت فهو وقت التلقي للكتاب والحكمة وتزكية النفس البشرية، فيجب أن يكونوا في بيوت الله تعالى، كما كانت على عهد رسول الله، فهذا أبو بكر وعمر كانا يتناوبان هذه الجلسة.ونحن قد أبعدونا عن القرآن بالمرة، وحولوه إلى الموتى فمتنا، وذهب النور حتى كرامة المؤمن وولايته حصروا الولاية في الأموات فقط، إذ الأحياء ما فيهم ولي فافعل بهم ما شئت، وما أفقنا إلى الآن، فدويلاتنا عشرات، ومذاهبنا وطرقنا وأحزابنا عديدة، فلا مودة ولا إخاء، ولا تلاقي لا حب لا ولاء؛ لأننا لسنا بالفعل حقاً بأولياء الله، فأبعدونا عن ولاية الله تعالى.فنقول: إنا لله وإنا إليه راجعون للعزاء، لكن باب الله مفتوح، فمن أراد أن يحقق الولاية والله للباب الله مفتوح، فمن الآن يعزم كل مؤمن على أن يعرف الله معرفة حقيقية، ويؤمن الإيمان الصحيح كما هو في كتاب الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، ويمتثل الأوامر ويجتنب النواهي، ولا همَّ له إلا رضا ربه عز وجل، إذ هو ولي الله تعالى، فلو رفع يديه وسأل مولاه شيئاً لأعطاه إياه.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
نتلو الآيات: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [النساء:176].
هداية الآيات
قال [ من هداية الآية الكريمة: أولاً: جواز سؤال من لا يعلم من يعلم ]، بل وجوب سؤال من لا يعلم من يعلم، أما قال تعالى: يَسْتَفْتُونَكَ [النساء:176]؟ فهذا جابر قد سأل، وهناك آيتين في كتاب الله توجب السؤال، وذلك من سورة النحل ومن سورة الأنبياء، قال تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، فكل من لا يعلم يجب عليه أن يسأل، ولو يركب ناقته ويرحل حتى يسأل، ومن ثم لا جهل في أمة الإسلام، وقد مضت فترة في القرون الذهبية لا جهل في النساء ولا في الخدم ولا في العبيد، وإنما كلهم علماء؛ لأنهم استجابوا لأمر الله: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، فكل من لا يعلم يجب أن يسأل حتى يعلم، فهل يبقى إذاً جاهل أو جاهلة؟ مستحيل.قال: [ ثانياً: إثبات وجود الله تعالى عليماً قديراً سميعاً بصيراً، وتقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، إذ سؤال الأصحاب وإجابة الرب تعالى بواسطة وحيه المنزل على رسوله يقرر ذلك ]، أي: وجود الله عليماً حكيماً سميعاً، وأن محمد نبي ورسول، وبعض الآية يقرر هذا بكامله، أي: إثبات وجود الله، أيكون الله معدوماً ويُسأل ويجيب؟ وهل هناك ميت تسأله ويجيبك؟ وهل هناك غائب تسأله ويجيبك؟ كيف يجيب وهو غير موجود؟!قال: [ ثالثاً: بيان قسمة تركة من يورث كلالة من رجل أو امرأة، فالأخت الواحدة لها من أخيها نصف ما ترك، والأختان لهما الثلثان، والإخوة مع الأخوات للذكر مثل حظ الأنثيين، والأخ يرث أخته إن لم يكن لها ولد ولا ولد ولد، والإخوة والأخوات يرثون أختهم للذكر مثل حظ الأنثيين، إذا لم تترك ولداً ولا ولد ولد ]. وصلى الله على نبينا محمد.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #590  
قديم 24-05-2021, 04:24 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,873
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (86)
الحلقة (308)

تفسير سورة النساء (89)



حوت سورة النساء الكثير من الأحكام الشرعية والهدايات الربانية، حيث ذكر الله فيها لعباده وسائل تزكية النفس والارتقاء بها، وذكر أحكام النساء وما يتعلق بذلك من نكاح ونفقات وغيره، وأحكام اليتيم وكفالته، كما قرر فيها سبحانه مبدأ التوارث، وبين أحكام التركة وكيفية تقسيمها، كما بين المحرمات من النساء وأسباب التحريم وما يترتب على ذلك من أحكام.
بعض ما حوته سورة النساء من الهدايات والأحكام الشرعية
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).وها نحن قد فرغنا بالأمس من دراسة سورة النساء المدنية المباركة الميمونة، وظننت أننا اليوم سندرس العقيدة من كتاب عقيدة المؤمن، وقد تبين لي خطئي، وها نحن الآن نريد أن نستحضر بعض الذي حوته سورة النساء من الهدايات والأحكام الشرعية.
مناداة الله للخلق جميعاً بأن يتقوه
إن هذه السورة المباركة الميمونة قد دعت البشرية كلها أبيضها وأصفرها إلى أن يتقوا ربهم؛ لأنهم لا يسعدون ولا يكملون إلا على تقوى ربهم، إذ قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ [النساء:1]، ولو عرفوا عظمته وجلاله وكبرياءه وقدرته وعلمه وحكمته ورحمته لما خرج عن طاعته واحد منهم، وحسبهم أن يعرفوا أنهم مقهورون ومملوكون ومحكومون ومدبرون، وأن مالكهم ومدبرهم وحاكمهم هو الله سبحانه وتعالى، فإن أرادوا السعادة فليعبدوه، وإن أرادوا الشقاء فلهم دار البوار والعياذ بالله، والعجيب أنه من يريد الشقاء؟ ولكن الذي يعرض عن طاعة سيده فقد أراد الشقاء أحب أم كره، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً [النساء:1]، فأعلم البشرية بأصل خلقتها.فيا ابن آدم! أنت مخلوق مم؟ ما هي مادة خلقك؟ إنها الطين اللازب، إنها الحمأ المسنون، إنه الصلصال كالفخار، فهذا هو أبوك آدم، وأنت أصل وجودك هو الطين، فهل تتكبر يا ابن الطين؟ كيف ترفع رأسك وتستأنف أن تسجد لمولاك وتطرح بين يديه؟ وأما والدتك وجدتك حواء، فقد أخبر العليم الحكيم على أنه خلقها من آدم، وذلك من ضلعه الأيسر، فعلم البشرية أصل خلقتها ومبدأ وجودها.
وجوب صلة الأرحام وحرمة قطعها
ثم أمرنا الله أن نتقيه وأن نصل أرحمانا، فقال: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، ورقيب بمعنى: مراقب، وبالتالي كيف نستطيع أن نقول كلمة سوء وهو يسمعنا؟! وكيف نمد أيدينا أو نمشي بأرجلنا إلى شيء يكرهه وهو معنا يعلم حركاتنا وسكناتنا؟ إن هذه تربي في الإنسان المؤمن ملكة مراقبة الله عز وجل، فيصبح دائماً بين يدي الله، فلا يقوى ولا يقدر على حركة يعلم أنها تتنافى مع رضا الله جل جلاله وعظم سلطانه.
جواز نكاح أكثر من واحدة إلى أربع مع الأمن من الحيف والجور
ثم ذكر الله لنا حكماً عظيماً وهو: أن من أراد أن يزوج يتيمة في حجره فلا يبخسها حقها في مهرها وصداقها، وذلك لكونه وليها أو الوكيل عنها، وكذلك لا ينبغي لمؤمن أن يتزوجها ويبخسها مهرها، إذ إن هذا لا ينبغي أن يأتي من مؤمن يؤمن بالله ولقائه، وله أن يتزوج غيرها إذا خاف ألا يعدل معها أو أن يبخسها حقها ، وذلك أن الله تعالى قد فتح له هذا الباب، وبالتالي فله أن ينكح واحدة أو اثنتين أو ثلاثاً أو أربعاً، قال تعالى: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:3]، فهذا هو إذنه سبحانه وتعالى، ثم أليس هو المالك للنساء والرجال؟ بلى، فلو منع ما يمنع، ولكن أذن لعباده، فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى [النساء:3]، أي: اثنتين أو ثلاثاً أو أربعاً، ولعلمه وحكمته وعظيم رحمته، يقول: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا [النساء:3]، بين الاثنتين أو الثلاث أو الأربع، فماذا تصنعون؟ فَوَاحِدَةً [النساء:3]، ولا تزيدوا على ذلك، أي: إذا ما قدرت على العدل، أو عرفت أنك لا تقوى عليه، فلا تزد على امرأتك أخرى.
وجوب إعطاء النساء مهورهن وحرمة الأكل منها بغير طيب نفس صاحبة المهر
ثم علمنا ما يجب لاستحلال الفرج، ألا وهو المهر أو الصداق، وبالتالي فلابد لمن أراد أن يتزوج امرأة بيضاء أو صفراء أن يعطيها مهراً، وله أن يؤجله بعلمها ورضاءها، وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً [النساء:4]، وأركان النكاح أربع، وبدون هذه الأركان فالنكاح فاسد وباطل، بل وهو زنا وعهر، ومن بين هذه الأركان الأربعة: المهر، وأما باقي هذه الأركان فهي: الشهود، فلابد وأن تشهد اثنين من عدول المؤمنين على أنك تتزوج فلانة، ومن هذه الأركان أيضاً: الصيغة، كأن تقول: فلان زوجني ابنتك أو وليتك، فإذا قال: زوجتكها على مهر كذا وكذا، فتقول: رضيت بها، وقبلتها زوجاً لنفسي.كذلك من الأركان: وجود الولي، إذ هو الركن الأعظم من أركان النكاح، ولذا فلابد للمرأة أن يكون لها ولي يتولى عقد نكاحها، فإن لم يوجد لها أب ولا أخ ولا جد ولا عم، فالقاضي ولي من لا ولي لها، فإن انعدم القضاء في الصحراء أو في القرى، فـعمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: فليتولى عقد نكاحها ذو الرأي من عشيرتها من أهل البلاد، أي: صاحب الحصافة العقلية، والرأي السديد، والوفاء والكمال.
النهي عن إعطاء المال للسفهاء الذين لا يحسنون التصرف فيه
ومن هذه الأحكام الإلهية التي تسعدنا وتكملنا لو آمنا بها وعرفناها وطبقناها في حياتنا: يقول تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا [النساء:5]، فالآن الدنيا كلها قائمة على المال، إذ المال قوام الأعمال، والمال قد كفر الناس من أجله، وارتدوا من أجله، وباعوا دينهم من أجله، وباعوا أعراضهم من أجله، وحاربوا وقتلوا وسفكوا من أجله، والقرآن الكريم قد وضع قواعده للدنيا بما فيها، فأموالكم التي جعلها الله لكم قياماً، ماذا تصنعون بها؟ قال: لا تعطوه السفهاء، كالمرأة التي لا تحسن التصرف، وكالولد أو الرجل الذي لا يحسن التصرف، ولو نعمل بهذه فقط ما افتقرنا، فمن هو إذاً هذا السفيه؟ سفيه العقل هو الذي لا يحسن التصرف، والآن تستطيع أن تقول: كل المبذرين والمسرفين في المال هم ممن نهى الله عباده أن يعطوهم أموالهم، وقد جاء الحجر عليهم.وحسبنا أن نذكر أن هذه السورة العظيمة حوت سلالم الرقي والكمال والسعادة البشرية، وهي من مائة وأربعة عشرة سورة، وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا [النساء:5].
أمر الله للأولياء أن يختبروا اليتيم إذا بلغ سن الرشد
كما أمرنا بابتلاء اليتيم إذا بلغ سن الرشد، وذلك إذا أردت أن تعطيه أمواله التي ورثها من أبيه أو من أخيه، فامتحنه أولاً ثم أعطه إياه، كأن تعطيه دراهم أو دنانير وتقول له: اشتر لنا كذا وكذا، وبع لنا كذا وكذا، وأنت تراقب سلوكه، فإن وجدته حاذقاً حصيف الرأي لبيباً، فأعطه ماله وأشهد عليه، وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا [النساء:2].وقد عاش المسلمون في عصر جهالاتهم إلى اليوم، ولذلك تجد الولي يكون عنده مال اليتيم، فيأخذ من مال يتيمه ويترك ماله، وذلك كأن أراد شاة فيأخذ من غنم يتيمه ويترك غنمه ولا يأخذ منها شيئاً، ويقول: هذا ما زالت حياته مستقبلة، وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا [النساء:2].
تقرير مبدأ التوارث في الإسلام
كذلك من الهدايات في هذه السورة: تقرير مبدأ التوارث الذي كان مجهولاً بين العرب، فقد كانت المرأة لا حق لها في الإرث، وكذلك الولد الصغير قبل البلوغ لا حق له في الإرث والمال، إذ المال فقط للرجال الأبطال الذين يدافعون عن القبيلة، ويقاتلون دون شرفهم، فقررت هذه الآية أن لهم جميعاً نصيباً من الإرث، فقال تعالى: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ [النساء:7]، فقد كان العرب لا يورثون النساء، وذلك بحجة أنهن لا يدافعن ولا يحمين القبيلة، فالمال يرثه الذكر دون الأنثى، والصغار قالوا: يأكل ما تيسر، فيورثون الرجال فقط، فجاءت سورة النساء تحمل هذا الهدى: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا [النساء:7].
استحباب إعطاء من حضر قسمة التركة من قريب أو يتيم أو مسكين
ثم جاءت الرحمات الإلهية، ونحن أصحاب القرى نعرف هذا، وذلك أننا لما نجز التمر أو نحضر الشعير أو البر لنقسمه على الورثة، يأتي الفقراء والأقارب يتطلعون، فإن كان صاحب المال حي قلبه وحي الضمير، فإنه يضرب لهم شيئاً فشيئاً قبل أن يقسم، فيصرفهم بما يعطيهم، وإن كان صاحب المال شحيحاً فلا يلتفت إليهم، قال ابن عباس: هذه الآية ما عمل بها الناس، وهي قوله تعالى: وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا [النساء:8]، أي: أعطه حفنة من البر أو الشعير وقل له: سامحني، هذا الذي تيسر لي، أما أن يرجعوا بلا شيء وهم يشاهدون إخوانهم يقسمون المال بين ورثتهم، فلا ينبغي هذا للمؤمنين.
بيان ما جاء في التركة وقسمتها
ثم جاء بيان التركة وقسمتها، فقال تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]، مع أن العرب ما كانوا يحلمون بهذا، ولا كان الجن ولا الإنس يعرفون هذا قبل هذه الآية المباركة الكريمة، يُوصِيكُمُ [النساء:11]، والوصية لها شأنها عند العقلاء والأحرار، وليست كالأمر فقط، يُوصِيكُمُ [النساء:11]، من؟ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء:11]، بماذا؟ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]، فلهذا لو قال قائل: كيف أسوي بين ابنتي وولدي؟! لو قال هكذا فمعناه: أنه خان الله في وصيته والعياذ بالله، يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11].ثم بين كيف تقسم التركة مع الأولاد، وذلك إذا توفي الوالد وترك الأولاد، ثم بين إرث المرأة من زوجها، كم ترث منه؟ وكم يرث الزوج من امرأته؟ وما هي الكلالة؟ فبين ذلك غاية البيان، ثم قال: ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ [الأنعام:151].
نسخ حكم المكث في البيت حتى الموت بالنسبة لمرتكبي فاحشة الزنا
وبعد ذلك جاء حكمٌ منسوخ بحسب العلم الإلهي والرحمة الربانية، فقد كان الرجل أو المرأة إذا زنا في بداية الأمر يسجنان فقط، قال تعالى: وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا [النساء:16]، وما هي إلا فترة من الزمان حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، الثيب الزاني جلد مائة والرجم بالحجارة )، فنسخ الله الحكم السابق حين تهيأت النفوس لقبول الحكم الثاني، فقال تعالى: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا [النساء:15]، ثم فجأة نزلت: ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة، نكالاً من الله والله عزيز حكيم )، وقوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2]، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً ).

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 7 ( الأعضاء 0 والزوار 7)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 299.51 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 293.67 كيلو بايت... تم توفير 5.84 كيلو بايت...بمعدل (1.95%)]