|
هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#541
|
||||
|
||||
![]() ![]() تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن الإمام محمد بن جرير الطبري الجزء العاشر تَفْسِيرِ سُّورَةِ المائدة الحلقة (541) صــ 116 إلى صــ 130 فهذه أسماء الذين بعثهم موسى يتحسسون له الأرض ويومئذ سمى" هوشع بن نون " : " يوشع بن نون " فأرسلهم وقال لهم : ارتفعوا قبل الشمس ، فارقوا الجبل ، وانظروا ما في الأرض ، وما الشعب الذي يسكنون ، أقوياء هم أم ضعفاء ، أقليل هم أم كثير؟ وانظروا أرضهم التي يسكنون : أسمينة هي [ أم هزيلة ] ؟ أذات شجر أم لا؟ اجتازوا ، واحملوا إلينا من ثمرة تلك الأرض . وكان ذلك في أول ما أشجن بكر ثمرة العنب . [ ص: 117 ] 11576 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : "وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا" فهم من بني إسرائيل ، بعثهم موسى لينظروا له إلى المدينة . فانطلقوا فنظروا إلى المدينة ، فجاءوا بحبة من فاكهتهم وقر رجل ، فقالوا : [ ص: 118 ] اقدروا قوة قوم وبأسهم ، هذه فاكهتهم! فعند ذلك فتنوا فقالوا : لا نستطيع القتال ، ( فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ) [ سورة المائدة : 24 ] . 11577 - حدثت عن الحسين بن الفرج المروزي قال : سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد يقول في قوله : "وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا" أمر الله بني إسرائيل أن يسيروا إلى الأرض المقدسة مع نبيهم موسى صلى الله عليه وسلم ، فلما كانوا قريبا من المدينة قال لهم موسى : ادخلوها ! فأبوا وجبنوا ، وبعثوا اثني عشر نقيبا لينظروا إليهم ، فانطلقوا فنظروا ، فجاءوا بحبة من فاكهتهم بوقر الرجل ، فقالوا : اقدروا قوة قوم وبأسهم ، هذه فاكهتهم!! فعند ذلك قالوا لموسى : ( اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ) . القول في تأويل قوله عز ذكره ( وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وقال الله لبني إسرائيل : "إني معكم" ، يقول : إني ناصركم على عدوكم وعدوي الذين أمرتكم بقتالهم ، إن قاتلتموهم ووفيتم بعهدي وميثاقي الذي أخذته عليكم . وفي الكلام محذوف ، استغني بما ظهر من الكلام عما حذف منه . وذلك أن معنى الكلام : وقال الله لهم إني معكم فترك ذكر "لهم" ، استغناء بقوله : "ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل" ، إذ كان متقدم الخبر عن قوم مسمين بأعيانهم ، فكان معلوما أن ما في سياق الكلام من الخبر عنهم ، إذ لم يكن الكلام مصروفا عنهم إلى غيرهم . ثم ابتدأ ربنا جل ثناؤه القسم فقال : قسما لئن أقمتم ، معشر بني إسرائيل ، الصلاة "وآتيتم الزكاة" ، أي : أعطيتموها من أمرتكم بإعطائها "وآمنتم برسلي" يقول : وصدقتم بما أتاكم به رسلي من شرائع ديني . [ ص: 119 ] وكان الربيع بن أنس يقول : هذا خطاب من الله للنقباء الاثني عشر . 11578 - حدثت عن عمار بن الحسن قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : أن موسى صلى الله عليه وسلم قال للنقباء الاثني عشر : سيروا إليهم يعني : إلى الجبارين فحدثوني حديثهم ، وما أمرهم ، ولا تخافوا إن الله معكم ما أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا . قال أبو جعفر : وليس الذي قاله الربيع في ذلك ببعيد من الصواب ، غير أن من قضاء الله في جميع خلقه أنه ناصر من أطاعه ، وولي من اتبع أمره وتجنب معصيته وتحامى ذنوبه . فإذ كان ذلك كذلك ، وكان من طاعته إقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، والإيمان بالرسل ، وسائر ما ندب القوم إليه كان معلوما أن تكفير السيئات بذلك وإدخال الجنات به . لم يخصص به النقباء دون سائر بني إسرائيل غيرهم . فكان ذلك بأن يكون ندبا للقوم جميعا ، وحضا لهم على ما حضهم عليه أحق وأولى من أن يكون ندبا لبعض وحضا لخاص دون عام . واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : "وعزرتموهم" . فقال بعضهم : تأويل ذلك : ونصرتموهم . ذكر من قال ذلك : 11579 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : "وعزرتموهم" قال : نصرتموهم . [ ص: 120 ] 11580 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله . 11581 - حدثني محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : "وعزرتموهم" قال : نصرتموهم بالسيف . وقال آخرون : هو الطاعة والنصرة . ذكر من قال ذلك : 11582 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : سمعت عبد الرحمن بن زيد يقول في قوله : "وعزرتموهم" قال : "التعزيز" و"التوقير" ، الطاعة والنصرة . واختلف أهل العربية في تأويله . فذكر عن يونس [ الحرمري ] أنه كان يقول : تأويل ذلك : أثنيتم عليهم . 11583 - حدثت بذلك عن أبي عبيدة معمر بن المثنى عنه . وكان أبو عبيدة يقول : معنى ذلك نصرتموهم ، وأعنتموهم ، ووقرتموهم وعظمتموهم ، وأيدتموهم ، وأنشد في ذلك : وكم من ماجد لهم كريم ومن ليث يعزر في الندي [ ص: 121 ] وكان الفراء يقول : "العزر" الرد "عزرته" ، رددته : إذا رأيته يظلم فقلت : "اتق الله" أو نهيته ، فذلك "العزر" . قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال عندي في ذلك بالصواب قول من قال : "معنى ذلك : نصرتموهم" . وذلك أن الله جل ثناؤه قال في"سورة الفتح" : ( إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه ) [ سورة الفتح : 8 ، 9 ] ف"التوقير" هو التعظيم . وإذ كان ذلك كذلك كان القول في ذلك إنما هو بعض ما ذكرنا من الأقوال التي حكيناها عمن حكينا عنه . وإذا فسد أن يكون معناه : التعظيم وكان النصر قد يكون باليد واللسان ، فأما باليد فالذب بها عنه بالسيف وغيره ، وأما باللسان فحسن الثناء ، والذب عن العرض صح أنه النصر ، إذ كان النصر يحوي معنى كل قائل قال فيه قولا مما حكينا عنه . وأما قوله : "وأقرضتم الله قرضا حسنا" فإنه يقول : وأنفقتم في سبيل الله ، وذلك في جهاد عدوه وعدوكم "قرضا حسنا" يقول : وأنفقتم ما أنفقتم في سبيله ، فأصبتم الحق في إنفاقكم ما أنفقتم في ذلك ، ولم تتعدوا فيه حدود الله وما ندبكم إليه وحثكم عليه إلى غيره . فإن قال لنا قائل : وكيف قال : "وأقرضتم الله قرضا حسنا" ولم يقل : "إقراضا حسنا " ، وقد علمت أن مصدر "أقرضت" "الإقراض"؟ قيل : لو قيل ذلك كان صوابا ، ولكن قوله : "قرضا حسنا" أخرج [ ص: 122 ] مصدرا من معناه لا من لفظه . وذلك أن في قوله : "أقرض" معنى"قرض" ، كما في معنى"أعطى" "أخذ" . فكان معنى الكلام : وقرضتم الله قرضا حسنا ، ونظير ذلك : ( والله أنبتكم من الأرض نباتا ) [ سورة نوح : 17 ] إذ كان في "أنبتكم" معنى : "فنبتم" ، وكما قال امرؤ القيس : ورضت فذلت صعبة أي إذلال إذ كان في"رضت" معنى"أذللت" ، فخرج"الإذلال" مصدرا من معناه لا من لفظه . القول في تأويل قوله عز ذكره ( لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار ) قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بذلك بني إسرائيل ، يقول لهم جل ثناؤه : لئن أقمتم الصلاة ، أيها القوم الذين أعطوني ميثاقهم بالوفاء بطاعتي واتباع أمري ، وآتيتم الزكاة ، وفعلتم سائر ما وعدتكم عليه جنتي "لأكفرن عنكم سيئاتكم" ، [ ص: 123 ] يقول : لأغطين بعفوي عنكم - وصفحي عن عقوبتكم ، على سالف أجرامكم التي أجرمتموها فيما بيني وبينكم - على ذنوبكم التي سلفت منكم من عبادة العجل وغيرها من موبقات ذنوبكم "ولأدخلنكم" مع تغطيتي على ذلك منكم بفضلي يوم القيامة "جنات تجري من تحتها الأنهار" . ف"الجنات" البساتين . وإنما قلت معنى قوله : "لأكفرن" لأغطين ، لأن "الكفر" معناه الجحود ، والتغطية ، والستر ، كما قال لبيد : في ليلة كفر النجوم غمامها يعني : "غطاها" ، ف"التكفير" "التفعيل" من "الكفر" . واختلف أهل العربية في معنى"اللام" التي في قوله : "لأكفرن" . فقال بعض نحويي البصرة : "اللام" الأولى على معنى القسم يعني"اللام" التي في قوله : "لئن أقمتم الصلاة" قال : والثانية معنى قسم آخر . وقال بعض نحويي الكوفة : بل "اللام" الأولى وقعت موقع اليمين ، فاكتفي بها عن اليمين يعني ب"اللام الأولى" : "لئن أقمتم الصلاة" . قال : و"اللام" الثانية يعني قوله : "لأكفرن عنكم سيئاتكم" جواب لها ، يعني"اللام" التي في قوله : "لئن أقمتم الصلاة" واعتل لقيله ذلك بأن قوله : "لئن أقمتم الصلاة" [ ص: 124 ] غير تام ولا مستغن عن قوله : "لأكفرن عنكم سيئاتكم" . وإذ كان ذلك كذلك ، فغير جائز أن يكون قوله : "لأكفرن عنكم سيئاتكم" قسما مبتدأ ، بل الواجب أن يكون جوابا لليمين إذ كانت غير مستغنية عنه . وقوله : ( تجري من تحتها الأنهار ) يقول : تجري من تحت أشجار هذه البساتين التي أدخلكموها الأنهار . القول في تأويل قوله عز ذكره ( فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل ( 12 ) ) قال أبو جعفر : يقول عز ذكره : فمن جحد منكم ، يا معشر بني إسرائيل شيئا مما أمرته به فتركه ، أو ركب ما نهيته عنه فعمله بعد أخذي الميثاق عليه بالوفاء لي بطاعتي واجتناب معصيتي "فقد ضل سواء السبيل" يقول : فقد أخطأ قصد الطريق الواضح ، وزل عن منهج السبيل القاصد . "والضلال" ، الركوب على غير هدى ، وقد بينا ذلك بشواهده في غير هذا الموضع . وقوله : "سواء" يعني به وسط ، و"السبيل" ، الطريق . وقد بينا تأويل ذلك كله في غير هذا الموضع ، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع . [ ص: 125 ] القول في تأويل قوله عز ذكره ( فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم ) قال أبو جعفر : يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : يا محمد ، لا تعجبن من هؤلاء اليهود الذين هموا أن يبسطوا أيديهم إليك وإلى أصحابك ، ونكثوا العهد الذي بينك وبينهم ، غدرا منهم بك وبأصحابك ، فإن ذلك من عاداتهم وعادات سلفهم ، ومن ذلك أني أخذت ميثاق سلفهم على عهد موسى صلى الله عليه وسلم على طاعتي ، وبعثت منهم اثني عشر نقيبا وقد تخيروا من جميعهم ليتحسسوا أخبار الجبابرة ، ووعدتهم النصر عليهم ، وأن أورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم ، بعد ما أريتهم من العبر ، والآيات - بإهلاك فرعون وقومه في البحر ، وفلق البحر لهم ، وسائر العبر - ما أريتهم ، فنقضوا ميثاقهم الذي واثقوني ونكثوا عهدي ، فلعنتهم بنقضهم ميثاقهم . فإذ كان ذلك من فعل خيارهم مع أيادي عندهم ، فلا تستنكروا مثله من فعل أراذلهم . وفى الكلام محذوف اكتفي بدلالة الظاهر عليه ، وذلك أن معنى الكلام : "فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل" - فنقضوا الميثاق ، فلعنتهم "فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم" فاكتفي بقوله : "فبما نقضهم ميثاقهم" من ذكر "فنقضوا" . ويعني بقوله جل ثناؤه : "فبما نقضهم ميثاقهم" ، فبنقضهم ميثاقهم ، كما قال قتادة . 11584 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : [ ص: 126 ] "فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم" يقول : فبنقضهم ميثاقهم لعناهم . 11585 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال ابن عباس : "فبما نقضهم ميثاقهم" قال : هو ميثاق أخذه الله على أهل التوراة فنقضوه . وقد ذكرنا معنى "اللعن" في غير هذا الموضع . و"الهاء والميم" من قوله : "فبما نقضهم" عائدتان على ذكر بني إسرائيل قبل . القول في تأويل قوله عز ذكره ( وجعلنا قلوبهم قاسية ) قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك . فقرأته عامة قرأة أهل المدينة وبعض أهل مكة ، والبصرة والكوفة : ( قاسية ) بالألف على تقدير"فاعلة" من"قسوة القلب" ، من قول القائل : "قسا قلبه ، فهو يقسو وهو قاس" ، وذلك إذا غلظ واشتد وصار يابسا صلبا كما قال الراجز : وقد قسوت وقست لداتي فتأويل الكلام على هذه القراءة : فلعنا الذين نقضوا عهدي ولم يفوا بميثاقي من بني إسرائيل ، بنقضهم ميثاقهم الذي واثقوني"وجعلنا قلوبهم قاسية" ، [ ص: 127 ] غليظة يابسة عن الإيمان بي ، والتوفيق لطاعتي ، منزوعة منها الرأفة والرحمة . وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين : ( وجعلنا قلوبهم قسية ) . ثم اختلف الذين قرءوا ذلك كذلك في تأويله . فقال بعضهم : معنى ذلك معنى"القسوة " ، لأن "فعيلة" في الذم أبلغ من "فاعلة" ، فاخترنا قراءتها "قسية" على "قاسية" لذلك . وقال آخرون منهم : بل معنى "قسية" غير معنى "القسوة" ، وإنما "القسية" في هذا الموضع : القلوب التي لم يخلص إيمانها بالله ، ولكن يخالط إيمانها كفر ، كالدراهم "القسية" ، وهي التي يخالط فضتها غش من نحاس أو رصاص وغير ذلك ، كما قال أبو زبيد الطائي : لها صواهل في صم السلام كما صاح القسيات في أيدي الصياريف [ ص: 128 ] يصف بذلك وقع مساحي الذين حفروا قبر عثمان على الصخور ، وهي "السلام" . قال أبو جعفر : وأعجب القراءتين إلي في ذلك ، قراءة من قرأ : ( وجعلنا قلوبهم قسية ) على"فعيلة" ، لأنها أبلغ في ذم القوم من "قاسية" . وأولى التأويلين في ذلك بالصواب تأويل من تأوله : "فعيلة" من "القسوة" ، كما قيل : "نفس زكية" و"زاكية" ، و"امرأة شاهدة" و"شهيدة" ، لأن الله جل ثناؤه وصف القوم بنقضهم ميثاقهم وكفرهم به ، ولم يصفهم بشيء من الإيمان ، فتكون قلوبهم موصوفة بأن إيمانها يخالطه كفر ، كالدراهم القسية التي يخالط فضتها غش . القول في تأويل قوله عز ذكره ( يحرفون الكلم عن مواضعه ) قال أبو جعفر : يقول عز ذكره : وجعلنا قلوب هؤلاء الذين نقضوا عهودنا من بني إسرائيل قسية ، منزوعا منها الخير ، مرفوعا منها التوفيق ، فلا يؤمنون ولا يهتدون ، فهم لنزع الله عز وجل التوفيق من قلوبهم والإيمان ، يحرفون كلام [ ص: 129 ] ربهم الذي أنزله على نبيهم موسى صلى الله عليه وسلم ، وهو التوراة ، فيبدلونه ، ويكتبون بأيديهم غير الذي أنزله الله جل وعز على نبيهم ، ثم يقولون لجهال الناس : "هذا هو كلام الله الذي أنزله على نبيه موسى صلى الله عليه وسلم ، والتوراة التي أوحاها إليه" . وهذا من صفة القرون التي كانت بعد موسى من اليهود ، ممن أدرك بعضهم عصر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، ولكن الله عز ذكره أدخلهم في عداد الذين ابتدأ الخبر عنهم ممن أدرك موسى منهم ، إذ كانوا من أبنائهم وعلى منهاجهم في الكذب على الله ، والفرية عليه ، ونقض المواثيق التي أخذها عليهم في التوراة ، كما : - 11586 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : "يحرفون الكلم عن مواضعه" يعني حدود الله في التوراة ، ويقولون : إن أمركم محمد بما أنتم عليه فاقبلوه ، وإن خالفكم فاحذروا . القول في تأويل قوله عز ذكره ( ونسوا حظا مما ذكروا به ) يعني تعالى ذكره بقوله : "ونسوا حظا" وتركوا نصيبا ، وهو كقوله : ( نسوا الله فنسيهم ) [ سورة التوبة : 67 ] أي : تركوا أمر الله فتركهم الله . وقد مضى بيان ذلك بشواهده في غير هذا الموضع ، فأغنى ذلك عن إعادته . وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . [ ص: 130 ] ذكر من قال ذلك : 11587 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : "ونسوا حظا مما ذكروا به" يقول : تركوا نصيبا . 11588 - حدثني الحارث قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا مبارك بن فضالة ، عن الحسن في قوله : "ونسوا حظا مما ذكروا به" قال : تركوا عرى دينهم ، ووظائف الله جل ثناؤه التي لا تقبل الأعمال إلا بها . ![]()
__________________
|
#542
|
||||
|
||||
![]() ![]() تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن الإمام محمد بن جرير الطبري الجزء العاشر تَفْسِيرِ سُّورَةِ المائدة الحلقة (542) صــ 131 إلى صــ 145 القول في تأويل قوله عز ذكره ( ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم ) قال أبو جعفر : يقول تبارك وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ولا تزال يا محمد تطلع من اليهود الذين أنبأتك نبأهم ، من نقضهم ميثاقي ، ونكثهم [ ص: 131 ] عهدي ، مع أيادي عندهم ، ونعمتي عليهم على مثل ذلك من الغدر والخيانة "إلا قليلا منهم" ، إلا قليلا منهم [ لم يخونوا ] . و"الخائنة" في هذا الموضع : الخيانة ، وضع - وهو اسم - موضع المصدر ، كما قيل : "خاطئة" ، للخطيئة و"قائلة" للقيلولة . وقوله : "إلا قليلا منهم" استثناء من "الهاء والميم" اللتين في قوله : "على خائنة منهم" . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : 11589 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : "ولا تزال تطلع على خائنة منهم" قال : على خيانة وكذب وفجور . 11590 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله جل وعز : " ولا تزال تطلع على خائنة منهم " قال : هم يهود ، مثل الذي هموا به من النبي صلى الله عليه وسلم يوم دخل حائطهم . [ ص: 132 ] 11591 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه . 11592 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج ، قال مجاهد وعكرمة قوله : "ولا تزال تطلع على خائنة منهم" من يهود ، مثل الذي هموا بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم دخل عليهم . وقال بعض القائلين : معنى ذلك : ولا تزال تطلع على خائن منهم ، قال : والعرب تزيد "الهاء" في آخر المذكر كقولهم : "هو راوية للشعر" ، و"رجل علامة" ، وأنشد : حدثت نفسك بالوفاء ولم تكن للغدر خائنة مغل الإصبع [ ص: 133 ] فقال : "خائنة" ، وهو يخاطب رجلا . قال أبو جعفر : والصواب من التأويل في ذلك القول الذي رويناه عن أهل التأويل . لأن الله عنى بهذه الآية القوم من يهود بني النضير الذين هموا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، إذ أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعينهم في دية العامريين ، فأطلعه الله عز ذكره على ما قد هموا به . ثم قال جل ثناؤه بعد تعريفه أخبار أوائلهم ، وإعلامه منهج أسلافهم ، وأن آخرهم على منهاج أولهم في الغدر والخيانة ، لئلا يكبر فعلهم ذلك على نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فقال جل ثناؤه : ولا تزال تطلع من اليهود على خيانة وغدر ونقض عهد ولم يرد أنه لا يزال يطلع على رجل منهم خائن . وذلك أن الخبر ابتدئ به عن جماعتهم فقيل : "يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم" ، ثم قيل : "ولا تزال تطلع على خائنة منهم" ، فإذ كان الابتداء عن الجماعة ، فالختم بالجماعة أولى . [ ص: 134 ] القول في تأويل قوله عز ذكره ( فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين ( 13 ) ) قال أبو جعفر : وهذا أمر من الله عز ذكره نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالعفو عن هؤلاء القوم الذين هموا أن يبسطوا أيديهم إليه من اليهود . يقول الله جل وعز له : اعف ، يا محمد ، عن هؤلاء اليهود الذين هموا بما هموا به من بسط أيديهم إليك وإلى أصحابك بالقتل ، واصفح لهم عن جرمهم بترك التعرض لمكروههم ، فإني أحب من أحسن العفو والصفح إلى من أساء إليه . وكان قتادة يقول : هذه منسوخة . ويقول : نسختها آية "براءة" : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ) الآية [ سورة التوبة : 29 ] . 11593 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : "فاعف عنهم واصفح" ، قال : نسختها : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ) . 11594 - حدثني المثنى قال : حدثنا حجاج بن المنهال قال : حدثنا همام ، عن قتادة : "فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين" ، ولم يؤمر يومئذ بقتالهم ، فأمره الله عز ذكره أن يعفو عنهم ويصفح . ثم نسخ ذلك في"براءة" فقال : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) [ سورة التوبة : 29 ] ، وهم أهل الكتاب ، فأمر الله [ ص: 135 ] جل ثناؤه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقاتلهم حتى يسلموا أو يقروا بالجزية . 11595 - حدثنا سفيان بن وكيع قال : حدثنا عبدة بن سليمان قال : قرأت على ابن أبي عروبة ، عن قتادة ، نحوه . قال أبو جعفر : والذي قاله قتادة غير مدفوع إمكانه ، غير أن الناسخ الذي لا شك فيه من الأمر ، هو ما كان نافيا كل معاني خلافه الذي كان قبله ، فأما ما كان غير ناف جميعه ، فلا سبيل إلى العلم بأنه ناسخ إلا بخبر من الله جل وعز أو من رسوله صلى الله عليه وسلم . وليس في قوله : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ) دلالة على الأمر بنفي معاني الصفح والعفو عن اليهود . وإذ كان ذلك كذلك ، وكان جائزا ، مع إقرارهم بالصغار ، وأدائهم الجزية بعد القتال ، الأمر بالعفو عنهم في غدرة هموا بها ، أو نكثة عزموا عليها ، ما لم ينصبوا حربا دون أداء الجزية ، ويمتنعوا من الأحكام اللازمتهم لم يكن واجبا أن يحكم لقوله : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ) الآية ، بأنه ناسخ قوله : "فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين" . القول في تأويل قوله عز ذكره ( ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به ) قال أبو جعفر : يقول عز ذكره : وأخذنا من النصارى الميثاق على طاعتي وأداء فرائضي ، واتباع رسلي ، والتصديق بهم ، فسلكوا في ميثاقي الذي أخذته عليهم منهاج الأمة الضالة من اليهود ، فبدلوا كذلك دينهم ، ونقضوه نقضهم ، وتركوا حظهم من ميثاقي الذي أخذته عليهم بالوفاء بعهدي ، وضيعوا أمري ، كما : - 11596 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : "ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به" ، نسوا كتاب الله بين أظهرهم ، وعهد الله الذي عهده إليهم ، وأمر الله الذي أمرهم به . 11597 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : قالت النصارى مثل ما قالت اليهود ، ونسوا حظا مما ذكروا به . [ ص: 136 ] القول في تأويل قوله عز ذكره ( فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ) قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : "فأغرينا بينهم" حرشنا بينهم وألقينا ، كما تغري الشيء بالشيء . يقول جل ثناؤه : لما ترك هؤلاء النصارى ، الذين أخذت ميثاقهم بالوفاء بعهدي ، حظهم مما عهدت إليهم من أمري ونهيي ، أغريت بينهم العداوة والبغضاء . ثم اختلف أهل التأويل في صفة "إغراء الله عز ذكره بينهم العداوة ، والبغضاء " . [ ص: 137 ] فقال بعضهم : كان إغراؤه بينهم بالأهواء التي حدثت بينهم . ذكر من قال ذلك : 11598 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا العوام بن حوشب ، عن إبراهيم النخعي في قوله : "فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء" ، قال : هذه الأهواء المختلفة والتباغض ، فهو الإغراء . 11599 - حدثنا سفيان بن وكيع قال : حدثنا يزيد بن هارون ، عن العوام بن حوشب قال : سمعت النخعي يقول : "فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء" ، قال : أغرى بعضهم ببعض بخصومات بالجدال في الدين . 11600 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني هشيم قال : أخبرنا العوام بن حوشب ، عن إبراهيم النخعي والتيمي ، قوله : "فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء" ، قال : ما أرى "الإغراء" في هذه الآية إلا الأهواء المختلفة وقال معاوية بن قرة : الخصومات في الدين تحبط الأعمال . وقال آخرون : بل ذلك هو العداوة التي بينهم والبغضاء . ذكر من قال ذلك : 11601 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة " الآية ، إن القوم لما تركوا كتاب الله ، وعصوا رسله ، وضيعوا فرائضه ، وعطلوا حدوده ، ألقى بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة بأعمالهم أعمال السوء ، ولو أخذ القوم كتاب الله وأمره ، ما افترقوا ولا تباغضوا . قال أبو جعفر : وأولى التأولين في ذلك عندنا بالحق تأويل من قال : "أغرى بينهم بالأهواء التي حدثت بينهم" ، كما قال إبراهيم النخعي ، لأن عداوة النصارى [ ص: 138 ] بينهم ، إنما هي باختلافهم في قولهم في المسيح ، وذلك أهواء ، لا وحي من الله . واختلف أهل التأويل في المعني ب"الهاء والميم" اللتين في قوله : "فأغرينا بينهم" . فقال بعضهم : عنى بذلك اليهود والنصارى . فمعنى الكلام على قولهم وتأويلهم : فأغرينا بين اليهود والنصارى ، لنسيانهم حظا مما ذكروا به . ذكر من قال ذلك : 11602 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : وقال في النصارى أيضا : "فنسوا حظا مما ذكروا به" ، فلما فعلوا ذلك ، أغرى الله عز وجل بينهم وبين اليهود العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة . 11603 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة " ، قال : هم اليهود والنصارى . قال ابن زيد : كما تغري بين اثنين من البهائم . 11604 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : "فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء" ، قال : اليهود والنصارى . 11605 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله . 11606 - حدثني القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة قال : هم اليهود والنصارى ، أغرى الله بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة . وقال آخرون : بل عنى الله بذلك النصارى وحدها . وقالوا : معنى ذلك : فأغرينا بين النصارى ، عقوبة لها بنسيانها حظا مما ذكرت به . قالوا : وعليها عادت [ ص: 139 ] "الهاء والميم" في"بينهم" ، دون اليهود . ذكر من قال ذلك : 11607 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : إن الله عز ذكره تقدم إلى بني إسرائيل : أن لا تشتروا بآيات الله ثمنا قليلا وعلموا الحكمة ، ولا تأخذوا عليها أجرا ، فلم يفعل ذلك إلا قليل منهم ، فأخذوا الرشوة في الحكم ، وجاوزوا الحدود ، فقال في اليهود حيث حكموا بغير ما أمر الله : ( وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ) [ سورة المائدة : 64 ] ، وقال في النصارى : "فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة" . قال أبو جعفر : وأولى التأولين بالآية عندي ما قاله الربيع بن أنس ، وهو أن المعني بالإغراء بينهم النصارى ، في هذه الآية خاصة ، وأن "الهاء والميم" عائدتان على النصارى دون اليهود ، لأن ذكر "الإغراء" في خبر الله عن النصارى ، بعد تقضي خبره عن اليهود ، وبعد ابتدائه خبره عن النصارى ، فلأن يكون ذلك معنيا به النصارى خاصة أولى من أن يكون معنيا به الحزبان جميعا ، لما ذكرنا . فإن قال قائل : وما العداوة التي بين النصارى ، فتكون مخصوصة بمعنى ذلك؟ [ ص: 140 ] قيل : ذلك عداوة النسطورية واليعقوبية ، الملكية ، والملكية النسطورية واليعقوبية . وليس الذي قاله من قال : "معني بذلك إغراء الله بين اليهود والنصارى " ببعيد ، غير أن هذا أقرب عندي ، وأشبه بتأويل الآية ، لما ذكرنا . القول في تأويل قوله عز ذكره ( وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون ( 14 ) ) قال أبو جعفر : يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : اعف عن هؤلاء الذين هموا ببسط أيديهم إليك وإلى أصحابك واصفح ، فإن الله عز وجل من وراء الانتقام منهم ، وسينبئهم الله عند ورودهم عليه في معادهم بما كانوا في الدنيا يصنعون من نقضهم ميثاقه ، ونكثهم عهده ، وتبديلهم كتابه ، وتحريفهم أمره ونهيه ، فيعاقبهم على ذلك حسب استحقاقهم . القول في تأويل قوله عز ذكره ( يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير ) قال أبو جعفر : يقول عز ذكره لجماعة أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين كانوا في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا أهل الكتاب" من اليهود والنصارى "قد جاءكم رسولنا" ، يعني محمدا صلى الله عليه وسلم ، كما : - [ ص: 141 ] 11608 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا " ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم . وقوله : " يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب " ، يقول : يبين لكم محمد رسولنا كثيرا مما كنتم تكتمونه الناس ولا تبينونه لهم مما في كتابكم . وكان مما يخفونه من كتابهم فبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس رجم الزانيين المحصنين . وقيل : إن هذه الآية نزلت في تبيين رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك للناس من إخفائهم ذلك من كتابهم . ذكر من قال ذلك : 11609 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا يحيى بن واضح قال : حدثنا الحسين بن واقد ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : من كفر بالرجم ، فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب . قوله : " يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب " ، فكان الرجم مما أخفوا . . 11610 - حدثنا عبد الله بن أحمد بن شبويه ، أخبرنا علي بن الحسن قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا يزيد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، مثله . . [ ص: 142 ] 11611 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الوهاب الثقفي ، عن خالد الحذاء ، عن عكرمة في قوله : " يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم " ، إلى قوله : "صراط مستقيم" ، قال : إن نبي الله أتاه اليهود يسألونه عن الرجم ، واجتمعوا في بيت ، قال : أيكم أعلم؟ فأشاروا إلى ابن صوريا ، فقال : أنت أعلمهم؟ قال : سل عما شئت ، قال ، "أنت أعلمهم؟" قال : إنهم ليزعمون ذلك! قال : فناشده بالذي أنزل التوراة على موسى ، والذي رفع الطور ، وناشده بالمواثيق التي أخذت عليهم ، حتى أخذه أفكل ، فقال : إن نساءنا نساء حسان ، فكثر فينا القتل ، فاختصرنا أخصورة ، فجلدنا مائة ، وحلقنا الرءوس ، وخالفنا بين الرءوس إلى الدواب . أحسبه قال الإبل ، قال : فحكم عليهم بالرجم ، فأنزل الله فيهم : "يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم" ، الآية وهذه الآية : ( وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم ) [ ص: 143 ] [ سورة البقرة : 76 ] . وقوله : "ويعفو عن كثير" يعني بقوله : "ويعفو" ، ويترك أخذكم بكثير مما كنتم تخفون من كتابكم الذي أنزله الله إليكم ، وهو التوراة ، فلا تعملون به حتى يأمره الله بأخذكم به . . القول في تأويل قوله عز ذكره ( قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين ( 15 ) ) قال أبو جعفر : يقول جل ثناؤه لهؤلاء الذين خاطبهم من أهل الكتاب : "قد جاءكم" ، يا أهل التوراة والإنجيل"من الله نور" ، يعني بالنور ، محمدا صلى الله عليه وسلم الذي أنار الله به الحق ، وأظهر به الإسلام ، ومحق به الشرك ، فهو نور لمن استنار به يبين الحق . ومن إنارته الحق تبيينه لليهود كثيرا مما كانوا يخفون من الكتاب . وقوله : "وكتاب مبين" ، يقول : جل ثناؤه : قد جاءكم من الله تعالى النور الذي أنار لكم به معالم الحق ، "وكتاب مبين" ، يعني كتابا فيه بيان ما اختلفوا فيه بينهم : من توحيد الله ، وحلاله وحرامه ، وشرائع دينه ، وهو القرآن الذي أنزله [ ص: 144 ] على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، يبين للناس جميع ما بهم الحاجة إليه من أمر دينهم ، ويوضحه لهم ، حتى يعرفوا حقه من باطله . القول في تأويل قوله عز ذكره ( يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ) قال أبو جعفر : يعني عز ذكره : يهدي بهذا الكتاب المبين الذي جاء من الله جل جلاله ويعني بقوله : "يهدي به الله" يرشد به الله ويسدد به ، و"الهاء" في قوله : "به" عائدة على"الكتاب" "من اتبع رضوانه" ، يقول : من اتبع رضى الله . واختلف في معنى"الرضى" من الله جل وعز . فقال بعضهم : الرضى منه بالشيء" القبول له والمدح والثناء . قالوا : فهو قابل الإيمان ، ومزك له ، ومثن على المؤمن بالإيمان ، وواصف الإيمان بأنه نور وهدى وفصل . وقال آخرون : معنى"الرضى" من الله جل وعز معنى مفهوم ، هو [ ص: 145 ] خلاف السخط ، وهو صفة من صفاته على ما يعقل من معاني : "الرضى" الذي هو خلاف السخط ، وليس ذلك بالمدح ، لأن المدح والثناء قول ، وإنما يثنى ويمدح ما قد رضي . قالوا : فالرضى معنى ، و"الثناء" و"المدح" معنى ليس به . ويعني بقوله : "سبل السلام" ، طرق السلام و"السلام" ، هو الله عز ذكره . 11612 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : "من اتبع رضوانه سبل السلام" ، سبيل الله الذي شرعه لعباده ودعاهم إليه ، وابتعث به رسله ، وهو الإسلام الذي لا يقبل من أحد عملا إلا به ، لا اليهودية ، ولا النصرانية ، ولا المجوسية . ![]()
__________________
|
#543
|
||||
|
||||
![]() ![]() تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن الإمام محمد بن جرير الطبري الجزء العاشر تَفْسِيرِ سُّورَةِ المائدة الحلقة (543) صــ 146 إلى صــ 160 القول في تأويل قوله عز ذكره ( ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ) قال أبو جعفر : يقول عز ذكره : يهدي الله بهذا الكتاب المبين من اتبع رضوان الله إلى سبل السلام وشرائع دينه "ويخرجهم" ، يقول : ويخرج من اتبع رضوانه و"الهاء والميم" في : "ويخرجهم" إلى من ذكر "من الظلمات إلى النور" ، يعني : من ظلمات الكفر والشرك ، إلى نور الإسلام وضيائه "بإذنه" ، يعني : بإذن الله جل وعز . و"إذنه" في هذا الموضع : تحبيبه إياه الإيمان برفع طابع الكفر عن قلبه ، وخاتم الشرك عنه ، وتوفيقه لإبصار سبل السلام . [ ص: 146 ] القول في تأويل قوله عز ذكره ( ويهديهم إلى صراط مستقيم ( 16 ) ) قال أبو جعفر : يعني عز ذكره بقوله : "ويهديهم" ، ويرشدهم ويسددهم "إلى صراط مستقيم" ، يقول : إلى طريق مستقيم ، وهو دين الله القويم الذي لا اعوجاج فيه . القول في تأويل قوله عز ذكره ( لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم ) قال أبو جعفر : هذا ذم من الله عز ذكره للنصارى والنصرانية ، الذين ضلوا عن سبل السلام واحتجاج منه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم في فريتهم عليه بادعائهم له ولدا . يقول جل ثناؤه : أقسم ، لقد كفر الذين قالوا : إن الله هو المسيح ابن مريم و"كفرهم" في ذلك تغطيتهم الحق في تركهم نفي الولد عن الله جل وعز ، وادعائهم أن المسيح هو الله فرية وكذبا عليه . وقد بينا معنى : " المسيح " فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . . [ ص: 147 ] القول في تأويل قوله عز ذكره ( قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ) قال أبو جعفر : يقول جل ثناؤه ، لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد ، للنصارى الذين افتروا علي ، وضلوا عن سواء السبيل بقيلهم : إن الله هو المسيح ابن مريم : "من يملك من الله شيئا" ، يقول : من الذي يطيق أن يدفع من أمر الله جل وعز شيئا ، فيرده إذا قضاه . من قول القائل : "ملكت على فلان أمره" ، إذا صار لا يقدر أن ينفذ أمرا إلا به . وقوله : " إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا " ، يقول : من ذا الذي يقدر أن يرد من أمر الله شيئا ، إن شاء أن يهلك المسيح ابن مريم ، بإعدامه من الأرض وإعدام أمه مريم ، وإعدام جميع من في الأرض من الخلق جميعا . يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل لهؤلاء الجهلة من النصارى : لو كان المسيح كما تزعمون أنه هو الله ، وليس كذلك لقدر أن يرد أمر الله إذا جاءه بإهلاكه وإهلاك أمه . وقد أهلك أمه فلم يقدر على دفع أمره فيها إذ نزل ذلك . ففي ذلك لكم معتبر إن اعتبرتم ، وحجة عليكم إن عقلتم : في أن المسيح ، بشر كسائر بني آدم ، وأن الله عز وجل هو الذي لا يغلب ولا يقهر ولا يرد له [ ص: 148 ] أمر ، بل هو الحي الدائم القيوم الذي يحيي ويميت ، وينشئ ويفني ، وهو حي لا يموت . القول في تأويل قوله عز ذكره ( ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء ) قال أبو جعفر : يعني تبارك وتعالى بذلك : والله له تصريف ما في السماوات والأرض وما بينهما يعني : وما بين السماء والأرض يهلك من يشاء من ذلك ويبقي ما يشاء منه ، ويوجد ما أراد ويعدم ما أحب ، لا يمنعه من شيء أراد من ذلك مانع ، ولا يدفعه عنه دافع ، ينفذ فيهم حكمه ، ويمضي فيهم قضاءه لا المسيح الذي إن أراد إهلاكه ربه وإهلاك أمه لم يملك دفع ما أراد به ربه من ذلك . يقول جل وعز : كيف يكون إلها يعبد من كان عاجزا عن دفع ما أراد به غيره من السوء ، وغير قادر على صرف ما نزل به من الهلاك؟ بل الإله المعبود الذي له ملك كل شيء ، وبيده تصريف كل من في السماء والأرض وما بينهما . فقال جل ثناؤه : "وما بينهما" ، وقد ذكر"السماوات" بلفظ الجمع ، ولم يقل : "وما بينهن" ، لأن المعنى : وما بين هذين النوعين من الأشياء ، كما قال الراعي : [ ص: 149 ] طرقا ، فتلك هماهمي ، أقريهما قلصا لواقح كالقسي وحولا فقال : "طرقا" مخبرا عن شيئين ، ثم قال : "فتلك هماهمي" ، فرجع إلى معنى الكلام . وقوله : "يخلق ما يشاء" ، يقول جل ثناؤه : وينشئ ما يشاء ويوجده ، ويخرجه من حال العدم إلى حال الوجود ، ولن يقدر على ذلك غير الله الواحد القهار . وإنما يعني بذلك أن له تدبير السماوات والأرض وما بينهما وتصريفه ، وإفناءه وإعدامه ، وإيجاد ما يشاء مما هو غير موجود ولا منشإ . يقول : فليس ذلك لأحد سواي ، فكيف زعمتم ، أيها الكذبة ، أن المسيح إله ، وهو لا يطيق شيئا من ذلك ، بل لا يقدر على دفع الضرر عن نفسه ولا عن أمه ، ولا اجتلاب نفع إليها إلا بإذني؟ [ ص: 150 ] القول في تأويل قوله عز ذكره ( والله على كل شيء قدير ( 17 ) ) قال أبو جعفر : يقول عز ذكره : الله المعبود ، هو القادر على كل شيء ، والمالك كل شيء ، الذي لا يعجزه شيء أراده ، ولا يغلبه شيء طلبه ، المقتدر على هلاك المسيح وأمه ومن في الأرض جميعا لا العاجز الذي لا يقدر على منع نفسه من ضر نزل به من الله ، ولا منع أمه من الهلاك . القول في تأويل قوله عز ذكره ( وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم ) قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله جل وعز عن قوم من اليهود والنصارى أنهم قالوا هذا القول . وقد ذكر عن ابن عباس تسمية الذين قالوا ذلك من اليهود . 11613 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال : حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعمان بن أضاء وبحري بن عمرو ، وشأس بن عدي ، فكلموه ، فكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودعاهم إلى الله وحذرهم نقمته ، فقالوا : ما تخوفنا ، [ ص: 151 ] يا محمد !! نحن والله أبناء الله وأحباؤه!! كقول النصارى ، فأنزل الله جل وعز فيهم : "وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه" ، إلى آخر الآية . وكان السدي يقول في ذلك بما : 11614 - حدثني محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه " ، أما "أبناء الله" ، فإنهم قالوا : إن الله أوحى إلى إسرائيل أن ولدا من ولدك أدخلهم النار ، فيكونون فيها أربعين يوما حتى تطهرهم وتأكل خطاياهم ، ثم ينادي مناد : أن أخرجوا كل مختون من ولد إسرائيل ، فأخرجهم . فذلك قوله : ( لن تمسنا النار إلا أياما معدودات ) [ سورة آل عمران : 24 ] . وأما النصارى ، فإن فريقا منهم قال للمسيح : ابن الله . والعرب قد تخرج الخبر إذا افتخرت مخرج الخبر عن الجماعة ، وإن كان ما افتخرت به من فعل واحد منهم ، فتقول : "نحن الأجواد الكرام" ، وإنما الجواد فيهم واحد منهم ، وغير المتكلم الفاعل ذلك ، كما قال جرير : ندسنا أبا مندوسة القين بالقنا ومار دم من جار بيبة ناقع [ ص: 152 ] فقال : "ندسنا" ، وإنما النادس رجل من قوم جرير غيره ، فأخرج الخبر مخرج الخبر عن جماعة هو أحدهم . فكذا أخبر الله عز ذكره عن النصارى أنها قالت ذلك ، على هذا الوجه إن شاء الله . وقوله : "وأحباؤه" ، وهو جمع "حبيب" . يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : "قل" لهؤلاء الكذبة المفترين على ربهم "فلم يعذبكم" ربكم ، يقول : فلأي شيء يعذبكم ربكم بذنوبكم ، إن كان الأمر كما زعمتم أنكم أبناؤه وأحباؤه ، فإن الحبيب لا يعذب حبيبه ، وأنتم مقرون أنه معذبكم؟ وذلك أن اليهود قالت : إن الله معذبنا أربعين يوما عدد الأيام التي عبدنا فيها العجل ، ثم يخرجنا جميعا منها ، فقال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم : قل لهم : إن كنتم كما تقولون أبناء الله وأحباؤه ، فلم يعذبكم بذنوبكم؟ يعلمهم عز ذكره أنهم أهل فرية وكذب على الله جل وعز . القول في تأويل قوله جل ثناؤه ( بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ) قال أبو جعفر : يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، قل لهم : ليس الأمر كما زعمتم أنكم أبناء الله وأحباؤه "بل أنتم بشر ممن خلق" ، يقول : خلق من بني آدم ، خلقكم الله مثل سائر بني آدم ، إن أحسنتم جوزيتم بإحسانكم ، [ ص: 153 ] كما سائر بني آدم مجزيون بإحسانهم ، وإن أسأتم جوزيتم بإساءتكم ، كما غيركم مجزي بها ، ليس لكم عند الله إلا ما لغيركم من خلقه ، فإنه يغفر لمن يشاء من أهل الإيمان به ذنوبه ، فيصفح عنه بفضله ، ويسترها عليه برحمته ، فلا يعاقبه بها . وقد بينا معنى"المغفرة" ، في موضع غير هذا بشواهده ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع . . "ويعذب من يشاء" يقول : ويعدل على من يشاء من خلقه فيعاقبه على ذنوبه ، ويفضحه بها على رءوس الأشهاد فلا يسترها عليه . وإنما هذا من الله عز وجل وعيد لهؤلاء اليهود ، والنصارى المتكلين على منازل سلفهم الخيار عند الله ، الذين فضلهم الله جل وعز بطاعتهم إياه ، واجتباهم لمسارعتهم إلى رضاه ، واصطبارهم على ما نابهم فيه . يقول لهم : لا تغتروا بمكان أولئك مني ومنازلهم عندي ، فإنهم إنما نالوا ما نالوا مني بالطاعة لي ، وإيثار رضاي على محابهم لا بالأماني ، فجدوا في طاعتي ، وانتهوا إلى أمري ، وانزجروا عما نهيتهم عنه ، فإني إنما أغفر ذنوب من أشاء أن أغفر ذنوبه من أهل طاعتي ، وأعذب من أشاء تعذيبه من أهل معصيتي لا لمن قربت زلفة آبائه مني ، وهو لي عدو ، ولأمري ونهيي مخالف . [ ص: 154 ] وكان السدي يقول في ذلك بما : - 11615 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : " يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء " ، يقول : يهدي منكم من يشاء في الدنيا فيغفر له ، ويميت من يشاء منكم على كفره فيعذبه . القول في تأويل قوله جل ثناؤه ( ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير ( 18 ) ) قال أبو جعفر يقول : لله تدبير ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما ، وتصريفه ، وبيده أمره ، وله ملكه ، يصرفه كيف يشاء ، ويدبره كيف أحب ، لا شريك له في شيء منه ، ولا لأحد معه فيه ملك . فاعلموا أيها القائلون : "نحن أبناء الله وأحباؤه" ، أنه إن عذبكم بذنوبكم ، لم يكن لكم منه مانع ، ولا لكم عنه دافع ، لأنه لا نسب بين أحد وبينه فيحابيه لسبب ذلك ، ولا لأحد في شيء دونه ملك ، فيحول بينه وبينه إن أراد تعذيبه بذنوبه ، وإليه مصير كل شيء ومرجعه . فاتقوا أيها المفترون عقابه إياكم على ذنوبكم بعد مرجعكم إليه ، ولا تغتروا بالأماني وفضائل الآباء والأسلاف . [ ص: 155 ] القول في تأويل قوله عز ذكره ( يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير ) قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : "يا أهل الكتاب" اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم نزلت هذه الآية . وذلك أنهم أو : بعضهم فيما ذكر لما دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان به وبما جاءهم به من عند الله ، قالوا : ما بعث الله من نبي بعد موسى ، ولا أنزل بعد التوراة كتابا! 11616 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال : حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال معاذ بن جبل ، وسعد بن عبادة ، وعقبة بن وهب لليهود : يا معشر اليهود ، اتقوا الله ، فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله! لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه ، وتصفونه لنا بصفته! فقال رافع بن حريملة ووهب بن يهودا ما قلنا هذا لكم ، وما أنزل الله من كتاب بعد موسى ، ولا أرسل بشيرا ولا نذيرا بعده! فأنزل الله عز وجل في [ ذلك من ] قولهما "يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير" . [ ص: 156 ] ويعني بقوله جل ثناؤه : "فقد جاءكم رسولنا" ، قد جاءكم محمد صلى الله عليه وسلم رسولنا "يبين لكم" ، يقول : يعرفكم الحق ، ويوضح لكم أعلام الهدى ، ويرشدكم إلى دين الله المرتضى ، كما : - 11617 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل " ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، جاء بالفرقان الذي فرق الله به بين الحق والباطل ، فيه بيان الله ونوره وهداه ، وعصمة لمن أخذ به . "على فترة من الرسل" ، يقول : على انقطاع من الرسل و"الفترة" في هذا الموضع الانقطاع يقول : قد جاءكم رسولنا يبين لكم الحق والهدى ، على انقطاع من الرسل . و"الفترة" "الفعلة" من قول القائل : "فتر هذا الأمر يفتر فتورا" ، وذلك إذا هدأ وسكن . وكذلك "الفترة" في هذا الموضع معناها : السكون ، يراد به سكون مجيء الرسل ، وذلك انقطاعها . ثم اختلف أهل التأويل في قدر مدة تلك الفترة ، فاختلف في الرواية في ذلك عن قتادة . فروى معمر عنه ما : - 11618 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : "على فترة من الرسل" قال : كان بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم خمسمائة وستون سنة . [ ص: 157 ] وروى سعيد بن أبي عروبة عنه ما : - 11619 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : كانت الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما ، ذكر لنا أنها كانت ستمائة سنة ، أو ما شاء من ذلك ، والله أعلم . 11620 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن أصحابه قوله : " قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل " ، قال : كان بين عيسى ومحمد صلى لله عليهما خمسمائة سنة وأربعون سنة قال معمر ، قال قتادة : خمسمائة سنة وستون سنة . وقال آخرون بما : - 11621 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال : أخبرنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : "على فترة من الرسل" ، قال : كانت الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما أربعمائة سنة وبضعا وثلاثين سنة . ويعني بقوله : "أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير" أن لا تقولوا ، وكي لا تقولوا ، كما قال جل ثناؤه : ( يبين الله لكم أن تضلوا ) [ سورة النساء : 176 ] ، بمعنى : أن لا تضلوا ، وكي لا تضلوا . فمعنى الكلام : قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل ، كي لا تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير . يعلمهم عز ذكره أنه قد قطع عذرهم برسوله صلى الله عليه وسلم ، وأبلغ إليهم في الحجة . [ ص: 158 ] ويعني ب"البشير" المبشر من أطاع الله وآمن به وبرسوله ، وعمل بما أتاه من عند الله بعظيم ثوابه في آخرته وب"النذير" ، المنذر من عصاه وكذب رسوله صلى الله عليه وسلم وعمل بغير ما أتاه من عند الله من أمره ونهيه بما لا قبل له به من أليم عقابه في معاده ، وشديد عذابه في قيامته . القول في تأويل قوله عز ذكره ( فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير ( 19 ) ) قال أبو جعفر : يقول جل ثناؤه لهؤلاء اليهود الذين وصفنا صفتهم : قد أعذرنا إليكم ، واحتججنا عليكم برسولنا محمد صلى الله عليه وسلم إليكم ، وأرسلناه إليكم ليبين لكم ما أشكل عليكم من أمر دينكم ، كيلا تقولوا : " لم يأتنا من عندك رسول يبين لنا ما نحن عليه من الضلالة" ، فقد جاءكم من عندي رسول يبشر من آمن بي وعمل بما أمرته وانتهى عما نهيته عنه ، وينذر من عصاني وخالف أمري ، وأنا القادر على كل شيء ، أقدر على عقاب من عصاني ، وثواب من أطاعني ، فاتقوا عقابي على معصيتكم إياي وتكذيبكم رسولي ، واطلبوا ثوابي على طاعتكم إياي وتصديقكم بشيري ونذيري ، فإني أنا الذي لا يعجزه شيء أراده ، ولا يفوته شيء طلبه . [ ص: 159 ] القول في تأويل قوله عز ذكره ( وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم ) قال أبو جعفر : وهذا أيضا من الله تعريف لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم قديم تمادي هؤلاء اليهود في الغي ، وبعدهم عن الحق ، وسوء اختيارهم لأنفسهم ، وشدة خلافهم لأنبيائهم ، وبطء إنابتهم إلى الرشاد ، مع كثرة نعم الله عندهم ، وتتابع أياديه وآلائه عليهم مسليا بذلك نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم عما يحل به من علاجهم ، وينزل به من مقاساتهم في ذات الله . يقول الله له صلى الله عليه وسلم : لا تأس على ما أصابك منهم ، فإن الذهاب عن الله ، والبعد من الحق ، وما فيه لهم الحظ في الدنيا والآخرة ، من عاداتهم وعادات أسلافهم وأوائلهم وتعز بما لاقى منهم أخوك موسى صلى الله عليه وسلم واذكر إذ قال موسى لهم : " يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم " ، يقول : اذكروا أيادي الله عندكم ، وآلاءه قبلكم ، كما : - 11622 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن الزبير ، عن ابن عيينة : " اذكروا نعمة الله عليكم " ، قال : أيادي الله عندكم وأيامه . 11623 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " اذكروا نعمة الله عليكم " يقول : عافية الله عز وجل . قال أبو جعفر : وإنما اخترنا ما قلنا ، لأن الله لم يخصص من النعم شيئا ، بل عم ذلك بذكر النعم ، فذلك على العافية وغيرها ، إذ كانت"العافية" أحد معاني"النعم" . [ ص: 160 ] القول في تأويل قوله جل ثناؤه ( إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا ) قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : أن موسى ذكر قومه من بني إسرائيل بأيام الله عندهم ، وبآلائه قبلهم ، محرضهم بذلك على اتباع أمر الله في قتال الجبارين ، فقال لهم : اذكروا نعمة الله عليكم أن فضلكم ، بأن جعل فيكم أنبياء يأتونكم بوحيه ، ويخبرونكم بأنباء الغيب ، ولم يعط ذلك غيركم في زمانكم هذا . فقيل : إن الأنبياء الذين ذكرهم موسى أنهم جعلوا فيهم : هم الذين اختارهم موسى إذ صار إلى الجبل ، وهم السبعون الذين ذكرهم الله فقال : ( واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا ) [ سورة الأعراف : 155 ] . " وجعلكم ملوكا " سخر لكم من غيركم خدما يخدمونكم . وقيل : إنما قال ذلك لهم موسى ، لأنه لم يكن في ذلك الزمان أحد سواهم يخدمه أحد من بني آدم . ![]()
__________________
|
#544
|
||||
|
||||
![]() ![]() تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن الإمام محمد بن جرير الطبري الجزء العاشر تَفْسِيرِ سُّورَةِ المائدة الحلقة (544) صــ 161 إلى صــ 175 ذكر من قال ذلك : 11624 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا " ، [ ص: 161 ] قال : كنا نحدث أنهم أول من سخر لهم الخدم من بني آدم وملكوا . وقال آخرون : كل من ملك بيتا وخادما وامرأة ، فهو "ملك" كائنا من كان من الناس . ذكر من قال ذلك : 11625 - حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرنا أبو هانئ : أنه سمع أبا عبد الرحمن الحبلي يقول : سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص ، وسأله رجل فقال : ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال له عبد الله : ألك امرأة تأوي إليها؟ قال : نعم! قال : ألك مسكن تسكنه؟ قال : نعم! قال : فأنت من الأغنياء! فقال : إن لي خادما . قال : فأنت من الملوك . 11626 - حدثنا الزبير بن بكار قال : حدثنا أبو ضمرة أنس بن عياض قال : سمعت زيد بن أسلم يقول : "وجعلكم ملوكا" فلا أعلم إلا أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من كان له بيت وخادم فهو ملك . 11627 - حدثنا سفيان بن وكيع قال : حدثنا العلاء بن عبد الجبار ، عن [ ص: 162 ] حماد بن سلمة ، عن حميد ، عن الحسن : أنه تلا هذه الآية : "وجعلكم ملوكا" ، فقال : وهل الملك إلا مركب وخادم ودار؟ فقال قائلو هذه المقالة : إنما قال لهم موسى ذلك ، لأنهم كانوا يملكون الدور والخدم ، ولهم نساء وأزواج . ذكر من قال ذلك : 11628 - حدثنا سفيان بن وكيع وابن حميد قالا : حدثنا جرير ، عن منصور قال : أراه عن الحكم : " وجعلكم ملوكا " ، قال : كانت بنو إسرائيل إذا كان للرجل منهم بيت وامرأة وخادم ، عد ملكا . 11629 - حدثنا هناد قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ح ، وحدثنا سفيان قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن الحكم : "وجعلكم ملوكا" قال : الدار والمرأة ، والخادم قال سفيان : أو اثنتين من الثلاثة . 11630 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا مؤمل قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن رجل ، عن ابن عباس في قوله : " وجعلكم ملوكا " قال : البيت والخادم . 11631 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا الثوري ، عن منصور ، عن الحكم أو غيره ، عن ابن عباس في قوله : " وجعلكم ملوكا " قال : الزوجة والخادم والبيت . 11632 - حدثنا محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : "وجعلكم ملوكا" قال : جعل لكم أزواجا وخدما وبيوتا . 11633 - حدثنا المثنى قال : حدثنا علي بن محمد الطنافسي قال : حدثنا [ ص: 163 ] أبو معاوية ، عن حجاج بن تميم ، عن ميمون بن مهران ، عن ابن عباس في قول الله : " وجعلكم ملوكا " قال : كان الرجل من بني إسرائيل إذا كانت له الزوجة والخادم والدار يسمى ملكا . 11634 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : "وجعلكم ملوكا" قال : ملكهم الخدم قال قتادة : كانوا أول من ملك الخدم . 11635 - حدثني الحارث بن محمد قال : حدثنا عبد العزيز بن أبان قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن مجاهد : " وجعلكم ملوكا " قال : جعل لكم أزواجا وخدما وبيوتا . وقال آخرون : إنما عنى بقوله : "وجعلكم ملوكا" أنهم يملكون أنفسهم وأهليهم وأموالهم . ذكر من قال ذلك : 11636 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : "وجعلكم ملوكا" يملك الرجل منكم نفسه وأهله وماله . [ ص: 164 ] القول في تأويل قوله عز ذكره ( وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين ( 20 ) ) قال أبو جعفر : اختلف فيمن عنوا بهذا الخطاب . فقال بعضهم : عني به أمة محمد صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك : 11637 - حدثنا سفيان بن وكيع قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن سفيان ، عن السدي ، عن أبي مالك وسعيد بن جبير : " وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين " ، قالا أمة محمد صلى الله عليه وسلم . وقال آخرون : عني به قوم موسى صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك : 11638 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : هم قوم موسى . 11639 - حدثني الحارث بن محمد قال : حدثنا عبد العزيز بن أبان قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : " وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين " ، قال : هم بين ظهرانيه يومئذ . ثم اختلفوا في الذي آتاهم الله ما لم يؤت أحدا من العالمين . [ ص: 165 ] فقال بعضهم : هو المن والسلوى والحجر والغمام . ذكر من قال ذلك : 11640 - حدثنا سفيان بن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد : " وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين " قال : المن والسلوى والحجر والغمام . 11641 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين " ، يعني : أهل ذلك الزمان ، المن والسلوى والحجر والغمام . وقال آخرون : هو الدار والخادم والزوجة . ذكر من قال ذلك : 11642 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا بشر بن السري ، عن طلحة بن عمرو ، عن عطاء ، عن ابن عباس : " وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين " قال : الرجل يكون له الدار والخادم والزوجة . 11643 - حدثني الحارث قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : " وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين " ، المن والسلوى والحجر والغمام . [ ص: 166 ] قال أبو جعفر : وأولى التأويلين في ذلك عندي بالصواب قول من قال : " وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين " ، في سياق قوله : "اذكروا نعمة الله عليكم" ، ومعطوف عليه . ولا دلالة في الكلام تدل على أن قوله : " وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين " مصروف عن خطاب الذين ابتدئ بخطابهم في أول الآية . فإذ كان ذلك كذلك ، فأن يكون خطابا لهم أولى من أن يقال : هو مصروف عنهم إلى غيرهم . فإن ظن ظان أن قوله : " وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين ، لا يجوز أن يكون لهم خطابا ، إذ كانت أمة محمد قد أوتيت من كرامة الله جل وعز بنبيها عليه السلام محمد ، ما لم يؤت أحد غيرهم ، وهم من العالمين فقد ظن غير الصواب . وذلك أن قوله : "وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين" ، خطاب من موسى صلى الله عليه وسلم لقومه يومئذ ، وعنى بذلك عالمي زمانه ، لا عالمي كل زمان . ولم يكن أوتي في ذلك الزمان من نعم الله وكرامته ما أوتي قومه صلى الله عليه وسلم أحد من العالمين . فخرج الكلام منه صلى الله عليه على ذلك ، لا على جميع [ عالم ] كل زمان . [ ص: 167 ] القول في تأويل قوله جل ثناؤه ( يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ) قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله عز ذكره عن قول موسى صلى الله عليه وسلم لقومه من بني إسرائيل ، وأمره إياهم - عن أمر الله إياه بأمرهم - بدخول الأرض المقدسة . ثم اختلف أهل التأويل في الأرض التي عناها ب"الأرض المقدسة " . فقال بعضهم : عنى بذلك الطور وما حوله . ذكر من قال ذلك : 11644 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " الأرض المقدسة " الطور وما حوله . 11645 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله . 11646 - حدثني الحارث بن محمد قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : " ادخلوا الأرض المقدسة " ، قال : الطور وما حوله . وقال آخرون : هو الشأم . ذكر من قال ذلك : 11647 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " الأرض المقدسة " قال : هي الشأم . [ ص: 168 ] وقال آخرون : هي أرض أريحا . ذكر من قال ذلك : 11648 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : "ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم" قال : أريحا . 11649 - حدثني يوسف بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : هي أريحا . 11650 - حدثني عبد الكريم بن الهيثم قال : حدثنا إبراهيم بن بشار قال : حدثنا سفيان ، عن أبي سعيد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : هي أريحا . وقيل : إن" الأرض المقدسة " دمشق ، وفلسطين ، وبعض الأردن . وعنى بقوله : "المقدسة" المطهرة المباركة ، كما : - 11651 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "الأرض المقدسة" ، قال : المباركة . 11652 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بمثله . قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : هي الأرض المقدسة ، كما قال نبي الله موسى صلى الله عليه ، لأن القول في ذلك بأنها أرض دون أرض ، لا تدرك حقيقة صحته إلا بالخبر ، ولا خبر بذلك يجوز قطع الشهادة به . غير أنها لن تخرج من أن تكون من الأرض التي ما بين الفرات وعريش مصر ، لإجماع جميع أهل التأويل والسير والعلماء بالأخبار على ذلك . [ ص: 169 ] ويعني بقوله : " التي كتب الله لكم " التي أثبت في اللوح المحفوظ أنها لكم مساكن ومنازل دون الجبابرة التي فيها . فإن قال قائل : فكيف قال : " التي كتب الله لكم ، وقد علمت أنهم لم يدخلوها بقوله : " فإنها محرمة عليهم "؟ فكيف يكون مثبتا في اللوح المحفوظ أنها مساكن لهم ، ومحرما عليهم سكناها؟ قيل : إنها كتبت لبني إسرائيل دارا ومساكن ، وقد سكنوها ونزلوها وصارت لهم ، كما قال الله جل وعز . وإنما قال لهم موسى : "ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم" ، يعني بها : كتبها الله لبني إسرائيل ، وكان الذين أمرهم موسى بدخولها من بني إسرائيل ولم يعن صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى ذكره كتبها للذين أمرهم بدخولها بأعيانهم . ولو قال قائل : قد كانت مكتوبة لبعضهم ولخاص منهم فأخرج الكلام على العموم ، والمراد منه الخاص ، إذ كان يوشع وكالب قد دخلا وكانا ممن خوطب بهذا القول كان أيضا وجها صحيحا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال ابن إسحاق . 11653 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، " التي كتب الله لكم " ، التي وهب الله لكم . وكان السدي يقول : معنى"كتب" في هذا الموضع ، بمعنى : أمر . 11654 - حدثنا بذلك موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم " ، التي أمركم الله بها . [ ص: 170 ] القول في تأويل قوله جل ثناؤه ( ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين ( 21 ) ) قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله عز ذكره عن قيل موسى عليه السلام لقومه من بني إسرائيل ، إذ أمرهم عن أمر الله عز ذكره إياه بدخول الأرض المقدسة ، أنه قال لهم : امضوا ، أيها القوم ، لأمر الله الذي أمركم به من دخول الأرض المقدسة "ولا ترتدوا" يقول : لا ترجعوا القهقرى مرتدين "على أدباركم" يعني : إلى ورائكم ، ولكن امضوا قدما لأمر الله الذي أمركم به ، من الدخول على القوم الذين أمركم الله بقتالهم والهجوم عليهم في أرضهم ، وأن الله عز ذكره قد كتبها لكم مسكنا وقرارا . ويعني بقوله : "فتنقلبوا خاسرين" ، أي : تنصرفوا خائبين هلكا . وقد بينا معنى"الخسارة" في غير هذا الموضع ، بشواهده المغنية عن إعادته في هذا الموضع . فإن قال قائل : وما كان وجه قيل موسى لقومه ، إذ أمرهم بدخول الأرض المقدسة : "لا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين" ، أو يستوجب الخسارة من لم يدخل أرضا جعلت له؟ [ ص: 171 ] قيل : إن الله عز ذكره كان أمرهم بقتال من فيها من أهل الكفر به وفرض عليهم دخولها ، فاستوجب القوم الخسارة بتركهم إذا فرض الله عليهم من وجهين : أحدهما : تضييع فرض الجهاد الذي كان الله عز ذكره فرضه عليهم والثاني : خلافهم أمر الله في تركهم دخول الأرض ، وقولهم لنبيهم موسى صلى الله عليه وسلم إذ قال لهم : "ادخلوا الأرض المقدسة" : "إنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون" . وكان قتادة يقول في ذلك بما : 11655 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : "يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم" أمروا بها ، كما أمروا بالصلاة والزكاة والحج والعمرة . القول في تأويل قوله عز ذكره ( قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين ) قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن جواب قوم موسى عليه السلام ، إذ أمرهم بدخول الأرض المقدسة : أنهم أبوا عليه إجابته إلى ما أمرهم به من ذلك ، واعتلوا عليه في ذلك بأن قالوا ، إن في الأرض المقدسة التي تأمرنا بدخولها ، قوما جبارين لا طاقة لنا بحربهم ، ولا قوة لنا بهم . وسموهم "جبارين" ، لأنهم كانوا لشدة بطشهم وعظيم خلقهم ، فيما ذكر لنا ، قد قهروا سائر الأمم غيرهم . [ ص: 172 ] وأصل"الجبار" ، المصلح أمر نفسه وأمر غيره ، ثم استعمل في كل من اجتر نفعا إلى نفسه بحق أو باطل طلب الإصلاح لها ، حتى قيل للمتعدي إلى ما ليس له بغيا على الناس ، وقهرا لهم ، وعتوا على ربه"جبار" ، وإنما هو"فعال" من قولهم : "جبر فلان هذا الكسر" ، إذا أصلحه ولأمه ، ومنه قول الراجز : قد جبر الدين الإله فجبر وعور الرحمن من ولى العور يريد : قد أصلح الدين الإله فصلح . ومن أسماء الله تعالى ذكره "الجبار" ، لأنه المصلح أمر عباده ، القاهر لهم بقدرته . ومما ذكرته من عظم خلقهم ما : - 11656 - حدثني به موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في قصة ذكرها من أمر موسى وبني إسرائيل ، قال : ثم أمرهم بالسير إلى أريحا وهي أرض بيت المقدس فساروا ، حتى إذا كانوا قريبا منهم ، بعث موسى اثني عشر نقيبا من جميع أسباط بني إسرائيل ، فساروا يريدون أن يأتوه بخبر الجبارين ، فلقيهم رجل من الجبارين ، يقال له : " عاج " ، فأخذ الاثني عشر فجعلهم في حجزته ، وعلى رأسه حملة حطب ، وانطلق بهم [ ص: 173 ] إلى امرأته فقال : انظري إلى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يريدون أن يقاتلونا!! فطرحهم بين يديها ، فقال : ألا أطحنهم برجلي؟ فقالت امرأته : لا بل خل عنهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا! ففعل ذلك . 11657 - حدثني عبد الكريم بن الهيثم قال : حدثنا إبراهيم بن بشار قال : حدثنا سفيان قال : قال أبو سعيد ، قال عكرمة ، عن ابن عباس قال : أمر موسى أن يدخل مدينة الجبارين . قال : فسار موسى بمن معه حتى نزل قريبا من المدينة وهي أريحاء فبعث إليهم اثني عشر عينا ، من كل سبط منهم عينا ، ليأتوه بخبر القوم . قال : فدخلوا المدينة ، فرأوا أمرا عظيما من هيئتهم وجثثهم وعظمهم ، فدخلوا حائطا لبعضهم ، فجاء صاحب الحائط ليجتني الثمار من حائطه ، فجعل يجتني الثمار وينظر إلى آثارهم ، وتتبعهم . فكلما أصاب واحدا منهم أخذه فجعله في كمه مع الفاكهة ، وذهب إلى ملكهم فنثرهم بين يديه ، فقال الملك : قد رأيتم شأننا وأمرنا ، اذهبوا فأخبروا صاحبكم . قال : فرجعوا إلى موسى فأخبروه بما عاينوا من أمرهم . 11658 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : " إن فيها قوما جبارين " ، ذكر لنا أنهم كانت لهم أجسام وخلق ليست لغيرهم . 11659 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : إن موسى عليه السلام قال لقومه : "إني سأبعث رجالا يأتونني بخبرهم" وإنه أخذ من كل سبط رجلا فكانوا اثني عشر نقيبا ، فقال : "سيروا إليهم وحدثوني حديثهم وما أمرهم ، ولا تخافوا ، إن الله معكم ما أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسله ، وعزرتموهم ، وأقرضتم الله قرضا حسنا" وإن القوم ساروا حتى هجموا عليهم ، فرأوا أقواما لهم أجسام عجب عظما [ ص: 174 ] وقوة ، وإنه فيما ذكر أبصرهم أحد الجبارين ، وهم لا يألون أن يخفوا أنفسهم حين رأوا العجب . فأخذ ذلك الجبار منهم رجالا فأتى رئيسهم ، فألقاهم قدامه ، فعجبوا وضحكوا منهم . فقال قائل منهم : "فإن هؤلاء زعموا أنهم أرادوا غزوكم"!! وأنه لولا ما دفع الله عنهم لقتلوا ، وأنهم رجعوا إلى موسى عليه السلام فحدثوه العجب . 11660 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : "اثني عشر نقيبا" من كل سبط من بني إسرائيل رجل ، أرسلهم موسى إلى الجبارين ، فوجدوهم يدخل في كم أحدهم اثنان منهم ، يلقونهم إلقاء ، ولا يحمل عنقود عنبهم إلا خمسة أنفس بينهم في خشبة ، ويدخل في شطر الرمانة إذا نزع حبها خمسة أنفس ، أو أربعة . 11661 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، نحوه . 11662 - حدثني محمد بن الوزير بن قيس ، عن أبيه ، عن جويبر ، عن الضحاك : "إن فيها قوما جبارين" قال : سفلة لا خلاق لهم . [ ص: 175 ] القول في تأويل قوله عز ذكره ( وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون ( 22 ) ) قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله عز ذكره عن قول قوم موسى لموسى ، جوابا لقوله لهم : " ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم " ، فقالوا : " إنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها " ، يعنون : [ حتى يخرج ] من الأرض المقدسة الجبارون الذين فيها ، جبنا منهم ، وجزعا من قتالهم . وقالوا له : إن يخرج منها هؤلاء الجبارون دخلناها ، وإلا فإنا لا نطيق دخولها وهم فيها ، لأنه لا طاقة لنا بهم ولا يدان . 11663 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، أن كالب بن يافنا ، أسكت الشعب عن موسى صلى الله عليه وسلم فقال لهم : إنا سنعلو الأرض ونرثها ، وإن لنا بهم قوة! وأما الذين كانوا معه فقالوا : لا نستطيع أن نصل إلى ذلك الشعب ، من أجل أنهم أجرأ منا! ثم إن أولئك الجواسيس أخبروا بني إسرائيل الخبر ، وقالوا : إنا مررنا في أرض وحسسناها ، فإذا هي تأكل ساكنها ، ورأينا رجالها جساما ، ورأينا الجبابرة بني الجبابرة ، وكنا في أعينهم مثل الجراد! فأرجفت الجماعة من بني إسرائيل ، فرفعوا أصواتهم بالبكاء . فبكى الشعب تلك الليلة ، ووسوسوا على موسى وهارون ، فقالوا لهما : يا ليتنا متنا في أرض مصر ! وليتنا نموت في هذه البرية ، ولم يدخلنا الله هذه الأرض لنقع في الحرب ، فتكون نساؤنا وأبناؤنا وأثقالنا غنيمة! ولو كنا قعودا في أرض مصر ، كان خيرا لنا وجعل الرجل يقول لأصحابه : تعالوا نجعل علينا رأسا وننصرف إلى مصر . ![]()
__________________
|
#545
|
||||
|
||||
![]() ![]() تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن الإمام محمد بن جرير الطبري الجزء العاشر تَفْسِيرِ سُّورَةِ المائدة الحلقة (545) صــ 176 إلى صــ 190 القول في تأويل قوله جل ثناؤه ( قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ) قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله عز ذكره عن الرجلين الصالحين من قوم موسى : " يوشع بن نون " و" كالب بن يافنا " ، أنهما وفيا لموسى بما عهد إليهما من ترك إعلام قومه بني إسرائيل الذين أمرهم بدخول الأرض المقدسة على الجبابرة من الكنعانيين بما رأيا وعاينا من شدة بطش الجبابرة وعظم خلقهم ، ووصفهما الله عز وجل بأنهما ممن يخاف الله ويراقبه في أمره ونهيه ، كما : - 11664 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ح ، وحدثنا ابن وكيع قال حدثنا أبي ، عن سفيان ح ، وحدثنا هناد قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان عن منصور ، عن مجاهد : "قال : رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما" ، قال : كلاب بن يافنا ، ويوشع بن نون . 11665 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا حكام ، عن عمرو بن أبي قيس ، عن منصور ، عن مجاهد قال : " رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما " ، قال : يوشع بن نون ، وكلاب بن يافنا ، وهما من النقباء . 11666 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قصة ذكرها ، قال : فرجع النقباء كلهم ينهى سبطه عن قتالهم ، إلا يوشع بن نون ، وكلاب بن يافنة ، يأمران الأسباط بقتال الجبارين ومجاهدتهم ، فعصوهما ، وأطاعوا الآخرين ، فهما الرجلان اللذان أنعم الله عليهما . [ ص: 177 ] 11667 - حدثنا ابن حميد وسفيان بن وكيع قالا : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، مثل حديث ابن بشار ، عن ابن مهدي إلا أن ابن حميد قال في حديثه : هما من الاثني عشر نقيبا . 11668 - حدثني عبد الكريم بن الهيثم قال : حدثنا إبراهيم بن بشار قال : حدثنا سفيان قال : قال أبو سعيد ، قال عكرمة ، عن ابن عباس في قصة ذكرها . قال : فرجعوا يعني النقباء الاثني عشر إلى موسى ، فأخبروه بما عاينوا من أمرهم ، فقال لهم موسى : اكتموا شأنهم ، ولا تخبروا به أحدا من أهل العسكر ، فإنكم إن أخبرتموهم بهذا الخبر فشلوا ولم يدخلوا المدينة . قال : فذهب كل رجل منهم فأخبر قريبه وابن عمه ، إلا هذين الرجلين يوشع بن نون ، وكلاب بن يوفنة فإنهما كتما ولم يخبرا به أحدا ، وهما اللذان قال الله عز وجل : " قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما " ، إلى قوله : " وبين القوم الفاسقين " . 11669 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : "قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما" ، وهما اللذان كتماهم : يوشع بن نون فتى موسى ، وكالوب بن يوفنة ختن موسى . 11670 - حدثنا سفيان قال : حدثنا عبيد الله ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية : "قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما" ، كالوب ، ويوشع بن النون فتى موسى . 11671 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي [ ص: 178 ] قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : "قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما" ، والرجلان اللذان أنعم الله عليهما من بني إسرائيل : يوشع بن النون ، وكالوب بن يوفنة . 11672 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما " ذكر لنا أن الرجلين : يوشع بن نون وكالب . 11673 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : أن موسى قال للنقباء لما رجعوا فحدثوه العجب : "لا تحدثوا أحدا بما رأيتم ، إن الله سيفتحها لكم ويظهركم عليها من بعد ما رأيتم" وإن القوم أفشوا الحديث في بني إسرائيل ، فقام رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ، كان أحدهما فيما سمعنا يوشع بن نون وهو فتى موسى ، والآخر كالب - فقالا : "ادخلوا عليهم الباب" إلى"إن كنتم مؤمنين" . قال أبو جعفر : واختلفت القرأة في قراءة قوله : " قال رجلان من الذين يخافون " . قرأ ذلك قرأة الحجاز والعراق والشام : ( قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ) بفتح "الياء" من "يخافون" ، على التأويل الذي ذكرنا عمن ذكرنا عنه آنفا ، أنهما يوشع بن نون وكالب ، من قوم موسى ، ممن يخاف الله ، وأنعم عليهما بالتوفيق . [ ص: 179 ] وكان قتادة يقول : في بعض القراءة : ( قال رجلان من الذين يخافون الله أنعم الله عليهما ) . 11674 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ح ، وحدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : " قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما " ، في بعض الحروف : ( يخافون الله أنعم الله عليهما ) . وهذا أيضا مما يدل على صحة تأويل من تأول ذلك على ما ذكرنا عنه أنه قال : يوشع ، وكالب . وروي عن سعيد بن جبير أنه كان يقرأ ذلك : ( قال رجلان من الذين يخافون ) بضم الياء ( أنعم الله عليهما ) . 11675 - حدثني بذلك أحمد بن يوسف قال : حدثنا القاسم بن سلام قال : حدثنا هشيم ، عن القاسم بن أبي أيوب ولا نعلمه أنه سمع منه عن سعيد بن جبير : أنه كان يقرؤها بضم الياء من : ( يخافون ) . وكأن سعيدا ذهب في قراءته هذه إلى أن الرجلين اللذين أخبر الله عنهما أنهما قالا لبني إسرائيل : " ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون " ، كانا من رهط الجبابرة ، وكانا أسلما واتبعا موسى ، فهما من أولاد الجبابرة الذين يخافهم بنو إسرائيل ، وإن كانوا لهم في الدين مخالفين . وقد حكي نحو هذا التأويل عن ابن عباس . [ ص: 180 ] 11676 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين " ، قال : هي مدينة الجبارين . لما نزل بها موسى وقومه ، بعث منهم اثني عشر رجلا وهم النقباء الذين ذكر بعثتهم ليأتوه بخبرهم . فساروا ، فلقيهم رجل من الجبارين ، فجعلهم في كسائه ، فحملهم حتى أتى بهم المدينة ، ونادى في قومه فاجتمعوا إليه ، فقالوا : من أنتم؟ فقالوا : نحن قوم موسى ، بعثنا إليكم لنأتيه بخبركم! فأعطوهم حبة من عنب بوقر الرجل ، فقالوا لهم : اذهبوا إلى موسى وقومه فقولوا لهم : اقدروا قدر فاكهتهم! فلما أتوهم قالوا لموسى : " اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون "!"قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما" ، وكانا من أهل المدينة أسلما واتبعا موسى وهارون ، فقالا لموسى : " ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين " . قال أبو جعفر : فعلى هذه القراءة وهذا التأويل ، لم يكتم من الاثني عشر نقيبا أحد ما أمرهم موسى بكتمانه بني إسرائيل مما رأوا وعاينوا من عظم أجسام الجبابرة ، وشدة بطشهم ، وعجيب أمورهم ، بل أفشوا ذلك كله . وإنما القائل للقوم ولموسى : "ادخلوا عليهم الباب" ، رجلان من أولاد الذين كان بنو إسرائيل يخافونهم ويرهبون الدخول عليهم من الجبابرة ، كانا أسلما وتبعا نبي الله صلى الله عليه وسلم . قال أبو جعفر : وأولى القراءتين بالصواب عندنا قراءة من قرأ : [ ص: 181 ] ( من الذين يخافون أنعم الله عليهما ) لإجماع قرأة الأمصار عليها وأن ما استفاضت به القراءة عنهم ، فحجة لا يجوز خلافها ، وما انفرد به الواحد ، فجائز فيه الخطأ والسهو . ثم في إجماع الحجة في تأويلها على أنهما رجلان من أصحاب موسى من بني إسرائيل وأنهما يوشع وكلاب ، ما أغنى عن الاستشهاد على صحة القراءة بفتح "الياء" في ذلك ، وفساد غيره . وهو التأويل الصحيح عندنا ، لما ذكرنا من إجماعها عليه . وأما قوله : "أنعم الله عليهما" ، فإنه يعني : أنعم الله عليهم بطاعة الله في طاعة نبيه موسى صلى الله عليه ، وانتهائهم إلى أمره ، والانزجار عما زجرهما عنه صلى الله عليه وسلم ، من إفشاء ما عاينا من عجيب أمر الجبارين إلى بني إسرائيل ، الذي حدث عنه أصحابهما الآخرون الذين كانوا معهما من النقباء . وقد قيل إن معنى ذلك : أنعم الله عليهما بالخوف . ذكر من قال ذلك : 11677 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا خلف بن تميم قال : حدثنا إسحاق بن القاسم ، عن سهل بن علي قوله : " قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما " ، قال : أنعم الله عليهما بالخوف . [ ص: 182 ] وبنحو الذي قلنا في ذلك كان الضحاك يقول ، وجماعة غيره . 11678 - حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ قال : حدثني عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما " ، بالهدى فهداهما ، فكانا على دين موسى ، وكانا في مدينة الجبارين . القول في تأويل قوله جل ثناؤه ( ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون ) قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله عز ذكره عن قول الرجلين اللذين يخافان الله لبني إسرائيل ، إذ جبنوا وخافوا من الدخول على الجبارين ، لما سمعوا خبرهم ، وأخبرهم النقباء الذين أفشوا ما عاينوا من أمرهم فيهم ، وقالوا : " إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها " ، فقالا لهم : ادخلوا عليهم ، أيها القوم باب مدينتهم ، فإن الله معكم ، وهو ناصركم ، وإنكم إذا دخلتم الباب غلبتموهم ، كما : - 11679 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول ، قال : لما هم بنو إسرائيل بالانصراف إلى مصر ، حين أخبرهم النقباء بما أخبروهم من أمر الجبابرة ، خر موسى وهارون على وجوههما سجودا قدام جماعة بني إسرائيل ، وخرق يوشع بن نون وكالب بن يافنا ثيابهما ، وكانا من جواسيس الأرض ، وقالا لجماعة بني إسرائيل : "إن الأرض مررنا بها وحسسناها صالحة ، رضيها ربنا لنا فوهبها لنا ، وإنها . . تفيض لبنا وعسلا ولكن افعلوا واحدة : [ ص: 183 ] لا تعصوا الله ، ولا تخشوا الشعب الذين بها ، فإنهم خبزنا ، ومدفعون في أيدينا ، إن كبرياءهم ذهبت منهم ، وإن الله معنا فلا تخشوهم . فأراد جماعة من بني إسرائيل أن يرجموهما بالحجارة . 11680 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذكر لنا أنهم بعثوا اثني عشر رجلا من كل سبط رجلا عيونا لهم ، وليأتوهم بأخبار القوم . فأما عشرة فجبنوا قومهم وكرهوا إليهم الدخول عليهم . وأما الرجلان فأمرا قومهما أن يدخلوها ، وأن يتبعوا أمر الله ، ورغبا في ذلك ، وأخبرا قومهما أنهم غالبون إذا فعلوا ذلك . 11681 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : "عليهم الباب" ، قرية الجبارين . [ ص: 184 ] القول في تأويل قوله جل ثناؤه ( وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ( 23 ) ) قال أبو جعفر : وهذا أيضا خبر من الله جل وعز عن قول الرجلين اللذين يخافان الله ، أنهما قالا لقوم موسى يشجعانهم بذلك ، ويرغبانهم في المضي لأمر الله بالدخول على الجبارين في مدينتهم توكلوا أيها القوم ، على الله في دخولكم عليهم ، فيقولان لهم : ثقوا بالله ، فإنه معكم إن أطعتموه فيما أمركم من جهاد عدوكم . وعنيا بقولهما : "إن كنتم مؤمنين" إن كنتم مصدقي نبيكم صلى الله عليه وسلم فيما أنبأكم عن ربكم من النصرة والظفر عليهم ، وفي غير ذلك من إخباره عن ربه ومؤمنين بأن ربكم قادر على الوفاء لكم بما وعدكم من تمكينكم في بلاد عدوه وعدوكم . القول في تأويل قوله عز ذكره ( قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون ( 24 ) ) قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله جل ذكره عن قول الملإ من قوم موسى لموسى ، إذ رغبوا في جهاد عدوهم ، ووعدوا نصر الله إياهم إن هم ناهضوهم ودخلوا عليهم باب مدينتهم ، أنهم قالوا له : " إنا لن ندخلها أبدا " يعنون : إنا لن ندخل مدينتهم أبدا . [ ص: 185 ] و"الهاء والألف" في قوله : "إنا لن ندخلها" ، من ذكر"المدينة" . ويعنون بقولهم : "أبدا" ، أيام حياتنا "ما داموا فيها" ، يعنون : ما كان الجبارون مقيمين في تلك المدينة التي كتبها الله لهم وأمروا بدخولها" فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون " ، لا نجيء معك يا موسى إن ذهبت إليهم لقتالهم ، ولكن نتركك تذهب أنت وحدك وربك فتقاتلانهم . وكان بعضهم يقول في ذلك : ليس معنى الكلام : اذهب أنت ، وليذهب معك ربك فقاتلا ولكن معناه : اذهب أنت ، يا موسى ، وليعنك ربك . وذلك أن الله عز ذكره لا يجوز عليه الذهاب . وهذا إنما كان يحتاج إلى طلب المخرج له ، لو كان الخبر عن قوم مؤمنين . فأما قوم أهل خلاف على الله عز ذكره ورسوله ، فلا وجه لطلب المخرج لكلامهم فيما قالوا في الله عز وجل وافتروا عليه ، إلا بما يشبه كفرهم وضلالتهم . وقد ذكر عن المقداد أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قال قوم موسى لموسى . 11682 - حدثنا سفيان بن وكيع قال : حدثنا أبي وحدثنا هناد قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن مخارق ، عن طارق : أن المقداد بن الأسود قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إنا لا نقول كما قالت بنو إسرائيل : "اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون" ، ولكن نقول : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون . [ ص: 186 ] 11683 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم الحديبية ، حين صد المشركون الهدي وحيل بينهم وبين مناسكهم : "إني ذاهب بالهدي فناحره عند البيت! فقال له المقداد بن الأسود : أما والله لا نكون كالملإ من بني إسرائيل إذ قالوا لنبيهم : "اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون" ولكن : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون! فلما سمعها أصحاب نبي الله صلى الله عليه وسلم تتابعوا على ذلك . وكان ابن عباس ، والضحاك بن مزاحم ، وجماعة غيرهما يقولون : إنما قالوا هذا القول لموسى عليه السلام ، حين تبين لهم أمر الجبارين وشدة بطشهم . 11684 - حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال : حدثنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول : أمر الله جل وعز بني إسرائيل أن يسيروا إلى الأرض المقدسة مع نبيهم موسى عليه السلام ، فلما كانوا قريبا من المدينة قال لهم موسى : "ادخلوها" ، فأبوا وجبنوا ، وبعثوا اثني عشر نقيبا لينظروا [ ص: 187 ] إليهم ، فانطلقوا فنظروا فجاءوا بحبة فاكهة من فاكهتهم بوقر الرجل ، فقالوا : اقدروا قوة قوم وبأسهم هذه فاكهتهم! فعند ذلك قالوا لموسى : " اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون " . 11685 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، نحوه . القول في تأويل قوله جل ثناؤه ( قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين ( 25 ) ) قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله جل وعز عن قيل قوم موسى حين قال له قومه ما قالوا ، من قولهم : " إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون " أنه قال عند ذلك ، وغضب من قيلهم له داعيا : يا رب ، إني لا أملك إلا نفسي وأخي يعني بذلك ، لا أقدر على أحد أن أحمله على ما أحب وأريد من طاعتك واتباع أمرك ونهيك إلا على نفسي وعلى أخي . من قول القائل : "ما أملك من الأمر شيئا إلا كذا وكذا" ، بمعنى : لا أقدر على شيء غيره . [ ص: 188 ] ويعني بقوله : " فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين " ، افصل بيننا وبينهم بقضاء منك تقضيه فينا وفيهم فتبعدهم منا . من قول القائل : "فرقت بين هذين الشيئين" ، بمعنى : فصلت بينهما ، من قول الراجز : يا رب فافرق بينه وبيني أشد ما فرقت بين اثنين وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ذكر من قال ذلك : 11686 - حدثني محمد بن سعد قال حدثني أبي قال : حدثني عمي [ ص: 189 ] قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين " ، يقول : اقض بيني وبينهم . 11687 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : "فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين" ، يقول : اقض بيننا وبينهم . 11688 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : غضب موسى صلى الله عليه وسلم حين قال له القوم : " اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون " ، فدعا عليهم فقال : " رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين " ، وكانت عجلة من موسى عجلها . 11689 - حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ قال : حدثنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين " ، يقول : اقض بيننا وبينهم ، وافتح بيننا وبينهم كل هذا يقول الرجل : "اقض بيننا" فقضاء الله جل ثناؤه بينه وبينهم : أن سماهم "فاسقين" . وعنى بقوله : "الفاسقين" الخارجين عن الإيمان بالله وبه إلى الكفر بالله وبه . وقد دللنا على أن معنى"الفسق " ، الخروج من شيء إلى شيء ، فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته . [ ص: 190 ] القول في تأويل قوله جل ثناؤه ( قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض ) قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في الناصب ل"الأربعين" . فقال بعضهم : الناصب له قوله : "محرمة" ، وإنما حرم الله جل وعز على القوم الذين عصوه وخالفوا أمره من قوم موسى وأبوا حرب الجبارين دخول مدينتهم أربعين سنة ، ثم فتحها عليهم وأسكنهموها ، وأهلك الجبارين بعد حرب منهم لهم ، بعد أن انقضت الأربعون سنة وخرجوا من التيه . 11690 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : لما قال لهم القوم ما قالوا ، ودعا موسى عليهم ، أوحى الله إلى موسى : " إنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين " ، وهم يومئذ ، فيما ذكر ، ستمائة ألف مقاتل . فجعلهم "فاسقين" بما عصوا . فلبثوا أربعين سنة في فراسخ ستة ، أو دون ذلك ، يسيرون كل يوم جادين لكي يخرجوا منها ، حتى سئموا ونزلوا ، فإذا هم في الدار التي منها ارتحلوا وإنهم اشتكوا إلى موسى ما فعل بهم ، فأنزل عليهم المن والسلوى ، وأعطوا من الكسوة ما هي قائمة لهم ، وينشأ الناشئ فتكون معه على هيئته . وسأل موسى ربه أن [ ص: 191 ] يسقيهم ، فأتى بحجر الطور ، وهو حجر أبيض ، إذا ما نزل القوم ضربه بعصاه ، فيخرج منه اثنتا عشرة عينا ، لكل سبط منهم عين ، قد علم كل أناس مشربهم . حتى إذا خلت أربعون سنة ، وكانت عذابا بما اعتدوا وعصوا ، أوحى إلى موسى : أن مرهم أن يسيروا إلى الأرض المقدسة ، فإن الله قد كفاهم عدوهم ، وقل لهم إذا أتوا المسجد : أن يأتوا الباب ، ويسجدوا إذا دخلوا ، ويقولوا : "حطة" وإنما قولهم : "حطة" ، أن يحط عنهم خطاياهم فأبى عامة القوم وعصوا ، وسجدوا على خدهم ، وقالوا : "حنطة" ، فقال الله جل ثناؤه : ( فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم إلى بما كانوا يفسقون ) [ سورة البقرة : 59 ] . ![]()
__________________
|
#546
|
||||
|
||||
![]() ![]() تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن الإمام محمد بن جرير الطبري الجزء العاشر تَفْسِيرِ سُّورَةِ المائدة الحلقة (546) صــ 191 إلى صــ 205 وقال آخرون : بل الناصب ل"الأربعين" ، "يتيهون في الأرض" . قالوا : ومعنى الكلام : قال : فإنها محرمة عليهم أبدا ، يتيهون في الأرض أربعين سنة . قالوا : ولم يدخل مدينة الجبارين أحد ممن قال : " إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون " ، وذلك أن الله عز ذكره حرمها عليهم . قالوا : وإنما دخلها من أولئك القوم يوشع وكلاب ، اللذان قالا لهم : " ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون " ، وأولاد الذين حرم الله عليهم دخولها ، فتيههم الله فلم يدخلها منهم أحد . ذكر من قال ذلك : 11691 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا سليمان بن حرب قال : حدثنا أبو هلال ، عن قتادة في قول الله جل وعز : " إنها محرمة عليهم " ، قال : أبدا . 11692 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا سليمان بن حرب قال : حدثنا أبو هلال ، عن قتادة في قول الله : " يتيهون في الأرض " ، قال : أربعين سنة . 11693 - حدثنا المثنى قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم قال : حدثنا هارون [ ص: 192 ] النحوي قال : حدثني الزبير بن الخريت ، عن عكرمة في قوله : " فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض " ، قال : التحريم ، التيهاء . 11694 - حدثنا موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : غضب موسى على قومه فدعا عليهم فقال : " رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي " الآية ، فقال الله جل وعز : " فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض " . فلما ضرب عليهم التيه ، ندم موسى . وأتاه قومه الذين كانوا [ معه ] يطيعونه ، فقالوا له : ما صنعت بنا يا موسى ! فمكثوا في التيه . فلما خرجوا من التيه ، رفع المن والسلوى وأكلوا من البقول . والتقى موسى وعاج ، فنزا موسى في السماء عشرة أذرع ، وكانت عصاه عشرة أذرع ، وكان طوله عشرة أذرع فأصاب كعب عاج فقتله . ولم يبق [ أحد ] ممن أبى أن يدخل قرية الجبارين مع موسى ، إلا مات ولم يشهد الفتح . ثم إن الله جل وعز لما انقضت الأربعون سنة ، بعث يوشع بن النون نبيا ، فأخبرهم أنه نبي ، وأن الله قد أمره أن يقاتل الجبارين ، فبايعوه وصدقوه ، فهزم الجبارين واقتحموا عليهم يقتلونهم ، [ ص: 193 ] فكانت العصابة من بني إسرائيل يجتمعون على عنق الرجل يضربونها لا يقطعونها . 11695 - حدثني عبد الكريم بن الهيثم قال : حدثنا إبراهيم بن بشار قال : حدثنا سفيان قال : قال أبو سعيد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال الله جل وعز لما دعا موسى : " فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض " . قال : فدخلوا التيه ، فكل من دخل التيه ممن جاوز العشرين سنة مات في التيه . قال : فمات موسى في التيه ، ومات هارون قبله . قال : فلبثوا في تيههم أربعين سنة ، فناهض يوشع بمن بقي معه مدينة الجبارين ، فافتتح يوشع المدينة . 11696 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال الله جل وعز : " إنها محرمة عليهم أربعين سنة " ، حرمت عليهم [ القرى ] ، فكانوا لا يهبطون قرية ولا يقدرون على ذلك ، إنما يتبعون الأطواء أربعين سنة ، وذكر لنا أن موسى صلى الله عليه وسلم مات في الأربعين سنة ، وأنه لم يدخل بيت المقدس منهم إلا أبناؤهم والرجلان اللذان قالا ما قالا . 11697 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : حدثني بعض أهل العلم بالكتاب الأول قال : لما فعلت بنو إسرائيل ما فعلت من [ ص: 194 ] معصيتهم نبيهم ، وهمهم بكالب ويوشع ، إذ أمراهم بدخول مدينة الجبارين ، وقالا لهم ما قالا ظهرت عظمة الله بالغمام على باب قبة الزمر على كل بني إسرائيل ، فقال جل ثناؤه لموسى : إلى متى يعصيني هذا الشعب؟ وإلى متى لا يصدقون بالآيات كلها التي وضعت بينهم؟ أضربهم بالموت فأهلكهم ، وأجعل لك شعبا أشد وأكبر منهم؟ فقال موسى : يسمع أهل المصر الذين أخرجت هذا الشعب بقوتك من بينهم ، ويقول ساكن هذه البلاد الذين قد سمعوا أنك أنت الله في هذا الشعب ، فلو أنك قتلت هذا الشعب كلهم كرجل واحد ، لقالت الأمم الذين سمعوا باسمك : "إنما قتل هذا الشعب من أجل الذين لا يستطيع أن يدخلهم الأرض التي خلق لهم ، فقتلهم في البرية" ، ولكن لترتفع أياديك ويعظم جزاؤك ، يا رب ، كما كنت تكلمت وقلت لهم ، فإنه طويل صبرك ، كثيرة نعمك ، وأنت تغفر الذنوب فلا توبق ، وإنك تحفظ [ ذنب ] الآباء على الأبناء وأبناء الأبناء إلى ثلاثة أحقاب وأربعة . فاغفر ، أي رب ، آثام هذا الشعب بكثرة [ ص: 195 ] نعمك ، وكما غفرت لهم منذ أخرجتهم من أرض مصر إلى الآن . فقال الله جل ثناؤه لموسى صلى الله عليه : قد غفرت لهم بكلمتك ، ولكن حي أنا ، وقد ملأت الأرض محمدتي كلها ، لا يرى القوم الذين قد رأوا محمدتي وآياتي التي فعلت في أرض مصر وفي القفار ، وابتلوني عشر مرات ولم يطيعوني ، لا يرون الأرض التي حلفت لآبائهم ، ولا يراها من أغضبني ، فأما عبدي كالب الذي كان روحه معي واتبع هواي ، فإني مدخله الأرض التي دخلها ، ويراها خلفه . وكان العماليق والكنعانيون جلوسا في الجبال ، ثم غدوا فارتحلوا إلى القفار في طريق بحر سوف ، وكلم الله عز وجل موسى وهارون ، وقال لهما : إلى متى توسوس علي هذه الجماعة جماعة السوء؟ قد سمعت وسوسة بني إسرائيل . وقال : [ ص: 196 ] لأفعلن بكم كما قلت لكم ، ولتلقين جيفكم في هذه القفار ، وكحسابكم من بني عشرين سنة فما فوق ذلك ، من أجل أنكم وسوستم علي ، فلا تدخلوا الأرض التي رفعت [ يدي ] إليها ، ولا ينزل فيها أحد منكم غير كالب بن يوفنا ، ويوشع بن نون ، وتكون أثقالكم كما كنتم الغنيمة ، وأما بنوكم اليوم الذين لم يعلموا ما بين الخير والشر ، فإنهم يدخلون الأرض ، وإني بهم عارف ، لهم الأرض التي أردت لهم ، وتسقط جيفكم في هذه القفار ، وتتيهون في هذه القفار على حساب الأيام التي حسستم الأرض أربعين يوما ، مكان كل يوم سنة وتقتلون بخطاياكم أربعين سنة ، وتعلمون أنكم وسوستم قدامي . إنى أنا الله فاعل بهذه الجماعة جماعة بني إسرائيل الذين وعدوا قدامي بأن يتيهوا في القفار ، فيها يموتون . فأما الرهط الذين كان موسى بعثهم ليتحسسوا الأرض ، ثم حرشوا الجماعة ، فأفشوا فيهم خبر الشر ، فماتوا كلهم بغتة ، وعاش يوشع وكالب بن يوفنا من الرهط الذين انطلقوا يتحسسون الأرض . فلما قال موسى عليه السلام هذا الكلام كله لبني إسرائيل ، حزن الشعب [ ص: 197 ] حزنا شديدا ، وغدوا فارتفعوا ، إلى رأس الجبل ، وقالوا : نرتقي الأرض التي قال جل ثناؤه ، من أجل أنا قد أخطأنا . فقال لهم موسى : "لم تعتدون في كلام الله؟ من أجل ذلك لا يصلح لكم عمل ، ولا تصعدوا من أجل أن الله ليس معكم ، فالآن تنكسرون من قدام أعدائكم ، من أجل العمالقة والكنعانيين أمامكم ، فلا تقعوا في الحرب من أجل أنكم انقلبتم على الله ، فلم يكن الله معكم" . فأخذوا يرقون في الجبل ، ولم يبرح التابوت الذي فيه مواثيق الله جل ذكره وموسى من المحلة - يعني : من الخيمة - حتى هبط العماليق والكنعانيون في ذلك الحائط ، فحرقوهم وطردوهم وقتلوهم . فتيههم الله عز ذكره في التيه أربعين سنة بالمعصية ، حتى هلك من كان استوجب المعصية من الله في ذلك . قال : فلما شب النواشئ من ذراريهم وهلك آباؤهم ، وانقضت الأربعون سنة التي تيهوا فيها ، وسار بهم موسى ومعه يوشع بن نون وكالب بن يوفنا ، وكان - فيما يزعمون - على مريم ابنة عمران أخت موسى وهارون ، وكان لهما صهرا ، قدم يوشع بن نون إلى أريحا ، في بني إسرائيل ، فدخلها بهم ، وقتل بها الجبابرة الذين [ ص: 198 ] كانوا فيها ، ثم دخلها موسى ببني إسرائيل ، فأقام فيها ما شاء الله أن يقيم ، ثم قبضه الله إليه ، لا يعلم قبره أحد من الخلائق . قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال : إن"الأربعين" منصوبة ب"التحريم" ، وإن قوله : " محرمة عليهم أربعين سنة " معني به جميع قوم موسى ، لا بعض دون بعض منهم . لأن الله عز ذكره عم بذلك القوم ، ولم يخصص منهم بعضا دون بعض . وقد وفى الله جل ثناؤه بما وعدهم به من العقوبة ، فتيههم أربعين سنة ، وحرم على جميعهم ، في الأربعين سنة التي مكثوا فيها تائهين دخول الأرض المقدسة ، فلم يدخلها منهم أحد ، لا صغير ولا كبير ، ولا صالح ولا طالح ، حتى انقضت السنون التي حرم الله عز وجل عليهم فيها دخولها . ثم أذن لمن بقي منهم وذراريهم بدخولها مع نبي الله موسى والرجلين اللذين أنعم الله عليهما ، وافتتح قرية الجبارين ، إن شاء الله ، نبي الله موسى صلى الله عليه وسلم ، وعلى مقدمته يوشع ، وذلك لإجماع أهل العلم بأخبار الأولين أن عوج بن عناق قتله موسى صلى الله عليه وسلم . فلو كان قتله إياه قبل مصيره في التيه ، وهو من أعظم الجبارين خلقا ، لم تكن بنو إسرائيل تجزع من الجبارين الجزع الذي ظهر منها . ولكن ذلك كان - إن شاء الله - بعد فناء الأمة التي جزعت وعصت ربها ، وأبت الدخول على الجبارين مدينتهم . وبعد : فإن أهل العلم بأخبار الأولين مجمعون على أن بلعم بن باعور ، كان ممن أعان الجبارين بالدعاء على موسى . ومحال أن يكون ذلك كان وقوم موسى ممتنعون من حربهم وجهادهم ، لأن المعونة إنما يحتاج إليها من كان مطلوبا ، فأما ولا طالب ، فلا وجه للحاجة إليها . [ ص: 199 ] 11698 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا مؤمل قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن نوف قال : كان سرير عوج ثمانمائة ذراع ، وكان طول موسى عشرة أذرع ، وعصاه عشرة أذرع ، ووثب في السماء عشرة أذرع ، فضرب عوجا فأصاب كعبه ، فسقط ميتا ، فكان جسرا للناس يمرون عليه . 11699 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا ابن عطية قال : حدثنا قيس ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كانت عصا موسى عشرة أذرع ، ووثبته عشرة أذرع ، وطوله عشرة أذرع ، فوثب فأصاب كعب عوج فقتله ، فكان جسرا لأهل النيل سنة . ومعنى : "يتيهون في الأرض " ، يحارون فيها ويضلون ومن ذلك قيل للرجل الضال عن سبيل الحق : "تائه" . وكان تيههم ذلك : أنهم كانوا يصبحون أربعين سنة كل يوم جادين في قدر ستة فراسخ للخروج منه ، فيمسون في الموضع الذي ابتدءوا السير منه . 11700 - حدثني بذلك المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع . 11701 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا [ ص: 200 ] عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : تاهت بنو إسرائيل أربعين سنة ، يصبحون حيث أمسوا ، ويمسون حيث أصبحوا في تيههم . القول في تأويل قوله جل ثناؤه ( فلا تأس على القوم الفاسقين ( 26 ) ) قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : "فلا تأس" ، فلا تحزن . يقال منه : "أسي فلان على كذا يأسى أسى" ، و"قد أسيت من كذا" ، أي حزنت ، ومنه قول امرئ القيس : وقوفا بها صحبي علي مطيهم يقولون : لا تهلك أسى وتجمل يعني : لا تهلك حزنا . وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : 11702 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : "فلا تأس" يقول : فلا تحزن . 11703 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال حدثنا أسباط ، عن السدي : " فلا تأس على القوم الفاسقين " ، قال : لما ضرب عليهم التيه ، ندم موسى صلى الله عليه وسلم ، فلما ندم أوحى الله إليه : " فلا تأس على القوم الفاسقين " ، لا تحزن على القوم الذين سميتهم "فاسقين" ، فلم يحزن . [ ص: 201 ] القول في تأويل قوله عز وجل ( واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين ( 27 ) ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : واتل على هؤلاء اليهود الذين هموا أن يبسطوا أيديهم إليكم ، وعلى أصحابك معك وعرفهم مكروه عاقبة الظلم والمكر ، وسوء مغبة الختر ونقض العهد ، وما جزاء الناكث وثواب الوافي خبر ابني آدم ، هابيل وقابيل ، وما آل إليه أمر المطيع منهما ربه الوافي بعهده ، وما إليه صار أمر العاصي منهما ربه الخاتر الناقض عهده . فلتعرف بذلك اليهود وخامة غب غدرهم ونقضهم ميثاقهم بينك وبينهم ، وهمهم [ ص: 202 ] بما هموا به من بسط أيديهم إليك وإلى أصحابك ، فإن لك ولهم في حسن ثوابي وعظم جزائي على الوفاء بالعهد الذي جازيت المقتول الوافي بعهده من ابني آدم ، وعاقبت به القاتل الناكث عهده عزاء جميلا . واختلف أهل العلم في سبب تقريب ابني آدم القربان ، وسبب قبول الله عز وجل ما تقبل منه ، ومن اللذان قربا؟ فقال بعضهم : كان ذلك عن أمر الله جل وعز إياهما بتقريبه ، وكان سبب القبول أن المتقبل منه قرب خير ماله ، وقرب الآخر شر ماله ، وكان المقربان ابني آدم لصلبه ، أحدهما : هابيل ، والآخر : قابيل . ذكر من قال ذلك : 11704 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن هشام بن سعد ، عن إسماعيل بن رافع قال : بلغني أن ابني آدم لما أمرا بالقربان ، كان أحدهما صاحب غنم ، وكان أنتج له حمل في غنمه ، فأحبه حتى كان يؤثره بالليل ، وكان يحمله على ظهره من حبه ، حتى لم يكن له مال أحب إليه منه . فلما أمر بالقربان قربه لله فقبله الله منه ، فما زال يرتع في الجنة حتى فدي به ابن إبراهيم صلى الله عليهما . 11705 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا عوف ، عن أبي المغيرة ، عن عبد الله بن عمرو قال : إن ابني آدم اللذين قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر ، كان أحدهما صاحب حرث ، [ ص: 203 ] والآخر صاحب غنم . وأنهما أمرا أن يقربا قربانا وإن صاحب الغنم قرب أكرم غنمه وأسمنها وأحسنها طيبة بها نفسه وإن صاحب الحرث قرب شر حرثه ، [ الكوزن ] والزوان ، غير طيبة بها نفسه وإن الله تقبل قربان صاحب الغنم ، ولم يتقبل قربان صاحب الحرث . وكان من قصتهما ما قص الله في كتابه . وقال : أيم الله ، إن كان المقتول لأشد الرجلين ، ولكن منعه التحرج أن يبسط يده إلى أخيه . وقال آخرون : لم يكن ذلك من أمرهما عن أمر الله إياهما به . ذكر من قال ذلك : 11706 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : كان من شأنهما أنه لم يكن مسكين يتصدق عليه ، وإنما كان القربان يقربه الرجل . فبينا ابنا آدم قاعدان إذ قالا : "لو قربنا قربانا"! وكان الرجل إذا قرب قربانا فرضيه الله جل وعز ، أرسل إليه نارا فأكلته . وإن لم يكن رضيه الله ، خبت النار . فقربا قربانا ، وكان أحدهما راعيا ، وكان الآخر حراثا ، وإن صاحب الغنم قرب خير غنمه وأسمنها ، وقرب الآخر بعض زرعه . فجاءت النار فنزلت بينهما ، فأكلت الشاة وتركت [ ص: 204 ] الزرع ، وإن ابن آدم قال لأخيه : أتمشي في الناس وقد علموا أنك قربت قربانا فتقبل منك ، ورد علي؟ فلا والله لا تنظر الناس إلي وإليك وأنت خير مني!! فقال : لأقتلنك! فقال له أخوه : ما ذنبي؟ إنما يتقبل الله من المتقين . 11707 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى قال : حدثنا ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : "إذ قربا قربانا" ، قال : ابنا آدم ، هابيل وقابيل ، لصلب آدم . فقرب أحدهما شاة ، وقرب الآخر بقلا فقبل من صاحب الشاة ، فقتله صاحبه . 11708 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله . 11709 - حدثني الحارث قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد في قوله : " واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا " قال : هابيل وقابيل ، فقرب هابيل عناقا من أحسن غنمه ، وقرب قابيل زرعا من زرعه . قال : فأكلت النار العناق ، ولم تأكل الزرع ، فقال : لأقتلنك! قال : إنما يتقبل الله من المتقين . 11710 - حدثني الحارث قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا رجل سمع مجاهدا في قوله واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا " قال : هو هابيل ، وقابيل لصلب آدم ، قربا قربانا ، قرب أحدهما شاة من غنمه ، وقرب الآخر بقلا فتقبل من صاحب الشاة ، فقال لصاحبه : لأقتلنك! فقتله . فعقل الله إحدى رجليه بساقها إلى فخذها إلى يوم القيامة ، وجعل وجهه إلى الشمس حيثما دارت ، عليه حظيرة من ثلج في الشتاء ، وعليه في الصيف حظيرة من نار ، ومعه [ ص: 205 ] سبعة أملاك ، كلما ذهب ملك جاء الآخر . 11711 - حدثنا سفيان قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ح ، وحدثنا هناد قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : "واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر" ، قال : قرب هذا كبشا ، وقرب هذا صبرا من طعام ، فتقبل من أحدهما ، قال : تقبل من صاحب الشاة ، ولم يتقبل من الآخر . 11712 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : " واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر " ، كان رجلان من بني آدم ، فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر . 11713 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا عبيد الله ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق " ، قال : كان أحدهما اسمه قابيل ، والآخر هابيل ، أحدهما صاحب غنم ، والآخر صاحب زرع ، فقرب هذا من أمثل غنمه حملا وقرب هذا من أرذل زرعه ، قال : فنزلت النار فأكلت الحمل ، فقال لأخيه : لأقتلنك! ![]()
__________________
|
#547
|
||||
|
||||
![]() ![]() تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن الإمام محمد بن جرير الطبري الجزء العاشر تَفْسِيرِ سُّورَةِ المائدة الحلقة (547) صــ 206 إلى صــ 220 11714 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول : أن آدم أمر ابنه قابيل أن ينكح أخته تؤمه هابيل ، وأمر هابيل أن ينكح أخته تؤمه قابيل ، فسلم لذلك هابيل ورضي ، وأبى قابيل [ ص: 206 ] ذلك وكره ، تكرما عن أخت هابيل ، ورغب بأخته عن هابيل ، وقال : نحن ولادة الجنة ، وهما من ولادة الأرض ، وأنا أحق بأختي! ويقول بعض أهل العلم بالكتاب الأول : كانت أخت قابيل من أحسن الناس ، فضن بها عن أخيه وأرادها لنفسه . فالله أعلم أي ذلك كان فقال له أبوه : يا بني إنها لا تحل لك! فأبى قابيل أن يقبل ذلك من قول أبيه ، فقال له أبوه : يا بني فقرب قربانا ، ويقرب أخوك هابيل قربانا ، فأيكما قبل الله قربانه فهو أحق بها . وكان قابيل على بذر الأرض ، وكان هابيل على رعاية الماشية ، فقرب قابيل قمحا وقرب هابيل أبكارا من أبكار غنمه وبعضهم يقول : قرب بقرة فأرسل الله جل وعز نارا بيضاء فأكلت قربان هابيل ، وتركت قربان قابيل ، وبذلك كان يقبل القربان إذا قبله . 11715 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي فيما ذكر ، عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : وكان لا يولد لآدم مولود إلا ولد معه جارية ، فكان يزوج غلام هذا البطن جارية هذا البطن الآخر ، ويزوج جارية هذا البطن غلام هذا البطن الآخر . حتى ولد له ابنان يقال لهما : قابيل ، وهابيل . وكان قابيل صاحب زرع ، وكان [ ص: 207 ] هابيل صاحب ضرع . وكان قابيل أكبرهما ، وكان له أخت أحسن من أخت هابيل . وإن هابيل طلب أن ينكح أخت قابيل ، فأبى عليه وقال : هي أختي ، ولدت معي ، وهي أحسن من أختك ، وأنا أحق أن أتزوجها! فأمره أبوه أن يزوجها هابيل ، فأبى . وإنهما قربا قربانا إلى الله أيهما أحق بالجارية ، كان آدم يومئذ قد غاب عنهما إلى مكة ينظر إليها ، قال الله عز ذكره لآدم : يا آدم ، هل تعلم أن لي بيتا في الأرض؟ قال : اللهم لا! قال : فإن لي بيتا بمكة فأته . فقال آدم للسماء : "احفظي ولدي بالأمانة" ، فأبت . وقال للأرض ، فأبت . وقال للجبال فأبت . وقال لقابيل ، فقال : نعم ، تذهب وترجع وتجد أهلك كما يسرك . فلما انطلق آدم ، قربا قربانا ، وكان قابيل يفخر عليه فقال : أنا أحق بها منك ، هي أختي ، وأنا أكبر منك ، وأنا وصي والدي! فلما قربا ، قرب هابيل جذعة سمينة ، وقرب قابيل حزمة سنبل ، فوجد فيها سنبلة عظيمة ، ففركها فأكلها . فنزلت النار فأكلت قربان هابيل ، وتركت قربان قابيل ، فغضب وقال : لأقتلنك حتى لا تنكح أختي! فقال هابيل : إنما يتقبل الله من المتقين . 11716 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق " ، ذكر لنا أنهما هابيل ، وقابيل . فأما هابيل ، فكان صاحب ماشية ، فعمد إلى خير ماشيته فتقرب بها ، فنزلت عليه نار فأكلته ، وكان القربان إذا تقبل منهم ، نزلت عليه نار فأكلته . وإذا رد عليهم أكلته الطير والسباع وأما قابيل ، فكان صاحب زرع ، فعمد إلى أردإ زرعه فتقرب به ، فلم تنزل عليه النار ، فحسد أخاه عند ذلك فقال : لأقتلنك! قال : إنما يتقبل الله من المتقين . 11717 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا [ ص: 208 ] معمر ، عن قتادة في قوله : " واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق " ، قال : هما هابيل ، وقابيل ، قال : كان أحدهما صاحب زرع ، والآخر صاحب ماشية ، فجاء أحدهما بخير ماله ، وجاء الآخر بشر ماله . فجاءت النار فأكلت قربان أحدهما ، وهو هابيل ، وتركت قربان الآخر ، فحسده فقال : لأقتلنك! 11718 - حدثنا سفيان قال : حدثنا يحيى بن آدم ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد : " إذ قربا قربانا " ، قال : قرب هذا زرعا ، وذا عناقا ، فتركت النار الزرع وأكلت العناق . وقال آخرون : اللذان قربا قربانا ، وقص الله عز ذكره قصصهما في هذه الآية : رجلان من بني إسرائيل ، لا من ولد آدم لصلبه . ذكر من قال ذلك : 11719 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا سهل بن يوسف ، عن عمرو ، عن الحسن قال : كان الرجلان اللذان في القرآن ، اللذان قال الله : " واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق " ، من بني إسرائيل ، ولم يكونا ابني آدم لصلبه ، وإنما كان القربان في بني إسرائيل ، وكان آدم أول من مات . قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب أن اللذين قربا القربان كانا ابني آدم لصلبه ، لا من ذريته من بني إسرائيل . وذلك أن الله عز وجل يتعالى عن أن يخاطب عباده بما لا يفيدهم به فائدة ، والمخاطبون بهذه الآية كانوا عالمين أن تقريب القربان لله لم يكن إلا في ولد آدم ، دون الملائكة والشياطين [ ص: 209 ] وسائر الخلق غيرهم . فإذ كان معلوما ذلك عندهم ، فمعقول أنه لو لم يكن معنيا ب"ابني آدم" اللذين ذكرهما الله في كتابه ابناه لصلبه لم يفدهم بذكره جل جلاله إياهما فائدة لم تكن عندهم . وإذ كان غير جائز أن يخاطبهم خطابا لا يفيدهم به معنى ، فمعلوم أنه عنى ب"ابني آدم" ، [ ابني آدم لصلبه ] ، لا بني بنيه الذين بعد منه نسبهم ، مع إجماع أهل الأخبار والسير والعلم بالتأويل على أنهما كانا ابني آدم لصلبه ، وفي عهد آدم وزمانه ، وكفى بذلك شاهدا . وقد ذكرنا كثيرا ممن نص عنه القول بذلك ، وسنذكر كثيرا ممن لم يذكر إن شاء الله . 11720 - حدثنا مجاهد بن موسى قال : حدثنا يزيد بن هارون قال : حدثنا حسام بن المصك ، عن عمار الدهني ، عن سالم بن أبي الجعد قال : لما قتل ابن آدم أخاه مكث آدم مائة سنة حزينا لا يضحك ، ثم أتي فقيل له : حياك الله وبياك! فقال : "بياك" ، أضحكك . 11721 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن غياث بن إبراهيم ، عن أبي إسحاق الهمداني قال : قال علي بن أبي طالب رضوان الله عليه : لما قتل ابن آدم أخاه بكى آدم ، فقال : تغيرت البلاد ومن عليها فلون الأرض مغبر قبيح تغير كل ذي لون وطعم [ ص: 210 ] وقل بشاشة الوجه المليح فأجيب آدم عليه السلام : أبا هابيل قد قتلا جميعا وصار الحي كالميت الذبيح وجاء بشرة قد كان منها على خوف فجاء بها يصيح قال أبو جعفر : وأما القول في تقريبهما ما قربا ، فإن الصواب فيه من القول أن يقال : إن الله عز ذكره أخبر عباده عنهما أنهما قد قربا ، ولم يخبر أن تقريبهما ما قربا كان عن أمر الله إياهما به ، ولا عن غير أمره . وجائز أن يكون كان عن أمر الله إياهما بذلك وجائز أن يكون عن غير أمره . غير أنه أي ذلك كان ، فلم يقربا ذلك إلا طلب قربة إلى الله إن شاء الله . وأما تأويل قوله : "قال لأقتلنك" ، فإن معناه : قال الذي لم يتقبل منه قربانه ، للذي تقبل منه قربانه : "لأقتلنك" ، فترك ذكر "المتقبل قربانه" ، و"المردود عليه قربانه" استغناء بما قد جرى من ذكرهما عن إعادته . وكذلك ترك ذكر "المتقبل قربانه" مع قوله : " قال إنما يتقبل الله من المتقين " . وبنحو ما قلنا في ذلك روي الخبر عن ابن عباس . 11722 - حدثنا محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : "قال لأقتلنك" ، فقال له أخوه : ما ذنبي؟ إنما يتقبل الله من المتقين . [ ص: 211 ] 11723 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " إنما يتقبل الله من المتقين " ، قال يقول : إنك لو اتقيت الله في قربانك تقبل منك ، جئت بقربان مغشوش بأشر ما عندك ، وجئت أنا بقربان طيب بخير ما عندي . قال : وكان قال : يتقبل الله منك ولا يتقبل مني! ويعني بقوله : "من المتقين" ، من الذين اتقوا الله وخافوه بأداء ما كلفهم من فرائضه ، واجتناب ما نهاهم عنه من معصيته . وقد قال جماعة من أهل التأويل : "المتقون" في هذا الموضع الذين اتقوا الشرك . ذكر من قال ذلك : 11724 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا يحيى بن واضح قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، عن الضحاك قوله : " إنما يتقبل الله من المتقين " ، الذين يتقون الشرك . وقد بينا معنى "القربان" فيما مضى وأنه "الفعلان" من قول القائل : "قرب" ، كما "الفرقان" "الفعلان" من "فرق" ، و"العدوان" من "عدا" . وكانت قرابين الأمم الماضية قبل أمتنا كالصدقات ، والزكوات فينا غير أن قرابينهم كان يعلم المتقبل منها وغير المتقبل فيما ذكر بأكل النار ما تقبل منها ، وترك النار ما لم يتقبل منها . و"القربان" في أمتنا الأعمال الصالحة من الصلاة ، والصيام ، والصدقة على أهل المسكنة ، وأداء الزكاة المفروضة . ولا سبيل [ ص: 212 ] لها إلى العلم في عاجل بالمتقبل منها والمردود . وقد ذكر عن عامر بن عبد الله العنبري ، أنه حين حضرته الوفاة بكى ، فقيل له : ما يبكيك؟ فقد كنت وكنت! فقال : يبكيني أني أسمع الله يقول : " إنما يتقبل الله من المتقين " . 11725 - حدثني بذلك محمد بن عمر المقدمي قال : حدثني سعيد بن عامر ، عن همام ، عمن ذكره ، عن عامر . وقد قال بعضهم : قربان المتقين الصلاة . 11726 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا حفص بن غياث ، عن عمران بن سليمان ، عن عدي بن ثابت قال : كان قربان المتقين الصلاة . [ ص: 213 ] القول في تأويل قوله عز ذكره ( لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين ( 28 ) ) قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن المقتول من ابني آدم أنه قال لأخيه لما قال له أخوه القاتل : لأقتلنك : والله" لئن بسطت إلي يدك " ، يقول : مددت إلي يدك " لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك " ، يقول : ما أنا بماد يدي إليك " لأقتلك " . وقد اختلف في السبب الذي من أجله قال المقتول ذلك لأخيه ، ولم يمانعه ما فعل به . فقال بعضهم : قال ذلك إعلاما منه لأخيه القاتل أنه لا يستحل قتله ، ولا بسط يده إليه بما لم يأذن الله جل وعز له به . ذكر من قال ذلك : 11727 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا عوف ، عن أبي المغيرة ، عن عبد الله بن عمرو أنه قال : وايم الله ، إن كان المقتول لأشد الرجلين ، ولكن منعه التحرج أن يبسط إلى أخيه . 11728 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك " ، ما أنا بمنتصر ، ولأمسكن يدي عنك . [ ص: 214 ] وقال آخرون : لم يمنعه مما أراد من قتله ، وقال ما قال له مما قص الله في كتابه : [ إلا ] أن الله عز ذكره فرض عليهم أن لا يمتنع من أريد قتله ممن أراد ذلك منه . ذكر من قال ذلك : 11729 - حدثني الحارث قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا رجل سمع مجاهدا يقول في قوله : " لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك " ، قال مجاهد : كان كتب عليهم ، إذا أراد الرجل أن يقتل رجلا تركه ولا يمتنع منه . قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله عز ذكره قد كان حرم عليهم قتل نفس بغير نفس ظلما ، وأن المقتول قال لأخيه : " ما أنا بباسط يدي إليك إن بسطت إلي يدك " ، لأنه كان حراما عليه من قتل أخيه مثل الذي كان حراما على أخيه القاتل من قتله . فأما الامتناع من قتله حين أراد قتله فلا دلالة على أن القاتل حين أراد قتله وعزم عليه ، كان المقتول عالما بما هو عليه عازم منه ومحاول من قتله ، فترك دفعه عن نفسه . بل قد ذكر جماعة من أهل العلم أنه قتله غيلة ، اغتاله وهو نائم ، فشدخ رأسه بصخرة . فإذ كان ذلك ممكنا ، ولم يكن في الآية دلالة على أنه كان مأمورا بترك منع أخيه من قتله ، يكن جائزا ادعاء ما ليس في الآية ، إلا ببرهان يجب تسليمه . وأما تأويل قوله : " إني أخاف الله رب العالمين " فإنه : إني أخاف الله في بسط يدي إليك إن بسطتها لقتلك " رب العالمين " ، يعني : مالك الخلائق كلها أن يعاقبني على بسط يدي إليك . [ ص: 215 ] القول في تأويل قوله عز ذكره ( إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين ( 29 ) ) قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك . فقال بعضهم : معناه : إني أريد أن تبوء بإثمي من قتلك إياي ، وإثمك في معصيتك الله ، وغير ذلك من معاصيك . ذكر من قال ذلك : 11730 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في حديثه ، عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس وعن مرة ، عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك " ، يقول : إثم قتلي ، إلى إثمك الذي في عنقك" فتكون من أصحاب النار " . 11731 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك " ، يقول : بقتلك إياي ، وإثمك قبل ذلك . 11732 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك " ، قال : بإثم قتلي وإثمك . 11733 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك " يقول : إني أريد أن يكون عليك خطيئتك ودمي ، تبوء بهما جميعا . 11734 - حدثني الحارث قال : حدثنا عبد العزيز ، عن سفيان ، عن [ ص: 216 ] منصور ، عن مجاهد : " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك " ، يقول : إني أريد أن تبوء بقتلك إياي "وإثمك" ، قال : بما كان منك قبل ذلك . 11735 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال : حدثني عبيد بن سليمان ، عن الضحاك قوله : " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك " ، قال : أما "إثمك" ، فهو الإثم الذي عمل قبل قتل النفس يعني أخاه ، وأما "إثمه" ، فقتله أخاه . وكأن قائلي هذه المقالة وجهوا تأويل قوله : "إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك " ، إلى : إني أريد أن تبوء بإثم قتلي ، فحذف " القتل " ، واكتفى بذكر " الإثم " ، إذ كان مفهوما معناه عند المخاطبين به . وقال آخرون : معنى ذلك : إني أريد أن تبوء بخطيئتي ، فتتحمل وزرها ، وإثمك في قتلك إياي . وهذا قول وجدته عن مجاهد ، وأخشى أن يكون غلطا ، لأن الصحيح من الرواية عنه ما قد ذكرنا قبل . ذكر من قال ذلك : 11736 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك " ، يقول : إني أريد أن تكون عليك خطيئتي ودمي ، فتبوء بهما جميعا . قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن تأويله : إني أريد أن تنصرف بخطيئتك في قتلك إياي وذلك هو معنى قوله : " إني [ ص: 217 ] أريد أن تبوء بإثمي " وأما معنى : " وإثمك " فهو إثمه بغير قتله ، وذلك معصيته الله جل ثناؤه في أعمال سواه . وإنما قلنا ذلك هو الصواب ، لإجماع أهل التأويل عليه . لأن الله عز ذكره قد أخبرنا أن كل عامل فجزاء عمله له أو عليه . وإذا كان ذلك حكمه في خلقه ، فغير جائز أن يكون آثام المقتول مأخوذا بها القاتل ، وإنما يؤخذ القاتل بإثمه بالقتل المحرم وسائر آثام معاصيه التي ارتكبها بنفسه ، دون ما ركبه قتيله . فإن قال قائل : أو ليس قتل المقتول من بني آدم كان معصية لله من القاتل؟ قيل : بلى ، وأعظم بها معصية! فإن قال : فإذا كان لله جل وعز معصية ، فكيف جاز أن يريد ذلك منه المقتول ، ويقول : " إني أريد أن تبوء بإثمي " ، وقد ذكرت أن تأويل ذلك : إني أريد أن تبوء بإثم قتلي؟ [ قيل ] معناه : إني أريد أن تبوء بإثم قتلي إن قتلتني ، لأني لا أقتلك ، فإن أنت قتلتني ، فإني مريد أن تبوء بإثم معصيتك الله في قتلك إياي . وهو إذا قتله فهو لا محالة باء به في حكم الله ، فإرادته ذلك غير موجبة له الدخول في الخطإ . ويعني بقوله : " فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين " ، يقول : فتكون بقتلك إياي من سكان الجحيم ، ووقود النار المخلدين فيها " وذلك جزاء الظالمين " ، يقول : والنار ثواب التاركين طريق الحق ، الزائلين عن قصد [ ص: 218 ] السبيل ، المتعدين ما جعل لهم إلى ما لم يجعل لهم . وهذا يدل على أن الله عز ذكره قد كان أمر ونهى آدم بعد أن أهبطه إلى الأرض ، ووعد وأوعد . ولولا ذلك ما قال المقتول للقاتل : "فتكون من أصحاب النار" بقتلك إياي ، ولا أخبره أن ذلك جزاء الظالمين . فكان مجاهد يقول : علقت إحدى رجلي القاتل بساقها إلى فخذها من يومئذ إلى يوم القيامة ، ووجهه في الشمس حيثما دارت دار ، عليه في الصيف حظيرة من نار ، وعليه في الشتاء حظيرة من ثلج . 11737 - حدثنا بذلك القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج قال مجاهد ذلك قال : وقال عبد الله بن عمرو : وإنا لنجد ابن آدم القاتل يقاسم أهل النار قسمة صحيحة العذاب ، عليه شطر عذابهم . وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بنحو ما روي عن عبد الله بن عمرو ، خبر . 11738 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، وحدثنا سفيان قال : حدثنا جرير ، وأبو معاوية ح ، وحدثنا هناد قال : حدثنا أبو معاوية ، ووكيع جميعا ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرة ، عن مسروق ، عن عبد الله قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها ، ذلك بأنه أول من سن القتل . 11739 - حدثنا سفيان قال : حدثنا أبي ح ، وحدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن جميعا ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرة ، عن مسروق ، عن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، نحوه . [ ص: 219 ] 11740 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن حسن بن صالح ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن إبراهيم النخعي قال : ما من مقتول يقتل ظلما ، إلا كان على ابن آدم الأول والشيطان كفل منه . 11741 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن حكيم بن حكيم ، أنه حدث عن عبد الله بن عمرو : أنه كان يقول : إن أشقى الناس رجلا لابن آدم الذي قتل أخاه ، ما سفك دم في الأرض منذ قتل أخاه إلى يوم القيامة إلا لحق به منه شيء ، وذلك أنه أول من سن القتل . قال أبو جعفر : وهذا الخبر الذي ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مبين عن أن القول الذي قاله الحسن في ابني آدم اللذين ذكرهما الله في هذا الموضع أنهما ليسا بابني آدم لصلبه ، ولكنهما رجلان من بني إسرائيل وأن القول الذي حكي عنه أن أول من مات آدم ، وأن القربان الذي كانت [ ص: 220 ] النار تأكله لم يكن إلا في بني إسرائيل خطأ ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر عن هذا القاتل الذي قتل أخاه : أنه أول من سن القتل . وقد كان لا شك القتل قبل إسرائيل ، فكيف قبل ذريته؟! فخطأ من القول أن يقال : أول من سن القتل رجل من بني إسرائيل . وإذ كان ذلك كذلك ، فمعلوم أن الصحيح من القول هو قول من قال : "هو ابن آدم لصلبه" ، لأنه أول من سن القتل ، فأوجب الله له من العقوبة ما روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . ![]()
__________________
|
#548
|
||||
|
||||
![]() ![]() تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن الإمام محمد بن جرير الطبري الجزء العاشر تَفْسِيرِ سُّورَةِ المائدة الحلقة (548) صــ 221 إلى صــ 235 القول في تأويل قوله ( فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين ( 30 ) ) قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : "فطوعت" فآتته وساعدته عليه . وهو "فعلت" من "الطوع" ، من قول القائل : "طاعني هذا الأمر" ، إذا انقاد له . وقد اختلف أهل التأويل في تأويله . فقال بعضهم ، معناه : فشجعت له نفسه قتل أخيه . ذكر من قال ذلك : [ ص: 221 ] 11742 - حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي ، ومحمد بن حميد قالا : حدثنا حكام بن سلم ، عن عنبسة ، عن ابن أبي ليلى ، عن القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد : "فطوعت له نفسه" ، قال : شجعت . 11743 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "فطوعت له نفسه" قال : فشجعته . 11744 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "فطوعت له نفسه قتل أخيه" ، قال : شجعته على قتل أخيه . وقال آخرون : معنى ذلك : زينت له . ذكر من قال ذلك : 11745 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : "فطوعت له نفسه" ، قال : زينت له نفسه قتل أخيه فقتله . ثم اختلفوا في صفة قتله إياه ، كيف كانت؟ والسبب الذي من أجله قتله . فقال بعضهم : وجده نائما فشدخ رأسه بصخرة . ذكر من قال ذلك : 11746 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي فيما ذكر ، عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس [ ص: 222 ] وعن مرة ، عن عبد الله وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فطوعت له نفسه قتل أخيه " فطلبه ليقتله ، فراغ الغلام منه في رءوس الجبال . وأتاه يوما من الأيام وهو يرعى غنما له في جبل ، وهو نائم ، فرفع صخرة فشدخ بها رأسه ، فمات ، فتركه بالعراء . وقال بعضهم ما : - 11747 - حدثني محمد بن عمر بن علي قال : سمعت أشعث السجستاني يقول : سمعت ابن جريج قال : ابن آدم الذي قتل صاحبه لم يدر كيف يقتله ؟ فتمثل إبليس له في هيئة طير ، فأخذ طيرا فقطع رأسه ، ثم وضعه بين حجرين فشدخ رأسه ، فعلمه القتل . 11748 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قتله حيث يرعى الغنم ، فأتاه فجعل لا يدري كيف يقتله؟ فلوى برقبته وأخذ برأسه ، فنزل إبليس وأخذ دابة أو طيرا ، فوضع رأسه على حجر ، ثم أخذ حجرا آخر فرضخ به رأسه ، وابن آدم القاتل ينظر . فأخذ أخاه فوضع رأسه على حجر ، وأخذ حجرا آخر فرضخ به رأسه . 11749 - حدثني الحارث قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا رجل سمع مجاهدا يقول ، فذكر نحوه . 11750 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : لما أكلت النار قربان ابن آدم الذي تقبل قربانه ، قال الآخر لأخيه : أتمشي في الناس وقد علموا أنك قربت قربانا فتقبل منك ، ورد علي؟ والله لا تنظر الناس إلي وإليك وأنت خير [ ص: 223 ] مني! فقال : "لأقتلنك" ، فقال له أخوه : ما ذنبي؟" إنما يتقبل الله من المتقين " . فخوفه بالنار ، فلم ينته ولم ينزجر" فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين " . 11751 - حدثني القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : أخبرني عبد الله بن عثمان بن خثيم ، قال : أقبلت مع سعيد بن جبير أرمي الجمرة ، وهو متقنع متوكئ على يدي ، حتى إذا وازينا بمنزل سمرة الصواف ، وقف يحدثني عن ابن عباس قال : نهى أن ينكح المرأة أخوها تؤمها ، وينكحها غيره من إخوتها . وكان يولد في كل بطن رجل وامرأة . فولدت امرأة وسيمة ، وولدت امرأة دميمة قبيحة . فقال أخو الدميمة : أنكحني أختك وأنكحك أختي . قال : لا أنا أحق بأختي . فقربا قربانا ، فتقبل من صاحب الكبش ، ولم يتقبل من صاحب الزرع ، فقتله . فلم يزل ذلك الكبش محبوسا عند الله عز وجل حتى أخرجه في فداء إسحاق ، فذبحه على هذا الصفا في ثبير ، عند منزل سمرة الصواف ، وهو على يمينك حين ترمي الجمار قال ابن جريج ، وقال آخرون بمثل هذه القصة . قال : فلم يزل بنو آدم على ذلك حتى مضى أربعة آباء ، فنكح ابنة عمه ، وذهب نكاح الأخوات . قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله عز ذكره قد أخبر عن القاتل أنه قتل أخاه ، ولا خبر عندنا يقطع العذر بصفة قتله إياه . وجائز أن يكون على نحو ما قد ذكر السدي في خبره وجائز أن يكون كان على [ ص: 224 ] ما ذكره مجاهد ، والله أعلم أي ذلك كان . غير أن القتل قد كان لا شك فيه . وأما قوله : "فأصبح من الخاسرين" ، فإن تأويله : فأصبح القاتل أخاه من ابني آدم ، من حزب الخاسرين ، وهم الذين باعوا آخرتهم بدنياهم ، بإيثارهم إياها عليها ، فوكسوا في بيعهم ، وغبنوا فيه ، وخابوا في صفقتهم . القول في تأويل قوله عز ذكره ( فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين ( 31 ) ) قال أبو جعفر : وهذا أيضا أحد الأدلة على أن القول في أمر ابني آدم بخلاف ما رواه عمرو ، عن الحسن ، لأن الرجلين اللذين وصف الله صفتهما في هذه الآية ، لو كانا من بني إسرائيل لم يجهل القاتل دفن أخيه ومواراة سوأة أخيه ، ولكنهما كانا من ولد آدم لصلبه ، ولم يكن القاتل منهما أخاه علم سنة الله في عباده الموتى ، ولم يدر ما يصنع بأخيه المقتول . فذكر أنه كان يحمله على عاتقه حينا حتى أراحت جيفته ، فأحب الله تعريفه السنة في موتى خلقه ، فقيض له الغرابين اللذين وصف صفتهما في كتابه . [ ص: 225 ] ذكر الأخبار عن أهل التأويل بالذي كان من فعل القاتل من ابني آدم بأخيه المقتول ، بعد قتله إياه . 11752 - حدثنا سفيان بن وكيع قال : حدثنا يحيى بن أبي روق الهمداني ، عن أبيه ، عن الضحاك ، عن ابن عباس قال : مكث يحمل أخاه في جراب على رقبته سنة ، حتى بعث الله جل وعز الغرابين ، فرآهما يبحثان ، فقال : "أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب"؟ فدفن أخاه . 11753 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه " ، بعث الله جل وعز غرابا حيا ، إلى غراب ميت ، فجعل الغراب الحي يواري سوأة الغراب الميت ، فقال ابن آدم الذي قتل أخاه : " يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب " الآية . 11754 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي فيما ذكر ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن عبد الله ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : لما مات الغلام تركه بالعراء ، ولا يعلم كيف يدفن؟ فبعث الله جل وعز غرابين أخوين ، فاقتتلا ، فقتل أحدهما صاحبه ، فحفر له ، ثم حثا عليه . فلما رآه قال : " يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي " ، فهو قول الله : " فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه " . 11755 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "يبحث" ، قال : بعث الله غرابا حتى [ ص: 226 ] حفر لآخر إلى جنبه ميت ، وابن آدم القاتل ينظر إليه ، ثم بحث عليه حتى غيبه . 11756 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "غرابا يبحث في الأرض" ، حتى حفر لآخر ميت إلى جنبه ، فغيبه ، وابن آدم القاتل ينظر إليه ، حيث يبحث عليه حتى غيبه ، فقال : "يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب" ، الآية . 11757 - حدثني الحارث قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد قوله : " فبعث الله غرابا يبحث في الأرض " ، قال : بعث الله غرابا إلى غراب ، فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه ، فجعل يحثي عليه التراب ، فقال : " يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين " . 11758 - حدثني المثنى قال : حدثني عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : " فبعث الله غرابا يبحث في الأرض " ، قال : جاء غراب إلى غراب ميت ، فحثى عليه من التراب حتى واراه ، فقال الذي قتل أخاه : " يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب " ، الآية . 11759 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية قال : لما قتله ندم ، فضمه إليه حتى أروح ، وعكفت عليه الطير والسباع تنتظر : متى يرمي به فتأكله ؟ . 11760 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة [ ص: 227 ] قوله : " فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه " ، أنه بعثه الله عز ذكره يبحث في الأرض ، ذكر لنا أنهما غرابان اقتتلا فقتل أحدهما صاحبه ، وذلك يعني ابن آدم ينظر ، وجعل الحي يحثي على الميت التراب ، فعند ذلك قال ما قال : " يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب " الآية ، إلى قوله : "من النادمين" . 11761 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة قال : أما قوله : " فبعث الله غرابا " ، قال : قتل غراب غرابا ، فجعل يحثو عليه ، فقال ابن آدم الذي قتل أخاه حين رآه : " يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين " . 11762 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد في قوله : " فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه " ، قال : وارى الغراب الغراب . قال : كان يحمله على عاتقه مائة سنة لا يدري ما يصنع به ، يحمله ويضعه إلى الأرض ، حتى رأى الغراب يدفن الغراب ، فقال : " يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين " . 11763 - حدثني المثنى قال : حدثنا معلى بن أسد قال : حدثنا خالد ، عن حصين ، عن أبي مالك في قول الله : " يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب " ، قال : بعث الله عز وجل غرابا ، فجعل يبحث على غراب ميت التراب . قال : فقال عند ذلك : " أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين " . 11764 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ قال : أخبرنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " فبعث الله غرابا يبحث في الأرض " ، بعث الله غرابا حيا إلى غراب ميت ، فجعل الغراب الحي يواري سوأة الغراب الميت ، فقال ابن آدم الذي قتل أخاه : " يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب " ، الآية . [ ص: 228 ] 11765 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، فيما يذكر عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول ، قال : لما قتله سقط في يديه ، ولم يدر كيف يواريه . وذلك أنه كان ، فيما يزعمون أول قتيل من بني آدم وأول ميت [ قال ] : " يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي " الآية [ إلى قوله : " ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون " ، قال ] : ويزعم أهل التوراة أن قابيل حين قتل أخاه هابيل قال له جل ثناؤه : يا قابيل ، أين أخوك هابيل؟ قال : ما أدري ، ما كنت عليه رقيبا! فقال الله جل وعز له : إن صوت دم أخيك ليناديني من الأرض ، الآن أنت ملعون من الأرض التي فتحت فاها فبلعت دم أخيك من يدك . فإذا أنت عملت في الأرض ، فإنها لا تعود تعطيك حرثها حتى تكون فزعا تائها في الأرض . قال قابيل : عظمت خطيئتي من أن تغفرها! قد أخرجتني اليوم عن وجه الأرض ، وأتوارى من قدامك ، وأكون فزعا تائها في الأرض ، وكل من لقيني قتلني! فقال الله جل وعز : ليس ذلك كذلك ، ولا يكون كل من قتل قتيلا يجزى بواحد سبعة ، ولكن من قتل قابيل يجزى سبعة ، وجعل الله في قابيل آية لئلا يقتله كل من وجده ، وخرج قابيل من قدام الله عز وجل من شرقي عدن الجنة . [ ص: 229 ] 11766 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا جابر بن نوح قال : حدثنا الأعمش ، عن خيثمة قال : لما قتل ابن آدم أخاه نشفت الأرض دمه ، فلعنت فلم تنشف الأرض دما بعد . قال أبو جعفر : فتأويل الكلام : فأثار الله للقاتل - إذ لم يدر ما يصنع بأخيه المقتول - " غرابا يبحث في الأرض " ، يقول : يحفر في الأرض ، فيثير ترابها "ليريه كيف يواري سوأة أخيه " ، يقول : ليريه كيف يواري جيفة أخيه . وقد يحتمل أن يكون عني ب " السوأة " ، الفرج ، غير أن الأغلب من معناه ما ذكرت من الجيفة ، بذلك جاء تأويل أهل التأويل . قال أبو جعفر : وفي ذلك محذوف ترك ذكره استغناء بدلالة ما ذكر منه ، وهو : " فأراه بأن بحث في الأرض لغراب آخر ميت فواراه فيها " ، فقال القاتل أخاه حينئذ : " يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب " ، الذي وارى الغراب الآخر الميت " فأواري سوأة أخي " ، فواراه حينئذ " فأصبح من النادمين " ، على ما فرط منه من معصية الله عز ذكره في قتله أخاه . وكل ما ذكر الله عز وجل في هذه الآيات مثل ضربه الله عز ذكره لبني آدم ، وحرض به المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على استعمال العفو والصفح عن اليهود - الذين كانوا هموا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم وقتلهم - من بني النضير ، إذ أتوهم يستعينونهم في دية قتيلي عمرو بن أمية الضمري ، [ ص: 230 ] وعرفهم جل وعز رداءة سجية أوائلهم ، وسوء استقامتهم على منهج الحق ، مع كثرة أياديه وآلائه عندهم . وضرب مثلهم في غدرهم ، ومثل المؤمنين في الوفاء لهم والعفو عنهم ، بابني آدم المقربين قرابينهما ، اللذين ذكرهما الله في هذه الآيات . ثم ذلك مثل لهم على التأسي بالفاضل منهما دون الطالح . وبذلك جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . 11767 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه قال : قلت لبكر بن عبد الله ، أما بلغك أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله جل وعز ضرب لكم ابني آدم مثلا فخذوا خيرهما ودعوا شرهما " ؟ قال : بلى . 11768 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن ابني آدم ضربا مثلا لهذه الأمة ، فخذوا بالخير منهما . 11769 - حدثنا المثنى قال : حدثنا سويد بن نصر قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن عاصم الأحول ، عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله ضرب لكم ابني آدم مثلا فخذوا من خيرهم ودعوا الشر . [ ص: 231 ] القول في تأويل قوله عز ذكره ( من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ) قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : "من أجل ذلك" ، من جر ذلك وجريرته وجنايته . يقول : من جر القاتل أخاه من ابني آدم اللذين اقتصصنا قصتهما الجريرة التي جرها ، وجنايته التي جناها "كتبنا على بني إسرائيل" . يقال منه : "أجلت هذا الأمر" ، أي : جررته إليه وكسبته ، "آجله له أجلا" ، كقولك : "أخذته أخذا" ، ومن ذلك قول الشاعر : وأهل خباء صالح ذات بينهم قد احتربوا في عاجل أنا آجله [ ص: 232 ] يعني بقوله : "أنا آجله" ، أنا الجار ذلك عليه والجاني . فمعنى الكلام : من جناية ابن آدم القاتل أخاه ظلما ، حكمنا على بني إسرائيل أنه من قتل منهم نفسا ظلما ، بغير نفس قتلت ، فقتل بها قصاصا ، " أو فساد في الأرض " ، يقول : أو قتل منهم نفسا بغير فساد كان منها في الأرض ، فاستحقت بذلك قتلها . وفسادها في الأرض إنما يكون بالحرب لله ولرسوله ، وإخافة السبيل . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل : ذكر من قال ذلك : 11770 - حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ قال : حدثني عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل " ، يقول : من أجل ابن آدم الذي قتل أخاه ظلما . ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله جل ثناؤه : " من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " . فقال بعضهم : معنى ذلك : ومن قتل نبيا أو إمام عدل ، فكأنما قتل الناس جميعا ، ومن شد على عضد نبي أو إمام عدل ، فكأنما أحيا الناس جميعا . ذكر من قال ذلك : 11771 - حدثنا أبو عمار الحسين بن حريث المروزي قال : حدثنا الفضل [ ص: 233 ] بن موسى ، عن الحسين بن واقد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : " من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " ، قال : من شد على عضد نبي أو إمام عدل فكأنما أحيا الناس جميعا ، ومن قتل نبيا أو إمام عدل ، فكأنما قتل الناس جميعا . 11772 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله : " من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا " ، يقول : من قتل نفسا واحدة حرمتها ، فهو مثل من قتل الناس جميعا ، " ومن أحياها " ، يقول : من ترك قتل نفس واحدة حرمتها مخافتي ، واستحياها أن يقتلها ، فهو مثل استحياء الناس جميعا يعني بذلك الأنبياء . وقال آخرون : "من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا " ، عند المقتول في الإثم " ومن أحياها " ، فاستنقذها من هلكة " فكأنما أحيا الناس جميعا " ، عند المستنقذ . ذكر من قال ذلك : 11773 - حدثني محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، فيما ذكر عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن عبد الله ، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله : " من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل [ ص: 234 ] الناس جميعا " ، عند المقتول ، يقول : في الإثم " ومن أحياها " ، فاستنقذها من هلكة " فكأنما أحيا الناس جميعا " ، عند المستنقذ . وقال آخرون : معنى ذلك : إن قاتل النفس المحرم قتلها ، يصلى النار كما يصلاها لو قتل الناس جميعا "ومن أحياها" ، من سلم من قتلها ، فقد سلم من قتل الناس جميعا . ذكر من قال ذلك : 11774 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن خصيف ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : " من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " ، قال : من كف عن قتلها فقد أحياها "ومن قتل نفسا بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعا " ، قال : ومن أوبقها . 11775 - حدثني الحارث قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا سفيان ، عن خصيف ، عن مجاهد قال : من أوبق نفسا فكما لو قتل الناس جميعا ، ومن أحياها وسلم من ظلمها فلم يقتلها ، فقد سلم من قتل الناس جميعا . 11776 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن شريك ، عن خصيف ، عن مجاهد : "فكأنما قتل الناس جميعا ، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " ، لم يقتلها ، وقد سلم منه الناس جميعا ، لم يقتل أحدا . 11777 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن الأوزاعي قال : أخبرنا عبدة بن أبي لبابة قال : سألت مجاهدا أو : سمعته يسأل عن قوله : " من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا " ، قال : لو قتل الناس جميعا ، كان جزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب [ ص: 235 ] الله عليه ولعنه ، وأعد له عذابا عظيما . 11778 - حدثني المثنى قال : حدثنا ، سويد قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن ابن جريج قراءة ، عن الأعرج ، عن مجاهد في قوله : " فكأنما قتل الناس جميعا " ، قال : الذي يقتل النفس المؤمنة متعمدا ، جعل الله جزاءه جهنم ، وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما . يقول : لو قتل الناس جميعا لم يزد على مثل ذلك من العذاب قال ابن جريج ، قال مجاهد : " ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " قال : من لم يقتل أحدا ، فقد استراح الناس منه . 11779 - حدثنا سفيان قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن مجاهد قال : أوبق نفسه . 11780 - حدثنا سفيان قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد قال : في الإثم . 11780 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد : " من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا " ، وقوله : ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم ) [ سورة النساء : 93 ] قال : يصير إلى جهنم بقتل المؤمن ، كما أنه لو قتل الناس جميعا لصار إلى جهنم . ![]()
__________________
|
#549
|
||||
|
||||
![]() ![]() تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن الإمام محمد بن جرير الطبري الجزء العاشر تَفْسِيرِ سُّورَةِ المائدة الحلقة (549) صــ 236 إلى صــ 255 11781 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : " من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا " قال : هو كما قال ، وقال : " ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " ، فإحياؤها : لا يقتل نفسا حرمها الله ، فذلك الذي أحيا الناس جميعا ، يعني : أنه من حرم قتلها إلا بحق ، حيي الناس منه جميعا . [ ص: 236 ] 11782 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن العلاء بن عبد الكريم ، عن مجاهد : "ومن أحياها" ، قال : ومن حرمها فلم يقتلها . 11783 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن العلاء قال : سمعت مجاهدا يقول : " من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " ، قال : من كف عن قتلها فقد أحياها . 11784 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : " فكأنما قتل الناس جميعا " قال : هي كالتي في" النساء " : ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم ) [ سورة النساء : 93 ] ، في جزائه . 11785 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " فكأنما قتل الناس جميعا " كالتي في" سورة النساء " ، ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا ) في جزائه " ومن أحياها " ، ولم يقتل أحدا ، فقد حيي الناس منه . 11786 - حدثنا هناد قال : حدثنا أبو معاوية ، عن العلاء بن عبد الكريم ، عن مجاهد في قوله ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " ، قال : التفت إلى جلسائه فقال : هو هذا وهذا . وقال آخرون : معنى ذلك : ومن قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ، لأنه يجب عليه من القصاص به والقود بقتله مثل الذي يجب عليه من القود والقصاص لو قتل الناس جميعا . ذكر من قال ذلك : [ ص: 237 ] 11787 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا " ، قال : يجب عليه من القتل مثل لو أنه قتل الناس جميعا . قال : كان أبي يقول ذلك . وقال آخرون معنى قوله : "ومن أحياها" : من عفا عمن وجب له القصاص منه فلم يقتله . ذكر من قال ذلك : 11788 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " ، يقول : من أحياها أعطاه الله جل وعز من الأجر مثل لو أنه أحيا الناس جميعا " أحياها " فلم يقتلها وعفا عنها . قال : وذلك ولي القتيل ، والقتيل نفسه يعفو عنه قبل أن يموت . قال : كان أبي يقول ذلك : 11789 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا مؤمل قال : حدثنا سفيان ، عن يونس ، عن الحسن في قوله : " ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " ، قال : من عفا . 11790 - حدثنا سفيان قال : حدثنا عبد الأعلى ، عن يونس ، عن الحسن : " ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " ، قال : من قتل حميم له فعفا عن دمه . 11791 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن سفيان ، عن يونس ، عن الحسن . " ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " ، قال : العفو بعد القدرة . [ ص: 238 ] وقال آخرون : معنى قوله : " ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " ، ومن أنجاها من غرق أو حرق . ذكر من قال ذلك : 11792 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد : " ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " قال : من أنجاها من غرق ، أو حرق ، أو هلكة . 11793 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، وحدثنا هناد قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد : " ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " ، قال : من غرق ، أو حرق ، أو هدم . 11794 - حدثني الحارث قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا إسرائيل عن خصيف ، عن مجاهد : "ومن أحياها" ، قال : أنجاها . وقال الضحاك بما : - 11795 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن أبي عامر ، عن الضحاك قال : "من قتل نفسا بغير نفس" ، قال : من تورع أو لم يتورع . 11796 - حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ قال : حدثني عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " فكأنما أحيا الناس جميعا " ، يقول : لو لم يقتله لكان قد أحيا الناس ، فلم يستحل محرما . [ ص: 239 ] وقال قتادة ، والحسن في ذلك بما : - 11797 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا عبد الأعلى ، عن يونس ، عن الحسن : " من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض " ، قال : عظم ذلك . 11798 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس " الآية ، من قتلها على غير نفس ولا فساد أفسدته" فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " عظم والله أجرها ، وعظم وزرها! فأحيها يا ابن آدم بما لك ، وأحيها بعفوك إن استطعت ، ولا قوة إلا بالله . وإنا لا نعلمه يحل دم رجل مسلم من أهل هذه القبلة إلا بإحدى ثلاث : رجل كفر بعد إسلامه ، فعليه القتل أو زنى بعد إحصانه ، فعليه الرجم أو قتل متعمدا ، فعليه القود . 11799 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : تلا قتادة : " من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " قال : عظم والله أجرها ، وعظم والله وزرها! 11800 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن سلام بن مسكين قال : حدثني سليمان بن علي الربعي قال : قلت للحسن : " من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس " الآية ، أهي لنا يا أبا سعيد ، كما كانت لبني إسرائيل؟ فقال : إي والذي لا إله غيره ، كما كانت لبني إسرائيل! وما جعل دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا؟ 11801 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد بن نصر قال : أخبرنا ابن [ ص: 240 ] المبارك ، عن سعيد بن زيد قال : سمعت خالدا أبا الفضل قال : سمعت الحسن تلا هذه الآية : " فطوعت له نفسه قتل أخيه " إلى قوله : " ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " ، ثم قال : عظم والله في الوزر كما تسمعون ، ورغب والله في الأجر كما تسمعون! إذا ظننت يا ابن آدم ، أنك لو قتلت الناس جميعا ، فإن لك من عملك ما تفوز به من النار ، كذبتك والله نفسك ، وكذبك الشيطان . 11802 - حدثنا هناد قال : حدثنا ابن فضيل ، عن عاصم ، عن الحسن في قوله : " فكأنما قتل الناس جميعا " قال : وزرا " ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " قال : أجرا . قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال : تأويل [ ص: 241 ] ذلك : أنه من قتل نفسا مؤمنة بغير نفس قتلتها فاستحقت القود بها والقتل قصاصا أو بغير فساد في الأرض ، بحرب الله ورسوله وحرب المؤمنين فيها فكأنما قتل الناس جميعا فيما استوجب من عظيم العقوبة من الله جل ثناؤه ، كما أوعده ذلك من فعله ربه بقوله : ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما ) [ سورة النساء : 93 ] . وأما قوله : " ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " فأولى التأويلات به قول من قال : من حرم قتل من حرم الله عز ذكره قتله على نفسه ، فلم يتقدم على قتله ، فقد حيى الناس منه بسلامتهم منه ، وذلك إحياؤه إياها . وذلك نظير خبر الله عز ذكره عمن حاج إبراهيم في ربه إذ قال له إبراهيم : ( 8 ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت ) [ سورة البقرة : 258 ] . فكان معنى الكافر في قيله : "أنا أحيي" ، أنا أترك من قدرت على قتله - وفي قوله : " وأميت " ، قتله من قتله . فكذلك معنى" الإحياء " ، في قوله : " ومن أحياها " ، من سلم الناس من قتله إياهم ، إلا فيما أذن الله في قتله منهم " فكأنما أحيا الناس جميعا " . وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات بتأويل الآية ، لأنه لا نفس يقوم قتلها في عاجل الضر مقام قتل جميع النفوس ، ولا إحياؤها مقام إحياء جميع النفوس في عاجل النفع . فكان معلوما بذلك أن معنى" الإحياء " : سلامة جميع النفوس منه ، لأنه من لم يتقدم على نفس واحدة ، فقد سلم منه جميع النفوس - وأن الواحدة منها التي يقوم قتلها مقام جميعها إنما هو في الوزر ، لأنه لا نفس من نفوس بني آدم يقوم فقدها مقام فقد جميعها ، وإن كان فقد بعضها أعم ضررا من فقد بعض . [ ص: 242 ] القول في تأويل قوله عز ذكره ( ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون ( 32 ) ) قال أبو جعفر : وهذا قسم من الله جل ثناؤه أقسم به : أن رسله صلوات الله عليهم قد أتت بني إسرائيل الذين قص الله قصصهم وذكر نبأهم في الآيات التي تقدمت ، من قوله : " يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم " إلى هذا الموضع "بالبينات " ، يعني : بالآيات الواضحة ، والحجج البينة على حقيقة ما أرسلوا به إليهم ، وصحة ما دعوهم إليه من الإيمان بهم ، وأداء فرائض الله عليهم . يقول الله عز ذكره : " ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون " ، يعني : أن كثيرا من بني إسرائيل . و" الهاء والميم " في قوله : " ثم إن كثيرا منهم " ، من ذكر بني إسرائيل ، وكذلك ذلك في قوله : " ولقد جاءتهم " . " بعد ذلك " ، يعني : بعد مجيء رسل الله بالبينات . " في الأرض لمسرفون " ، يعني : أنهم في الأرض لعاملون بمعاصي الله ، ومخالفون أمر الله ونهيه ، ومحادو الله ورسله ، باتباعهم أهواءهم . وخلافهم على أنبيائهم ، وذلك كان إسرافهم في الأرض . [ ص: 243 ] القول في تأويل قوله عز ذكره ( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا ) قال أبو جعفر : وهذا بيان من الله عز ذكره عن حكم " الفساد في الأرض " ، الذي ذكره في قوله : " من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض " أعلم عباده : ما الذي يستحق المفسد في الأرض من العقوبة والنكال ، فقال تبارك وتعالى : لا جزاء له في الدنيا إلا القتل ، والصلب ، وقطع اليد والرجل من خلاف ، أو النفي من الأرض ، خزيا لهم . وأما في الآخرة إن لم يتب في الدنيا ، فعذاب عظيم . ثم اختلف أهل التأويل فيمن نزلت هذه الآية . فقال بعضهم : نزلت في قوم من أهل الكتاب كانوا أهل موادعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنقضوا العهد ، وأفسدوا في الأرض ، فعرف الله نبيه صلى الله عليه وسلم الحكم فيهم . ذكر من قال ذلك : 11803 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا " ، قال : كان قوم من أهل الكتاب بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد وميثاق ، فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض ، فخير الله رسوله : إن شاء أن يقتل ، وإن شاء أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف . 11804 - حدثني المثنى قال : حدثنا عمرو بن عون قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك قال : كان قوم بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ميثاق ، فنقضوا العهد وقطعوا السبيل ، وأفسدوا في الأرض ، فخير الله جل [ ص: 244 ] وعز نبيه صلى الله عليه وسلم فيهم ، فإن شاء قتل ، وإن شاء صلب ، وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف . 11805 - حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ قال : حدثني عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول ، فذكر نحوه . وقال آخرون : نزلت في قوم من المشركين . ذكر من قال ذلك : 11806 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا يحيى بن واضح قال : حدثنا الحسين بن واقد ، عن يزيد ، عن عكرمة ، والحسن البصري قالا قال : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " إلى " أن الله غفور رحيم " ، نزلت هذه الآية في المشركين ، فمن تاب منهم من قبل أن تقدروا عليه لم يكن عليه سبيل . وليست تحرز هذه الآية الرجل المسلم من الحد . إن قتل أو أفسد في الأرض أو حارب الله ورسوله ، ثم لحق بالكفار قبل أن يقدر عليه ، لم يمنعه ذلك أن يقام فيه الحد الذي أصاب . 11807 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن أشعث ، عن الحسن : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " ، قال : نزلت في أهل الشرك . وقال آخرون : بل نزلت في قوم من عرينة وعكل ، ارتدوا عن الإسلام ، وحاربوا الله ورسوله . [ ذكر من قال ذلك ] : 11808 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا روح بن عبادة قال : حدثنا سعيد [ ص: 245 ] بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن أنس : أن رهطا من عكل ، وعرينة ، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ، إنا أهل ضرع ، ولم نكن أهل ريف ، وإنا استوخمنا المدينة ، فأمر لهم النبي صلى الله عليه وسلم بذود وراع ، وأمرهم أن يخرجوا فيها فيشربوا من ألبانها وأبوالها ، فقتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واستاقوا الذود ، وكفروا بعد إسلامهم . فأتي بهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فقطع أيديهم وأرجلهم ، وسمل أعينهم ، وتركهم في الحرة حتى ماتوا فذكر لنا أن هذه الآية نزلت فيهم : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " . 11809 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا روح قال : حدثنا هشام بن أبي عبد الله ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بمثل هذه القصة . 11810 - حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال : سمعت أبي يقول : [ ص: 246 ] أخبرنا أبو حمزة ، عن عبد الكريم ، وسئل عن أبوال الإبل فقال : حدثني سعيد بن جبير ، عن المحاربين فقال : كان ناس أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : نبايعك على الإسلام ! فبايعوه وهم كذبة ، وليس الإسلام يريدون . ثم قالوا : إنا نجتوي المدينة ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "هذه اللقاح تغدو عليكم وتروح ، فاشربوا من أبوالها ، وألبانها . قال : فبينا هم كذلك ، إذ جاء الصريخ ، فصرخ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : قتلوا الراعي ، وساقوا النعم! فأمر نبي الله فنودي في الناس : أن " يا خيل الله اركبي " ! قال : فركبوا ، لا ينتظر فارس فارسا . قال : فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أثرهم ، فلم يزالوا يطلبونهم حتى أدخلوهم مأمنهم ، فرجع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أسروا منهم ، فأتوا بهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " الآية . قال : فكان نفيهم : أن نفوهم حتى أدخلوهم مأمنهم وأرضهم ، ونفوهم من أرض المسلمين . وقتل نبي الله منهم ، وصلب وقطع ، وسمل الأعين . قال : فما مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ولا بعد . قال : ونهى عن المثلة ، وقال : لا تمثلوا بشيء . قال : فكان أنس بن مالك يقول ذلك ، غير أنه قال : أحرقهم بالنار بعد ما قتلهم . [ ص: 247 ] قال : وبعضهم يقول : هم ناس من بني سليم ، ومنهم من عرينة ، وناس من بجيلة [ ذكر من قال ذلك ] : 11811 - حدثني محمد بن خلف قال : حدثنا الحسن بن حماد ، عن عمرو بن هاشم ، عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن إبراهيم ، عن جرير قال : قدم على النبي صلى الله عليه وسلم قوم من عرينة ، حفاة مضرورين ، فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما صحوا واشتدوا ، قتلوا رعاء اللقاح ، ثم خرجوا باللقاح عامدين بها إلى أرض قومهم . قال جرير : فبعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من المسلمين حتى أدركناهم بعد ما أشرفوا على بلاد قومهم ، فقدمنا بهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وسمل أعينهم ، وجعلوا يقولون : "الماء"! ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "النار"! حتى هلكوا . قال : وكره الله عز وجل سمل الأعين ، فأنزل هذه الآية : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " إلى آخر الآية . [ ص: 248 ] 11812 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني ابن لهيعة ، عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن ، عن عروة بن الزبير ح ، وحدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني يحيى بن عبد الله بن سالم ، وسعيد بن عبد الرحمن ، وابن سمعان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه قال : أغار ناس من عرينة على لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاستاقوها وقتلوا غلاما له فيها ، فبعث في آثارهم ، فأخذوا ، فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم . [ ص: 249 ] 11813 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني عمرو بن الحارث ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن أبي الزناد ، عن عبد الله بن عبيد الله ، عن عبد الله بن عمر أو : عمرو ، شك يونس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ، ونزلت فيهم آية المحاربة . 11814 - حدثنا علي بن سهل قال : حدثنا الوليد بن مسلم قال : حدثنا الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي قلابة ، عن أنس قال : قدم ثمانية نفر من عكل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأسلموا ، ثم اجتووا المدينة ، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها . [ ص: 250 ] ففعلوا ، فقتلوا رعاتها ، واستاقوا الإبل . فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثرهم قافة ، فأتي بهم ، فقطع أيديهم وأرجلهم ، وتركهم فلم يحسمهم حتى ماتوا . 11815 - حدثنا علي قال : حدثنا الوليد قال : حدثني سعيد ، عن قتادة ، عن أنس قال : كانوا أربعة نفر من عرينة ، وثلاثة من عكل . فلما أتي بهم ، قطع أيديهم وأرجلهم ، وسمل أعينهم ، ولم يحسمهم ، وتركهم يتلقمون الحجارة بالحرة ، فأنزل الله جل وعز في ذلك : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " ، الآية . 11816 - حدثني علي قال : حدثنا الوليد ، عن ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب : أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس يسأله عن هذه الآية ، فكتب إليه أنس يخبره أن هذه الآية نزلت في أولئك النفر العرنيين ، وهم من بجيلة . قال أنس : فارتدوا عن الإسلام ، وقتلوا الراعي ، واستاقوا الإبل ، وأخافوا السبيل ، وأصابوا الفرج الحرام . [ ص: 251 ] 11817 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا" ، قال : أنزلت في سودان عرينة . قال : أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبهم الماء الأصفر ، فشكوا ذلك إليه ، فأمرهم فخرجوا إلى إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصدقة ، فقال : اشربوا من ألبانها وأبوالها! فشربوا من ألبانها وأبوالها ، حتى إذا صحوا وبرءوا ، قتلوا الرعاة واستاقوا الإبل . قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك عندي أن يقال : أنزل الله هذه الآية على نبيه صلى الله عليه وسلم ، معرفه حكمه على من حارب الله ورسوله ، وسعى في الأرض فسادا ، بعد الذي كان من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرنيين ما فعل . وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصواب في ذلك ، لأن القصص التي قصها الله جل وعز قبل هذه الآية وبعدها ، من قصص بني إسرائيل وأنبائهم ، فأن يكون ذلك متوسطا ، من تعريف الحكم فيهم وفي نظرائهم ، أولى وأحق . وقلنا : كان نزول ذلك بعد الذي كان من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرنيين ما فعل ، لتظاهر الأخبار عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك . وإذ كان ذلك أولى بالآية لما وصفنا ، فتأويلها : من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس ، أو سعى بفساد في الأرض ، فكأنما قتل الناس جميعا ، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون [ ص: 252 ] - يقول : لساعون في الأرض بالفساد ، وقاتلوا النفوس بغير نفس ، وغير سعي في الأرض بالفساد حربا لله ولرسوله فمن فعل ذلك منهم ، يا محمد ، فإنما جزاؤه : أن يقتلوا ، أو يصلبوا ، أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، أو ينفوا من الأرض . فإن قال لنا قائل : وكيف يجوز أن تكون الآية نزلت في الحال التي ذكرت : من حال نقض كافر من بني إسرائيل عهده ومن قولك إن حكم هذه الآية حكم من الله في أهل الإسلام ، دون أهل الحرب من المشركين؟ قيل : جاز أن يكون ذلك كذلك ، لأن حكم من حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا من أهل ذمتنا وملتنا واحد . والذين عنوا بالآية كانوا أهل عهد وذمة ، وإن كان داخلا في حكمها كل ذمي وملي ، وليس يبطل بدخول من دخل في حكم الآية من الناس ، أن يكون صحيحا نزولها فيمن نزلت فيه . وقد اختلف أهل العلم في نسخ حكم النبي صلى الله عليه وسلم في العرنيين . فقال بعضهم : ذلك حكم منسوخ ، نسخه نهيه عن المثلة بهذه الآية أعني بقوله : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا " الآية . وقالوا : أنزلت هذه الآية عتابا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما فعل بالعرنيين . وقال بعضهم : بل فعل النبي صلى الله عليه وسلم بالعرنيين ، حكم ثابت في نظرائهم أبدا ، لم ينسخ ولم يبدل . وقوله : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " الآية ، حكم من الله فيمن حارب وسعى في الأرض فسادا بالحرابة . قالوا : [ ص: 253 ] والعرنيون ارتدوا ، وقتلوا ، وسرقوا ، وحاربوا الله ورسوله ، فحكمهم غير حكم المحارب الساعي في الأرض بالفساد من أهل الإسلام أو الذمة . وقال آخرون : لم يسمل النبي صلى الله عليه وسلم أعين العرنيين ، ولكنه كان أراد أن يسمل ، فأنزل الله جل وعز هذه الآية على نبيه ، يعرفه الحكم فيهم ، ونهاه عن سمل أعينهم . ذكر القائلين ما وصفنا : 11818 - حدثني علي بن سهل قال : حدثنا الوليد بن مسلم قال : ذاكرت الليث بن سعد ما كان من سمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعينهم ، وتركه حسمهم حتى ماتوا ، فقال : سمعت محمد بن عجلان يقول : أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم معاتبة في ذلك ، وعلمه عقوبة مثلهم : من القطع والقتل والنفي ، ولم يسمل بعدهم غيرهم . قال : وكان هذا القول ذكر لأبي عمرو ، فأنكر أن تكون نزلت معاتبة ، وقال : بلى ، كانت عقوبة أولئك النفر بأعيانهم ، ثم نزلت هذه الآية في عقوبة غيرهم ممن حارب بعدهم ، فرفع عنهم السمل . 11819 - حدثني محمد بن الحسين قال : حدثني أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتي بهم يعني العرنيين فأراد أن يسمل أعينهم ، فنهاه الله عن ذلك ، وأمره أن يقيم فيهم الحدود ، كما أنزلها الله عليه . [ ص: 254 ] واختلف أهل العلم في المستحق اسم "المحارب لله ورسوله" ، الذي يلزمه حكم هذه . فقال بعضهم : هو اللص الذي يقطع الطريق . ذكر من قال ذلك : 11820 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة وعطاء الخراساني في قوله : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا " الآية ، قالا : هذا اللص الذي يقطع الطريق ، فهو محارب . وقال آخرون : هو اللص المجاهر بلصوصيته ، المكابر في المصر وغيره . وممن قال ذلك الأوزاعي . 11821 - حدثنا بذلك العباس ، عن أبيه ، عنه . وعنه ، وعن مالك ، والليث بن سعد ، وابن لهيعة . [ ص: 255 ] 11822 - حدثني علي بن سهل قال : حدثنا الوليد بن مسلم قال : قلت لمالك بن أنس : تكون محاربة في المصر؟ قال : نعم ، والمحارب عندنا من حمل السلاح على المسلمين في مصر أو خلاء ، فكان ذلك منه على غير نائرة كانت بينهم ، ولا ذحل ، ولا عداوة ، قاطعا للسبيل ، والطريق ، والديار ، مخيفا لهم بسلاحه ، فقتل أحدا منهم ، قتله الإمام كقتلة المحارب ، ليس لولي المقتول فيه عفو ولا قود . 11823 - حدثني علي قال : حدثنا الوليد قال : وسألت عن ذلك الليث بن سعد ، وابن لهيعة ، قلت تكون المحاربة في دور المصر ، والمدائن ، والقرى ؟ فقالا : نعم ، إذا هم دخلوا عليهم بالسيوف علانية ، أو ليلا بالنيران . قلت : فقتلوا ، أو أخذوا المال ، ولم يقتلوا ؟ فقال : نعم هم المحاربون ، فإن قتلوا قتلوا ، وإن لم يقتلوا وأخذوا المال ، قطعوا من خلاف إذا هم خرجوا به من الدار ، ليس من حارب المسلمين في الخلاء والسبيل بأعظم محاربة ممن حاربهم في حريمهم ، ودورهم ! 11824 - حدثني علي قال : حدثنا الوليد قال : قال أبو عمرو : وتكون المحاربة في المصر شهر على أهله بسلاحه ليلا أو نهارا قال علي ، قال الوليد : وأخبرني مالك : أن قتل الغيلة عنده بمنزلة المحاربة . قلت : وما قتل الغيلة؟ قال : هو الرجل يخدع الرجل والصبي ، فيدخله بيتا أو يخلو به ، فيقتله ، ويأخذ ماله . فالإمام ولي قتل هذا ، وليس لولي الدم والجرح قود ولا قصاص . ![]()
__________________
|
#550
|
||||
|
||||
![]() ![]() تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن الإمام محمد بن جرير الطبري الجزء العاشر تَفْسِيرِ سُّورَةِ المائدة الحلقة (550) صــ 256 إلى صــ 270 وهو قول الشافعي . 11825 - حدثنا بذلك عنه الربيع . [ ص: 256 ] وقال آخرون : " المحارب " ، هو قاطع الطريق . فأما " المكابر في الأمصار" ، فليس بالمحارب الذي له حكم المحاربين . وممن قال ذلك أبو حنيفة وأصحابه . 11826 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا بشر بن المفضل ، عن داود بن أبي هند ، قال : تذاكرنا المحارب ونحن عند ابن هبيرة ، في أناس من أهل البصرة ، فاجتمع رأيهم : أن المحارب ما كان خارجا من المصر . وقال مجاهد بما : - 11827 - حدثني القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد في قوله : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا " قال : الزنا ، والسرقة ، وقتل الناس ، وإهلاك الحرث والنسل . 11828 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد : " ويسعون في الأرض فسادا " قال : " الفساد " القتل ، والزنا ، والسرقة . وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال : " المحارب لله ورسوله " من حارب في سابلة المسلمين وذمتهم ، والمغير عليهم في أمصارهم وقراهم حرابة . وإنما قلنا : ذلك أولى الأقوال بالصواب لأنه لا خلاف بين الحجة أن من نصب حربا للمسلمين على الظلم منه لهم أنه لهم محارب ، ولا خلاف فيه . فالذي وصفنا صفته ، لا شك فيه أنه لهم ناصب حربا ظلما . وإذ كان ذلك كذلك ، فسواء كان نصبه الحرب لهم في مصرهم وقراهم ، أو في سبلهم وطرقهم : في أنه لله ولرسوله محارب ، بحربه من نهاه الله ورسوله عن حربه . [ ص: 257 ] وأما قوله : " ويسعون في الأرض فسادا " ، فإنه يعني : ويعملون في أرض الله بالمعاصي : من إخافة سبل عباده المؤمنين به ، أو سبل ذمتهم ، وقطع طرقهم ، وأخذ أموالهم ظلما وعدوانا ، والتوثب على حرمهم فجورا وفسوقا . القول في تأويل قوله عز ذكره ( أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ما للذي حارب الله ورسوله ، وسعى في الأرض فسادا ، من أهل ملة الإسلام أو ذمتهم - إلا بعض هذه الخلال التي ذكرها جل ثناؤه . ثم اختلف أهل التأويل في هذه الخلال ، أتلزم المحارب باستحقاقه اسم "المحاربة " ، أم يلزمه ما لزمه من ذلك على قدر جرمه ، مختلفا باختلاف أجرامه؟ [ فقال بعضهم : تجب على المحارب العقوبة على قدر استحقاقه ، ويلزمه ما لزمه من ذلك على قدر جرمه ، مختلفا باختلاف أجرامه ] . ذكر من قال ذلك : 11829 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله [ ص: 258 ] " إلى قوله : " أو ينفوا من الأرض " ، قال : إذا حارب فقتل ، فعليه القتل إذا ظهر عليه قبل توبته . وإذا حارب وأخذ المال وقتل فعليه الصلب إن ظهر عليه قبل توبته . وإذا حارب وأخذ ولم يقتل ، فعليه قطع اليد والرجل من خلاف إن ظهر عليه قبل توبته . وإذا حارب وأخاف السبيل ، فإنما عليه النفي . 11830 - حدثنا ابن وكيع وأبو السائب قالا : حدثنا ابن إدريس ، عن أبيه ، عن حماد ، عن إبراهيم : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " قال : إذا خرج فأخاف السبيل وأخذ المال ، قطعت يده ورجله من خلاف . وإذا أخاف السبيل ، ولم يأخذ المال وقتل ، صلب . 11831 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن حماد ، عن إبراهيم - فيما أرى - في الرجل يخرج محاربا ، قال : إن قطع الطريق وأخذ المال ، قطعت يده ورجله . وإن أخذ المال وقتل قتل ، وإن أخذ المال وقتل ومثل ، صلب . 11832 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن عمران بن حدير ، عن أبي مجلز : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " الآية ، قال : إذا قتل وأخذ المال وأخاف السبيل ، صلب . وإذا قتل لم يعد ذلك ، قتل . وإذا أخذ المال لم يعد ذلك ، قطع . وإذا كان يفسد نفي . 11833 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحماني قال : حدثنا شريك ، عن سماك ، عن الحسن : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " إلى قوله : " أو ينفوا من الأرض " قال : إذا أخاف الطريق ولم يقتل ولم يأخذ المال ، نفي . 11834 - حدثنا المثنى قال : حدثنا عمرو بن عون قال : أخبرنا هشيم ، عن حصين قال : كان يقال : من حارب فأخاف السبيل وأخذ المال ولم يقتل ، [ ص: 259 ] قطعت يده ورجله من خلاف . وإذا أخذ المال وقتل ، صلب . 11835 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : أنه كان يقول في قوله : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " إلى قوله : " أو ينفوا من الأرض " ، حدود أربعة أنزلها الله . فأما من أصاب الدم والمال جميعا ، صلب . وأما من أصاب الدم وكف عن المال ، قتل . ومن أصاب المال وكف عن الدم ، قطع . ومن لم يصب شيئا من هذا ، نفي . 11836 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : نهى الله نبيه عليه السلام عن أن يسمل أعين العرنيين الذين أغاروا على لقاحه ، وأمره أن يقيم فيهم الحدود كما أنزلها الله عليه . فنظر إلى من أخذ المال ولم يقتل ، فقطع يده ورجله من خلاف ، يده اليمنى ورجله اليسرى . ونظر إلى من قتل ولم يأخذ مالا فقتله . ونظر إلى من أخذ المال وقتل ، فصلبه . وكذلك ينبغي لكل من أخاف طريق المسلمين وقطع أن يصنع به إن أخذ وقد أخذ مالا قطعت يده بأخذه المال ، ورجله بإخافة الطريق . وإن قتل ولم يأخذ مالا قتل ، وإن قتل وأخذ المال ، صلب . 11837 - حدثني الحارث قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا فضيل بن مرزوق قال : سمعت السدي يسأل عطية العوفي ، عن رجل محارب ، خرج فأخذ ولم يصب مالا ولم يهرق دما . قال : النفي بالسيف ، وإن أخذ مالا فيده بالمال ، ورجله بما أخاف المسلمين . وإن هو قتل ولم يأخذ مالا قتل . وإن هو قتل وأخذ المال ، صلب وأكبر ظني أنه قال : تقطع يده ورجله . 11838 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن عطاء الخراساني ، وقتادة في قوله : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " الآية ، [ ص: 260 ] قال : هذا اللص الذي يقطع الطريق ، فهو محارب . فإن قتل وأخذ مالا صلب . وإن قتل ولم يأخذ مالا قتل . وإن أخذ مالا ولم يقتل قطعت يده ورجله . وإن أخذ قبل أن يفعل شيئا ، من ذلك ، نفي . 11839 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن قيس بن سعد ، عن سعيد بن جبير قال : من خرج في الإسلام محاربا لله ورسوله فقتل وأصاب مالا فإنه يقتل ويصلب . ومن قتل ولم يصب مالا فإنه يقتل كما قتل . ومن أصاب مالا ولم يقتل ، فإنه يقطع من خلاف . وإن أخاف سبيل المسلمين نفي من بلده إلى غيره ، لقول الله جل وعز : " أو ينفوا من الأرض " . 11840 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " ، قال : كان ناس يسعون في الأرض فسادا ، وقتلوا وقطعوا السبيل ، فصلب أولئك . وكان آخرون حاربوا واستحلوا المال ولم يعدوا ذلك ، فقطعت أيديهم وأرجلهم . وآخرون حاربوا واعتزلوا ولم يعدوا ذلك ، فأولئك أخرجوا من الأرض . 11841 - حدثنا هناد قال : حدثنا أبو أسامة ، عن أبي هلال . قال : حدثنا قتادة ، عن مورق العجلي في المحارب قال : إن كان خرج فقتل وأخذ المال ، صلب . وإن كان قتل ولم يأخذ المال ، قتل . وإن كان أخذ المال ولم يقتل ، قطع . وإن كان خرج مشاقا للمسلمين : نفي . 11842 - حدثنا هناد قال : حدثنا أبو معاوية ، عن حجاج ، عن عطية العوفي ، عن ابن عباس قال : إذا خرج المحارب وأخاف الطريق وأخذ المال ، قطعت يده [ ص: 261 ] ورجله من خلاف . فإن هو خرج فقتل وأخذ المال ، قطعت يده ورجله من خلاف ثم صلب . وإن خرج فقتل ولم يأخذ المال ، قتل . وإن أخاف السبيل ولم يقتل ولم يأخذ المال ، نفي . 11843 - حدثنا ابن البرقي قال : حدثنا ابن أبي مريم قال : أخبرنا نافع بن يزيد قال : حدثني أبو صخر ، عن محمد بن كعب القرظي ، وعن أبي معاوية ، عن سعيد بن جبير في هذه الآية : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا " قالا : إن أخاف المسلمين فقطع المال ولم يسفك ، قطع . وإذا سفك دما : قتل وصلب . وإن جمعهما فاقتطع مالا وسفك دما ، قطع ثم قتل ثم صلب ، كأن الصلب مثلة ، وكأن القطع : " السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " ، وكأن القتل : " النفس بالنفس " . وإن امتنع ، فإن من الحق على الإمام وعلى المسلمين أن يطلبوه حتى يأخذوه ، فيقيموا عليه حكم كتاب الله : " أو ينفوا من الأرض " ، من أرض الإسلام إلى أرض الكفر . قال أبو جعفر : واعتل قائلو هذه المقالة لقولهم هذا ، بأن قالوا : إن الله أوجب على القاتل القود ، وعلى السارق القطع . وقالوا : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث خلال : رجل قتل فقتل ، ورجل زنى بعد إحصان فرجم ، ورجل كفر بعد إسلامه " . قالوا : فحظر النبي صلى الله عليه وسلم قتل رجل مسلم إلا بإحدى هذه الخلال الثلاث . فأما أن يقتل من أجل إخافته السبيل من غير أن يقتل أو يأخذ مالا فذلك تقدم على الله ورسوله بالخلاف عليهما في الحكم . قالوا : ومعنى قول من قال : "الإمام فيه بالخيار ، إذا قتل وأخاف السبيل وأخذ المال" ، فهنالك خيار الإمام في قولهم بين القتل ، أو [ ص: 262 ] القتل والصلب ، أو قطع اليد والرجل من خلاف . وأما صلبه باسم المحاربة من غير أن يفعل شيئا من قتل أو أخذ مال ، فذلك ما لم يقله عالم . وقال آخرون : الإمام فيه بالخيار : أن يفعل أي هذه الأشياء التي ذكرها الله في كتابه . ذكر من قال ذلك : 11844 - حدثني يعقوب قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا جويبر ، عن عطاء ، وعن القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد ، في المحارب : أن الإمام مخير فيه ، أي ذلك شاء فعل . 11845 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم ، عن عبيدة ، عن إبراهيم : الإمام مخير في المحارب ، أي ذلك شاء فعل . إن شاء قتل ، وإن شاء قطع ، وإن شاء نفى ، وإن شاء صلب . 11846 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن عاصم ، عن الحسن في قوله : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " ، إلى قوله : " أو ينفوا من الأرض " ، قال : يأخذ الإمام بأيها أحب . 11847 - حدثنا سفيان قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن الحسن : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " قال : الإمام مخير فيها . 11848 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، مثله . 11849 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن قيس بن سعد قال : قال عطاء : يصنع الإمام في ذلك ما شاء . إن شاء قتل ، أو قطع ، أو نفى ، لقول الله : " أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض " ، فذلك إلى الإمام الحاكم ، يصنع فيه ما شاء . [ ص: 263 ] 11850 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " الآية ، قال : من شهر السلاح في قبة الإسلام ، وأخاف السبيل ، ثم ظفر به وقدر عليه ، فإمام المسلمين فيه بالخيار : إن شاء قتله ، وإن شاء صلبه ، وإن شاء قطع يده ورجله . 11851 - حدثنا هناد قال : حدثنا أبو أسامة قال : أخبرنا أبو هلال قال : أخبرنا قتادة ، عن سعيد بن المسيب : أنه قال في المحارب : ذلك إلى الإمام ، إذا أخذه يصنع به ما شاء . 11852 - حدثنا هناد قال : حدثنا أبو أسامة ، عن أبي هلال قال : حدثنا هارون ، عن الحسن في المحارب قال : ذاك إلى الإمام ، يصنع به ما شاء . 11853 - حدثنا هناد قال : حدثنا حفص بن غياث ، عن عاصم ، عن الحسن : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " ، قال : ذلك إلى الإمام . قال أبو جعفر : واعتل قائلو هذه المقالة بأن قالوا : وجدنا العطوف التي ب"أو" في القرآن بمعنى التخيير ، في كل ما أوجب الله به فرضا منها ، وذلك كقوله في كفارة اليمين : ( فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة ) [ سورة المائدة : 89 ] ، وكقوله : ( 6 فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ) [ سورة البقرة : 196 ] ، [ ص: 264 ] وكقوله : ( فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ) [ سورة المائدة : 95 ] . قالوا : فإذا كانت العطوف التي ب"أو" في القرآن ، في كل ما أوجب الله به فرضا منها في سائر القرآن بمعنى التخيير ، فكذلك ذلك في آية المحاربين ، الإمام مخير فيما رأى الحكم به على المحارب إذا قدر عليه قبل التوبة . قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بالصواب في ذلك عندنا تأويل من أوجب على المحارب من العقوبة على قدر استحقاقه ، وجعل الحكم على المحاربين مختلفا باختلاف أفعالهم . فأوجب على مخيف السبيل منهم إذا قدر عليه قبل التوبة ، وقبل أخذ مال أو قتل النفي من الأرض . وإذا قدر عليه بعد أخذ المال وقتل النفس المحرم قتلها الصلب ، لما ذكرت من العلة قبل لقائلي هذه المقالة . فأما ما اعتل به القائلون : إن الإمام فيه بالخيار ، من أن "أو" في العطف تأتي بمعنى التخيير في الفرض ، فقول لا معنى له ، لأن "أو" في كلام العرب قد تأتي بضروب من المعاني ، لولا كراهة إطالة الكتاب بذكرها لذكرتها ، وقد بينت كثيرا من معانيها فيما مضى ، وسنأتي على باقيها فيما يستقبل في أماكنها إن شاء الله . فأما في هذا الموضع ، فإن معناها التعقيب ، وذلك نظير قول القائل : "إن [ ص: 265 ] جزاء المؤمنين عند الله يوم القيامة أن يدخلهم الجنة ، أو يرفع منازلهم في عليين ، أو يسكنهم مع الأنبياء والصديقين" ، فمعلوم أن قائل ذلك غير قاصد بقيله إلى أن جزاء كل مؤمن آمن بالله ورسوله ، فهو في مرتبة واحدة من هذه المراتب ، ومنزلة واحدة من هذه المنازل بإيمانه ، بل المعقول عنه أن معناه : أن جزاء المؤمن لن يخلو عند الله عز ذكره من بعض هذه المنازل . فالمقتصد منزلته دون منزلة السابق بالخيرات ، والسابق بالخيرات أعلى منه منزلة ، والظالم لنفسه دونهما ، وكل في الجنة كما قال جل ثناؤه : ( جنات عدن يدخلونها ) [ سورة فاطر : 33 ] . فكذلك معنى العطوف ب"أو" في قوله : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " ، الآية ، إنما هو التعقيب . فتأويله : إن الذي يحارب الله ورسوله ويسعى في الأرض فسادا ، لن يخلو من أن يستحق الجزاء بإحدى هذه الخلال الأربع التي ذكرها الله عز ذكره لا أن الإمام محكم فيه ومخير في أمره كائنة ما كانت حالته ، عظمت جريرته أو خفت ، لأن ذلك لو كان كذلك ، لكان للإمام قتل من شهر السلاح مخيفا السبيل وصلبه ، وإن لم يأخذ مالا ولا قتل أحدا ، وكان له نفي من قتل وأخذ المال وأخاف السبيل . وذلك قول إن قاله قائل ، خلاف ما صحت به الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله : " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : رجل قتل رجلا فقتل به ، أو زنى بعد إحصان فرجم ، أو ارتد عن دينه " وخلاف قوله : [ ص: 266 ] " القطع في ربع دينار فصاعدا " ، وغير المعروف من أحكامه . فإن قال قائل : فإن هذه الأحكام التي ذكرت ، كانت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير المحارب ، وللمحارب حكم غير ذلك منفرد به . قيل له : فما الحكم الذي انفرد به المحارب في سننه؟ فإن ادعى عنه صلى الله عليه وسلم حكما خلاف الذي ذكرنا ، أكذبه جميع أهل العلم ، لأن ذلك غير موجود بنقل واحد ولا جماعة . وإن زعم أن ذلك الحكم هو ما في ظاهر الكتاب ، قيل له : فإن أحسن حالاتك إن سلم لك ، أن ظاهر الآية قد يحتمل ما قلت وما قاله من خالفك فما برهانك على أن تأويلك أولى بتأويل الآية من تأويله؟ وبعد ، فإذ كان الإمام مخيرا في الحكم على المحارب ، من أجل أن "أو" بمعنى التخيير في هذا الموضع عندك ، أفله أن يصلبه حيا ، ويتركه على الخشبة مصلوبا حتى يموت من غير قتله؟ . فإن قال : "ذلك له" ، خالف في ذلك الأمة . وإن زعم أن ذلك ليس له ، وإنما له قتله ثم صلبه ، أو صلبه ثم قتله ترك علته من أن الإمام إنما كان له الخيار في الحكم على المحارب من أجل أن "أو" تأتي بمعنى التخيير . وقيل له : فكيف كان له الخيار في القتل أو النفي أو القطع ، ولم يكن له الخيار في الصلب وحده ، حتى تجمع إليه عقوبة أخرى؟ [ ص: 267 ] وقيل له : هل بينك وبين من جعل الخيار حيث أبيت ، وأبى ذلك حيث جعلته له فرق من أصل أو قياس؟ فلن يقول في أحدهما قولا إلا ألزم الآخر مثله . وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتصحيح ما قلنا في ذلك ، بما في إسناده نظر ، وذلك ما" - 11854 - حدثنا به علي بن سهل قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، عن ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب : أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس بن مالك يسأله عن هذه الآية ، فكتب إليه أنس يخبره أن هذه الآية نزلت في أولئك النفر العرنيين ، وهم من بجيلة . قال أنس : فارتدوا عن الإسلام ، وقتلوا الراعي ، وساقوا الإبل ، وأخافوا السبيل ، وأصابوا الفرج الحرام . قال أنس : فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام عن القضاء فيمن حارب ، فقال : من سرق وأخاف السبيل فاقطع يده بسرقته ، ورجله بإخافته . ومن قتل فاقتله . ومن قتل وأخاف السبيل واستحل الفرج الحرام ، فاصلبه . [ ص: 268 ] وأما قوله : " أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف " ، فإنه يعني به جل ثناؤه : أنه تقطع أيديهم مخالفا في قطعها قطع أرجلهم . وذلك أن تقطع أيمن أيديهم ، وأشمل أرجلهم . فذلك "الخلاف" بينهما في القطع . ولو كان مكان " من " في هذا الموضع " على" أو" الباء " ، فقيل : " أو تقطع أيديهم وأرجلهم على خلاف أو : بخلاف " ، لأديا عما أدت عنه " من " من المعنى . واختلف أهل التأويل في معنى"النفي" الذي ذكر الله في هذا الموضع . فقال بعضهم : هو أن يطلب حتى يقدر عليه ، أو يهرب من دار الإسلام . ذكر من قال ذلك : 11855 - حدثني محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : " أو ينفوا من الأرض " ، قال : يطلبهم الإمام بالخيل والرجال حتى يأخذهم فيقيم فيهم الحكم ، أو ينفوا من أرض المسلمين . 11856 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : نفيه : أن يطلب . 11857 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله قال : حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " أو ينفوا من الأرض " ، يقول : أو يهربوا حتى يخرجوا من دار الإسلام إلى دار الحرب . 11858 - حدثني علي بن سهل قال : حدثنا الوليد بن مسلم قال : أخبرني عبد الله بن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن كتاب أنس بن مالك إلى عبد الملك بن مروان : أنه كتب إليه : "ونفيه ، أن يطلبه الإمام حتى يأخذه ، فإذا أخذه أقام عليه إحدى هذه المنازل التي ذكر الله جل وعز بما استحل" . [ ص: 269 ] 11859 - حدثني علي بن سهل قال : حدثنا الوليد قال : فذكرت ذلك لليث بن سعد فقال : نفيه ، طلبه من بلد إلى بلد حتى يؤخذ ، أو يخرجه طلبه من دار الإسلام إلى دار الشرك والحرب ، إذا كان محاربا مرتدا عن الإسلام قال الوليد : وسألت مالك بن أنس ، فقال مثله . 11860 - حدثني علي قال : حدثنا الوليد قال : قلت لمالك بن أنس ، والليث بن سعد : وكذلك يطلب المحارب المقيم على إسلامه ، يضطره بطلبه من بلد إلى بلد حتى يصير إلى ثغر من ثغور المسلمين أو أقصى حوز المسلمين ، فإن هم طلبوه دخل دار الشرك؟ قالا لا يضطر مسلم إلى ذلك . 11861 - حدثنا هناد بن السري قال : حدثنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك : " أو ينفوا من الأرض " قال : أن يطلبوه حتى يعجزوا . 11862 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثني عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول ، فذكر نحوه . 11863 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا حفص بن غياث ، عن عاصم ، عن الحسن : " أو ينفوا من الأرض " ، قال : ينفى حتى لا يقدر عليه . 11864 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس في قوله : " أو ينفوا من الأرض " ، قال : أخرجوا من الأرض . أينما أدركوا أخرجوا حتى يلحقوا بأرض العدو . 11865 - حدثنا الحسن قال : حدثنا عبد الرزاق قال : حدثنا معمر ، [ ص: 270 ] عن الزهري في قوله : " أو ينفوا من الأرض " ، قال : نفيه : أن يطلب فلا يقدر عليه ، كلما سمع به في أرض طلب . 11866 - حدثني علي بن سهل قال : حدثنا الوليد بن مسلم قال : أخبرني سعيد ، عن قتادة : " أو ينفوا من الأرض " ، قال : إذا لم يقتل ولم يأخذ مالا طلب حتى يعجز . 11867 - حدثني ابن البرقي قال : حدثنا ابن أبي مريم قال : أخبرني نافع بن يزيد قال : حدثني أبو صخر ، عن محمد بن كعب القرظي ، وعن أبي معاوية ، عن سعيد بن جبير : "أو ينفوا من الأرض" ، من أرض الإسلام إلى أرض الكفر . وقال آخرون : معنى"النفي" في هذا الموضع : أن الإمام إذا قدر عليه نفاه من بلدته إلى بلدة أخرى غيرها . ذكر من قال ذلك : 11868 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن قيس بن سعد ، عن سعيد بن جبير : " أو ينفوا من الأرض " ، قال : من أخاف سبيل المسلمين ، نفي من بلده إلى غيره ، لقول الله جل وعز : " أو ينفوا من الأرض " . 11869 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثني الليث قال : حدثني يزيد بن أبي حبيب وغيره ، عن حيان بن سريج : أنه كتب إلى عمر بن عبد العزيز في اللصوص ، ووصف له لصوصيتهم ، وحبسهم في السجون ، قال : قال الله في كتابه : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف " ، وترك : " أو ينفوا من الأرض " . فكتب إليه عمر بن عبد العزيز : "أما بعد ، فإنك كتبت إلي تذكر قول الله جل وعز : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا [ ص: 271 ] أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف " ، وتركت قول الله : " أو ينفوا من الأرض " ، فنبي أنت ، يا حيان ؟!! لا تحرك الأشياء عن مواضعها ، أتجردت للقتل والصلب كأنك عبد بني عقيل ، من غير ما أشبهك به؟ إذا أتاك [ ص: 272 ] كتابي هذا ، فانفهم إلى شغب " . ![]()
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 4 ( الأعضاء 0 والزوار 4) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |