شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي - الصفحة 55 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         الإمام شامل الداغستاني (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          السيد موسى الكاظم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          الحج فوائد ومنافع دينية ودنيوية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          صور من تأذي النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 13 - عددالزوار : 830 )           »          القلوب الطيبة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          الخوارج تاريخ وعقيدة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 34 - عددالزوار : 3293 )           »          التربية بالإعراض (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          حرمة المال العام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          الحج مدرسة عظيمة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          من الآثار النفسية للحج (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام
التسجيل التعليمـــات التقويم

الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 15-05-2025, 06:47 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,405
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب النكاح)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (426)

صـــــ(1) إلى صــ(12)





شرح زاد المستقنع - باب عشرة النساء [1]
الحياة الزوجية قائمة على أساس الشراكة بين الرجل والمرأة في تكوين الأسرة، وقد أعطى الإسلام كلا الزوجين حقوقا في هذا المجتمع الصغير، كما أوجب على كل منهما القيام بحق صاحبه، وسن بعض الآداب التي ينبغي مراعاتها في العشرة الزوجية حفاظا على سعادة البيت والأسرة، وحرصا على الوفاق بين الزوجين، إذ بدون أن تتميز الحقوق والواجبات لن يجد الفرد سعادته، وفيما يلي بيان لهذه المسائل في العشرة بين الزوجين.
الحقوق الزوجية




أقسام الحقوق الزوجية
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب عشرة النساء] لما بين المسائل المتعلقة بالنكاح شرع فيما يترتب عليه من آثار، من وجوب عشرة كل من الزوجين للآخر، والأصل في هذا الباب قوله تعالى: {وعاشروهن بالمعروف} [النساء:19] وقوله سبحانه وتعالى في الحقوق: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة} [البقرة:228] .
وقد ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم السنن والأحاديث في بيان ما يجب على الزوج لزوجته، وفيما يجب على الزوجة لزوجها، فكل من الزوجين مطالب بحق للآخر، وهذا ما يسمى بالحقوق الزوجية، فمن العلماء من يقول: باب الحقوق الزوجية.
ومنهم من يقول: باب عشرة النساء، وكلا البابين يذكر فيه الأحكام المتعلقة بالمعاشرة.
وعشرة النساء الهدي فيها هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكمل ما تكون المعاشرة بالمعروف بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته القولية والفعلية والتقريرية في معاشرة أهله وزوجه صلوات الله وسلامه عليه.
قال رحمه الله: [يلزم الزوجين العشرة بالمعروف] الحقوق الزوجية تنقسم إلى ثلاثة أنواع: - حق للزوج على زوجته.
-
وعكسه حق الزوجة على زوجها.

-
والحقوق المشتركة.

وبعض العلماء يقسمها إلى اثنين مقسمة إلى ثلاثة فيقول: - الحقوق المشتركة - والحقوق الخاصة.
ثم الحقوق الخاصة إما للزوج على زوجته أو العكس.
فأما الحقوق المشتركة فابتدأ المصنف رحمه الله بها في قوله: [يجب على كل من الزوجين أن يعاشر الآخر بالمعروف] والمعروف ضد المنكر، أي: بما أقره الشرع لا بما أنكره، وبما أذن به الشرع لا بما حرمه، ويشمل هذا: المعاشرة بالمعروف بالكلام الطيب، والمعاشرة بالمعروف بالفعل الطيب.
والمعاشرة بالمعروف تكون في الأمور المادية والمعنوية، وتكون المعاشرة بالمعروف في القلوب وفي الأمور الخفية المغيبة، فيغيب في قلبه حسن النية لزوجته، وتغيب الزوجة في قلبها الخير ونية الخير لزوجها، فيشمل هذا الظاهر والباطن والقول والفعل.
كل ذلك ينبغي أن يقوم على المعروف الذي أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يقوم على المنكر، أي: على المحرم الذي حرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
والمعروف أيضا ما تعارف عليه أهل العقول السوية والفطر السليمة، فالأمور التي تعارف عليه العقلاء والفضلاء يعاشر كل من الزوجين الآخر بها، فهذا معنى قوله: [العشرة بالمعروف] .
والدليل على ذلك قوله تعالى: {وعاشروهن بالمعروف} [النساء:19] وقال تعالى: {فأمسكوهن بمعروف} [البقرة:231] .
وكذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عاشر أهله بالمعروف، وأحسن إلى أزواجه صلوات الله وسلامه عليه وأكرمهن.
حرمة عدم القيام بالحقوق الزوجية من كلا الزوجين
قال رحمه الله: [ويحرم مطل كل واحد بما يلزمه للآخر والتكره لبذله] ويحرم المطل، المطل: التأخير، ومنه: مطل الغني في السداد، وهو القادر على السداد.
(يحرم مطل) وهو تأخير الحق، فإذا طلب الزوج زوجته إلى الفراش وهي قادرة ويمكنها ذلك فلا يجوز أن تؤخره، بل تبادر مباشرة بطاعته، كذلك إذا طلبت الزوجة من زوجها نفقة البيت ونفقتها، وعنده مال، ويمكنه أن يعطيها مباشرة، فلا يجوز أن يقول: أعطيك غدا أو بعد غد، ويؤخر عنها حقها، فكل لحظة وكل ساعة يتأخر فيها يحمل وزرها وإثمها والعياذ بالله.
ولذلك الملائكة تلعن المرأة إذا دعاها زوجها إلى فراشها وهي قادرة وامتنعت، فتبيت والملائكة تلعنها والعياذ بالله.
وكما يحرم المطل يحرم أن يؤدي الحق الواجب عليه وهو كاره، بطريقة تشعر أنه مكره، فإن العشير إذا عاشر عشيره، ووجد أنه يعطيه حقه بكره، وكأنه مغصوب على ذلك، كره عشرته ونفر منه ومل العيش معه، وهذا هو الذي تنهدم به البيوت وتتشتت به الأسر، ويدخل به الشيطان بين الزوجين.
فلذلك لا ينبغي أن يؤدي الحق بكره، والكره يشمل التصريح بالقول، كأن تتكلم المرأة كلاما يدل على أنها غير راضية، أو يتكلم الرجل كلاما يدل على أنه غير راض، كأن يعطيها نفقتها ويقول كلمة نابية قاسية جارحة، كأن يقول: خذي نفقتك لا بارك الله لك فيها -والعياذ بالله- أو: خذي نفقتك مغصوبة، أي أني أعطيك إياها وأنا كاره لذلك، وخذيها بلا طيبة نفس مني، أو: خذيها ولا أريد أن تأخذيها، ونحو ذلك الكلام.
ويكون بالفعل كتذمره بالتأفف؛ وكذلك أيضا لون الوجه وظهور أمارات الكراهية كل ذلك من الكره، سواء وقع من الزوج أو الزوجة، فكل ذلك مما لا يجوز؛ لأنه خلاف المعروف الذي أمر الله به في كتابه المبين ووصى به عباده المؤمنين.

موجبات عقد النكاح
قال رحمه الله: [وإذا تم العقد لزم تسليم الحرة التي يوطأ مثلها في بيت الزوج إن طلبه ولم تشترط دارها أو بلدها] .
(إذا تم العقد لزم تسليم الحرة) في بيت الزوجية، فيلزم أولياءها أن يسلموها لزوجها، ما لم يكن هناك أمور جرى العرف أو اتفق الطرفان على التأخير من أجلها كتجهيزها، أو حدد يوم معين للإتيان بها، فيجوز التأخير إلى الأجل، أما غير ذلك فالأصل يقتضي أن الرجل من حقه أن يدخل على زوجته وأن تسلم زوجته إليه في بيت الزوجية.
(إن طلبه) طلب التسليم، فعندنا مسألة العقد ثم مسألة الدخول، فإذا ثبت أن هناك حقا للزوج على زوجته، فإنه يبدأ من العقد، فابتدأ المصنف بالعشرة الزوجية والحقوق من العقد، وهذا من دقته رحمه الله، أنه يسلسل الأفكار ويتابع بعضها بعضا، فابتدأ أول ما ابتدأ بما يترتب على العقد فقال: [إذا تم العقد وجب التسليم] .
فعلى هذا حق الزوج على زوجته أن تسلمه وتمكنه من نفسها بمجرد العقد، هذا من حيث الأصل العام، وتبقى الأمور التي جرى عليها العرف والتراضي بين الطرفين، فهذه مختلفة بحسب اختلاف الأحوال.
لكن لو قال: أريد أن أدخل على زوجتي، فقال أبوها: لا، حتى تنتهي من دراستها، وقد عقد عليها وتم العقد، فليس من حق أبيها أن يحول بينها وبين زوجها، ولو رفع أمره إلى القاضي لألزمه القاضي أن يسلم الزوجة إلى زوجها في بيته بيت الزوجية.
[ولم تشترط دارها أو بلدها] (ولم تشترط دارها) لو قالت: ما تدخل علي إلا في بيت أبي، فلا يجوز أن يخرجها، فلو طالب أهلها أن يأتوا بها إليه في بيت الزوجية لم يكن له ذلك؛ لأنهم اشترطوا عليه أن تكون عندهم، وقد تكلمنا على هذا الشرط: أن تشترط دارها أو بلدها.
فلو كان بلده بلدا غير بلدها كأن يكون في جدة وهي في المدينة فقال: تأتوني بها إلى جدة، وقد اتفقوا معه في الشرط أن تكون ساكنة في المدينة عند أهلها، فعلى ما اختاره المصنف رحمه الله أنه شرط يجب الوفاء به، فليس من حقه أن يطالبهم بنقلها إلى جدة، بل تبقى؛ لأن المصنف يميل -كما هو قول بعض الصحابة رضوان الله عليهم- إلى أن الزوجة تلزمه بهذا الشرط وتبقى عند أهلها وفي دارها.
قال رحمه الله: [وإذا استمهل أحدهما أمهل العادة وجوبا لا لعمل جهاز] وإن استمهل الرجل أولياء المرأة، أو أولياء المرأة استمهلوا الرجل وقالوا: أمهلنا، البنت مثلا عندها ظرف، كما لو كانت مريضة وخافوا عليها أنها لو ذهبت إلى بيت الزوجية يشتد مرضها، قالوا: تمهلنا، فاستمهل عادة؛ لأن العادة جارية أن مثل هذا النوع من النساء يمهل، فيمهلهم ويعطيهم المهلة بالمعروف، يعني: بما جرت به العادة والعرف.
(لا لجهاز) لو فتح الإمهال للجهاز لاختلفت أنظار الناس في الجهاز، وبالغ النساء في هذا، والجهاز يقصد منه حظوة المرأة عند زوجها، فإذا هو استعجل وقال: أريدها، فأسقط حقه في الجهاز، فحينئذ لا يكون الجهاز عذرا يمنع من إجابة حقه، هذا وجهه، أن الجهاز في الأصل يراد به حظوة المرأة عند زوجها، فلو الزوج استعجل وقال: يريدها بدون جهاز، وهذه امرأته، وربما خاف على نفسه الحرام أو عنده ظرف، مثلا: أخذ إجازة ثلاثة أيام فقالوا: نريد أن نجهزها يومين أو يوم، فقال: ما أريدها مجهزة، أريد امرأتي الآن، فهذا من حقه، ويجب عليهم أن يعطوها إليه عند طلبه، فهذا معنى قوله: (لا لجهاز) .
قال رحمه الله: [ويجب تسليم الأمة ليلا فقط] .
(ويجب تسليم الأمة ليلا) لأنها نهارا ملك لسيدها، تخدم سيدها وتقوم بحقه، وإذا زوجها سيدها فقد أسقط حقه في المبيت، فلا يملك الزوج إلا المبيت، فإذا تزوج أمة فلا يملك طلبها إلا في الليل للفراش.
قال رحمه الله: [ويباشرها ما لم يضر بها أو يشغلها عن فرض] فيجوز له أن يباشرها ما لم يضرها أو يشغلها عن فرض، فإذا استحق المرأة بنكاح حق له أن يباشرها وأن يجامعها وأن يدخل بها ويبني بها، فإذا خلا بها يباشرها؛ لأنها امرأته قال تعالى: {هن لباس لكم وأنتم لباس لهن} [البقرة:187] .
{طوافون عليكم بعضكم على بعض} [النور:58] والله أحل المرأة لزوجها والزوج أحله لزوجته، فليس هناك مانع من المباشرة وغيرها من أمور الاستمتاع، وذلك يكون حلالا بمجرد العقد.
لكن إذا عقد الرجل على المرأة وجرت العادة أنه ما يدخل بها إلا بعلم من أهلها، فمن القبيح أن يأتي إلى بيت أهلها زائرا ويطؤها ويدخل بها دون علم من أهلها؛ لأن هذا تترتب عليه مفاسد عظيمة، فلو أنه جاء إلى بيت الزوجية والمرأة بكر ودخل بها ووطئها، ثم خرج وحدث له حادث بمجرد خروجه، وصارت المرأة حاملا، لقالوا: إنها زانية والعياذ بالله، واتهمت، ولا يمكن أن ينسب هذا الولد إليه؛ لأنه ليس هناك دليل يدل على أنه دخل بها، والمعروف والمتعارف به أنه يختلي بها من أجل الحديث، فإذا ادعت المرأة تكون حينئذ محلا للتهمة، فمثل هذا تترتب عليه مفاسد عظيمة.
فالرجل يتوقف، ويكون من حق ولي المرأة -أبوها وأمها- أي: الأولياء بالعرف وليس بالحكم الشرعي؛ لأن الولاية للعصبة كما ذكرنا؛ لكن من يلي أمرها من حقه إذا استراب أن هذا الزوج متهتك، أو أنه يتساهل في بعض الأمور أن لا يمكنه، وحتى لو يجتمع بها يجتمع بها على طريقة يأمن منها أن يقع شيء؛ لأن بعض الناس قد يكون نسأل الله السلامة والعافية رجلا شريرا وعنده نية سوء، فقد يصيب المرأة ويستمتع بها، ثم بعد ذلك ينكر، ويطالبها بالحقوق ويدعي عليها ما لم يكن، وقد يتأخر في الدخول عليها ويظهر بها حمل، فيضغط على أهلها ويدعي والعياذ بالله زورا وبهتانا أنه لم يطأها ولم يصبها، فيتلاعب بهم وهو لا يريد ابنتهم إنما يريد الإضرار بهم.
ونفوس الناس مختلفة -نسأل الله السلامة والعافية- ووقعت حوادث بسبب هذا، والأسر والجماعات التي تتساهل في مثل هذا تبوء بعواقب وخيمة، وسببها التساهل في مثل هذه الأمور.
فلا ينبغي في مثل هذا أن يمكن إذا عرف منه التهتك والتساهل في مثل هذا.
حقوق الزوج على زوجته
شرع المصنف رحمه الله في هذه الجملة ببيان بعض المسائل والأحكام المتعلقة بالعشرة الزوجية، ومنها: أن الزوج إذا أراد أن يسافر فله الحق أن يصحب زوجته معه، والسبب في ذلك: أنه يخاف على نفسه الفتنة، كما أن المرأة تقوم على شأن زوجها في سفره، ولربما كان تركه لامرأته فيه ضرر على المرأة وفتنة لها، فيكون الأمر آكد.
قال رحمه الله: [وله] : أي: للزوج.
[أن يسافر] بها: أي: بالمرأة، ويسافر بها شريطة أن لا يكون ذلك معرضا لها إلى الخطر، أو الوقوع في الضرر، فإن كان في السفر تعريض لها إلى مثل ذلك، فحينئذ يجوز لها أن تمتنع.
قال رحمه الله: [ويحرم وطؤها في الحيض والدبر] : أي: ويحرم وطء المرأة في الحيض، والمراد به أن يطأها وهي حائض، وقد دل دليل الكتاب، ودليل السنة على تحريم وطء المرأة الحائض، فقال الله سبحانه وتعالى: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن} [البقرة:222] ، فقوله تعالى: {فاعتزلوا النساء في المحيض} أمر بالاجتناب والاتقاء والابتعاد، وهذا الأمر محدود بالمكان في قوله: {فاعتزلوا النساء في المحيض} [البقرة:222] ، والمحيض اسم مكان، كالمقيل، أي: مكان الحيض، وبناء على ذلك لا يجوز له أن يطأها ويجامعها وهي حائض؛ ولكن يجوز له أن يستمتع بما دون الفرج، فله أن يباشرها، وأن يفاخذها، وأن يستمتع بجميع ما يكون منها، إلا الوطء في الفرج، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (اصنعوا كل شيء إلا النكاح) .
وقد قدمنا في كتاب الحيض تفصيلات العلماء، وكلام العلماء عما يحل وما يحرم من المرأة الحائض، وبينا أن أصح قولي العلماء أنه يجوز له أن يستمتع فيما بين السرة والركبة من المرأة الحائض، إذا غلب على ظنه الأمن من الوقوع في المحظور، أما إذا غلب على ظنه أنه سيجامعها فيحرم؛ لأن الوسائل تأخذ حكم مقاصدها، والنهي عن الشيء نهي عن وسائله المفضية إليه، كما أن الأمر بالشيء أمر بلازمه وبما يعين عليه ويتوسل بطريقه إلى ذلك الشيء.
فبين رحمه الله أنه لا يجوز وطء المرأة الحائض، وهذا بإجماع، كما بين أنه لا يجوز الوطء في الدبر، وهذا أيضا بإجماع العلماء -رحمهم الله- فلا يحل إلا في الأقوال الشاذة المحكية عن بعض المتقدمين، وهي تحكى ولا يعول عليها ولا يعمل بها، فإن مكان الوطء هو موضع الحرث؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {نساؤكم حرث لكم} [البقرة:223] ، فالحرث هو مكان الوطء، وهو القبل من المرأة، وأما الدبر فإنه ليس بحرث ولا بمكان للوطء، ولا بمحل له.
والطب يؤكد أن الوطء في الدبر ضرر على الرجل وضرر على المرأة، فلذلك لا يجوز وطء الدبر، ولا يعتد بمن خالف.
قال رحمه الله: [وله إجبارها على غسل حيض ونجاسة] : [وله] : أي: للزوج إجبار زوجته على غسل حيض؛ لأنه في أصح قولي العلماء أن المرأة الحائض لا يجوز وطؤها إلا بشرطين: أولا: أن تطهر من حيضها.
والثاني: أن تغتسل من ذلك الحيض.
وبناء على ذلك فإنها لو طهرت ولم تغتسل، فالخلاف بين الجمهور والحنفية، وذكرنا هذه المسألة في الطهارة، والصحيح: أنه لا يجوز وطؤها إلا بعد أن تغتسل من الحيض؛ لقوله تعالى: (فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله [البقرة:222] ، ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أن الله تعالى يقول: {ولا تقربوهن حتى يطهرن} [البقرة:222] ، فنهى عن وطئهن إلى الطهر، ثم قال: {فإذا تطهرن} ، فجاء الطهر على مرحلتين: المرحلة الأولى: وصف الله عز وجل به المرأة فقال: {حتى يطهرن} فوصفها بشيء ليس بيدها.
المرحلة الثانية: وصفها بطهر في يدها، فقال: {فإذا تطهرن فأتوهن} ، فدل على أن انقطاع الدم وحده لا يكفي، وأنه لا بد من انقطاع الدم واغتسالها بعد انقطاع الدم عنها، فحينئذ يحل له وطؤها.
فإذا ثبت أن المرأة الحائض لا يجوز وطؤها، إلا إذا انقطع عنها الدم، ثم اغتسلت، فإنها قد ينقطع عنها الدم، وتتأخر في الغسل، فإن انقطع عنها الدم، فإن الزوج لن يطأها في طيلة مدة أيام الحيض، وحينئذ يتضرر بانحباسه عن المرأة، فإذا تضرر بالانحباس وطهرت المرأة فله أن يجبرها ويلزمها أن تغتسل؛ لأن مصلحته متعلقة بذلك، وحينئذ يجبرها أن تغتسل، وتبادر بالغسل مباشرة، ما لم يكن في ذلك ضرر عليها.
قوله رحمه الله: (على غسل حيض ونجاسة) أي: وله أن يجبر زوجته على غسل النجاسة، وذلك لأن النفوس تتأفف وتتألم بالنجاسة والقذر، والمرأة مطلوب منها أن تهيئ جميع الأسباب؛ لتحبيب زوجها؛ لكي تكون حظية عند زوجها، وذلك بالاغتسال والنظافة والنقاء، ولا يجوز لها أن تتعاطى الأسباب المنفرة بحيث ينفر منها زوجها، ولذلك ينبغي عليها أن تتعاطى أسباب إزالة النجاسة، وله الحق أن يجبرها على غسل النجاسة من دم أو بول أو نحو ذلك، فيقول لها: اغسلي هذا الدم، واغسلي هذه النجاسة، ويجبرها على ذلك.
قوله رحمه الله: [وأخذ ما تعافه النفس من شعر وغيره] إذا كان الواجب على المرأة أن تتعاطى الأسباب -كما ذكرنا- للقيام بحق الزوج؛ لتحبيبه بالمحبة والألفة، فإن هذا يستلزم منها أن تكون على أحسن الأحوال وأتمها، فتأخذ من الشعر ما تعافه النفوس، كشعر الإبطين، وكذلك شعر العانة، فإنه يلزمها إزالة هذا الشعر ونحوه، وله الحق أن يوبخها إذا قصرت في شيء من ذلك، ولا شك أن المرأة إذا قصرت في مثل هذه الأمور، فإنه نوع من الاستخفاف بحق الزوج، ونوع من التبذل الذي قد يصل إلى حد المكروه، إذا كان فيه نوع من النسيان لحق العشير، وإذا قصدت به الإضرار وصل إلى التحريم؛ لأنه لا يجوز للمرأة أن تضر زوجها، ولا أن تتعاطى الأسباب التي تنفره، فله الحق أن يأمرها بحلق شعر العانة، وهكذا بالنسبة لشعر الإبطين، وله الحق أن يأمرها بإزالة شعر اللحية، وهكذا الشارب، وكذلك لو ابتليت بشعر في وجها، على أصح قولي العلماء؛ لأن هذا تنفر منه النفوس وتعافه، فله الحق أن يطالبها بإزالته، والقاعدة الشرعية تقول: (الضرر يزال) وهي قاعدة مجمع عليها، فالزوج يتضرر بذلك، فحينئذ يجب على المرأة أن تزيل هذا الضرر، الذي يمنعه من كمال الاستمتاع بها.
قوله رحمه الله: [ولا تجبر الذمية على غسل الجنابة] وذلك لأنها ليست مكلفة به، فالذمية ليست مكلفة بغسل الجنابة، على القول بأن الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة.
حقوق الزوجة على زوجها
قال رحمه الله تعالى: [فصل: ويلزمه أن يبيت عند الحرة ليلة من أربع، وينفرد إن أراد في الباقي] حقوق الزوجية تنقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: حق الزوج على زوجته.
القسم الثاني: حق الزوجة على زوجها.
القسم الثالث: الحقوق المشتركة التي لا تختص بواحد منهما.
فأما حقوق الزوج على زوجته فمنها: حق القوامة، وطاعتها لزوجها وبعلها، وأن لا تخرج من بيتها إلا بإذنه، وأن تطيعه في ذلك، وأن لا تأذن لأحد أن يدخل إلى بيته إلا بإذنه، وإذا دعاها إلى فراشه أن تجيب وأن تلبي، ومن حقه عليها أن لا تصوم نفلا وهو شاهد إلا بإذنه، وأما قضاء رمضان فيفصل فيه بين الموسع والمضيق، فإن ضاق جاز لها أن تصوم بغير إذنه، وإن كان موسعا فإن له الحق أن يؤخرها، لحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، هذا بالنسبة لحق الزوج على زوجته.
وأما حق الزوجة على زوجها: فإن للمرأة على زوجها حقوقا، وهذه الحقوق التي للمرأة على الزوج فرضها الله سبحانه وتعالى وبينها، فمنها ما يكون مصاحبا للعقد كحق المهر والصداق، وقد سبق وتقدم الكلام عليه، ومنها: حق النفقة بالمعروف، وهذا سيأتي إن شاء الله بيانه في كتاب النفقات، وكذلك حق المبيت والقسم، وهذا ما سيبينه المصنف رحمه الله في هذه الجمل الآتية.
وأما الحقوق المشتركة، فهي التي تجب على الزوج، وتجب على الزوجة، فلا تختص بزوج ولا بزوجة، ومن هذه الحقوق المشتركة: حق العشرة بالمعروف، فإنه يعتبر من الحقوق المشتركة، فيجب على الرجل أن يعاشر امرأته بالمعروف، ويجب على المرأة أن تعاشر زوجها بالمعروف.
قوله رحمه الله: (ويلزمه أن يبيت عند الحرة ليلة من أربع) أي: يلزم الرجل أن يبيت عند الحرة ليلة من أربع ليال؛ لأن الله أحل له نكاح الأربع، فدل على أن نصيب الواحدة ليلة من أربع ليال، هذا بالنسبة للحرة في مبيته معها، وسيأتي أن المبيت يكون بالليل، ويكون بالنهار، على اختلاف أحوال الناس، ويقصد من المبيت الجماع، إلا أنه في بعض الأحيان إذا كان به عذر، أو بها عذر، قصد من المبيت الأنس، والمباسطة، وكونه معها، كما سيأتي إن شاء الله التنبيه عليه.
فيلزمه أن يبيت معها ليلة من كل أربع ليال، ولذلك قال كعب بن سور للرجل الذي جاءت زوجته إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه تشكوه تعريضا: إن لها عليك حقا يا رجل تصيبها في أربع لمن عقل فألزمه بليلة من بين أربع ليال.
قال رحمه الله تعالى: (وينفرد إن أراد في الباقي) هذا بالنسبة لإصابة الرجل المرأة، فقد قالوا: يصيبها في كل أربع ليال مرة، وأما بالنسبة للرجل، فإن تضررت بوطئه، فقد أثر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن امرأة اشتكت من بعلها أنه أضر بها، فأجاز له أن يصيبها ثلاث مرات، فجعلهن كالحد إذا تضررت المرأة بالزيادة، وذلك من قبل صلاة الفجر، وحين توضع الثياب من الظهيرة، ومن بعد صلاة العشاء، فهذه ثلاثة أوقات، قيل: إنها تنبيه من الشرع على الحد الذي يتفق لغالب الناس، هذا بالنسبة للرجل.
وبالنسبة للمرأة فعلى الرجل في كل ليلة من أربع أن يصيب المرأة إن أمكنه ذلك، ولم يكن ثم عذر، وعلى المرأة أن تكون له منها ثلاث عورات، إذا كان شديد الشهوة، وتضررت المرأة بكثرة وطئه.
قال رحمه الله تعالى: [ويلزمه الوطء -إن قدر- كل ثلث سنة مرة] ويلزمه -أي: يجب عليه- الوطء إن قدر عليه، بخلاف الذي لا يقدر ككبير السن والزمن، فالشخص الذي لا يقدر لا يكلف؛ لأن الله تعالى يقول: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} [البقرة:286] ، فدلت هذه الآية الكريمة على أن تكاليف الشريعة كقولنا: (يجب عليه ويلزم به) لا تكون إلا حيث تكون الاستطاعة والقدرة، فإن كان رجل لا يقدر على الوطء، ولا يمكنه الوطء فهذا معذور ويعذر، لكن قال رحمه الله: (إن قدر عليه) أي: إن أمكنته القدرة فيلزمه أن يطأ في كل ثلث سنة مرة؛ لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل حفصة بنت عمر رضي الله عنها: كم تصبر المرأة عن بعلها؟ فقالت رضي الله عنها: ثلاثة أشهر والرابع على مضض، تعني: يخشى عليها الحرام، فأرسل إلى الأجناد ألا يمكنوا الرجل أن يغيب عن امرأته أكثر من ثلث السنة، وهو أربعة أشهر، وهي المدة التي جعلها الله عز وجل مدة للإيلاء، وهذا من حكمة الله سبحانه وتعالى، فلا ينقطع عن امرأته هذه المدة؛ لأنه يخشى أن تقع المرأة في الحرام، وكذلك هو لا يؤمن عليه أن يقع في الحرام، فإن رضيت المرأة، وتنازلت عن حقوقها، وطاب خاطرها، وكانت واثقة من نفسها بمعونة الله عز وجل لها، فتساهلت مع زوجها، وأذنت له، وسمح خاطرها، وطاب خاطره أن يغيب عنها أكثر من هذه المدة، فهذا شيء بينهما لا بأس بذلك، ولا حرج، كأن يغيب عنها السنة والسنتين والثلاث لطلب علم، أو لتجارة، أو كسب رزق، أو نحو ذلك، مادامت أنها راضية وواثقة من نفسها.
قال رحمه الله تعالى: [وإن سافر فوق نصفها وطلبت قدومه وقدر لزمه، فإن أبى أحدهما فرق بينهما بطلبها] أي: إن سافر فوق نصف السنة، وهو معنى قوله: [إن سافر فوق نصفها] ، وطلبته وقدر، أي: قالت له: أريدك أن تأتي وقدر أن يأتي فيجب عليه أن يرجع من سفره؛ لأن الضرر يزال، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) ، وهو حديث أجمع العلماء على صحة متنه؛ لأن النصوص في الكتاب والسنة كلها تدل دلالة واضحة على صحته، فهذا أصل في أنه لا يجوز للرجل أن يضر بالمرأة، ولا أن يتسبب في الإضرار بها، فسفره مضر بها، والنهي عن الشيء نهي عن أسبابه، فالله نهى عن الضرر، وسفره هذا فيه ضرر، فيجب عليه أن يعود إلى زوجته، وأن يقوم بحقوقها.
وقوله رحمه الله تعالى: [فإن أبى احدهما فرق بينهما بطلبها] فإن سافرت وطلبها أن تعود، أو سافر وطلبت منه أن يعود، فحينئذ إن رجع فلا إشكال، وإن لم يرجع واشتكى صاحب الحق إلى القاضي أو إلى الحاكم، فإن الحاكم يفرق بينهما؛ لأن هذا حد جاوز الضرر مثل فرقة الإيلاء.







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 15-05-2025, 06:50 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,405
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي



آداب الجماع
يقول رحمه الله: [وتسن التسمية عند الوطء وقول الوارد] وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإن قدر بينهما ولد فلن يضره الشيطان) ، فهذا من الذكر الوارد المحفوظ من هدي النبي صلى الله عليه وسلم وسنته، فيقول: باسم الله؛ لأن اسم الله بركة، كما قال تعالى: {تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام} [الرحمن:78] ، فالله جعل في اسمه البركة، والبركة زيادة الخير، فإذا سمى الله تعالى على شيء وضع الله فيه البركة، فإن سمى على جماعه اعتزل الشيطان لمكان ذكر الله عز وجل فيقول هذا الدعاء الوارد.
يقول رحمه الله: [ويكره كثرة الكلام، والنزع قبل فراغها] هذه كلها آداب يذكرها العلماء في آداب الجماع، والشريعة الإسلامية شريعة كاملة، كما قال الله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} [المائدة:3] فهذا الدين الذي رضيه الله عز وجل تنزيل من حكيم حميد، أتمه وأكمله فأحسن إتمامه وإكماله، فالمسلم في ليله وفي نهاره، حتى في فراشه مع زوجته، يذكر الله سبحانه وتعالى ويتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم ويقتدي به، ويتأسى به فيما يقال من الوارد وفيما يحفظ من الهدي.
فكره العلماء كثرة الكلام أثناء الجماع، ولا يحفظ في ذلك نص، وإنما هو قياس بعض العلماء إذ قالوا: إن الجماع مثل قضاء الحاجة، ومن آداب قضاء الحاجة قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يذهب الرجلان يقضيان الغائط أو يقضيان الحاجة يكلم احدهما الآخر فإن الله يمقت ذلك) ، فجعل المقت على الكلام عند قضاء الحاجة، قالوا: والجماع حاجة، فلا يستحب الكلام أثناء الجماع فالكلام أثناء الجماع ليس في النهي عنه نص صريح، لكن فيه قياس واجتهاد، وهذا القياس له وجهه عند من يصححه ويعتبره.
إلا أن بعض العلماء رحمهم الله ضعف هذا، وقال: فرق بين كلام وكلام.
فإن الكلام أثناء الجماع قد يكون من المعاشرة بالمعروف، وقد يكون من التحبب والتلطف مما يعين على مقصود الشرع من حصول الألفة بين الزوج والزوجة، فقالوا: إن في هذا سعة، والأمر واسع في هذا، وليس هناك نص كما ذكرنا؛ فمن يصحح القياس ويعمله يقول بما ذكرناه، وإلا فالأصل الجواز خاصة إذا انبنى عليه ما ذكرناه من المصالح الشرعية.
قوله رحمه الله تعالى: [والنزع قبل فراغها] أي: يكره النزع قبل فراغ المرأة؛ لأن الرجل ربما أنزل قبل أن تنزل المرأة، فيكون قد أصاب شهوته ولم تصب المرأة شهوتها، ونبه العلماء على ذلك لما فيه من المفاسد، والعواقب الوخيمة، فإن المرأة تكره زوجها حينئذ، وتحس أنه يريد قضاء حاجته فقط، وأنه لا يلتفت إليها، ولا يريد أن يحسن إليها، ويكرمها في عشرته لها، فلربما حقدت عليه، ودخل الشيطان بينهما فأفسدها عليه، فيشرع بناء على مقاصد الشرع العامة من حصول السكن والألفة، فعليه أن يعطي المرأة حقها، وأن يمكنها من الإنزال فلا ينزع قبل أن تنزل المرأة؛ لأن ذلك أبلغ في الحظوة، وأبلغ في المحبة، وأبلغ في المودة، ومقصود الشرع تحصيل ذلك، وتحصيل الأسباب المعينة عليه.
قال رحمه الله: [والوطء بمرأى أحد] أي: ليتجنب والوطء بمرأى أحد؛ لأن الله أمر بستر العورات، فقال تعالى: يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد) [الأعراف:31] ، فأمر بستر العورة، وامتن على عباده باللباس والستر الذي يواري السوءات ويحفظها، وفي حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في الصحيحين في قصة المعذبين في قبورهما، قال صلى الله عليه وسلم: (أما احدهما فكان لا يستتر من بوله) ، قال بعض العلماء: (لا يستتر) أي: أنه يبول فتنكشف عورته، فيبول أمام الناس ولا يستر عورته، فجعل الوعيد في القبر على كشف العورة -والعياذ بالله- والتساهل فيها، وهذا قول عند بعض العلماء، وإن كان الصحيح القول المشهور أنه عدم الاستنزاه وقطع البول، فقد كان يستعجل في ذلك ولا يستبرئ كما جاء صريحا في الروايات الآخر.
إذا ثبت هذا فإنه لا يجوز للرجل أن يجامع زوجته، أو يقع الجماع في موضع لا يؤمن فيه نظر الغير، وكذلك لا يجوز للزوجين أن يتساهلا في كشف العورة، أو وقوع الجماع على مرأى، أو مسمع من الأبناء أو البنات، فإن ذلك من أعظم ما يضر بالأولاد ولربما أفسدهم، خاصة إذا كانوا في سن صغيرة، فإن له عواقب وخيمة، وأضرارا نفسية تضر بالولد ذكرا كان أم أنثى، فلا ينبغي أن يجامع المرأة بجوار أولادها، أو جوار أبنائها، وعليه أن يتعاطى أسباب حفظها، وحفظ عورته وعورتها.
فأصول الشريعة وأدلة الشريعة كلها تدل من حيث العمومات على أنه لا يجوز للمسلم أن يتساهل في عورته، بل عليه أن يحفظ عورته، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك) فأجاز له كشف العورة للزوجة أو الأمة، ومفهوم ذلك أنها لا تحل لغيرهما.
فلا يجوز أن يجامع ويواقع في مكان لا يأمن فيه النظر، كأماكن الطرقات، والسابلة، أو يكون في موضع لا يأمن فيه من دخول الغير، وهجوم الغير عليه، خاصة إذا كان مكانا مختلطا، أو لا يأمن من دخول الأبناء والبنات، ونحو ذلك، كل ذلك ينبغي تعاطي الأسباب فيه.
قال رحمه الله: [والتحدث به] أي: وليتجنب التحدث بالجماع، كأن يتحدث الرجل بما يكون بينه وبين المرأة، أو تتحدث المرأة بما يكون بينها وبين زوجها، وهذا لا شك يدل دلالة واضحة على ذهاب المروءة وقلة الحياء وصفاقة الوجه -نسأل الله العافية- فإن من لا يستحيي لا يستغرب منه ذلك، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت) ، فالذي لا حياء عنده -بل ولا عقل عنده- هو الذي يقول هذا، فإن أمور الزوجية أسرار، ولا يجوز أن تباح، والأسرار أمانة، فينبغي للزوج أن يحفظ أسرار زوجته، وللزوجة أن تحفظ أسرار زوجها، وكم من امرأة صالحة دينة اطلعت على خلل من زوجها في الفراش، وصبرت وصابرت واحتسبت، ولم تطلع على ذلك أحدا حتى في حال أذية الزوج لها، تكتم ذلك ولا تفشي له سره، ترجو رحمة الله عز وجل، وتحس أن هذه أمانات، فتخاف من الله عز وجل إذا أفشتها، أو لمحت بها، أو اطلع الغير عليها، وكذلك بالنسبة للرجل مع المرأة لا يجوز له أن يفشي هذه الأسرار، ولا يتحدث بكيفية إتيانه لأهله، أو بالأمور الخاصة التي بينه وبين زوجه، كل ذلك من الأمانات التي ينبغي على الزوج أن يحفظها، وعلى الزوجة أن تحفظها.
وجوب تخصيص مسكن مستقل لكل زوجة
قال رحمه الله: [ويحرم جمع زوجتيه في مسكن واحد بغير رضاهما] أي: ويحرم جمع زوجتين في مسكن واحد؛ والسبب في هذا أن الزوجة مع ضرتها تغار، وإذا كان المسكن قريبا أو مشتركا بينهما، فإن الغيرة تكون أشد، ولربما وصلت إلى الحقد، وإلى الأذية، وإلى الإضرار.
فمثل هذه الأشياء تحدث الأذية بين الزوجات والإضرار، والنهي عن الشيء نهي عن وسائله، والقاعدة: أن الوسائل تأخذ حكم مقاصدها، فجمعهما في مسكن واحد وسيلة إلى شر، ووسيلة إلى فتنة، وإلى ضرر، فينهى عنه، ويمنع منه.
وأجاز بعض العلماء أن يجمع بينهما في سكن واحد في حالات الضرورة، أو إذا رضيت الزوجتان وأمن الضرر بينهما، وإذا كان الرجل لا مال له، ولا يستطيع أن يجد سكنا، وقد يقع هذا في بعض الأحوال الخاصة، كالنزول في الأماكن التي لا بناء فيها، كأن لا يكون عنده إلا خباءين.
فالشاهد: أنه إذا وجدت الحاجة والضرورة فإن العلماء يرخصون في هذا على قدر الحاجة والضرورة.
عدم خروج المرأة إلا بإذن زوجها
قال رحمه الله تعالى: [وله منعها من الخروج من منزله] هذا حق من حقوق الرجل على امرأته أن لا تخرج من بيته إلا بإذنه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) ، وقال كما في الصحيح: (إذا استأذنت أحدكم امرأته المسجد فليأذن لها) فقوله: (إذا استأذنت أحدكم امرأته المسجد) يدل على أنها لا تخرج إلا بإذن زوجها، فإذا كان الإذن للصلاة فمن باب أولى غير الصلاة، فلا يجوز للمرأة أن تخرج من بيتها إلا إذا استأذنت بعلها وزوجها، فإن إذن لها خرجت، وإن لم يأذن لها فإنه يجب عليها أن تلزم بيتها بيت الزوجية، وأن لا تخرج منه، ونص على هذا جماهير العلماء رحمهم الله أنه لا يجوز خروج المرأة من بيتها إلا بإذن زوجها، وأما إذا خرجت بدون إذنه فقد عصت، ويعتبر خروجها من بيتها بدون إذن زوجها استرجالا وخروجا عن حق الطاعة، فهي بهذا مسترجلة على زوجها، خاصة إذا قالت له: لا سمع ولا طاعة، أو قالت: أنا حرة أفعل في نفسي ما أشاء، فإن قالت هذا، فإنها مسترجلة عليها لعنة الله ورسوله؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله المسترجلات) .
فمن الأخطاء التي يقع فيها بعض النسوة أصلحهن الله ما يقع منهن من مشابهة الكفار، ونساء الكفار، واسترجال النساء، ومحاولة المرأة أن تكون كالرجل سواء بسواء، دون أن تشعر بحق قوامته عليها، فإن هذا كله مما يوجب سخط الله وغضبه، فينبغي على المرأة أن تخاف من الله عز وجل وأن تتقي الله عز وجل، وأن تعلم علم اليقين أنه لا يمكن أن تصلح الأمور إلا بفطرة الله التي فطر الناس عليها وجبلهم عليها، فالمرأة لا تستقيم حياتها إلا مع بعلها، إذا كانت تحته سامعة له ومطيعة، ولا يستقيم أمر المرأة مع الرجل إلا إذا اتقى أيضا الرجل ربه، وأحس أنها أمانة في عنقه، ومسئولية يسأل عنها بين يدي الله ربه فليتق الله فيها، فإذا علم كل منهما حق الآخر وأداه استقامت الأمور.
أما أن تخرج المرأة عن طورها، وتحاول أن تشابه الرجال، ولا تعترف لزوجها بحق، أو تقول: ليس لك علي أمر، فأنا أفعل بنفسي ما أشاء، وأنا حرة في نفسي، وهكذا تفعل مع إخوانها وأوليائها إذا كان لها أخ أكبر منها، أو كان لها أب، فكل ذلك من العصيان والتمرد، ومن الاسترجال نسأل الله السلامة والعافية.
فعلى المؤمنة أن تتقي الله عز وجل، وأن تحذر من مشابهة الكافرات والعاهرات والساقطات اللاتي لا حياء عندهن، وألا تجاريهن في الأخلاق الرديئة، فإن من أحب قوما وصنع صنيعهم حشر معهم والعياذ بالله.
فأمور النساء لا تستقيم إلا بالقوامة، فإذا أحست المرأة بحق بعلها حفظت هذا الحق، فلا تخرج من البيت إلا بإذنه، وإذا شعر الرجل أن امرأته تحته، وأحس بهذا الحق الذي له عليها، فإنه سرعان ما يستجيب لكثير من الأمور، ويحصل شيء من الود والمحبة والألفة بين الزوجين، والعكس بالعكس، فإن الرجل متى ما شعر من المرأة أنها مستعلية عليه، فإنه سيتخذ أمورا قد تكون سببا في هدم بيت الزوجية، فالواجب على المرأة أن تطيع زوجها، ولا تخرج من بيته إلا بإذنه، ويجب عليه أن يتقي الله في هذا الحق، فكما أن النساء مطالبات بحفظ حق القوامة وعدم الخروج من البيت إلا بإذن الرجل، كذلك ينبغي على الرجل أن لا يستغل ذلك، وأن يتقي الله في امرأته وزوجه، فلا يأمرها بعقوق الوالدين، فيمنعها عن والديها إذا كان هناك مناسبة، أو أمر موجب لزيارة الوالد أو الوالدة لمرض، أو حاجة، أو تحتاج أمها أن تراها، أو يحتاج أبوها أن يراها، وهو مريض، أو نزل به شيء، أو كانت هناك مناسبة جرى العرف أن تكون شاهدة فيها، فعليه أن يساعدها على ذلك، وأن يعينها على ذلك، وأن يهيئ لها من الأسباب ما تصل به الرحم وتبلها ببلالها.
فالمقصود: أنه لابد من التعاون من الطرفين، فالإسلام لم يعط الرجل حق القوامة بدون قيد، وإنما له حق القوامة مع تقوى الله عز وجل، ولذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا بقوله: (إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فليأذن لها) ، فنهى عن استغلال حق القوامة.
فلا ينبغي استغلال مثل هذه الحقوق، بل ينبغي العدل الذي أمر الله به وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، وينبغي وضع الأمور في نصابها، وأن يعلم كل منهما أن الله سائله عن حق الآخر ضيع أو حفظ.
أحوال يستحب للرجل فيها الإذن لزوجته بالخروج
قال رحمه الله تعالى: [ويستحب إذنه أن تمرض محرمها وتشهد جنازته] ويستحب له أن يأذن لزوجته أن تمرض قريبها المحرم، تكون معه في مرضه كمرض الموت، أو الأمراض الشديدة، كأن يمرض والدها وليس له مرافق في مرضه، فيأذن لها أن تكون مع والدها، ويذهب بها إليه، فالرجل الكامل الفاضل هو الذي زينه الله عز وجل بمكارم الأخلاق ليكون من خيار المؤمنين؛ كما شهد النبي صلى الله عليه وسلم وهو أحسن المؤمنين وأكملهم خلقا بذلك حين قال: (أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا) .
فينبغي على الرجل إذا علم بمرض والد زوجته، أو علم أن والدتها تحتاج إليها، فإن من مكارم الأخلاق، ومحاسن العادات، بل ومما يحمد ويكون له أطيب الأثر أن يبادر المرأة بنفسه وألا ينتظر من المرأة أن تقول له: أريد أن أذهب؛ فهذا هو صنيع الأخيار والصفوة الأبرار، الذين هم موفقون ومسددون في أمورهم، لا ينتظر منها ذلك القول؛ بل هو الذي يقوم بأخذها والذهاب بها إلى والدها، فإن أخبرت أهلها أنه هو الذي جاء بها أو أنه هو الذي أمر، فكم سيكون له من صالح الدعوات! وكم سيكون له من المحبة والقبول عند أهلها! وهذه كلها أمور محمودة وعواقبها طيبة.
فينبغي للمسلم أن يكون على أكمل الأحوال ولذلك قالوا: لا يكون المؤمن على أكمل الإيمان إلا إذا كان في صفاته وأحواله على أكمل الأحوال.
فإذا كان صهرا لقوم كان خير صهر لصهره، وإذا كان زوجا لامرأة كان خير زوج من خيار الأزواج لزوجاتهم، فهذه دائما مراتب معالي الأمور.
فإذا علم أن هناك قريبا لها يحتاج إليها، وتأمن الفتنة في وجودها معه، فحينئذ يذهب بها إليه، إلا أنه قد توجد بعض المعوقات كوجود بعض الفتن في بيت القريب، فإن أمكن الزوج أن يسيطر على ذلك، ووثق من زوجته، فليذهب بها، وليوصها بتقوى الله عز وجل، وإذا كانت لا تستطيع أن تأمن الفتنة، ولا يستطيع هو، وأمكن أن يذهب معها، فليساعدها على صلة الرحم، وليكن حافظا لحق الله عز وجل في تلك الصلة.
فهذه أمور يحتاج كلا الزوجين أن يتفاهما فيها، ولا يستطيع الإنسان أن يضع لها حدا معينا، إنما المقصود وجماع الخير كله أن يتقي الله كل منهما في حق الآخر.
قال رحمه الله تعالى: [وتشهد جنازته] أي: أن تراه بعد تكفينه، ففي بعض الأحوال إذا توفي الرجل، فإن البنت تحب أن ترى والدها بعد تكفينه وتغسيله فتشهد جنازته، بمعنى: تلقي عليه النظرة، كما فعل أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين كشف وجه النبي صلى الله عليه وسلم وقبله، وقال: (طبت حيا وميتا) ، فإذا أرادت أن تسلم على والدها بمعنى أن تقبله وهو ميت، أو قريبها المحرم، فأخذها من أجل أن تلقي عليه النظرة، أو نحو ذلك فلا بأس، أما أن تخرج معه في الجنازة، فالمرأة لا تشيع الجنازات، ولا تشهد الجنازة.
مدى سلطة الرجل على زوجته
قال رحمه الله تعالى: [وله منعها من إجارة نفسها ومن إرضاع ولدها من غيره إلا لضرورته] قوله: (وله منعها من إجارة نفسها) أي: أن للزوج أن يمنع الزوجة من إجارتها لنفسها؛ أي: من عملها، فيأمرها أن تجلس في البيت ويقوم بالنفقة عليها، فإذا أمر الزوج زوجته أن تجلس في البيت وجب عليها أن تجلس، ولا يجوز لها أن تمتنع وتعصيه، فإن عصته فقد عصت الله ورسوله.
ثم إذا أمرها أن تجلس في بيته وقام بحقوق النفقة، فلا يجوز لها أن تؤذيه، فتجلس في البيت وتظهر له التسخط والتمرد والتبرم والتأثر من منعه لها، فلا ينبغي لها أن تفعل هذا؛ لأن المرأة سكن للرجل، وجعل الله عز وجل خيرها في بيتها، فإذا لزمت بيتها وقرت في قرارها، وقامت على بيت الزوجية، وأصلحت أبناءها وبناتها، فهذه هي رسالتها الأولى، وهذا هو حقها الأوجب الآكد.
فإذا لم يكن للمسلم أن يبر خالته ويعق أمه، فكيف تذهب للغرباء وتترك الأقارب وتترك أبناءها وفلذات كبدها لمرأة أجنبية تربي أولادها؟! فإذا أمرها زوجها أن تجلس في البيت وتربي الأولاد، فعليها السمع والطاعة بنفس مطمئنة، وترضى بما أمرها به زوجها، فلعل الله أن يجعل لها في ذلك خيرا كثيرا.
فكم من امرأة خرجت فرأت من الفتن ما تمنت أنها لم تخرج، وكم من امرأة مكثت في بيتها فبارك الله لها في مجلسها وبقائها في بيتها، وهذه الأمة يوم أن كانت في أوج عزها وكرامتها كانت المرأة ماكثة في بيتها، وكلنا يعلم أن خروج المرأة ليس بشرط في سعادة الأمة ولا في كمالها، بل إن سعادة الأمة في بعد المرأة عن الفتن وسلامتها عن فتنتها وفتن غيرها، فقد قالت فاطمة رضي الله عنها: (خير للمرأة أن لا ترى الرجال، ولا يراها الرجال) فإذا أخذت الرجل الغيرة وقال لها: يا أمة الله! اجلسي في بيتك، فقالت: سمعا وطاعة، أثابها الله على سمعها وطاعتها، وبارك لها في مجلسها؛ لأن هذا من تقوى الله، ومن اتقى الله جعل له فرجا ومخرجا، فحينئذ قد يضع الله البركة لها في القليل الذي يكون من زوجها، فيكون خيرا لها من كثير لا تحمد عاقبته.
ولا يعني هذا أنه لا يجوز لها أن تخرج، وإنما الكلام هنا عن الأصل الشرعي، فالأصل الشرعي قوله تعالى: {وقرن في بيوتكن} [الأحزاب:33] ، والأصل الشرعي أن تحفظ أبناءها وبناتها وتقوم على تعليمهم وتربيتهم وتوجيههم، وهم أمانة في عنقها، ولا تستطيع المرأة أن تتصور عظيم الخسارة التي يمنى بها أولادها وبناتها حينما تترك البيت وتذهب خارجة لغير رسالة البيت وتفرط في حق البيت.
فلتتصور لو كانت أمها تتركها في البيت فكيف سيكون حالها؟ ولو أنها نشأت في بيت لا ترى أمها إلا حين رجوعها من العمل، وهي في حالة منهكة مجهدة لا تستطيع أن تتبسم لها، ولا أن تعطيها حنانا، ولا أن تقوم عليها بشأن، وقد تركتها إلى أجنبية فكيف يكون حالها؟ فإذا طلب الزوج المرأة أن تبقى في بيتها فعليها أن تتقي الله، وأن لا تعارض وأن لا تمانع، وأن لا تقول لزوجها: دمرت مستقبلي، فإن مستقبل المرأة في تقوى الله عز وجل، وفي خوفها من الله ومراقبتها لله سبحانه وتعالى، وقيامها بحقوق بيتها وحقوق زوجها، وليس مستقبلها موقوفا على خروجها من البيت، وإلا ما قال الله: {وقرن في بيوتكن} [الأحزاب:33] .
فالأصول كلها دالة على أن من حق الزوج أن يحفظ زوجته في بيته، فإذا خرجت المرأة وأصرت، فقد عصت زوجها، وإذا عصته على هذا الوجه، وقد أمرها أن تقر في بيتها، فإنها آثمة في ذلك الخروج، وآثمة في تلك الإجارة، ولا يجوز للغير أن يعينها على إجارتها المحرمة على هذا الوجه، وعليها أن تسمع وأن تطيع، وكذلك توصي المؤمنة أختها إذا علمت أن زوجها لم يأذن لها بالعمل، ولم يأذن لها بالوظيفة، فإن عليها أن توصيها وتذكرها بالله عز وجل أن تبقى في بيتها، وأن لا تصر على معارضته، وتنهاها عن النشوز عنه بمعصيته في هذا الأمر.
فإن الزوج إذا دعا امرأته أن تمكث في البيت، فلربما دعاها خوفا عليها من الفتنة، وهذه غيرة شرعية، ومن حقه أن يغار، والرجل الكامل هو الذي يغار، وقد يأمرها بالبقاء في بيتها لمصلحة أولادها، فأولادها بدونها يضيعون، ولا يمكن لأي امرأة أن تحسن بحنان الأمومة ما لم تكن مع أولادها، ولا يمكن لأي ولد أن يجد حنان الأمومة من غير الأم، فضياع هذا الحق يضر بالأولاد وينشئون وقد تقطعت الأواصر بينهم وبين الوالدين، ولهذا كله نتائج عكسية لا تحمد عقباها، فإن نظر إلى أن خروج زوجته فيه نفع لبنات المسلمين، وعلم أنها حافظة لدينها، حافظة لمروءتها، بعيدة عن الفتن، وقام على ذلك على أتم الوجوه وأكملها، وأرادها أن تبقى في ذلك فلا بأس، وهو مأجور على ذلك إذا كان قصده أن تعلم بنات المسلمين الخير، فإن الله يأجره على هذه النية الصالحة، ويعتبر من الأعمال الطيبة، ولا بأس بذلك إنما المقصود حين يرى الزوج أن المصلحة بقاؤها فينهى الزوجة أو يمنعها، فما على الزوجة إلا أن تسمع وتطيع.
قال رحمه الله: [ومن إرضاع ولدها من غيره إلا لضرورته] أي: لو أمرها أن ترضع ولده، ونهاها أن ترضعه من غيرها، فإنه يجب عليها أن تسمع له وتطيع، إلا من ضرورة وحاجة، فإذا كان عندها ضرورة وحاجة توجب لها أن تصرف الولد إلى غيرها فحينئذ لا بأس.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 15-05-2025, 06:55 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,405
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب النكاح)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (427)

صـــــ(1) إلى صــ(14)



شرح زاد المستقنع - باب عشرة النساء [2]
يجب على الزوج أن يعدل بين نسائه في المبيت دون الوطء، فيعطي كل واحدة، سواء كانت حائضا أو مريضة أو مجنونة أو نحو ذلك، ولا يجوز له أن يفضل واحدة على غيرها أو ينقص واحدة من حقها أبدا، إلا إذا وجد سبب شرعي، كسفر ونحوه، أو وهبت قسمها لغيرها من نسائه.
وإن نشزت عليه زوجته وعظها، فإن لم ينفع هجرها في المضجع، فإن لم ينفع ضربها ضربا غير مبرح.
أحكام المبيت والقسم بين الزوجات

وجوب المساواة في القسم دون الوطء
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [فصل: وعليه أن يساوي بين زوجاته في القسم لا في الوطء] أي: على الرجل أن يساوي بين الزوجات في القسم -وهو المبيت- فيبيت عند كل واحدة مثل الثانية، فيقسم بينهن إن كن أربعا فلكل واحدة ليلة، ولا يفضل إحداهن على الأخرى فيبيت عند إحداهن ليلتين فيزيدها في المبيت، فلا يجوز له ذلك، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (من كانت له زوجتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه مائل) ، واختلف العلماء في تأويل هذا الحديث، فقال بعض العلماء: شقه مائل، أي: يأتي مشلولا -والعياذ بالله- فيبعث ونصفه مشلول، وقال بعض العلماء: (جاء يوم القيامة وشقه مائل) أي: أن كفة السيئات تزيد على الحسنات، بمعنى أنه سيصيب من ذلك الإثم شيئا كثيرا؛ لأن المرأة ظلمها عظيم، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (إني أحرج حق الضعيفين المرأة واليتيم) ، والسبب في هذا أن المرأة فيها من المشاعر والضعف والرحمة والحنان ما ليس في الرجل، فالغلطة من الرجل والأذية والإضرار -خاصة بينها وبين ضرتها كأن يعطي ضرتها أكثر مما يعطيها- يحدث عندها نوعا من الألم والأذية أكثر من غيرها؛ لأنها تحس بنقصها في أنوثتها وعدم حظوتها عند زوجها، وتحس أن زوجها يكرهها، فتتولد عندها أمور كثيرة، ولربما أضرت بالزوجة الثانية بسبب هذا الظلم، فأصبحت أذيتها للزوجة الثانية ناشئة بسبب تفضيل الزوج لهذه الزوجة الثانية، وحينئذ ينال إثم إضرارها، وإثمها إذا ضرت الغير بسبب إضراره لها.
فبسبب هذا تكون الذنوب عظيمة عليه، فكأنه ينال إثما عظيما حتى ترجح كفة سيئاته على حسناته، والله أعلم بالمراد، وغاية ما فيه أنه أمر عظيم، فينبغي على المسلم أن يتقي الله، فالعدل الذي يجب على الرجل العدل في القسم، وفي الحقوق كالنفقات ونحوها، فيقسم بينهن بالسوية.
ولقد كان السلف رحمهم الله يبالغون في هذا العدل أيما مبالغة، وأثر عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه إذا كانت الليلة لإحداهن لا يدخل بيت الثانية في ليلة الأخرى، خشية أن يحدث عندها شيئا لا يحدثه عند الأخرى فيكون تفضيلا عليها، فالأمر عظيم في قضية العدل بين الزوجات، ولا يستطيع الإنسان أن يعدل إلا إذا وفقه الله عز وجل، فعليه أن يعدل بين نسائه في القسم في المبيت، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم وعدل ولنا فيه أسوة حسنة.
قوله رحمه الله تعالى: [في القسم لا في الوطء] وذلك لأن الوطء يتبع المحبة والقلب، فربما كانت إحداهن أجمل، فكان وطؤه لها أكثر من غيرها، فالعماد هو القسم في المبيت، وهذا أمر قرره العلماء، والأصل في ذلك قوله سبحانه وتعالى: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة} [النساء:129] فقالوا في قوله تعالى: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء} [النساء:129] قالوا: إنما هو قسم القلوب، فإن المحبة التي في القلوب، والتي ينشأ عنها حظوة الجماع، وحظوة الإتيان، تختلف من امرأة إلى أخرى، وتختلف بحسب أساليب النساء، فالمرأة التي أخلاقها كريمة ومؤدبة مع زوجها، وحظية مع زوجها ليست كالمرأة الشديدة والقوية، فهذا يختلف من امرأة إلى أخرى، فإذا جامع إحداهن أبلغ من جماعه للأخرى فإنه لا ملامة عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك) وهو القلب.
قال رحمه الله تعالى: [وعماده الليل لمن معاشه النهار، والعكس بالعكس] .
أي: وعماد القسم في الليل، فيبيت عندها ويصيبها لمن معاشه النهار، وهذا هو الأصل، فإن الله جعل الليل لباسا وجعل النهار معاشا، فإن اختلف الحال فصار نهاره راحة وصار ليله عملا فحينئذ يكون قسمه بالنهار؛ لأنه لا يستطيع أن يعطي حقوق النساء في المبيت، فيكون قسمه بالنهار، فيكون العماد على النهار، وهذا يختلف بحسب اختلاف الأشخاص وأحوالهم.
من تستحق القسم من الزوجات
قال رحمه الله تعالى: [ويقسم لحائض ونفساء ومريضة ومعيبة ومجنونة مأمونة وغيرها] .
أي: إذا حاضت إحدى نسائه فعليه أن يقسم لها، فيبيت معها ويباشرها ولا يجامعها، فلها حق أن يبيت معها، فلا يقل قائل: إن الحائض لا يجوز جماعها فيسقط حقها في المبيت، إذ لو سقط حقها في المبيت، فمعنى ذلك أنه لا يبيت عندها، وله الحق أن يعطي ليلتها للأخريات، فلو كان عنده أربع نسوة فإنه سيقسم على ثلاث منهن ويسقط حق الحائض، والواقع أنه لا يسقط حق الحائض، ونص على ذلك جماهير العلماء رحمهم الله، فالمرأة الحائض يبيت معها ويكون هذا المبيت مبيت المباسطة والأنس، وهو حق من حقوقها.
قوله: (ونفساء) أي: يقسم كذلك للنفساء.
قوله: (ومريضة) ؛ فالمريضة يبيت معها، وهي أحوج إلى وجوده الذي يحقق معاني كثيرة من وجود الأنس وتخفيف الألم بمواساتها ونحو ذلك.
قال رحمه الله تعالى: [ومعيبة] والمعيبة لو كان بها عيب يمنع الوطء كذلك لها حق المبيت.
قال رحمه الله تعالى: [ومجنونة مأمونة] وللمجنونة حق المبيت بشرط أن لا يكون جنونها مضرا، كأن تضره وتؤذيه، أما لو كانت تضره ولا يستطيع أن يبيت معها، فحينئذ يكون من حقه أن يعتزلها خوفا من الضرر.
قال رحمه الله: [ومجنونة مأمونة وغيرها] [وغيرها] يعني: ممن هي في حكم هؤلاء، فالقسم لازم في هذه الأحوال، وكذا مستحاضة من باب أولى وأحرى، خاصة على القول بأن المستحاضة توطأ، فهؤلاء النسوة وجود هذا العيب فيهن لا يمنع من القيام بحق القسم.
أسباب سقوط القسم والنفقة عن الزوج
قال رحمه الله: [وإن سافرت بلا إذنه، أو بإذنه في حاجتها، أو أبت السفر معه، أو المبيت عنده في فراشه، فلا قسم لها ولا نفقة] بعد أن بين الواجب على الرجل تجاه نسائه من القسم والعدل، شرع في المسائل المستثناة، وكنا ننبه غير مرة أن من عادة الفقهاء أن يذكروا الأصول، ثم يذكروا بعد ذلك ما يستثنى من الأصول، فهنا نوع من النسوة يسقط حقهن في القسم.
فبعد ذكر النوع الذي لا يسقط حقه في القسم، شرع رحمه الله تعالى في النوع الذي يسقط حقه في القسم.
فمن ذلك أنها إن سافرت بغير إذنه، فحينئذ يسقط حقها في القسم، فلو كان عنده زوجتان فسافرت إحداهما من دون إذنه وبدون رضاه، فإنه يبيت عند الثانية في الليالي كلها، ويسقط حق المسافرة في القسم، فلا يحق لها أن تطالب بالعوض، إذا رجعت من السفر، فلا تقل: اقسم لي ما فاتني! فقد سقط حقها بسفرها، لأنه سفر غير مأذون، فإذا لم يأذن لها سقط حقها.
قوله رحمه الله تعالى: [أو بإذنه في حاجتها] إن كان السفر بإذنه فإنه لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: إما أن يكون السفر بإذنه لحاجتها هي، كأن تسافر لأم مريضة، أو والد مريض، أو غيرهما من محارمها؛ لتصل رحمها وتقوم على حوائجهم، أو سافرت لتعالج نفسها، فهذا السفر لحاجتها، فحينئذ إذا سافرت مع مريض، أو لحاجتها، أو حاجة قريبها، فإنه يسقط حقها، ولا يحق لها أن تقول لزوجها بعد رجوعها: اقسم لي، رد لي حقي! فحقها في القسم ساقط إذا سافرت بغير إذنه، أو سافرت بإذنه لحاجتها.
الحالة الثانية: أن يكون سفرها بإذنه لحاجته هو، فحينئذ لا يسقط حقها؛ لأنه يمكن أن يرسلها ويبقى مع الثانية.
فإن كان حقها يسقط بسفرها في حاجته، فقد يحتال عليها، فكلما استقرت أرسلها ليسقط حقها.
فما دام هو السبب في إبعادها، فإذن لابد أن يقسم لها، ففي هذه الحالة يلزمه أن يرد لها من قسمها ما فات بسببه؛ لأنه هو السبب في ذلك، فلو سافرت في حاجته يومين، أو ثلاثة أيام، فإن الثانية أخذت اليوم الزائد، فإن رجعت أخذت ما فاتها من الأيام، بمعنى أنه يقضي لها ما فاتها من الأيام، فإن سافرت في ليلتها ورجعت في ليلة الثانية، فحينئذ تنتظر، فيبيت مع الثانية ليلتين، ثم يبيت مع الثانية ليلتين، ليلة يقضي لها بها ما فاتها في السفر، وليلة يعطيها بها حق القسمة.
قوله رحمه الله تعالى: [أو أبت السفر معه] من السنة إذا أراد الرجل أن يسافر وعنده امرأتان، فإن أمكنه أن يصحبهما معا، وأن يخرجا معه فلا إشكال، والقسم حينئذ في السفر كالقسم في الحضر، فيقسم لهن في سفرهن كما يقسم لهن في حضرهن، فإن سافر بالاثنتين وقسم بينهما فقد عدل، وإن سافر سفرا لا يستطيع معه أن يصحب واحدة منهن، وترك الاثنتين، فإنه إذا رجع قسم بينهما بالعدل، ولا إشكال في ذلك أيضا، لكن الإشكال إذا سافر بإحداهما دون الأخرى.
فإن سافر بإحداهما دون الأخرى، فإن كانت الأخرى هي التي امتنعت، وقالت: لا أريد أن أسافر، سقط حقها، كرجل أراد أن يعتمر، فقال لزوجتيه: أريدكما أن تذهبا معي إلى العمرة، فقالت إحداهما: أذهب، وقالت الأخرى: لا أريد أن أذهب، فإن امتنعت سقط حقها، فإذا رجع فليس عليه أن يقضي لها الأيام التي سافر فيها؛ لأنها أسقطت حقها بالامتناع من الخروج.
وإن كان لا يمكن أن يسافر إلا بواحدة، وكلتاهما تريد الخروج فلذلك حالتان: الحالة الأولى: يكون سفره مرتبا، بحيث يمكن العدل معه، فيأخذ هذه لسفرة والثانية لسفرة، وذلك إن كان سفره مرتبا أياما معينة ويمكن معها القسم، وانتظام القسم، فحينئذ لا إشكال أن يسافر بهذه تارة، وبهذه تارة، ويحقق العدل.
الحالة الثانية: أن لا يمكن الترتيب وذلك في السفر العارض، فإذا لم يمكنه الخروج بهما أقرع بينهما، فمن خرجت لها القرعة، فحينئذ تخرج ويسافر بها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر بنسائه أقرع، فإذا عاد لم يقسم للتي لم تخرج، فهذا هو هديه عليه الصلاة والسلام.
ومن هنا أخذ العلماء مشروعية القرعة عند تساوي الحقوق، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما تساوت حقوق زوجاته فرق بينهن بالقرعة، فدل ذلك على مشروعية القرعة لتمييز الحقوق حين تستوي ولا يمكن التمييز بينها.
قوله رحمه الله تعالى: [أو المبيت عنده في فراشه، فلا قسم لها ولا نفقة] أي: إذا أبت أن تبيت عنده في فراشه فلا قسم لها، ويسقط حقها في القسم.
أما النفقة فإن المرأة إذا نشزت عن زوجها، وامتنعت من فراشه، فإنه يسقط حقها في النفقة؛ لقوله تعالى: {فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن} [النساء:24] ، وإيجاب النفقة من شروطه وجود الاستمتاع، فالمرأة التي تمكن زوجها من الاستمتاع بها تستحق النفقة، والمرأة التي تنشز وتمتنع من حقوق زوجها، ولا تمكنه من نفسها وتأبى عليه، يسقط حقها في النفقة.
التبرع بحق القسم
قال رحمه الله: [ومن وهبت قسمها لضرتها بإذنه، أو له، فجعله لأخرى جاز] قوله: (ومن وهبت قسمها) يعني: ليلتها، وقد يقسم على ليلة، وقد يقسم على ليلتين، وقد يقسم على ثلاث، على حسب ما يتفق عليه النساء، بحسب ظروفهن، فالقسم على حسب ما يصطلحن ويتفقن عليه.
بعد أن بين رحمه الله من التي لها حق القسم، ومن التي يسقط حقها في القسم، وبين حقوق القسم وضوابط القسم، شرع في مسألة التنازل عن هذا الحق.
فللمرأة أن تتنازل عن حقها في المبيت إلى أخرى، بشرط أن يأذن الزوج، فإن تنازلت عن قسمها لضرتها، وقالت: ليلتي لفلانة، فإنه يجوز ذلك، وهذا من الصلح بين الزوجين، خاصة إذا خافت من زوجها لقوله تعالى: {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير} [النساء:128] وهذا من الصلح ومن الخير.
فإذا اتفقت المرأة مع زوجها أن تكون ليلتها لضرتها، كما فعلت سودة رضي الله عنها، فقد كانت كبيرة، وخافت أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوهبت ليلتها لـ عائشة رضي الله عنها وأرضاها، فدل هذا على مشروعية تنازل المرأة عن حقها، لكن قيد رحمه الله هذا التنازل بقوله: (بإذنه) ، فلو أن امرأة شابة تنازلت عن قسمها لعجوز، فإن في هذا التنازل ضررا عليه، ولا يمكن أن يرضى به، فليست مسألة التنازل عن القسم لحظوة المرأة وحق المرأة، وإنما هو مقرون بإذن الزوج؛ لأن له حقا في إعفاف نفسه، وتحصينها عن الحرام.
قوله رحمه الله تعالى: [أو له] أي: إذا قالت له: أتنازل عن هذه الليلة فضعها لمن شئت، وأمكن أن يضعها لأي واحدة من نسائه فله أن يختار من نسائه من يأتيها.
قال رحمه الله: [فإن رجعت قسم لها مستقبلا] أي: إن رجعت عن إذنها، وقالت: ما أذنت لك به قد رجعت عنه وأريد حقي، فهذا الإذن لا يسقط الحق إلى الأبد، ولها حق الرجوع عن هذا التنازل، فلو جاءت -مثلا- بعد شهر، أو بعد سنة، وقالت: أريدك أن تقسم لي كما كنت، فليس له أن يقول لها: أنت تنازلت، ولا رجوع لك، بل يلزمه أن يقسم لها، ولكن يستأنف الحكم، ولا يلزمه أن يقضى ما سبق؛ لأنها تنازلت عنه، فسقط ما كان لها بالتنازل، وحينئذ ليس من حقها أن تطالبه بالقضاء.
لا قسم للإماء
قال رحمه الله تعالى: [ولا قسم لإمائه وأمهات أولاده، بل يطأ من شاء متى شاء] الأمة ليست كالحرة، فإن ملك اليمين يوطأ بالتسري، فلو أن له عشرين أمة ويريد أن يتسرى بهن فلا يلزمه أن يقسم بينهن في الليالي؛ لأن الإماء ليس لهن حق القسم، فحكم الزوجات لا ينطبق على الإماء من كل وجه، فالقسم إنما يختص بالزوجة، والأمة ملك اليمين، إن شاء أخرها وإن شاء قدمها، وإن شاء وطئها، وإن شاء تركها، فالأمر إليه، فلا تأخذ الأمة حكم الزوجة، فالزوجة لها حكم والأمة لها حكم.
الإقامة عند العروس بعد الزفاف
قال رحمه الله تعالى: [وإن تزوج بكرا أقام عندها سبعا ثم دار] هذا هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه، فمن السنة إذا تزوج البكر أن يقيم عندها سبعا لمكان الوحشة، ولأنها حديثة العهد بالعرس، فيطيب خاطرها بالسبع.
قال رحمه الله تعالى: [وثيبا ثلاثا وإن أحبت سبعا فعل وقضى مثلهن للبواقي] وأما إذا تزوج الثيب فإنه يقيم عندها ثلاثا، وعند انتهاء الثلاث يخير الثيب فيقول لها: إن شئت سبعت لك، على أن يكمل لنسائه، فإذا سبع لها فزادها أربعا على الثلاث التي لها، فإنه يكمل للباقيات الزيادة التي زادها للثيب وهي الأربعة أيام، فيجعل القسم دائرا بينهن، أي: بقية الزوجات في الأربعة الأيام الزائدة، فيعدل بين الجميع ثم يعود إلى القسم لكل واحدة ليلة.
ولذلك لما جاء في حديث أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها حين تزوجها: (ليس بك هوان على أهلك، إن شئت سبعت لك وسبعت لغيرك) ، أي: أنني أكمل العدد الذي سبعته لك لغيرك، وقوله: (سبعت لغيرك) من باب التجوز، لا أنه يكون عند الغير سبعا.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 15-05-2025, 06:57 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,405
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي



تعريف النشوز
قال رحمه الله تعالى: [فصل: النشوز معصيتها إياه فيما يجب عليها] .
بعد أن بين رحمه الله حقوق الزوج على زوجته، وحقوق الزوجة على زوجها، شرع فيما يعترض أداء هذه الحقوق، وفيما يخالف القيام بالحقوق، وهو ما يسمى بالنشوز، والنشوز يكون من الزوج لزوجته، ويكون من الزوجة لزوجها، ويكون من الطرفين معا، فإما أن تكون المرأة هي الناشز على زوجها، أو يكون الرجل هو الناشز على زوجته، أو يكون الطرفان ناشزين، فهذه كلها أحوال للنشوز.
وأصل النشوز من نشز الشيء إذا كان مرتفعا، والمراد به: أحوال تكون من الرجل، وتكون من المرأة مخالفة لشرع الله، يستعلي بها أحد الزوجين على الآخر، فالرجل يستعلي بها على المرأة لمنعها من حقوقها، والمرأة تستعلي بها على الرجل بإضراره في حقوقه، وهو من أسوأ ما يكون في العشرة الزوجية، وبه تفسد الحياة الزوجية.
ولذلك بين الله عز وجل نشوز الرجل على المرأة، فقال تعالى: {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا} [النساء:128] ، وبين نشوز المرأة على زوجها، فقال سبحانه: {واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا} [النساء:34] ، وبين الحكم في حال وجود الشقاق بسبب نشوز الطرفين، فقال تعالى: {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها} [النساء:35] ، فما ترك كتاب الله شيئا، ولقد كان الإمام الشافعي رحمه الله يقول: ما من شيء في هذه الحياة إلا وهو في كتاب الله، بين الله حكمه، وبين الله ما يجب على المسلم تجاهه، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، حتى الحقوق، فقد بين القرآن الأثر المترتب على أدائها والأثر المترتب على الإخلال بها.
فقوله رحمه الله تعالى: [النشوز معصيتها إياه] يعني معصية الزوجة لزوجها.
[فيما يجب عليها] هذا بيان لمحل المعصية، أي: ما يجب له عليها من الحقوق، وعلى هذا لا يمكن أن نصف المرأة بأنها ناشز في المستحبات والفضائل، كرجل احتاج إلى مال قرضا، وعند زوجته مال، فقال لها: أقرضيني، فقالت: لا أقرضك! فلا يقال: إنها ناشز؛ لأنها إن أقرضته ففضل منها، وإن لم تقرضه فعدل، فهذا حقها، وهي ما ظلمته، ولا ظلمت نفسها، فلا يقال: إنها ناشز إن منعت فضلا، إنما تكون ناشزا إذا منعت فرضا واجبا له عليها كما ذكر رحمه الله تعالى.
مراحل النشوز وطرق علاجه
جعل بعض العلماء للنشوز مرحلتين: الأولى: مرحلة المقدمات للنشوز، ودلائل النشوز التي لا يظهر بها، ولا تظهر المرأة معها الإعراض عن الزوج علانية، وإنما فيها أمارات ودلائل تدل على أن هناك أمرا تخفيه المرأة، وعندها يتوجس الرجل من المرأة خيفة كما أشار الله تعالى إليه في قوله تعالى: {واللاتي تخافون نشوزهن} [النساء:34] .
الثانية: أن يقع النشوز فعلا، فتعصي المرأة زوجها علانية كأن تقول له: لا تطأ لي فراشا، أو لا يمكن أن تطأني، ولا تقربني ونحو هذا، فحينئذ تنشز تماما، فأصبحت هناك مرحلتان: مرحلة مقدمة للنشوز، ومرحلة يقع بها النشوز حقيقة، ومرحلة المقدمة للنشوز تكون أيضا على حالتين: الحالة الأولى: أن تبدو العلامات دون إصرار، والحالة الثانية: أن تبدو العلامات مع شيء من الإصرار، مع كونها مطيعة إذا دعاها إلى فراشه.
فهاتان الحالتان في المقدمات، وبناء على ذلك قسم بعض الفقهاء -كما درج عليه الشافعية ومن وافقهم- المسألة إلى ثلاث مراتب: المرتبة الأولى: الأمارة والعلامة على النشوز.
والمرتبة الثانية: العلامة والأمارة مع الإصرار، دون امتناع عن الفراش.
والمرحلة الثالثة: النشوز الكلي.
أما المرتبة الأولى: فظهور الأمارات، فتكون أول أمرها مطيعة له إذا أمرها، وسامعة له إذا دعاها، ومجيبة بكل ما يطلبه، ثم تنقلب على العكس، فإذا أمرها لم تأتمر، وإذا دعاها أتت متأخرة، وإذا طلب شيئا منها فإذا بها تلوي وجهها، وتحدث نوعا من الظواهر والأمارات على ظاهرها، مما يدل على أنها متبرمة ساخطة لهذا، فهذه هي مرحلة بداية النشوز التي قال الله تعالى عنها: {واللاتي تخافون نشوزهن} [النساء:34] ، فهذه مرحلة الخوف.
أما المرحلة الثانية فهي إصرارها على المعصية، فيعظها ويذكرها بالله تعالى، ويقول لها: اتقي الله فإنه لا يجوز لك هذا، وإني أرى منك كذا وكذا، فإن كان الذي رآه من العلامة مرة أو مرتين فقد تكون مريضة، أو قد يكون لها عذر، كأن ترى منه شيئا لا تستطيع أن تجابهه به، فإذا جاء يعظها ويذكرها بالله فانكسر الذي في قلبها فاطمأنت، ورجعت إلى حالها الأول فلا إشكال، وحينئذ يتلافى هذا؛ لأن الوعظ كان تأديبا لها، فإن أصرت فذلك يدل على أن هناك شيئا تخفيه، فإذا طلب منها أن تناوله الشيء جاءت به إما متوانية متكاسلة وعادتها السرعة، أو جاءت به فوضعته بقوة وعادتها أن تضعه بين يديه، وكررت ذلك المرة تلو المرة وهو يذكرها وهي تصر فتصبح في مرحلة الإصرار.
وأما المرحلة الثالثة فهي عصيانها الفعلي، كأن يقول لها: لا تفعلي هذا، أو: هذا لا يجوز، فتقول له: ليس لك من شأن، وتعترض عليه.
ففي الحالة الثانية تكون مجيبة له إلى الفراش، فإذا جابهته وجابهها، وانكشف الأمر بينهما وامتنعت عن فراشه، فقد انتقلت للمرحلة الثالثة، وهي غاية النشوز.
هذا تقسيم لطائفة من أهل العلم، وفائدة هذا التقسيم عندهم أن الأحكام تترتب على حسب هذه المراحل الثلاث.
فالله تعالى يقول: {واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن} [النساء:34] ، فإن بدت المرحلة الأولى، أو العلامة الأولى شرع الوعظ، وإن بدت العلامة الثانية وهي الإصرار بعد الوعظ هجرها في المضجع، وإن بدت العلامة الثالثة، فأصرت على إعراضها، وعلى أذيتها، فإن دعاها إلى فراشه فلم تأت ولم تجب، انتقلت إلى حكم الثالثة فضربت، فيجعلون العقوبات مرتبة على المراحل الثلاث، ويجعلون الآية مجزأة على أحوال النشوز، كما جزءوا آية الحرابة على أحوال المحاربين في قوله تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض} [المائدة:33] ، فجعلوا هذه العقوبات مختلفة بحسب اختلاف قطع الطريق والحرابة، وهذا مذهب الشافعية ومن وافقهم.
وكذلك هنا، فالمرأة يبتدئ نشوزها بعلامة يحتمل أنها نشوز، ويحتمل أنها عفوية، أو لسبب من خطأ منه تذكره به، فيصلح خطأه، فتصلح هي خطأها، فهذا بالنسبة لوعظهن.
فالمرحلة الأولى: أن تظهر منها العلامة دون إصرار في المرة الأولى، والمرة الثانية، وفي المرة الثالثة ينبهها.
وليس المراد أنه بمجرد ما يرى من المرأة شيئا ينبهها مباشرة ويذكرها، فعلى الرجل أن يكون حكيما وأن يجعل الموعظة عند الموجب، وأن لا يضخم بعض الأشياء؛ فإن الناس تنتابهم بعض العوارض، وأنت بشر، فكما ترى في غيرك الخطأ، فغيرك يرى فيك الخطأ.
فليس كل فعل من المرأة، وكل قول يفسر بأنه نشوز، أو أنه مقدامات النشوز، وليس من اللائق أن يجلس الرجل يراقب كل صغيرة وكبيرة من المرأة، فإن الناس إذا كانوا على غفلتهم، فقد يكونون في مأمن من هذه الأمور.
فالمقصود: أن الإنسان بعد هذا لا يراقب مراقبة دقيقة، حتى ينظر أمارات النشوز، وإنما يكون الأمر محتفا بقرائن ودلائل من المكان، والزمان، والملابسات بالقول والفعل، الذي يصدر من المرأة، فيغلب على ظن الإنسان أنه بداية النشوز فيعظها.
والوعظ هو التذكير بالله تعالى، ومثل العلماء له بقوله لها: اتقي الله، وخافي الله عز وجل، ويا فلانة إن الله سائلك عن حقي عليك، فلا يجوز لك أن تتبرمي، ولا أن تتسخطي، يا فلانة إنك تفعلين كذا وكذا، وإن هذا لا يعجبني فاتقي الله في، أو نحو ذلك من الكلمات التي يذكرها فيها بالله عز وجل.
وهذا من حكمة الله عز وجل، وقد نبه عليه الذين لهم عناية ببحوث التربية، كما نبه عليه القدماء، وذكرته كتب الأدب، فقالوا: إن العقوبة أبلغ ما تكون، وأكمل ما تكون، وأوقع ما تكون في النفوس، وأثرها محمود إذا سبقت بإعذار، وهو أن تنبه المخطئ، وتعذر إليه، وتقول له: إياك أن تفعل، أو هذا الفعل خطأ، وقالوا: إن الصبي إذا نبهه والده في المرة الأولى، فقال له: إياك أن تفعل، فلا يقل له إذا كان في الأمر سعة: إن فعلت فسأضربك، بل يقول له في المرة الأولى: إياك أن تفعل، فإن رآه المرة الثانية يفعل ما نهاه عنه قال له: إن فعلت فسأضربك؛ لأنه إذا قال له: إياك أن تفعل، فأخطأ فسامحه شعر بحنان الأبوة ورحمة الأبوة، فإذا كررها مرة ثانية، فقال له: إن فعلت فسأضربك، فقد وعده، قالوا: فإن فعل فلا يتركه بل يضربه؛ فإنه إذا ضربه في الثالثة كان من أنجع ما يكون؛ لأنه لو تركه في الثالثة استمرأ الصبي، واستخف بوعيده، فأصبح إذا هدده لا يبالي بتهديده؛ لأنه ألف منه المسامحة، لكن إذا توعده، ووفى بوعيده، زجره ذلك.
ولذلك قال تعالى: {فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن} [النساء:34] فجعل العقوبة بعد الإعذار، وجعل الهجر للمضاجع -وهي العقوبة المتوسطة بين عقوبة الوعظ وعقوبة الضرب- جعلها كمجال للإصلاح، ومن هنا قال بعض العلماء: إن المرأة المحبة لزوجها إذا أعرض عنها زوجها تأثرت بذلك، وشعرت بخطئها، فأصلحته، وغيرت من حالها، واستقامت الأمور، فإن كانت غير محبة، فإنها تحتاج إلى من يشعرها بهذا الزوج، وتحتاج أن تنبه من غفلتها، وأن توقظ من سباتها بالقوة؛ لأن من لا تزجره الكلمة تزجره اللكمة، كما يقولون.
فإذا جاءها بالتي هي أحسن، وأعذر إليها، وأصرت، فحينئذ يضربها؛ لأنها لو تركت بدون عقاب لضاعت البيوت، وأصبحت البيوت هملا، والرجال قوامون على النساء.
وهذا -كحق من الحقوق- إنما هو في شواذ النساء، وإلا فالأصل في المؤمنة أنها لا تحيل زوجها إلى هذا، ولا تلجئه إلى هذا؛ لأن عندها من العقل، ومن خوف الله عز وجل ومراقبته ما يعقلها ويمنعها عن هذه الأمور، فإذا وعظها، وذكرها بالله، انتقل إلى الهجر.
والهجر للعلماء فيه وجهان: فمن أهل العلم من قال: إنه الوثاق، وهذا مأثور عن ابن جرير الطبري، ورجحه، من أجل الضرب، فجمع بين الهجر والضرب، حتى يكون أبلغ في التأديب، واختاره الإمام ابن جرير لحديث أسماء مع الزبير، أن الزبير بن العوام رضي الله عنه وأرضاه ضرب أسماء مع ضرتها حين وقع منهما ما وقع من أذيته رضي الله عنه وأرضاه، فالشاهد: أنه أخذ من هذا الأثر تفسير الآية الكريمة؛ لأن الهجار هو وثاق البعير، فقال هو ومن معه من العلماء في قوله تعالى: {واهجروهن} [النساء:34] أنه من الربط أثناء الضرب فقرن بين الهجر والضرب، فليس هناك إلا مرحلتان: الوعظ والعقوبة على هذا القول.
وأما على القول الثاني وهو قول الجمهور الذين قسموا المراحل إلى ثلاث -كما ذكرناها- فالعقوبات ثلاث: يبتدئ بالوعظ ثم الهجر، والهجر عند من يقول: إنه هجر الفراش فيه وجهان: فقال بعض أئمة السلف وأئمة التفسير، والفقهاء: يوليها ظهره في الفراش فيهجر جماعها، فهذا هجر بالفعل، ويهجر كلامها بالقول، فيمكنه أن يستخدم الفعل إذا نفع، ويمكنه أن يجمع بين الفعل والقول، والقول يتأقت، والفعل لا يتأقت، ففي الفعل يجوز أن يهجرها في المضجع شهرا لا يجامعها، وشهرين وثلاثة، ما لم يصل إلى حد الإيلاء، وأما بالنسبة للهجر هجر القول، وهجر الكلام، فلا يجوز أن يهجر فوق ثلاث ليال لورود النص.
وقال آخرون في الهجر: إن الهجر هجر الفراش بالكلية، ولا ينام معها في فراش واحد، وينام في غرفة غير غرفتها التي تنام معه فيها، ولربما هجر البيت فنام عند جاره، أو نام عند أخيه، أو عند أهله، فهذا من الهجر، وكله تحتمله الآية؛ لأن الهجر مطلق في القرآن، والنساء يختلفن، فمنهن من يهجرها بالقرب ويؤثر فيها، ومنهن من لا تهجر إلا بالبعد، فما وجده ناجعا نافعا لصلاحها وإصلاحها، ووفقه الله عز وجل في ذلك، فإنه لا بأس به.
ضرب الزوجة في النشوز
وأما الضرب في قوله تعالى: {واضربوهن} فإن ضرب النساء يشترط فيه ما يلي: أولا: ألا يكون ضرب قتل.
ثانيا: ألا يكون ضرب إدماء.
ثالثا: ألا يكون ضربا مزمنا.
رابعا: ألا يكون ضربا مشينا.
فهذه أربعة أنواع من الضرب ينبغي اتقاؤها.
أولا: أن لا يكون الضرب قاتلا، وضرب القتل: هو أن يضربها في مقتل، أو يضربها بآلة قاتلة، فلا يأتي أحد ويأخذ آلة قاتلة، مستدلا بقوله تعالى: (واضربوهن) ، بل هذا قتل، ويضمن بهذا بإجماع العلماء رحمة الله عليهم، ولا يضرب في مقتل وهي الأماكن التي لو ضرب فيها أدت إلى القتل، كأن يضربها على كبدها، أو يضربها على أماكن قاتلة، فهذا يوجب الضمان، أي: يوجب العقوبة، فهذا ضرب القتل.
ثانيا: ألا يكون ضربا مدميا، وهو الضرب الذي يجرح، كأن يضربها بشيء كالسلك أو نحوه، مما يجرح الجسم ويدميه، والآلات الحادة، كأن يجرحها بسكين، أو يجرحها بشيء له نفوذ في البدن، فهذا لا يجوز بإجماع العلماء رحمة الله عليهم.
ثالثا: ألا يكون الضرب مزمنا، والضرب المزمن هو الذي يعيق بعض الأعضاء، كأن يضربها على يدها فتصاب يدها بالشلل، أو تجلس فترة لا تستطيع أن ترفع يدها، فهذا ضرب يزمن اليد، أي: يبقى أثره زمنا؛ لأنه ضرب مبرح، فهذا بالنسبة للمزمن.
فإذا: يشترط ألا يكون قاتلا، وألا يكون جارحا، وألا يكون مزمنا.
رابعا: ألا يكون مشينا، والضرب المشين هو الذي يبقى أثره في البدن، ولا يقتل ولا يجرح؛ لكن يضربها -مثلا- بقوة على بدنها حتى يحمر البدن، فإذا احمر فهو الضرب المشين، وحينئذ لا يجوز له هذا النوع من الضرب، وإنما يضرب الضرب من لكز ونحوه، الذي لا يكون فيه قتل، ولا جرح، ولا زمانة، ولا يشين، وهكذا لطم الوجه، فإنه لا يجوز لطم الوجه، فقد نهي عن لطم الوجه، وهكذا لو كان الضرب شديدا، فإذا ضربها بقوة بحيث بقيت آثار ضربه على وجهها، فهو ضرب مزمن.
خير الناس من يحتمل زوجته ويصبر عليها
فالضرب إذا وقع من الزوج لزوجته، وظهرت آثاره على جلدها، فإن هذا خارج عما أمر الله به وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تعالى لا يأمر بالضرب على هذا الوجه، إنما المقصود ضرب الأدب، والمرأة تعي هذا الأمر، فليس المراد من هذا استعلاء الرجال على النساء، وإنما المراد حملها على الخير؛ خير دينها ودنياها، بإصلاح أمرها بالقوة، ولا شك أن هذا الضرب إذا كان ضربا شرعيا يكون له أثره، والصحابة رضوان الله عليهم ضربوا، ووقع الضرب منهم لنسائهم، ولكن إذا كمل الرجل وفضل، ورزقه الله عز وجل الألفة والمحبة والعقل والبصيرة، فإنه لن يصل إلى مثل هذه الأمور، ويعيش مع زوجته دون أن يرفع يده يوما عليها، وهذا صنيع الكرام وهم خيار الأمة، فخيارنا من وفق لحسن الخلق حتى أصبح يملك زوجته بالمشاعر، ولذلك لما أكد النبي صلى الله عليه وسلم على الأخلاق، وأتى في الأخلاق بباب عام تحتاجه الأمة، قدم الأخلاق مع الأهل أولا، فقال صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) .
فالرجل الذي يوفق للإحسان إلى زوجته مع التعقل في ذلك الإحسان، بحيث لا يكون سببا في إفراطها في الدلال والضياع، ويكون إحسانا متعقلا، فإن الله سبحانه وتعالى يرزقه المحبة التي معها الهيبة، وشتان بين هيبة بالقوة وبين هيبة بالمحبة.
كما قال القائل: أهابك إجلالا وما بك قدرة علي ولكن ملء عين حبيبها فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يضرب الناس، ولا ضرب إلا في الجهاد في سبيل الله عز وجل؛ ولكن كان إذا سخط الشيء عرف في وجه، فلم يكن صخابا، ولا سبابا، ولا لعانا، صلى الله عليه وسلم، وإنما كان يعامل الناس بالمشاعر.
فالرجل الكريم الإلف المحبوب الذي يعاشر زوجته بالمعاشرة الطيبة الحميدة الكريمة إذا لوى وجهه عنها أحست بمرارة الحياة، حتى إن بعض النساء تقول لزوجها: اقتلني ولا تعرض عني، من كمال محبتها له؛ لأنه ملك مشاعرها، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم ولكن بأخلاقكم) فالخلق يملك القلوب.
فإذا كان الرجل يريد أن يقيم بيته فليعلم أن البيوت ليست ميادين القوة والشدة والعنف، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن الرفق ما كان في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه) ، فالرفق خير للأمور، وصلاح لها، إذا كان موضوعا في موضعه، وعلى الإنسان أن يجتهد.
والعلماء يقولون: إن أكثر ما يحفظ الله به الإنسان عن أذية الأهل، وأذية الأهل له: كثرة الطاعة، فإن العبد الصالح المتقي لله عز وجل يحفظ من أذية أهله، ولو آذاه أهله يعصمه الله عز وجل من الزلة والأذية والإضرار، فيبقى صابرا حتى يأتيه الفرج، ولذلك ذكروا عن زكريا عليه السلام أنه كانت امرأته تسبه وتشتمه وتؤذيه وتضره، وهو نبي من أنبياء الله، كما قال تعالى عنه: {ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه} [الأنبياء:90] ، فأصلح الله له زوجه في آخر عمره، وحين تقرأ في تراجم العلماء والفضلاء تجد من أخلاقهم مع أهلهم وصبرهم عليهم شيئا كثيرا، حتى قالوا: ليس من حكيم إلا ووراءه امرأة تؤذيه؛ من كثرة ما رأوا؛ لأنه إذا أوذي واضطهد من امرأته أصبح حكيما، وهذا من المبالغة، وليس بحقيقة، ولكن مما جرب وشوهد وعلم أنك تجد العلماء والفضلاء والكرماء والعظماء تغلبهم النساء، فما للمسلم إلا الصبر واحتساب الأجر عند الله سبحانه وتعالى، فإذا استرجع وفوض الأمر إلى الله، فإن الله يتولى أمره.
من نزلت به فاقة، وألمت به حاجة، وضاقت عليه الأمور، فتوكل على الله، وفوضها إلى الله، وتضرع إلى الله، فلن يمضي عليه فترة إلا وقد أراه الله بهجة سرور في أهله وزوجه، ومن يصبر يصبره الله، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: وجدنا ألذ عيشنا بالصبر.
فالمرأة من ينظر إلى حالها في بيتها وشؤونها، وتشتت فكرها في هذه الأمور، وفي أولادها، وفي شؤونها، يتنازل عن كثير، ويصبر على كثير، وهذا هو الذي عناه عمر رضي الله عنه حينما جاءه عقيل يشتكي من زوجه، فلما وقف على الباب سمع امرأة عمر تسب عمر، وهو إنما جاء ليشكو أهله إلى عمر، فوقف في الباب فوجد أن أمير المؤمنين يسب من زوجه فرجع؛ لأنه رأى عظة له وسلوة عن الشكوى، فرآه عمر رضي الله عنه فدعاه، فلما جاء قال: ما حاجتك؟ قال: خيرا يا أمير المؤمنين، قال: عزمت عليك إلا أخبرتني، فقال له: يا أمير المؤمنين! إن أم فلان آذتني، فلما وقفت في الباب سمعت زوجتك تسبك! فقال عمر رضي الله عنه: يا عقيل! إنها أم أطفالي، تغسل ثوبي، وترضع صغيري، فأنا أمسكها لأجل ذلك، أي: كن حكيما عاقلا بعيد النظر، فإن الدنيا ليس فيها شيء كامل من سرورها إلا ما كان من ذكر الله عز وجل.
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه) فليس هناك شيء كامل في هذه الدنيا، فما يرى الإنسان من بهجة الدنيا شيئا أو سرورا إلا جعل الله فيه نغصا.
فانظر إلى أحوال الدنيا كلها، فإنك تكون -مثلا- في البر، فتجد طيب الهواء، وأجمل ما تكون المناظر في طبيعتها، وتلتذ بأنسك وانبساطك، فتخرج لك حية من الأرض، أو تخرج لك العقرب، فتعاف البر بما فيه، وترى أن المدن أحسن، فإذا ذهبت إلى المدن، وتنعمت براحتها وسرورها جاءك نكدها ونغصها، وذلك حتى لا يركن المؤمن إلى الدنيا.
مسرة الدنيا إلى تنغيص وربما أعيت يد الحريص لأنها لو كانت كلها سرورا فلربما -والعياذ بالله- اطمأن إليها العبد فهلك، لكن الله لطف بعباده فجعل مسراتها إلى تنغيص، ومهما وجد من زوجته وأولاده سرورا فلابد أن يرى يوما يبكي فيه بمرارة؛ حتى يبقى سروره بالله وحده لا شريك له، فيجد أن المحبة الكاملة ينبغي أن تكون لله، وأن السرور الكامل كله لا يكون إلا لله.
وهكذا الزوجة، فإن المرأة تسر بزوجها وتفرح، حتى إذا جاءها يوم من الأيام تغير ذلك السرور، وذهبت تلك البهجة، وقد يكون سرور الزوج لحاجة ومتعة، لكن المؤمنة إذا تسلت بالله، وقامت بذلك الزوج، وحملته ودبرت -بتوفيق الله ومعونته- شؤونه وأحواله وأموره وأولاده وأطفاله، وحملت الهموم والغموم، وهي لا تنتظر منه شكرا، ولا تنتظر منه ثناء، إنما تنتظر من الله جل جلاله، فاليوم الذي ينقلب لها فيه ظهر المجن لا يتغير عندها شيء، فتجدها راضية مطمئنة فرحة حتى بالبلاء؛ لأن الإنسان إذا سر بسرور الدنيا أبكاه الله، فلا ينبغي للإنسان أن يكون سروره سرور المطمئن الغافل، وإنما إذا رأى بهجة الدنيا قال: الحمد لله، فذكرته بهجتها بما عند الله عز وجل.
ولذلك يقولون: إن يعقوب عليه السلام أحب ابنه يوسف عليه السلام، فعذبه الله بحبه، وفارقه حتى فقد بصره من البكاء عليه، فالإنسان إذا أحب شيئا من هذه الدنيا، وركن إليها، بمعنى أنها عظمت محبتها في قلبه، فإنه لابد أن يرى يوما يبكي فيه من تلك المحبة، فنسأل الله العظيم أن يجعل قلوبنا مملوءة بمحبته، وأن يجعل لنا من حبه وبره وشكره والرضا به أعظم حظ ونصيب.
حالات المعالجة بالوعظ والهجر
قال رحمه الله تعالى: [فإذا ظهر منها من أماراته، بأن لا تجيبه إلى الاستمتاع، أو تجيبه متبرمة أو متكرهة، وعظها، فإن أصرت هجرها في المضجع ما شاء، وفي الكلام ثلاثة أيام، فإن أصرت ضربها غير مبرح] قوله رحمه الله تعالى: [فإن ظهر منها] أي: من الزوجة.
[من أماراته] جمع أمارة، وهي العلامة، والضمير في (أماراته) عائد إلى النشوز.
[بأن لا تجيبه] أي: إذا دعاها إلى فراشه، أو كانت تجيبه من أول نداء، فأصبحت تجيبه من الثاني، أو الثالث، وربما تأخرت إلى الرابع، وإن شاءت إلى الخامس، فهذه كلها أمارات على النشوز؛ لأنها كانت تجيبه من أول نداء فأصبحت لا تجيبه إلا بعد رأي يدل بوضوح على أنها تنوي نية النشوز، وأنها تسترسل من هذا إلى ما وراءه، فينطبق عليها قوله تعالى: {واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن} [النساء:34] فيشرع الوعظ.
وقوله: [أو تجيبه متبرمة] أي: تفعل ما يدل على عدم الطاعة ويظهر ذلك من وجهها وفعلها، كأن يقول لها: ائتيني بالكتاب أو ائتيني بالصحن، أو ائتيني بالطعام، فتأتي وتضع الطعام بقوة بين يديه، أو تضع الشيء بين يديه بقوة، فهذا واضح -جدا- على أنها لا تريد طاعة.
وقوله: [أو متكرهة] بمعنى: أن تظهر عليها أمارت الكره، مثل ما ذكرنا من عبوس الوجه، وكذلك أيضا التأفف، والتأوه، والتضجر.
ويذكر العلماء هذه الأمثلة، لأنك تحتاج إلى ذلك في الفتوى، وتحتاجه في القضاء، فالشخص إذا جاءك وقال: إنه يحصل كذا وكذا، فإنك تبحث عن الأمارات، وتسأل عما يكون من المرأة، حتى تستطيع أن تعطي كل حالة حكمها، وهذا -كما ذكرنا- لأن المتون الفقهية يعتني فيها العلماء رحمهم الله بهذه المسائل إعانة على الفتوى وإعانة على القضاء.
وقوله: [وعظها] من الموعظة، وهي الكلمات المؤثرة، والموعظة تكون بالقرآن، كأن يتلو عليها آيات من كتاب الله عز وجل، أو أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهناك فرق في مقاصد الوعظ، فإذا وعظت لله فإنها موعظة ومؤثرة، وإذا وعظت لحظ نفسك فإنها موعظة لكنها لا تؤثر؛ لأنها موعظة الظاهر، وأنت في الباطن لا تريد إلا حظ نفسك، ولذلك تجد الرجل يرى أخاه، أو قريبه على المنكر فيقول له: يا أخي! اتق الله، إني أخاف عليك النار، ويتذكر أنه أخوه، ويخشى أن يفرق بينهما في الآخرة، وكأنه يراه في عرصات يوم القيامة وقد افترقا، فيخاف عليه خوفا شديدا، فتجده يدعوه إلى الله تعالى بصدق فتقع الكلمات في قلبه فيهتدي.
وتجد آخر يأتي ويقول له: يا أخي فضحتنا، وشهرت بنا، وفعلت وفعلت، فقد فضحت بيتنا وفضحت أسرتنا فانتقل من الوعظ إلى حظ نفسه وأهله وبيته، فلا يبارك الله في قوله، فنصحه لأخيه ليس من باب الهداية، وإنما من باب أنه فضح وأنه اشتهر، فتكون عاطفة الدنيا أكثر من عاطفة الدين، فالذي يعظ المرأة لا ينبغي له أن يعظها لحظ نفسه، إنما يعظها خوفا عليها من النار؛ لأن الله أمره أن يقي نفسه وأهله وزوجه من النار، فيقول لها: اتقي الله، فإني أخاف عليك من النار، وأخاف عليك من عقوبة الله، وأخاف أن ينزل الله بك بلاء، وهذا لا يجوز، أما حقي فأنا أصبر عليه، فإذا شعرت أنه يذكرها بالله، أو علم الله من قرارة قلبه الإخلاص فإن وعظه يؤثر بإذن الله تبارك وتعالى.
قوله: [فإن أصرت هجرها في المضجع ما شاء] أي: بما فيه المصلحة.
وقوله: [وفي الكلام ثلاثة أيام] أي: إذا هجرها في الكلام فلا يزد على ثلاثة أيام، ففرق بين القول والفعل، فلا يجوز في هجر القول أكثر من ثلاثة أيام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث) ، فلا يجوز الهجر فوق ثلاثة أيام.
وقوله: [فإن أصرت ضربها غير مبرح] فإن أصرت على النشوز ضربها غير مبرح، أي: ضربا غسير مبرح كما ذكرنا.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 15-05-2025, 07:03 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,405
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب النكاح)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (428)

صـــــ(1) إلى صــ(14)




شرح زاد المستقنع - باب الخلع [1]
من رحمة الشريعة ومراعاتها لحقوق المرأة أن جعلت للمرأة الحق أن تنفصل عن زوجها إذا لم تستطع الحياة معه، فترد له ما دفعه لها وتخالعه، فلم يقع الظلم لا على الرجل ولا على المرأة، لأن الطلب جاء من المرأة، وأما إذا كان هناك إضرار بالمرأة فهنا يلزم الزوج بالطلاق لأن التعدي جاء منه، وهذا كله من كمال التشريع.
القول في الخلع وما يتعلق به




تعريفه ومناسبته لباب الطلاق تقديما وتأخيرا

قال رحمه الله تعالى: [باب الخلع] هذا الباب سمي بالخلع أخذا من خلع الثوب، فالمرأة لباس الرجل، والرجل لباس المرأة، وإذا وقع الخلع والفراق خلع هذا اللباس، وفرق بينهما، فحلت العصمة، ووقع الفراق.
وباب الخلع يذكره بعض العلماء بعد الطلاق، فيؤخر الخلع إلى ما بعد الطلاق، فيذكر مسائل الطلاق والعدد، والإيلاء، والخلع، وبعضهم يذكر الطلاق والإيلاء، ثم الخلع، ثم العدد، وعلى العموم فمنهم من يقدمه على الطلاق، ومنهم من يؤخره، والمصنف -رحمه الله تعالى- قدمه على الطلاق.
ومناسبة تقديمه: أن الخلع رابط بين هذا الباب وبين باب الطلاق، وذلك لأن الخلع إنما ينبني من جهة الحقوق، فالمرأة في الأصل مطالبة بالقيام بحق زوجها، والزوج مطالب بحق زوجته، فإذا وقع بينهما النشوز والنفرة -كما ذكرنا- فإن هذا النشوز قد يكون سببا في الخلع، فإذا نشز الرجل فأضر بالمرأة أو كان منه أمر يضيق عليها فيه، فإنها تخالعه، وتفتك من أذيته وإضراره بالخلع؛ لأنه لن يطلقها، فأصبح الخلع وسيلة لدفع الضرر؛ لأن الخلع شرع من أجل دفع الضرر والضرر يكون بالنشوز، والنشوز قد يكون بحق وقد يكون بغير حق، وأيا ما كان فالخلع مناسبته للنشوز من جهة وجود الضرر، فإذا كان الخلع مشروعا لدفع الضرر فالرابط بينهما واضح.
وأما مناسبة تأخيره بعد الطلاق، فلكون الخلع مرتبطا بالطلاق، والحنابلة لا يرون الخلع مرتبطا بالطلاق، ولذلك لا يرونه طلاقا إلا إذا نواه، والجمهور يرونه طلاقا، فاختلف المنهجان، ولذلك نقول: علم مناسبة الأبواب في المتون الفقهية مهم؛ لأنه ينبني على النظر إلى الباب نفسه، فلما رأى الجمهور أن الخلع نوع من أنواع الطلاق جعلوه بعد الطلاق، والحنابلة لما رأوه بابا مستقلا، ويوجب الفرقة، ويوجب الفسخ، أعطوه حكما مستقلا، وأدخلوه بين الطلاق وبين العشرة الزوجية؛ لأن الخلع يأتي من جهة سوء العشرة الزوجية، فالمرأة تمل زوجها من جهة العشرة، إما لدمامة خلق، أو خلقة، ثم تطلب الخلع دفعا لهذا الضرر الموجود من نشوز، أو من سوء خلقة، أو خلق، فهذا كله يعتبر بمثابة الرابط والوسط بين البابين.
أدلة مشروعية الخلع
قال رحمه الله: [من صح تبرعه من زوجة وأجنبي صح بذله لعوضه] الخلع مشروع بدليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة، أما الكتاب: فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به} [البقرة:229] ، فأحل للمرأة أن تدفع الفدية، وهي فدية الخلع، فترد للرجل مهره وتخالعه، ونفى الحرج فقال: {فلا جناح عليهما} [البقرة:229] ، وقد تقرر في علم الأصول أن صيغة (لا جناح) و (لا بأس) و (لا حرج) من صيغ الإباحة، فلما قال تعالى: {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} [البقرة:229] ، دل على أنه لا حرج في ذلك وأنه من المباحات.
وأما دليل السنة: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما اشتكت إليه امرأة ثابت بن قيس بن شماس، وقالت له عن ثابت: (والله ما أعيبه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر بعد الإسلام) ، قال عليه الصلاة والسلام: (أتردين عليه حديقته؟ -أي: مهره الذي أمهرك إياه- قالت: نعم، فقال صلى الله عليه وسلم لـ ثابت: اقبل الحديقة، وطلقها تطليقة) ، فدل على مشروعية الخلع، وأنه لا بأس به إذا اشتكت المرأة وأرادت أن تخرج من عصمة الرجل، وأجمع المسلمون من حيث الجملة على مشروعيته.
بذل العوض في الخلع ومن الذي يصح منه بذله
قال رحمه الله تعالى: (من صح تبرعه من زوجة) مما ينبغي أن يعلم أن ميزة الفقه وميزة المتون الفقهية أنها تربط المادة الفقهية بعضها ببعض، فإذا جئت إلى باب الخلع تجد أن الخلع صورته: أن المرأة تدفع المال في مقابل فراق الزوج لها، فإن قلت: الخلع فسخ، فمعناه أنها تطلب أن ينفسخ النكاح بينهما، فيذهب هذا لسبيله وهذه لسبيلها وتتزوج من تشاء، وإن قلت: الخلع طلاق، فمعناه أنها تعطيه المال ليطلقها مقابل هذا المال، والمال الذي تعطيه هو مهرها الذي أمهرها إياه على تفصيل سنذكره -إن شاء الله- من جهة ما تخالع به، فإذا كانت الصورة قائمة على أن المرأة تفتدي، والله تعالى يقول: {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} [البقرة:229] ، فكأنها تدفع المال من أجل أن تنفك من عصمة الزوجية، وهنا تجد الترابط بين الكتاب والسنة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول في النساء: (إنما هن عوان عندكم) ، والعواني: الأسيرات، فكأنها بالزواج أسيرة، والله تعالى يقول: {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} [البقرة:229] ، والفدية تدفع لفك الأسير.
فانظر إلى تعبير النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من الأدب مع الكتاب فتتأدب مع الوحي حتى في الكلمات التي تقولها، وتحاول أن يكون هناك محبة لكتاب الله عز وجل حتى في عباراتك إذا كنت فقيها أو عالما.
وتجد هذا جليا في كتاب الإمام البخاري رحمه الله، وأئمة الحديث رحمة الله عليهم في تراجم الأبواب، فكتبهم في غاية الأدب مع الوحي، فتجد أئمة الصحاح والسنن إذا ترجم الواحد منهم للباب يذكر لفظ الحديث، وهذا والله عين الأدب مع الكتاب والسنة، فالفقه والعلم إذا كان مربوطا بالوحي فهو الفقه الصافي، الفقه الذي انبنى على أصل، وعلى حق، وعلى نور من الوحي، ومن الكتاب والسنة، وهذا ما ينبغي على العالم.
فالخلع فيه فدية وفيه مال، فإذا وصفت الخلع بكونه افتداء، فمعنى ذلك أن هناك مالا يدفع، فهو يقوم على كون المرأة تدفع المال، فإذا كانت تدفع المال فإنه ينبغي أن ننظر في هذه المرأة، فإن كانت من جنس من يصح تعامله وتبرعه بالمال صح خلعها، وإن كانت ممن لا يصح بذله للمال فإنه لا يصح خلعها.
فانظر كيفية الارتباط في الأبواب الفقهية، ففي الخلع ارتباط مع باب التبرعات، وباب المعاوضات المالية، وباب الحجر.
فلو كانت محجورا عليها لسفه فلا يصح خلعها؛ لأنها ممنوعة من التصرف المالي، والخلع يقوم على التصرف المالي، فكما لا يصح بيعها معاوضة لا يصح خلعها معاوضة، فإذا هذا وجه قول المصنف.
ففقه المسألة: أن الخلع في الأصل قائم على دفع المال من أجل أن تفتدي المرأة من زوجها، ففقهه يقوم على أهلية دفع المال.
وقوله رحمه الله تعالى: (من صح تبرعه من زوجة) (من) في قوله: (من زوجة) بيانية والأصل أن الخلع يكون من الزوجة لزوجها.
وقوله: (وأجنبي) أي: إذا كان الأجنبي مخالعا عنها، كولي المجنونة وولي السفيهة.
وقوله: (صح بذله لعوضه) الضمير في (بذله) عائد للشخص المفتدي، والضمير في (لعوضه) عائد إلى الخلع، أي: صح بذله لعوض الخلع، وإذا صح بذله صح خلعه، وإذا لم يصح بذله لم يصح خلعه، فاللفظ له منطوق ومفهوم، فمنطوق العبارة دال على أنه إذا كان الشخص أهلا للمعاوضة ومثله تصح معاوضته فإنه يصح خلعه، ومفهوم العبارة: أنه إن كان شخصا لا يصح بذله، ولا يصح تعامله بالمال، كالسفيه والمحجور فإنه لا يصح خلعه.




أسباب الخلع




الأسباب التي تباح للمرأة بها الخلع
قال رحمه الله تعالى: [فإذا كرهت خلق زوجها، أو خلقه، أو نقص دينه، أو خافت إثما بترك حقه أبيح الخلع] قوله: (فإذا كرهت خلق زوجها) المرأة لها حق في زوجها كما ذكرنا، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (البكر تستأذن وأذنها صماتها، والثيب تستأمر -وفي رواية: أحق بنفسها من وليها-) ، فالمرأة لا تستطيع أن تعاشر زوجا لا تريده، أو زوجا لا ترغبه، أو زوجا تنفر منه، فإذا تزوجت الزوج، ودخلت عليه، فالشريعة جعلت للزوج الطلاق، ولو كان بيد الزوجة الطلاق لاستعجلت، وأنت ترى هذا واضحا، فإن الزوجة تأتي تشتكي من زوجها، فإذا نصحت بكلمة تصبر بها فإنها ترجع مرة ثانية محبة لزوجها، وتأتي في أول النهار ساخطة على زوجها، فإذا جاء ولاطفها، وقال لها الكلمة والكلمتين رجعت عن رأيها، فهذه طبيعتها، والضعف الذي في المرأة نعمة من الله عز وجل عليها وعلى غيرها، ولا يعتبر منقصة ولا مذمة لها؛ لأن هذه خلقة الله سبحانه وتعالى، فالله يخلق وله الحكمة التامة في خلقه سبحانه وتعالى.
فهذا الضعف الموجود في المرأة لا تستطيع أن تملك به الطلاق فأعطي الرجل الطلاق؛ لأن فيه من القوة والصبر ما ليس في المرأة.
وأما المرأة فقد تتسرع في الطلاق، فأصبح إعطاء الطلاق للزوج رحمة بالمرأة، فمن إكرام المرأة أن وضع الطلاق بيد الرجل؛ لأن الإنسان حين يكون عنده شيء يخافه، أو شيء يخشى منه الضرر، فإنه يعطيه من هو أقدر على حفظه كسكين تخشى منها الضرر، وهناك من هو أقدر على حفظها، فبطبيعة الحال لا تتركها عندك، وإنما تذهب بها إلى من يحفظها؛ لأنك تخشى ضررا منها على نفسك، أو على من معك، فالحكمة والعقل يقتضيان أن تصرفها إلى من هو أقدر.
وبعض المجتمعات لما خرجت عن فطرة الله عز وجل وجعلت الطلاق بيد المرأة دمرت، فالمرأة بمجرد أن يأتي خب لئيم، فيفسدها على زوجها تنجر وراءه، ويخدعها بالكلمة والكلمتين، فتنهدم البيوت، وتتشتت الأسر، ثم المرأة في خلقتها العاطفة، فإذا استغلت بعاطفتها طلقت زوجها وتسرعت في الطلاق.
جواز الخلع بسبب ليس فيه إضرار بالمرأة
لأجل ما سبق قلنا: جعل الطلاق عند الرجل رحمة بالمرأة هذا أول شيء، فلو اعترض معترض وقال: ألا تظلم المرأة؟ ألا ترى شيئا في زوجها تكرهه؟ قلنا: بلى، فهذا الشيء الذي تكرهه كعيب خلقي في زوجها، أو خلقي، فإن كان عيبا خلقيا مؤثرا فلها حق الفسخ كما تقدم معنا في الماضي، فالشريعة عدلت وأعطت كل ذي حق حقه، فإن كان عيبا في خلقته لا تستطيع معه جماعه لها كعيب جنون، أو برص، أو جذام، أو غيرها من الأمراض المعدية، فمن حقها أن تطلب الفسخ كما ذكرنا في خيار العيب الذي يوجب الفسخ، فحين يقال لنا: هي لا تحب هذا الزوج، بعد أن عاشرته، ورأت عشرته، وطريقة عشرته، وقلبها أعرض عنه فلا تستطيع أن تتحمل هذا الرجل، فهل نكرهها ونبقيها بالقوة والغصب عند هذا الرجل؟ ف
الجواب لا؛ لأنه لا يكره عشير على عشيره، وإذا أكره عليه مله، وازداد كراهية له، وعندها تحصل أمور لا تحمد عقباها، حتى تقع أذية الرجل لها؛ لأنه يراها معرضة فيستغل هذا الإعراض لإضرارها، وإذا ثبت هذا فما هو المخرج؟ إن الشريعة جاءت بمخرج عدل، فالرجل إذا كرهت المرأة نكاحه، ولم ترده، فمعنى ذلك أنه سيتضرر الرجل، وإن بقيت المرأة عند زوجها ستتضرر، فقيل لها: الذي أعطاك إياه تردينه عليه، فإن قالت: قد استمتع بي! يقال لها: وقد استمتعت به كما استمتع بك، والأمر من هنا منك، فأنت التي ترغبين في الفراق، وهو الذي دفع المهر، وهو الذي تحمل، فحينئذ تردين عليه الذي أمهرك إياه، كما قال صلى قال الله عليه وسلم لامرأة ثابت: (تردين عليه حديقته؟ قالت: نعم، قال: اقبل الحديقة وطلقها تطليقة) ، لأنها خافت على نفسها الكفر بعد الإيمان؛ لأن المرأة تخشى على نفسها الفتنة، وإذا كان الزوج لا ترتاح له في عشرتها فإنها قد تقع في الحرام، نسأل الله السلامة والعافية.
وعلى هذا جعل الله الخلع عدلا بين الطرفين، فيجوز لها إذا كرهت خلقه، وكان هذا الخلق مثله يضر، كأن يضربها، ويظلمها فترفع أمرها إلى القاضي، فإذا استمر بهذه الطريقة فيمكن أن القاضي في بعض الأحيان يطلقها عليه، هذا إذا كان خلقا فيه أذيه وإضرار، لكن إذا كان خلقا تكرهه كرجل ليست فيه صفات الرجولة الكاملة، أو ترى فيه البخل وهي لا تحب البخيل، أو ترى فيه الفضول فيخوض في فضول الكلام وهي لا تحب أن تعاشر رجلا بهذه الصفة، فهذه أمور كمالية، وفي هذه الأمور الكمالية تأثير على عاطفة المرأة، فمن حقها أن تخالعه.
فإذا: عيب الخلق إن كان من جنس ما يوجب تدخل القاضي وتطليقها عليه طلقها، مثل الرجل الذي يضربها ويؤذيها ويضر بها فهذا لا تخالعه؛ لأنه لو خالعته لكان لكل زوج يريد أذية امرأته أن يضربها ويضرها ثم يعود المال إليه، ولكن إذا اشتكت المرأة من خلقه فقلنا: ما الذي فيه؟ قالت: عيب الخلق، فما دام العيب خلق فإنه يوجب الخلع.
وإذا كان عيب الخلق فيه أذية وإضرار، فيضربها ويؤذيها، وأمكن رفع هذا الظلم عنها فليرفع، ولها أن تشتكي أمرها إلى القاضي أو إلى أوليائها ليكفوه، ولا يجوز للأولياء أن يسكتوا عن زوج يضرب أختهم أو لبنتهم.
ومن الأمور التي ينبغي التنبه لها وأيضا تنبيه الناس عليها: أن الأخ عليه حقوق، والوالد عليه حقوق فلا يرضى لابنته، ولا يرضى الأخ لأخته أن تكون عند زوج ظالم، فإذا رآه ظالما لها فليأت وليقف على بابه، ويقف في وجهه ويقول له: اتق الله في أختي واتق الله في ابنتي، وليس له أن يقول: لن أتدخل بين زوج وزوجته، فليس من حقك أن تقول هذا، وإذا سكت الوالد وهو قادر على زجره في هذه الحالة يكون شريكا له في الإثم؛ لأنه أعانه، وهكذا الأخ وهكذا الابن، وكل قادر على كف الظالم عن ظلمه وهو مستطيع ذلك، ويمتنع من ذلك فإنه يأثم كإثمه؛ لأنه معين.
ففي هذه الحالة إذا كان عيب الخلق مضرا بالمرأة، ويوجب تدخل القاضي تدخل القاضي، أو طلبت حكما من أهله وحكما من أهلها -كما هو معروف في باب النشوز- وإن كان عيب الخلق ليس من جنس ما يوجب تدخل القاضي فحينئذ يجوز لها أن تطلب الفسخ، فتقدم المهر الذي دفعه وتفتدي وتخالع البعل.
المخالعة بسبب خلقة الزوجة
قوله: (أو خلقه) أي: خلقته؛ لأن الإنسان مجبول على محبة الخلقه بصورة معينة، والنساء يختلفن في هذا، ولذلك جاءت امرأة ثابت بن قيس تشتكي من ثابت رضي الله عنه لعيب في خلقته، وذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأقرها النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك وأجازها.
المخالفة بسبب ضعف تدين الزوج
قوله: (أو نقص دينه) : وذلك كرجل مستخف بالمحرمات، فعنده محرمات يفعلها، وهي تكره هذه المحرمات، وتكره من يفعل هذه المحرمات، فسألته الطلاق فلم يطلقها فقالت له: أخالعك، فتخالعه.
المخالعة بسبب خوف المرأة من التقصير في حق الزوج
قوله: (أو خافت إثما بترك حقه) كأن ترى أنه رجل شديد الشهوة، وهي لا تستطيع أن تصبر معه على هذه العشرة، وتخشى أنها إن قصرت معه أنه يقع في الحرام، وأنها هي أيضا تأثم بالتقصير، فقالت: لا أريد أن أستمر في هذه الحياة أو أن أبقى مع هذا الزوج فأخالعه، فلها ذلك.
قوله: (أبيح الخلع) (أبيح) يعني: استوى في الطرفين، إن شاءت تخالع وإن شاءت لا تخالع، وليس من حق أحد أن يحرم عليها ما أحل، الله، وعلى القاضي إذا رفعت أمرها بهذه الصورة أن يجيبها إلى ذلك ما دام عندها عذر، فإذا ذكرت عذرا فليجبها إلى ذلك وعليه أن يبادر، وأما تأخيرها ومضي الشهور، بل لربما في بعض القضايا تصل إلى سنة والمرأة تتذمر وتتأذى، والقاضي يردها المرة بعد المرة، فهذا من الظلم ولا يجوز هذا، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم -والسنة واضحة لا إشكال فيها- جاءته المرأة، واشتكت من زوجها، وقالت: إنها تعيب عليه في خلقته، فقال صلى الله عليه وسلم: (أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم، قال: اقبل الحديقة وطلقها تطليقة) ، فما أخرها، وما قال لها: شاوري نفسك، ارجعي إلى أهلك لا تستعجلي، فالقاضي بجب أن يكون موقفه حياديا، وإذا مال إلى أحد الخصمين دون الآخر فقد ظلم الخصم الآخر.
فالمرأة لم تأت من فراغ، ولم تأت من عبث، لكي تشهر بنفسها، فلم تتقدم إلى القاضي وتطلب الخلع إلا وقد بلغ الأمر مبلغه، فينصفها ويعطيها حقها الذي في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يؤخرها، وإنما ينظر، فإذا كان الذي ذكرته صحيحا، وبينت أنها لا تستطيع الصبر على هذا الشيء، وكانت المرأة معروفة بالعقل والدين، فإنه يبادر ويخلعها، حتى لا تقع فيما حرم الله عليها.
قال رحمه الله تعالى: [وإلا كره ووقع] أي: إذا لم يكن هناك سبب كره للمرأة أن تخالع، لما فيه من هدم البيت وخاصة إذا كان لها عيال فإنهم يتضررون بهذا الفراق ووقعه، ومع أنه مكروه لكنه يقع، يعني: فيتم الخلع ويحكم به وينفذ.
حكم تضييق الزوج على زوجته لتخالعه
قال رحمه الله تعالى: [فإن عضلها ظلما للافتداء، ولم يكن لزناها، أو نشوزها، أو تركها فرضا ففعلت، أو خالعت الصغيرة والمجنونة، أو الأمة بغير إذن سيدها لم يصح الخلع] قوله: (فإن عضلها ظلما للافتداء) : عضلها ظلما استغلال للخلع، فالرجل يضيق على المرأة حتى تدفع له المهر ويتزوج بثانية، وهذا من أسوأ ما يكون من اللئام -أعاذنا الله وإياكم منهم- فإنهم أقوام يتذوقون النساء، فيصيبون شهوتهم -نسأل الله السلامة والعافية- كما ذكر بعض العلماء، وهذا موجود عند بعض الناس ممن لا يخاف الله ولا يتقيه، فيصيب المرأة، وبعد أن يعاشرها السنة والسنتين، أو يذهب ما يجد عندها من الحظوة والجمال، يضيق عليها لتفتدي، فإذا افتدت طالبها بالمال، وأخذ المال وتزوج ثانية، وصنع بها كصنيعه بالأولى، ومثل هذا إذا اطلع عليه القاضي يعزره، ويبطل خلعه إن كان ظالما.
وتضييقه عليها أن يقتر عليها في الرزق، ويضيق عليها في خروجها، وفي أمورها وفي شؤونها، ويقطعها عن أهلها وقرابتها، ويصل الأمر إلى درجة أنهم لو جاءوا يزورونها -نسأل الله السلامة والعافية- منعها من ذلك، حتى تكره عشرته، فإذا كرهت عشرته وضاق بها الحال طلبت الخلع.
وهذا من أعظم ما يكون من الظلم والإضرار، قال تعالى: {ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه} [البقرة:231] ، فالله حذر من هذا الفعل، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إني أحرج في حق الضعيفين المرأة واليتيم) ، فجعل المرأة في حقها كاليتيم، واليتيم ظلمه من أسوأ ما يكون، ولذلك يقولون: عقوبته معجلة غالبا، فظلم اليتيم عقوبته قريبة من ظالمه، والمرأة كذلك لا تبعد عنه، وهذا المشاهد والمجرب؛ لأنها ضعيفة وغالبا ما تسكت عن كثير من المظالم، فإذا أضر بها على هذا الوجه فإن الله سبحانه وتعالى ينتقم منه إن عاجلا أو آجلا.
فمثل هذه الأفعال التي تفعل من الأزواج لاستغلال الخلع حكم بعض العلماء -كما اختاره المصنف- أن الخلع في هذه الحالة لا يصح، وفي هذه الحالة إذا اطلع القاضي على أنه ظالم، وضيق عليها وأضر بها، والأمور التي فعلها أمور مضرة يوجب مثلها أن من المصلحة أن يفرق بينهما حكم بالفرقة، ورد المهر للمرأة؛ لأن مثله أهل أن يفرق بينه وبين زوجته، فيتحمل هو مسؤولية الفراق، ويرد المال إلى المرأة؛ لأن أخذ مال الخلع على هذا الوجه ظلم، فأبطل العلماء رحمهم الله هذا، ويلزم منه إبطال أخذ المال، فعلى هذا لا يجوز الخلع على هذا الوجه وهو من الإضرار.
والأمر مركب على مذهب الحنابلة؛ لأن الخلع عندهم فرقة، لكن من يحكم بكونه طلاقا تطلق عليه امرأته، ويرد المال إلى المرأة، إذا ثبت عند القاضي.
قوله: (ولم يكن لزناها) : لأن الله تعالى قال: {إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} [النساء:19] ، فإذا كانت المرأة -والعياذ بالله- زانية فإنه يجوز لزوجها أن يضيق عليها حتى ترد عليه مهره، فترد عليه جميع ما أخذت، وتطالب برد المهر فقط، ولا تطالب بكلفة الزواج، ولا بمئونة الزواج، فمطالبتها بكلفة الزواج ومئونته لا يشك أنه من الظلم، وهذا لا نعرفه لا في كتاب الله، ولا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن امرأة ثابت لما جاءت تخالع لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم لـ ثابت كم هي كلفة زواجك؟ ومن المعلوم والمشاهد والمجرب أن الرجل يعقد على المرأة، وينشئ وليمة النكاح، فيأتيه الناس ويساعدونه بمال أضعاف ما دفع في الوليمة، فيأخذ من الناس المال، ثم يأتي ويأخذ من المرأة مئونة النكاح!! فهذا من أغرب ما يكون من الأقضية.
إن بعض هؤلاء يقضي بأن المرأة تطالب برد قيمة النكاح ومئونة النكاح، ويصرخ الرجل ويقول: خسرت في نكاحي مائة ألف، أو مائتين! ومن الذي قال لك: اخسر؟ فإن الشرع أمرك أن تولم بشاة، وأن تولم على قدر ما يتحقق به الإعلان، وكونك توسعت لجاهك ولمكانتك، فلا تتحمل المرأة ما كان من وليمة أخذت سمعتها، وأخذت حظها من الدنيا؛ لأن هذا شيء الزيادة فيه لأمر الدنيا، وإن كان للآخرة ثبت لك أجره، فبأي حق يستحق المعاوضة على هذا؟ فالشاهد: أن مطالبة النساء بمئونة النكاح لا شك أنه مخالف لكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يشك أنه من ظلم النساء، وهو يعيق عن الخلع، فإن المرأة إذا قيل لها: ادفعي مائة ألف، أو ادفعي أربعين ألفا، أو خمسين ألفا، فقد تكون امرأة لا دخل لها، وقد تكون بحالة في فقر، وزوجها ليس بذاك، فلا هي بلغت مقصود الشرع من دفع الضرر عنها، ولا تستطيع أن تدفع هذا المال، فهذا كله مما لا يحفظ له دليل في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى من اعتبر الخلع أن يتقي الله عز وجل، وألا يحكم بالخلع إلا على وفق ما ثبت في الكتاب والسنة، فالقاعدة عند العلماء: (ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال) .
فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال لـ ثابت بن قيس: (اقبل الحديقة وطلقها تطليقة) ما استفصل منه: هل تكلفت في زواجك أو لم تتكلف؟ هل دعوت الناس؟ هل تحملت أو لم تتحمل؟ فهذا كله مما ليس في الكتاب، ولا في السنة أن تلزم المرأة بمئونة النكاح.
قوله: (أو نشوزها) : أي: إذا نشزت يجوز له أن يطالبها بالخلع.
قوله: (أو تركها فرضا) : أي: تركها فرضا فرضه الله عليها، أن تترك الأمور الواجبة عليها في الشرع، وتتساهل في الواجبات، فيجوز له أن يضيق عليها فتخالعه.
(ففعلت) أي: خالعته.
فالتضييق إذا لم يكن لزناها، ولم يكن لنشوزها، ولم يكن لتركها فرضا، فحينئذ يكون الزوج ظالما، أما لو كان لزناها، أو لنشوزها، أو لتركها فرضا، فإن التضييق من الزوج واقع في موقعه، فيكون مشروعا.
فالشاهد: أن المصنف فرق في التضييق إن صدر من الزوج من أجل الخلع، فإن ضيق على زوجته لأنها زانية أو أنها ناشزة أو أنها تترك فرائض الله جاز له ذلك التضييق، والعكس بالعكس.
خلع الصغيرة والمجنونة والأمة
قوله: (أو خالعت الصغيرة والمجنونة) إذا خالعت الصغيرة لم يصح خلعها؛ لأن الصغيرة لا تملك مالها، قال تعالى: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم} [النساء:6] فأمرنا الله أن ندفع المال لليتيم إذا بلغ رشيدا؛ لأن من أنواع مفاهيم المخالفة: الشرط، فمفهوم الشرط في قوله تعالى: {فإن آنستم منهم رشدا} [النساء:6] يدل على أنه إذا لم تأنسوا منهم رشدا فلا تدفعوا إليهم أموالهم، ومفهومه في قوله تعالى: {حتى إذا بلغوا النكاح} [النساء:6] يدل على أنهم قبل بلوغ النكاح لا يدفع إليهم المال.
فلا يدفع المال إلى الصغير، وقد قال تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم} [النساء:5] قالوا: والصغير من السفهاء، فإذا كان لا يملك المال، أو لا يملك التصرف، أو ليس له حق التصرف في المال فإنه لا يصح خلعه، وكذلك المرأة الصغيرة فإنه لا يصح خلعها.
قوله: (والمجنونة) : أي: والمجنونة كذلك لا يصح خلعها؛ لأنه لا حق لها في التصرف في مالها.
قوله: (أو الأمة بغير إذن سيدها لم يصح الخلع (: أي: إذا خالعت الأمة بدون إذن سيدها لم يصح الخلع؛ لأن الأمة وما ملكت ملك لسيدها؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين: (من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع) فأخلى يد العبد عن الملكية.
هل الخلع طلاق أم فسخ، ومتى يكون طلاقا عند القائل بأنه فسخ؟
قال رحمه الله تعالى: [ووقع الطلاق رجعيا إن كان بلفظ الطلاق أو نيته] : أي: إن أخذ الخلع، وقال لها: طلقتك، صار خلعا بطلاق، ويكون طلاقا رجعيا؛ لأنهم يرون أن الخلع ليس بطلاق، هذا مذهب الحنابلة، فأصبح الخلع عندهم على حالات: الحالة الأولى: أن يكون بدون طلاق: فلا ينوي الطلاق، ولا يتلفظ به، قالوا: فيفرق بينهما، ولا يحتسب من الطلاق، فلو أنه بعد سنوات رجع إليها يرجع بثلاث تطليقات على قول الحنابلة.
وأما على قول غيرهم وهم الجمهور فإنهم يقولون: الخلع طلاق، فيخالعها ويطلق، لقوله عليه الصلاة والسلام: (اقبل الحديقة وطلقها تطليقة) ، واستدل الحنابلة بأثر ابن عباس رضي الله عنهما في آية البقرة، فإن الله ذكر الخلع بين الطلقة الثانية والثالثة، فقال تعالى: الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.
[البقرة:229] إلى أن قال تعالى: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به} [البقرة:229] ، ثم قال تعالى: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد} [البقرة:230] .
فلو كان الخلع طلاقا لكان ذكر الخلع هي الطلقة الثالثة! وأجيب بضعف الاستدلال بهذا؛ لأنه حكاية تصوير، وليس بحكاية ترتيب؛ لأنه لو كان حكاية ترتيب لدل على أن الطلقة الثالثة لا تكون إلا خلعا، ولفهم من الآية أن طلاق الثلاث الذي أعطيه المسلم في كل زواج، الثالثة منه خلع، لكنه حكاية تصوير الحكم بذكر صورة من صور الفراق بين الرجل وامرأته، وجاءت السنة تقول: (اقبل الحديقة وطلقها تطليقة) ، فلو لم يكن طلاقا لما ألزمه النبي صلى الله عليه وسلم به، ولا يعقل أن النبي صلى الله عليه وسلم يلزم الصحابي بالتطليق الذي يحتسب عليه ويستضر به لو لم يكن ذلك في أصل الخلع، وهذا هو الصحيح وهو مذهب الجمهور.
قوله: (أو نيته) : أي: إن نوى الطلاق، وهذا -طبعا- عند الحنابلة، فإذا كان الخلع ليس بطلاق فمعناه: إما أن يقع الخلع خلعا مجردا عن الطلاق، أو يخالعها وفي نيته أنه طلقها فيقع طلاقا، أو يخالعها ويتلفظ بالطلاق، فيكون طلاقا.
فهذه ثلاثة أحوال: إما أن يخالعها فيكون فراقا لا يحتسب في الطلاق.
وإما أن يخالعها ناويا الطلاق فهو طلاق.
أو يخالعها مصرحا بالطلاق متلفظا به، فهو طلاق على حسب ما تلفظ به.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وأن يجعل ما تعلمناه وعلمناه خالصا لوجهه الكريم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 15-05-2025, 07:08 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,405
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب النكاح)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (429)

صـــــ(1) إلى صــ(16)






شرح زاد المستقنع - باب الخلع [2]
الخلع صورة من صور الفراق بين الزوجين، وهو عند الأكثر طلاق، ولهذا فإنه تترتب عليه أحكام يجتمع ويفترق فيها عن الطلاق، وهذه الأحكام يبحثها العلماء عند الكلام عن الخلع.
حكم الخلع إذا كان بلفظ صريح الطلاق أو كنايته
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد: فمن عادة العلماء رحمهم الله أنهم إذا بينوا مسائل الخلع يتعرضون لما يتعلق بلفظ الخلع.
وقد تقدم معنا أن الزوج إذا خالع زوجته لم يخل من حالتين: الحالة الأولى: أن يخالعها بلفظ الخلع دون أن ينص على الطلاق.
والحالة الثانية: أن يخالعها ويطلق؛ فأما في الحالة الأولى وهي أن يخالعها بلفظ الخلع دون أن يذكر طلاقا، فقد اختلف السلف رحمهم الله في هذه المسألة وتبعهم في ذلك الخلاف الأئمة الأربعة، فقال طائفة من أهل العلم، وهو مذهب الجمهور: إنه إذا خالعها وقع طلاقا، فلو قال لها: خالعتك أو فارقتك، وكان على سبيل الخلع دون أن ينص على لفظ الطلاق، فإنه يعتبر طلاقا، وذكرنا دليل هذا القول، ووجهه وسبب رجحانه، وقلنا: إن الذين قالوا بأنه لا يقع طلاقا استندوا على ما أثر عن ابن عباس رضي الله عنهما، وكذلك عن طائفة من التابعين ك عكرمة وطاووس رحمة الله عليهما أنهم قالوا: إن الخلع ليس بطلاق، واحتجوا بآية البقرة، وذكرنا وجه دلالتها والجواب عن هذا الدليل.
أما بالنسبة لقوله: [والخلع بلفظ صريح الطلاق] فإن كان الخلع بلفظ الخلع، فقلنا: إنه يقع، ويكون طلاقا على الصحيح، إلا أن لفظ الخلع عند من يقول بأن الطلاق لا يقع بالخلع، ينقسم إلى صريح وغير صريح، فالصريح: خالعتك وفاديتك وفاسختك، قالوا: هذه الثلاث كلها تعتبر لفظا صريحا في الخلع.
أما لفظ الخلع فقالوا: لأنه عرف شرعي، وقد جرى العرف أن الرجل يخالع امرأته، فإذا قال لها: خالعتك بألف، فهو خلع، وبناء عليه لا يقع الطلاق عندهم، كما هو المذهب، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد رحمة الله عليه.
وكذلك إذا قال: فاسختك، أو فسخت نكاحك؛ فإنه مثل قوله: خالعتك، فلا طلاق، ويعتبر من صريح ألفاظ الخلع.
أما لفظ الفدية فإنه يعتبر من ألفاظ الخلع؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} [البقرة:229] ، وهناك من العلماء من يقول: هناك فرق بين الخلع والفدية.
فالخلع يكون ببذل المرأة للمهر وأكثر، يقال: خالعت المرأة زوجها إذا بذلت المهر أو أكثر من المهر، والفدية قالوا: إذا بذلت بعض المهر، وبعض ما دفع الزوج لها، فيجعلون الفدية للبعض، ويجعلون الخلع للكل أو أكثر من المهر.
وقوله رحمه الله: (والخلع بلفظ صريح الطلاق) هذا النوع الثاني من الخلع عند الحنابلة، وهو أن يتلفظ بلفظ الطلاق، فقال رحمه الله: (والخلع بلفظ صريح الطلاق) ولفظ الطلاق فيه الصريح وفيه الكناية.
واللفظ الصريح: هو الذي لا يحتمل معنى غيره؛ فالرجل إذا قال لامرأته: أنت طالق؛ فإن هذه الكلمة صريحة في الطلاق، ولا تحتمل معنى غيره إلا في أحوال نادرة، سنذكرها إن شاء الله عند بيان ألفاظ الطلاق؛ فإذا قال لامرأته: خالعيني، قالت: أدفع لك ألفا وتخالعني وتطلقني، فأخذ الألف فقال: أنت طالق؛ فحينئذ يكون خلعا؛ لأنه بعوض، وإن كان طلاقا، لكنه بعوض، فيكون من النوع الثاني من الخلع، وهو الخلع بعوض مع لفظ الطلاق.
وصريح لفظ الطلاق اختلف العلماء رحمهم الله فيه، وسيأتي إن شاء الله بيانه في مسألة الطلاق؛ لكن من باب الاختصار والإجمال، هناك من يقول: صريح الطلاق هو لفظ الطلاق، وما تصرف منه، غير المضارع وغير الأمر كما سيأتي إن شاء الله، فيجعلون لفظ الطلاق الصريح خاصا بمادة (طلق) أنت طالق، طلقتك، أنت مطلقة ونحو ذلك، هذا صريح الطلاق.
أما غير هذا اللفظ فقالوا: لا يقع طلاقا إلا إذا نوى، فيعتبرونه من غير الصريح، وقال طائفة من العلماء: صريح الطلاق ثلاثة ألفاظ عندهم: الطلاق والسراح والفراق.
فإذا قال: طلقتك، فارقتك، سرحتك، فإنه صريح في الطلاق، وفائدة معرفة الصريح من غير الصريح: أن الرجل إذا خاطب امرأته بالصريح طلقت عليه إلا إن يقيم دليلا على أنه لا يريد الطلاق، فلو أن رجلا كان جالسا مع امرأته، فقال لها: سرحتك؛ فعند من يقول: إنه من صريح الطلاق يطلقها عليه، ولكن عند من يقول: إنها كناية وليست من الصريح؛ فإنه حينئذ يسأله عن قوله: (سرحتك) ماذا نوى به، وعلى هذا، فقوله: من صريح الطلاق، يعني: من الألفاظ الصريحة، وهي عند الحنابلة تختص بلفظ الطلاق، وما اشتق منه، وعند غيرهم الثلاثة الألفاظ التي وردت في القرآن: الطلاق والفراق والسراح بلفظ صريح الطلاق.
قوله: (أو كنايته وقصده طلاق بائن) الكناية: من كن الشيء إذا استتر، فاللفظ المحتمل للطلاق وغير الطلاق يعتبر من الكنايات، وسيأتي إن شاء الله الكلام على كنايات الطلاق، وقد كنى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل الكناية طلاقا، كما في قصة ابنة الجون من حديث أبي أسيد الساعدي رضي الله عنه، فإنه لما نكحها عليه الصلاة والسلام ودخل بها في حائط الشوط وأراد أن يلم بها، فقال: (هبي نفسك لي، فامتنعت، فمد يده إليها، فقالت: أعوذ بالله منك، فقال: لقد عذت بعظيم، الحقي بأهلك) ، فقال: (الحقي بأهلك) ، واعتد به طلاقا.
ومن هنا قال العلماء: الطلاق يقع بالصريح وبالكناية، فإذا قال الزوج لزوجته -بعد قولها له: خالعني وطلقني- فارقتك -إذا قلنا: إن الفراق من ألفاظ الكناية- فإنه يعتبر طلاقا بنيته، ومن كنايات الطلاق: أنت بتة، أنت بتلة، أنت برية، أنت الحرج، أنت حرة، الحقي بأهلك، اعتدي، استبرئي، ونحوها من ألفاظ الكنايات.
حكم الخلع إذا كان بألفاظ الخلع الصريحة ولم ينو الطلاق
قال رحمه الله: [وإن وقع بلفظ الخلع أو الفسخ أو الفداء ولم ينوه طلاقا] هذه الثلاث هي صريح ألفاظ الخلع عند الحنابلة رحمهم الله كما نص على ذلك الإمام ابن قدامة وغيره.
وهذه الثلاثة الألفاظ إن وقع الخلع بها كان النوع الثاني من الخلع، وهو الذي يوجب الفراق وفسخ النكاح؛ لكنه لا يعتد به طلاقا ولا يحتسب من الطلاق، فلو كان طلقها قبل الخلع طلقتين، ثم خالعته بدون أن يتلفظ بالطلاق؛ فإنه لا يعد هذا الخلع طلاقا، وتبقى له منها طلقة، فلو أنه أراد أن ينكحها بعقد جديد قبل أن تنكح زوجا غيره، حل له ذلك؛ لأنه بقيت له طلقة.
أما على مذهب الجمهور، فإنه إذا خالعها وكان قد طلقها طلقتين؛ فإنها حينئذ تعتبر حراما عليه، لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر الخلع طلاقا، وقال لـ ثابت رضي الله عنه، لما خالعته امرأته جميلة بنت أبي بن سلول: (اقبل الحديقة، وطلقها تطليقة) ، فألزمه بالطلاق وأمره به، فلو كان الخلع لا يقع طلاقا لم يلزم به النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يجعله مطلقا بحيث يفوت عليه ثلث طلاقه، ومن هنا أخذ الجمهور أن الخلع طلاق.
لكن ذهب ابن عباس ويحكى عن عبد الله بن الزبير، وجملة من التابعين - طاووس وعكرمة - والحنابلة رحمهم الله أنه ليس بطلاق.
ولذلك فإن الخلع والفسخ والفدية، هذه الثلاثة الألفاظ تعتبر في المذهب من صريح ألفاظ الخلع كما اختاره الإمام ابن قدامة وغيره.
قال المصنف رحمه الله: [كان فسخا لا ينقص عدد الطلاق] فقوله: (كان فسخا) هذا الحكم.
قوله: (لا ينقص عدد الطلاق) هذا الأثر.
فمن فوائد الخلاف في مسألة الفسخ ومسألة الطلاق: أن من قال: إن الخلع يعتبر طلاقا فإنه يحتسبه طلقة، فإن كانت الأخيرة حرمت عليه، وإن كانت الأولى اعتد بها، فتحسب في الطلاق في المستقبل إذا نكحها؛ وأما إذا قلنا: إنه مجرد فراق، فحينئذ لا يحتسب طلاقا، ولكن يفرق بينهما.
وفي الترمذي ورد عنه عليه الصلاة والسلام في حديث الربيع أنه -عليه الصلاة والسلام- جعل عدة المختلعة حيضة، وهذا حديث مضطرب ومتكلم في إسناده، وسيأتي -إن شاء الله- الإشارة إليه، وهذا الحديث يحتج به على أن الخلع فراق، والصحيح: أن الخلع طلاق كما ذكرنا؛ لأن آية البقرة والحديث لا يقويان على معارضة الصحيح الصريح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمر بالطلاق في الخلع.
وهنا مسألة: إذا قلنا: إن الخلع طلاق، فلو كانت المرأة حائضا؛ هل يجوز له أن يخالعها وهي حائض؟ اختار بعض العلماء كالإمام ابن قدامة رحمة الله عليه وغيره من العلماء أن الخلع يجوز حال الحيض، فيجوز حتى على القول بأنه طلاق؛ والسبب في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال ل ثابت: (اقبل الحديقة، وطلقها تطليقة) لم يستفسر، أهي حائض أو غير حائض.
قالوا: (وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال) .
أي: طلقها تطليقة سواء كانت حائضا أو غير حائض.
وعلى هذا -حتى عند الحنابلة رحمة الله عليهم الذين يقولون: إن الخلع يكون طلاقا إذا تلفظ بالطلاق- قالوا: يجوز أن يتلفظ بالطلاق وهي حائض في حال الخلع؛ لأن الطلاق وقع تبعا ولم يقع قصدا، وفرق بين التابع وبين القصد، وقد بينا دليل هذه القاعدة من السنة في حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين.
فقالوا: يجوز أن يخالعها بلفظ الطلاق، ولو كانت حائضا، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل من المرأة المختلعة، وقالوا: إن الخلع وقع الطلاق فيه تبعا ولم يقع أصلا.
الطلاق أثناء عدة المرأة من الخلع
قال رحمه الله: [ولا يقع بمعتدة من خلع طلاق ولو واجهها به] المرأة إذا خالعها زوجها، واعتدت من هذا الخلع -لأنه فراق على مذهب الحنابلة- فهل يلحقها بها الطلاق أو لا؟ ذكرنا أن الخلع فسخ، وإذا كان فسخا للنكاح؛ فإنه لا يلتحق الطلاق به، فلو كان طلقها طلقتين قبل الخلع، ثم خالعها، وأثناء عدتها في الخلع طلقها فإنه لا يعتد بهذه الطلقة، ولا تحرم عليه، وتبقى الطلقة الثالثة كما هي؛ لأن هذا الطلاق وقع في غير موقعه؛ لأن المرأة مفسوخ نكاحها ومفرق بينه وبينها، وحينئذ لا يتبعها طلاقه، وعلى هذا فلا يحتسب الطلاق ولا يعتد به.
حكم اشتراط الرجعة في الخلع
قال المصنف رحمه الله: [ولا يصح شرط الرجعة فيه] فإذا قال: أخالعك بشرط أن لي الرجعة، فأرجعك متى شئت أو إن شئت، يعني: في مدة العدة، فهذا لا يصح، والسبب في هذا: أن الخلع شرع لدفع الضرر عن المرأة، فإذا أجزنا للرجل أن يراجع المرأة، فمعنى ذلك أنه سيخالعها ثم يقول: راجعتك؛ فيفوت المقصود.
ولذلك أجمع العلماء رحمهم الله إلا من شذ على أن الرجل لا يمتلك ارتجاع امرأته في الخلع، وأن المقصود من الخلع خروج المرأة من الأذية والإضرار، وأنه إذا أضر بها وسألته أن يخالعها؛ فإنه في هذه الحالة قصد الشرع أن يدفع ضرره عنها، فإذا كان من حقه أن يراجع فإنه يفوت مقصود الشرع بهذه المراجعة، فلا يمتلك الرجل رجعة امرأته إذا طلقها أو فارقها بخلع.
حكم المخالعة بغير عوض أو بمحرم
قال رحمه الله: [وإن خالعها بغير عوض أو بمحرم لم يصح] قوله: (بغير عوض) كأن يقول: خالعتك، ولا يأخذ منها شيئا من مهرها أو فدية لذلك الخلع فإنه لا يصح؛ لأن الخلع مبني على المعاوضة، وقالوا: إنه خارج عن الأصل، فيتقيد جوازه بصورة الأصل؛ لأن الأصل بقاء العقد واستدامته، ولا يرفع إلا بالطلاق، وإذا كان هذا الأصل فقد جاء بالخلع على صورة معينة وهي: وجود الفدية والعوض؛ فإن خالعها بدون عوض فقد خرج عن المشروع، وأصبح الخلع غير صحيح من هذا الوجه، فلا بد من وجود العوض.
قوله: (أو بمحرم) قلنا: إن العلماء من عادتهم في المتون أنهم يذكرون الشبيه والنظير بعد نظيره وشبيهه؛ فإن خالعها بغير عوض لا يقع الخلع، كذلك إن خالعها بشيء محرم؛ فإن الشيء المحرم وجوده وعدمه في حكم الشرع سواء، فلو خالعها بخمر أو ميتة أو خنزير أو أصنام؛ فإنه لا يصح الخلع إلا بعوض مباح.
والحنابلة عندهم أن الخلع يكون بلفظ الخلع، ويكون بلفظ الطلاق، فلو قالت له: خالعني بدون عوض، وقبل ذلك وطلقها وقع طلاقا ولم يقع خلعا؛ لأنه طلق ومضى عليه طلاقه، وقد رضي فراق امرأته بدون عوض، فانتقل الحكم من الخلع إلى الطلاق وأخذ حكم الطلاق.
قال رحمه الله: [ويقع الطلاق رجعيا إن كان بلفظ الطلاق أو نيته] أي: إن كان الخلع بلفظ الطلاق، أو خالعها وهو ينوي طلاقها؛ كما لو قال لها: خالعتك، ناويا الطلاق، فحينئذ ينتقل لفظ (خالعتك) إلى كناية الطلاق؛ لأن الطلاق له صريح وله كناية، ولفظ الخلع يعتبر من كناية الطلاق؛ لأنه يدل على حل العصمة ورفع قيد النكاح؛ لأن أصل قيد النكاح وعقدة النكاح وعصمة النكاح توجب أن يكون الرجل لباسا للمرأة والمرأة لباسا للرجل، فإذا قال: خالعتك، كأنه يقول: فسخت نكاحك، وكأنه يقول: خلعت لباس الزوجية، فحينئذ يكون فيه وجه لدخوله في كناية الطلاق، فهو إذا قال لها: خالعتك، ناويا الطلاق ولم يأخذ العوض؛ لم يصح خلعا، لأن الخلع لا يصح إلا بعوض، لكن يقع طلاقا؛ لأنه كناية يقع بها الطلاق بالنية.
ما يصح به الخلع
قال المصنف رحمه الله: [وما صح مهرا صح الخلع به] بعد أن بين رحمه الله ألفاظ الخلع وأحكامها، شرع فيما يكون به الخلع وهو المخالع به من مال أو فدية، وفدية الخلع تعتبر متصلة بماهية الخلع، فلا بد من بيان أحكامها، فأنت إذا قلت: لا يصح الخلع إلا بعوض؛ يرد
السؤال ما هو العوض الذي يجوز، والعوض الذي لا يجوز، والعوض الذي يعتد به في الخلع والعوض الذي لا يعتد به؟ وقد تقدم في المسائل الماضية أنه إذا خالعها بدون عوض لم يصح، وإذا خالعها بعوض فإن هذا العوض فيه تفصيل، فالقاعدة فيه عندهم أن كل ما صح مهرا صح أن يكون عوضا في الخلع؛ لأن الخلع في الأصل يكون عوضا عن المهر، وعما دفعه الرجل إليها.
وللعلماء في هذا الخلع وجهان: الوجه الأول: أن المخالع به لا بد وأن يكون مرتبطا بما دفعه إليها، فلا يجوز أن يخالعها بشيء غير الذي دفعه إليها، وهو الأكثر والأزيد على حقه الذي دفعه في النكاح، وسيأتي -إن شاء الله- ذكر هذه المسألة.
الوجه الثاني: يجوز الخلع بكل ما يصح أن يكون عوضا ومهرا في النكاح، وعليه درج المصنف رحمه الله، فلو أنه قال: خالعتك بذهب وذكر ذلك الذهب، كمائة غرام، أو خالعتك بهذا العقد من الذهب أو بهذا العقد من الفضة، فقالت: قبلت.
صح ولزمه.
حكم مخالعة الرجل لزوجته بأكثر من المهر
قال رحمه الله: [ويكره بأكثر مما أعطاها] أي: ويكره أن يخالع الرجل امرأته بأكثر مما أعطاها.
وقد اختلف علماء السلف رحمهم الله فيمن خالع امرأته بأكثر، وصورة المسألة: أن يدفع للمرأة صداقا عشرة آلاف، فيسألها عند الخلع أن تدفع له خمسة عشر ألفا، أو يخالعها بعشرين ألفا، وكان قد دفع أقل منها، فهل يجوز ذلك أو لا يجوز؟ فذهب طائفة من العلماء رحمهم الله إلى أنه لا يجوز أن يخالع بأكثر مما دفع إليها، وهذا هو مذهب الجمهور رحمهم الله، واحتجوا بما ثبت في حديث جميلة رضي الله عنها أنها اشتكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها لا تحب ثابتا، وأنها أبغضته حينما رأت فيه دمامة الخلقة، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرجها من عصمته، فقال صلى الله عليه وسلم: (أتردين عليه حديقته التي أصدقك؟ قالت: نعم وزيادة، قال: أما الزيادة فلا) ، ولهذا الحديث شواهد منها المرسل الصحيح، وكذلك أيضا جاء ما يعضده عند ابن ماجة رحمه الله في السنن، وفيه عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاه أن يزداد أي: نهاه أن يأخذ الزيادة على الفدية.
قالوا: فهذا يدل على أنه لا يجوز للزوج أن يأخذ أكثر مما أعطى في مهر المرأة؛ ولأن الخلع عوض عن حق الزوج الذي دفعه، فتكون الفدية بقدر ذلك لا زيادة عليه.
وقال طائفة من العلماء رحمهم الله: تجوز الزيادة ويجوز أن يخالع بأكثر، واحتجوا بأن الأصل جواز المعاوضة، وقد قال الله تعالى: {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} [البقرة:229] ، قالوا: فهذا يدل على أنها إذا افتدت بالقليل أو بالكثير فالأمر في ذلك سواء، ولا حرج عليها أن تفتدي بأكثر مما أعطاها.
والذين قالوا بالجواز -كما ذكرنا- مع قولهم بالجواز نصوا على الكراهة.
ولذلك قال بعض أئمة السلف رحمهم الله: (هذا صنيع اللئام وليس بصنيع الكرام) ، أي: اللئيم هو الذي يأخذ أكثر مما أعطى في مهر المرأة؛ لأنه نسي المعروف ونسي الفضل بينه وبين المرأة فيأخذ أكثر مما أعطاها، وليس بصنيع أهل الفضل ولا أهل الكرم، فليس هذا من شيمة الفضلاء.
والذي يظهر -والله أعلم- النهي عن الزيادة؛ لأن قوله: {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} [البقرة:229] ، هو من جهة جواز الخلع وإن كان مطلقا لكن قيدته السنة بقوله عليه الصلاة والسلام: (أما الزيادة فلا) .
وبناء على ذلك فالذي تطمئن إليه النفس عدم جواز الزيادة على المدفوع، وأنه يتقيد الجواز بالقدر الذي دفعه ولا يزيد عليه، لأن في ذلك ظلما للمرأة وتضييقا عليها؛ فإنه لو فتح هذا الباب لتشارط الرجل ولربما سأل أكثر، مما يعجز المرأة وحينئذ يفوت مقصود الشرع من دفع الضرر عن المرأة، إذ لو أبحنا أن يأخذ الزيادة لقال لها: لا أخالعك إلا على مائة ألف أو مائتين، ويكون قد دفع القليل، وتكون المرأة ضيقة الحال، ويعلم أنها لا تستطيع ذلك، وحينئذ يفوت مقصود الشرع من جعل الخلع على قدر المدفوع في مهر المرأة.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 15-05-2025, 07:12 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,405
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي



حكم خلع الحامل بنفقة حملها
قال رحمه الله: [وإن خالعت حامل بنفقة عدتها صح] أي: وإن خالعت الحامل بنفقة عدتها، يعني: حال حملها؛ صح ذلك، وهذا قول جماهير العلماء رحمهم الله؛ لأن الحامل لها نفقة على الزوج، فلو أنها قالت: أخالعك بنفقة حملي قال: قبلت.
وعند الحنابلة أنه يجوز الخلع بكل ما يجوز أن يكون مهرا، ونفقة الحامل مال، فلو فرضنا أن نفقتها ثلاثة آلاف ريال، فكأنها خالعته بثلاثة آلاف ريال؛ لأنها لو مكثت وهي حامل ستة أشهر أو سبعة أشهر استحقت ثلاثة آلاف ريال أو أربعة آلاف ريال، ففي الحقيقة كأنها خالعته على الثلاثة أو الأربعة آلاف.
حكم المخالعة على مجهول
قال رحمه الله: [ويصح بالمجهول] ويصح الخلع بالمجهول، ولكنه يتعين بما ذكرناه، فيكون مجهولا في العقد ثم بعد ذلك تعينه، حتى ولو قالت له: أخالعك على دراهم، قال: قبلت؛ فإنه يلزمها أن تدفع له ثلاثة دراهم؛ لأن أقل الجمع ثلاثة، ولو قالت: أخالعك على دنانير؛ لزمها أن تدفع له ثلاثة دنانير؛ لأنها أقل الجمع، ولو قالت: أخالعك على ريالات، فهي مجهولة القدر؛ فإنه حينئذ ينظر إلى أقل الجمع، وهكذا لو قالت: أخالعك على مال وسكتت، فإنه يصح وتلزم بأقل ما يصدق عليه أنه مال؛ فهذا كله يعتبر في حكم المجهول، سواء مجهول القدر أو مجهول الوصف.
قال المصنف رحمه الله: [فإن خالعته على حمل شجرتها أو أمتها أو ما في يدها أو بيتها من درهم أو متاع أو على عبد صح، وله مع عدم الحمل والمتاع والعبد أقل مسماه، ومع عدم الدراهم ثلاثة] قوله: (فإن خالعته على حمل شجرتها) امرأة عندها بستان وأرادت أن تخالع زوجها وقالت له: أعطيك ثمرة بستاني هذا العام أو السنة القادمة، فقال: قبلت.
فحينئذ يصح؛ لأنهم يصححون الخلع على المجهول.
قوله: (أو أمتها) قالت له: أخالعك على ما في بطن أمتي، قال: قبلت.
وهذا بطبيعة الحال يكون أقل من المهر غالبا، فولدت أمتها جارية أو صبية، فحينئذ تكون ملكا له؛ لأنها عاوضته بهذه الأمة، كأنها باعت عليه هذه الأمة الأنثى، أو يكون حملها ذكرا؛ فحينئذ كأنها عاوضته بعبد ذكر.
قال رحمه الله: [أو ما في يدها] قالت له: خالعني على ما في يدي، فقال: قبلت.
ففتحت يدها، فلم يجد شيئا، في لو قالت: خالعني بما في يدي.
فبطبيعة الحال الذي في اليد مجهول لا يعرف، ولما كان الحنابلة رحمهم الله ذكروا جواز الخلع بالمجهول، يرد
السؤال إذا كان المجهول لا قيمة له، أو ظن أنه له قيمة وبان له كذلك، فلو قالت له: خالعني بما في يدي، فمعناه: أنه خالعها بعوض، وإذا قالت: بما في يدي، معناه: أن يدها فيها شيء، وعلى هذا يقع بأقل ما يصدق عليه أنه مال، ويلزمها أن تدفعه له؛ لأنه معلوم بدلالة الحال، فلما قالت له: بما في يدي، معناه: أن في يدها شيئا له قيمة وثمن، وأما لو قالت له: على دراهم أو دنانير، فحينئذ أقل الجمع ثلاثة، فتعطيه ثلاثة دراهم أو ثلاثة دنانير، وهكذا لو قالت على ريالات.
قال رحمه الله: (أو بيتها من دراهم أو متاع) (أو بيتها) أخالعك على ما في بيتي من متاع، فالذي في البيت من المتاع يأخذه؛ لأن له قيمة، فيكون عوضا عن خلعها.
قوله: (أو على عبد صح) فإن أعطته عبدا أو دراهم أو متاعا على أنه يخالعها صح؛ لأنها أشياء لها قيمة، فإن عدمت ولم يوجد شيء ينظر إلى أقل ما يصدق عليه المسمى كما ذكر.
قوله: (وله مع عدم الحمل والمتاع والعبد أقل مسماه) يأخذ أقل المسمى في الحمل والمتاع، فينظر إلى أقل شيء يمكن أن يصدق عليه أنه متاع، فمثلا: لو قالت له: أخالعك على ما في بطن أمتي، فطبعا سيظن أن في بطنها حملا، ولكن تبين أن ما في بطنها هو ورم، وانتفاخ، ولم يكن شيئا؛ حينئذ يكون على أقل ما يصدق عليه وصف الحمل، فيعاوض وينقل إلى المثل، وكذلك أيضا لو قالت له: أخالعك على ما في بيتي من متاع، وجاء إلى البيت ولم يجد متاعا، فنقول: أقل ما يسمى متاعا ما هو؟ فقالوا -مثلا-: فراش من نوع كذا، سواء كان من فرش الأرض أو فرش الأسرة، نقول له: هذا الذي لك، ويرجع في هذا إلى أهل الخبرة ويقدرونه.
كل هذه الأمثلة -كما ذكرنا- العلماء يقصدون منها إذا وقعت الحيلة من الزوجة على زوجها، أو خالعت على شيء تظنه مالا وبان أنه غير مال، سواء كان متاعا أو غيره كما ذكرنا، المهم هو القاعدة فإذا خالعته على شيء ظن أنه موجود وتبين أنه غير موجود نلزمها بلفظها، فلفظها متاع، نقول: يلزمها أقل ما يصدق عليه أنه متاع، وإن قالت: الحمل؛ فأقل ما يصدق عليه الحمل، وإن قالت: ثمرة بستاني؛ نفس الحكم.
فإذا نؤاخذها باللفظ الذي اتفق عليه الطرفان، وهما اتفقا على خلع بعوض، فإن لم يكن العوض موجودا نظر إلى أقل المسمى، أي أقل ما يصدق عليه أنه متاع وأنه حمل إلى آخر ما ذكروه.
قوله: (ومع عدم الدراهم) لو قالت: أخالعك على دراهم، أو على الدراهم التي في يدي ففتحت يدها ولم يوجد شيء؛ لأنه بطبيعة الحال، إذا قالت: على دراهم، فقد ذكرت في اللفظ الجمع، فمعناه أن الرجل لما قال: خالعتك، كأنه يقول: رضيت بالدراهم، وأقل شيء يصدق عليه أنه دراهم معناه أنه راض به، فالعرب تسمي الثلاثة فأكثر جمعا، وتقول: دراهم، فإذا قال: رضيت، وخالع، فمعنى ذلك أنه رضي بثلاثة دراهم فأكثر، فإن لم يوجد الأكثر، قلنا: ليس لك إلا أقل ما يصدق عليه هذا الجمع الذي رضيت به بالخطاب، فيأخذ الثلاثة الدراهم ولا يزداد.
أحكام الخلع المعلق
قال رحمه الله تعالى: [فصل: وإذا قال: متى أو إذا أو إن أعطيتني ألفا فأنت طالق؛ طلقت بعطيته وإن تراخى] في الحقيقة قبل أن ندخل في التفصيلات -وستأتينا أكثر في الطلاق، وستأتي الجمل المعلقة وألفاظ التعليق وألفاظ الشرط-.
قد يمل طالب العلم أحيانا، لكن ثقوا يا إخوان أنه حينما تأتي مشاكل الناس وأسئلتهم ستبحث في هذه المسائل بدقة، وتحتاج إلى دراستها بدقة أكثر، وكنا نقرؤها على مشايخنا رحمة الله عليهم، قد يحدث شيء من الطول والتعب، لكن لن تجد قيمة هذه المسائل وحلاوتها إلا بأسئلة الناس.
فسيأتيك الشخص الذي يتلفظ بهذه الألفاظ فلا تحس أنك في شيء غريب، خاصة إذا كنت طالب علم تدرس مادة علمية ستسأل عنها، فالسائل لا مذهب له، ولا يأتيك بكتاب معين ولا بسؤال محدود، بل يأتيك بما وقع له وبما قال.
فهنا بعد أن فرغ رحمه الله من الخلع المنجز؛ شرع في الخلع المعلق، والخلع المعلق: أن يأتي بشرط، فيقول: إن فعلت، أو إذا، أو متى، فيكون معلقا على شيء، فنحتاج إلى دراسة المعلق كما درسنا المنجز.
وهناك ألفاظ يقع بها الخلع بصيغة الشرط، فيحتاج طالب العلم أن يعرف ما هو الحكم لو قال لها هذا القول.
وأول مشكلة في الخلع المعلق من حيث اللفظ، فما هي الألفاظ التي يكون بها التعليق؟ وثانيا: أنه قد يعلق ويفعل، أو يقع الشيء الذي اشترط بعد فترة فهل يشترط في المعلق أن يكون منجزا أو يمكن أن يقع على التراخي؟ فلو قال لها: متى أعطيتيني ألفا أو متى فعلت كذا وكذا -من الشرط المطلق الذي لا قيد فيه- وبعد سنة أو سنتين أو خمس سنوات أو سبع سنوات جاءت بهذا الشيء الذي علق الخلع عليه، فهل التعليق مقيد أو مطلق؟ كذلك أيضا لو أنه قال: متى، أو إذا، أو إن، ثم طلق المرأة ولم تفعل شيئا مما اشترط، وبعد أن طلقها وبانت منه فعلت الشيء الذي قاله وعلق الخلع عليه؛ ثم تزوجها بعد ذلك، فهل يقع الخلع أو لا؟ ولو أنه قال لها ذلك، ثم طلقها، ولم تفعله أثناء البينونة، ولكن خرجت من عدتها، ونكحها بعقد جديد، ثم فعلته في العقد الثاني! فكلها مسائل تحتاج إلى بحث.
وحتى في الطلاق أيضا ربما يقول لها -على القول بالتعليق في الطلاق-: إن دخلت الدار فأنت طالق.
فما دخلت اليوم، وإنما دخلت بعد سنة أو سنتين أو ثلاث سنوات إن زرت فلانة فأنت طالق، وزارتها بعد سنة أو سنتين.
أو أنه قال لها: إن زرت فلانة فأنت طالق، ثم طلقها غير الطلاق الذي علق عليه، ثم لما طلقها وبانت منه زارت هذه المرأة، ثم رجعت له بعقد بعد ذلك؛ فهل يبقى التعليق كما هو أم أن فعلها للمعلق أثناء خروجها عن عصمته يؤثر ويسقط ذلك المعلق بفعله ولو مرة؟ ثم بعد ذلك لما رجعت له بالعقد الجديد ذهبت وزارتها؛ فهل يقع الطلاق ويبقى التعليق الأول كما هو أم ماذا؟ هذه أمور لا بد من بحثها، ولذلك نقول: قراءة الفقه منفصلا عن ثمرته وحال الناس في سؤالهم، لا يستطيع طالب العلم أن يتصل بمسائله بالشكل المطلوب، فقد يمل طالب العلم: متى وإذا وإن، فيدخل في تفصيلات الشروط وألفاظ الشروط ويمل، لكن أقولها لما وقع لنا: في البداية قد تجد مللا، لكن سيأتي اليوم الذي تجد من يقول هذا القول لامرأته، ويسألك عن حكمه.
أو تجد مسألة مفرعة على هذا الأصل، وهل النكاح يهدم أو لا يهدم؟ وكلها مسائل ذكرها العلماء واعتنوا بها.
وإنما أراد المصنف رحمه الله بذكرها هنا اكتمال مادة الخلع.
لزوم الوفاء بشرط الخلع عند حصول المخالفة
قوله رحمه الله: [وإذا قال: متى أو إذا أو إن أعطيتني ألفا فأنت طالق] إذا قال: متى أعطيتني ألفا، أو إذا أعطيتني ألفا، أو إن أعطيتني ألفا، فقد اشترط، وبينه وبين الله عز وجل أنها إن فعلت هذا الشرط أنها تطلق، والله عز وجل أعطاه الطلاق منجزا ومعلقا، فقال: {وإذا طلقتم النساء} [البقرة:231] {وإن طلقتموهن} [البقرة:237] ، ولم يفرق بين المعلق وبين المنجز، فهو كما أنه يطلق ويقع طلاقه منجزا، فإنه إن علقه على شيء يقع عليه الطلاق إذا وقع ذلك الشيء؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن لك على ربك ما اشترطت) .
فكما أن الإنسان يستحق بالشرط، وله أخذ ما شرط، كذلك أيضا يلزم بالشرط ويؤاخذ به.
فقال رحمه الله: (إن أعطيتني ألفا فأنت طالق) فهنا عوض، وهذه المعاوضة عن تطليق.
وعلى هذا؛ فإنها لو أعطته الألف في نفس اليوم، أي: بعد حديثه مباشرة أو فصل بينه وبين حديثه فاصل، تركته ساعة أو ساعتين أو ذهبت وأحضرت الألف وجاءت فقال: لا، أنا قلت: إن أعطيتني ألفا وأقصد في المجلس، نقول: ما قلت في المجلس ولم تشترط المجلس، فحينئذ إن أعطتك الألف في المجلس أو خارج المجلس أو بعد المجلس فهذا شرط ليس فيه قيد، فلو أنها جاءت بالألف في اليوم الثاني، أو جاءت بالألف بعد سنة، متى أعطته الألف فإنه حينئذ كأنها خالعته بهذه الألف، فأدخلوا هذه المسألة تبعا للخلع؛ لوجود المعاوضة.
قوله: (طلقت المرأة بعطيته) إن أعطته الألف، وقوله: (وإن تراخى) تراخت العطية وتأخرت؛ لأن العبرة أنه متى ما وقع الشرط وقع المشروط، فهو اشترط فيما بينه وبين الله عز وجل أن عصمة امرأته تنحل وترفع بهذا الشرط إن وقع، وقد وقع الشرط فيؤاخذ به.
قال المصنف رحمه الله: [وإن قالت: اخلعني على ألف أو بألف أو لك ألف ففعل؛ بانت واستحقها] .
قوله: (اخلعني على ألف) ففعل، فحينئذ تخلع منه، وتطلق على قول الجمهور.
فهي اشترطت عليه، قالت: اخلعني بألف، فقال: خالعتك، فلما قال: خالعتك، معناه: خالعتك بألف، وهكذا لو قالت: اخلعني بألفين، قال: خالعتك، فحينئذ إذا فعل ذلك فإنه يستحق ذلك المبلغ عليها ويلزمها دفعه.
كما أنها تستحق عليه المخالعة والطلاق، كذلك هو يستحق العوض إن اشترطت عوضا على الطلاق والخلع، فالحق بينهما متقابل، كما أنك تلزم الرجل كذلك تلزم أيضا المرأة.
قوله: [أو بألف أو لك ألف] كل هذه حروف: على ألف أو بألف.
قوله: (ففعل بانت واستحقها) استحق الألف، فحينئذ لا تبين هكذا، لأنها رتبت على اشتراط والتزام، فهي إذا قالت له: خالعني بألف، -لا بد أن تعرف مضمون اللفظ حتى تؤاخذ به- أي: لك علي ألف وفي ذمتي لك ألف إن وقع منك الخلع، وهذا عقد واتفاق بين الطرفين، والله يقول: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة:1] ، فهو إذا تلفظ بالخلع استحق الألف، وإذا تلفظ بالخلع ألزمناها الألف، فهي التي التزمت واشترطت على نفسها أنه إذا خالعها وأنه إذا وقع هذا الشرط الذي ذكرته من كونه مخالعا أعطته ألفا، فإذا قال: خالعتك؛ وكان منه لفظ الخلع، فقال: خالعتك؛ فحينئذ عليها ما التزمت به.
حكم الزيادة على ما اشترط في الخلع
قال رحمه الله: [وطلقني واحدة بألف فطلقها ثلاثا استحقها] القاعدة في مسألة الاشتراط: أن الإنسان إذا التزم شيئا بالشرط يوفي بذلك، والحقوق بين المسلمين تضمن بالشروط، كما قال عمر رضي الله عنه: (مقاطع الحقوق عند الشروط) ، وهي مأخوذة من النصوص الصحيحة في قوله عليه الصلاة والسلام: (المسلمون على شروطهم) ، فقوله: (مقاطع الحقوق عند الشروط) ، يعني: لما تأتي تقطع القطع التي يعرف فيها حق كل ذي حق، ويفصل فيها في الحقوق، فإنك تفصل الخصومة والنزاع، وتعطي كل ذي حق حقه بالشرط.
فهو إذا اشترط وهي إذا اشترطت ألزمناه بشرطها، وألزمناها بشرطه، فهو يقول: خالعتك، وهي قد قالت: إن وقع منك هذا القول؛ أعطيك ألفا.
بعد أن قررنا هذه القاعدة -وهي تأثير الشرط- يبقى
السؤال ذكر المصنف متى أو إذا أو إن، وعلى ألف أو بألف.
هذه كلها يستوي فيها المطلوب فعله، ويرتب المال أو المدفوع على وجود هذا المطلوب، فإذا قالت له: إن طلقتني فلك ألف، خالعني ولك ألف، فليس في هذا إشكال، لكن الإشكال إن طلبت منه شيئا ففعل أكثر منه، أو طلبت منه شيئا ففعل أقل منه.
فالقسمة العقلية تقتضي ثلاث حالات ينبغي أن ينتبه لها طالب العلم، الحالة الأولى: أن يكون الفعل الصادر أو القول الصادر على حسب المطلوب، قالت: خالعني وأعطيك ألفا، قال: خالعتك، بطبيعة الحال إذا قضيت في هذا تقول: الشرط الذي التزمت به المرأة أن تعطيه الألف إن تلفظ بالخلع، وقد تلفظ بنفس الشيء الذي طلب منه، وهنا المساواة واضحة، لم يقل شيئا زائدا عما طلب منه ولا أقل مما طلب منه، فمن ناحية فقهية بعد أن تبين المساواة تنتقل إلى الزيادة أو إلى النقص، لكي تعرف الأصول وتحفظ وتلم بطريقة الفقهاء رحمهم الله.
فبعد أن بين حال المساواة شرع في الحالة التي يزيد فيها الرجل عن الشرط، والحالة التي ينقص فيها عن الشرط.
الحالة الثانية: إذا قالت له: إن طلقتني واحدة أعطيك ألفا، فقال: أنت طالق بالثلاث، فليست واحدة بل ثلاثا، والشرط طلقة واحدة، وأعطاها ثلاثا، فإنه قد زاد على الذي وقع الشرط عليه، فهل نقول: إنه أساء إليها بالثلاث وهي طلبت الواحدة، والثلاث غير الواحدة، وحينئذ لا يستحق؟ وهذا مذهب ضعيف، أو نقول: إن الشرط بينه وبينها إن وقع طلاق بواحدة أنها تلزم بدفع ما اشترطت على نفسها، والزيادة -وهي الطلقتان- كانت من نفسه، كما لو طلقها واحدة ثم أردفها طلقتين بعد؟ وهذا هو الصحيح على ما اختاره المصنف، فحينئذ إن زاد فإنه يستحق الألف.
امرأة قالت لزوجها: إن طلقتني واحدة أعطيك ألفا، فقال لها: أنت طالق بالثلاث، قالت: لا أعطيك شيئا؛ لأنني أريد أن أرجع إليك، فامتنعت من الإعطاء، فاختصما إلى القاضي، فالقاضي يعلم أنه شرط زاد فيه الزوج، فنقول: إنه إذا وقع الشرط وزيادة فإنه يستحق؛ لأن الطلقة التي وقع الشرط عليها قد وقعت.
قال رحمه الله: [وعكسه بعكسه إلا في واحدة بقيت] ، وهذه هي الحالة الثالثة، إذا قالت له: طلقني ثلاثا، فطلقها واحدة فإنه لا يستحق الألف؛ لأنها اشترطت الثلاث، والواحدة جزء من الثلاث، والجزء ليس كالكل، ولا يأخذ حكم الكل، كما لو قلت لرجل: إن جئتني بخمسة رجال أعطيك كذا، فجاءك برجل فلا يستحق، إنما يستحق إذا جاءك بالخمسة، فهم يرون هذا من باب الجعل، ومندرج تحت أحكام الجعل.
وباب الجعل -كما سيأتينا إن شاء الله- أنك إذا رتبت ثمنا أو مبلغا أو مالا أو شيئا على شيء معين، وجاء ببعضه فإنه لا يستحق الجعل حتى يأتي بذلك الشيء كاملا، فلو قلت: من جاءني بسيارتي الضائعتين أعطيه عشرة آلاف ريال، فجاء بسيارة منهما لم يستحقه، حتى يأتي بكلا السيارتين، فلا يتجزأ المقابل والعوض بتجزؤ العمل.
كذلك هنا لا يتجزأ الاستحقاق الذي هو الألف بتجزؤ الطلقات، إنما يستحق الألف إذا وقعت الثلاث، فإن وقعت واحدة لم يستحق، لكن لو أنه طلقها قبل ذلك طلقتين ولم يخبرها بالطلقتين، فقالت له: طلقني ثلاثا أعطك ألفا، فقال لها: أنت طالق، فهذه الطلقة مكملة للثلاث، فحينئذ وقع الشرط، فإن هذه الواحدة وإن كانت واحدة لكنها في الحقيقة متممة للثلاث ومحققة لمقصود المرأة من البينونة فحينئذ يستحق؛ لأن المقصود حصل.
حكم مخالعة الأب لابنه الصغير أو ابنته بشيء من مالها
قال المصنف رحمه الله: [وليس للأب خلع زوجة ابنه الصغير ولا طلاقها ولا خلع ابنته بشيء من مالها] قوله رحمه الله: (وليس للأب خلع زوجة ابنه الصغير) فيقول: خالعتك، يخاطب زوجة ابنه؛ فإن زوجة ابنه إذا سأل وليها الخلع وقال: أعطيك ألفا وتخالعها، ليس له ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الطلاق لمن أخذ بالساق) ، فجعل الفراق وحل العصمة في النكاح لمن ملك، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا طلاق فيما لا يملك، فإذا ثبت أن حل العصمة والفراق يكون لمن بيده تلك العصمة وذلك الفراق وهو الزوج؛ فإنه يسري ذلك على الخلع، ويلتحق الخلع بالطلاق، ومن هنا قالوا: لا يطلق، وعلى هذا لا يخالع، فليس له أن يخالع، لا خلع طلاق ولا خلعا مجردا.
قوله: (ولا طلاقها) كذلك.
قوله: (ولا خلع ابنته بشيء من مالها) كذلك أيضا، لو أنه خالع ابنته بشيء من مالها، ففرقوا بين البنت وبين الابن، فقالوا في البنت: له أن يخالع لأنه يرى الضرر، ومن حقه أن يخالع عن ابنته إذا كان من ماله، لا من مالها، وجعلوا المنع هنا من جهة أن الأب يكون قائما على مال ابنته الصغيرة، وهذا معلوم في باب الحجر: أن الصغير والصغيرة لا يملكان التصرف في ماليهما، فإذا جاء الأب يخالع من مالها فإنها محجور عليها فلا تستطيع، وقد بينا في أول الخلع أن الخلع لا يصح من صغيرة ولا من مجنونة ولا من محجور عليها؛ لوجود المعاوضة فيه، ومثلها ممنوع من التصرف، وفي هذه الحالة قالوا: ليس له الحق أن يخالع من مالها؛ لكن له الحق أن يخالع من ماله، وهذا مفهوم قوله: (من مالها) .
إسقاط الخلع لغيره من الحقوق
قال رحمه الله: (ولا يسقط الخلع غيره من الحقوق) ، كالنفقات.
هنا بيان أثر الخلع، فلو أن رجلا خالع امرأته وله منها أولاد، فإنه إذا خالعها وتم الخلع يلزم بنفقة الأولاد، ولا يقول: إن الخلع مسقط للنفقة، فالخلع لا يسقط الحقوق، فيبقى حق النفقة ونحوه من الحقوق التي تترتب على عقد النكاح باقية ويلزم بها.
الطلاق المعلق على صفة إذا وجدت بعد إبانة المرأة ثم مراجعتها
قال المصنف رحمه الله: [وإن علق طلاقها بصفة ثم أبانها فوجدت ثم نكحها فوجدت بعده طلقت كعتق وإلا فلا] هذه المسألة تكلم عليها أئمة السلف رحمهم الله، وهي مسألة قديمة، وقول جماهير العلماء رحمهم الله حتى حكي الإجماع: أن الرجل إذا علق الخلع أو الطلاق على صفة، وقال: إذا دخلت الدار أو إن فعلت كذا وكذا، وذكر شيئا معينا إن وجد فالطلاق حاصل، أو الخلع واقع.
فهذا التعليق على وجود الصفة إن كان النكاح باقيا ذكرناه في حكم الشرط، وسيأتي -إن شاء الله- بيانه وبيان كلام العلماء عليه -إن شاء الله- في تعليق الطلاق بالشرط.
لكن هنا مسألتنا أنه يعلق ثم يطلقها وتخرج من عدتها فتبين منه، وتفعل هذا الشيء أو توجد هذه الصفة حال بينونتها، أي: لما بانت وانحلت من العصمة وفرق بينهما وفارقته وقع هذا الشيء الذي علق الطلاق عليه، وطبعا هي أجنبية، فلا يقع حال كونها أجنبية، فبعد أن وقع أو وجدت الصفة نكحها مرة ثانية؛ فهل يبقى المعلق في النكاح الأول كما هو أو يلغى؟ هذه مسألة واقعة في الطلاق، وفي العتاق (في عتق العبيد) يقول لعبده: إن جاء أبي من السفر فأنت حر، فعلق العتق على مجيء أبيه، فقبل مجيء أبيه باع العبد، واشتراه زيد من الناس؛ ثم جلس عند زيد -مثلا- نصف سنة، ثم اشتراه من زيد، فإن رجع الأب وهو عند زيد أو رجع بعد رجوعه إلى صاحبه الأول؛ فهل يسري الحكم في كلتا الصورتين؟ ففي الحالة الأولى يقول: إن جاء أبي فأنت حر، ثم باعه قبل مجيء أبيه فاشتراه زيد فجاء أبوه وهو ملك لزيد، ثم اشتراه بعد ذلك من زيد فهل يعتق؟ قال جماهير العلماء: إنه يعتق؛ لأنه فيما بينه وبين الله عز وجل جعل عتق عبده إذا كان مملوكا له بمجيء والده، فإذا جاء والده، سواء كان مجيئه والعبد في ملكه أو قبل أن يملكه فإنه يقول: متى جاء والدي فسأعتقك، فلما امتنع لوجود الملكية المخالفة وهي ملكية زيد حينئذ يمنع ما دام ملكا لزيد، فإن رجع إليه رجع بشرطه فيما بينه وبين الله، فيلزمه عتقه ويعتق عليه، هذا في العتاق.
ويوجد تداخل بين كل من العتاق والطلاق والنذور، خاصة في مسائل الشروط والتعليق والحقائق.
هذه نص عليها جماهير العلماء رحمهم الله، وحكى ابن المنذر أن الكافة يقولون: إنه يعتق عليه.
ففي الطلاق نفس الحكم، فإن علق طلاقها على صفة ووجدت الصفة حال كونها في عصمة غيره أو بعد مجيئها في عقد ثان أخذ نفس الحكم.
مثلا: قال لها: إن جاء والدي من السفر فأنت طالق، فطلقها قبل أن يجيء والده، وبانت منه قبل أن يجيء والده، أو خالعته قبل أن يجيء والده، فأصبحت بائنا منه، ثم جاء والده وهي بائن، سواء كانت مزوجة بغيره أو في حال كونها أيما لا زوج لها، ثم نكحها مرة ثانية بعد مجيء والده؛ فحينئذ تأخذ نفس الحكم، فهذا الذي قصده المصنف رحمه الله، وتدخل هذه المسألة في مسائل الشروط تبعا.
قوله: [فوجدت ثم نكحها فوجدت بعده طلقت كعتق وإلا فلا] قوله: (فوجدت بعده) بعضهم يقول: تطلق ويعتق العبد برجوعه إلى الملكية؛ لوجود الصفة كما ذكرنا، وبعضهم يقول: لا تطلق إلا إذا كانت الصفة موجودة أثناء الرجوع، فلو أن والده سافر مرة ثانية وتوفي في هذا السفر ولم يعد، فلا تطلق عليه، فيجعلونه باقيا بالسريان الذي ذكرناه، بحيث إنها عندما ترجع إلى عصمته يكون الوالد قد جاء من السفر، أما إذا بقي على سفره وعلى وصف السفر، فإنه لا يصدق عليه أنه رجع.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبيه محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 15-05-2025, 07:17 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,405
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي



شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب النكاح)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (430)

صـــــ(1) إلى صــ(8)





شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الطلاق [1]
شرع الله سبحانه وتعالى الطلاق وجعل فيه حكما عظيمة، وجعله وسيلة لدفع الضرر اللاحق بالزوج أو الزوجة أو عليهما معا، ومشروعيته ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع.
والتلفظ به هزلا أو مزاحا موجب لوقوعه، ولقد اعتنى أهل العلم بكتاب الطلاق لعموم البلوى به، فحرروا مسائله وأحكامه، وأنزلوا فيه الأحكام التكليفية الخمسة، وبينوا الأحكام المتعلقة بمن يصدر منهم لفظ الطلاق، فإنه قد يصدر من الصبي والمجنون والسكران والمكره.
تعريف الطلاق والأدلة على مشروعيته
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب الطلاق] كتاب الطلاق من الكتب المهمة في الفقه، وهو مما تعم به البلوى، وقد جعل الله الطلاق موجبا لحل قيد النكاح ورفع عصمته، وبين أحكام الطلاق في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، والله عز وجل من حكمته وكمال علمه سبحانه وتعالى، جعل الطلاق حلا للمشاكل، وقطعا للنزاعات ودفعا لمفاسد الخصومات.
وفي هذا الطلاق مصالح عظيمة مع كونه يشتمل على الضرر والفرقة بين الزوجين؛ لكنه يشتمل على مصالح إذا وقع في موقعه، وراعى فيه الزوج ما ينبغي عليه مراعاته في مثله من مثله.
وكتاب الطلاق يجعله العلماء -رحمهم الله- بعد مسائل النكاح؛ لأن الطلاق يوجب رفع العصمة، والمناسبة بين كتاب الطلاق وباب الخلع الذي انتهى منه المصنف واضحة ظاهرة، وقد سبق وأن ذكرنا أن الحنابلة رحمهم الله يقدمون باب الخلع على باب الطلاق، وبعض العلماء يؤخر الخلع عن الطلاق ويجعل الخلع بعد الطلاق.
وقوله رحمه الله: (كتاب الطلاق) الطلاق: أصله التخلية، ومنه قولهم: طلقت الناقة إذا خليت وحل وثاقها، فأصل الطلاق التخلية والإرسال.
وأما في الاصطلاح: فهو حل قيد النكاح بلفظ مخصوص، وقيل: رفع قيد النكاح بلفظ مخصوص، وهذا اللفظ المخصوص سيأتي أنه صريح لفظ الطلاق أو كنايته بالنية المعتبرة.
وقد شرع الطلاق بدليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة، أما دليل الكتاب: فآيات منها قوله تعالى: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} [البقرة:229] ، وقوله سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن} [الأحزاب:49] ، وقوله سبحانه وتعالى: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره} [البقرة:230] ، إلى غير ذلك من الآيات التي دلت على مشروعية الطلاق.
وكذلك ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطلاق كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما حينما طلق امرأته وهي حائض، فقال صلى الله عليه وسلم: (مره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد ذلك وإن شاء طلق) .
وكذلك أجمعت الأمة على مشروعية الطلاق، وأنه مباح وجائز على تفصيل بين العلماء رحمهم الله.
الحكم والمقاصد الشرعية في الطلاق
قال أهل العلم: إن في الطلاق حكما عظيمة، فالله سبحانه وتعالى شرع للزوج إذا وصلت الحياة الزوجية إلى مقام لا يحتمل، وحصل الضرر على الزوج أو الزوجة أو عليهما معا من البقاء في النكاح أن يطلق، وجعل هذا الطلاق ثلاثا، فجاءت الشريعة بالوسطية، فكان أهل الجاهلية في القديم يتخذون من الطلاق وسيلة لأذية النساء، فكان الرجل يطلق المرأة ويتركها حتى تقارب الخروج من العدة فيراجعها، ثم يطلقها طلقة ثانية، ويتركها حتى تكاد تخرج من عدتها فيراجعها ولا يقربها ولا يعاشرها، إنما يفعل بها ذلك إضرارا: {ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا} [البقرة:231] ، {فتذروها كالمعلقة} [النساء:129] ، فكانوا يجعلونها كالمعلقة، لا زوجة ولا مطلقة، فكانوا يضارون بالطلاق، فجعله الله ثلاثا.
وانظر إلى حكمته سبحانه وتعالى وكمال علمه جل جلاله، حينما جعل الطلاق على هذا الوجه، قالوا: لأن الحياة الزوجية إذا وصلت إلى ضرر يوجب الطلاق فإما أن يكون من الرجل أو المرأة، فالرجل يقدم على الطلاق فيطلق الطلقة الأولى، ففي الطلقة الأولى إما أن يكون الخطأ من الرجل أو يكون من المرأة، أما إذا كان منهما فلا إشكال، وفي الحالة الثانية: فإن الغالب أن الرجل إذا طلق الطلقة الأولى أن يتعقل ويذوق مرارة الطلاق، ويعرف هذه المرارة فيحن إلى زوجته إذا كان ظالما ومسيئا، فيشعر بقيمة الزوجة عند الفراق لها، فيحن لها فيراجعها، فأعطاه الله الرجعة، فإن رجع إليها رجع لها بعقل غير عقله الذي كان معه، ويرجع إليها ببصيرة أكمل من بصيرته في حاله الأولى، فإذا رجعت إليه ربما أخطأت هي، فإذا أخطأت عليه في هذه الحالة فإنه سيطلقها الطلقة الثانية، فأعطوا أيضا مهلة ثالثة، فإذا زادت عن الثالثة فلا وجه، فتصبح الحياة فيها نوع من الإضرار، وربما استغل الرجال الطلاق للإضرار بالمرأة، لذلك حدده الله عز وجل بثلاث تطليقات.
فالطلقة الأولى لأن الخطأ إما أن يكون منه أو منها؛ فإن تكرر الخطأ منه في الثانية والثالثة، فلن تعود إليه حتى تكون عند زوج غيره، فإذا عاشرت زوجا غيره وطلقها الطلقة الثالثة أدبه الشرع بأن تكون فراشا لغيره، فيكتوي بنار الغيرة ويتألم ويتأوه، فإن كانت هذه المرأة عاقلة حكيمة ووجدت زوجا أصلح من الزوج الأول وبقيت معه وحمدت الله على السلامة من الأول، فعندها يكتوي الأول وينال عاقبة ظلمه وإضراره.
فإن تزوج امرأة ثانية؛ فإنه يتأدب ولا يقدم على الطلاق ولا يهجم عليه؛ لأنه يخاف أن يحصل له مثل ما حصل مع الأولى، وإن نكحت هذه الزوجة زوجا أضر منه وطلقها ثلاثا فتحل للأول؛ فإن عادت للأول عادت وهي تحمد ضرره وقالت: هذا أرحم من سابقه، فصبرت عليه، ثم هو يعود لها بنفس غير النفس التي كان عليها.
فإذا: تقييد الطلاق بالثلاث فيه حكم عظيمة؛ ثم إن الله سبحانه وتعالى من حكمته أن جعل الطلاق مخرجا من المشاكل، فإن الحياة الزوجية لا تخلو من وجود المشاكل، إما بسبب اختلاف طبائع الناس، طبيعة الرجل وطبيعة المرأة، أو تكون باختلاف الطبائع ممن يحيط بالزوج والزوجة كأهله وقرابته وأهلها وقرابتها، وحينئذ تنشأ المشاكل بسبب هذا الاختلاف والتضاد، فيكون الطلاق حلا لهذه المشاكل؛ لأن كلا منهما يمضي لسبيله، ويلتمس عشيرا يحسن إليه ولا يسيء، ويكرمه ولا يهينه، ويكون منه ما يقصد من النكاح.
أما لو بقيت المرأة عند زوجها، ولم يكن للزوج مخرج بطلاقها فلا شك أنه أمر عظيم، فلربما اطلع الرجل من امرأته -والعياذ بالله- على خيانة، أو على وقوع في حرام، أو يكون يطلع منها على أخلاق رديئة، تنتقل إلى أولاده وذريته، فلو أن الشرع ألزمه ببقائها، فإن هذا غاية الضرر على الرجال، ولترك الكثير الزواج خوفا من هذا؛ لأن المنهج التشريعي في شرع النكاح أن نقول: يبقى إلى الأبد، أو نقول: يبقى مؤقتا، فأما بقاؤه مؤقتا ففيه إضرار بالرجل والمرأة كما في نكاح المتعة، وقد ذكر العلماء الضرر فيه، وأما كونه يبقى إلى الأبد، فإنه في حال وجود المشاكل والأضرار يبقى النكاح مفسدة بدل أنه مصلحة، فينقلب من المصالح إلى المفاسد والشرور.
فالوسط أن يبقى النكاح إلى الأبد، ولكن يرتفع إذا وجد موجب ارتفاعه وذلك بالطلاق.
ثم هذا اللفظ -لفظ الطلاق- عظم الشرع أمره، وألزم المكلف أن يحذر منه، فحتى لو تلفظ به هازلا أو مازحا؛ فإنه يؤاخذ بهذا اللفظ، ويعاقب بمضي الطلاق عليه، فلو أن رجلا قال لرجل يمزح معه: امرأتي طالق، فإنها طالق ولو قصد الهزل، وكذلك لو جلس مع امرأته فأحب أن يمزح معها وقال هازلا: أنت طالق أو طلقتك أو أنت مطلقة فإنه يمضي عليه الطلاق، قال صلى الله عليه وسلم: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والعتاق) ، قال عمر رضي الله عنه وأرضاه: (أربع جائزات إذا تكلم بهن: النكاح والطلاق والعتاق والنذر) ، فهذا يدل على عظم شأن الطلاق، ولذلك ينبغي للمسلم ألا يستعجل في الطلاق وأن يتريث فيه.
وقد نص العلماء رحمهم الله على كراهية الطلاق إذا لم يكن من حاجة، وأنه كالمخرج عند إعياء الحيل، وإذا تعب الزوج ولم يستطع علاج مشاكله، فإن الطلاق يكون مخرجا من هذه المشاكل، وعلاجا لهذه الأضرار، أما إذا كان من دون حاجة فقد نصوا على كراهيته وبغضه في هذه الحالة.
وقوله رحمه الله: (كتاب الطلاق) من عادة العلماء في كتاب الطلاق أن يبينوا أركانه، فيبينوا أولا من الشخص الذي يملك الطلاق وله حق الطلاق؛ لأن الطلاق قد يصدر من الأهل وقد يصدر من غير الأهل، كأن يصدر من صبي صغير، أو مجنون أو سكران أو مكره، فيبحثون مسائل الشخص الذي هو أهل للطلاق.
كذلك أيضا يبحثون الركن الثاني، وهو لفظ الطلاق وصيغته، فيبينون ألفاظ الطلاق الصريحة، وألفاظ الطلاق الكناية، وألفاظ الطلاق التي تعتبر من السنة، وألفاظه البدعية، ثم كذلك يبينون الألفاظ المعلقة والمنجزة إلى غير ذلك من مباحث الصيغ.
وكذلك أيضا يبين العلماء محل الطلاق وهي المرأة التي وقع عليها الطلاق؛ فإن الطلاق قد تواجه به المرأة التي هي زوجة المطلق، وقد تواجه به أجنبية كأن يقول: إن تزوجتك فأنت طالق، وأيما امرأة تزوجتها فهي طالق، وأيما امرأة أعقد عليها فهي طالق، وقد يعمم وقد يخصص هذا المحل.
وقد اعتنى العلماء رحمهم الله ببيان المحل الذي يرد عليه الطلاق ويحكم بصحة الطلاق إن ورد عليه، كذلك أيضا اعتنى العلماء رحمهم الله في باب الطلاق ببيان هدي النبي صلى الله عليه وسلم وسنته من حيث السنة والبدعة، فيقولون: هذا طلاق سني لما وافق السنة، كأن يطلق المرأة المدخول بها في طهر لم يمسها فيه طلقة واحدة فإنه يكون طلاقا سنيا، وكما قال ابن مسعود رضي الله عنه، وأثر عن علي أيضا: (لا يطلق أحد للسنة فيندم) .
فيبينون الطلاق المشروع الذي شرعه الله وبينه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، والذي ينبغي للمسلم أن يلتزمه، وكذلك يبينون الطلاق البدعي والآثار المترتبة عليه كطلاق المرأة الحائض حال حيضها، وطلاق الثلاث بلفظ واحد، وهل يقع أو لا يقع، كل هذا يعتني به العلماء رحمهم الله في كتاب الطلاق، وبعد أن يبينوا الطلاق يشرعون في بيان آثار الطلاق، وهو باب العدة وباب الرجعة، فيعتنون ببيان مسائل العدد ومسائل الرجعة، وكل ذلك اعتنى به المصنف -رحمه الله برحمته الواسعة- وكذلك إخوانه من العلماء، رحمهم الله أجمعين.
ثبوت الأحكام التكليفية الخمسة في الطلاق
قال رحمه الله: [يباح للحاجة ويكره لعدمها] في بداية الطلاق يرد
السؤال ما حكم الطلاق؟ إذ هو مشروع، لكن هل هو مباح أو مشروع مع الكراهة أو هو مستحب أو واجب؟ هذه المسألة فيها تفصيل.
ولذلك قال بعض العلماء: الطلاق تعتريه الأحكام التكليفية الخمسة، فيكون مباحا لوجود الحاجة، كرجل لم يرتح لامرأته ونفر منها ومن أخلاقها وطباعها فاحتاج إلى الطلاق؛ فإنه يكون مباحا له أن يطلق، وإن صبر وتحمل فهو أفضل: {فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا} [النساء:19] ، وقد تكون المرأة بذيئة اللسان، أو عصبية المزاج، فيتضرر بهذه العصبية ويحدث عنده نوع من الضيق، ويكون محتاجا للطلاق لكي يتخلص من هذا الضيق ومن هذا الضغط الذي يجده من عشرته لامرأته، فهو محتاج، فمثل هذا يباح له الطلاق، والمباح مستوي الطرفين، لا ثواب ولا عقاب، فلا أجر له إن طلق، ولا إثم عليه إن طلق.
قوله: (ويكره لعدمها) كأن تكون عنده امرأة مستقيمة وهو مرتاح معها وأراد أن يطلق، فيقال له: الطلاق في حقك مكروه، وقال بعض العلماء: إنه يحرم إذا كان فيه ضرر على المرأة في هذه الحالة إذا لم يكن له حاجة، وكما أن المرأة لا يجوز لها أن تسأل الطلاق من زوجها من دون بأس؛ كذلك لا يجوز للرجل أن يطلق من دون بأس.
وقد تكون الحاجة التي تبيح الطلاق ماسة، كأن يكون الرجل عنده أربع نسوة وهو شديد الشهوة، وأكثر نسائه كبيرات في السن، فأراد أن يطلق واحدة لكي يتزوج فيحصن نفسه عن الحرام، فهذا محتاج وعنده حاجة فيباح له، ونحو ذلك من المسائل.
قال رحمه الله: [ويستحب للضرر] كالمرأة التي تضر بزوجها، فتؤذيه بلسانها وكلامها، فتضرر الرجل منها من ناحية أذيتها له، أو أذيتها لقرابته كأخواته أو بناته من المرأة السابقة أو نحو ذلك، فهذا كله مما يوجد فيه الضرر عليه وتوجد بسببه الحاجة، فيشرع له أن يطلق، ويكون الطلاق مستحبا، أي: مندوبا إليه، والسبب في ذلك: أن الشرع قصد رفع الضرر، فإذا كان بقاؤها فيه ضرر، وتطليقها يدفع هذا الضرر، فإن دفع الضرر مستحب شرعا، فالوسائل تأخذ حكم مقاصدها.
كذلك يكون الطلاق مستحبا ومندوبا إليه، وذلك فيما إذا كان الرجل ضعيفا والمرأة شابة، ولم يعطها حقها الذي يحفظها به من العفة، ويشعر أنه مضيق عليها ومقتر لها، وأنها إذا عاشرت غيره فإن ذلك أرحم بها وأرفق، فيكون مستحبا له أن يدفع الضرر عنها، وهكذا إذا كانت عندها بعض المعاصي التي لا توجب الحكم بوجوب طلاقها؛ فإنه يكون مستحبا؛ لأنه ربما نقلت هذه المعاصي إلى ذريتها وولده.
قال رحمه الله: [ويجب للإيلاء] ويجب الطلاق إذا كان طلاقا مبنيا على الإيلاء، فالرجل الذي حلف أنه لا يطأ أهله أو لا يطأ زوجته ومضى على حلفه أربعة أشهر وهو لم يقربها، وحلف على أربعة أشهر فأكثر، فإنه يوقفه القاضي عند تمام المدة، ويقول له: أنت بالخيار بين أمرين، إما أن تكفر عن يمينك وتطأ زوجتك؛ فحينئذ لا إشكال، وإما أن تطلق الزوجة، وتبقى على يمينك من أنك لا تطؤها، أما أن تمتنع من فراشها أكثر من أربعة أشهر فلا: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم * وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم} [البقرة:226 - 227] .
فيخيره بين الأمرين.
فهذا النوع من الطلاق يسميه العلماء: طلاق الإيلاء، وسيأتينا في باب الإيلاء، والإيلاء من آلى الرجل إذا حلف، فهو طلاق منبن على حلفه اليمين أنه لا يطأ زوجته، فحينئذ يكون الطلاق واجبا.
كذلك يكون الطلاق واجبا إذا كانت المرأة فيها سوء وضرر، أو فيها فساد، وأمره أبوه أو أمرته أمه بتطليقها فوجب عليه البر؛ لأنه ليس في المرأة مانع يمنع من طلاقها وهناك أمر من الوالد، والأصل بر الوالدين، خاصة إذا كانت المرأة سيئة أو تقع في الحرام وتؤذي الوالدين، وبقاؤها فيه أذية للوالدين، فقال الوالد: يا بني طلق امرأتك؛ فإنه يجب عليه طلاقها برا لوالده ولوالدته، كما أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه ابنه أن يطلق زوجته، وكما أمر إبراهيم عليه السلام إسماعيل أن يطلق زوجته، وكل ذلك ثابت وصحيح.
قال رحمه الله: [ويحرم للبدعة] يكون الطلاق حراما إذا كان طلاقا مخالفا للشرع، كطلاق المرأة الحائض، فإن طلاق المرأة الحائض مجمع على تحريمه، وأنه طلاق بدعة يأثم إن فعله، فلو قال رجل لامرأته وهي حائض: أنت طالق؛ فقد ارتكب الحرام، وأثم لتلفظه بالطلاق في هذه الحال، فهو طلاق محرم، أو كأن يطلق في طهر قد مس المرأة فيه، فإن طلق المرأة في طهر جامعها ومسها فيه، فإنه يعتبر طلاقا للبدعة؛ لأن الله يقول: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله} [الطلاق:1] ، فقوله: (فطلقوهن لعدتهن) أي: طلقوهن لقبل عدتهن، وقبل العدة، أي: استقبال العدة، وهذا إنما يكون في طهر لم يجامعها فيه، فإن طلقها في طهر جامعها فيه فإنه طلاق محرم.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 15-05-2025, 07:17 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,405
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

الأحكام المتعلقة بأنواع المطلقين
قال رحمه الله: [ويصح من زوج] هنا مسألة: إذا كان الذي طلق قد عقد على المرأة فهي زوجته، ويتعلق بها الطلاق، ومفهوم ذلك أن غير الزوج لا يطلق.
أما كون الطلاق من الزوج؛ فإن الله تعالى يقول: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن} [الأحزاب:49] ، فبينت هذه الآية أن الطلاق لمن نكح، فدل على أنه إذا كان زوجا للمرأة فإنه يتعلق بها الطلاق، ويمضي عليها طلاقه.
كذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إنما الطلاق لمن أخذ بالساق) ، والمراد بذلك لمن نكح، إذ من أخذ بساق المرأة فله حق جماعها والاستمتاع بها، فقالوا: إن هذا يدل على أن الزوج هو الذي يملك الطلاق.
حكم طلاق الرجل للمرأة الأجنبية
طلاق الأجنبية يأتي على صورتين: الصورة الأولى: أن يطلق الأجنبية طلاقا منجزا، كأن يقول لها: أنت طالق، أو كرجل أعزب يقول: زوجتي طالق؛ فإنه لا ينفذ طلاقه بإجماع العلماء.
ولكن من خاطب امرأة أجنبية وهو يعلم أنها أجنبية وليست بزوجة له وقال لها: أنت طالق، واشتكت إلى القاضي فإن القاضي يعزره ويؤدبه، ويعتبر هذا من أذية الناس والإضرار بهم، وتعتبر نوعا من الإساءة، فيعزره بحسب حال المرأة التي خاطبها، وبحسبه هو.
واختلف العلماء في صورة يلحقها بعض العلماء بهذه الصورة، وهي: أن يشير لامرأة فيقول: هي طالق، ويظنها زوجة له، وتبين أنها ليست زوجته، أو خاطب أجنبية يظنها زوجته فقال: أنت طالق مني؛ فقال بعض العلماء: حكم هذا كحكم طلاق الأجنبية؛ وذلك لأنه علق الطلاق بالمعين، وتبين أن المعين خطأ ولا عبرة بالظن البين خطؤه، وعلى هذا فلا يعتد بهذا الطلاق؛ لأنه تعلق بأجنبية.
الصورة الثانية: أن يطلق طلاقا معلقا، ويعلق الطلاق على نكاحه، فيقول: إن تزوجت فلانة فهي طالق، فهي أثناء تلفظه بالطلاق أجنبية، وستصير زوجة له، فعلق الطلاق بحالة إن صارت زوجة له؛ فإن وقع معلقا على مثل هذه الصورة وأشباهها، فلا يخلو تعليقه من حالتين: الحالة الأولى: أن يعلق الطلاق على النكاح بالتعميم، فيقول: كل امرأة أتزوجها فهي طالق، وكل امرأة أعقد عليها فهي طالق، فالطلاق أثناء صدوره صدر من أجنبي، ولكنه معلق على الزواج، فهل تطلق المرأة أو لا؟ سيأتي بيانه.
الحالة الثانية: أن يخص، وإذا خصص فإما أن يخص بالزمان أو بالمكان أو بالأشخاص أو بالأجناس.
مثال التخصيص بالزمان: كل امرأة أتزوجها هذه السنة، أو كل امرأة أعقد عليها هذا الشهر أو هذا الأسبوع فهي طالق.
مثال التخصيص بالمكان: كل امرأة أعقد عليها في المدينة فهي طالق.
مثال التخصيص بالأشخاص: كل امرأة من فلان إذا نكحتها فهي طالق، أو إذا تزوجتها فهي طالق.
مثال التخصيص بالقبائل: أن يقول: إذا نكحت امرأة من قبيلة كذا فهي طالق؛ فإذا إما أن يعمم وإما أن يخصص، وإما أن يقيد وإما أن يطلق، ففي جميع هذه الصور، اختلف علماء السلف رحمهم الله في هذه المسألة.
فالقول الأول: أن من طلق الأجنبية معلقا لا يقع طلاقه ألبتة مطلقا، سواء كان طلاقا معلقا بزمان أو بمكان أو بأشخاص أو بقبائل، أو قيد بهذا كله أو لم يقيد، وهذا القول احتج أصحابه بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن} [الأحزاب:49] ، وإلى ذلك أشار الإمام البخاري في صحيحه أن الطلاق مرتب على النكاح، فإن قال: كل امرأة أتزوجها، فالعبرة به حال القول، فقد طلق وهو أجنبي فلا يقع طلاقه، كما لو قال لامرأة أجنبية: أنت طالق، وكما قال الأعزب: امرأتي طالق، وزوجتي طالق.
كذلك أيضا استدلوا بالسنة من حديث عائشة رضي الله عنها: (إنما الطلاق لمن أخذ بالساق) ، وقد حسن هذا الحديث غير واحد من الأئمة والحفاظ رحمة الله عليهم، وهو حديث ثابت ويحتج به: (إنما الطلاق لمن أخذ بالساق) ، فإن أسلوب الحصر والقصر، يدل على أن الطلاق يملكه من نكح، ومفهومه أنه لا يملكه من لا ينكح، ومفهوم الحصر معتبر، وكذلك أيضا استدلوا بصريح المنطوق في قوله عليه الصلاة والسلام -في الحديث الحسن في السنن- وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا طلاق فيما لا يملك، ولا عتق فيما لا يملك) ، فنص عليه الصلاة والسلام على أن الطلاق لا يقع إذا كان المطلق طلق شيئا لا يملكه وليس في عصمته.
وعليه فإنه لا يقع طلاقه مطلقا؛ ولأننا لو قلنا بوقوع طلاقه لحرمنا ما أحل الله، وتوضيح ذلك: أن الرجل إذا قال: أيما امرأة أتزوجها فهي طالق، فمعنى ذلك أنه سيبقى بدون امرأة ويحرم عليه الزواج، فما من امرأة يعقد عليها إلا حرمت عليه بمجرد العقد، فلا يستطيع أن يتزوج أبدا، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) ، فهذا يؤدي إلى محظور ومخالفة الشرع.
ولذلك لما استأذن الصحابة -رضوان الله عليهم- رسول الله صلى الله عليه وسلم في التبتل نهاهم عن ذلك، وهذا يفضي إلى التبتل، بل هو أسوأ من التبتل، وعلى هذا قالوا: إنه لا يقع النكاح على هذا.
فلو قال قائل: لماذا تفسدون قوله لو قيد النكاح؟ نقول: إذا صححت الصيغة لصحت مقيدة ومطلقة، والكتاب والسنة صريحان بأن الطلاق لا يتبع ولا يقع إلا بامرأة، أما الذين قالوا بوقوعه فقد استدلوا بصيغة الشرط وأنه اشترط فيما بينه وبين الله، وجاء عن ابن مسعود رضي الله عنهما أنه قال: (إن عمم فلا، وإن خصص فنعم) يعني: إذا عمم في قوله: أيما امرأة أنكحها وأتزوجها أو نحو ذلك؛ فلا يؤاخذ بذلك، وإن خصص فيقع ويؤاخذ بذلك احتجاجا بالأثر، ولا قول لأحد مع نص الكتاب والسنة.
ولذلك الذي يترجح هو القول بعدم وقوع الطلاق على الأجنبية معلقا أو منجزا، عمم أو خصص، فلا بد في الطلاق من وجود المحل المعتبر، وهي المرأة التي ثبت أنها في عصمة المطلق.
حكم طلاق الصبي والمجنون
قال المصنف رحمه الله: [ويصح من زوج مكلف، ومميز يعقله] قوله: (مكلف) يكون بالبلوغ والعقل، فالصبي غير مكلف، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة) وذكر منهم: الصبي، والمجنون كذلك، فقد أجمع العلماء على أن المجنون لا يصح طلاقه إذا وقع طلاقه حال الجنون، يستوي في ذلك أن يكون جنونه متقطعا أو مستديما؛ فإن كان جنونه مستديما فلا إشكال، وإن كان متقطعا، وثبت أنه طلق في حال وجود الجنون فالجماهير على عدم وقوعه، وخالف بعض أئمة الحنفية فقالوا: يقع لاشتباه أن يكون أفاق عند الطلاق، وقالوا: إنه إذا كان يجن تارة ويفيق تارة وخاطب المرأة، فإن معنى ذلك أنه عقل أنها امرأته وزوجته، قالوا: فينفذ الطلاق لهذا، والصحيح ما ذكرناه، والإجماع على أن الأصل في المجنون أنه لا ينفذ طلاقه.
وأما بالنسبة للصبي، فالصبي ينقسم إلى قسمين: صبي غير مميز وصبي مميز، والصبي مأخوذ من الصبا، والصبا ضد البلوغ والحلم والرجولة، فكمال الرجولة بالحلم والبلوغ.
والصبا له حالتان، الحالة الأولى: أن يكون مع التمييز، والحالة الثانية: يكون بدون تمييز، واختلف العلماء في ضابط المميز وغير المميز، فبعضهم يقول: الصبي المميز يحد بالسنوات، وحدوه في مسألة الطلاق -كما هو قول عطاء، وطائفة من السلف ورواية عن الإمام أحمد - بعشر سنين، وهناك أيضا قول لبعض السلف أنه اثنتا عشرة سنة، وقول بتسع سنين، هذه ضوابط المميز في الطلاق، وهناك تمييز في الصلاة الذي هو سبع سنوات، وهذا له حكم خاص، وبناء على ذلك ينتبه إلى أن كلامهم في الذي لم يبلغ، يعني لم يحتلم ولم ينزل المني، أما لو بلغ وأنزل واحتلم فهو رجل، لا يقال: صبي.
فإذا كان في طور الصبا قبل أن يحتلم ويمني، وقبل أن يصير رجلا مكتمل الرجولة؛ فإنه إن كان دون سن التمييز فبالإجماع أنه لا يقع طلاقه.
صورة المسألة: رجل عنده ولد عمره ست سنوات وآخر عنده بنت عمرها خمس سنوات، فقال: يا فلان! زوج بنتك لابني، فاتفقا على تزويج البنت من الابن وتم العقد، فهذا زوج لهذه الزوجة، فقال هذا الصبي: زوجتي طالق فلانة طالق أغضبته فطلقها، فما الحكم؟ إذا أغضبته فطلقها، فطلاقه وعدمه على حد سواء؛ لأنه دون سن التمييز، لكن إذا بلغ اثنتي عشرة سنة وميز الأمور؛ فللعلماء فيه وجهان: جمهور السلف والأئمة والعلماء على أنه لا يقع طلاقه حتى يبلغ، وقال بعض السلف ك عطاء، وأيضا رواية عن أحمد رحمة الله عليه وقول بعض أصحاب الحديث أنه ينفذ طلاقه، والصحيح أنه لا ينفذ طلاقه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاثة) ؛ فبين أنه غير مؤاخذ، وبناء عليه فإن نقصان العقل فيه يجعله لا يدرك ما يقول؛ ولذلك قال الله في السكران: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} [النساء:43] ، والصبي لا يعلم عواقب الطلاق كما ينبغي، ولا يعلم عواقب الكلمة كما ينبغي، ولو كان مميزا فإنه ليس عنده عقل يحجره ويمنعه عن قول ما فيه ضرر عليه، وإذا كان الصبي منعه الله من التصرف في ماله خشية الضرر؛ فإنه إذا طلق فوت ماله وهو المهر، وهذا يقوي أنه لا ينفذ طلاقه.
فقول الجماهير بأن طلاق الصبي لا ينفذ هو الأصح والأشبه والأقوى إن شاء الله تعالى.
إذا: لا يصح الطلاق إلا من زوج، فلا يصح من أجنبي، فلو أنه -مثلا- طلق المرأة وخرجت من عدتها فطلقها، فإنها إذا خرجت من عدتها أجنبية ولا ينفذ طلاقه.
ولا بد أن يكون هذا الزوج مكلفا، وهو الشرط الثاني، والتكليف: البلوغ والعقل، فلو طلق الصبي لم ينفذ طلاقه، مميزا كان أو غير مميز، ولو طلق المجنون لم ينفذ طلاقه، سواء كان جنونه متقطعا أو مطبقا بشرط أن يكون الطلاق حال الجنون.
حكم طلاق السكران
قال المصنف رحمه الله: [ومن زال عقله معذورا لم يقع طلاقه] قوله: (ومن زال عقله) هذا مفرع على قوله: (مكلف) .
فالتكليف يستلزم وصفين: البلوغ والعقل.
فمفهوم الشرط في قوله: (مكلف) ، أنه إذا كان غير مكلف لا يقع كما ذكرنا، قلنا: يزول العقل بالجنون أو بالسكر، والمسكر والمخدر حكمهما واحد من حيث تفصيل العلماء.
أما إذا كان سكرانا زائل العقل فله صورتان: الصورة الأولى: أن يكون سكره وزوال عقله على وجه مأذون أو معذور به شرعا، مثل أن يشرب عصيرا فيتبين أنه خمر، فمثل هذا يسمى بالسكران المعذور في سكره، فهذا يعذر، وينزل منزلة المجنون ولا يؤاخذ، وحكي الإجماع على هذا كما حكاه الإمام ابن قدامة رحمه الله على أن السكران المعذور تسقط عنه المؤاخذة في جملة المسائل.
كذلك أيضا في حكم المعذور ما يقع في التخدير، فلو أنه وضع المخدر في شراب وهو لا يدري؛ فإنه إذا شربه وتكلم بالطلاق وتلفظ به لم ينفذ الطلاق.
كذلك أيضا المخدر الجراحي، مثل ما يقع في العمليات الجراحية، حيث يوضع المخدر في العملية الجراحية فإذا جاء قبل الإفاقة يتكلم ويتلفظ فتلفظ بتطليق نسائه، أو بطلاق زوجته فإنه لا ينفذ؛ لأن تخديره كان على وجه معذور فيه شرعا.
وهذا نص عليه جماهير العلماء، كالإمام ابن قدامة والإمام النووي وغيرهم رحمة الله عليهم: أن السكران زائل العقل إذا كان زوال عقله بسبب يعذر فيه شرعا أنه لا ينفذ طلاقه.
الصورة الثانية: أن يكون سكره وزوال عقله على وجه لا يعذر فيه شرعا، وهذا مثل -والعياذ بالله- من يشرب الخمر عالما بها معتديا لحدود الله عز وجل.
فللعلماء في السكران إذا طلق حال سكره قولان: القول الأول: لا ينفذ طلاقه ولو كان متعمدا للسكر، وهو مذهب الظاهرية وطائفة من أهل الحديث ورواية عن الإمام أحمد رحمة الله على الجميع.
والقول الثاني: وهو مذهب الجمهور أن السكران المتعمد للسكر ينفذ عليه طلاقه.
واحتج أصحاب القول الأول -أن السكران الذي لا يعذر في سكره لا ينفذ طلاقه- بدليل الكتاب والسنة.
أما دليل الكتاب: فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} [النساء:43] فدلت هذه الآية الكريمة على أن السكران لا يعلم ما يقول، وإذا كان لا يعلم ما يقول كان كمن يهذي بما لا يعلم، فهو غير مطلق حقيقة، وعليه قالوا: لا ينفذ طلاقه.
واستدلوا بالسنة: ومن ذلك ما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه أسقط المؤاخذة في قول السكران، وذلك ما جاء في الصحيحين من حديث حمزة رضي الله عنه وأرضاه، أنه لما كانت الخمر حلالا شربها في أول مقدمهم إلى المدينة، وكان علي رضي الله عنه قد أعد مهر فاطمة لكي يدخل بها، وكان له بعير شارف، فأناخه بباب حمزة رضي الله عنه ثم ذهب، فشرب حمزة فثمل في شربه، فغنته الجارية، فانتشى رضي الله عنه، فجب سنام البعير، فجاء علي رضي الله عنه ورأى ما هاله، فذهب يشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء عليه الصلاة والسلام ووقف على عمه حمزة فوبخه وقرعه، فرفع حمزة رأسه إليه وقال مخاطبا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أنتم إلا عبيد لآبائي) ولما قال هذه الكلمة تنبه عليه الصلاة والسلام أنه سكران، ولم يكن يعلم أنه سكران، فلما قال هذه الكلمة -كما في الرواية- رجع عليه الصلاة والسلام القهقرى، ولم يؤاخذ حمزة بهذه الكلمة؛ لأن هذه الكلمة لو قالها رجل للنبي صلى الله عليه وسلم لكفر؛ لأن المقصود بها السخرية والحط من القدر، فلما قالها وهو في حال سكره لم يؤاخذه النبي عليه الصلاة والسلام بها.
ونص العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط المؤاخذة بالردة في حال السكر، والردة قول، ولم يؤاخذه مع أنه سكران، لكن ردوا على ذلك بأن حمزة كان معذورا في سكره، حيث كان الخمر مباحا، ورد على ذلك بأن المؤاخذة مرتبطة بالعقل والإدراك، وليست القضية قضية كونه مباحا أو محرما.
كذلك قالوا: إن الأصل يقتضي أن التكاليف منوطة بالعقل، والتكاليف من حيث المؤاخذة وعدمها تكون مرتبطة بالعقل، والسكران لا عقل له.
والظاهر أن السكران يمر في سكره بثلاث حالات، ينبغي فيها التفريق في الحكم على ما يبدر منه في كل حالة على حده، وهذه الحالات هي: الحالة الأولى: أن يكون في بداية الهزة والنشاط والنشوة.
والحالة الثانية: أن يكون في غاية السكر، وهي التي يسقط فيها كالمجنون، لا يعرف السماء من الأرض، ولا يفرق الأشياء ولا يميزها تماما كالمجنون.
والحالة الثالثة: أن يكون بين بين، يصحو ويلغو، ويكون عنده تمييز وعنده تضييع.
فأما الحالة الأولى: وهي بداية الهزة والنشاط، فمن شرب الخمر وكان في بداية الهزة والنشاط والفرح وطلق، فبالإجماع ينفذ عليه الطلاق؛ لأنه في هذه الحالة لا يزول عنه الشعور، بل يكون مالكا لنفسه، وهذا الحكم سار على جميع الأحكام القولية والفعلية، فلو قتل أو زنى أو فعل أي شيء وهو في بداية الهزة والنشاط مالكا لنفسه؛ فإنه يؤاخذ.
الحالة الثانية: إن كان في غاية السكر وهي نهايته المطبقة التي يسقط كالمجنون، لا يفرق تماما بين الأمور، ولا يعرف السماء من الأرض، فقالوا: إن هذا لا يؤاخذ، وجها واحدا عند العلماء، وعند أصحاب القولين أنه يكون كالمجنون.
الحالة الثالثة: هي الحالة الوسط وهي ما إذا كان السكران أحيانا يقول شيئا صحيحا وأحيانا وشيئا خاطئا، ويكون عنده تمييز وتضييع.
وفي هذه الحالة اختلف العلماء في وقوع الطلاق، فمنهم من يقول: يقع طلاقه؛ لأن الأصل فيه أنه مفيق؛ فإذا كان في حالة لم يصل فيها إلى الجنون يقولون: نستصحب حكم الأصل -أنه مفيق- فينفذ عليه الطلاق.
وأما الذين قالوا: إنه لا ينفذ عليه الطلاق، قالوا: إنه بدخوله الحالة الوسط هذه دخل في حالة الخلط، واختلط علينا أمره ولم نميز حاله، ولما كانت حالة غياب العقل والتأثير فيه والشبهة قائمة وموجودة؛ فإننا نعمل الأصل أنها زوجته، ولا نطلقها إلا بيقين، وإذا شككنا في هذا الطلاق، هل هو صادر عن قصد أو غير صادر عن قصد، وهو إذا عقل ورجع إلى صوابه إن أراد أن يطلق طلق، قالوا: ففي هذه الحالة وهو مختلط فالأصل أنها زوجته، ونشك في تأثير هذا الطلاق فنسقط هذا التاثير ونبقى على الأصل، هذا وجه التردد في الحالتين.
أما الذين قالوا: إنه ينفذ، فإنهم استدلوا بدليلين: الدليل الأول: قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن} [الأحزاب:49] ، فاستدلوا بعموم الآيات في الطلاق، قالوا: إن الله عز وجل جعل الحكم مرتبا على وجود اللفظ، ولم يفرق بين من يعيه وهو الصاحي وبين من لا يعيه وهو السكران.
الدليل الثاني: قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والعتاق) .
فجعل الهازل الذي لم يقصد الطلاق مؤاخذا بقوله، فالسكران قصد أو لم يقصد نؤاخذه بقوله كالهازل.
والذي يترجح -والعلم عند الله- هو القول بعدم وقوع طلاق السكران؛ وذلك إذا كان سكره مغيبا لعقله، لصحة ما ذكروه من أدلة الكتاب والسنة، والأصل كونها زوجة له، وفي عصمته، فلا تبين من عصمته إلا بدليل قوي.
ومن أقوى ما يرجح قولهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الحسن: (لا طلاق في إغلاق) وهو يشمل السكران والغضبان الذي أطبق عليه الغضب فاستغلقت عليه الأمور، والسكران تستغلق عليه الأمور؛ لأنه بوجود الخلط فيه لا شك أنه يتلفظ بما لا يحب أن يتلفظ به، وشبهة السكر فيه قوية، وقد أسقط النبي صلى الله عليه وسلم المؤاخذة بقول السكران، ودل دليل الكتاب على أن السكران لا يعي ما يقول.
وبناء عليه، فإنه يقوى قول من قال: إن السكران لا ينفذ طلاقه.
قوله: (من زال عقله معذورا لم يقع طلاقه) ، مثل المخدر في العملية الجراحية، ومثل من وضع له مخدر وهو لا يعلم، مثل من سكر بشراب يظنه عصيرا فبان خمرا فهذا معذور.
قوله: (وعكسه الآثم) أي: أن من شرب الخمر آثما متعمدا عالما فإنه ينفذ طلاقه.









__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 15-05-2025, 07:28 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,405
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب النكاح)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (431)

صـــــ(1) إلى صــ(15)





شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الطلاق [2]
الأصل أن الطلاق لا يكون إلا من الزوج في الحال العادية، وقد تطرأ طوارئ على الزوج فيطلق، فبحث العلماء رحمهم الله حكم الطلاق في هذه الأحوال الطارئة، لأهمية هذا الباب وخطورته.
أحكام طلاق المكره
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ومن أكره عليه ظلما بإيلام له] قوله: (ومن أكره عليه) الإكراه يفسد به الاختيار، فالشخص المكره يصرف إلى الشيء بدون اختياره ورضاه؛ ولذلك قالوا: الإكراه يفسد الاختيار.
وقوله: (ومن أكره عليه) أي: من أكره على الطلاق ظلما فلا يقع، لأن الشريعة أسقطت تأثير الإكراه في أعظم الأشياء -الردة- وحد الردة حق لله عز وجل، قال سبحانه وتعالى: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} [النحل:106] ، فلما أكره عمار -رضي الله عنه وعن أبيه- وقال كلمة الكفر وتلفظ بها وقلبه مطمئن بالإيمان؛ أسقط الشرع تأثير هذا اللفظ بوجود الإكراه.
فدل على أن الإكراه يفسد ويمنع المؤاخذة، وهذا أصل عند العلماء.
ولذلك قال الإمام ابن العربي رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: إنها أصل عند أهل العلم في إسقاط المؤاخذة عن المكره؛ لأنه إذا لم يؤاخذ بالردة وهي أعظم ما يكون فمن باب أولى ألا يؤاخذ على غيرها.
لكن الإكراه له ضوابط وله شروط لا بد من توفرها لكي نحكم بكون الإنسان مكرها، وقد جعل العلماء مسألة طلاق المكره مسألة مميزة في كتب العلم وكتب المطولات في الفقه، يذكرون فيها شروط الإكراه وأحواله ومتى يحكم بكون الإنسان مكرها، ومتى يحكم بكونه غير مكره، فمسائل الإكراه في أبواب الفقه كلها مربوطة بشروط الإكراه؛ ولذلك لا نحكم في مسألة طلاق المكره حتى نعرف ما هي شروط الإكراه التي ينبغي توفرها للحكم بكون الإنسان مكرها.
حكم الإكراه بحق على الطلاق
فقال رحمه الله: (ومن أكره عليه) أي: على الطلاق، (ظلما) فالإكراه ينقسم إلى قسمين: إكراه بحق، وإكراه بغير حق، فالإكراه بالحق: أن يهدد ويضغط عليه حتى يطلق المرأة وقد وجب عليه طلاقها، هذا إكراه بحق، مثل القاضي في حال الإيلاء، حينما يقول للزوج: إما أن تكفر عن يمينك وترجع إلى زوجتك وإما أن تطلقها؛ فإنه إذا طلقها في مجلس القضاء بالضغط عليه؛ فإنه مكره، لكنه مكره بأمر الله ورسوله، فهو إكراه بحق.
وهكذا لو ثبت عند القاضي أن هذا الزوج أضر بالزوجة وظلمها ظلما بينا بحيث يستحق مثلها أن تطلق عليه، كما لو أقر أنه أتاها في دبرها أو فعل بها فعلا تستحق به أن تطلق فسألت طلاقها، فجاءت إلى القاضي، فقال: لا أطلق، يلزمه القاضي بالطلاق، فأكرهه على الطلاق وألزمه به بحق.
أما بالنسبة لمن أكره عليه ظلما، كرجل لا تستحق امرأته أن تطلق عليه، وهدد إضرارا به أو إضرارا بالزوجة لكي يطلقها، كرجل يريد أن ينكح امرأة وهي مزوجة، فجاء لزوجها وهدده أن يطلقها، وطلقها تحت تهديده وضغطه، فأكرهه على الطلاق فهذا مكره وظالم، فعندنا مكره ومكره، وشيء يتحقق به الإكراه، فالمكره -وهو اسم الفاعل- ينبغي أن يكون ظالما حتى نسقط الطلاق.
أما إذا كان بحق، فلا نسقط، فلو أن أخا المرأة جاء إلى زوج أخته التي أضر بها وظلمها ظلما تستحق معه أن تطلق وهدده قال: الآن تطلقها، وطلقها نفذ عليه الطلاق؛ لأنه مكره بحق، هذا بالنسبة لقضية الإكراه بحق؛ لكن بعض العلماء يقولون: الإكراه بحق لا يقع إلا في حكم القضاء.
قوله: (ظلما بإيلام له) الشرط الأول: أن يكون الإكراه بغير حق، والشرط الثاني: أن يكون ما هدد به مؤلما، بحيث لا بد أن يكون هذا الشخص الذي هو الزوج وصل إلى درجة الإكراه، وهذا يقتضي تعذيبه في نفسه أو ولده أو من يتعذب به، كماله يتلف ويحرق أو نحو ذلك، فيهدد بشيء فيه ضرر، لكن لو هدد بشيء ليس فيه ألم ولا ضرر عليه، كأن يقال له: طلق امرأتك وإلا أخذت هذا الريال منك، فأين الريال من طلاق المرأة؟ فقال: أنا مكره، نقول: هذا ليس بإكراه؛ لأن الريال ليس بضرر بالنسبة له؛ لكن لو كان الريال له قيمة عظيمة في بعض الأزمان وله شأن فهذا شيء آخر، لكن إذا كان أمرا لا يصل إلى حد الإيلام فلا يتحقق الإكراه، فلا بد وأن يكون مؤلما.
أحوال الإكراه من جهة الوقوع وعدمه
الإكراه في الحقيقة له حالتان: الحالة الأولى: أن يجعل الشخص تحت الألم ويحس بالألم، فهذه الحالة لا يشك أنه صار فيها مكرها.
الحالة الثانية: أن يهدد بشيء، فهناك صورتان: الصورة الأولى: يهدد، ويكون تحت نار العذاب مثل أن يخنق، وخنق ووجد ألم الخنق، وغلب على ظنه أنه إذا استمر الخنق مات، وهلك، فهذا مكره، ولا نقول: انتظر حتى تصير في الغرغرة أو تقارب الموت؛ لأنه إذا صار في الغرغرة قد لا يستطيع أن يتكلم؛ ولذلك قالوا: لا يشترط في الضرورة والإلجاء أن يصير إلى حد الهلاك، بل يكفي غلبة الظن كما قرره ابن جزي في قوانين الأحكام وبعض أئمة التفسير في آيات الميتة.
فأنت إذا غلب على ظنك حصول ما هددت به فهذه حالة، أما إذا كنت تحت الوضع الذي فيه الألم، مثل أن يسخن الحديد في النار ويوضع على جسده فيتألم فحينئذ أصابه الألم فإذا قيل له: طلق فطلق، فهذا هو الذي وقع لـ عمار فمس بعذاب، فإن وصل المكره إلى حالة الإكراه بمس العذاب فهو مكره، وجها واحدا عند العلماء، على تفصيل في العذاب الذي يعذب به أو يكره بسببه.
الصورة الثانية: أما لو هدد ولم يفعل به شيء ففيه خلاف، جاء عن أحمد ما يدل على أنه ليس بمكره؛ ولذلك لما وقعت فتنة خلق القرآن، امتنع -رحمه الله برحمته الواسعة- وأصر على قول الحق، وذاق ما ذاق من الصبر على السنة والحق، وكان الإمام أحمد قبل ذلك ليست له تلك الشهرة، وإن كان إماما عظيما معروفا -رحمه الله برحمته الواسعة- بإمامته وجلالة قدره، لكن لما حدثت الفتنة، وسئل الناس والعلماء وفتنوا بها، أخذ بعض العلماء بالرخصة، فمنهم من كان يوري، ومنهم من كان يظن أنه مكره فيتلفظ باللفظ وهو منكر بقلبه، ومنهم من يقول: الزبور والتوراة والإنجيل والقرآن هذه مخلوقة ويشير إلى أصابعه الأربعة، ويقصد أنها مخلوقة ولا يقصد القرآن، وهذه تورية فيمضي لحاله ويسلم؛ لأنهم يأخذون منه بظاهره.
ومنهم من كان يعتبر أنه مكره فيقولون: القرآن مخلوق؟ يقول: القرآن مخلوق.
فأخذ على أنه مكره وأنه إذا لم يقل بذلك سيضر، وأصر الإمام أحمد رحمة الله عليه، وأوذي وذاق من العذاب ما ذاق، فجعل الله عز وجل الناس كلها تنتظر ماذا يقول الإمام أحمد، يعني نسي غيره وبقي الإمام أحمد، حتى أنه لما أتاه بعض أصحابه يراجعه في ضيقه رحمه الله ويقول له: خذ بالتوسعة والرخصة، فقال له: قم، فقام فأراه الناس وهم في السكك قد يقاربون المائة ألف ينتظرون فتوى الإمام أحمد، وما أوذي أحد في طاعة الله عز وجل إلا أقامه الله مقام أعز من ذلك المقام كما قال عروة: (والله ما أوذي أحد في حق الله عز وجل إلا أقامه الله عز وجل مقاما خيرا منه) .
فالشاهد أنه رحمه الله أصر على قوله، فلما دخلوا عليه في الفتنة، وجاء ابن معين فسلم عليه، فرد عليه السلام وأعرض عنه وأشاح بوجهه، فصار يقول: حديث عمار حديث عمار، أي: إننا مكرهون، فلما لم يجبه الإمام أحمد بشيء، قام ابن معين من عنده وصار عند الباب، فسمع الإمام أحمد يقول: يقولون: حديث عمار، إن عمار مس بعذاب ولم يمسوا به، فقال ابن معين: ما تحت أديم السماء أفقه منه -يعني: من الإمام أحمد - رحمة الله على الجميع.
وقد ضبط العلماء الإكراه بقولهم: أنه ما ينعدم به الرضا ويفسد به الاختيار، فالإكراه حالة ينعدم معها رضا الإنسان بالشيء ويفسد اختياره له، فالذي يكره على الطلاق ليس براض به؛ وكذلك يفسد اختياره وهو لا يطلب ذلك الشيء ولا يحبه ولا يرغب فيه، وقد ذكر العلماء -رحمهم الله- جملة من الشروط لا بد من توفرها لكي نحكم بكون الإنسان مكرها، وطلاقه آخذا حكم طلاق المكره، وهذه الشروط منها ما يرجع إلى الشخص المكره، ومنها ما يرجع إلى الشخص المكره، وهو الذي يهدد ويطلب الطلاق، ومنها ما يرجع إلى اللفظ الذي يتلفظ به المكره.
أحوال الإكراه من جهة الإلجاء وعدمه
إذا وصفت الإنسان بكونه مكرها فهناك حالتان: الحالة الأولى: أن يكون مكرها على وجه لا يمكن بحال أن ينصرف عنه إلى غير المطلوب منه، وهذا يسميه العلماء: الإكراه التام، والإكراه الملجئ، بمعنى: أن يوقع الشيء الذي يطلب منه ولا يستطيع أن ينفك عنه بحال، وذكروا لذلك مثالا: لو أن شخصا ربطت يداه وكتف ولم يستطع الحركة، ثم رمي على غيره فمات، فإنه قد قتل غيره بدون اختيار، والإكراه في هذه الحالة ملجئ وتام؛ لأنه ليس للشخص أي حيلة في دفع ما طلب منه وما أكره عليه.
الحالة الثانية: الإكراه الناقص، فيكون عنده نوع اختيار ويطلب منه شيء ويهدد بشيء، ولا يكون فيه إكراه إلا إذا كان الشيء الذي يهدد به ويقهر به مؤلما ومضرا، أو متلفا لجزء من أجزاء بدنه، متلفا لماله، متلفا لولده، متلفا لمصلحة من مصالحه، بشرط أن تكون هذه المصلحة فواتها أعظم من الطلاق، فهي مؤلمة أو مضرة؛ لكنه يستطيع أن يصبر عليها، فهو بين الأمرين بين أن يطلق وبين أن يرضى بالضرر، فهو ليس بإكراه ملجئ، يعني: ليس كالشخص الذي ينصرف انصرافا تاما إلى ما هدد به، وإنما عنده نوع من الخيار، فهو خيار في الظاهر لكن وجود الألم والقهر يفسد الاختيار الطبيعي؛ ولذلك قال رحمه الله: (بإيلام) .
إذا لا يكون الإكراه إلا إذا كان هناك شيء مهدد به، وهذا الشيء يشترط فيه أن يكون له وقع ضرر؛ ثم فصل العلماء وقالوا: الضرر يختلف باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة، فلربما هدد شخص بضرر في زمان يكون يسيرا وفي زمان يكون عظيما.
فلو أن شخصا في مجاعة قيل له: إذا لم تفعل هذا الشيء؛ فإننا نأخذ طعامك، فإنه لا شك أنه ضرر عظيم، ولكن إذا كان هناك بديل وأمكنه أن يصبر وهو في شبعه وريه، فيكون الإكراه أخف.
فإذا: لا تستطيع أن تحدد شيئا معينا إلا بالضابط، فتقول: الضابط في ذلك وجود الضرر؛ وهذا الضرر يشترط فيه أن يكون أكبر وأكثر من الطلاق، يعني: أضراره ومفاسده وشروره أعظم من الطلاق.
قوله رحمه الله: (بإيلام) كأن يجرح بسلاح ونحوه؛ لأن السلاح له ألم، فالألم إما أن يكون حالا أو يكون متوقع الوقوع، كأن يخير بين أن يطلق أو يضرب ضربا، ويحصل له الضرب، فهذا هدد بإيلام وطلب منه الطلاق، وتألم فعلا ودخل في حكم المكره، وتارة يهدد بالضرر يقال له: إذا لم تطلقها نضربك، ففي حالة إذا كان مهددا بشيء يوقع عليه، فينبغي ويشترط أن يغلب على ظنه أنه يقع به ذلك الشيء، فلو علم أنه يمكنه الفكاك أو أن الشخص الذي هدده لا يفعل إنما يتكلم فقط؛ فإنه لا يكون في هذه الحالة مكرها، وقد سبق التنبيه على ذلك.
قوله: (ولولده) هناك شيء يستضر به الإنسان ليس في نفسه، وإنما قد يكون في أهله وولده كزوجته وأبنائه وبناته؛ بل إن من الناس من يتألم لولده أكثر من تألمه لنفسه، ومن الناس من إذا أوذي واستضر في بدنه صبر واصطبر وتحمل المشاق العظيمة؛ لكن ما إن يمس بشعرة في ولده إلا وضعف أمام ذلك، فإذا لا يقتصر الحكم على أن يكون الضرر في نفسه، بل يشمل أن يكون في أهله وولده.
قوله: (أو أخذ مال يضره) أن يؤخذ منه المال، وحينئذ يقع عليه ضرر، وتصيبه مصيبة فادحة، يقال له: إن لم تطلق زوجتك؛ نحرق مالك أو نفسده، أو لا نعطيك مالك، وهم قادرون على ذلك فإنه يكون مهددا بالمال، فإن كان المال يسيرا، وله عنه غناء، لكونه غنيا مليئا لم يقع الإكراه، يقال له: إن لم تطلق زوجتك نأخذ منك عشرة آلاف وهذا لا يؤلمه؛ لأن العشرة الآلاف عنده كالشيء اليسير، فمثل هذا لا يكون مكرها بهذا الشيء، وفوات هذا الشيء ليس بذاك، فإذا لا بد وأن يكون الضرر له وقع في النفس، فكما أن الألم الحسي ينبغي أن يكون له وقع في النفس، كذلك الألم المعنوي.
قوله: (أو هدده بأحدها قادر يظن إيقاعه به) .
يشترط هذا الشرط الذي يتعلق بالمهدد، فعندنا: مكره وهو المطلوب منه الطلاق، وعندنا مكره وهو الذي يطلب الطلاق ويهدد، وعندنا شيء يتحقق به الإكراه وهو الضرر، هذه ثلاثة أمور ينبغي التنبه لها.
وفي الأخير يأتي اللفظ الذي يتلفظ به ويقوله من الطلاق، فأما بالنسبة للشيء الذي يهدد به أو الشيء الذي يكون به الإنسان مكرها مما يهدد به فقلنا: ضابطه الضرر، وأما بالنسبة للشخص الذي يهدد وهو اسم الفاعل المكره، فهذا يشترط فيه: إما أن يفعل بداية الإكراه، كأن يمس بعذاب، فإن فعل ذلك لا إشكال، وإن لم يفعل فبعض العلماء يقول: ليس بمكره حتى يبدأ بالفعل وهذا مذهب ضعيف، وإذا لم يفعل فالصحيح: أنه إذا غلب على ظن الإنسان أنه سيفعل؛ فإنه يكون في حكم من فعل، فالشخص إذا كان -مثلا- شريرا، أو شخصا معروفا بالضرر والأذية، وأنه إذا قال فعل، فمثل هذا بمجرد أن يهدد فإن تهديده كاف للحكم بكون المكره مكرها، وعلى هذا فلا يشترط أن يمس بعذاب.
قوله: (قادر) فلو أن امرأة قالت لزوجها: طلقني، وأمسكت بسلاح يعلم أنها لا تحسن القتل به، فقالت: إن لم تطلقني قتلتك، وهي لا تحسن الرمي به، ولا تعرف كيف تستعمله، ولربما فزعت لو أنها استعملته، فمثل هذا يعد تهديدا من غير قادر، فالمهدد والمكره ينبغي أن يكون قادرا على فعل ما هدد به.
فإذا كان غير قادر في نفسه أو غير قادر لقدرتك عليه، كأن يكون هذا الشخص المكره في وضع يمكنك أن تدفع ضرره، أو في وضع يمكنك أن تنجو منه بإذن الله عز وجل، فلا تكون مكرها، فلو أن شخصا هدد شخصا أن يطلق زوجته، وهدده بقتله وأمكنه أن يفر عنه، أو يستغيث بالغير فيغيثه بإذن الله عز وجل فإنه ليس بمكره.
إذا لا بد أن يكون قادرا على الفعل، ولا يمكنك الفكاك ودفع الضرر الذي يهدد به.
حكم طلاق المكره والدليل عليه
قال رحمه الله: [فطلق تبعا لقوله] .
أي: وقع المكره في الطلاق، (تبعا) .
بمعنى: وقعت هذه الأمور واستوفيت هذه الشروط فطلق (تبعا لقوله) ، يعني: لا يزيد ولا ينقص، وبناء على ذلك لو قال له: طلق زوجتك تطليقة، فطلقها طلقتين أو طلقها ثلاثا؛ فإنه يقع عليه الطلاق الزائد، وقيل: يقع جميع الطلاق؛ لأنه لما زاد؛ دل على أنه راغب في الطلاق، وصارت قرينة صارفة للإكراه.
أيضا نستفيد من قوله: (تبعا) أن يكون في طلاقه الظاهر تابعا للطالب وهو المكره، ولكنه في قرارة قلبه غير راض، فإذا طلق وقلبه مطمئن بالطلاق راض به وقع عليه الطلاق.
إذا يشترط أن يكون تبعا، وألا يكون منه قصدا، فلو أن رجلا يكره زوجته -والعياذ بالله- لا يحبها، ولا يرغب فيها، وينتظر الساعة التي ينجيه الله منها، فجاءه رجل وهدده وقال: طلق زوجتك، فقال: الحمد لله على الفرج، ثم طلقها، فهل هذا مكره؟ نقول: لا يكون طلاقه واقعا بإجماع العلماء؛ لأن الله يقول: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} [النحل:106] ، إذا معنى ذلك أن ننظر إلى الإكراه في الظاهر لا في الباطن، فيكون طلاقه تبعا للمكره، وليس مستقلا بذاته.
قوله: (لم يقع) هذا قول أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين من الأئمة المهديين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال به من الصحابة: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير رضي الله عن الجميع، وبه أفتى مجاهد وطاوس بن كيسان، وعطاء بن أبي رباح، وهو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية وأهل الحديث رحمة الله عليهم: أن من أكره وتحققت فيه شروط الإكراه أنه لا يحكم بطلاقه، ولا يحتسب بتلك الطلقة، واستدلوا بدليل الكتاب والسنة والعقل؛ أما دليلهم من الكتاب: فإنه سبحانه وتعالى قال: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} [النحل:106] ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أن الله سبحانه وتعالى أسقط عن المكره الردة بالقول، وهي لفظ من الألفاظ، وأعظم ما يتلفظ به الردة، قال الإمام ابن العربي وغيره من أئمة التفسير: إن هذه الآية الكريمة أصل في إسقاط مؤاخذة المكره في كل ما يقول ويفعل، فإذا كانت الردة لا تقع وقلبه مطمئن بالإيمان، فمن باب أولى غيرها من الألفاظ، وعلى هذا فالآية الكريمة واضحة الدلالة على أن المكره لا يؤاخذ بقوله، وجاءت السنة تؤكد ما دل عليه القرآن، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند ابن ماجة والحاكم وصححه غير واحد من العلماء: (إن الله وضع لأمتي) ، وفي رواية: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) وفي هذا دليل على أن الله وضع ورفع عن المكره المؤاخذة، فدل على أنه إذا طلق لا ينفذ طلاقه، وأكدوا هذا بما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا طلاق في إغلاق) ، رواه الإمام أحمد وأبو داود بسند حسن.
المغلق: هو الشخص الذي استغلق عليه الأمر، فأصبح ليس عنده أي مجال لأن ينصرف عن الشيء الذي هو فيه، فقال بعض أئمة اللغة كالإمام أبي عبيد القاسم بن سلام وغيره من أئمة اللغة رحمة الله عليهم: إن هذا يشمل المكره، والإغلاق يحتمل ويشمل من كان مكرها؛ لأنه استغلق عليه الأمر، فأصبح لا مجال له إلا أن يطلق فحينئذ: (لا طلاق في إغلاق) ، وقد استغلق على المكره، وأصبح متلفظا بلفظ الطلاق بدون اختيار وبدون رضا، ووجود هذا الطلاق وعدمه على حد سواء، ولا يوجب الحكم بالطلاق.
أما دليل العقل: فقد قال العلماء رحمهم الله: لا يقع طلاق المكره، كما لا يقع طلاق المجنون، بجامع عدم وجود القصد والاختيار في كليهما، فالمجنون كما أنه إن طلق لا ينفذ طلاقه، كذلك المكره لا ينفذ طلاقه؛ فإن المكره في حكم المجنون، فالمجنون يتلفظ بدون اختيار وبدون شعور وبدون رضا، والمكره يتلفظ بما أكره عليه بدون رضا واختيار، وكل منهما فاسد الاختيار ومنعدم الرضا، فكما لا ينفذ طلاق المجنون فكذلك لا ينفذ طلاق المكره.
وأصول الشريعة تدل دلالة واضحة على رجحان هذا القول.
وقد خالف في هذه المسألة طائفة من السلف منهم سعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وسفيان الثوري، والإمام أبو حنيفة النعمان -على الجميع شآبيب الرحمة والغفران- فقالوا: إن طلاق المكره يمضي عليه، واعتدوا به، واستدلوا بالأصول، وأن الأصل أن من طلق ينفذ عليه طلاقه، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح، والطلاق، والعتاق) ، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أربع جائزات إذا تكلم بهن: النكاح والطلاق والعتاق والنذر) ، قالوا: فهذه الأدلة تدل على أن من تلفظ بالطلاق مضى عليه ولو لم يكن قاصدا.
فهم يجعلون الهازل الذي هزل بالطلاق، مؤاخذا به، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد - وذكر منها-: الطلاق) ، فالهازل إذا طلق يمضي عليه الطلاق، مع أنه غير راض وغير مختار للطلاق، فيمضي عليه الطلاق.
قالوا: فدل على أن الشريعة لا تلتفت إلى كونه قاصدا أو غير قاصد، مختارا أو غير مختار، إنما تلتفت إلى وجود اللفظ، فلفظ الطلاق لفظ خطير إذا تلفظ به أخذ به.
وهذا القول مرجوح وضعيف؛ لأن هناك فرقا بين الهازل وبين المكره، فإن الهازل مختار للفظ وطالب له، وراض به؛ لكنه غير راض بالإيقاع، وفرق بين من تلفظ بهذا الشيء راضيا به ولم يرد إيقاعه، وبين من لم يرض ولم يختر وألجئ إليه بدون اختياره، فالفرق بينهما واضح، وعلى هذا فإن طلاق المكره لا يقع، وهو الصحيح من أقوال العلماء رحمهم الله.
حكم الطلاق في النكاح المختلف فيه
قال رحمه الله: [ويقع الطلاق في نكاح مختلف فيه] .
فلو أن رجلا تزوج امرأة بدون ولي، على قول الإمام أبي حنيفة رحمه الله وقول طائفة من السلف، ورفع هذا النكاح إلى شخص وقد وقع فيه طلاق، وهو لا يرى صحة هذا النكاح؛ فإنه يمضي الطلاق وينفذه، وهكذا بالنسبة لنكاح الشغار، إذا قيل بأنه يصحح بالمهر، وقد بينا أن الصحيح: أن نكاح الشغار لا يصح ولو كان بمهر ما دام أنه وجد الشرط بين المتعاقدين.
حكم طلاق الغضبان
قال رحمه الله: [ومن الغضبان] .
الغضب: حالة يكون فيها الإنسان منزعجا، وقد يفقد السيطرة على نفسه، فلا يستطيع أن يتحكم في لفظه، فلربما -والعياذ بالله- يسب ويشتم، ولربما وصل به الأمر إلى التلفظ بالردة -والعياذ بالله- ولا يستطيع أن يتحكم في فعله، فلربما قام وقعد وضرب من أمامه، حتى لربما كان والده أمامه فيضربه؛ لأنه يفقد السيطرة على نفسه.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 5 ( الأعضاء 0 والزوار 5)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 398.92 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 393.04 كيلو بايت... تم توفير 5.88 كيلو بايت...بمعدل (1.47%)]