تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله - الصفحة 53 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          شرح حديث: المسلم أخو المسلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          مِنْ أَسْبَابِ حُسْنِ الخِتَامِ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          إسرائيل الكبرى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          كفارة الإساءة للوالدين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          الفرق بين ( كلما ) و ( كل ما ) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          التحقيق في كون سورة الكوثر مكية لا مدنية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          سُنّة: التحكم بالغضب! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          هل هذا صحيح ؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          علة حديث (الصراط أَدقُّ من الشعرة وأَحدُّ من السيف) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #521  
قديم 25-02-2025, 04:08 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,753
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ ص
المجلد الرابع عشر
صـ 5081 الى صـ 5090
الحلقة (521)






القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 11]
جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب (11)
جند ما أي هم جند حقير هنالك مهزوم من الأحزاب أي الذين كانوا يتحزبون على الأنبياء قبلك. وأولئك قد قهروا وأهلكوا. وكذا هؤلاء. فلا تبال بما يقولون ولا تكترث لما به يهذون. وهنالك إشارة إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم من الانتداب لمثل هذا القول، فهو مجاز. وجوز أن يكون حقيقة، للإشارة إلى مكان قولهم وهو مكة. قال قتادة: وعده الله وهو بمكة يومئذ، أنه سيهزم جندا من المشركين. فجاء تأويلها يوم بدر. وقال ابن كثير: هذه الآية كقوله جلت عظمته أم يقولون نحن جميع منتصر سيهزم الجمع ويولون الدبر [القمر: 44- 45] .
وكان ذلك يوم بدر. وفي الآية أوجه من الإعراب أشار له السمين بقوله: جند يجوز فيه وجهان: أحدهما- وهو الظاهر- أنه خبر مبتدأ. أي هم جند. وما فيها وجهان، أحدهما- أنها مزيدة. والثاني أنها صفة ل (جند) على سبيل التعظيم، للهزء بهم، أو للتحقير. فإن (ما) إذا كانت صفة تستعمل لهذين المعنيين.
وهنالك يجوز فيه ثلاثة أوجه: أحدها- أن يكون خبرا ل (جند) و (ما) مزيدة ومهزوم نعت ل (جند) . الثاني- أن يكون صفة ل (جند) . الثالث- أن يكون منصوبا ب (مهزوم) . ومهزوم يجوز فيه أيضا وجهان: أحدهما- أنه خبر ثان لذلك المبتدأ المقدر، والثاني أنه صفة ل (جند) . وهنالك مشار به إلى موضع التقاول والمحاورة بالكلمات السابقة، وهو مكة. أي سيهزمون بمكة. وهو إخبار بالغيب. وقيل: مشار به إلى نصرة الإسلام. وقيل: إلى حفر الخندق، يعني إلى مكان ذلك. الثاني من الوجهين الأولين أن يكون (جند) مبتدأ و (ما) مزيدة وهنالك نعت ومهزوم خبره. وفيه بعد، لتفلته عن الكلام الذي قبله. انتهى.
فائدة:
روى ابن عباس في هذه الآية أنه لما مرض أبو طالب دخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جهل. فقالوا إن ابن أخيك يشتم آلهتنا ويفعل ويفعل. ويقول ويقول. فلو بعثت إليه فنهيته! فبعث إليه. فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل البيت وبينهم وبين أبي طالب قدر مجلس رجل. قال فخشي أبو جهل لعنه الله. إن جلس إلى جنب أبي طالب، أن يكون أرق له عليه. فوثب فجلس في ذلك المجلس. ولم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا قرب عمه. فجلس عند الباب، فقال له أبو طالب: أي ابن أخي! ما بال قومك يشكونك! يزعمون أنك تشتم آلهتهم وتقول وتقول. قال، وأكثروا عليه من القول.
وتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا عم إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها. تدين لهم بها العرب. وتؤدي إليهم بها العجم الجزية. ففزعوا لكلمته ولقوله. فقال القوم:
كلمة واحدة؟ نعم، وأبيك عشرا. فقالوا: وما هي؟ وقال أبو طالب: وأي كلمة هي يا ابن أخي؟ قال صلى الله عليه وسلم: لا إله إلا الله. فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم وهم يقولون:
أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب ونزلت الآية. رواه ابن جرير والإمام أحمد والنسائي، والترمذي
وحسنه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 12]
كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد (12)
كذبت قبلهم أي قبل قريش قوم نوح وعاد وهم قوم هود وفرعون ذو الأوتاد أي الملك الثابت. وأصله البيت المطنب، أي المربوطة أطنابه- أي حباله- بأوتاده. استعير للملك استعارة تصريحية. وصف به فرعون مبالغة بجعله عين ملكه. أو شبه فرعون في ثبات ملكه بذي بيت ثابت أقيم عموده وثبتت أوتاده. على
طريق الاستعارة المكنية. وأثبت له ما هو من خواصه تخييلا، وهو قوله: ذو الأوتاد فإنه لازم له. أو هو كناية. حيث أطلق اللازم وأريد الملزوم وهو الملك الثابت. وقد جاء هذا في قول الأسود من شعراء الجاهلية:
ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة ... في ظل ملك ثابت الأوتاد
أو المعنى: ذو الجموع الكثيرة. سموا بذلك لأن بعضهم يشد بعضا، كالوتد يشد البناء. فالاستعارة تصريحية في الأوتاد. أو هو مجاز مرسل للزوم الأوتاد للجند.
أو هو على حقيقته والمراد المباني العظيمة والهياكل الثابتة الفخيمة. واللفظ صادق في الكل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 13]
وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب (13)
وثمود وهم قوم صالح وقوم لوط وأصحاب الأيكة أي الغيضة، وهم قوم شعيب أولئك الأحزاب أي الكفار المتحزبون على رسلهم، الذين جعل الجند المهزوم منهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 14]
إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب (14)
إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب أي فوجبت عليهم عقوبتي. قال الشهاب: إن نافية وكل محذوف الخبر. والتفريغ من أعم العام. أي ما كل أحد مخبر عنه بشيء، إلا مخبر عنه بأنه كذب جميع الرسل، لأن الرسل يصدق كل منهم الكل. فتكذيب واحد منه تكذيب للكل. أو على أنه من مقابلة الجمع بالجمع. فيكون كل كذب رسوله. أو الحصر مبالغة. كأن سائر أوصافهم بالنظر إليه، بمنزلة العدم. فهم غالون فيه. انتهى.
وقال الزمخشري: وفي تكرير التكذيب وإيضاحه بعد إبهامه، والتنويع في تكريره بالجملة الخبرية أولا، والاستثنائية ثانيا. وما في الاستثنائية من الوضع على وجه التوكيد والتخصيص- أنواع من المبالغة المسجلة عليهم باستحقاق أشد العقاب وأبلغه.
وزاد الناصر فائدة أخرى للتكرير. وهي أن الكلام لما طال بتعديد آحاد
المكذبين، ثم أريد ذكر ما حاق بهم من العذاب جزاء لتكذيبهم، كرر ذلك مصحوبا بالزيادة المذكورة، ليلى قوله تعالى: فحق عقاب على سبيل التطرية المعتادة عند طول الكلام. وهو كما قدمته في قوله: وكذب موسى [الحج: 44] ، حيث كرر الفعل ليقترن بقوله: فأمليت للكافرين [الحج: 44] . انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 15]
وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق (15)
وما ينظر هؤلاء أي أهل مكة إلا صيحة واحدة أي أخذة واحدة بعذاب بئيس. يقال: صاح الزمان بهم، إذا هلكوا. كما قال:
صاح الزمان بآل برمك صيحة ... خروا لشدتها على الأذقان
وأصله من الغارة إذا عافصت القوم فوقعت الصيحة فيهم ما لها من فواق أي من توقف مقدار فواق. وهو ما بين الحلبتين. أو رجوع وترداد. فإنه فيه يرجع اللبن إلى الضرع ف (فواق) إما بحذف مضافين أو مجاز مرسل بذكر الملزوم وإرادة لازمه.
وقرئ بالضم. وهما لغتان. وقيل: المفتوح اسم مصدر من (أفاق المريض) إفاقة وفاقة، إذا رجع إلى الصحة. والمضموم اسم ساعة رجوع اللبن للضرع.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 16]
وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب (16)
وقالوا ربنا عجل لنا قطنا أي نصيبنا من العذاب الذي وعدته. كقوله تعالى:
ويستعجلونك بالعذاب [الحج: 47] و [العنكبوت: 53 و 54] ، قبل يوم الحساب أي الجزاء. وقولهم ذلك على سبيل الاستهزاء والسخرية. كما قص عنهم نظائره في عدة آيات.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 17]
اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب (17)
اصبر على ما يقولون أي فقد وعدت بالنصر والظفر والملك والتأييد، كما أوتي داود عليه السلام، مما سارت به الأمثال ولذا قال تعالى: واذكر عبدنا داود ذا الأيد أي: القوة. أي: الاجتهاد في أداء الأمانة والتشدد في القيام بالدعوة ومجانبة إظهار الضعف والوهن إنه أواب أي رجاع إليه تعالى بالإنابة والخشية والعبادة والصيام.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : الآيات 18 الى 19]
إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق (18) والطير محشورة كل له أواب (19)
إنا سخرنا الجبال معه يسبحن أي تبعا لتسبيحه بالعشي والإشراق والطير محشورة أي مجموعة عنده يسبحن معه كل له أي لله تعالى أواب أي مطيع منقاد. يرجع بتسبيحه وتقديسه إليه.
قال ابن كثير: أي أنه تعالى سخر الجبال تسبح معه عند إشراق الشمس وآخر النهار. كما قال عز وجل: يا جبال أوبي معه والطير [سبأ: 10] ، وكذلك كانت الطير تسبح بتسبيحه وترجع بترجيعه، إذا مر به الطير وهو سابح في الهواء، فسمعه وهو يترنم بقراءة الزبور لا يستطيع الذهاب. بل يقف في الهواء ويسبح معه وتجيبه الجبال الشامخات ترجع معه، وتسبح تبعا له. انتهى. أي بأن خلق فيها حياة ونطقا.
أو كان له عليه السلام من شدة صوته الحسن دوي في الجبال. وحنين من الطيور إليه، وترجيع. وقد عهد من الطير القمري أنه ينتظر سكتة المصوت والقارئ بصوت حسن أو المنشد، فيجيبه، والله أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 20]
وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب (20)
وشددنا ملكه أي قويناه بوفرة العدد والعدد ونفوذ السلطة وإمداده بالتأييد والنصر وآتيناه الحكمة أي النبوة أو الكلام المحكم المتضمن للمواعظ والأمثال والحض على الآداب ومكارم الأخلاق. وكان زبوره عليه السلام، كله حكما غررا وفصل الخطاب أي فصل الخصام بتمييز الحق من الباطل، ورفع الشبه، وإقامة الدلائل. وكان يقيم بذلك العدل الجالب محبة الخلائق، ولا يخالفه أحد من أقاربه ولا من الأجانب. ثم ذكر تعالى من حكمته عليه السلام وقضائه الفصل، وشدة خوفه وخشيته مع ذلك، ما قصه بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 21]
وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب (21)
وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب أي ولجوه. و (المحراب) مقدم كل بيت وأشرفه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 22]
إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط (22)
إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف أي منا. فلسنا فاتكين وإنما نحن خصمان أي شخصان متخاصمان تحاكمنا إليك بغى بعضنا على بعض أي تعدى فاحكم بيننا بالحق أي بما يطابق أمر الله ولا تشطط أي ولا تبعد عن الحق أو تجاوزه واهدنا إلى سواء الصراط أي بحيث لا تميل عن الحق أصلا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 23]
إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب (23)
إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة أي أنثى من الضأن ولي نعجة واحدة أي فلم ينظر إلى غناه عنها، ولا إلى افتقاري إليها، بل أراد التغلب علي فقال أكفلنيها أي: ملكنيها. بمعنى اجعلني كافلها كما أكفل ما تحت يدي. أو بمعنى اجعلها كفلي أي نصيبي: وعزني في الخطاب أي غلبني في المكالمة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : الآيات 24 الى 25]
قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب (24) فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب (25)
قال أي داود لقد ظلمك بسؤال نعجتك أي طلب نعجتك التي أنت أحوج إليها ليضمها إلى نعاجه أي مع استغنائه عن هذا الضم وإن كثيرا من الخلطاء أي الإخوان الأصدقاء المتخالطين في شؤونهم ليبغي بعضهم على بعض أي بغي الأعداء. مع أن واجب حقهم النصفة على الأقل. إن لم يقوموا بفضيلة الإيثار إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات أي فإنهم لا يبغون وقليل ما هم أي وهم قليل. و (ما) مزيدة للإبهام والتعجيب من قلتهم.
قال الشهاب: فيه مبالغة من وجوه: وصفهم بالقلة، وتنكير (قليل) وزيادة (ما) الإبهامية. والشيء إذا بولغ فيه كان مظنة للتعجب منه. فكأنه قيل: ما أقلهم.
وفي قضائه عليه السلام هذا، من الحكمة وفصل الخطاب ما يهيج الأفئدة ويقر عين المغبون. ذلك أنه صدع بالحق أبلغ صدع. فجهر بظلم خصمه وبغيه جهرا لا محاباة فيه ولا مواربة فأقر عين المظلوم. وعرف الباغي ظلمه وحيفه، وأن سيف العدل والإنصاف فوقه. ثم نفس عن قلب المظلوم البائس. وروح عن صدره بذكر ما عليه الأكثر من هذه الخلة- خلة البغي وعدم الإنصاف- مع الخلطة والخلة، ليتأسى ويتسلى كما قيل (إن التأسي روح كل حزين) ثم أكد الأمر بقلة القائمين بحقوق الأخوة، ممن آمن وعمل صالحا، فكيف بغيرهم؟. وكلها حكم وغرر ودرر، حقائق تنطبق على أكثر هذا السواد الأعظم من الناس، الذين يدعون المحبة، والصداقة. ولعظم شأن حقوق المحبة أسهب في آدابها علماء الأخلاق، إسهابا نوعوا فيه الأبواب، ولونوا فيه الفصول، ومع ذلك لا تزال الشكوى عامة. وقد امتلأت من منظومها ومنثورها كتب الأدب، كما لا يخفى على من له إلمام به. وبالله التوفيق وظن داود أنما فتناه أي ابتليناه بتلك الحكومة فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب فغفرنا له ذلك أي ما استغفر منه وإن له عندنا لزلفى أي لقربا وحسن مآب أي مرجعا حسنا وكرامة، في الآخرة.
تنبيهات:
الأول- للمفسرين في هذا النبأ أقوال عديدة ووجوه متنوعة. مرجعها إلى مذهبين: مذهب من يرى أنها تشير تعريضا إلى وزر ألم به داود عليه السلام ثم غفر له، ومذهب من يرى أنها حكومة في خصمين لا إشعار لها بذلك. فممن ذهب إلى الأول ابن جرير. فإنه قال: هذا مثل ضربه الخصم المتسورون على داود محرابه.
وذلك أن داود كانت له، فيما قيل، تسع وتسعون امرأة. وكانت للرجل الذي أغزاه حتى قتل امرأة واحدة، فلما قتل نكح، فيما ذكر، داود امرأته، ثم لما قضى للخصمين بما قضى، علم أنه ابتلي. فسأل غفران ذنبه وخر ساجدا لله وأناب إلى رضا ربه، وتاب من خطيئته. هذا ما قاله ابن جرير. ثم أسند قصته مطولة من روايات عن ابن عباس والسدي وعطاء والحسن وقتادة ووهب ومجاهد. ومن طريق عن أنس مرفوعا. ويشبه سياق بعضها ما ذكر في التوراة المتداولة الآن قال السيوطي في (الإكليل) : القصة التي يحكونها في شأن المرأة، وأنها أعجبته، وأنه أرسل زوجها مع البعث حتى قتل، أخرجها ابن أبي حاتم من حديث أنس مرفوعا. وفي إسناده ابن لهيعة، وحاله معروف، عن ابن صخر عن يزيد الرقاشي وهو ضعيف. وأخرجها من حديث ابن عباس موقوفا. انتهى.
أقول: أما المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيها، فلم يأت من طريق صحيح، وأما الموقوف من ذلك على الصحب والأتباع رضي الله عنهم، فمعولهم في ذلك ما ذكر في التوراة من هذا النبأ، أو الثقة بمن حكى عنها. وينبني على ذلك ذهابهم إلى تجويز مثل هذا على الأنبياء. وقد ذهبت طائفة إلى تجويز ما عدا الكذب في التبليغ.
كما فصل في مطولات الكلام.
قال ابن حزم رحمه الله: وهو قول الكرامية من المرجئة. وابن الطيب الباقلاني من الأشعرية، ومن اتبعه. وهو قول اليهود والنصارى. ثم رد هذا القول، رحمه الله، ردا متينا.
وأما المذهب الثاني، فهو ما جزم به ابن حزم في (الفصل) وعبارته: ما حكاه تعالى عن داود عليه السلام قوله صادق صحيح، لا يدل على شيء مما قاله المستهزئون الكاذبون المتعلقون بخرافات ولدها اليهود. وإنما كان ذلك الخصم قوما من بني آدم، بلا شك، مختصمين في نعاج من الغنم على الحقيقة بينهم. بغى أحدهما على الآخر على نص الآية. ومن قال إنهم كانوا ملائكة معرضين بأمر النساء، فقد كذب على الله عز وجل، وقوله ما لم يقل، وزاد في القرآن ما ليس فيه، وكذب الله عز وجل وأقر على نفسه الخبيثة، أنه كذب الملائكة. لأن الله تعالى يقول:
وهل أتاك نبأ الخصم فقال هو: لم يكونوا قط خصمين، ولا بغى بعضهم على بعض، ولا كان قط لأحدهما تسع وتسعون نعجة، ولا كان للآخر نعجة واحدة، ولا قال له أكفلنيها فاعجبوا. لم يقحمون فيه الباطل أنفسهم؟ ونعوذ بالله من الخذلان، ثم كل ذلك بلا دليل، بل الدعوى المجردة. وتالله! إن كل امرئ منا ليصون نفسه وجاره المستور عن أن يتعشق امرأة جاره، ثم يعرض زوجها للقتل عمدا، ليتزوجها.
وعن أن يترك صلاته لطائر يراه. هذه أفعال السفهاء المتهوكين الفساق المتمردين. لا أفعال أهل البر والتقوى. فكيف برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أوحى إليه كتابه وأجرى على لسانه كلامه؟ لقد نزهه الله عز وجل عن أن يمر مثل هذا الفحش بباله. فكيف أن يستضيف إلى أفعاله؟ وأما استغفاره وخروره ساجدا، ومغفرة الله له، فالأنبياء عليهم السلام أولى الناس بهذه الأفعال الكريمة. والاستغفار فعل خير لا ينكر من ملك ولا من نبي. ولا من مذنب ولا من غير مذنب. فالنبي يستغفر الله لمذنبي أهل الأرض.
والملائكة كما قال الله تعالى: ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم [غافر: 7] .
وأما قوله تعالى عن داود عليه السلام وظن داود أنما فتناه وقوله تعالى: فغفرنا
له ذلك
فقد ظن داود عليه السلام أن يكون ما آتاه الله عز وجل من سعة الملك العظيم فتنة. فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم «1» يدعو في أن يثبت الله قلبه على دينه، فاستغفر الله تعالى من هذا الظن، فغفر الله تعالى له هذا الظن. إذ لم يكن ما آتاه الله من ذلك فتنة. انتهى كلام ابن حزم، وهو وقوف على ظاهر الآية، مجردا عن إشارة وإيماء.
وقال البرهان البقاعي في (تفسيره) : وتلك القصة وأمثالها من كذب اليهود.
ثم قال: وأخبرني بعض من أسلم منهم أنهم يتعمدون ذلك في حق داود عليه السلام. لأن عيسى عليه السلام من ذريته، ليجدوا سبيلا إلى الطعن فيه. انتهى.
ثم قال: وقوله تعالى: فغفرنا له ذلك أي الوقوع في الحديث عن إسناد الظلم إلى أحد بدون سماع لكلامه. وهذه الدعوى تدريب لداود عليه السلام في الأحكام. وذكرها للنبي صلى الله عليه وسلم تدريب له في الأناة في جميع أموره على الدوام. ولما ذكر هذا، ربما أوهم شيئا في مقامه صلى الله عليه وسلم، فدفعه بقوله تعالى: وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب. فالقصة لم يجر ذكرها إلا للترقية في رتب الكمال. وأول دليل على ما ذكرته، أن هذه الفتنة إنما هي بالتدريب في الحكم، لا بامرأة ولا غيرها. وأن ما ذكروه من قصة المرأة باطل وإن اشتهر. فكم من باطل مشهور، ومذكور، هو عين الزور. انتهى.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #522  
قديم 25-02-2025, 04:15 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,753
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ ص
المجلد الرابع عشر
صـ 5091 الى صـ 5100
الحلقة (522)






وقال ابن كثير: قد ذكر المفسرون هاهنا قصة أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات.
ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه. ولكن روى ابن أبي حاتم هنا حديثا لا يصح سنده، لأنه من رواية يزيد الرقاشي عن أنس رضي الله عنه. ويزيد، وإن كان من الصالحين، لكنه ضعيف الحديث عند الأئمة. فالأولى أن يقتصر على مجرد تلاوة هذه القصة، وأن يرد علمها إلى الله عز وجل. فإن القرآن حق، وما تضمن فهو حق أيضا. انتهى.
وقال القاضي عياض في (الشفا) : وأما قصة داود عليه السلام، فلا يجب أن يلتفت إلى ما سطره فيها الأخباريون على أهل الكتاب الذين بدلوا وغيروا، ونقله بعض المفسرين. ولم ينص الله على شيء من ذلك، ولا ورد في حديث صحيح.
والذي نص الله عليه قوله: وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب وقوله فيه أواب فمعنى فتناه أي اختبرناه. وأواب قال قتادة: مطيع.
(1)
أخرجه الترمذي في: القدر، 7- باب ما جاء أن القلوب بين إصبعي الرحمن.

وهذا التفسير أولى. قال ابن عباس وابن مسعود: ما زاد داود على أن قال للرجل: انزل عن امرأتك وأكفلنيها.. فعاتبه الله على ذلك ونبهه عليه. وأنكر عليه شغله بالدنيا، وهذا هو الذي ينبغي أن يعول عليه من أمره. وقد قيل خطبها على خطبته، وقيل بل أحب بقلبه أن يستشهد. وحكى السمرقندي أن ذنبه الذي استغفر منه قوله لقد ظلمك فظلمه بقول خصمه. وقيل: بل لما خشيه على نفسه، وظن من الفتنة بما بسط له من الملك والدنيا. وإلى نفي ما أضيف في الأخبار إلى داود من ذلك- ذهب أحمد بن نصر وأبو تمام، وغيرهما من المحققين. قال الداودي: ليس في قصة داود وأوريا خبر يثبت. ولا يظن بنبي محبة قتل مسلم. وقيل: إن الخصمين اللذين اختصما إليه، رجلان في نتاج غنم على ظاهر الآية. وقيل: بل لما خشي على نفسه وظن من الفتنة لما بسط له من الملك والدنيا. انتهى.
وقال ابن القيم في أواخر كتابه (الجواب الكافي) في مباحث العشق: وقد أرشد صلى الله عليه وسلم المتحابين إلى النكاح. كما
في سنن ابن ماجة «1» مرفوعا: لم ير للمتحابين مثل النكاح
.
ونكاحه لمعشوقه هو دواء العشق الذي جعله الله دواءه شرعا وقدرا. وبه تداوى نبي الله داود صلى الله عليه وسلم ولم يرتكب نبي الله محرما. وإنما تزوج المرأة وضمها إلى نسائه لمحبته لها. وكانت توبته بحسب منزلته عند الله وعلو مرتبته. ولا يليق بنا المزيد على هذا. انتهى.

وهذا منه تسليم ببعض القصة لا بتمامها. وهو من الأقوال فيها.
وأما دعوى بعضهم أن التوراة تعد داود ملكا حكيما، لا نبيا، بدليل ذكره في أسفار الملوك منها، وما فيها من أنه بعث إليه نبي يقال له قاشان، ضرب له المثل المذكور- فدعوى مردودة من وجوه: منها أن الاستدلال بالتوراة التي بين أيديهم في إثبات أو نفي لا يعول عليه. كيف لا؟ وقد أوتينا بيضاء نقية محفوظة من التغيير والتبديل بحمده تعالى. ومنها أن نبوة داود عليه السلام لا خلاف فيها عند المسلمين، فلا عبرة بخلاف غيرهم. ومنها أنه لا مانع أن تجتمع النبوة والملك لمن أراده الله واصطفاه. وقد فعل ذلك بداود وسليمان عليهما السلام. ومنها أنه لا حاجة في كتابنا الكريم أن يتمم بما جاء في غيره، أو يحاول رده إلى سواه من الكتب، أو هي إليه، لاستغنائه بنفسه. بل وكونه مهيمنا على سائر الكتب، كما أخبر الله تعالى عنه، فليتأمل ذلك. والله أعلم.
(1)
أخرجه ابن ماجة في: النكاح، 1- باب ما جاء في فضل النكاح، حديث 1847..

وقد روي أن عمر بن عبد العزيز حدث بنبإ داود على ما يرويه القصاص، وعنده رجل من أهل الحق. فكذب المحدث به، وقال: إن كانت القصة على ما في كتاب الله، فما ينبغي أن يلتمس خلافها. وأعظم بأن يقال غير ذلك، وإن كانت على ما ذكرت وكف الله عنها سترا على نبيه، فما ينبغي إظهارها عليه. فقال عمر: لسماعي هذا الكلام، أحب إلى مما طلعت عليه الشمس. نقله الزمخشري.
قال الناصر في (الانتصاف) : وقد التزم المحققون من أئمتنا أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، داود وغيره، منزهون من الوقوع في صغائر الذنوب، مبرءون من ذلك، والتمسوا المحامل الصحيحة لأمثال هذه القصة. وهذا هو الحق الأبلج، والسبيل الأبهج، إن شاء الله تعالى، انتهى.
التنبيه الثاني- قال ابن الفرس: في هذه القصة دليل على جواز القضاء في المسجد (أي لظاهر المحراب. إلا أنه ليس نصا في محراب المسجد) والتلطف في رد الإنسان عن المكروه صنعه. وأنه لا يؤاخذ بعنف ما أمكن. وجواز المعاريض من القول.
قال الزمخشري: وإنما جاءت على طريقة التمثيل والتعريض، دون التصريح، لكونها أبلغ في التوبيخ. من قبل أن المتأمل إذا أداه إلى الشعور بالمعرض به، كان أوقع في نفسه، وأشد تمكنا من قلبه، وأعظم أثرا فيه، وأجلب لاحتشامه وحيائه، وأدعى إلى التنبيه على الخطأ فيه، من أن يباده به صريحا، مع مراعاة حسن الأدب بترك المجاهرة. ألا ترى إلى الحكماء؟ كيف أوصوا في سياسة الولد، إذا وجدت منه هنة منكرة، بأن يعرض له بإنكارها عليه، ولا يصرح. وأن تحكي له حكاية ملاحظة لحاله، إذا تأملها استسمج حال صاحب الحكاية، فاستسمج حال نفسه. وذلك أزجر له. لأنه ينصب ذلك مثالا لحاله، ومقياسا لشأنه. فتصور قبح ما وجد منه بصورة مكشوفة، مع أنه أصون لما بين الوالد والولد من حجاب الحشمة.
الثالث- قال ابن مسعود في قوله تعالى: إن هذا أخي أي على ديني.
أخرجه ابن أبي حاتم. ففيه جواز إطلاق (الأخ) على غير المناسب. واستدل بقوله تعالى: وإن كثيرا من الخلطاء على جواز الشركة. أفاده في (الإكليل) .
الرابع- قال السيوطي في (الإكليل) : استدل بقوله تعالى: وخر راكعا من أجاز التعويض عن سجود التلاوة بركوع. والأكثرون على أن الركوع هنا مجاز مرسل، عن السجود. لأنه، لإفضائه إليه، جعل كالسبب، ثم تجوز به عنه. أو هو استعارة له، لمشابهته له في الانحناء والخضوع.
الخامس- قال ابن كثير: اختلف الأئمة في سجدة (ص) هل هي من عزائم السجود؟ على قولين: أحدهما أنها ليست من العزائم، بل هي سجدة شكر، لما
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إنها ليست من عزائم السجود، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيها، رواه أحمد والبخاري «1» وأصحاب السنن.
وعنه أنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في (ص) وقال: سجدها داود عليه الصلاة والسلام توبة، ونسجدها شكرا، تفرد به النسائي «2» .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر (ص) فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه. فلما كان يوم آخر قرأها. فلما بلغ السجدة تشزن الناس للسجود. فقال صلى الله عليه وسلم:
إنما هي توبة نبي. ولكن رأيتكم تشزنتم، فنزل وسجد. تفرد به أبو داود «3» .
وإسناده على شرط الصحيح، وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 26]
يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب (26)
يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض أي استخلفناك على الملك في الأرض كمن يستخلفه بعض السلاطين على بعض البلاد ويملكه عليها، ومنه قولهم: خلفاء الله في أرضه فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى أي هوى النفس، من الميل إلى مال أو جاه أو قريب أو صاحب فيضلك عن سبيل الله أي صراطه الموصل إلى الكمالات، كحفظ المملكة والنصر على الأعداء، والنجاة في الآخرة ورفع الدرجات فيها إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب أي بسبب نسيانهم، وهو ضلالهم عن السبيل، فإن تذكره يقتضي ملازمة الحق ومخالفة الهوى.
تنبيه:
في الآية بيان وجوب الحكم بالحق، وأن لا يميل إلى أحد الخصمين لقرابة أو رجاء أو سبب يقتضي الميل. واستدل بها بعضهم على احتياج الأرض إلى خليفة من الله. كذا في (الإكليل) .
(1)
أخرجه البخاري في: سجود القرآن، 3- باب سجدة ص، حديث 589.

(2)
أخرجه في: الافتتاح، 48- باب سجود القرآن، السجود في ص.

(3)
أخرجه في: السجود، 5- باب السجود في ص، حديث رقم 1410.

وقال ابن كثير: هذه وصية من الله عز وجل لولاة الأمور أن يحكموا بين الناس بالحق المنزل من عنده تبارك وتعالى. ولا يعدلوا عنه فيضلوا عن سبيل الله. وقد توعد تبارك وتعالى من ضل عن سبيله وتناسى يوم الحساب، بالوعيد الأكيد والعذاب الشديد. روى ابن أبي حاتم عن أبي زرعة، أن الوليد بن عبد الملك قال له: أيحاسب الخليفة، فإنك قد قرأت الكتاب الأول وقرأت القرآن وفقهت؟ فقلت: يا أمير المؤمنين؟ أقول؟ قال: قل في أمان. قلت: يا أمير المؤمنين! أنت أكرم على الله أو داود عليه الصلاة والسلام؟ إن الله تعالى جمع له النبوة والخلافة. ثم توعده في كتابه قال تعالى: يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض الآية.
وقال الرازي: اعلم أن الإنسان خلق مدنيا بالطبع. لأن الإنسان الواحد لا تنتظم مصالحه إلا عند وجود مدينة تامة. حتى هذا يحرث وذاك يطحن وذلك يخبز وذلك ينسج والآخر يخيط. وبالجملة، فيكون كل واحد منهم مشغولا بمهم. وينتظم من أعمال الجميع مصالح الجميع. فثبت أن الإنسان مدني بالطبع. وعند اجتماعهم في الموضع الواحد يحصل بينهم منازعات ومخاصمات، ولا بد من إنسان قادر قاهر يقطع تلك الخصومات ويفصل تلك الحكومات. وذلك هو السلطان الذي ينفذ حكمه على الكل. فثبت أنه لا تنتظم مصالح الخلق إلا بسلطان قاهر سائس. ثم إن ذلك السلطان القاهر السائس. إن كان حكمه على وفق هواه ولطلب مصالح دنياه، عظم ضرره على الخلق. فإنه يجعل الرعية فداء لنفسه، ويتوسل بهم إلى تحصيل مقاصد نفسه. وذلك يفضي إلى تخريب العالم ووقوع الهرج والمرج في الخلق.
وذلك يفضي بالآخرة إلى هلاك ذلك الملك. أما إذا كانت أحكام ذلك الملك مطابقة للشريعة الحقة الإلهية، انتظمت مصالح العالم واتسعت أبواب الخيرات على أحسن الوجوه: فهذا هو المراد من قوله: فاحكم بين الناس بالحق يعني لا بد من حاكم بين الناس بالحق. فكن أنت ذلك. ثم قال: ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله الآية، وتفسيره أن متابعة الهوى توجب الضلال عن سبيل الله، والضلال عن سبيل الله يوجب سوء العذاب. فينتج أن متابعة الهوى توجب سوء العذاب. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 27]
وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار (27)
وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا أي خلقا باطلا، لا حكمة فيه. أو
مبطلين عابثين، كقوله تعالى وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق [الدخان: 38- 39] . وهو أن تقوم الناس بالقسط في المعتقدات والعبادات والمعاملات ذلك ظن الذين كفروا أي ولذا أنكروا البعث والجزاء على الأعمال، وأخذوا يصدون عن سبيل الله ويبغون في الأرض الفساد.
قال الزمخشري: ومن جحد الخالق فقد جحد الحكمة من أصلها. ومن جحد الحكمة في خلق العالم فقد سفه الخالق، وظهر بذلك أنه لا يعرفه ولا يقدره حق قدره. فكان إقراره بكونه خالقا، كلا إقرار.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 28]
أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار (28)
أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض قال المهايمي:
أي: أنترك البعث بالكلية، أم نبعث ونجعل الذين آمنوا فشكروا نعمة العقل والكتاب. وعملوا الصالحات فشكروا نعمة الأعضاء، كالمفسدين، بصرف العقل والأعضاء إلى الغير ما خلقت له؟ أم نجعل المتقين أي مخالفة أمر الله رعاية لمحبته كالفجار أي الذين يخالفون أوامر الله، ولا يبالون بعداوته. أي لا نفعل ذلك ولا يستوون عند الله.
قال ابن كثير: وإذا كان الأمر كذلك، فلا بد من دار أخرى يثاب فيها هذا المطيع، ويعاقب فيها هذا الفاجر، وهذا الإرشاد يدل العقول السليمة والفطر المستقيمة، على أنه لا بد من معاد وجزاء. فإذا نرى الظالم الباغي يزداد ماله وولده ونعيمه، ويموت كذلك. ونرى المطيع المظلوم يموت بكمده. فلا بد في حكمة الحكيم العليم العادل، الذي لا يظلم مثقال ذرة، من إنصاف هذا من هذا. وإذا لم يقع هذا في هذه الدار، فتعين أن هناك دارا أخرى لهذا الجزاء والمواساة. ولما كان القرآن يرشد إلى المقاصد الصحيحة والمآخذ العقلية الصريحة، قال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 29]
كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب (29)
كتاب أنزلناه إليك مبارك أي كثير الخير ليدبروا آياته قال المهايمي:
أي لينظروا في ألفاظه وترتيبها ولوازمها. فيستخرجوا منها علوما بطريق الاستدلال.
وقال الزمخشري: تدبر الآيات: التفكر فيها والتأمل الذي يؤدي إلى معرفة ما يدبر ظاهرها من التأويلات الصحيحة والمعاني الحسنة، لأن من اقتنع بظاهر المتلو لم يحل منه بكثير طائل. وكان مثله كمثل من له لقحة درور لا يحلبها، ومهرة نثور لا يستولدها. وعن الحسن: قد قرأ هذا القرآن عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله.
حفظوا حروفه وضيعوا حدوده. حتى إن أحدهم ليقول: والله! لقد قراءات القرآن فما أسقطت منه حرفا، وقد، الله! أسقطه كله. ما يرى للقرآن عليه أثر في خلق ولا عمل، والله! ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده. والله! ما هؤلاء بالحكماء ولا الوزعة، لا كثر الله في الناس مثل هؤلاء. اللهم اجعلنا من العلماء المتدبرين، وأعذنا من القراء المتكبرين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 30]
ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب (30)
ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب أي كثير الرجوع إلى الله تعالى، بالتوبة والإنابة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 31]
إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد (31)
إذ عرض عليه بالعشي الصافنات أي من الخيل، جمع (صافن) وهو الذي يقوم على طرف سنبك يد أو رجل، الجياد جمع (جواد) وهو الذي يسرع في جريه أو بمعنى الحسان جمع (جيد) .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 32]
فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب (32)
فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي أي آثرته عليه. عدل عنه للمناسبة اللفظية وقصد التجنيس. وفائدة التضمين إشارة إلى عروضه، وذكر ربي إما مضاف لفاعله أو لمفعوله.
قال الزمخشري: و (الخير) المال كقوله: إن ترك خيرا [البقرة: 180] ، وقوله: وإنه لحب الخير لشديد [العاديات: 8] ، والمال: الخيل التي شغلته، أو
سمي الخيل خيرا كأنها نفس الخير، لتعلق الخير بها.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «1» : الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة
، وقال في زيد الخيل حين وفد عليه وأسلم: ما وصف لي رجل فرأيته، إلا كان دون ما بلغني، إلا زيد الخيل
، وسماه زيد الخير، وسأل رجل بلالا رضي الله عنه عن قوم يستبقون، من السابق؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له الرجل: أردت الخيل. فقال: وأنا أردت الخير. حتى توارت بالحجاب أي غربت الشمس. متعلق بقوله تعالى: أحببت وفيه استعارة تصريحية أو مكنية لتشبيه الشمس بامرأة حسناء، أو ملك. وباء بالحجاب للظرفية، أو الاستعانة أو الملابسة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 33]
ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق (33)
ردوها علي يعني الصافنات. وهذا من مقول القول، فلا حاجة إلى تقدير قول آخر فطفق مسحا بالسوق والأعناق أي فجعل يمسح مسحا، أي يمسح بالسيف بسوقها وأعناقها، يعني يقطعها.
تنبيه:
قال ابن كثير: ذكر غير واحد من السلف والمفسرين أن سليمان عليه السلام اشتغل بعرض الخيل حتى فات وقت صلاة العصر، والذي يقطع به أنه لم يتركها عمدا بل نسيانا، كما شغل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق عن صلاة العصر، حتى صلاها بعد الغروب. وذلك ثابت في الصحيحين «2» من غير وجه. ويحتمل أنه كان سائغا في ملتهم تأخير الصلاة لعذر الغزو، والقتال. والخيل تراد للقتال، وقد ادعى طائفة من العلماء أن هذا كان مشروعا فنسخ ذلك بصلاة الخوف، ومنهم من ذهب إلى ذلك في حال المسايفة والمضايقة حتى لا تمكن صلاة ولا ركوع ولا سجود. كما فعل الصحابة رضي الله عنهم في فتح (تستر) وهو منقول عن مكحول والأوزاعي وغيرهما، والأول أقرب. لأنه قال بعد ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق قال
(1)
أخرجه البخاري في: المناقب، 28- باب حدثني محمد بن المثنى، حديث رقم 1368، عن أنس.

(2)
أخرجه البخاري في: المغازي، 29- باب غزوة الخندق، حديث رقم 1400، عن علي.

وأخرجه مسلم في: المساجد ومواضع الصلاة، حديث رقم 202.
الحسن البصري: قال: لا، والله! لا تشغليني عن عبادة ربي آخر ما عليك. ثم أمر بها فعقرت. وكذلك قال قتادة.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: جعل يمسح أعراف الخيل وعراقيبها حبا لها. وهذا القول اختاره ابن جرير. قال: لأنه لم يكن ليعذب حيوانا بالعرقبة، ويهلك مالا من ماله بلا سبب، سوى أنه اشتغل عن صلاته بالنظر إليها ولا ذنب لها. وهذا الذي رجح ابن جرير، فيه نظر، لأنه قد يكون في شرعهم جواز مثل هذا، ولا سيما إذا كان غضبا لله تعالى، بسبب أنه اشتغل بها حتى خرج وقت الصلاة. ولهذا لما خرج عنها لله تعالى، عوضه الله عز وجل ما هو خير منها.
وهو الريح التي تجري بأمره رخاء حيث أصاب، غدوها شهر ورواحها شهر. فهذا أسرع وخير من الخيل،




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #523  
قديم 25-02-2025, 04:19 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,753
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ ص
المجلد الرابع عشر
صـ 5101 الى صـ 5110
الحلقة (523)






روى الأمام أحمد «1» عن ابن قتادة وأبي الدهماء، وكانا يكثران السفر نحو البيت، قالا: أتينا على رجل من أهل البادية فقال لنا البدوي، أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجل يعلمني مما علمه الله عز وجل. وقال: إنك لا تدع سببا اتقاء الله تعالى، إلا أعطاك الله عز جل خيرا منه.
انتهى ما ذكره ابن كثير.
وقال القاشاني: أي طفق يمسح السيف بسوقها، يعرقب بعضها وينحر بعضها، كسرا لأصنام النفس التي تعبدها بهواها، وقمعا لسورتها وقواها، ورفعا للحجاب الحائل بينه وبين الحق، واستغفارا وإنابة إليه بالتجريد والترك.
وقد ذهب الرازي إلى تأويل آخر استصوبه، قال: إن رباط الخيل كان مندوبا إليه في دينهم. كما أنه كذلك في دين الإسلام. ثم إن سليمان عليه السلام احتاج إلى الغزو. فجلس وأمر بإحضار الخيل وأمر بإجرائها. وذكر أني لا أحبها لأجل الدنيا ونصيب النفس، وإنما أحبها لأمر الله وطلب تقوية دينه. وهو المراد من قوله: عن ذكر ربي ثم إنه عليه السلام أمر بإعدائها وتسييرها حتي توارت بالحجاب أي غابت عن بصره. ثم أمر الرائضين بأن يردوا تلك الخيل إليه. فلما عادت إليه طفق يمسح سوقها وأعناقها، والغرض من ذلك المسح أمور:
الأول تشريفا لها وإبانة لعزتها، لكونها من أعظم الأعوان في دفع العدو.
والثاني- أنه أراد أن يظهر أنه في ضبط السياسة والملك يتصنع إلى حيث يباشر أكثر الأمور بنفسه.
(1)
أخرجه في المسند 5/ 78.

الثالث- أنه كان أعلم بأحوال الخيل وأمراضها وعيوبها. فكان يمتحنها ويمسح سوقها وأعناقها، حتى يعلم هل فيها ما يدل على المرض.
وقال: فهذا التفسير الذي ذكرناه ينطبق عليه لفظ القرآن انطباقا مطابقا موافقا.
ولا يلزمنا نسبة شيء من تلك المنكرات والمحذورات.
قال: وأنا شديد التعجب من الناس كيف قبلوا هذه الوجوه السخيفة. مع أن العقل والنقل يردها. وليس لهم في إثباتها شبهة فضلا عن حجة فإن قيل: إن الجمهور فسروا الآية بذلك الوجه، فما قولك فيه؟ فنقول: لنا هاهنا مقامان:
المقام الأول- أن ندعي أن لفظ الآية لا يدل على شيء من تلك الوجوه التي يذكرونها. وقد ظهر، والحمد لله، أن الأمر كما ذكرناه، وظهوره لا يرتاب العاقل فيه.
المقام الثاني- أن يقال: هب أن لفظ الآية لا يدل عليه، إلا أنه كلام ذكره الناس. فما قولك فيه؟ وجوابنا أن الأدلة الكثيرة قامت على عصمة الأنبياء عليهم السلام. ولم يدل دليل على صحة هذه الحكايات. ورواية الآحاد لا تصلح معارضة للدلائل القوية، فكيف الحكايات عن أقوام لا يبالي بهم ولا يلتفت إلى أقوالهم؟
والله أعلم. انتهى كلام الرازي.
وسبقه ابن حزم حيث قال: تأويل الآية على أنه قتل الخيل إذ اشتغل بها عن الصلاة. خرافة موضوعة مكذوبة سخيفة باردة. قد جمعت أفانين من القول، لأن فيها معاقبة خيل لا ذنب لها، والتمثيل بها. وإتلاف مال منتفع به بلا معنى. ونسبة تضييع الصلاة إلى نبي مرسل، ثم يعاقب الخيل على ذنبه لا على ذنبها. وإنما معنى الآية أنه أخبر أنه أحب حب الخير. من أجل ذكر ربه حتى توارت الشمس أو تلك الصافنات بحجابها. ثم أمر بردها. فطفق مسحا بسوقها وأعناقها بيده، برا بها وإكراما لها، هذا هو ظاهر الآية الذي لا يحتمل غيره. وليس فيها إشارة أصلا إلى ما ذكروه من قتل الخيل وتعطيل الصلاة. وكل هذا قد قاله ثقات المسلمين. فكيف ولا حجة في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ انتهى كلام ابن حزم.
وأقول: الذي يتجه أن هذه القصة أشير بها إلى نبأ لديهم. لأن التنزيل الكريم مصدق الذي بين يديه. إلا أن له الهيمنة عليه. فما وقف فيه على حد من أنباء ما بين يديه، يوقف عنده ولا يتجاوز. وحينئذ، فالقصة المعروفة عندهم هي التي أشير إليها. لكن مع الهيمنة عليها، إذ لا تقبل على علاتها. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 34]
ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب (34)
ولقد فتنا سليمان أي ابتليناه وألقينا على كرسيه جسدا أي جسما مجسدا كناية عن صنم- على ما رووه- وإنما أوثر الجسد عليه- إجلالا لسليمان عليه السلام، وإشارة إلى أن قصته- إن صحت- كانت أمرا عرض وزال، بدليل قوله تعالى: ثم أناب أي إلى ربه بالتوبة والاستغفار، كما بينه بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 35]
قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب (35)
قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي أي غيري، لفخامته وعظمته، هبة فضل وإيثار امتنان إنك أنت الوهاب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 36]
فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب (36)
فسخرنا له الريح أي فذللناها لطاعته إجابة لدعوته تجري بأمره رخاء أي لينة سهلة، مع شدة وقوة، ولذا وصفت في الآية الأخرى ب عاصفة حيث أصاب أي أراد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 37]
والشياطين كل بناء وغواص (37)
والشياطين عطف على الريح كل بناء وغواص أي في قعر البحر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 38]
وآخرين مقرنين في الأصفاد (38)
وآخرين مقرنين في الأصفاد أي مسلسلين في الأغلال لا يبعثهم إلى عمل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 39]
هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب (39)
هذا عطاؤنا فامنن أي على من شئت من المقرنين وغيرهم أو أمسك أي
امنع بغير حساب أي غير محاسب على المن والإمساك، فيكون حالا من المستكن، أو هو حال من العطاء، أو صلة له، وما بينهما اعتراض. والمعنى: إنه عطاء جم لا يكاد يمكن حصره. فقد يعبر عن الكثير ب (لا يعد) و (لا يحسب) ونحوه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 40]
وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب (40)
وإن له عندنا لزلفى أي لقربى في الدرجات، وو حسن مآب أي مرجع في الآخرة.
تنبيه:
روى الأثريون هاهنا قصصا مطولة ومختصرة، مؤتلفة ومختلفة. قال ابن كثير:
وكلها متلقاة من أهل الكتاب، وفيهم طائفة لا يعتقدون نبوة سليمان عليه الصلاة والسلام، فالظاهر أنهم يكذبون عليه ولهذا كان في سياقها منكرات. وتقوية ابن حجر لبعض منها بأنه خرجه النسائي بإسناد قوي- لا عبرة له. فليس المقام قاصرا على صحة السند فحسب، لو كان ذلك في الصحيحين، فإنى بمروي غيرهما؟؟
وذكر الرازي أن القصص المروية هنا هي لأهل الحشو من تأويلهم، وأما أهل التحقيق فلهم تأويلات، وقد ساقها فانظرها.
وقال الإمام ابن جزم: معنى قوله تعالى: فتنا سليمان أي آتيناه من الملك ما اختبرنا به طاعته، كما قال تعالى مصدقا لموسى عليه السلام في قوله: إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء إذ من الفتنة ما يهدي الله بها من يشاء وقال تعالى: الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين [العنكبوت:
1-
3]
فهذه الفتنة هي الاختبار حتى يظهر المهتدي من الضال، فهذه فتنة الله تعالى لسليمان إنما هي اختباره حتى ظهر فضله فقط. وما عدا هذا خرافات ولدها زنادقة اليهود وأشباههم. وأما الجسد الملقى على كرسيه فقد أصاب الله تعالى به ما أراد. نؤمن بهذا كما هو، ونقول (صدق الله عز وجل، كل من عند الله ربنا) ولو جاء نص صحيح في القرآن أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتفسير هذا الجسد ما هو، لقلنا به، فإذا لم يأت بتفسيره ما هو نص ولا خبر صحيح. فلا يحل لأحد القول بالظن الذي هو أكذب الحديث في ذلك، فيكون كاذبا على الله عز وجل، إلا أننا لا نشك

البتة في بطلان قول من قال إنه كان جنيا تصور بصورته، بل نقطع على أنه كذب.
والله تعالى لا يهتك ستر رسوله صلى الله عليه وسلم هذا الهتك، وكذلك نبعد في قول من قال إنه كان ولدا له، أرسله إلى السحاب ليربيه. فسليمان عليه السلام كان أعلم من أن يربي ابنه بغير ما طبع الله عز وجل بنية البشر عليه من اللبن والطعام. وهذه كلها خرافات موضوعة مكذوبة، لم يصح إسنادها قط. انتهى.
وزعم القاشاني أن حكاية الجني والخاتم مع سليمان، هي من موضوعات حكماء اليهود، كسائر ما وضعت الحكاء في تمثيلاتهم من حكايات أبسال وسلامان.
ثم أخذ القاشاني في تأويلها، إلا أنه حل الإشكال بإشكال أعظم منه، عفا الله عنه، وقال قبل: إن صحت الحكاية في مطابقتها للواقع، كان قد ابتلي بمثل ما ابتلي به ذو النون وآدم عليهما السلام، انتهى والله أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 41]
واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب (41)
واذكر أي في باب الابتلاء وحسن عاقبة الصبر عليه عبدنا أي الكامل في التحقق بالعبودية أيوب إذ نادى ربه أي دعاه وابتهل إليه قائلا أني مسني أي أصابني الشيطان بنصب أي مشقة (بضم النون وفتحها مع سكون الصاد، وبفتحهما وضمهما) وعذاب أي ألم شديد. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 42]
اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب (42)
اركض برجلك حكاية لما أجيب به دعاؤه عليه السلام. أي: فاستجبنا له وقلنا: اركض برجلك. أي أعد بها وامش، فقد برأت وشفيت من مرضك. وقوي جسمك وصح بدنك هذا مغتسل بارد وشراب أي ماء تغتسل به وتشرب منه.
والإشارة إلى عين أو نهر أو نحوهما.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 43]
ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب (43)
ووهبنا له أهله بأن جمعناهم عليه بعد تفرقهم ومثلهم معهم رحمة منا
أي ترحما منا عليه بهذا الإضعاف والمباركة وذكرى لأولي الألباب أي وتذكيرا لهم لينتظروا الفرج بالصبر والنوال بصدق الاتكال.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 44]
وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب (44)
وخذ بيدك ضغثا أي حزمة صغيرة فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرا أي في كل ما ابتليناه به نعم العبد إنه أواب أي كثير الرجوع إلى الله تعالى، بالإنابة والابتهال والعبادة.
تنبيهات:
الأول- كان أيوب عليه السلام نبيا غنيا من أرباب العقار والماشية، وكان أميرا في قومه. وكانت أملاكه ومنزله في الجنوب الشرقي من البحر الميت، بين بلاد أدوم وصحراء العربية. وكانت إذ ذاك خصيبة رائعة التربة كثيرة المياه المتسلسلة.
وكان زمنه بعد زمن إبراهيم وقبل زمن موسى عليهم السلام. هذا ما حققه بعض الباحثين. والله أعلم.
الثاني- يذكر كثير من المفسرين هاهنا مرويات وقصصا إسرائيلية في ابتلائه عليه السلام. ولا وثوق من ذلك كله إلا بمجمله. وهو ما أشار له التنزيل الكريم لأنه المتيقن. وهو أنه عليه الصلاة والسلام أصابته بلوى عظيمة في نفسه وماله وأهله.
وأنه صبر على ذلك صبرا صار يضرب به المثل لثباته وسعة صدره وشجاعته. وأنه جوزي بحسنة صبره أضعافها المضاعفة.
الثالث- قال الزمخشري: فإن قلت: لم نسب المس إلى الشيطان ولا يجوز أن يسلطه الله على أنبيائه، ليقضي من إتعابهم وتعذيبهم وطره، ولو قدر على ذلك لم يدع صالحا إلا وقد نكبه وأهلكه. وقد تكرر في القرآن أنه لا سلطان له إلا الوسوسة فحسب؟
قلت: لما كانت وسوسته إليه، وطاعته له فيما وسوس، سببا فيما مسه الله به من النصب والعذاب- نسبه إليه. وقد راعى الأدب في ذلك حيث لم ينسبه إلى الله في دعائه، مع أنه فاعله ولا يقدر عليه إلا هو. وقيل: أراد ما كان يوسوس به إليه في مرضه من تعظيم ما نزل به من البلاء، ويغريه على الكراهة والجزع، فالتجأ إلى الله تعالى في أن يكفيه ذلك بكشف البلاء، أو بالتوفيق في دفعه ورده بالصبر الجميل. انتهى.
الرابع- دل قوله تعالى: وخذ بيدك ضغثا الآية، على تقدم يمين منه عليه السلام. وقد رووا هنا آثارا في المحلوف عليه، لم يصح منها شيء، فالله أعلم به ولا ضرورة لبيانه. إذ القصد الإعلام برحمة أخرى ونعمة ثانية عليه، صلوات الله عليه. وهي الدلالة إلى المخرج من الحنث، برخصة وطريقة سهلة سمحة ترفع الحرج. ونحن نورد هنا أمثل ما كتب في الآية، إيقافا للقارئ عليه، قال السيوطي في (الإكليل) : أخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن عباس وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وغيرهم أن أيوب حلف ليجلدن امرأته مائة جلد. فلما كشف الله عنه البلاء أمر أن يأخذ ضغثا فيضربها به. فأخذ شماريخ مائة ثم ضربها ضربة واحدة. قال سعيد بن جبير: وهي لهذه الأمة لمن حلف على مثل ما حلف عليه أيوب. ثم أخرج أيضا عن عطاء قال: هي للناس عامة. وعن مجاهد قال: كانت لأيوب خاصة قال الكيا الهراسي: ذهب الشافعي وأبو حنيفة وزفر، إلى أن من فعل ذلك فقد بر في يمينه، وخالف مالك ورآه خاصا بأيوب.
قال: وفي الآية دليل على أن للزوج ضرب زوجته، وأن يحلف ولا يستثني.
انتهى.
واستدل بهذه الآية على أن الاستثناء شرطه الاتصال. إذ لو لم يشترط لأمره تعالى بالاستثناء ولم يحتج إلى الضرب بالضغث. واستدل عطاء بالآية على مسألة أخرى. فأخرج سعيد بن منصور عنه بسند صحيح أن رجلا قال له: إني أردت أن لا أكسي امرأتي ذراعا حتى تقف بعرفة. فقال: احملها على حمار ثم اذهب فقف بها بعرفة. فقال: إنما عنيت يوم عرفة. فقال عطاء: وأيوب حين حلف ليجلدن امرأته مائة جلدة، ما نوى أن يضربها بالضغث، إنما أمره الله أن يأخذ ضغثا فيضربها به.
قال عطاء: إنما القرآن عبر. انتهى كلام (الإكليل) .
وقد رد الإمام ابن القيم في كتابه (إغاثة اللهفان) الاستدلال بهذه الآية على جواز الحيلة. وعبارته: وأما قوله تعالى لأيوب عليه السلام وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث فمن العجب أن يحتج بهذه الآية على من يقول: إنه لو حلف ليضربنه عشرة أسواط فجمعها وضربه بها ضربة واحدة لم يبر في يمينه، هذا قول أصحاب أبي حنيفة ومالك وأصحاب أحمد. وقال الشافعي: إن علم أنها مسته كلها، بر في يمينه. وإن علم أنها لم تمسه، لم يبر. وإن شك لم يحنث. ولو كان هذا موجبا لبر الحالف، لسقط عن الزاني والقاذف والشارب بعدد الضرب، بأن يجمع له مائة سوط
أو ثمانين ويضربه بها ضربة واحدة. وهذا إنما يجري في المرض كما قال الإمام أحمد، في المريض عليه الحد، ويضرب بعثكال يسقط عنه الحد. واحتج بما
رواه عن أبي أمامة بن سهل، عن سعيد بن سعد بن عبادة «1» قال: كان بين أبنائنا إنسان مخدج ضعيف، لم يرع أهل الدار إلا وهو على أمة من إماء الدار يخبث بها. وكان مسلما. فرفع شأنه سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: اضربوه حده، قالوا: يا رسول الله! إنه أضعف من ذلك إن ضربناه مائة قتلناه. فقال: فخذوا له عثكالا فيه مائة شمراخ فاضربوه ضربة واحدة، وخلوا سبيله.
وأما قصة أيوب فلها فقه دقيق. فإن امرأته كانت لشدة حرصها على عافيته وخلاصه من دائه، تلتمس له الدواء بما تقدر عليه، فلما لقيها الشيطان وقال ما قال، أخبرت أيوب عليه السلام بذلك، فقال: إنه الشيطان. ثم حلف لئن شفاه الله تعالى ليضربنها مائة سوط فكانت معذورة محسنة في شأنه، ولم يكن في شرعهم كفارة.
فإنه لو كان في شرعهم كفارة، لعدل إلى التفكير، ولم يحتج إلى ضربها. فكانت اليمين موجبة عندهم كالحدود. وقد ثبت أن المحدود إذا كان معذورا خفف عنه، بأن يجمع له مائة شمراخ أو مائة سوط فيضرب بها ضربة واحدة. وامرأة أيوب كانت معذورة، لم تعلم أن الذي خاطبها الشيطان، وإنما قصدت الإحسان. فلم تكن تستحق العقوبة، فأفتى الله نبيه أيوب عليه السلام أن يعاملها معاملة المعذور، هذا مع رفقها به وإحسانها إليه فجمع له بين البر في يمينه والرفق بامرأته المحسنة المعذورة، التي لا تستحق العقوبة. فظهر موافقة نص القرآن في قصة أيوب عليه السلام، لنص السنة، في شأن الضعيف الذي زنى. فلا يتعدى بهما عن محلهما.
فإن قيل: فقولوا هذا في نظير ذلك ممن حلف ليضربن امرأته أو أمته مائة، وكانتا معذورتين لا ذنب لهما، إنه يبر بجمع ذلك في ضربها بمائة شمراخ. قيل: قد جعل الله له مخرجا بالكفارة، ويجب عليه أن يكفر يمينه، ويقضي الله بالبر في يمينه هاهنا، ولا يحل له أن يبر فيها، بل بره فيها هو حنثه مع الكفارة. ولا يحل له أن يضربها لا مفرقا ولا مجموعا.
فإن قيل: فإذا كان الضرب واجبا كالحد، هل تقولون ينفعه ذلك؟ قيل: إما أن يكون العذر مرجو الزوال كالحر والبرد الشديد، والمرض اليسير، فهذا ينتظر زواله.
(1)
أخرجه في المسند 5/ 222.

ثم يحد الحد الواجب. كما
روى مسلم «1» في صحيحه عن علي رضي الله عنه، أن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت. فأمرني أن أجلدها. فأتيتها فإذا هي حديثة عهد بنفاس.
فخشيت إن جلدتها أن أقتلها، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: أحسنت.
اتركها حتى تماثل.
انتهى كلام ابن القيم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 45]
واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار (45)
واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار أي ذوي القوة في العبادة والأفكار في معرفة الله تعالى. قال القاشاني: أي العمل والعلم، لنسبة الأول إلى الأيدي والثاني إلى البصر والنظر، وهم أرباب الكمالات العملية والنظرية.
قال الشهاب: (الأيدي) مجاز عن القوة، مجاز مرسل. و (الأبصار) جمع بصر بمعنى بصيرة. وهو مجاز أيضا، لكنه مشهور فيه. وإذا أريد ب (الأيدي) الأعمال، فهو من ذكر السبب وإرادة المسبب. و (الأبصار) بمعنى البصائر مجاز عما يتفرع عليها من المعارف كالأول أيضا. وعلى الوجهين، فيه تعريض بأن من ليس كذلك، كان لا جارحة له ولا بصر. انتهى.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #524  
قديم 25-02-2025, 04:24 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,753
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ ص
المجلد الرابع عشر
صـ 5111 الى صـ 5120
الحلقة (524)








القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 46]
إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار (46)
إنا أخلصناهم أي صفيناهم عن شوب صفات النفوس وكدورة حظوظا.
وجعلناهم لنا خالصين بالمحبة الحقيقية بخالصة ذكرى الدار أي الباقية والمقر الأصلي، أي استخلصناهم لوجهنا بسبب تذكرهم لعالم القدس، وإعراضهم عن معدن الرجس، مستشرفين لأنوارنا، لا التفات لهم إلى الدنيا وظلماتها أصلا.
لطيفة:
قال السمين: قرأ نافع وهشام: بخالصة ذكرى الدار بالإضافة. وفيها أوجه:
أحدها- أن يكون أضاف خالصة إلى ذكرى للبيان. لأن الخاصة قد تكون ذكرى وغير ذكرى. كما قوله: بشهاب قبس [النمل: 7] ، لأن الشهاب يكون قبسا وغيره.
الثاني- أن الخالصة مصدر بمعنى إخلاص، فيكون مصدرا مضافا لمفعوله، والفاعل
(1)
أخرجه في: الحدود، حديث رقم 34.

محذوف، أي بأن أخلصوا ذكر الدار وتناسوا عند ذكرها ذكر الدنيا. وقد جاء المصدر على (فاعلة) كالعاقبة. أو يكون المعنى بأن أخلصنا نحن لهم ذكرى الدار.
وقرأ الباقون بالتنوين وعدم الإضافة. وفيها أوجه: أحدها- أنها مصدر بمعنى الإخلاص، فيكون (ذكرى) منصوبا به، وأن يكون بمعنى الخلوص، فيكون (ذكرى) مرفوعا به، والمصدر يعمل منونا كما يعمل مضافا. أو يكون (خالصة) اسم فاعل على بابه. و (ذكرى) بدل أو بيان لها أو منصوب بإضمار (أعني) أو هو مرفوع على إضمار مبتدأ، و (الدار) يجوز أن يكون مفعولا به ب (ذكرى) وأن يكون ظرفا إما على الاتساع وإما على إسقاط الخافض. و (خالصة) إن كانت صفة، فهي صفة لمحذوف. أي بسبب خصلة خالصة. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : الآيات 47 الى 48]
وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار (47) واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار (48)
وإنهم عندنا لمن المصطفين أي المختارين من أبناء جنسهم لقربنا الأخيار أي المنزهين عن شوائب الشرور. على أنه جمع (خير) مقابل (شر) الذي هو أفعل تفضيل. أو هو جمع (خير) المشدد أو المخفف منه واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار أي بالنبوة والرسالة، للهداية والإصلاح.
و (اليسع) خليفة إلياس وكان خادمه. ويقال له بالعبرانية (اليشاع) كما يسمى إلياس فيها (إيليا) ، وفي التوراة نبأ طويل عن اليسع ونبوته ومعجزاته صلوات الله عليه.
وتقدم علم أنباء هؤلاء الأنبياء عليهم السلام، في سورة الأنبياء.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : الآيات 49 الى 50]
هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب (49) جنات عدن مفتحة لهم الأبواب (50)
هذا ذكر أي شرف لهم. و (الذكر) يتجوز به عنه. قال الشهاب: لأن الشرف يلزمه الشهرة والذكر بين الناس، فتجوز به عنه بعلاقة اللزوم. فيكون المعنى:
أي في ذكر قصصهم وتنويه الله بهم شرف لهم. واختار الزمخشري أن المعنى: هذا نوع من الذكر وهو القرآن. أي فالتنوين للتنويع. والمراد بالذكر القرآن. فذكره إنما هو للانتقال من نوع من الكلام إلى آخر.
قال الزمخشري: لما أجرى ذكر الأنبياء وأتمه، وهو باب من أبواب التنزيل،
ونوع من أنواعه، وأراد أن يذكر على عقبه بابا آخر، وهو ذكر الجنة وأهلها، قال هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب جنات عدن أي إقامة وخلود مفتحة لهم الأبواب أي متى جاءوها يرونها في انتظارهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 51]
متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب (51)
متكئين فيها أي على الأرائك يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب أي مهما طلبوا وجدوا، وأحضر كما أرادوا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 52]
وعندهم قاصرات الطرف أتراب (52)
وعندهم قاصرات الطرف أي لا ينظرن إلى غير أزواجهن. أو يمنعن طرف الأزواج أن تنظر للغير، لشدة الحسن. وهو أبلغ. أو بمعنى حور الطرف جمع (أحور) والثوب المقصور يشبه بالحواري في بياضه ونصاعته أتراب أي متساوية في السن والرتب، لا عجوز بينهن. جمع (ترب) بكسر فسكون. وهو من يولد معه في وقت واحد. كأنهما وقعا على التراب في زمان واحد. ف (ترب) فعل بمعنى مفاعل ومتارب. وكمثل بمعنى، مماثل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 53]
هذا ما توعدون ليوم الحساب (53)
هذا ما توعدون ليوم الحساب أي لوقت جزائه. واللام تعليلية. فإن ما وعده لأجل طاعتهم وأعمالهم الصالحة. وهي تظهر بالحساب وتقع بعده. فجعل كأنه علة لتوقف إنجاز الوعد عليه. فالنسبة لليوم والحساب مجازية. ولو جعلت اللام بمعنى (بعد) كما في (كتب لخمس) سلم مما ذكر. أفاده الشهاب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 54]
إن هذا لرزقنا ما له من نفاد (54)
إن هذا لرزقنا ما له من نفاد أي انقطاع.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : الآيات 55 الى 56]
هذا وإن للطاغين لشر مآب (55) جهنم يصلونها فبئس المهاد (56)
هذا أي باب في وصف الجنة وأهلها. فهو مبتدأ خبر مقدر. أو الأمر هذا.
فهو خبر لمحذوف. أو مفعول لمحذوف وإن للطاغين لشر مآب جهنم يصلونها فبئس المهاد أي الفراش. مستعار من فراش النائم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 57]
هذا فليذوقوه حميم وغساق (57)
هذا فليذوقوه حميم وغساق وهو ما يغسق من صديد أهل النار. أي يسيل وجملة فليذوقوه معترضة بين المبتدأ وخبره.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 58]
وآخر من شكله أزواج (58)
وآخر أي ومذوق، أو عذاب آخر من شكله أي هذا المذوق أو العذاب في الشدة والهوان أزواج أي أجناس وأصناف. ثم بين ما يقال للرؤساء الطاغين، إذا أدخلوا النار.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 59]
هذا فوج مقتحم معكم لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار (59)
هذا فوج مقتحم معكم أي هذا جمع من أتباعكم وأشباهكم، أهل طبائع السوء والرذائل المختلفة، مقتحم معكم في مضايق المذلة ومداخل الهوان.
والاقتحام ركوب الشدة والدخول فيها. وقوله لا مرحبا بهم دعاء من الرؤساء على أتباعهم. أو صفة ل (فوج) . أو حال. أي مقولا فيهم لا مرحبا بهم أي ما أتوا ربهم رحبا وسعة، لشدة عذابهم وكونهم في الضيق والضنك، واستيحاش بعضهم من بعض، لقبح المناظر وسوء المخابر إنهم صالوا النار أي داخلوها بأعمالهم مثلنا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 60]
قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا فبئس القرار (60)
قالوا أي الأتباع للرؤساء بل أنتم لا مرحبا بكم أي بل أنتم أحق بما
قلتم، لتضاعف عذابكم بضلالكم وإضلالكم أنتم قدمتموه لنا أي قدمتم العذاب بإضلالنا وإغوائنا.
قال القاشاني: وهذه المقاولات قد تكون بلسان المقال وقد تكون بلسان الحال. أي لأن الوضع لا يختص بالحقيقة. إلا أن الأظهر الأول. ويؤيده قوله تعالى بعد إن ذلك لحق تخاصم أهل النار فبئس القرار أي المستقر جهنم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 61]
قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار (61)
قالوا أي الأتباع أيضا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار كقوله تعالى: ربنا آتهم ضعفين من العذاب [الأحزاب: 68] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 62]
وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار (62)
وقالوا أي الطاغون أو الأتباع ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار يعنون فقراء المسلمين الذين يسترذلونهم ويسخرون بهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 63]
أتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الأبصار (63)
أتخذناهم سخريا قرئ بلفظ الإخبار على أنه صفة ل (رجالا) . وبهمزة الاستفهام على أنه إنكار على أنفسهم وتأنيب لها في الاستسخار منهم. وقوله تعالى: أم زاغت عنهم الأبصار أي مالت عنهم كبرا، وتنحت عنهم أنفة. والمعنى أي الفعلين فعلنا بهم، السخرية منهم أم الإزراء بهم، على معنى إنكار الأمرين على أنفسهم، تحسرا وندامة على ما فعلوا، وعلى ما حاق بهم وحدهم من سوء العذاب، وقيل (أم) بمعنى (بل) أي بل زاغت عنهم أبصارنا لخفاء مكانهم علينا في النار.
كأنهم يسلون أنفسهم بالمحال، يقولون: أو لعلهم معنا في جهنم ولكن لم يقع بصرنا عليهم. فعند ذلك يعرفون أنهم في الدرجات العاليات وهو قوله عز وجل ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا، قالوا نعم، فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين [الأعراف: 44] ، إلى قوله: ادخلوا الجنة [الأعراف: 49] ، الآية. وقيل: (أم)
بمعنى (بل) أيضا، أي بل زاغت عنهم أبصارنا لكونهم في دار أخرى وهي دار النعيم. وقرئ (سخريا) بضم السين وكسرها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 64]
إن ذلك لحق تخاصم أهل النار (64)
إن ذلك أي الذي حكي عنهم لحق تخاصم أهل النار أي لواقع وثابت.
وتخاصم بدل من (حق) أو خبر لمحذوف. وقرئ بالنصب على البدل من ذلك قال الزمخشري: فإن قلت: لم سمي ذلك تخاصما؟ قلت: شبه تقاولهم وما يجري بينهم من السؤال والجواب، بما يجري بين المتخاصمين من نحو ذلك. ولأن قول الرؤساء لا مرحبا بهم وقول أتباعهم بل أنتم لا مرحبا بكم من باب الخصومة. فسمي التقاول كله تخاصما، لأجل اشتماله على ذلك. انتهى.
فكتب الناصر عليه: هذا يحقق ما تقدم من أن قوله: لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار من قول المتكبرين الكفار. وقوله تعالى: بل أنتم لا مرحبا بكم من قول الأتباع. فالخصومة على هذا التأويل حصلت من الجهتين. فيتحقق التخاصم.
خلافا لمن قال إن الأول من كلام خزنة جهنم والثاني من كلام الأتباع. فإنه على هذا التقدير، إنما تكون الخصومة من أحد الفريقين. فالتفسير الأول أمكن وأثبت. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 65]
قل إنما أنا منذر وما من إله إلا الله الواحد القهار (65)
قل إنما أنا منذر أي رسول مخوف وما من إله إلا الله الواحد أي بلا ولد ولا شريك القهار أي الغالب على خلقه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 66]
رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار (66)
رب السماوات والأرض وما بينهما أي من الخلق والعجائب العزيز أي الذي لا يغلب إذا عاقب العصاة الغفار أي لمن تاب وأناب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 67]
قل هو نبأ عظيم (67)
قل هو أي الذي أنذرتكم به من التوحيد ومن البعثة به نبأ عظيم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 68]
أنتم عنه معرضون (68)
أنتم عنه معرضون لتمادي غفلتكم. فإن العاقل لا يعرض عن مثله. كيف وقد قامت عليه الحجج الواضحة. أما على التوحيد، فما مر من آثار قدرته وصنعه البديع. أما على بعثته صلى الله عليه وسلم به، فقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 69]
ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون (69)
ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون أي فإن إخباره عن محاورة الملائكة وما جرى بينهم، على ما ورد في الكتب المتقدمة، من غير سماع ومطالعة كتاب، لا يتصور إلا بالوحي.
قال القاشاني: وفرق بين اختصام الملأ الأعلى واختصام أهل النار بقوله في تخاصم أهل النار إن ذلك لحق وفي اختصام الملأ الأعلى إذ يختصمون لأن ذلك حقيقي لا ينتهي إلى الوفاق أبدا. وهذا عارضي نشأ من عدم اطلاعهم على كمال آدم عليه السلام، الذي هو فوق كمالاتهم. وانتهى إلى الوفاق عند قولهم سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا [البقرة: 32] ، وقوله تعالى: ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض [البقرة: 33] ، على ما ذكر في البقرة عند تأويل هذه القصة. انتهى.
وبالجملة، فالاختصام المذكور في الآية، هو المشار إليه في قوله تعالى: وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة [البقرة: 30] ، قال الرازي: وهو أحسن ما قيل فيه.
ثم قال: ولو قيل: كيف جازت مخاصمة الملائكة معه تعالى؟ قلنا: لا شك أنه جرى هناك سؤال وجواب. وذلك يشابه المخاصمة والمناظرة. والمشابهة علة لجواز المجاز. فلهذا السبب حسن إطلاق لفظ المخاصمة عليه. انتهى.
وملخصه: أن يختصمون استعارة تبعية ل (يتقاولون) . وقيل: معنى الآية نفي علم الغيب عنه صلى الله عليه وسلم ورد اقتراحهم عليه أن يخبرهم بما يحدث في الملأ الأعلى من التخاصم، كقوله تعالى: قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب
[الأنعام: 50] ، وقوله تعالى: قل إنما العلم عند الله وإنما أنا نذير مبين [الملك: 26] ، ولذا قال بعد:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 70]
إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين (70)
إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين وقرئ إنما بالكسر على الحكاية.
تنبيهات:
الأول- قال الرازي: واعلم أن قوله أنتم عنه معرضون ترغيب في النظر والاستدلال، ومنع من التقليد. لأن هذه المطالب مطالب شريفة عالية، فإن بتقدير أن يكون الإنسان فيها على الحق، يفوز بأعظم أبواب السعادة، وبتقدير أن يكون الإنسان فيها على الباطل، وقع في أعظم أبواب الشقاوة. فكانت هذه المباحث أنباء عظيمة ومطالب عالية بهية. وصريح العقل يوجب على الإنسان أن يأتي فيها بالاحتياط التام، وأن لا يكتفي بالمساهلة والمسامحة.
الثاني- قدمنا أن أكثر المفسرين على تأويل الاختصام بالتقاول في شأن آدم عليه السلام مع الملائكة. وقيل: مخاصمتهم مناظرتهم بينهم في استنباط العلم.
كما تجري المناظرة بين أهل العلم في الأرض. حكاه الكرماني في (عجائبه) .
وذهب ابن كثير إلى أنه عنى به ما كان في شأن آدم عليه السلام، وامتناع إبليس من السجود له، ومحاجته ربه في تفضيله عليه. وإن قوله تعالى بعد وإذ قال ربك [البقرة: 30] ، تفسير له. ولم أره مأثورا عن أحد. بل المأثور عن ابن عباس وغيره ما تقدم، من أنه في شأن آدم والملائكة. وهذا كله على إثبات علم التخاصم بالوحي.
بتقدير (ما كان لي من علم لولا الوحي) ولا تنس القول الآخر. والنظم الكريم يصدق على الكل بلا تناف. والله أعلم.
وقد جاء ذكر تخاصم الملأ الأعلى في
حديث أخرجه الإمام أحمد «1» عن معاذ رضي الله عنه قال: احتبس علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة عن صلاة الصبح. حتى كدنا أن نتراءى قرن الشمس. فخرج صلى الله عليه وسلم سريعا. فثوب بالصلاة. فصلى وتجوز في صلاته. فلما سلم قال صلى الله عليه وسلم: كما أنتم. ثم أقبل إلينا فقال: إني قمت من الليل
(1)
أخرجه في المسند 5/ 243.

فصليت ما قدر لي. فنعست في صلاتي حتى استيقظت. فإذا أنا بربي عز وجل في أحسن صورة. فقال: يا محمد! أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري، يا رب! أعادها ثلاثا. فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين صدري:
فتجلى لي كل شيء وعرفت. فقال: يا محمد! فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: في الكفارات. قال: وما الكفارات؟ قلت: نقل الأقدام إلي الجماعات، والجلوس في المساجد بعد الصلوات، وإسباغ الوضوء عند الكريهات. قال: وما الدرجات؟ قلت:
إطعام الطعام، ولين الكلام، والصلاة والناس نيام. قال: سل. قلت: اللهم! إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لي وترحمني. وإذا أردت فتنة بقوم، فتوفني غير مفتون. وأسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقربني إلى حبك. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها حق فادرسوها وتعلموها.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #525  
قديم 25-02-2025, 04:28 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,753
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الزمر
المجلد الرابع عشر
صـ 5121 الى صـ 5130
الحلقة (525)






قال ابن كثير: هذا حديث المنام المشهور. ومن جعله يقظة فقد غلط. وهو في السنن من طرق. وهذا الحديث بعينه قد رواه الترمذي «1» من حديث جهضم بن عبد الله اليمامي به، وقال: حسن صحيح.
ثم قال ابن كثير: وليس هذا الاختصام المذكور في القرآن. فإن هذا قد فسر.
وأما الاختصام الذي في القرآن فقد فسر بعد هذا. انتهى. يعني قوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : الآيات 71 الى 72]
إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين (71) فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين (72)
إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين أي فخروا له ساجدين تعظيما وتكريما، إذا عدلت خلقته وأحييته بنفخ الروح فيه. (فإذا) بدل من (إذا) الأولى مفصل لما أجمل قبلها من الاختصام، وهذا ما رآه الزمخشري وتابعه ابن كثير. وقدر أبو البقاء (اذكر) وهو الأظهر عندي، ويعضده القول الثاني في الآية المتقدمة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : الآيات 73 الى 74]
فسجد الملائكة كلهم أجمعون (73) إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين (74)
(1)
أخرجه في: التفسير، 38- سورة ص، 4- حدثنا محمد بن بشار. []

فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس استكبر أي تعظم وكان من الكافرين أي باستكباره أمر الله تعالى، واستكباره عن طاعته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 75]
قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين (75)
قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أي بنفسي من غير توسط، كأب وأم أستكبرت أي: أعرض لك التكبر والاستنكاف أم كنت من العالين أي عليه زائدا في المرتبة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 76]
قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين (76)
قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين يعني أن الروح الحيواني الناري أشرف من المادة الكثيفة البدنية. وعاب عنه ما تضمنته من الحكمة الإلهية، واللطيفة الربانية حتى تمسك بالقياس، وعصى الله تعالى في السجود.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 77]
قال فاخرج منها فإنك رجيم (77)
قال فاخرج منها أي من الجنة أو السماء فإنك رجيم أي مطرود من الرحمة ومحل الكرامة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 78]
وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين (78)
وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين قال القاشاني: الرجيم واللعين من بعد عن الحضرة القدسية، المنزهة عن المواد الرجسية، بالانغماس في الغواشي الطبيعية، والاحتجاب بالكوائن الهيولانية. ولهذا وقت اللعن بيوم الدين. وحدد نهايته به، لأن وقت البعث والجزاء هو زمان تجرد الروح عن البدن ومواده. وحينئذ لا يبقى تسلطه على الإنسان. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : الآيات 79 الى 83]
قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون (79) قال فإنك من المنظرين (80) إلى يوم الوقت المعلوم (81) قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين (82) إلا عبادك منهم المخلصين (83)
قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم وهو القيامة الكبرى قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين وهم الذين أخلصهم الله لنفسه من أهل العناية عن ثوب الكدورات النفسية وحجب الأنانية، وصفي فطرتهم عن خلط ظلمة النشأة البشرية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 84]
قال فالحق والحق أقول (84)
قال فالحق والحق أقول جملة معترضة، للتأكيد، أي ولا أقول إلا الحق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : الآيات 85 الى 86]
لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين (85) قل ما أسئلكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين (86)
لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين أي تبعك في التعزز والاستكبار والإباء عن الحق والمحاجة في الباطل قل ما أسئلكم عليه من أجر أي على القرآن أو الوحي. قال القاشاني: أي لا غرض لي في ذلك. فإن أقوال الكامل المحقق بالحق مقصودة بالذات، غير معلولة بالغرض وما أنا من المتكلفين قال الزمخشري: أي المتصنعين الذين يتحلون بما ليسوا من أهله، وما عرفتموني قط متصنعا ولا مدعيا ما ليس عندي، حتى أنتحل النبوة وأدعي القرآن.
تنبيه:
في الآية ذم التكليف. وقد روى الشيخان «1» عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: يا أيها الناس! من علم شيئا فليقل به، ومن لم يعلم فليقل الله أعلم. فإن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم: الله أعلم. فإن الله عز وجل قال لنبيكم صلى الله عليه وسلم
(1)
أخرجه البخاري في: التفسير، 38- صورة ص، 3- باب وما أنا من المتكلفين، حديث 570.

وأخرجه مسلم في: صفات المنافقين وأحكامهم، حديث رقم 39 و 40.
قل ما أسئلكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : الآيات 87 الى 88]
إن هو إلا ذكر للعالمين (87) ولتعلمن نبأه بعد حين (88)
إن هو إلا ذكر للعالمين أي عظة وتذكير لهم. وهذا كقوله لأنذركم به ومن بلغ [الأنعام: 19] ، وقوله سبحانه ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده [هود: 17] ، ولتعلمن نبأه بعد حين أي عند ظهور الإسلام وانتشاره، ودخول الناس فيه أفواجا أفواجا، من صحة خبره، وإنه الحق والصدق. وهذا من أجل معجزات القرآن، لأنه من الغيوب التي ظهر مصداقها، إذ كان زمن الإخبار به زمن قلة من المؤمنين، وخوف من المشركين. فلم يمض ردح من الزمن حتى أبدل الله قلتهم كثرة، وضعفهم قوة، وخوفهم أمنا، وكمونهم ظهورا وانتشارا. فصدق الله العظيم، وصدق نبيه الكريم، وحقت كلمة الله على الكافرين، والحمد لله رب العالمين.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الزمر
سميت بها لاشتمالها على الآية التي ذكر فيها زمر الفريقين، المشيرة إلى تفصيل الجزاء وإلزام الحجة وبطلان المعذرة. وهذا من أعظم مقاصد القرآن. قاله المهايمي. وهي مكية، واستثنى بعضهم ثلاث آيات قل يا عبادي [الزمر: 53] ، إلخ ذهابا إلى أنها نزلت في وحشي قاتل حمزة على ما روي. قيل، ورابعة وهي الله نزل أحسن الحديث [الزمر: 23] ، حكاه ابن الجوزي، وتقدم الكلام في مثل هذا.
وآياتها خمس وسبعون.
أخرج النسائي «1» عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم حتى نقول ما يريد أن يفطر. ويفطر حتى نقول ما يريد أن يصوم.
وكان صلى الله عليه وسلم يقرأ في كل ليلة بني إسرائيل والزمر.
(1)
أخرجه في: الصيام، 34- باب الاختلاف على محمد بن إبراهيم فيه.

القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : آية 1]
بسم الله الرحمن الرحيم
تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم (1)
تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم أي هذا تنزيل. أو تنزيله كائن من الله.
وقرئ تنزيل بالنصب على إضمار فعل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : آية 2]
إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين (2)
إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين أي عن شعوب الشرك والرياء، بإمحاض التوحيد وتصفية السر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : آية 3]
ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار (3)
ألا لله الدين الخالص أي الذي وجب اختصاصه بأن يخلص له الطاعة من كل شائبة، لانفراده بالألوهية والذين اتخذوا من دونه أولياء أي بالمحبة. للتقرب والتوسل بهم إلى الله تعالى ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى أي يقولون ذلك احتجاجا على ضلالهم إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون أي عند حشر معبوداتهم معهم، فيقرن كلا منهم مع من يتولاه، من عابد ومعبود. ويدخل المبطل النار مع المبطلين، كما يدخل المحق الجنة مع المحقين إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار لا يوصله إلى النجاة ومقر الأبرار.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : آية 4]
لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار (4)
لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار أي نزهه عن المماثلة والمجانسة. واصطفاء الولد. لكون الوحدة لازمة لذاته وقهره بوحدانيته لغيره. فلا تماثل في الوجود، فكيف في الوجوب؟
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : الآيات 5 الى 6]
خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفار (5) خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون (6)
خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل أي بإذهاب أحدهما وتغشية الآخر مكانه. كأنما ألبسه ولف عليه وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى وهو منتهى دوره، أو منقطع حركته ألا هو العزيز الغفار خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها أي من نفسها ونوعها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج أي ذكرا وأنثى. من الإبل والبقر والضأن والمعز يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق أى متقلبين في أطوار الخلقة في ظلمات ثلاث يعني البطن والرحم والمشيمة ذلكم أي الخالق لصوركم. المكور أي المصرف بقدرته، المسخر بسلطانه، المنشي للكثرة من نفس واحدة بحكمته، المنزل للنعم بنعمته الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون أي عن عبادته إلي عبادة غيره.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : آية 7]
إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون إنه عليم بذات الصدور (7)
إن تكفروا فإن الله غني عنكم أي عن إيمانكم ولا يرضى لعباده الكفر أي لأنه سبب هلاكهم وإن تشكروا يرضه لكم أي وإن تستعملوا ما أنعم به عليكم فيما خلق له، يقبله منكم، لأنه دينه، ويثيبكم ثوابا حسنا لطاعتكم.
تنبيه:
في الإكليل: استدل بقوله تعالى: ولا يرضى لعباده الكفر على أنه تعالى لا يرضى الكفر والمعاصي. وعلى أن الرضا غير الإرادة. وهو أحد قولي أهل السنة.
والقول الثاني وحكاه الآمدي عن الجمهور، أن الرضا والإرادة سيان، وحملوا (العباد) في الآية على المخلصين. ولا تزر وازرة وزر أخرى أي لا تحمل حاملة حمل أخرى، أي ما عليها من الذنوب، أو لا تؤخذ نفس بذنب أخرى، بل كل مأخوذ بذنبه ثم إلى ربكم مرجعكم أي بعد الموت فينبئكم بما كنتم تعملون إنه عليم بذات الصدور أي بما في القلوب من الخير والشر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : الآيات 8 الى 9]
وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعوا إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار (8) أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب (9)
وإذا مس أي أصاب الإنسان ضر أي شدة وبلاء دعا ربه منيبا إليه أي ابتهل إليه برفع الشدة والبلاء عنه، مقبلا إليه بالدعاء والتضرع ثم إذا خوله أي أعطاه نعمة منه نسي ما كان يدعوا إليه من قبل أي نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه من قبل النعمة. وقيل: نسي ربه الذي كان يتضرع إليه ويبتهل إليه. ف (ما) بمعنى (من) أقيمت مقامها لقصد الدعاء الوصفي، ولما في (ما) من الإبهام والتفخيم، وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله أي يصد الناس عن دينه وطاعته قل تمتع بكفرك أي عش به قليلا أي يسيرا في الدنيا إنك من أصحاب النار أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما أي متعبدا في ساعاته يقطعها في السجود والقيام يحذر الآخرة أي عقابها ويرجوا رحمة ربه أي جنته ورضوانه، أي: أهذا أفضل أم ذاك الكافر الجاحد الناسي لربه؟ قل هل يستوي الذين يعلمون أي توحيده وأمره ونهيه في الثواب والطاعة والذين لا يعلمون أي لا يستويان.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #526  
قديم 25-02-2025, 04:32 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,753
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الزمر
المجلد الرابع عشر
صـ 5131 الى صـ 5140
الحلقة (526)







تنبيهات:
الأول- في الآية استحباب قيام الليل. قال ابن عباس: آناء الليل: جوف الليل.
وقال الحسن: ساعاته أوله ووسطه وآخره.
الثاني- في قوله تعالى: يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه رد على من ذم العبادة خوفا من النار أو رجاء الجنة.
وقال صلى الله عليه وسلم (حولها ندندن) » .
الثالث- في قوله تعالى: هل يستوي الآية مدح العلم ورفعة قدره. وذم الجهل ونقصه. وقد يستدل به على أن الجاهل لا يكافئ العالمة، كما أنه لا يكافئ بنت العالم، أفاده في (الإكليل) .
وفي الآية أيضا إشعار بأن الذين يعلمون هم العاملون بعلمهم، إذ عبر عنهم أولا ب (القانت) ثم نفى المساواة بينه وبين غيره، ليكون تأكيدا له، وتصريحا بأن غير العالم كأن ليس بعالم.
قال القاشاني: وإنما كان المطيع هو العالم، لأن العلم هو الذي رسخ في القلب وتأصل بعروقه في النفس، بحيث لا يمكن صاحبه مخالفته، بل سيط باللحم والدم، فظهر أثره في الأعضاء لا ينفك شيء منها عن مقتضاه، وأما المرتسم في حيز التخيل، بحيث يمكن ذهول النفس عنه وعن مقتضاه، فليس بعلم. إنما هو أمر تصوري وتخيل عارض لا يلبث، بل يزول سريعا. لا يغذو القلب ولا يسمن ولا يغني من جوع إنما يتذكر أي يتعظ بهذا الذكر أولوا الألباب أي العقول الصافية عن قشر التخيل والوهم، لتحققها بالعلم الراسخ الذي يتأثر به الظاهر. وأما المشوبة بالوهم فلا تتذكر ولا تتحقق بهذا العلم ولا تعيه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : آية 10]
قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب (10)
قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة أي للذين أحسنوا بالطاعات في الدنيا، مثوبة حسنة في الآخرة، لا يكتنه كنهها وأرض الله واسعة أي بلاده كثيرة. فمن تعسر عليه التوفر على الإحسان في وطنه، فليهاجر إلى حيث يتمكن منه. قال الشهاب: وجه إفادة هذا التركيب هذه المعاني الكثيرة.
أوضحه شراح الكشاف بأن قوله: للذين أحسنوا مستأنف لتعليل الأمر بالتقوى،
(1)
أخرجه أبو داود في: الصلاة، 124- باب في تخفيف الصلاة، حديث رقم 792، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

ولذا قيد بالظرف. لأن الدنيا مزرعة الآخرة، فينبغي أن يلقى في حرثها بذر المثوبات.
وعقب بهذه الجملة لئلا يعتذر عن التفريط بعدم مساعدة المكان، ويتعلل بعدم مفارقة الأوطان، فكان حثا على اغتنام فرصة الأعمار، وترك ما يعوق من حب الديار، والهجرة فيما اتسع من الأقطار، كما قيل:
إذا كان أصلي من تراب فكلها ... بلادي وكل العالمين أقاربي
انتهى. إنما يوفى الصابرون أي على مشاق الطاعة من احتمال البلاء.
ومهاجرة الأوطان لها أجرهم بغير حساب أي بغير مكيال. تمثيل للكثرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : آية 11]
قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين (11)
قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين أي عن الالتفات إلى غيره.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : آية 12]
وأمرت لأن أكون أول المسلمين (12)
وأمرت لأن أكون أول المسلمين أي وأمرت بذلك، لأجل أن أكون مقدمهم في الدنيا والآخرة. لأن إخلاصه صلى الله عليه وسلم أتم من إخلاص كل مخلص. وعلى هذا، فالأولية في الشرف والرتبة. أو لأنه أول من أسلم وجهه لله من أمته. فالأولية زمانية على ظاهرها. ويجوز أن تجعل اللام مزيدة. كما في (أردت لأن أفعل) فيكون أمرا بالتقدم في الإخلاص.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : الآيات 13 الى 14]
قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم (13) قل الله أعبد مخلصا له ديني (14)
قل إني أخاف إن عصيت ربي أي بترك الإخلاص له عذاب يوم عظيم قل الله أعبد أي أخصه بالعبادة مخلصا له ديني عن شوب الغير.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : آية 15]
فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين (15)
فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة أي أهلكوا أنفسهم بالضلال، وأهليهم بالإضلال. أو خسروا أنفسهم بالهلاك وأهليهم به أيضا. إن كانوا مثلهم، أو بفقدهم فقدا لا اجتماع بعده، إن كانوا من أهل الجنة ألا ذلك هو الخسران المبين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : آية 16]
لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون (16)
لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل أي أطباق من النار ذلك أي العذاب المتوعد به يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون أي بعدم التعرض لما يوجب السخط. قال الزمخشري: وهذه عظة من الله تعالى، ونصيحة بالغة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : الآيات 17 الى 19]
والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد (17) الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب (18) أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار (19)
والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها يعني الأوثان. و (فعلوت) للمبالغة وأنابوا إلى الله لهم البشرى أي بالثواب فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أي إيثارا للأفضل واهتماما بالأكمل. قال الزمخشري: أراد أن يكونوا نقادا في الدين، يميزون بين الحسن والأحسن والفاضل والأفضل. ويدخل تحته المذاهب واختيار أثبتها على السبك، وأقواها عند السبر، وأبينها دليلا وأمارة. وأن لا تكون في مذهبك كما قال القائل:
ولا تكن مثل عير قيد فانقادا
يريد المقلد. انتهى ويدخل تحته أيضا إيثار الأفضل من كل نوعين، اعتراضا.
كالواجب مع الندب. والعفو مع القصاص. والإخفاء مع الإبداء في الصدقة، وهكذا أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار أي أفأنت تنقذه منها؟ أي: لا يمكن إنقاذه أصلا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : الآيات 20 الى 21]
لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار وعد الله لا يخلف الله الميعاد (20) ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب (21)
لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار وعد الله لا يخلف الله الميعاد ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج أي يتم جفافه فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما أي فتاتا إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب أي لتذكيرا وتنبيها على أنه لا بد من صانع حكيم، وأن ذلك كائن عن تقدير وتدبير، لا عن تعطيل وإهمال. ويجوز أن يكون مثلا للدنيا كقوله تعالى: إنما مثل الحياة الدنيا [يونس: 24] ، واضرب لهم مثل الحياة الدنيا [الكهف: 45] ، أفاده الزمخشري.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : آية 22]
أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين (22)
أفمن شرح الله صدره للإسلام أي وسعه لتسليم الوجه إليه وحده، ولقبول دينه وشرعه بلطفه وعنايته وإمداده سبحانه فهو على نور من ربه أي على بينة ومعرفة. واهتداء إلى الحق. واستعارة النور للهدى والعرفان، شهيرة، كاستعارة الظلمة لضد ذلك. وخبر (من) محذوف دل عليه قوله تعالى: فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أي من قبول ذكره لشدة ميلها إلى اللذات البدنية، وإعراضها عن الكمالات القدسية، أو من أجل ذكره. ف (من) للتعليل والسببية.. وفيها معنى الابتداء لنشئها عنه. قال الشهاب: إذا (قيل قسا منه) فالمراد أنه سبب لقسوة نشأت منه. وإذا قيل (قسا عنه) فالمعنى أن قسوته جعلته متباعدا عن قبوله. وبهما ورد استعماله. وقد قرئ ب (عن) في الشواذ. لكن الأول أبلغ. لأن قسوة القلب تقتضي عدم ذكر الله.
وهو معناه إذا تعدى ب (عن) . وذكره تعالى مما يلين القلوب. فكونه سببا للقسوة، يدل على شدة الكفر الذي جعل سبب الرقة، سببا لقسوته أولئك في ضلال مبين أي عن طريق الحق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : آية 23]
الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد (23)
الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها أي يشبه بعضه بعضا. في الصحة والإحكام والبناء على الحق والصدق ومنفعة الخلق ووجوه الإعجاز مثاني جمع (مثنى) بمعنى مردد ومكرر، لما ثنى من قصصه وأنبائه وأحكامه وأوامره ونواهيه ووعده ووعيده ومواعظه تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم تمثيل لإفراط خشيتهم. أو حقيقة لتأثرهم عند سماع آياته وحكمه ووعيده، بما يرد على قلوبهم منها ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله أي بالانقياد والطاعة والسكينة لأمره ذلك أي الكتاب، أو الكائن من الخشية والرجاء هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله أي من زاغ قلبه فما له من هاد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : آية 24]
أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون (24)
أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة أي فمن يجعل وجهه وقاية لشدة العذاب ذلك اليوم، أي قائما مقامها في أنه أول ما يمسه المؤلم له. لأن ما يتقى به هو اليدان، وهما مغلولتان. ولو لم تغلا كان يدفع بهما عن الوجه، لأنه أعز أعضائه.
وقل: الاتقاء بالوجه كناية عن عدم ما يتقى به، لأن الوجه لا يتقى به. وخبر (من) محذوف كنظائره. أي: كمن أمن العذاب وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون أي: وباله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : آية 25]
كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون (25)
كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون أي لا يحتسبون أن الشر يأتيهم منها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : الآيات 26 الى 27]
فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون (26) ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون (27)
فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا أي الذل والصغار ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل أي بينا لهم في هذا القرآن، الذي هو دليل في نفسه من إعجازه، من كل مثل يحتاج إليه. من يستدل بنظره على حقيته وأحقيته لعلهم يتذكرون أي به ما يهمهم من أمور دينهم، وما يصلحهم من شؤون سعادتهم. فيفسروا المعقول بالمحسوس.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : آية 28]
قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون (28)
قرآنا عربيا غير ذي عوج أي مستقيما بريئا من التناقض والاختلاف لعلهم يتقون أي العذاب والخزي يوم الجزاء، بالاتقاء من الأفعال القبيحة والأخلاق الرديئة. والاعتقادات الفاسدة. ومن أجل تلك الأمثال. ما مثل به ليتقي من أعظم المخوفات، وهو الشرك، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : آية 29]
ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون (29)
ضرب الله مثلا أي للمشرك والموحد رجلين مملوكين رجلا فيه شركاء متشاكسون أي سيئوا الأخلاق، يتجاذبونه ويتعاورونه في مهماتهم المختلفة، لا يزال متحيرا متوزع القلب، لا يدري أيهم يرضي بخدمته، وعلى أيهم يعتمد في حاجته ورجلا سلما لرجل أي: خلص ملكه له، لا يتجه إلا إليه جهته، ولا يسير إلا لخدمته، فهمه واحد. وقلبه مجتمع هل يستويان مثلا أي: صفة وحالا. أي في حسن الحال وراحة البال؟ كلا. وهكذا حال من يثبت آلهة شتى. لا يزال متحيرا خائفا لا يدري أيهم يعبد، وعلى ربوبية أيهم يعتمد. وحال من لم يعبد إلا إلها واحدا. فهمه واحد. ومقصده واحد. ناعم البال. خافض العيش والحال. والقصد أن توحيد المعبود فيه توحيد الوجهة ودرء الفرقة. كما قال تعالى حكاية عن يوسف
عليه السلام أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار [يوسف: 39] ، الحمد لله قال أبو السعود: تقرير لما قبله من نفي الاستواء بطريق الاعتراض، وتنبيه للموحدين على أن ما لهم من المزية بتوفيق الله تعالى. وأنها نعمة جليلة موجبة عليهم أن يداوموا على حمده وعبادته. أو على أن بيانه تعالى بضرب المثل، أن لهم المثل الأعلى وللمشركين مثل السوء. صنع جميل ولطف تام منه عز وجل، مستوجب لحمده وعبادته. وقوله تعالى: بل أكثرهم لا يعلمون إضراب وانتقال من بيان عدم الاستواء على الوجه المذكور، إلى بيان أن أكثر الناس، وهم المشركون، لا يعلمون ذلك مع كمال ظهوره، فيبقون في ورطة الشرك والضلال، وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : آية 30]
إنك ميت وإنهم ميتون (30)
إنك ميت وإنهم ميتون تمهيد لما يعقبه من الاختصام يوم القيامة. وقرئ (مائت ومائتون) وقيل: كانوا يتربصون برسول الله صلى الله عليه وسلم موته. أي إنكم جميعا بصدد الموت.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : آية 31]
ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون (31)
ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم أي مالك أموركم تختصمون أي فتحتج أنت عليهم بأنك بلغتهم ما أرسلت به من الأحكام والمواعظ التي من جملتها ما في تضاعيف هذه الآيات. واجتهدت في الدعوة إلى الحق حق الاجتهاد، وهم قد لجوا في المكابرة والعناد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : آية 32]
فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين (32)
فمن أظلم ممن كذب على الله أي افترى عليه بنسبة الشريك والولد وكذب بالصدق أي بالأمر الذي هو عين الحق إذ جاءه أي حضر عنده دليله وبرهانه، فرفضه ورده على قائله، أي لا أحد من المتخاصمين أظلم ممن حاله ذلك. لأنه أظلم من كل ظالم أليس في جهنم مثوى للكافرين أي لهؤلاء الذين افتروا على الله سبحانه، وسارعوا إلى التكذيب بالحق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : آية 33]
والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون (33)
والذي جاء بالصدق وصدق به أي جاء بدليل التوحيد وآمن به فلم يعتد بشبهة تقابله، يعني النبي صلى الله عليه وسلم ومن تبعه أولئك هم المتقون أي الموصوفون بالتقوى التي هي أجل الرغائب. ولذا كان جزاؤهم أن يقيهم الله ما يكرهون، كما قال سبحانه:






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #527  
قديم 25-02-2025, 04:36 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,753
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الزمر
المجلد الرابع عشر
صـ 5141 الى صـ 5150
الحلقة (527)








القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : الآيات 34 الى 37]
لهم ما يشاؤن عند ربهم ذلك جزاء المحسنين (34) ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون (35) أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد (36) ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام (37)
لهم ما يشاؤن عند ربهم ذلك جزاء المحسنين أي الذين أحسنوا أعمالهم وأصلحوها ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون أليس الله بكاف عبده أي نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعصمه من كل سوء، ويدفع عنه كل بلاء في مواطن الخوف ويخوفونك بالذين من دونه يعني الأوثان التي عبدوها من دونه تعالى. وهذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما قالت له قريش: إنا نخاف أن تخبلك آلهتنا، ويصيبك مضرتها لعيبك إياها. كما قال قوم هود إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء [هود: 54] ، ومن يضلل الله أي من غفل عن كفايته تعالى وعصمته له عليه الصلاة والسلام. وخوفه بما لا ينفع ولا يضر أصلا: فما له من هاد ومن يهد الله فما له من مضل أي يصرفه عن مقصده، أو يصيبه بسوء يخل بسلوكه.
إذ لا راد لفضله ولا معقب لحكمه أليس الله بعزيز ذي انتقام أي ينتقم من أعدائه لأوليائه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : آية 38]
ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون (38)
ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله لما تقرر في الفطر والعقول من استيقان ذلك. ولوضوح الدليل عليه قل أي تبكيتا لهم أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته أي نفعه وخيره. كلا. فإنها لا تضر ولا تنفع قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون أي في جميع أمورهم، لا على غيره. لعلمهم بأن كل ما سواه تحت قهره.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : الآيات 39 الى 40]
قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون (39) من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم (40)
قل يا قوم اعملوا على مكانتكم أي حالتكم التي أنتم عليها، من العداوة ومناصبة الحق إني عامل أي على مكانتي، فحذف للاختصار، والمبالغة في الوعيد، والإشعار بأن حاله لا تزال تزداد قوة، بنصر الله عز وجل وتأييده. ولذلك توعدهم بكونه منصورا عليهم في الدارين، بقوله تعالى: فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم أي دائم. وقد أخزاهم الله يوم بدر ولعذاب الآخرة أشد وأبقى [طه: 127] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : آية 41]
إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل (41)
إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق أي لأجلهم ولأجل حاجتهم إليه وافتقارهم إلى بيان مراشدهم فمن اهتدى أي بدلائله فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها، وما أنت عليهم بوكيل أي لتجبرهم على الهدى. إذ ما عليك إلا البلاغ فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين [الحجر: 94] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : آية 42]
الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون (42)
الله يتوفى الأنفس حين موتها أي مفارقتها لأبدانها، بإبطال تصرفها فيها بالكلية والتي لم تمت في منامها أي ويتوفى التي لم يحن موتها في منامها، بإبطال تصرفها بالحواس الظاهرة فيمسك التي قضى عليها الموت أي فلا يردها إلى بدنها إلى يوم القيامة ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى أي وهو نوم آخر أو موت إن في ذلك أي فيما ذكر من التوفي على الوجهين لآيات لقوم يتفكرون أي في كيفية تعلقها بالأبدان، وتوفيها عنها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : الآيات 43 الى 45]
أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون (43) قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون (44) وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون (45)
أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون قل لله الشفاعة جميعا أي هو مالكها لا يستطيع أحد شفاعة ما، إلا أن يكون المشفوع له مرتضى، والشفيع مأذونا له، وكلاهما مفقود ها هنا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون وإذا ذكر الله وحده أي دون آلهتهم اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه أي فرادى، أو مع ذكر الله تعالى: إذا هم يستبشرون أي يفرحون بذلك. لفرط افتتانهم بها، ونسيانهم حق الله تعالى. ولقد بولغ في الأمرين حيث بين الغاية فيهما. فإن الاستبشار أن يمتلئ قلبه سرورا حتى تنبسط له بشرة وجهه. والاشمئزاز أن يمتلئ غما حتى ينقبض أديم وجهه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : آية 46]
قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون (46)
قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون أي التجئ إلى الله بالدعاء بأسمائه الحسنى، وقل: أنت وحدك تقدر على الحكم بيني وبينهم. والمقصود بيان حالهم ووعيدهم وتسلية حبيبه الأكرم. وأن جده وسعيه معلوم مشكور عنده تعالى. وتعليم العباد الالتجاء إلى الله تعالى. والدعاء بأسمائه الحسنى، والاستعانة بالتضرع والابتهال على دفع كيد العدو.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : الآيات 47 الى 48]
ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون (47) وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن (48)
ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن أي نزل بهم جزاؤه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : الآيات 49 الى 50]
فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون (49) قد قالها الذين من قبلهم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون (50)
فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم أي مني بوجوه الكسب والتحصيل بل هي فتنة أي ابتلاء له، أيشكر تلك النعمة، فيصرفها فيما خلقت له، فيسعد. أو يكفرها فيشقى ولكن أكثرهم لا يعلمون قد قالها الذين من قبلهم أي كما قال قارون إنما أوتيته على علم عندي [القصص:
78] فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون أي فما دفع عنهم ما كسبوه بذلك العلم من متاع الدنيا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : الآيات 51 الى 52]
فأصابهم سيئات ما كسبوا والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين (51) أولم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون (52)
فأصابهم سيئات ما كسبوا والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين أولم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون أي بأن الكل منه سبحانه، ومن آياته في ذلك- كما قال المهايمي- أنه تعالى قوي بذاته، له تقويه من يشاء وتضعيف من يشاء. ومنها أنه فياض بذاته لا
يتوقف فيضه على الشفعاء. ومنها أنه فاعل بذاته لا يتوقف فعله على سبب وواسطة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : الآيات 53 الى 56]
قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم (53) وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون (54) واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون (55) أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين (56)
قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم أي جنوا عليها بالإسراف في المعاصي والكفر لا تقنطوا قرئ بفتح النون وكسرها من رحمة الله أي لا تيأسوا من مغفرته بفعل سبب يمحو أثر الإسراف إن الله يغفر الذنوب جميعا أي لمن تاب وآمن. فإن الإسلام يجب ما قبله إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم أي توبوا إليه وأسلموا له أي استسلموا وانقادوا له. وذلك بعبادته وحده وطاعته وحده، بفعل ما أمر به واجتناب ما نهى عنه من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت أي قصرت في جنب الله أي في جانب أمره ونهيه، إذ لم أتبع أحسن ما أنزل وإن كنت لمن الساخرين أي المستهزئين بمن يتبع الأحسن. وأن تقول مفعول له بتقدير مضاف. أي: فتداركوا كراهة أن تقول. أو تعليل لفعل يدل عليه ما قبله. أي أنذركم وآمركم باتباع أحسن القول كراهة. وتفصيله في شروح (الكشاف) .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : آية 57]
أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين (57)
أو تقول لو أن الله هداني أي للإسلام لكنت من المتقين أي: من هذا الكفر. أي تقول هذا النوع من التحسر ولتعلل بما لا يجدي.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : آية 58]
أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين (58)
أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة أي رجعة إلى الدنيا فأكون من
المحسنين
أي في الإيمان والعمل الصالح. ثم رد تعالى على تلك النفس بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : الآيات 59 الى 60]
بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين (59) ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين (60)
بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله أي بنسبة ما يستحيل عليه من الولد والشريك، وتجويز ما يمتنع عليه من رضاه بما هم عليه، وأمره لهم، وغير ذلك من إفكهم وجوههم مسودة أي لما ينالهم من الشدة التي تغير ألوانهم. فالسواد حقيقي. أو لما لحقهم من الكآبة، ويظهر عليهم من آثار الهيئات الظلمانية ورسوخ الرذائل النفسانية في ذواتهم. فالسواد مجاز بالاستعارة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين أي عن الإيمان والهدى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : الآيات 61 الى 62]
وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون (61) الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل (62)
وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم أي بفوزهم وفلاحهم لإتيانهم بأسباب الفوز، من الاعتقادات المبنية على الدلائل والأعمال الصالحة لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل أي يتولى التصرف فيه كيف شاء.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : الآيات 63 الى 66]
له مقاليد السماوات والأرض والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون (63) قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون (64) ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين (65) بل الله فاعبد وكن من الشاكرين (66)
له مقاليد السماوات والأرض أي هو وحده يملك أمرها وخزائن غيوبها
وأبواب خيرها وبركتها والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد أي خصه بالعبادة وكن من الشاكرين أي الصارفين ما أنعم به عليهم، إلى ما خلق لأجله.
قيل: كان الظاهر (لو أشركت) لأن (أن) تقتضي احتمال الوقوع. وهو هنا مقطوع بعدمه. فالجواب: أن هذا الكلام وارد على سبيل الفرض. والمحالات يصح فرضها لأغراض. والمراد به تهييج الرسل وإقناط الكفرة والإيذان بغاية قبح الإشراك.
وكونه بحيث ينهى عنه من لا يكاد يمكن أن يباشره، فكيف بمن عداه؟ وإطلاق الإحباط هنا يستدل به من ذهب إلى أن الردة مبطلة للعمل مطلقا، كالحنفية.
وغيرهم يرى الإحباط مقيدا بالاستمرار عليه إلى الموت، وأنه هو المحبط في الحقيقة. وأنه إنما ترك التقييد به اعتمادا على التصريح به في آية أخرى، وهي قوله تعالى: ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم [البقرة: 217] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : آية 67]
وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون (67)
وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون أي ما قدروا عظمته تعالى حق عظمته، ولا عرفوا جلاله حق معرفته. حيث جعلوا له شركاء ووصفوه بما لا يليق بشئونه الجليلة. مع أن عظمته وكمال قدرته تتحير فيها الأوهام. فإن تبديل الأرض غير الأرض. وطي السموات كطي السجل، أهون شيء عليه، وفي (القبضة واليمين) مذهبان معروفان.
مذهب السلف، وهو إثبات ذلك من غير تكييف له ولا تشبيه ولا تحريف ولا تبديل ولا تغيير ولا إزالة للفظ الكريم عما تعرفه العرب وتضعه عليه بتأويل. يجرون على الظاهر ويكلون علمه إليه تعالى ويقرون بأن تأويله (أي ما يؤول إليه من حقيقته) لا يعلمه إلا الله. وهكذا قولهم في جميع الصفات التي نزل بذكرها القرآن، ووردت بها الأخبار الصحاح.
المذهب الثاني- القول بأن ذلك من المجاز المعروف نظيره في كلام العرب.
وإن الإطلاق لا ينحصر في الحقيقة. ثم من ذاهب إلى أن المجاز في المفردات،
استعيرت (القبضة) للملك أو التصرف و (اليمين) للقدرة، وذاهب إلى أنه في المركب، بتمثيل حال عظمته ونفاذ قدرته، بحال من يكون له قبضة فيها الأرض، ويمين بها تطوى السموات، وهذا ما عول عليه الزمخشري وبسطه أحسن بسط.
ثم أشار إلى أن من عظيم قدرته تعالى، أنه جعل النفخ في الصور سبب موت الكل تارة، وحياتهم أخرى، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : آية 68]
ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون (68)
ونفخ في الصور فصعق أي هلك من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله أي من خواص الملائكة، أو من الشهداء. روي ذلك عن بعض التابعين. وقال قتادة: قد استثنى الله، والله أعلم، إلى ما صار ثنيته. وهذا هو الوجه. إذ لا يصار إلى بيان المبهمات إلا بقاطع ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون أي وقوف، يقلبون أبصارهم دهشا وحيرة. أو ينتظرون ما يحل بهم.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #528  
قديم 25-02-2025, 04:40 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,753
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الزمر
المجلد الرابع عشر
صـ 5151 الى صـ 5160
الحلقة (528)








القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : آية 69]
وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون (69)
وأشرقت الأرض بنور ربها أي لأنه يتجلى لهم سبحانه لإقامة العدل والجزاء ووضع الكتاب أي عرض كتب الأعمال على أهلها ليقرأ كل واحد عمله في صحيفته. أو الكتاب مجاز عن الحساب وما يترتب عليه من الجزاء، ووضعه ترشيح له. والمراد بوضعه الشروع فيه، أو هو تمثيل. وجوه نقلها الشهاب وجيء بالنبيين والشهداء أي الذين يشهدون للأمم وعليهم، من الحفظة والأخيار المطلعين على أحوالهم. أي أحضروا للشهادة لهم أو عليهم لاطلاعهم على أحوالهم. وجوز إرادة المستشهدين في سبيل الله تعالى، تنويها بشأنهم، وترفيعا لقدرهم، بضمهم إلى النبيين في الموقف. ولا يبعد وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون أي فتوزن أعمالهم بميزان العدل، ويوفون جزاء أعمالهم، لا ينقص منها شيء، كما قال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : الآيات 70 الى 73]
ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون (70) وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاؤها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين (71) قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين (72) وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاؤها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين (73)
ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا أي أفواجا متفرقة بعضها في أثر بعض، على تفاوت ضلالهم وغيهم، رعاية للعدل في التقديم والتأخير حتى إذا جاؤها فتحت أبوابها أي ليدخلوها، ولكل فريق باب وقال لهم خزنتها أي الموكلون بتعذيبهم ألم يأتكم رسل منكم أي من جنسكم تعرفون صدقهم وأمانتهم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا أي وقتكم أو يوم القيامة، حرصا على صلاحكم وهدايتكم قالوا بلى ولكن حقت أي وجبت كلمة العذاب على الكافرين أي حكمه عليهم بالشقاوة، وأنهم من أهل النار قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة أي مساق إعزاز وتشريف، للإسراع بهم إلى دار الكرامة زمرا أي متفاوتين حسب تفاوت مراتبهم في الفضل حتى إذا جاؤها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم أي من دنس المعاصي، وطهرتم من خبث الخطايا فادخلوها خالدين قال السمين: في جواب إذا ثلاثة أوجه:
أحدها- قوله: وفتحت والواو زائدة. وهو رأي الكوفيين والأخفش. وإنما جيء هنا بالواو دون التي قبلها، لأن أبواب السجون مغلقة إلى أن يجيئها صاحب الجريمة فتفتح له، ثم تغلق عليه. فناسب ذلك عدم الواو فيها. بخلاف أبواب السرور والفرح، فإنها تفتح انتظارا لمن يدخلها.
والثاني- أن الجواب قوله: وقال لهم خزنتها على زيادة الواو أيضا.
الثالث- أن الجواب محذوف. قال الزمخشري: وحقه أن يقدر بعد خالدين:
أي لأنه يجيء بعد متعلقات الشرط ما عطف عليه. والتقدير: اطمأنوا. وقدره المبرد: سعدوا. وعلى هذين الوجهين، فتكون الجملة من قوله: وفتحت أبوابها في محل نصب على الحال، والواو واو الحال. أي جاءوها مفتحة أبوابها. كما صرح بمفتحة حالا من جنات عدن مفتحة لهم الأبواب وهو قول المبرد والفارسي وجماعة. وزعم بعضهم أن هذه الواو تسمى واو الثمانية. لأن أبواب الجنة ثمانية.
ورده في (المغني) بأنه لو كان لواو الثمانية حقيقة، لم تكن الآية منها. إذ ليس فيها ذكر عدد البتة، وإنما فيها ذكر الأبواب، وهي جمع لا يدل على عدد خاص. ثم الواو ليست داخلة عليه، بل على جملة هو فيها. انتهى.
أي وهي- على قول مثبتها- الداخلة على لفظ الثمانية على سرد العدد. ذهابا إلى أن بعض العرب إذا عدوا قالوا: ستة سبعة وثمانية. إيذانا بأن السبعة عدد تام، وأن ما بعده عدد مستأنف، فأشبهت واو الاستئناف.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : الآيات 74 الى 75]
وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين (74) وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين (75)
وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده أي بإيصالنا إلى ما وعدنا وأنبأنا عنه على ألسنة رسله وأورثنا الأرض أي أرض الآخرة. شبه نيلهم بأعمالهم لها، بإرثهم من آبائهم. فكأن الأعمال آباؤهم. كما قيل:
وأبي الإسلام لا أب لي سواه
وكما يقال (الصدق يورث النجاة) نتبوأ من الجنة حيث نشاء أي يتبوأ كل من جنته الواسعة، أي مكان أراده فنعم أجر العاملين أي الذين عملوا بما علموا وترى الملائكة حافين من حول العرش أي الملائكة السماوية حافين في جنة الفردوس حول عرش الرحمن، محدقين به. وتقدم في تفسير آية ثم استوى على العرش [الأعراف: 54] في الأعراف، كلام في حملة العرش، فتذكره يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم أي بين الخلائق بالحق أي بالعدل وقيل الحمد لله رب العالمين أي على ما قضى بينهم بالحق، وأنزل كلا منزلته التي هي حقه. والقائل:
إما الحق جل جلاله، أو الملائكة الحافون، أو المؤمنون ممن قضي بينهم. أو الكل، فله الحمد عز وجل.
عن قتادة قال: افتتح الله أول الخلق ب الحمد لله فقال الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور وختم بالحمد فقال وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة غافر
وسميت (المؤمن) قال المهايمي: سميت به لاشتمالها على كلمات مؤمن آل فرعون، المتضمنة دلائل النبوة ورفع الشبه عنها، والمواعظ والنصائح وسلامته عن أعدائه. وعما أخذوا به، وهي من أعظم مقاصد القرآن. وتسمى سورة غافر وسورة الطول. وهي مكية وآيها ثمانون وخمس.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : الآيات 1 الى 2]
بسم الله الرحمن الرحيم
حم (1) تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم (2)
حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم الكلام في مفتتح هذه السورة وتاليه، كالذي سلف في (الم السجدة) .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : الآيات 3 الى 4]
غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير (3) ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد (4)
غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول أي المن والفضل لا إله إلا هو إليه المصير أي المرجع والجزاء ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا أي ما يخاصم في حجج الله وأدلته علي وحدانيته بالإنكار لها، إلا الذين جحدوا توحيده، قال الزمخشري: سجل على المجادلين في آيات الله بالكفر. والمراد الجدال بالباطل، من الطعن فيها والقصد إلى إدحاض الحق وإطفاء نور الله. وقد دل على ذلك قوله وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق [غافر: 5] . فأما الجدال فيها، لإيضاح ملتبسها وحل مشكلها ومقارحة أهل العلم في استنباط معانيها، ورد أهل الزيغ بها وعنها، فأعظم جهاد في سبيل الله.
وقوله صلى الله عليه وسلم «1»
(جدال في القرآن كفر)
وإيراده منكرا، تمييز منه بين جدال وجدال. انتهى فلا يغررك تقلبهم في البلاد أي للتجارات، وتمتعهم بالتجوال والترداد، فمآلهم إلى الزوال والنفاد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 5]
كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب (5)
(1)
أخرجه الإمام أحمد في المسند 2/ 258. والحديث رقم 7499.

كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب أي الذين تحزبوا على الرسل وناصبوهم من بعدهم أي من بعد سماع أخبارهم ومشاهدة آثارهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه أي ليتمكنوا منه، ومن الإيقاع به وإصابته بما أرادوا من تعذيب أو قتل.
من (الأخذ) بمعنى الأسر. والأخيذ الأسير وجادلوا بالباطل أي قابلوا حجج الرسل بالباطل من جدالهم ليدحضوا به الحق أي ليزيلوا به الأمر الثابت بالحجة الصحيحة. لكنه لا يندحض وإن كثرت الشبه. لما أنه الثابت في نفسه المتقرر بذاته فأخذتهم أي بالعذاب الدنيوي المعروف أخباره. المشهود آثاره فكيف كان عقاب أي في هذه الدار. فيعتبر به عقاب تلك الدار.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 6]
وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار (6)
وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار قال ابن جرير:
أي وكما حق على الأمم التي كذبت رسلها، التي قصصت عليك، يا محمد، قصصها، وحل بها عقابي. كذلك وجبت كلمة ربك على الذين كفروا بالله من قومك، الذين يجادلون في آيات الله. لأنهم أصحاب النار. ثم نوه بالمؤمنين، وبما أعد لهم، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : الآيات 7 الى 10]
الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم (7) ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم (8) وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم (9) إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون (10)
الذين يحملون العرش أي من الملائكة. وقد سبق في تفسير آية ثم استوى على العرش [الأعراف: 54] ، في الأعراف، كلام في حملة العرش، فراجعه ومن حوله يعني الملائكة المقربين يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به أي: ويقرون بأنه
لا إله لهم سواه. ويشهدون بذلك لا يستكبرون عن عبادته. وفائدة التصريح بإيمانهم، مع جلائه، هو إظهار فضيلة الإيمان وإبراز شرف أهله، والإشعار بعلة دعائهم للمؤمنين. حسبما ينطق به قوله تعالى: ويستغفرون للذين آمنوا فإن المشاركة في الإيمان أقوى المناسبات وأتمها، وأدعى الدواعي إلى النصح والشفقة.
وفي نظم استغفارهم لهم في سلك وظائفهم المفروضة عليهم، من تسبيحهم وتحميدهم وإيمانهم، إيذان بكمال اعتنائهم به، وإشعار بوقوعه عند الله تعالى في موقع القبول ربنا أي يقولون ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما أي شملت رحمتك وأحاط بالكل علمك فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك أي صراطك المستقيم بمتابعة نبيك في الأقوال والأعمال والأحوال وقهم عذاب الجحيم ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم أي عمل صالحا منهم، ليتم سرورهم بهم إنك أنت العزيز الحكيم وقهم السيئات أي:
عقوبتها وجزاءها ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم أي: لبغضه الشديد لكم، أعظم من بغض بعضكم لبعض. وتبرؤ كل من الآخر ولعنه حين تعذبون كما قال تعالى:
يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا [العنكبوت: 25] ، أو أعظم من مقتكم أنفسكم وذواتكم. فقد يمقتون أنفسهم حين تظهر لهم هيئاتها المظلمة وصفاتها المؤلمة، وسواد الوجه الموحش وقبح المنظر المنفر إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون أي تدعون على ألسنة الرسل عليهم السلام، إلى الإيمان به سبحانه، فتكفرون كبرا وعتوا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 11]
قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل (11)
قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين أي أنشأتنا أمواتا مرتين. وأحييتنا في النشأتين كما قال تعالى: وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم [البقرة: 28] ، قال قتادة: كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم، فأحياهم الله في الدنيا. ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها. ثم أحياهم للبعث يوم القيامة. فهما حياتان وموتتان فاعترفنا بذنوبنا أي: فأقررنا بما عملنا من الذنوب في الدنيا. وذلك عند وقوع العقاب المرتب عليها. وامتناع المحيص عنه فهل إلى خروج من سبيل أي: فهل
إلى خروجنا من النار، من سبيل، لنرجع إلى الدنيا فنعمل غير الذي كنا نعمل. قال الزمخشري: وهذا كلام من غلب عليه اليأس والقنوط. وإنما يقولون ذلك تعللا وتحيرا. ولهذا جاء الجواب على حسب ذلك. وهو قوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : الآيات 12 الى 13]
ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير (12) هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقا وما يتذكر إلا من ينيب (13)
ذلكم أي ذلكم الذي أنتم فيه من العذاب، وأن لا سبيل إلى خروج قط بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا أي بسبب إنكاركم أن الألوهة له خالصة، وقولكم أجعل الآلهة إلها واحدا [ص: 5] ، وإيمانكم بالشرك فالحكم لله العلي الكبير أي فالقضاء له وحده لا للغير. فلا سبيل إلى النجاة لعلوه وكبريائه.
فلا يمكن أحدا رد حكمه وعقابه هو الذي يريكم آياته أي من الريح والسحاب والرعد والبرق والصواعق ونحوها وينزل لكم من السماء رزقا أي مطرا. وإفراده بالذكر من بين الآيات، لعظم نفعه، وتسبب حياة كل شيء عنه وما يتذكر إلا من ينيب أي. وما يتعظ بآياته تعالى، إلا من يرجع إليه بالتوبة والإنابة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : الآيات 14 الى 15]
فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون (14) رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق (15)
فادعوا الله مخلصين له الدين أي فاعبدوه مخلصين له الدين، عن شوب الشرك ولو كره الكافرون أي غاظهم ذلك رفيع الدرجات أي رفيع درجات عرشه كقوله ذي المعارج [المعارج: 3] ، وهي مصاعد الملائكة إلى أن تبلغ العرش. وهي دليل على عزته وملكوته. أو هو عبارة عن رفعة شأنه وعلو سلطانه وكمالاته، غير المتناهية ذو العرش يلقي الروح أي الوحي والعلم اللدني الذي تحيا به القلوب الميتة من سره على من يشاء من عباده أي أهل عنايته الأزلية، واختصاصه للرسالة والنبوة لينذر يوم التلاق أي يوم القيامة الكبرى، الذي يتلاقى فيه العبد بربه ليحاسبه على أعماله، أو العباد.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #529  
قديم 25-02-2025, 04:44 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,753
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ غافر
المجلد الرابع عشر
صـ 5161 الى صـ 5170
الحلقة (529)








القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : الآيات 16 الى 17]
يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار (16) اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب (17)
يوم هم بارزون أي من قبورهم. أو ظاهرون لا يسترهم شيء من جبل أو بناء لا يخفى على الله منهم شيء أي من أعمالهم وأعيانهم وأحوالهم. وقوله لمن الملك اليوم ينادي به الحق سبحانه، عند فناء الكل. أو وقت التلاقي والبروز.
فيجيب هو وحده لله الواحد أي المتفرد بالملك القهار أي الذي قهر بالغلبة كل ما سواه اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب أي بإيصال ما يستحق كل منهم إليه، من تبعات سيئاته وثمرات حسناته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 18]
وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع (18)
وأنذرهم يوم الآزفة أي الواقعة القريبة إذ القلوب لدى الحناجر أي من أهواله ترتفع القلوب عن مقارها. فتصير لدى الحلوق كاظمين أي ممتلئين غما، بما أفرطوا من الظلم ما للظالمين من حميم أي قريب يهتم لشأنهم، فيخفف عنهم غمومهم ولا شفيع يطاع أي من يشفع في تخفيفها عنهم. إذ لا تقبل شفاعة فيهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : الآيات 19 الى 25]
يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور (19) والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء إن الله هو السميع البصير (20) أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق (21) ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا فأخذهم الله إنه قوي شديد العقاب (22) ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين (23)
إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب (24) فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم وما كيد الكافرين إلا في ضلال (25)
يعلم خائنة الأعين أي نظراتها الخائنة. وهي الممتدة إلى ما لا يحل وما تخفي الصدور أي تكنه من الضمائر والأسرار والله يقضي بالحق أي بالعدل والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء أي لأنهم لا يقدرون على شيء إن الله هو السميع البصير أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض يعني حصونهم وقصورهم وعددهم فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا فأخذهم الله إنه قوي شديد العقاب ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب فلما جاءهم بالحق أي بآيات نبوته من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم أي: قالوا أعيدوا عليهم القتل، كالذي كان أولا. واستبقوا نسائهم للخدمة وما كيد الكافرين إلا في ضلال أي: وما مكرهم في دفع ما أراد الله من ظهور دينه، إلا في ضياع. إذ هو كالغثاء الذي يقذفه تيار الحق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 26]
وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد (26)
وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه، إني أخاف أن يبدل دينكم أي ما أنتم عليه من عبادة الأصنام أو أن يظهر في الأرض الفساد أي فساد مملكتي. إذ يتفق الكل على متابعته وإجراء أحكامه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 27]
وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب (27)
وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب أي التجأت إليه وتوكلت عليه، فهو ناصر دينه ومعز أهله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 28]
وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب (28)
وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أي من فرعون وملئه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم أي من عذاب الدنيا إن تعرضتم له. وقد أشار الزمخشري إلى ما في طي هذا القول من اللطائف والأسرار، بما ملخصه: إن هذا المؤمن استدرجهم في الإيمان باستشهاده على صدق موسى، بإحضاره عليه السلام من عند من تنسب إليه الربوبية، بينات عدة لا بينة واحدة. وأتى بها معرفة. معناه البينات العظيمة التي شهدتموها وعرفتموها على ذلك، ليلين بذلك جماحهم، ويكسر من سورتهم. ثم أخذهم بالاحتجاج بطريق التقسيم، فقال: لا يخلو من أن يكون صادقا أو كاذبا. فإن يك كاذبا فضرر كذبه عائد عليه. أو صادقا فيصبكم، إن تعرضتم له، بعض الذي يعدكم. وإنما ذكر (بعض) في تقدير أنه نبي صادق، والنبي صادق في جميع ما يعد به، لأنه سلك معهم طريق المناصحة لهم والمداراة. فجاء بما هو أقرب إلى تسليمهم، وأدخل في تصديقهم له، ليسمعوا منه ولا يردوا عليه صحته. وذلك أنه حين فرضه صادقا، فقد أثبت أنه صادق في جميع ما يعد. ولكنه أردفه يصبكم بعض الذي يعدكم ليهضمه بعض حقه في ظاهر الكلام، ليريهم أنه ليس بكلام من أعطاه حقه وأثنى عليه، فضلا عن أن يكون متعصبا له. وتقديم (الكاذب) على (الصادق) من هذا القبيل.
قال الناصر: ويناسب تقديم الكاذب على الصادق هنا، قوله تعالى: وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين [يوسف: 26- 27] ، فقدم الشاهد أمارة صدقها على أمارة صدق يوسف، وإن كان الصادق هو يوسف، دونها، لرفع التهمة وإبعاد الظن، وإدلالا بأن الحق معه ولا يضره التأخير لهذه الفائدة. وقريب من هذا التصرف لإبعاد التهمة، ما في قصة يوسف مع أخيه. إذ بدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه. انتهى. إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب قال الزمخشري: يحتمل أنه إن كان مسرفا كذابا، خذله الله وأهلكه ولم يستقم له أمر، فتتخلصون منه. وأنه لو كان مسرفا كذابا لما هداه الله للنبوة، ولما عضده بالبينات.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 29]
يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد (29)
يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض أي عالين وقاهرين، فلا تفسدوا أمركم على أنفسكم بأنفسكم، ولا تعرضونا لعذابه تعالى: فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى أي ما أشير عليكم إلا ما أستصوبه من قتله. إذ البأس السماوي من أجل قتله، أمر متوهم. فاتباعه غلط وما أهديكم أي بإراءة رأي قتله إلا سبيل الرشاد وهو دفع تبدل دينكم وإظهار الفساد في الأرض، بإظهار أحكامه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : الآيات 30 الى 31]
وقال الذي آمن يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب (30) مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد (31)
وقال الذي آمن يا قوم إني أخاف عليكم أي من قتله مثل يوم الأحزاب أي الطوائف الهالكة بالتكذيب مثل دأب قوم نوح أي جزائهم من الغرق وعاد أي من الريح العقيم وثمود أي الصيحة والذين من بعدهم أي من الأمم المكذبة، مما يدل على أن الهلاك سنة مستمرة لأهل التكذيب، إذ لم يكن لهم ذنب آخر يوجبه وما الله يريد ظلما للعباد أي فلا يعاقبهم بغير ذنب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 32]
ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد (32)
ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد يعني يوم القيامة، أي عذابه. سمي بذلك لما جاء
في حديث «إن الأرض إذا زلزلت وانشقت من قطر إلى قطر، وماجت وارتجت، فنظر الناس إلى ذلك، ذهبوا هاربين ينادي بعضهم بعضا»
أي: من هول فزع النفخة. وقال قتادة: ينادي كل قوم بأعمالهم. ينادي أهل الجنة أهل الجنة وأهل النار أهل النار. وقيل لمناداة أهل الجنة أهل النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم [الأعراف: 44] ، ومناداة أهل النار أهل الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين [الأعراف: 50] ، واختار البغوي وغيره أنه سمي لمجموع ذلك. أي لوقوع الكل فيه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 33]
يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد (33)
يوم تولون مدبرين أي ذاهبين فرارا من الفزع الأكبر كلا لا وزر إلى ربك
يومئذ المستقر
[القيامة: 11- 12] ، ما لكم من الله من عاصم أي من عذابه، من مانع، لتقرر الحجة عليكم ومن يضلل الله أي بزيغه عن صراط ربه فما له من هاد أي من حجة ولا مرشد إلى النجاة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 34]
ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب (34)
ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات أي من قبل مجيء موسى بالحجج البينة والبراهين النيرة، على وجوب عبادته تعالى وحده. كقوله: أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار [يوسف: 39] ، فما زلتم في شك مما جاءكم به أي مع ظهور استقامته الكافية في الدلالة على صحة ما جاءكم به، فلم يزل يقررها حتى إذا هلك أي مات قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا أي يقرر حججه. فقطعتم من عند أنفسكم، بعدم إرسال الله الرسول، مع الشك في إرسال من أعطاه البينات، من فرط ضلالكم كذلك يضل الله من هو مسرف أي في التشكيك عند ظهور البراهين القطيعة مرتاب أي شاك مع ظهور لوائح اليقين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 35]
الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار (35)
الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أي برهان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار أي بطر للحق، لا يقبل الحجة. جبار في المجادلة. ألد فيصدر عنه أمثال ما ذكر، من الإسراف والارتياب والمجادلة في الباطل لطمس بصيرته، فلا يكاد يظهر له الحق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : الآيات 36 الى 37]
وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب (36) أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب (37)
وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا أي قصرا عاليا ظاهرا لكل أحد لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات أي طرقها فأطلع إلى إله موسى أي لأسأله عن إرساله، أو لأقف على كنهه وإني لأظنه كاذبا قال ابن جرير: أي لأظن موسى كاذبا فيما يقول ويدعي، من أن له في السماء ربا أرسله إلينا وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل أي سبيل الرشاد لما طبع على قلبه، من كبره وتجبره وإسرافه وارتيابه وما كيد فرعون إلا في تباب أي خسار وهلاك، لذهاب نفقته على الصرح سدى، وعدم نيله، مما أراده من الاطلاع، شيئا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 38]
وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد (38)
وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد أي طريق الصواب الذي ترشدون إذا أخذتم فيه وسلكتموه. ثم أشار إلى تفصيل ما أجمله بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 39]
يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار (39)
يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع أي تمتع يسير، لسرعة زوالها وإن الآخرة التي يوصل إليها سبيلي هي دار القرار أي الاستقرار والخلود.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 40]
من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب (40)
من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب أي بغير تقدير وموازنة بالعمل. بل أضعافا مضاعفة. قال الزمخشري: قوله: بغير حساب واقع في مقابلة إلا مثلها يعني أن جزاء السيئة له حساب وتقدير، لئلا يزيد على الاستحقاق. فأما جزاء العمل الصالح فبغير تقدير وحساب، بل ما شئت من الزيادة والكثرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : الآيات 41 الى 42]
ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار (41) تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار (42)
ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم أي بوجوده علم، إذ لا وجود له وأنا أدعوكم إلى العزيز أي الغالب الذي يقهر من عصاه الغفار أي الذي يستر ظلمات نفوس من أطاعه، بأنواره.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : الآيات 43 الى 44]
لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار (43) فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد (44)
لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة أي الذي تدعونني إلى عبادته، ليس له دعوة في الدنيا لدفع الشدائد والأمراض ونحوها، ولا في الآخرة لدفع أهوالها، على ما قاله المهايمي. أو لا دعوة له في الدارين لعدمه بنفسه، واستحالة وجوده فيهما، على ما قاله القاشاني. وقال الشهاب: عدم الدعوة عبارة عن جماديتها وأنها غير مستحقة لذلك. وسياق لا جرم عند البصريين أن يكدن (لا) ردا لما دعاه إليه قومه وجرم بمعنى كسب. أي وكسب دعاؤهم إليه بطلان دعوته. أي ما حصل من ذلك إلا ظهور بطلان دعوته. ويجوز أن يكون لا جرم نظير (لا بد) من الجرم وهو القطع. فكما أنك تقول (لا بد لك أن تفعل) والبد من التبديد الذي هو التفريق، ومعناه لا مفارقة لك من فعل كذا، فكذلك لا جرم معناه لا انقطاع لبطلان دعوة الأصنام. بل هي باطلة أبدا. هذا ما يستفاد من (الكشاف) .
وفي (الصحاح) : قال الفراء: لا جرم كلمة كانت في الأصل بمنزلة لا محالة، ولا بد فجرت على ذلك وكثرت حتى تحولت إلى معنى القسم، وصارت بمنزلة (حقا) فلذلك يجاب عنها باللام. ألا تراهم يقولون (لا جرم لآتينك) وقد حقق الكلام فيها ابن هشام في (المغني) في بحث. والجلال في (همع الهوامع) أثناء بحث إن والقسم، فانظرهما. وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين أي في الضلالة والطغيان وسفك الدماء هم أصحاب النار فستذكرون ما أقول لكم أي من النصح عند معاينة الأهوال وما يحيق بكم وأفوض أمري إلى الله أي وأسلم أمري إليه وأجعله له وأتوكل عليه، فإنه الكافي من توكل عليه إن الله بصير بالعباد أي فيعلم المطيع منهم والعاصي، ومن يستحق المثوبة والعقوبة.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #530  
قديم 25-02-2025, 04:47 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,753
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ غافر
المجلد الرابع عشر
صـ 5171 الى صـ 5180
الحلقة (530)








القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 45]
فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب (45)
فوقاه الله سيئات ما مكروا أي فرفع الله عن هذا المؤمن من آل فرعون، بإيمانه وتصديق رسوله موسى، مكروه ما كان فرعون ينال به أهل الخلاف عليه، من العذاب والبلاء، فنجاه منه وحاق بآل فرعون أي بفرعون وقومه سوء العذاب يعني الغرق أو النار. وعلى الأول، فقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : الآيات 46 الى 48]
النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب (46) وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار (47) قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد (48)
النار يعرضون عليها غدوا وعشيا جملة مستأنفة مبينة لكيفية نزول العذاب بهم. على أن النار مبتدأ وجملة يعرضون خبره. وعلى الثاني، فالنار خبر لمحذوف وهو خبر العذاب السيئ. أو هي بدل من سوء العذاب. والمراد عرض أرواحهم عليها دائما. واكتفى بالطرفين المحيطين- الغدو والعشي- عن الجميع.
وبه يستدل على عذاب القبر والبرزخ. وقاناه الله تعالى، بمنه.
قال السيوطي: وفي (العجائب) للكرماني: في هذه الآية أدل دليل على عذاب القبر. لأن المعطوف غير المعطوف عليه. يعني قوله تعالى: ويوم تقوم الساعة أي هذا العرض ما دامت الدنيا، فإذا قامت الساعة يقال لهم أدخلوا آل فرعون أشد العذاب وهو عذاب جهنم. لأنه جزاء شدة كفرهم وإذ يتحاجون في النار أي يتخاصمون فيها، الأتباع والمتبوعون فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا أي أتباعا كالمكرهين فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار قال الذين استكبروا إنا كل فيها أي نحن وأنتم. فكيف نغني عنكم؟ ولو قدرنا لأغنينا عن أنفسنا إن الله قد حكم بين العباد أي بأن أدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ولا معقب لحكمه. أو بأن قدر عذابا لكل منا لا يدفع عنه، ولا يتحمله عنه غيره، قال الشهاب:
وهذا أنسب بما قبله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 49]
وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب (49)
وقال الذين في النار لخزنة جهنم أي لما أيسوا من التخفيف عند المحاجة ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب أي يدفع عنا يوما من أيام العذاب، أو ألم يوم وشدته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 50]
قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال (50)
قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات أي المتكاثرة على صدقهم، المنذرة بهذه الشدة قالوا بلى أي جاءوا بها وأخبروا مع البينات قالوا فادعوا أي إن كان ينفعكم، وهيهات وما دعاء الكافرين إلا في ضلال أي في ضياع لا يجاب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 51]
إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد (51)
إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد أي لننصرهم في الدارين. أما في الدنيا، فبإهلاك عدوهم واستئصاله عاجلا، أو بإظفارهم بعدوهم وإظهارهم عليه، وجعل الدولة لهم والعافية لأتباعهم. وأما في الآخرة، فبالنعيم الأبدي والحبور السرمدي. والأشهاد جمع شاهد، وهم من يشهد على تبليغ الرسل وتكذيبهم ظلما. أو جمع شهيد، كأشراف وشريف.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 52]
يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار (52)
يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم، ولهم اللعنة ولهم سوء الدار قال ابن جرير:
ذلك يوم لا ينفع أهل الشرك اعتذارهم، لأنهم لا يعتذرون إلا بباطل. وذلك أن الله قد أعذر إليهم في الدنيا، وتابع عليهم الحجج فيها، فلا حجة لهم في الآخرة إلا الاعتصام بالكذب، بأن يقولوا: والله ربنا ما كنا مشركين [الأنعام: 23] ، ولذا
كانت لهم اللعنة، وهي البعد من رحمة الله وشر ما في الدار الآخرة من العذاب الأليم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 53]
ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب (53)
ولقد آتينا موسى الهدى. أي ما يهتدي به. فكذب به فرعون وقومه كما كذبت قريش وأورثنا بني إسرائيل الكتاب أي وتركنا عليهم بعده من ذلك التوراة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 54]
هدى وذكرى لأولي الألباب (54)
هدى أي بيانا لأمر دينهم وما ألزمناهم من شرائعها وذكرى لأولي الألباب أي لذوي الحجى والعقول منهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 55]
فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار (55)
فاصبر أي إذا تلوت ما قصصناه عليك للناس، فاصبر على أذى المشركين واصدع بما تؤمر إن وعد الله حق أي بنصرك على من خالف، لا خلف له وهو منجزه. واذكر نبأ موسى وفرعون واستغفر لذنبك أي سله غفرانه وعفوة وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار كقوله تعالى: وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب [ق: 39] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 56]
إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير (56)
إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم أي يدفعون الحق بالباطل، ويردون الحجج الصحيحة بالشبه الفاسدة، بلا برهان ولا حجة من الله إن في صدورهم إلا كبر أي: إلا تكبر عن الحق وتعظم عن التفكر، وغمط لمن جاءهم به، حسدا منهم علي الفضل الذي آتاك الله، والكرامة التي أكرمك بها من النبوة ما هم ببالغيه قال ابن جرير: أي الذي حسدوك عليه أمر ليسوا بمدركيه ولا نائليه.
لأن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. وليس بالأمر الذي يدرك بالأماني. وقد قيل: إن معناه إن في صدورهم إلا عظمة، ما هم ببالغي تلك العظمة، لأن الله مذلهم فاستعذ بالله قال ابن جرير: أي فاستجر بالله يا محمد، من شر هؤلاء الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان، ومن الكبر أن يعرض في قلبك منه شيء إنه هو السميع البصير أي لما يقولون وبما يعملون، فسيجازيهم.
تنبيه:
قال كعب وأبو العالية: نزلت هذه الآية في اليهود. وذلك أنهم ادعوا أن الدجال منهم، وأنهم يملكون به الأرض. فأمر صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ بالله من فتنته. قال ابن كثير:
وهذا قول غريب، وفيه تعسف بعيد. وإن كان قد رواه ابن أبي حاتم. ولم يذكره ابن جرير، على ولعه بالغريب والضعيف.
وفي (الإكليل) : ليس في القرآن الإشارة إلى الدجال إلا في هذه الآية، أي على صحة هذه الرواية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 57]
لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون (57)
لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس أي: لإنشائهما وابتداعهما من غير شيء، أعظم من خلق البشر ولكن أكثر الناس لا يعلمون أي لا ينظرون ولا يتأملون لغلبة الجهل عليهم. ولذا يجعلون إعادة الشيء أعظم من خلقه عن عدم، مع أنه أهون وأيسر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 58]
وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء قليلا ما تتذكرون (58)
وما يستوي الأعمى والبصير أي ما يستوي الأعمى الذي لا يبصر شيئا، وهو مثل الكافر الذي لا يتأمل حجج الله بعينيه فيتدبرها ويعتبر بها، فيعلم وحدانيته وقدرته على خلق ما شاء. ويؤمن به- والبصير الذي يرى بعينيه ما شخص لهما ويبصره. وذلك مثل للمؤمن الذي يرى بعينيه حجج الله فيتفكر فيها ويتعظ، ويعلم
ما دلت من توحيد صانعه وعظيم سلطانه والذين آمنوا وعملوا الصالحات أي ولا يستوي أيضا المؤمنون بالله ورسوله، المطيعون لربهم ولا المسيء وهو الكافر بربه، العاصي له، المخالف أمره قليلا ما تتذكرون أي حججه تعالى. فيعتبرون ويتعظون. أي لو تذكروا آياته واعتبروا بها، لعرفوا خطأ ما هم مقيمون عليه، من إنكار البعث، ومن قبح الشرك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 59]
إن الساعة لآتية لا ريب فيها ولكن أكثر الناس لا يؤمنون (59)
إن الساعة لآتية لا ريب فيها أي فأيقنوا بمجيئها وأنكم مبعوثون ومجازون بأعمالكم، فتوبوا ولكن أكثر الناس لا يؤمنون أي لا يصدقون بمجيئها. يعني المشركين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 60]
وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين (60)
وقال ربكم ادعوني أستجب لكم أي اعبدوني أثبكم. قال الزمخشري:
والدعاء بمعنى العبادة، كثير في القرآن. ويدل عليه قوله تعالى إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين أي صاغرين أذلاء. قال الشهاب: إطلاق الدعاء على العبادة مجاز، لتضمن العبادة له، لأنه عبادة خاصة أريد به المطلق. وجعل الإثابة لترتبها عليها استجابة، مجازا أو مشاكلة. وإنما أول به لأن ما بعده يدل عليه.
والمقام يناسبه الأمر بالعبادة. وقد جوز أن يراد بالدعاء والاستجابة ظاهرهما. ويراد بالعبادة الدعاء مجازا، لأنه باب من العبادة عظيم، وفرد من أفرادها فخيم. قال الشهاب: ولو قيل لا حاجة إلى التجوز، لأن الإضافة المراد بها العهد هنا، فيفيد ما ذكر من غير تجوز- لكان أحسن. انتهى.
وعلى الوجه الثاني- وهو أن المراد بالدعاء السؤال- اقتصر كثير من المفسرين. قال المهايمي أستجب لكم لأن الدعاء من العبد غاية في التذلل لربه، وهو محبوب لربه. فإذا أتى العبد بمحبوب الرب عظمه بالاستجابة. وإذا لم يستجب له في الدنيا عوضه في الآخرة. ولحبه التذلل أمر العباد بالعبادة، فإن استكبروا كان
لهم غاية الإذلال. وقال القاشاني: الآية في دعاء الحال. لأن الدعاء باللسان مع عدم العلم بأن المدعو به خير له أم لا، دعاء المحجوبين. وأما الدعاء الذي لا تتخلف عنه الاستجابة، فهو دعاء الحال بأن يهيئ العبد استعداده لقبول ما يطلبه. ولا تتخلف الاستجابة عن هذا الدعاء. كمن طلب المغفرة، فتاب إلى الله، وأناب بالزهد والطاعة. انتهى.
وتقدم في آية أجيب دعوة الداع إذا دعان [البقرة: 186] ، فوائد تناسب هذا المقام، فلتراجع. ثم أشار تعالى إلى أنه كيف لا يلزم العباد عبادته، وقد أنعم عليهم بما يقتضي شكره بالعبادة، مما أجلاه منافع الليل والنهار، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : الآيات 61 الى 62]
الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون (61) ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو فأنى تؤفكون (62)
الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه أي الله الذي لا تصلح الألوهية إلا له.
ولا تنبغي عبادة غيره، هو الذي جعل لكم الليل مظلما لتسكنوا فيه، فتستردوا بالراحة فيه، ما فاتكم من القوى في العمل بالنهار والنهار مبصرا أي أن يبصر فيه أو به لتتحركوا لتحصيل الأكساب الدينية والدنيوية. فقد تفضل الله عليكم بهما وبما فيهما إن الله لذو فضل على الناس أي ليشكروه بعبادته ولكن أكثر الناس لا يشكرون ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو فأنى تؤفكون أي عن طاعته إلى إثبات الشريك وعبادته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 63]
كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون (63)
كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون أي من الأمم المتقدمة الهالكة.
أي فسلكتم أنتم معشر قريش مسلكهم، وركبتم محجتهم في الضلال.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 64]
الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين (64)
الله الذي جعل لكم الأرض قرارا أي تستقرون عليها وتسكنون فوقها والسماء بناء أي مبنية مرفوعة فوقكم بغير عمد ترونها لمصالحكم وقوام دنياكم.
وقد فسر (البناء) بالقبة المضروبة. لأن العرب تسمي المضارب (أبنية) .
فهو تشبيه بليغ، وهو إشارة إلى كريتها. قاله الشهاب وصوركم فأحسن صوركم أي يجعل كل عضو في مكان يليق به، ليتم الانتفاع بها، فتستدلوا بذلك على كمال حكمته ورزقكم من الطيبات أي لذيذات المطاعم والمشارب لتشكروه وحده ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين أي الذي لا تصلح الربوبية إلا له.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 65]
هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين (65)
هو الحي أي الذي لا يموت، الدائم الحياة، وكل شيء سواه فمنقطع الحياة غير دائمها لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين أي مفردين له الطاعة، لا تشركوا في عبادته شيئا الحمد لله رب العالمين أي الثناء والشكر لله، مالك جميع أجناس الخلق، لا للأوثان التي لا تملك شيئا، ولا تقدر على ضرر ولا نفع.
قال ابن جرير: وكان جماعة من أهل العلم يأمرون من قال (لا إله إلا الله) أن يتبع ذلك الحمد لله رب العالمين تأولا منهم هذه الآية، بأنها أمر من الله بقيل ذلك. ثم أسنده عن ابن عباس وابن جبير.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 66]
قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله لما جاءني البينات من ربي وأمرت أن أسلم لرب العالمين (66)
قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله أي من الآلهة والأوثان لما جاءني البينات من ربي أي الآيات الواضحات من عنده، على وجوب وحدته وتفرده بالعبادة وأمرت أن أسلم لرب العالمين أي أخضع له بالطاعة دون غيره من الأشياء.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 67]
هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون (67)
هو الذي خلقكم من تراب أي مما يرجع إليه. أو خلق أباكم آدم منه ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم أي يبقيكم لتبلغوا أشدكم، فتتكامل قواكم ثم لتكونوا أي إذا تناهى شبابكم وتمام خلقكم شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل أي من قبل أن يصير شيخا ولتبلغوا أي ونفعل ذلك لتبلغوا أجلا مسمى أي ميقاتا محدودا لحياتكم، وهو وقت الموت. أو لجزائكم وهو يوم القيامة ولعلكم تعقلون أي ولكي تعقلوا حجج الله عليكم بذلك، وتتدبروا آياته، فتعرفوا بها أنه لا إله غيره.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 68]
هو الذي يحيي ويميت فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون (68)
هو الذي يحيي ويميت فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون أي يكونه من غير كلفة ولا معاناة. وقد تقدم في (البقرة) الكلام على هذه الآية مطولا.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 3 ( الأعضاء 0 والزوار 3)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 481.89 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 476.05 كيلو بايت... تم توفير 5.84 كيلو بايت...بمعدل (1.21%)]