تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله - الصفحة 52 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         زيادة ركعة بعد كل فرض بسبب الوسواس (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          التلفظ بالنية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          دخل ووجد الإمام راكعا هل يلزمه تكبيرة أم تكبيرتان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          20 قاعدة لحقوق وواجبات العمل في الاقتصاد الإسلامي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          رمضان ووحدة الأمة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          كبســولات نفسيــــة خفيفـــة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 57 - عددالزوار : 4403 )           »          واجب الأمة نحو تعليم القرآن والمشتغلين بحفظه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »          السلفية بين تهمة التشدد وواقع الغربة (معالم الوسطية بين النص الشرعي ونزعات الهوى ..) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          حق اللجوء في الإسلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 30 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #511  
قديم 27-07-2020, 06:43 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,560
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله


الحلقة (510)
تفسير السعدى
(سورة الشورى)
من (25)الى (29)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة الشورى


{
وَهُوَ ٱلَّذِي يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ ٱلسَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } (25) { وَيَسْتَجِيبُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَٱلْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } (26) { وَلَوْ بَسَطَ ٱللَّهُ ٱلرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ وَلَـٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ } (27) { وَهُوَ ٱلَّذِي يُنَزِّلُ ٱلْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ ٱلْوَلِيُّ ٱلْحَمِيدُ }(28)


هذا بيان لكمال كرم الله تعالى وسعة جوده وتمام لطفه، بقبول التوبة الصادرة من عباده حين يقلعون عن ذنوبهم ويندمون عليها، ويعزمون على أن لا يعاودوها إذا قصدوا بذلك وجه ربهم، فإن الله يقبلها بعد ما انعقدت سبباً للهلاك، ووقوع العقوبات الدنيوية والدينية.
{ وَيَعْفُواْ عَنِ ٱلسَّيِّئَاتِ } ويمحوها، ويمحو أثرها من العيوب، وما اقتضته من العقوبات، ويعود التائب عنده كريماً، كأنه ما عمل سوءاً قط، ويحبه ويوفقه لما يقرّبه إليه. ولما كانت التوبة من الأعمال العظيمة، التي قد تكون كاملة بسبب تمام الإخلاص والصدق فيها، وقد تكون ناقصة عند نقصهما، وقد تكون فاسدة إذا كان القصد منها بلوغ غرض من الأغراض الدنيوية، وكان محل ذلك القلب الذي لا يعلمه إلاّ الله، ختم هذه الآية بقوله: { وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } فالله تعالى دعا جميع العباد إلى الإنابة إليه والتوبة من التقصير، فانقسموا - بحسب الاستجابة له - إلى قسمين: مستجيبين وصفهم بقوله { وَيَسْتَجِيبُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } أي: يستجيبون لربهم لما دعاهم إليه وينقادون له ويلبون دعوته، لأن ما معهم من الإيمان والعمل الصالح يحملهم على ذلك، فإذا استجابوا له، شكر الله لهم، وهو الغفور الشكور. وزادهم من فضله توفيقاً ونشاطاً على العمل، وزادهم مضاعفة في الأجر زيادة عن ما تستحقه أعمالهم من الثواب والفوز العظيم. وأما غير المستجيبين للّه وهم المعاندون الذين كفروا به وبرسله، فـ { لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } في الدنيا والآخرة، ثم ذكر أن من لطفه بعباده، أنه لا يوسع عليهم الدنيا سعة، تضر بأديانهم فقال: { وَلَوْ بَسَطَ ٱللَّهُ ٱلرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ } أي: لغفلوا عن طاعة الله، وأقبلوا على التمتع بشهوات الدنيا، فأوجبت لهم الإكباب على ما تشتهيه نفوسهم، ولو كان معصية وظلماً.
{ وَلَـٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ } بحسب ما اقتضاه لطفه وحكمته { إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ } كما في بعض الآثار أن الله تعالى يقول:
" إن من عبادي مَنْ لا يصلح إيمانه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسده ذلك، وإن من عبادي مَنْ لا يصلح إيمانه إلاّ الصحة، ولو أمرضته لأفسده ذلك، وإن من عبادي مَنْ لا يصلح إيمانه إلا المرض ولو عافيته لأفسده ذلك، إني أدبر أمر عبادي بعلمي بما في قلوبهم، إني خبير بصير ". { وَهُوَ ٱلَّذِي يُنَزِّلُ ٱلْغَيْثَ } أي: المطر الغزير الذي به يغيث البلاد والعباد، { مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ } وانقطع عنهم مدة ظنوا أنه لا يأتيهم، وأيسوا وعملوا لذلك الجدب أعمالاً، فينزل الله الغيث { وَيَنشُرُ } به { رَحْمَتَهُ } من إخراج الأقوات للآدميين وبهائمهم، فيقع عندهم موقعاً عظيماً، ويستبشرون بذلك ويفرحون.
{ وَهُوَ ٱلْوَلِيُّ } الذي يتولى عباده بأنواع التدبير، ويتولى القيام بمصالح دينهم ودنياهم. { ٱلْحَمِيدُ } في ولايته وتدبيره، الحميد على ما له من الكمال، وما أوصله إلى خلقه من أنواع الإفضال.

{ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٍ وَهُوَ عَلَىٰ جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ }(29)


أي: ومن أدلة قدرته العظيمة، وأنه سيحيي الموتى بعد موتهم، { خَلْقُ } هذه { ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } على عظمهما وسعتهما، الدال على قدرته وسعة سلطانه، وما فيهما من الإتقان والإحكام دال على حكمته وما فيهما من المنافع والمصالح دال على رحمته، وذلك يدل على أنه المستحق لأنواع العبادة كلها، وأن إلهية ما سواه باطلة.
{ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا } أي: نشر في السماوات والأرض من أصناف الدواب التي جعلها اللّه مصالح ومنافع لعباده.
{ وَهُوَ عَلَىٰ جَمْعِهِمْ } أي: جمع الخلق بعد موتهم لموقف القيامة { إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ } فقدرته ومشيئته صالحان لذلك، ويتوقف وقوعه على وجود الخبر الصادق، وقد علم أنه قد تواترت أخبار المرسلين وكتبهم بوقوعه.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #512  
قديم 31-07-2020, 03:17 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,560
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله



الحلقة (511)
تفسير السعدى
(سورة الشورى)
من (30)الى (39)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة الشورى
{ وَمَآ أَصَـٰبَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } (30) { وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ }(31)


يخبر تعالى، أنه ما أصاب العباد من مصيبة في أبدانهم وأموالهم وأولادهم وفيما يحبون ويكون عزيزاً عليهم، إلا بسبب ما قدمته أيديهم من السيئات، وأن ما يعفو اللّه عنه أكثر، فإن اللّه لا يظلم العباد، ولكن أنفسهم يظلمون{ وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ } [فاطر: 45].
وليس إهمالاً منه تعالى تأخير العقوبات ولا عجزاً. { وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ } أي: معجزين قدرة اللّه عليكم، بل أنتم عاجزون في الأرض، ليس عندكم امتناع عمّا ينفذه اللّه فيكم.
{ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِيٍّ } يتولاكم، فيحصل لكم المنافع { وَلاَ نَصِيرٍ } يدفع عنكم المضار.

{ وَمِنْ آيَاتِهِ ٱلْجَوَارِ فِي ٱلْبَحْرِ كَٱلأَعْلاَمِ } (32) { إِن يَشَأْ يُسْكِنِ ٱلرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَىٰ ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } (33) { أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ } (34) { وَيَعْلَمَ ٱلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيۤ آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ }(35)


أي: ومن أدلة رحمته وعنايته بعباده { ٱلْجَوَارِ فِي ٱلْبَحْرِ } من السفن، والمراكب النارية والشراعية، التي من عظمها { كَٱلأَعْلاَمِ } وهي الجبال الكبار، التي سخر لها البحر العجاج، وحفظها من التطام الأمواج، وجعلها تحملكم وتحمل أمتعتكم الكثيرة، إلى البلدان والأقطار البعيدة، وسخر لها من الأسباب ما كان معونة على ذلك. ثم نبه على هذه الأسباب بقوله: { إِن يَشَأْ يُسْكِنِ ٱلرِّيحَ } التي جعلها الله سبباً لمشيها، { فَيَظْلَلْنَ } أي: الجوارِ { رَوَاكِدَ } على ظهر البحر، لا تتقدم ولا تتأخر، ولا ينتقض هذا بالمراكب النارية، فإن من شرط مشيها وجود الريح. وإن شاء الله تعالى أوبق الجوارِ بما كسب أهلها، أي: أغرقها في البحر وأتلفها، ولكنه يحلم ويعفو عن كثير. { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } أي: كثير الصبر على ما تكرهه نفسه ويشق عليها، فيكرهها عليه، من مشقة طاعة، أو ردع داع إلى معصية، أو ردع نفسه عند المصائب عن التسخط، { شَكُورٍ } في الرخاء وعند النعم، يعترف بنعمة ربه ويخضع له، ويصرفها في مرضاته، فهذا الذي ينتفع بآيات الله. وأما الذي لا صبر عنده، ولا شكر له على نِعَم الله، فإنه مُعْرض أو معاند لا ينتفع بالآيات. ثم قال تعالى: { وَيَعْلَمَ ٱلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيۤ آيَاتِنَا } ليبطلوها بباطلهم. { مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ } أي: لا ينقذهم منقذ مما حل بهم من العقوبة.
{ فَمَآ أُوتِيتُمْ مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ لِلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } (36) { وَٱلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ ٱلإِثْمِ وَٱلْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ } (37) { وَٱلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } (38) { وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ ٱلْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ }(39)


هذا تزهيد في الدنيا وترغيب في الآخرة، وذكر الأعمال الموصلة إليها فقال: { فَمَآ أُوتِيتُمْ مِّن شَيْءٍ } من ملك ورياسة، وأموال وبنين، وصحة وعافية بدنية.
{ فَمَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } لذة منغصة منقطعة.
{ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ } من الثواب الجزيل، والأجر الجليل، والنعيم المقيم { خَيْرٌ } من لذات الدنيا، خيرية لا نسبة بينهما { وَأَبْقَىٰ } لأنه نعيم لا منغص فيه ولا كدر، ولا انتقال. ثم ذكر لمن هذا الثواب فقال: { لِلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } أي: جمعوا بين الإيمان الصحيح، المستلزم لأعمال الإيمان الظاهرة والباطنة، وبين التوكل، الذي هو الآلة لكل عمل، فكل عمل لا يصحبه التوكل فغير تام، وهو الاعتماد بالقلب على الله في جلب ما يحبه العبد، ودفع ما يكرهه مع الثقة به تعالى. { وَٱلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ ٱلإِثْمِ وَٱلْفَوَاحِشَ } والفرق بين الكبائر والفواحش - مع أن جميعهما كبائر - أن الفواحش هي الذنوب الكبار التي في النفوس داع إليها، كالزنا ونحوه، والكبائر ما ليس كذلك، هذا عند الاقتران، وأما مع إفراد كل منهما عن الآخر فإن الآخر يدخل فيه. { وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ } أي: قد تخلقوا بمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، فصار الحلم لهم سجية، وحسن الخلق لهم طبيعة حتى إذا أغضبهم أحد بمقاله أو فعاله، كظموا ذلك الغضب فلم ينفذوه، بل غفروه، ولم يقابلوا المسيء إلاّ بالإحسان والعفو والصفح.
فترتب على هذا العفو والصفح، من المصالح ودفع المفاسد في أنفسهم وغيرهم شيء كثير، كما قال تعالى:
{ ٱدْفَعْ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } [فصلت: 34-35].
{ وَٱلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمْ } أي: انقادوا لطاعته، ولبَّوْا دعوته، وصار قصدهم رضوانه، وغايتهم الفوز بقربه. ومن الاستجابة للّه، إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فلذلك عطفهما على ذلك، من باب عطف العام على الخاص، الدال على شرفه وفضله فقال: { وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ } أي: ظاهرها وباطنها، فرضها ونفلها.
{ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } من النفقات الواجبة، كالزكاة والنفقة على الأقارب ونحوهم، والمستحبة، كالصدقات على عموم الخلق.
{ وَأَمْرُهُمْ } الديني والدنيوي { شُورَىٰ بَيْنَهُمْ } أي: لا يستبد أحد منهم برأيه في أمر من الأمور المشتركة بينهم، وهذا لا يكون إلا فرعاً عن اجتماعهم وتوالفهم وتواددهم وتحاببهم وكمال عقولهم، أنهم إذا أرادوا أمراً من الأمور التي تحتاج إلى إعمال الفكر والرأي فيها، اجتمعوا لها وتشاوروا وبحثوا فيها، حتى إذا تبينت لهم المصلحة، انتهزوها وبادروها، وذلك كالرأي في الغزو والجهاد، وتولية الموظفين لإمارة أو قضاء، أو غيره، وكالبحث في المسائل الدينية عموماً، فإنها من الأمور المشتركة، والبحث فيها لبيان الصواب مما يحبه الله، وهو داخل في هذه الآية.
{ وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ ٱلْبَغْيُ } أي: وصل إليهم من أعدائهم { هُمْ يَنتَصِرُونَ } لقوتهم وعزتهم، ولم يكونوا أذلاء عاجزين عن الانتصار. فوصفهم بالإيمان، والتوكل على الله، واجتناب الكبائر والفواحش الذي تكفر به الصغائر، والانقياد التام، والاستجابة لربهم، وإقامة الصلاة، والإنفاق في وجوه الإحسان، والمشاورة في أمورهم، والقوة والانتصار على أعدائهم، فهذه خصال الكمال قد جمعوها، ويلزم من قيامها فيهم، فعل ما هو دونها، وانتفاء ضدها.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #513  
قديم 31-07-2020, 03:20 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,560
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله


الحلقة (512)
تفسير السعدى
(سورة الشورى)
من (40)الى (48)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة الشورى




{ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى ٱللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّالِمِينَ } (40) { وَلَمَنِ ٱنتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ } (41) { إِنَّمَا ٱلسَّبِيلُ عَلَى ٱلَّذِينَ يَظْلِمُونَ ٱلنَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (42) { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ }(43)


ذكر الله في هذه الآية، مراتب العقوبات، وأنها على ثلاث مراتب: عدل وفضل وظلم. فمرتبة العدل، جزاء السيئة بسيئة مثلها، لا زيادة ولا نقص، فالنفس بالنفس، وكل جارحة بالجارحة المماثلة لها، والمال يضمن بمثله. ومرتبة الفضل: العفو والإصلاح عن المسيء، ولهذا قال: { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى ٱللَّهِ } يجزيه أجراً عظيماً، وثواباً كثيراً، وشرط الله في العفو الإصلاح فيه، ليدل ذلك على أنه إذا كان الجاني لا يليق العفو عنه، وكانت المصلحة الشرعية تقتضي عقوبته، فإنه في هذه الحال لا يكون مأموراً به.
وفي جعل أجر العافي على الله ما يهيج على العفو، وأن يعامل العبد الخلق بما يحب أن يعامله الله به، فكما يحب أن يعفو الله عنه، فَلْيَعْفُ عنهم، وكما يحب أن يسامحه الله، فليسامحهم، فإن الجزاء من جنس العمل.
وأما مرتبة الظلم فقد ذكرها بقوله: { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّالِمِينَ } الذين يجنون على غيرهم ابتداء، أو يقابلون الجاني بأكثر من جنايته، فالزيادة ظلم. { وَلَمَنِ ٱنتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ } أي: انتصر ممن ظلمه بعد وقوع الظلم عليه { فَأُوْلَـٰئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ } أي: لا حرج عليهم في ذلك. ودلَّ قوله: { وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ ٱلْبَغْيُ } وقوله: { وَلَمَنِ ٱنتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ } أنه لا بد من إصابة البغي والظلم ووقوعه.
وأما إرادة البغي على الغير، وإرادة ظلمه من غير أن يقع منه شيء، فهذا لا يجازى بمثله، وإنما يؤدب تأديباً يردعه عن قولٍ أو فعل صدر منه. { إِنَّمَا ٱلسَّبِيلُ } أي: إنما تتوجه الحجة بالعقوبة الشرعية { عَلَى ٱلَّذِينَ يَظْلِمُونَ ٱلنَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ } وهذا شامل للظلم والبغي على الناس، في دمائهم وأموالهم وأعراضهم.
{ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي: موجع للقلوب والأبدان، بحسب ظلمهم وبغيهم. { وَلَمَن صَبَرَ } على ما يناله من أذى الخلق { وَغَفَرَ } لهم، بأن سمح لهم عمّا يصدرُ منهم، { إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } أي: لمن الأمور التي حث الله عليها وأكدها، وأخبر أنه لا يلقاها إلا أهل الصبر والحظوظ العظيمة، ومن الأمور التي لا يوفق لها إلا أولو العزائم والهمم، وذوو الألباب والبصائر.
فإن ترك الانتصار للنفس بالقول أو الفعل، من أشق شيء عليها، والصبر على الأذى، والصفح عنه، ومغفرته، ومقابلته بالإحسان، أشق وأشق، ولكنه يسير على مَنْ يسره الله عليه، وجاهد نفسه على الاتصاف به، واستعان الله على ذلك، ثم إذا ذاق العبد حلاوته، ووجد آثاره، تلقاه برحب الصدر، وسعة الخلق، والتلذذ فيه.

{ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ وَتَرَى ٱلظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَىٰ مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ } (44) { وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ ٱلذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّ ٱلْخَاسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ أَلاَ إِنَّ ٱلظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ } (45) { وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَآءَ يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ }(46)


يخبر تعالى أنه المنفرد بالهداية والإضلال، وأنه { وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ } بسبب ظلمه { فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ } يتولى أمره ويهديه.
{ وَتَرَى ٱلظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ } مرأى ومنظراً فظيعاً، صعباً شنيعاً، يظهرون الندم العظيم، والحزن على ما سلف منهم، و { يَقُولُونَ هَلْ إِلَىٰ مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ } أي: هل لنا طريق أو حيلة إلى رجوعنا إلى الدنيا، لنعمل غير الذي كنا نعمل، وهذا طلب للأمر المحال الذي لا يمكن.
{ وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا } أي: على النار { خَاشِعِينَ مِنَ ٱلذُّلِّ } أي: ترى أجسامهم خاشعة للذل الذي في قلوبهم، { يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ } أي: ينظرون إلى النار مسارقة وشزراً، من هيبتها وخوفها.
{ وَقَالَ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ } حيث ظهرت عواقب الخلق، وتبين أهل الصدق من غيرهم: { إِنَّ ٱلْخَاسِرِينَ } على الحقيقة { ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ } حيث فوتوا أنفسهم جزيل الثواب، وحصلوا على أليم العقاب وفرَّق بينهم وبين أهليهم، فلم يجتمعوا بهم، آخر ما عليهم.
{ أَلاَ إِنَّ ٱلظَّالِمِينَ } أنفسهم بالكفر والمعاصي { فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ } أي: في سوائه ووسطه، منغمرين لا يخرجون منه أبداً، ولا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون. { وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَآءَ يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ } كما كانوا في الدنيا يمنون بذلك أنفسهم، ففي القيامة يتبين لهم ولغيرهم أن أسبابهم التي أملوها تقطعت، وأنه حين جاءهم عذاب الله لم يدفع عنهم.
{ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ } تحصل به هدايته، فهؤلاء ضلوا حيث زعموا في شركائهم النفع ودفع الضر، فتبين حينئذ ضلالهم.
{ ٱسْتَجِيبُواْ لِرَبِّكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَكُمْ مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ } (47) { فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ ٱلإِنسَانَ كَفُورٌ }(48)


يأمر تعالى عباده بالاستجابة له، بامتثال ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه، وبالمبادرة بذلك وعدم التسويف، مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْم القيامة الذي إذا جاء لا يمكن رده واستدراك الفائت، وليس للعبد في ذلك اليوم ملجأ يلجأ إليه، فيفوت ربه، ويهرب منه.
بل قد أحاطت الملائكة بالخليقة من خلفهم، ونودوا
{ يٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ إِنِ ٱسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ فَٱنفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ } [الرحمن: 33] وليس للعبد في ذلك اليوم نكير لما اقترفه وأجرمه، بل لو أنكر لشهدت عليه جوارحه. وهذه الآية ونحوها، فيها ذم الأمل، والأمر بانتهاز الفرصة في كل عمل يعرض للعبد، فإن للتأخير آفات.
{ فَإِنْ أَعْرَضُواْ } عمّا جئتهم به بعد البيان التام { فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } تحفظ أعمالهم وتسأل عنها، { إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ } فإذا أديت ما عليك، فقد وجب أجرك على اللّه، سواء استجابوا أم أعرضوا، وحسابهم على اللّه الذي يحفظ عليهم صغير أعمالهم وكبيرها، وظاهرها وباطنها.
ثم ذكر تعالى حالة الإنسان، وأنه إذا أذاقه الله رحمة، من صحة بدن، ورزق رغد، وجاه ونحوه { فَرِحَ بِهَا } أي: فرح فرحاً مقصوراً عليها، لا يتعداها، ويلزم من ذلك طمأنينته بها، وإعراضه عن المُنْعِم. { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } أي: مرض أو فقر، أو نحوهما { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ ٱلإِنسَانَ كَفُورٌ } أي: طبيعته كفران النعمة السابقة، والتسخط لما أصابه من السيئة.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #514  
قديم 31-07-2020, 03:22 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,560
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (513)
تفسير السعدى
سورة الشورى
من الأية(49)
الى الأية(53)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الشورى
{ لِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ ٱلذُّكُورَ } (49) { أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ }(50)


هذه الآية فيها الإخبار عن سعة ملكه تعالى، ونفوذ تصرفه في الملك في الخلق لما يشاء، والتدبير لجميع الأمور، حتى إن تدبيره تعالى، من عمومه، أنه يتناول المخلوقة عن الأسباب التي يباشرها العباد، فإن النكاح من الأسباب لولادة الأولاد، فاللّه تعالى هو الذي يعطيهم من الأولاد ما يشاء. فمن الخلق مَنْ يهب له إناثاً، ومنهم مَنْ يهب له ذكوراً، ومنهم مَنْ يزوجه، أي: يجمع له ذكوراً وإناثاً، ومنهم مَنْ يجعله عقيماً لا يولد له.
{ إِنَّهُ عَلِيمٌ } بكل شيء { قَدِيرٌ } على كل شيء، فيتصرف بعلمه وإتقانه الأشياء، وبقدرته في مخلوقاته.
{ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ } (51) { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا ٱلْكِتَابُ وَلاَ ٱلإِيمَانُ وَلَـٰكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } (52) { صِرَاطِ ٱللَّهِ ٱلَّذِي لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ أَلاَ إِلَى ٱللَّهِ تَصِيرُ ٱلأُمُورُ }(53)


لما قال المكذبون لرسل الله، الكافرون بالله:{ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا ٱللَّهُ أَوْ تَأْتِينَآ آيَةٌ } [البقرة: 118] من كبرهم وتجبرهم، رد الله عليهم بهذه الآية الكريمة، وأن تكليمه تعالى لا يكون إلا لخواص خلقه، للأنبياء والمرسلين، وصفوته من العالمين، وأنه يكون على أحد هذه الأوجه.
إما { أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ وَحْياً } بأن يلقي الوحي في قلب الرسول، من غير إرسال ملك، ولا مخاطبة منه شفاها.
{ أَوْ } يكلمه منه شفاها، لكن { مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } كما حصل لموسى بن عمران، كليم الرحمن. { أَوْ } يكلمه الله بواسطة الرسول الملكي، فـ { يُرْسِلَ رَسُولاً } كجبريل أو غيره من الملائكة. { فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ } أي: بإذن ربه، لا بمجرد هواه، { إِنَّهُ } تعالى علي الذات، علي الأوصاف، عظيمها، علي الأفعال، قد قهر كل شيء، ودانت له المخلوقات. حكيم في وضعه كل شيء في موضعه، من المخلوقات والشرائع. { وَكَذَلِكَ } حين أوحينا إلى الرسل قبلك { أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا } وهو هذا القرآن الكريم، سماه روحاً، لأن الروح يحيا به الجسد، والقرآن تحيا به القلوب والأرواح، وتحيا به مصالح الدنيا والدين، لما فيه من الخير الكثير والعلم الغزير.
وهو محض منّة الله على رسوله وعباده المؤمنين، من غير سبب منهم، ولهذا قال: { مَا كُنتَ تَدْرِي } أي: قبل نزوله عليك { مَا ٱلْكِتَابُ وَلاَ ٱلإِيمَانُ } أي: ليس عندك علم بأخبار الكتب السابقة، ولا إيمان وعمل بالشرائع الإلهية، بل كنت أمياً لا تخط ولا تقرأ، فجاءك هذا الكتاب الذي { جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا } يستضيئون به في ظلمات الكفر والبِدع، والأهواء المردية، ويعرفون به الحقائق، ويهتدون به إلى الصراط المستقيم.
{ وَإِنَّكَ لَتَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } أي: تبينه لهم وتوضحه، وتنيره وترغبهم فيه، وتنهاهم عن ضده، وترهبهم منه، ثم فسَّر الصراط المستقيم فقال: { صِرَاطِ ٱللَّهِ ٱلَّذِي لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } أي: الصراط الذي نصبه الله لعباده، وأخبرهم أنه موصل إليه وإلى دار كرامته، { أَلاَ إِلَى ٱللَّهِ تَصِيرُ ٱلأُمُورُ } أي: ترجع جميع أمور الخير والشر، فيجازي كُلاً بحسب عمله، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #515  
قديم 31-07-2020, 03:23 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,560
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (514)
تفسير السعدى
سورة الزخرف
من الأية(1)
الى الأية(14)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الزخرف
{ حـمۤ } (1) { وَٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ } (2) { إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } (3) { وَإِنَّهُ فِيۤ أُمِّ ٱلْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ } (4) { أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ ٱلذِّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ }(5)


هذا قسم بالقرآن على القرآن، فأقسم بالكتاب المبين وأطلق، ولم يذكر المتعلق، ليدل على أنه مبين لكل ما يحتاج إليه العباد من أمور الدنيا والدين والآخرة.
{ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً } هذا المقسم عليه، أنه جُعِل بأفصح اللغات وأوضحها وأبينها، وهذا من بيانه. وذكر الحكمة في ذلك فقال: { لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } ألفاظه ومعانيه لتيسرها وقربها من الأذهان.
{ وَإِنَّهُ } أي: هذا الكتاب { لَدَيْنَا } في الملأ الأعلى في أعلى الرتب وأفضلها { لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ } أي: لعليٌّ في قدره وشرفه ومحله، حكيم فيما يشتمل عليه من الأوامر والنواهي والأخبار، فليس فيه حكم مخالف للحكمة والعدل والميزان.
ثم أخبر تعالى أن حكمته وفضله يقتضي أن لا يترك عباده هملاً، لا يرسل إليهم رسولاً، ولا ينزل عليهم كتاباً، ولو كانوا مسرفين ظالمين فقال: { أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ ٱلذِّكْرَ صَفْحاً } أي: أفنعرض عنكم، ونترك إنزال الذكر إليكم، ونضرب عنكم صفحاً، لأجل إعراضكم، وعدم انقيادكم له؟ بل ننزل عليكم الكتاب، ونوضح لكم فيه كل شيء، فإن آمنتم به واهتديتم، فهو من توفيقكم، وإلا قامت عليكم الحجة، وكنتم على بيّنة من أمركم.

{ وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي ٱلأَوَّلِينَ } (6) { وَمَا يَأْتِيهِم مِّنْ نَّبِيٍّ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } (7) { فَأَهْلَكْنَآ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً وَمَضَىٰ مَثَلُ ٱلأَوَّلِينَ }(8)


يقول تعالى: إن هذه سنتنا في الخلق، أن لا نتركهم هملاً، فكم { أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي ٱلأَوَّلِينَ } يأمرونهم بعبادة اللّه وحده لا شريك له، ولم يزل التكذيب موجوداً في الأمم.
{ وَمَا يَأْتِيهِم مِّنْ نَّبِيٍّ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } جحداً لما جاء به، وتكبراً على الحق.
{ فَأَهْلَكْنَآ أَشَدَّ } من هؤلاء { بَطْشاً } أي: قوة وأفعالاً، وآثاراً في الأرض، { وَمَضَىٰ مَثَلُ ٱلأَوَّلِينَ } أي: مضت أمثالهم وأخبارهم، وبيّنا لكم منها ما فيه عبرة ومزدجر عن التكذيب والإنكار.

{ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ ٱلْعَزِيزُ ٱلْعَلِيمُ } (9) { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } (10) { وَٱلَّذِي نَزَّلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ } (11) { وَٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلْفُلْكِ وَٱلأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ } (12) { لِتَسْتَوُواْ عَلَىٰ ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا ٱسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ ٱلَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَـٰذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } (13) { وَإِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ }(14)


يخبر تعالى عن المشركين، أنك لو { سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ } الله وحده لا شريك له، العزيز الذي دانت لعزته جميع المخلوقات، العليم بظواهر الأمور وبواطنها، وأوائلها وأواخرها، فإذا كانوا مقرين بذلك، فكيف يجعلون له الولد والصاحبة والشريك؟! وكيف يشركون به مَنْ لا يخلق ولا يرزق، ولا يُميت ولا يُحيي؟! ثم ذكر أيضاً من الأدلة الدالة على كمال نعمته واقتداره، بما خلقه لعباده من الأرض التي مهدها وجعلها قراراً للعباد، يتمكنون فيها من كل ما يريدون. { وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً } أي: جعل منافذ بين سلاسل الجبال المتصلة، تنفذون منها إلى ما وراءها من الأقطار.
{ لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } في السير في الطرق ولا تضيعون، ولعلكم تهتدون أيضاً في الاعتبار بذلك والادكار فيه. { وَٱلَّذِي نَزَّلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ } لا يزيد ولا ينقص، ويكون أيضاً بمقدار الحاجة، لا ينقص بحيث لا يكون فيه نفع، ولا يزيد بحيث يضر العباد والبلاد، بل أغاث به العباد، وأنقذ به البلاد من الشدة، ولهذا قال: { فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً } أي: أحييناها بعد موتها، { كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ } أي: فكما أحيا الأرض الميتة الهامدة بالماء، كذلك يحييكم بعد ما تستكملون في البرزخ، ليجازيكم بأعمالكم.
{ وَٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَزْوَاجَ كُلَّهَا } أي: الأصناف جميعها، مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون، من ليل ونهار، وحر وبرد، وذكر وأنثى، وغير ذلك. { وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلْفُلْكِ } أي: السفن البحرية، الشراعية والنارية، مَا تَرْكَبُونَ { وَ } من { ٱلأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُواْ عَلَىٰ ظُهُورِهِ } وهذا شامل لظهور الفلك ولظهور الأنعام، أي: لتستقروا عليها، { ثُمَ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا ٱسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ } بالاعتراف بالنعمة لمن سخرها، والثناء عليه تعالى بذلك، ولهذا قال: { وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ ٱلَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَـٰذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } أي: لولا تسخيره لنا ما سخّر من الفلك، والأنعام، ما كنا مطيقين لذلك وقادرين عليه، ولكن من لطفه وكرمه تعالى، سخرها وذللها ويسر أسبابها.
والمقصود من هذا، بيان أن الرب الموصوف بما ذكره، من إفاضة النعم على العباد، هو الذي يستحق أن يعبد، ويصلى له ويسجد.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #516  
قديم 31-07-2020, 03:23 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,560
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (515)
تفسير السعدى
سورة الزخرف
من الأية(15)
الى الأية(25)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الزخرف

{ وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ ٱلإنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ } (15) { أَمِ ٱتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِٱلْبَنِينَ } (16) { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَـٰنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ } (17) { أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي ٱلْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي ٱلْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ } (18) { وَجَعَلُواْ ٱلْمَلاَئِكَةَ ٱلَّذِينَ هُمْ عِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ إِنَاثاً أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ } (19) { وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ ٱلرَّحْمَـٰنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } (20) { أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ } (21) { بَلْ قَالُوۤاْ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَارِهِم مُّهْتَدُونَ } (22) { وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ } (23) { قَٰلَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَآءَكُمْ قَالُوۤاْ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } (24) { فَٱنتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُكَذِّبِينَ }(25)


يخبر تعالى عن شناعة قول المشركين، الذين جعلوا للّه تعالى ولداً، وهو الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً، ولم يكن له كفواً أحد، وإن ذلك باطل من عدة أوجه: منها: أن الخلق كلهم عباده، والعبودية تنافي الولادة. ومنها: أن الولد جزء من والده، واللّه تعالى بائن من خلقه، مباين لهم في صفاته ونعوت جلاله، والولد جزء من الوالد، فمحال أن يكون للّه تعالى ولد.
ومنها: أنهم يزعمون أن الملائكة بنات اللّه، ومن المعلوم أن البنات أدون الصنفين، فكيف يكون لله البنات، ويصطفيهم بالبنين، ويفضلهم بها؟! فإذا يكونون أفضل من اللّه، تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً.
ومنها: أن الصنف الذي نسبوه للّه، وهو البنات، أدون الصنفين، وأكرههما لهم، حتى إنهم من كراهتهم لذلك { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَـٰنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً } من كراهته وشدة بغضه، فكيف يجعلون للّه ما يكرهون؟ ومنها: أن الأنثى ناقصة في وصفها، وفي منطقها وبيانها، ولهذا قال تعالى: { أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي ٱلْحِلْيَةِ } أي: يجمل فيها، لنقص جماله، فيجمل بأمر خارج عنه؟ { وَهُوَ فِي ٱلْخِصَامِ } أي: عند الخصام الموجب لإظهار ما عند الشخص من الكلام، { غَيْرُ مُبِينٍ } أي: غير مبين لحجته، ولا مفصح عمّا احتوى عليه ضميره، فكيف ينسبونهن للّه تعالى؟ ومنها: أنهم جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الله إِنَاثاً، فتجرؤوا على الملائكة، العباد المقربين، ورقوهم عن مرتبة العبادة والذل، إلى مرتبة المشاركة للّه، في شيء من خواصه، ثم نزلوا بهم عن مرتبة الذكورية إلى مرتبة الأنوثية، فسبحان مَنْ أظهر تناقض مَنْ كذب عليه وعاند رسله. ومنها: أن اللّه رد عليهم بأنهم لم يشهدوا خلق اللّه لملائكته، فكيف يتكلمون بأمر من المعلوم عند كل أحد، أنه ليس لهم به علم؟! ولكن لا بد أن يسألوا عن هذه الشهادة، وستكتب عليهم، ويعاقبون عليها.
وقوله تعالى: { وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ ٱلرَّحْمَـٰنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ } فاحتجوا على عبادتهم الملائكة بالمشيئة، وهي حجة لم يزل المشركون يطرقونها، وهي حجة باطلة في نفسها، عقلاً وشرعاً. فكل عاقل لا يقبل الاحتجاج بالقدر، ولو سلكه في حالة من أحواله لم يثبت عليها قدمه.
وأما شرعاً، فإن اللّه تعالى أبطل الاحتجاج به، ولم يذكره عن غير المشركين به المكذبين لرسله، فإن اللّه تعالى قد أقام الحجة على العباد، فلم يبق لأحد عليه حجة أصلاً، ولهذا قال هنا: { مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } أي: يتخرصون تخرصاً لا دليل عليه، ويتخبطون خبط عشواء.
ثم قال: { أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ } يخبرهم بصحة أفعالهم، وصدق أقوالهم؟ ليس الأمر كذلك، فإن اللّه أرسل محمداً نذيراً إليهم، وهم لم يأتهم نذير غيره، أي: فلا عقل ولا نقل، وإذا انتفى الأمران، فلا ثَمَّ إلاّ الباطل.
نعم، لهم شبهة من أوهى الشُّبَه، وهي تقليد آبائهم الضالين، الذين ما زال الكفرة يردون بتقليدهم دعوة الرسل، ولهذا قال هنا: { بَلْ قَالُوۤاْ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ } أي: على دين وملة { وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَارِهِم مُّهْتَدُونَ } أي: فلا نتبع ما جاء به محمد صلى اللّه عليه وسلم.
{ وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ } أي: منعموها، وملؤها الذين أطغتهم الدنيا، وغرتهم الأموال، واستكبروا على الحق.
{ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ } أي: فهؤلاء ليسوا ببدع منهم، وليسوا بأول مَنْ قال هذه المقالة. وهذا الاحتجاج من هؤلاء المشركين الضالين، بتقليدهم لآبائهم الضالين، ليس المقصود به اتباع الحق والهدى، وإنما هو تعصب محض، يراد به نصرة ما معهم من الباطل.
ولهذا كل رسول يقول لمن عارضه بهذه الشبهة الباطلة: { أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَآءَكُمْ } أي: فهل تتبعوني لأجل الهدى؟ { قَالُوۤاْ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } فعلم بهذا، أنهم ما أرادوا اتباع الحق والهدى، وإنما قصدهم اتباع الباطل والهوى. { فَٱنتَقَمْنَا مِنْهُمْ } بتكذيبهم الحق، وردهم إياه بهذه الشبهة الباطلة.
{ فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُكَذِّبِينَ } فليحذر هؤلاء أن يستمروا على تكذيبهم، فيصيبهم ما أصابهم.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #517  
قديم 31-07-2020, 03:25 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,560
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (516)
تفسير السعدى
سورة الزخرف
من الأية(26)
الى الأية(32)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الزخرف
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ } (26) { إِلاَّ ٱلَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } (27) { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } (28) { بَلْ مَتَّعْتُ هَـٰؤُلاَءِ وَآبَآءَهُمْ حَتَّىٰ جَآءَهُمُ ٱلْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ } (29) { وَلَمَّا جَآءَهُمُ ٱلْحَقُّ قَالُواْ هَـٰذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ } (30) { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } (31) { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ }(32)


يخبر تعالى عن ملة إبراهيم الخليل عليه السلام، الذي ينتسب إليه أهل الكتاب والمشركون، وكلهم يزعم أنه على طريقته، فأخبر عن دينه الذي ورثه في ذريته فقال: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ } الذين اتخذوا من دون اللّه آلهة يعبدونهم ويتقربون إليهم: { إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ } أي: مبغضٌ له، مجتنبٌ معادٍ لأهله، { إِلاَّ ٱلَّذِي فَطَرَنِي } فإني أتولاه، وأرجو أن يهديني للعلم بالحق والعمل به، فكما فطرني ودبرني بما يصلح بدني ودنياي، فـ { سَيَهْدِينِ } لما يصلح ديني وآخرتي. { وَجَعَلَهَا } أي: هذه الخصلة الحميدة، التي هي أم الخصال وأساسها، وهي إخلاص العبادة للّه وحده، والتبرِّي من عبادة ما سواه.
{ كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ } أي: ذريته { لَعَلَّهُمْ } إليها { يَرْجِعُونَ } لشهرتها عنه، وتوصيته لذريته، وتوصية بعض بنيه - كإسحاق ويعقوب - لبعض، كما قال تعالى:
{ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } إلى آخر الآيات [البقرة: 130].
فلم تزل هذه الكلمة موجودة في ذريته عليه السلام حتى دخلهم الترف والطغيان.
فقال تعالى: { بَلْ مَتَّعْتُ هَـٰؤُلاَءِ وَآبَآءَهُمْ } بأنواع الشهوات، حتى صارت هي غايتهم ونهاية مقصودهم، فلم تزل يتربى حبها في قلوبهم، حتى صارت صفات راسخة، وعقائد متأصلة. { حَتَّىٰ جَآءَهُمُ ٱلْحَقُّ } الذي لا شك فيه ولا مرية ولا اشتباه. { وَرَسُولٌ مُّبِينٌ } أي: بين الرسالة، قامت أدلة رسالته قياماً باهراً، بأخلاقه ومعجزاته، وبما جاء به، وبما صدق به المرسلين، وبنفس دعوته صلى اللّه عليه وسلم. { وَلَمَّا جَآءَهُمُ ٱلْحَقُّ } الذي يوجب على مَنْ له أدنى دين ومعقول أن يقبله وينقاد له. { قَالُواْ هَـٰذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ } وهذا من أعظم المعاندة والمشاقة، فإنهم لم يكتفوا بمجرد الإعراض عنه، بل ولا جحده، فلم يرضوا حتى قدحوا به قدحاً شنيعاً، وجعلوه بمنزلة السحر الباطل، الذي لا يأتي به إلاّ أخبث الخلق وأعظمهم افتراء، والذي حملهم على ذلك، طغيانهم بما متعهم اللّه به وآباءهم. { وَقَالُواْ } مقترحين على اللّه بعقولهم الفاسدة: { لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } أي: معظَّم عندهم، مبجّل من أهل مكة، أو أهل الطائف، كالوليد بن المغيرة ونحوه، ممن هو عندهم عظيم. قال اللّه رداً لاقتراحهم: { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ } أي: أهم الخزان لرحمة اللّه، وبيدهم تدبيرها، فيعطون النبوة والرسالة مَنْ يشاؤون، ويمنعونها ممن يشاؤون؟ { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } أي: في الحياة الدنيا، { وَ } الحال أن رَحْمَةَ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ من الدنيا. فإذا كانت معايش العباد وأرزاقهم الدنيوية بيد اللّه تعالى، وهو الذي يقسمها بين عباده، فيبسط الرزق على من يشاء، ويضيقه على من يشاء، بحسب حكمته، فرحمته الدينية، التي أعلاها النبوة والرسالة، أولى وأحرى أن تكون بيد اللّه تعالى، فاللّه أعلم حيث يجعل رسالته.
فعلم أن اقتراحهم ساقط لاغ، وأن التدبير للأمور كلها، دينيها ودنيويها، بيد اللّه وحده.
هذا إقناع لهم، من جهة غلطهم في الاقتراح، الذي ليس في أيديهم منه شيء، إن هو إلا ظلم منهم ورد للحق. وقولهم: { لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } لو عرفوا حقائق الرجال، والصفات التي بها يعرف علو قدر الرجل، وعظم منزلته عند اللّه وعند خلقه، لعلموا أن محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب صلى اللّه عليه وسلم، هو أعظم الرجال قدراً، وأعلاهم فخراً، وأكملهم عقلاً، وأغزرهم علماً، وأجلهم رأياً وعزماً وحزماً، وأكملهم خلقاً، وأوسعهم رحمةً، وأشدهم شفقةً، وأهداهم وأتقاهم. وهو قطب دائرة الكمال، وإليه المنتهى في أوصاف الرجال، ألا وهو رجل العالم على الإطلاق، يعرف ذلك أولياؤه وأعداؤه، فكيف يفضل عليه المشركون مَنْ لم يشم مثقال ذرة من كماله؟!، ومن جرمه ومنتهى حمقه، أن جعل إلهه الذي يعبده ويدعوه ويتقرب إليه، صنماً، أو شجراً، أو حجراً، لا يضر ولا ينفع، ولا يعطي ولا يمنع، وهو كلٍّ على مولاه، يحتاج لمن يقوم بمصالحه، فهل هذا إلا من فعل السفهاء والمجانين؟ فكيف يجعل مثل هذا عظيماً؟ أم كيف يفضل على خاتم الرسل وسيد ولد آدم صلى اللّه عليه وسلم؟ ولكن الذين كفروا لا يعقلون. وفي هذه الآية تنبيه على حكمة اللّه تعالى في تفضيل اللّه بعض العباد على بعض في الدنيا { لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً } أي: ليسخر بعضهم بعضاً، في الأعمال والحرف والصنائع.
فلو تساوى الناس في الغنى، ولم يحتج بعضهم إلى بعض، لتعطلت كثير من مصالحهم ومنافعهم. وفيها دليل على أن نعمته الدينية خير من النعمة الدنيوية كما قال تعالى في الآية الأخرى:
{ قُلْ بِفَضْلِ ٱللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } [يونس: 58].


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #518  
قديم 31-07-2020, 03:25 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,560
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (517)
تفسير السعدى
سورة الزخرف
من الأية(33)
الى الأية(40)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الزخرف
{ وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } (34) { وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ } (35) { وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ }(36)


يخبر تعالى بأن الدنيا لا تسوى عنده شيئاً، وأنه لولا لطفه ورحمته بعباده، التي لا يقدم عليها شيئاً، لوسَّع الدنيا على الذين كفروا توسيعاً عظيماً، ولجعل { لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ } أي: درجاً من فضة { عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } على سطوحهم. { وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ } من فضة، ولجعل لهم { زُخْرُفاً } أي: لزخرف لهم دنياهم بأنواع الزخارف، وأعطاهم ما يشتهون، ولكن منعه من ذلك رحمته بعباده خوفاً عليهم من التسارع في الكفر وكثرة المعاصي بسبب حب الدنيا، ففي هذا دليل على أنه يمنع العباد بعض أمور الدنيا منعاً عاماً أو خاصاً لمصالحهم، وأن الدنيا لا تزن عند اللّه جناح بعوضة، وأن كل هذه المذكورات متاع الحياة الدنيا، منغصة، مكدرة، فانية، وأن الآخرة عند اللّه تعالى خير للمتقين لربهم بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، لأن نعيمها تام كامل من كل وجه، وفي الجنة ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وهم فيها خالدون، فما أشد الفرق بين الدارين!!
{ وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ ٱلرَّحْمَـٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } (37) { وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُم ْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } (38) { حَتَّىٰ إِذَا جَآءَنَا قَالَ يٰلَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ ٱلْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ ٱلْقَرِينُ } (39) { وَلَن يَنفَعَكُمُ ٱلْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي ٱلْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ }(40)


يخبر تعالى عن عقوبته البليغة، لمن أعرض عن ذكره، فقال: { وَمَن يَعْشُ } أي: يعرض ويصد { عَن ذِكْرِ ٱلرَّحْمَـٰنِ } الذي هو القرآن العظيم، الذي هو أعظم رحمة رحم بها الرحمن عباده، فمَنْ قبلها، فقد قبل خير المواهب، وفاز بأعظم المطالب والرغائب، ومَنْ أعرض عنها وردها، فقد خاب وخسر خسارة لا يسعد بعدها أبداً، وقيَّض له الرحمن شيطاناً مريداً، يقارنه ويصاحبه، ويعده ويمنيه، ويؤزه إلى المعاصي أزا، { وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُم ْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ } أي: الصراط المستقيم، والدين القويم.
{ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } بسبب تزيين الشيطان للباطل وتحسينه له، وإعراضهم عن الحق، فاجتمع هذا وهذا.
فإن قيل: فهل لهذا من عذر، من حيث إنه ظن أنه مهتد، وليس كذلك؟ قيل: لا عذر لهذا وأمثاله، الذين مصدر جهلهم الإعراض عن ذكر اللّه، مع تمكنهم على الاهتداء، فزهدوا في الهدى مع القدرة عليه، ورغبوا في الباطل، فالذنب ذنبهم، والجرم جرمهم.
فهذه حالة هذا المُعْرِض عن ذكر اللّه في الدنيا، مع قرينه، وهو الضلال والغيّ، وانقلاب الحقائق.
وأما حاله، إذا جاء ربه في الآخرة، فهو شر الأحوال، وهو: إظهار الندم والتحسر، والحزن الذي لا يجبر مصابه، والتبرِّي من قرينه، ولهذا قال تعالى: { حَتَّىٰ إِذَا جَآءَنَا قَالَ يٰلَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ ٱلْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ ٱلْقَرِينُ }. كما في قوله تعالى:
{ وَيَوْمَ يَعَضُّ ٱلظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يٰلَيْتَنِي ٱتَّخَذْتُ مَعَ ٱلرَّسُولِ سَبِيلاً * يَٰوَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً * لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ ٱلذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَآءَنِي وَكَانَ ٱلشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً } [الفرقان: 27-29].
وقوله تعالى: { وَلَن يَنفَعَكُمُ ٱلْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي ٱلْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ } أي: ولا ينفعكم يوم القيامة اشتراككم في العذاب، أنتم وقرناؤكم وأخلاؤكم، وذلك لأنكم اشتركتم في الظلم، فاشتركتم في عقابه وعذابه.
ولن ينفعكم أيضاً، روح التسلي في المصيبة، فإن المصيبة إذا وقعت في الدنيا، واشترك فيها المعاقبون، هان عليهم بعض الهون، وتسلَّى بعضهم ببعض، وأما مصيبة الآخرة، فإنها جمعت كل عقاب، ما فيه أدنى راحة، حتى ولا هذه الراحة. نسألك يا ربنا العافية، وأن تريحنا برحمتك.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #519  
قديم 31-07-2020, 03:27 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,560
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (518)
تفسير السعدى
سورة الزخرف
من الأية(41)
الى الأية(56)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الزخرف

{ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ ٱلصُّمَّ أَوْ تَهْدِي ٱلْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } (41) { فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ } (42) { أَوْ نُرِيَنَّكَ ٱلَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ } (42) { فَٱسْتَمْسِكْ بِٱلَّذِيۤ أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } (43) { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ } (44) { وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ ٱلرَّحْمَـٰنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ }(45)


يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم، مسلياً له عن امتناع المكذبين عن الاستجابة له، وأنهم لا خير فيهم، ولا فيهم زكاء يدعوهم إلى الهدى: { أَفَأَنتَ تُسْمِعُ ٱلصُّمَّ } أي: الذين لا يسمعون { أَوْ تَهْدِي ٱلْعُمْيَ } الذين لا يبصرون، أو تهدي { وَمَن كَانَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } أي: بَيِّنٌ واضح، لعلمه بضلاله، ورضاه به.
فكما أن الأصم لا يسمع الأصوات، والأعمى لا يبصر، والضال ضلالاً مبيناً لا يهتدي، فهؤلاء قد فسدت فطرهم وعقولهم، بإعراضهم عن الذكر، واستحدثوا عقائد فاسدة، وصفات خبيثة، تمنعهم وتحول بينهم وبين الهدى، وتوجب لهم الازدياد من الردى، فهؤلاء لم يبق إلا عذابهم ونكالهم، إما في الدنيا، أو في الآخرة، ولهذا قال تعالى: { فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ } أي: فإن ذهبنا بك قبل أن نريك ما نعدهم من العذاب، فاعلم بخبرنا الصادق أنَّا منهم منتقمون.
{ أَوْ نُرِيَنَّكَ ٱلَّذِي وَعَدْنَاهُمْ } من العذاب { فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ } ولكن ذلك متوقف على اقتضاء الحكمة لتعجيله أو تأخيره، فهذه حالك وحال هؤلاء المكذبين.
وأما أنت { فَٱسْتَمْسِكْ بِٱلَّذِيۤ أُوحِيَ إِلَيْكَ } فعلاً واتصافاً، بما يأمر بالاتصاف به ودعوة إليه، وحرصاً على تنفيذه في نفسك وفي غيرك. { إِنَّكَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } موصل إلى الله وإلى دار كرامته، وهذا مما يوجب عليك زيادة التمسك به، والاهتداء إذا علمت أنه حق وعدل وصدق، تكون بانياً على أصل أصيل، إذا بنى غيرك على الشكوك والأوهام، والظلم والجور.
{ وَإِنَّهُ } أي: هذا القرآن الكريم { لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } أي: فخر لكم، ومنقبة جليلة، ونعمة لا يقادر قدرها، ولا يعرف وصفها، ويذكركم أيضاً ما فيه الخير الدنيوي والأخروي، ويحثكم عليه، ويذكركم الشر ويرهبكم عنه، { وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ } عنه، هل قمتم به فارتفعتم وانتفعتم، أم لم تقوموا به فيكون حجة عليكم، وكفراً منكم بهذه النعمة؟ { وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ ٱلرَّحْمَـٰنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } حتى يكون للمشركين نوع حجة، يتبعون فيها أحداً من الرسل، فإنك لو سألتهم واستخبرتهم عن أحوالهم، لم تجد أحداً منهم يدعو إلى اتخاذ إله آخر مع الله مع أن كل الرسل، من أولهم إلى آخرهم، يدعون إلى عبادة الله، وحده لا شريك له.
قال تعالى:
{ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجْتَنِبُواْ ٱلْطَّاغُوتَ } [النحل: 36] وكل رسول بعثه الله، يقول لقومه: اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، فدل هذا، أن المشركين ليس لهم مستند في شركهم، لا من عقل صحيح، ولا نقل عن الرسل.
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَـٰتِنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } (46) { فَلَمَّا جَآءَهُم بِآيَاتِنَآ إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ } (47) { وَمَا نُرِيِهِم مِّنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُم بِٱلْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } (48) { وَقَالُواْ يَٰأَيُّهَ ٱلسَّاحِرُ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ } (49) { فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ ٱلْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } (50) { وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يٰقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَـٰذِهِ ٱلأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِيۤ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } (51) { أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مِّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ } (52) { فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَآءَ مَعَهُ ٱلْمَلاَئِكَةُ مُقْتَرِنِينَ } (53) { فَٱسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ } (54) { فَلَمَّآ آسَفُونَا ٱنتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُ مْ أَجْمَعِينَ } (55) { فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِّلآخِرِينَ }(56)


{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَـٰتِنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ } إلى آخر القصة لما قال تعالى:{ وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ ٱلرَّحْمَـٰنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } [الزخرف: 45] بيَّن تعالى حال موسى ودعوته، التي هي أشهر ما يكون من دعوات الرسل، ولأن اللّه تعالى أكثر من ذكرها في كتابه، فذكر حاله مع فرعون، فقال: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَـٰتِنَآ } التي دلت دلالة قاطعة على صحة ما جاء به، كالعصا، والحية، وإرسال الجراد، والقمل، إلى آخر الآيات.

{ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } فدعاهم إلى الإقرار بربهم، ونهاهم عن عبادة ما سواه.
{ فَلَمَّا جَآءَهُم بِآيَاتِنَآ إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ } أي: ردوها وأنكروها، واستهزؤوا بها، ظلماً وعلواً، فلم يكن لقصور بالآيات، وعدم وضوح فيها، ولهذا قال: { وَمَا نُرِيِهِم مِّنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا } أي: الآية المتأخرة أعظم من السابقة، { وَأَخَذْنَاهُم بِٱلْعَذَابِ } كالجراد، والقمل، والضفادع، والدم، آيات مفصلات. { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } إلى الإسلام، ويذعنون له، ليزول شركهم وشرهم.
{ وَقَالُواْ } عندما نزل عليهم العذاب: { يَٰأَيُّهَ ٱلسَّاحِرُ } يعنون موسى عليه السلام، وهذا إما من باب التهكم به، وإما أن يكون هذا الخطاب عندهم مدحاً، فتضرعوا إليه بأن خاطبوه بما يخاطبون به من يزعمون أنهم علماؤهم، وهم السحرة، فقالوا: { ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ } أي: بما خصك اللّه به، وفضلك به، من الفضائل والمناقب، أن يكشف عنا العذاب { إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ } إن كشف اللّه عنا ذلك. { فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ ٱلْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } أي: لم يفوا بما قالوا، بل غدروا، واستمروا على كفرهم. وهذا كقوله تعالى:
{ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلطُّوفَانَ وَٱلْجَرَادَ وَٱلْقُمَّلَ وَٱلضَّفَادِعَ وَٱلدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَٱسْتَكْبَرُوا ْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ * وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ ٱلرِّجْزُ قَالُواْ يٰمُوسَىٰ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا ٱلرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ * فَلَماَّ كَشَفْنَا عَنْهُمُ ٱلرِّجْزَ إِلَىٰ أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } [الأعراف: 133-135].
{ وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ } مستعلياً بباطله، قد غره ملكه، وأطغاه ماله وجنوده: { يٰقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ } أي: ألست المالك لذلك، المتصرف فيه، { وَهَـٰذِهِ ٱلأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِيۤ } أي: الأنهار المنسحبة من النيل، في وسط القصور والبساتين.
{ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } هذا الملك الطويل العريض، وهذا من جهله البليغ، حيث افتخر بأمر خارج عن ذاته، ولم يفخر بأوصاف حميدة، ولا أفعال سديدة.
{ أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مِّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي هُوَ مَهِينٌ } يعني - قبحه اللّه - بالمهين، موسى بن عمران، كليم الرحمن، الوجيه عند اللّه، أي: أنا العزيز، وهو الذليل المُهان المحتقر، فأيّنا خير؟ { وَ } مع هذا فـ { لاَ يَكَادُ يُبِينُ } عمّا في ضميره بالكلام، لأنه ليس بفصيح اللسان، وهذا ليس من العيوب في شيء، إذا كان يبين ما في قلبه، ولو كان ثقيلاً عليه الكلام.
ثم قال فرعون: { فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ } أي: فهلا كان موسى بهذه الحالة، أن يكون مزيناً مجملاً بالحلي والأساور؟ { أَوْ جَآءَ مَعَهُ ٱلْمَلاَئِكَةُ مُقْتَرِنِينَ } يعاونونه على دعوته، ويؤيدونه على قوله. { فَٱسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ } أي: استخف عقولهم بما أبدى لهم من هذه الشبه، التي لا تسمن ولا تغني من جوع، ولا حقيقة تحتها، وليست دليلاً على حق ولا على باطل، ولا تروج إلاّ على ضعفاء العقول. فأي دليل يدل على أن فرعون محق، لكون ملك مصر له، وأنهاره تجري من تحته؟ وأي دليل يدل على بطلان ما جاء به موسى، لقلة أتباعه، وثقل لسانه، وعدم تحلية الله له، ولكنه لقي ملأ لا معقول عندهم، فمهما قال اتبعوه، من حق وباطل.

{ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ } فبسبب فسقهم، قيض لهم فرعون، يزين لهم الشرك والشر.
{ فَلَمَّآ آسَفُونَا } أي: أغضبونا بأفعالهم { ٱنتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُ مْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِّلآخِرِينَ } ليعتبر بهم المعتبرون، ويتعظ بأحوالهم المتعظون.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #520  
قديم 31-07-2020, 03:28 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,560
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (519)
تفسير السعدى
سورة الزخرف
من الأية(57)
الى الأية(65)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الزخرف

{ وَلَمَّا ضُرِبَ ٱبْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ } 57 { وَقَالُوۤاْ ءَأَ ٰلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } 58 { إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } 59 { وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً فِي ٱلأَرْضِ يَخْلُفُونَ } 60 { وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا وَٱتَّبِعُونِ هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } 61 { وَلاَ يَصُدَّنَّكُمُ ٱلشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } 62 { وَلَمَّا جَآءَ عِيسَىٰ بِٱلْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِٱلْحِكْمَةِ وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ ٱلَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ } 63 { إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } 64 { فَٱخْتَلَفَ ٱلأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ }65


يقول تعالى: { وَلَمَّا ضُرِبَ ٱبْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً } أي: نُهي عن عبادته، وجعلت عبادته بمنزلة عبادة الأصنام والأنداد. { إِذَا قَوْمُكَ } المكذبون لك { مِنْهُ } أي: من أجل هذا المثل المضروب، { يَصِدُّونَ } أي: يستلجون في خصومتهم لك، ويصيحون، ويزعمون أنهم قد غلبوا في حجتهم، وأفلجوا.
{ وَقَالُوۤاْ ءَأَ ٰلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ } يعني: عيسى، حيث نهي عن عبادة الجميع، وشورك بينهم بالوعيد على مَنْ عبدهم، ونزل أيضاً قوله تعالى:
{ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } [الأنبياء: 98]. ووجه حجتهم الظالمة، أنهم قالوا: قد تقرر عندنا وعندك يا محمد، أن عيسى من عباد الله المقربين، الذين لهم العاقبة الحسنة، فَلِمَ سويت بينه وبينها في النهي عن عبادة الجميع؟ فلولا أن حجتك باطلة لم تتناقض.
ولِمَ قلت:
{ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } [الأنبياء: 98].
وهذا لفظٌ بزعمهم، يعم الأصنام، وعيسى، فهل هذا إلاّ تناقض؟ وتناقض الحجة دليل على بطلانها، هذا أنهى ما يقررون به هذه الشبهة [الذي] فرحوا بها واستبشروا، وجعلوا يصدون ويتباشرون. وهي - وللّه الحمد - من أضعف الشبه وأبطلها، فإن تسوية الله بين النهي عن عبادة المسيح، وبين النهي عن عبادة الأصنام، لأن العبادة حق للّه تعالى، لا يستحقها أحد من الخلق، لا الملائكة المقربون، ولا الأنبياء المرسلون، ولا مَنْ سواهم من الخلق، فأي شبهة في تسوية النهي عن عبادة عيسى وغيره؟ وليس تفضيل عيسى عليه السلام، وكونه مقرباً عند ربه ما يدل على الفرق بينه وبينها في هذا الموضع، وإنما هو كما قال تعالى: { إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ } بالنبوة والحكمة والعلم والعمل، { عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } يعرفون به قدرة الله تعالى على إيجاده من دون أب. وأما قوله تعالى:
{ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } [الأنبياء: 98] فالجواب عنها من ثلاثة أوجه: أحدها: أن قوله:{ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ } [الأنبياء: 98] أن " ما " اسم لما لا يعقل، لا يدخل فيه المسيح ونحوه. الثاني: أن الخطاب للمشركين، الذين بمكة وما حولها، وهم إنما يعبدون أصناماً وأوثاناً ولا يعبدون المسيح. الثالث: أن الله قال بعد هذه الآية:{ إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا ٱلْحُسْنَىٰ أُوْلَـٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } [الأنبياء: 101] فلا شك أن عيسى وغيره من الأنبياء والأولياء، داخلون في هذه الآية.
ثم قال تعالى: { وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً فِي ٱلأَرْضِ يَخْلُفُونَ } أي: لجعلنا بدلكم ملائكة يخلفونكم في الأرض، ويكونون في الأرض حتى نرسل إليهم ملائكة من جنسهم، وأما أنتم يا معشر البشر، فلا تطيقون أن ترسل إليكم الملائكة، فمن رحمة الله بكم، أن أرسل إليكم رسلاً من جنسكم، تتمكنون من الأخذ عنهم.

{ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ } أي: وإن عيسى عليه السلام، لدليل على الساعة، وأن القادر على إيجاده من أم بلا أب، قادر على بعث الموتى من قبورهم، أو وإن عيسى عليه السلام، سينزل في آخر الزمان، ويكون نزوله علامة من علامات الساعة { فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا } أي: لا تشكنَّ في قيام الساعة، فإن الشك فيها كفر.
{ وَٱتَّبِعُونِ } بامتثال ما أمرتكم، واجتناب ما نهيتكم، { هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } موصل إلى الله عز وجل، { وَلاَ يَصُدَّنَّكُمُ ٱلشَّيْطَانُ } عما أمركم الله به، فإن الشيطان { لَكُمْ عَدُوٌّ } حريص على إغوائكم، باذل جهده في ذلك.
{ وَلَمَّا جَآءَ عِيسَىٰ بِٱلْبَيِّنَاتِ } الدالة على صدق نبوته وصحة ما جاءهم به، من إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، ونحو ذلك من الآيات.
{ قَالَ } لبني إسرائيل: { قَدْ جِئْتُكُم بِٱلْحِكْمَةِ } النبوة والعلم، بما ينبغي على الوجه الذي ينبغي. { وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ ٱلَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ } أي: أبين لكم صوابه وجوابه، فيزول عنكم بذلك اللبس، فجاء عليه السلام مكملاً ومتمماً لشريعة موسى عليه السلام، ولأحكام التوراة.
وأتى ببعض التسهيلات الموجبة للانقياد له، وقبول ما جاءهم به.
{ فِيهِ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ } أي: اعبدوا الله وحده لا شريك له، وامتثلوا أمره، واجتنبوا نهيه، وآمنوا بي وصدقوني وأطيعون.
{ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } ففيه الإقرار بتوحيد الربوبية، بأن الله هو المربي جميع خلقه بأنواع النِّعم الظاهرة والباطنة، والإقرار بتوحيد العبودية، بالأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، وإخبار عيسى عليه السلام أنه عبد من عباد الله، ليس كما قال فيه النصارى: " إنه ابن الله، أو ثالث ثلاثة " ، والإخبار بأن هذا المذكور صراط مستقيم، موصل إلى الله وإلى جنته. فلما جاءهم عيسى عليه السلام بهذا { ٱخْتَلَفَ ٱلأَحْزَابُ } المتحزبون على التكذيب { مِن بَيْنِهِمْ } كلٌّ قال بعيسى عليه السلام مقالة باطلة، ورد ما جاء به، إلاّ مَنْ هدى الله من المؤمنين، الذين شهدوا له بالرسالة، وصدقوا بكل ما جاء به، وقالوا: إنه عبد الله ورسوله.
{ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ } أي: ما أشد حزن الظالمين وما أعظم خسارهم في ذلك اليوم!!

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 320.75 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 315.06 كيلو بايت... تم توفير 5.69 كيلو بايت...بمعدل (1.77%)]