|
|||||||
| ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم |
![]() |
|
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#491
|
||||
|
||||
![]() تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير) إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي الجزء (12) تفسير سورة الرحمن من صــ/ الى صــ / الحلقة (491) وقال محمد بن إسحاق ، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه ، عن أسماء قالت : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكر سدرة المنتهى - فقال : " يسير في ظل الفنن منها الراكب مائة سنة - أو قال : يستظل في ظل الفنن منها مائة راكب - فيها فراش الذهب ، كأن ثمرها القلال " . [ ص: 503 ] رواه الترمذي من حديث يونس بن بكير ، به . ( فيهما عينان تجريان ) أي : تسرحان لسقي تلك الأشجار والأغصان فتثمر من جميع الألوان ، ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) قال الحسن البصري : إحداهما يقال لها : " تسنيم " ، والأخرى " السلسبيل " . وقال عطية : إحداهما من ماء غير آسن ، والأخرى من خمر لذة للشاربين . ولهذا قال بعد هذا : ( فيهما من كل فاكهة زوجان ) أي : من جميع أنواع الثمار مما يعلمون وخير مما يعلمون ، ومما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) . قال إبراهيم بن الحكم بن أبان ، عن أبيه ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : ما في الدنيا ثمرة حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة حتى الحنظلة . وقال ابن عباس : ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء ، يعني : أن بين ذلك بونا عظيما ، وفرقا بينا في التفاضل . ( ومن دونهما جنتان ( 62 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 63 ) مدهامتان ( 64 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 65 ) فيهما عينان نضاختان ( 66 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 67 ) فيهما فاكهة ونخل ورمان ( 68 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 69 ) فيهن خيرات حسان ( 70 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 71 ) حور مقصورات في الخيام ( 72 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 73 ) لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان ( 74 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 75 ) متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان ( 76 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 77 ) تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام ( 78 ) ) . هاتان الجنتان دون اللتين قبلهما في المرتبة والفضيلة والمنزلة بنص القرآن ، قال الله تعالى : ( ومن دونهما جنتان ) . وقد تقدم في الحديث : " جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما ، فالأوليان للمقربين ، والأخريان لأصحاب اليمين " . [ ص: 507 ] وقال أبو موسى : جنتان من ذهب للمقربين ، وجنتان من فضة لأصحاب اليمين . وقال ابن عباس : ( ومن دونهما جنتان ) من دونهما في الدرج . وقال ابن زيد : من دونهما في الفضل . والدليل على شرف الأوليين على الأخريين وجوه : أحدها : أنه نعت الأوليين قبل هاتين ، والتقديم يدل على الاعتناء ثم قال : ( ومن دونهما جنتان ) . وهذا ظاهر في شرف التقدم وعلوه على الثاني . وقال هناك : ( ذواتا أفنان ) : وهي الأغصان أو الفنون في الملاذ ، وقال هاهنا : ( مدهامتان ) أي سوداوان من شدة الري . قال ابن عباس في قوله : ( مدهامتان ) قد اسودتا من الخضرة ، من شدة الري من الماء . وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا ابن فضيل ، حدثنا عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( مدهامتان ) : قال : خضراوان . وروي عن أبي أيوب الأنصاري ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن أبي أوفى ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد - في إحدى الروايات - وعطاء ، وعطية العوفي ، والحسن البصري ، ويحيى بن رافع ، وسفيان الثوري ، نحو ذلك . وقال محمد بن كعب : ( مدهامتان ) : ممتلئتان من الخضرة . وقال قتادة : خضراوان من الري ناعمتان . ولا شك في نضارة الأغصان على الأشجار المشبكة بعضها في بعض . وقال هناك : ( فيهما عينان تجريان ) ، وقال هاهنا : ( نضاختان ) ، وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أي فياضتان . والجري أقوى من النضخ . وقال الضحاك : ( نضاختان ) أي ممتلئتان لا تنقطعان . وقال هناك : ( فيهما من كل فاكهة زوجان ) ، وقال هاهنا : ( فيهما فاكهة ونخل ورمان ) ، ولا شك أن الأولى أعم وأكثر في الأفراد والتنويع على فاكهة ، وهي نكرة في سياق الإثبات لا تعم ; ولهذا فسر قوله : ( ونخل ورمان ) من باب عطف الخاص على العام ، كما قرره البخاري وغيره ، وإنما أفرد النخل والرمان بالذكر لشرفهما على غيرهما . قال عبد بن حميد : حدثنا يحيى بن عبد الحميد ، حدثنا حصين بن عمر ، حدثنا مخارق ، عن طارق بن شهاب ، عن عمر بن الخطاب قال : جاء أناس من اليهود إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : يا محمد ، أفي الجنة فاكهة ؟ قال : " نعم ، فيها فاكهة ونخل ورمان " . قالوا : أفيأكلون كما يأكلون في الدنيا ؟ قال : " نعم وأضعاف " . قالوا : فيقضون الحوائج ؟ قال : " لا ولكنهم يعرقون ويرشحون ، فيذهب الله ما في بطونهم من أذى " . [ ص: 508 ] وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا الفضل بن دكين ، حدثنا سفيان ، عن حماد ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : نخل الجنة سعفها كسوة لأهل الجنة ، منها مقطعاتهم ، ومنها حللهم ، وكربها ذهب أحمر ، وجذوعها زمرد أخضر ، وثمرها أحلى من العسل ، وألين من الزبد ، وليس له عجم . وحدثنا أبي : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد - هو ابن سلمة - عن أبي هارون ، عن أبي سعيد الخدري ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " نظرت إلى الجنة فإذا الرمانة من رمانها كمثل البعير المقتب " . ثم قال : ( فيهن خيرات حسان ) قيل : المراد خيرات كثيرة حسنة في الجنة ، قاله قتادة . وقيل : خيرات جمع خيرة ، وهي المرأة الصالحة الحسنة الخلق الحسنة الوجه ، قاله الجمهور . وروي مرفوعا عن أم سلمة . وفي الحديث الآخر الذي سنورده في سورة " الواقعة " : أن الحور العين يغنين : نحن الخيرات الحسان ، خلقنا لأزواج كرام . ولهذا قرأ بعضهم : " فيهن خيرات " ، بالتشديد ( حسان فبأي آلاء ربكما تكذبان ) . ثم قال : ( حور مقصورات في الخيام ) ، وهناك قال : ( فيهن قاصرات الطرف ) ، ولا شك أن التي قد قصرت طرفها بنفسها أفضل ممن قصرت ، وإن كان الجميع مخدرات . قال ابن أبي حاتم : حدثنا عمرو بن عبد الله الأودي ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن جابر ، عن القاسم بن أبي بزة ، عن أبي عبيدة ، عن مسروق ، عن عبد الله قال : إن لكل مسلم خيرة ، ولكل خيرة خيمة ، ولكل خيمة أربعة أبواب ، يدخل عليها كل يوم تحفة وكرامة وهدية لم تكن قبل ذلك ، لا مراحات ولا طماحات ، ولا بخرات ولا ذفرات ، حور عين ، كأنهن بيض مكنون . وقوله : ( في الخيام ) ، قال البخاري : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد ، حدثنا أبو عمران الجوني ، عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس ، عن أبيه ; أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة ، عرضها ستون ميلا في كل زاوية منها أهل ما يرون الآخرين ، يطوف عليهم المؤمنون " . ورواه أيضا من حديث أبي عمران ، به . وقال : " ثلاثون ميلا " . وأخرجه مسلم من حديث أبي عمران ، به . ولفظه : " إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة ، طولها ستون ميلا [ ص: 509 ] للمؤمن فيها أهل يطوف عليهم المؤمن ، فلا يرى بعضهم بعضا " . وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن أبي الربيع ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن قتادة ، أخبرني خليد العصري ، عن أبي الدرداء قال : الخيمة لؤلؤة واحدة ، فيها سبعون بابا من در . وحدثنا أبي حدثنا عيسى بن أبي فاطمة ، حدثنا جرير ، عن هشام ، عن محمد بن المثنى ، عن ابن عباس في قوله : ( حور مقصورات في الخيام ) ، وقال : [ في ] خيام اللؤلؤ ، وفي الجنة خيمة واحدة من لؤلؤة ، أربعة فراسخ في أربعة فراسخ ، عليها أربعة آلاف مصراع من الذهب . وقال عبد الله بن وهب : أخبرنا عمرو أن دراجا أبا السمح حدثه ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " أدنى أهل الجنة منزلة الذي له ثمانون ألف خادم ، واثنتان وسبعون زوجة ، وتنصب له قبة من لؤلؤ وزبرجد وياقوت ، كما بين الجابية وصنعاء " . ورواه الترمذي من حديث عمرو بن الحارث ، به . وقوله : ( لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان ) : [ قد ] تقدم مثله سواء ، إلا أنه زاد في وصف الأوائل بقوله : ( كأنهن الياقوت والمرجان فبأي آلاء ربكما تكذبان ) . وقوله : ( متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان ) : قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : الرفرف : المحابس . وكذا قال مجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك ، وغيرهما : هي المحابس . وقال العلاء بن بدر الرفرف على السرير كهيئة المحابس المتدلي . وقال عاصم الجحدري : ( متكئين على رفرف خضر ) يعني : الوسائد . وهو قول الحسن البصري في رواية عنه . وقال أبو داود الطيالسي ، عن شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير في قوله : ( متكئين على رفرف خضر ) قال : الرفرف : رياض الجنة . وقوله : ( وعبقري حسان ) : قال ابن عباس ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي : العبقري : الزرابي . وقال سعيد بن جبير : هي عتاق الزرابي ، يعني جيادها . وقال مجاهد : العبقري : الديباج . وسئل الحسن البصري عن قوله : ( وعبقري حسان ) فقال : هي بسط أهل الجنة - لا أبا لكم - [ ص: 510 ] فاطلبوها . وعن الحسن [ البصري ] رواية : أنها المرافق . وقال زيد بن أسلم : العبقري : أحمر وأصفر وأخضر . وسئل العلاء بن زيد عن العبقري ، فقال : البسط أسفل من ذلك . وقال أبو حزرة يعقوب بن مجاهد : العبقري : من ثياب أهل الجنة ، لا يعرفه أحد . وقال أبو العالية : العبقري : الطنافس المخملة ، إلى الرقة ما هي . وقال القتيبي : كل ثوب موشى عند العرب عبقري . وقال أبو عبيدة : هو منسوب إلى أرض يعمل بها الوشي . وقال الخليل بن أحمد : كل شيء يسر من الرجال وغير ذلك يسمى عند العرب عبقريا . ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيعمر : " فلم أر عبقريا يفري فريه " . وعلى كل تقدير فصفة مرافق أهل الجنتين الأوليين أرفع وأعلى من هذه الصفة ; فإنه قد قال هناك : ( متكئين على فرش بطائنها من إستبرق ) ، فنعت بطائن فرشهم وسكت عن ظهائرها ، اكتفاء بما مدح به البطائن بطريق الأولى والأحرى . وتمام الخاتمة أنه قال بعد الصفات المتقدمة : ( هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ) فوصف أهلها بالإحسان وهو أعلى المراتب والنهايات ، كما في حديث جبريل لما سأل عن الإسلام ، ثم الإيمان . فهذه وجوه عديدة في تفضيل الجنتين الأوليين على هاتين الأخريين ، ونسأل الله الكريم الوهاب أن يجعلنا من أهل الأوليين . ثم قال : ( تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام ) أي : هو أهل أن يجل فلا يعصى ، وأن يكرم فيعبد ، ويشكر فلا يكفر ، وأن يذكر فلا ينسى . وقال ابن عباس : ( ذي الجلال والإكرام ) ذي العظمة والكبرياء . وقال الإمام أحمد : حدثنا موسى بن داود ، حدثنا عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان ، عن عمير بن هانئ ، عن أبي العذراء ، عن أبي الدرداء ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أجدوا الله يغفر لكم " . وفي الحديث الآخر : " إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم ، وذي السلطان ، وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه " . وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا أبو يوسف الجيزي ، حدثنا مؤمل بن إسماعيل ، حدثنا حماد ، حدثنا حميد الطويل ، عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام " . وكذا رواه الترمذي ، عن محمود بن غيلان ، عن مؤمل بن إسماعيل ، عن حماد بن سلمة ، به . [ ص: 511 ] ثم قال : غلط المؤمل فيه ، وهو غريب وليس بمحفوظ ، وإنما يروى هذا عن حماد بن سلمة ، عن حميد ، عن الحسن ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . وقال الإمام أحمد : حدثنا إبراهيم بن إسحاق ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن يحيى بن حسان المقدسي ، عن ربيعة بن عامر قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " ألظوا بذي الجلال والإكرام " . ورواه النسائي من حديث عبد الله بن المبارك ، به . وقال الجوهري : ألظ فلان بفلان : إذا لزمه . وقول ابن مسعود : " ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام " أي : الزموا . ويقال : الإلظاظ هو الإلحاح . قلت : وكلاهما قريب من الآخر - والله أعلم - وهو المداومة واللزوم والإلحاح . وفي صحيح مسلم والسنن الأربعة من حديث عبد الله بن الحارث ، عن عائشة قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سلم لا يقعد - يعني : بعد الصلاة - إلا قدر ما يقول : " اللهم أنت السلام ومنك السلام ، تباركت ذا الجلال والإكرام " . آخر تفسير سورة الرحمن ، ولله الحمد [ والمنة ] . ![]()
__________________
|
|
#492
|
||||
|
||||
![]() تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير) إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي الجزء (12) تفسير سورة الرحمن من صــ/ الى صــ / الحلقة (492) تفسير سورة الواقعة وهي مكية . قال أبو إسحاق عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال أبو بكر : يا رسول الله ، قد شبت ؟ قال : " شيبتني هود ، والواقعة ، والمرسلات ، وعم يتساءلون ، وإذا الشمس كورت " . رواه الترمذي وقال : حسن غريب وقال الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن مسعود بسنده إلى عمرو بن الربيع بن طارق المصري : حدثنا السري بن يحيى الشيباني ، عن أبي شجاع ، عن أبي ظبية قال : مرض عبد الله مرضه الذي توفي فيه ، فعاده عثمان بن عفان فقال : ما تشتكي ؟ قال : ذنوبي . قال : فما تشتهي ؟ قال : رحمة ربي . قال ألا آمر لك بطبيب ؟ قال : الطبيب أمرضني . قال : ألا آمر لك بعطاء ؟ قال : لا حاجة لي فيه . قال : يكون لبناتك من بعدك ؟ قال : أتخشى على بناتي الفقر ؟ إني أمرت بناتي يقرأن كل ليلة سورة الواقعة ، إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " من قرأ سورة الواقعة كل ليلة ، لم تصبه فاقة أبدا " . . ثم قال ابن عساكر : كذا قال والصواب : عن " شجاع " ، كما رواه عبد الله بن وهب عن السري . وقال عبد الله بن وهب : أخبرني السري بن يحيى أن شجاعا حدثه ، عن أبي ظبية ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا " . فكان أبو ظبية لا يدعها . وكذا رواه أبو يعلى ، عن إسحاق بن إبراهيم ، عن محمد بن منيب ، عن السري بن يحيى ، عن شجاع ، عن أبي ظبية ، عن ابن مسعود ، به . ثم رواه عن إسحاق بن أبي إسرائيل ، عن محمد بن منيب العدني ، عن السري بن يحيى ، عن أبي ظبية ، عن ابن مسعود ; أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من قرأ سورة الواقعة في كل ليلة ، لم تصبه فاقة أبدا " . لم يذكر في سنده " شجاعا " . قال : وقد أمرت بناتي أن يقرأنها كل ليلة . وقد رواه ابن عساكر أيضا من حديث حجاج بن نصير وعثمان بن اليمان ، عن السري بن يحيى ، عن شجاع ، عن أبي فاطمة قال : مرض عبد الله ، فأتاه عثمان بن عفان يعوده ، فذكر الحديث [ ص: 513 ] بطوله . قال عثمان بن اليمان : كان أبو فاطمة هذا مولى لعلي بن أبي طالب . وقال [ الإمام ] أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا إسرائيل ، ويحيى بن آدم ، حدثنا إسرائيل ، عن سماك بن حرب ; أنه سمع جابر بن سمرة يقول : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي الصلوات كنحو من صلاتكم التي تصلون اليوم ، ولكنه كان يخفف . كانت صلاته أخف من صلاتكم ، وكان يقرأ في الفجر " الواقعة " ونحوها من السور . بسم الله الرحمن الرحيم ( إذا وقعت الواقعة ( 1 ) ليس لوقعتها كاذبة ( 2 ) خافضة رافعة ( 3 ) إذا رجت الأرض رجا ( 4 ) وبست الجبال بسا ( 5 ) فكانت هباء منبثا ( 6 ) وكنتم أزواجا ثلاثة ( 7 ) فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة ( 8 ) وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة ( 9 ) والسابقون السابقون ( 10 ) أولئك المقربون ( 11 ) في جنات النعيم ( 12 ) ) . الواقعة : من أسماء يوم القيامة ، سميت بذلك لتحقق كونها ووجودها ، كما قال : ( فيومئذ وقعت الواقعة ) [ الحاقة : 15 ] وقوله : ( ليس لوقعتها كاذبة ) أي : ليس لوقوعها إذا أراد الله كونها صارف يصرفها ، ولا دافع يدفعها ، كما قال : ( استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ) [ الشورى : 47 ] ، وقال : ( سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع ) [ المعارج : 1 ، 2 ] ، وقال تعالى : ( ويوم يقول كن فيكون قوله الحق وله الملك يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير ) [ الأنعام : 73 ] . ومعنى ) كاذبة ) - كما قال محمد بن كعب - : لا بد أن تكون . وقال قتادة : ليس فيها مثنوية ولا [ ص: 514 ] ارتداد ولا رجعة . قال ابن جرير : والكاذبة : مصدر كالعاقبة والعافية . وقوله : ( خافضة رافعة ) أي : تحفض أقواما إلى أسفل سافلين إلى الجحيم ، وإن كانوا في الدنيا أعزاء . وترفع آخرين إلى أعلى عليين ، إلى النعيم المقيم ، وإن كانوا في الدنيا وضعاء . وهكذا قال الحسن وقتادة ، وغيرهما . وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا يزيد بن عبد الرحمن بن مصعب المعنى ، حدثنا حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي ، عن أبيه ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : ( خافضة رافعة ) تخفض أناسا وترفع آخرين . وقال عبيد الله العتكي ، عن عثمان بن سراقة ، ابن خالة عمر بن الخطاب : ( خافضة رافعة ) [ قال ] : الساعة خفضت أعداء الله إلى النار ، ورفعت أولياء الله إلى الجنة . وقال محمد بن كعب : تخفض رجالا كانوا في الدنيا مرتفعين ، وترفع رجالا كانوا في الدنيا مخفوضين . وقال السدي : خفضت المتكبرين ، ورفعت المتواضعين . وقال العوفي ، عن ابن عباس : ( خافضة رافعة ) أسمعت القريب والبعيد . وقال عكرمة : خفضت فأسمعت الأدنى ، ورفعت فأسمعت الأقصى . وكذا قال الضحاك ، وقتادة . وقوله : ( إذا رجت الأرض رجا ) أي : حركت تحريكا فاهتزت واضطربت بطولها وعرضها . ولهذا قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وغير واحد في قوله : ( إذا رجت الأرض رجا ) أي : زلزلت زلزالا [ شديدا ] . وقال الربيع بن أنس : ترج بما فيها كرج الغربال بما فيه . وهذه كقوله تعالى : ( إذا زلزلت الأرض زلزالها ) [ الزلزلة : 1 ] ، وقال تعالى : ( يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم ) [ الحج : 1 ] . وقوله : ( وبست الجبال بسا ) أي : فتتت فتا . قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وقتادة ، وغيرهم . وقال ابن زيد : صارت الجبال كما قال [ الله ] تعالى : ( كثيبا مهيلا ) [ المزمل : 14 ] . وقوله : ( فكانت هباء منبثا ) ، قال أبو إسحاق ، عن الحارث ، عن علي ، رضي الله عنه : ( هباء منبثا ) [ ص: 515 ] كرهج الغبار يسطع ثم يذهب ، فلا يبقى منه شيء . وقال العوفي عن ابن عباس في قوله : ( فكانت هباء منبثا ) : الهباء الذي يطير من النار ، إذا اضطرمت يطير منه الشرر ، فإذا وقع لم يكن شيئا . وقال عكرمة : المنبث : الذي ذرته الريح وبثته . وقال قتادة : ( هباء منبثا ) كيبيس الشجر الذي تذروه الرياح . وهذه الآية كأخواتها الدالة على زوال الجبال عن أماكنها يوم القيامة ، وذهابها وتسييرها ونسفها - أي قلعها - وصيرورتها كالعهن المنفوش . وقوله : ( وكنتم أزواجا ثلاثة ) أي : ينقسم الناس يوم القيامة إلى ثلاثة أصناف : قوم عن يمين العرش ، وهم الذين خرجوا من شق آدم الأيمن ، ويؤتون كتبهم بأيمانهم ، ويؤخذ بهم ذات اليمين . قال السدي : وهم جمهور أهل الجنة . وآخرون عن يسار العرش ، وهم الذين خرجوا من شق آدم الأيسر ، ويؤتون كتبهم بشمائلهم ، ويؤخذ بهم ذات الشمال ، وهم عامة أهل النار - عياذا بالله من صنيعهم - وطائفة سابقون بين يديه وهم أخص وأحظى وأقرب من أصحاب اليمين الذين هم سادتهم ، فيهم الرسل والأنبياء والصديقون والشهداء ، وهم أقل عددا من أصحاب اليمين ; ولهذا قال : ( فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون ) وهكذا قسمهم إلى هذه الأنواع الثلاثة في آخر السورة وقت احتضارهم ، وهكذا ذكرهم في قوله تعالى : ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ) الآية [ فاطر : 32 ] ، وذلك على أحد القولين في الظالم لنفسه كما تقدم بيانه . قال سفيان الثوري ، عن جابر الجعفي ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في قوله : ( وكنتم أزواجا ثلاثة ) قال : هي التي في سورة الملائكة : ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات ) . وقال ابن جريج عن ابن عباس : هذه الأزواج الثلاثة هم المذكورون في آخر السورة وفي سورة الملائكة . وقال يزيد الرقاشي : سألت ابن عباس عن قوله : ( وكنتم أزواجا ثلاثة ) قال : أصنافا ثلاثة . وقال مجاهد : ( وكنتم أزواجا ثلاثة ) [ قال ] : يعني : فرقا ثلاثة . وقال ميمون بن مهران : أفواجا ثلاثة . وقال عبيد الله العتكي ، عن عثمان بن سراقة ابن خالة عمر بن الخطاب : ( وكنتم أزواجا ثلاثة ) اثنان في الجنة ، وواحد في النار . [ ص: 516 ] وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن الصباح ، حدثنا الوليد بن أبي ثور ، عن سماك ، عن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( وإذا النفوس زوجت ) [ التكوير : 7 ] قال : الضرباء ، كل رجل من قوم كانوا يعملون عمله ، وذلك بأن الله يقول : ( وكنتم أزواجا ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون ) قال : هم الضرباء . وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن عبد الله بن المثنى ، حدثنا البراء الغنوي ، حدثنا الحسن ، عن معاذ بن جبل ; أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلا هذه الآية : ( وأصحاب اليمين ) ، ( وأصحاب الشمال ) فقبض بيده قبضتين فقال : " هذه للجنة ولا أبالي ، وهذه للنار ولا أبالي " . وقال أحمد أيضا : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا خالد بن أبي عمران ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " أتدرون من السابقون إلى ظل يوم القيامة ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : " الذين إذا أعطوا الحق قبلوه ، وإذا سئلوه بذلوه ، وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم " . وقال محمد بن كعب وأبو حرزة يعقوب بن مجاهد : ( والسابقون السابقون ) : هم الأنبياء ، عليهم السلام . وقال السدي : هم أهل عليين . وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : ( والسابقون السابقون ) ، قال : يوشع بن نون ، سبق إلى موسى ، ومؤمن آل " يس " ، سبق إلى عيسى ، وعلي بن أبي طالب ، سبق إلى محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . رواه ابن أبي حاتم ، عن محمد بن هارون الفلاس ، عن عبد الله بن إسماعيل المدائني البزاز ، عن شعيب بن الضحاك المدائني ، عن سفيان بن عيينة ، عن ابن أبي نجيح به . وقال ابن أبي حاتم : وذكر محمد بن أبي حماد ، حدثنا مهران ، عن خارجة ، عن قرة ، عن ابن سيرين : ( والسابقون السابقون ) الذين صلوا للقبلتين . ورواه ابن جرير من حديث خارجة ، به . وقال الحسن وقتادة : ( والسابقون السابقون ) أي : من كل أمة . وقال الأوزاعي ، عن عثمان بن أبي سودة أنه قرأ هذه الآية : ( والسابقون السابقون أولئك المقربون ) ثم قال : أولهم رواحا إلى المسجد ، وأولهم خروجا في سبيل الله . [ ص: 517 ] وهذه الأقوال كلها صحيحة ، فإن المراد بالسابقين هم المبادرون إلى فعل الخيرات كما أمروا ، كما قال تعالى : ( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض ) [ آل عمران : 133 ] ، وقال : ( سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض ) [ الحديد : 22 ] ، فمن سابق إلى هذه الدنيا وسبق إلى الخير ، كان في الآخرة من السابقين إلى الكرامة ، فإن الجزاء من جنس العمل ، وكما تدين تدان ; ولهذا قال تعالى : ( أولئك المقربون في جنات النعيم ) . وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن زكريا القزاز الرازي ، حدثنا خارجة بن مصعب ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن عبد الله بن عمرو قال : قالت الملائكة : يا رب ، جعلت لبني آدم الدنيا فهم يأكلون ويشربون ويتزوجون ، فاجعل لنا الآخرة . فقال : لا أفعل . فراجعوا ثلاثا ، فقال : لا أجعل من خلقت بيدي كمن قلت له : كن ، فكان . ثم قرأ عبد الله : ( والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم ) . وقد روى هذا الأثر الإمام عثمان بن سعيد الدارمي في كتابه : " الرد على الجهمية " ، ولفظه : فقال الله عز وجل : " لن أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي ، كمن قلت له : كن فكان " . ![]()
__________________
|
|
#493
|
||||
|
||||
![]() تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير) إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي الجزء (12) تفسير سورة الواقعة من صــ/ الى صــ / الحلقة (493) ( ثلة من الأولين ( 13 ) وقليل من الآخرين ( 14 ) على سرر موضونة ( 15 ) متكئين عليها متقابلين ( 16 ) يطوف عليهم ولدان مخلدون ( 17 ) بأكواب وأباريق وكأس من معين ( 18 ) لا يصدعون عنها ولا ينزفون ( 19 ) وفاكهة مما يتخيرون ( 20 ) ولحم طير مما يشتهون ( 21 ) وحور عين ( 22 ) كأمثال اللؤلؤ المكنون ( 23 ) جزاء بما كانوا يعملون ( 24 ) لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما ( 25 ) إلا قيلا سلاما سلاما ( 26 ) ) . يقول تعالى مخبرا عن هؤلاء السابقين أنهم ) ثلة ) أي : جماعة ( من الأولين وقليل من الآخرين ) . وقد اختلفوا في المراد بقوله : ( الأولين ) ، و ) الآخرين ) . فقيل : المراد بالأولين : الأمم الماضية ، والآخرين : هذه الأمة . هذا رواية عن مجاهد ، والحسن البصري ، رواها عنهما ابن أبي حاتم . وهو اختيار ابن جرير ، واستأنس بقوله - صلى الله عليه وسلم - : " نحن الآخرون السابقون يوم القيامة " . ولم يحك غيره ولا عزاه إلى أحد . [ ص: 518 ] ومما يستأنس به لهذا القول ، ما رواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن عيسى بن الطباع ، حدثنا شريك ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : لما نزلت : ( ثلة من الأولين وقليل من الآخرين ) شق ذلك على أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فنزلت : ( ثلة من الأولين وثلة من الآخرين ) فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة ، ثلث أهل الجنة ، بل أنتم نصف أهل الجنة - أو : شطر أهل الجنة - وتقاسمونهم النصف الثاني " . ورواه الإمام أحمد ، عن أسود بن عامر ، عن شريك ، عن محمد ، بياع الملاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، فذكره . وقد روي من حديث جابر نحو هذا ، ورواه الحافظ ابن عساكر من طريق هشام بن عمار : حدثنا عبد ربه بن صالح ، عن عروة بن رويم ، عن جابر بن عبد الله ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : لما نزلت : ( فيومئذ وقعت الواقعة ) ، ذكر فيها ( ثلة من الأولين وقليل من الآخرين ) ، قال عمر : يا رسول الله ، ثلة من الأولين وقليل منا ؟ قال : فأمسك آخر السورة سنة ، ثم نزل : ( ثلة من الأولين وثلة من الآخرين ) ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يا عمر ، تعال فاسمع ما قد أنزل الله : ( ثلة من الأولين وثلة من الآخرين ) ، ألا وإن من آدم إلي ثلة ، وأمتي ثلة ، ولن نستكمل ثلتنا حتى نستعين بالسودان من رعاة الإبل ، ممن شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له " . هكذا أورده في ترجمة " عروة بن رويم " ، إسنادا ومتنا ، ولكن في إسناده نظر . وقد وردت طرق كثيرة متعددة بقوله - صلى الله عليه وسلم - : " إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة " الحديث بتمامه ، وهو مفرد في " صفة الجنة " ولله الحمد والمنة . وهذا الذي اختاره ابن جرير هاهنا فيه نظر ، بل هو قول ضعيف ; لأن هذه الأمة هي خير الأمم بنص القرآن ، فيبعد أن يكون المقربون في غيرها أكثر منها ، اللهم إلا أن يقابل مجموع الأمم بهذه الأمة . والظاهر أن المقربين من هؤلاء أكثر من سائر الأمم ، والله أعلم . فالقول الثاني في هذا المقام هو الراجح ، وهو أن يكون المراد بقوله : ( ثلة من الأولين ) أي : من صدر هذه الأمة ، ( وقليل من الآخرين ) أي : من هذه الأمة . قال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا عفان ، حدثنا عبد الله بن بكر المزني ، سمعت الحسن : أتى على هذه الآية : ( والسابقون السابقون أولئك المقربون ) فقال : أما السابقون ، فقد مضوا ، ولكن اللهم اجعلنا من أهل اليمين . ثم قال : حدثنا أبي ، حدثنا أبو الوليد ، حدثنا السري بن يحيى قال : قرأ الحسن : ( والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم ثلة من الأولين ) ثلة ممن مضى من هذه الأمة . [ ص: 519 ] وحدثنا أبي ، حدثنا عبد العزيز بن المغيرة المنقري ، حدثنا أبو هلال ، عن محمد بن سيرين ، أنه قال في هذه الآية : ( ثلة من الأولين وقليل من الآخرين ) قال : كانوا يقولون ، أو يرجون ، أن يكونوا كلهم من هذه الأمة . فهذا قول الحسن وابن سيرين أن الجميع من هذه الأمة . ولا شك أن أول كل أمة خير من آخرها ، فيحتمل أن يعم الأمر جميع الأمم كل أمة بحسبها ; ولهذا ثبت في الصحاح وغيرها من غير وجه ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " خير القرون قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم " الحديث بتمامه . فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا زياد أبو عمر ، عن الحسن ، عن عمار بن ياسر ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " مثل أمتي مثل المطر ، لا يدرى أوله خير أم آخره " ، فهذا الحديث بعد الحكم بصحة إسناده ، محمول على أن الدين كما هو محتاج إلى أول الأمة في إبلاغه إلى من بعدهم ، كذلك هو محتاج إلى القائمين به في أواخرها ، وتثبيت الناس على السنة وروايتها وإظهارها ، والفضل للمتقدم . وكذلك الزرع الذي يحتاج إلى المطر الأول وإلى المطر الثاني ، ولكن العمدة الكبرى على الأول ، واحتياج الزرع إليه آكد ، فإنه لولاه ما نبت في الأرض ، ولا تعلق أساسه فيها ; ولهذا قال عليه السلام : " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ، لا يضرهم من خذلهم ، ولا من خالفهم إلى قيام الساعة " . وفي لفظ : " حتى يأتي أمر الله وهم كذلك " . والغرض أن هذه الأمة أشرف من سائر الأمم ، والمقربون فيها أكثر من غيرها وأعلى منزلة لشرف دينها وعظم نبيها . ولهذا ثبت بالتواتر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه أخبر أن في هذه الأمة سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب . وفي لفظ : " مع كل ألف سبعون ألفا " . وفي آخر " مع كل واحد سبعون ألفا " . وقد قال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا هشام بن مرثد الطبراني ، حدثنا محمد - هو ابن إسماعيل بن عياش - حدثني أبي ، حدثني ضمضم - يعني ابن زرعة - عن شريح - هو ابن عبيد - عن أبي مالك ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أما والذي نفسي بيده ، ليبعثن منكم يوم القيامة مثل الليل الأسود زمرة جميعها يحيطون الأرض ، تقول الملائكة : لما جاء مع محمد - صلى الله عليه وسلم - أكثر مما جاء مع الأنبياء ، عليهم السلام " . وحسن أن يذكر هاهنا [ عند قوله : ( ثلة من الأولين وقليل من الآخرين ) ] الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في " دلائل النبوة " حيث قال : أخبرنا أبو نصر بن قتادة ، أخبرنا أبو عمرو بن مطر ، حدثنا جعفر - [ هو ] ابن محمد بن المستفاض الفريابي - حدثني أبو وهب الوليد بن عبد [ ص: 520 ] الملك بن عبيد الله بن مسرح الحراني ، حدثنا سليمان بن عطاء القرشي الحراني ، عن مسلمة بن عبد الله الجهني ، عن عمه أبي مشجعة بن ربعي ، عن ابن زمل الجهني - رضي الله عنه - قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى الصبح قال ، وهو ثان رجله : " سبحان الله وبحمده . أستغفر الله ، إن الله كان توابا " سبعين مرة ، ثم يقول : " سبعين بسبعمائة ، لا خير لمن كانت ذنوبه في يوم واحد أكثر من سبعمائة " . ثم يقول ذلك مرتين ، ثم يستقبل الناس بوجهه ، وكان يعجبه الرؤيا ، ثم يقول : " هل رأى أحد منكم شيئا ؟ " قال ابن زمل : فقلت : أنا يا رسول الله . فقال : " خير تلقاه ، وشر توقاه ، وخير لنا ، وشر على أعدائنا ، والحمد لله رب العالمين . اقصص رؤياك " . فقلت : رأيت جميع الناس على طريق رحب سهل لاحب ، والناس على الجادة منطلقين ، فبينما هم كذلك ، إذ أشفى ذلك الطريق على مرج لم تر عيني مثله ، يرف رفيفا يقطر ماؤه ، فيه من أنواع الكلأ قال : وكأني بالرعلة الأولى حين أشفوا على المرج كبروا ، ثم أكبوا رواحلهم في الطريق ، فلم يظلموه يمينا ولا شمالا . قال : فكأني أنظر إليهم منطلقين . ثم جاءت الرعلة الثانية وهم أكثر منهم أضعافا ، فلما أشفوا على المرج كبروا ، ثم أكبوا رواحلهم في الطريق ، فمنهم المرتع ، ومنهم الآخذ الضغث . ومضوا على ذلك . قال : ثم قدم عظم الناس ، فلما أشفوا على المرج كبروا وقالوا : ( هذا خير المنزل ) . كأني أنظر إليهم يميلون يمينا وشمالا فلما رأيت ذلك ، لزمت الطريق حتى آتي أقصى المرج ، فإذا أنا بك يا رسول الله على منبر فيه سبع درجات وأنت في أعلاها درجة ، وإذا عن يمينك رجل آدم شثل أقنى ، إذا هو تكلم يسمو فيفرع الرجال طولا وإذا عن يسارك رجل ربعة باذ كثير خيلان الوجه ، كأنما حمم شعره بالماء ، إذا هو تكلم أصغيتم إكراما له . وإذا أمام ذلك رجل شيخ أشبه الناس بك خلقا ووجها ، كلكم تؤمونه تريدونه ، وإذا أمام ذلك ناقة عجفاء شارف ، وإذا أنت يا رسول الله كأنك تبعثها . قال : فامتقع لون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساعة ثم سري عنه ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أما ما رأيت من الطريق السهل الرحب اللاحب ، فذاك ما حملتم عليه من الهدى وأنتم عليه . وأما المرج الذي رأيت ، فالدنيا مضيت أنا وأصحابي لم نتعلق منها بشيء ، ولم تتعلق منا ، ولم نردها ولم تردنا . ثم جاءت الرعلة الثانية من بعدنا وهم أكثر منا أضعافا ، فمنهم المرتع ، ومنهم الآخذ الضغث ، ونجوا على ذلك . ثم جاء عظم الناس ، فمالوا في المرج يمينا وشمالا فإنا لله وإنا إليه راجعون . وأما أنت ، فمضيت على طريقة صالحة ، فلن تزال عليها حتى تلقاني . وأما المنبر الذي رأيت فيه سبع درجات وأنا في أعلاها درجة ، فالدنيا سبعة آلاف سنة ، أنا في آخرها ألفا . وأما الرجل الذي رأيت على يميني الآدم الشثل ، فذلك موسى عليه السلام ، إذا تكلم يعلو الرجال بفضل كلام الله إياه . والذي رأيت عن يساري الباز الربعة الكثير خيلان الوجه ، كأنما حمم شعره بالماء ، فذلك عيسى ابن مريم ، نكرمه لإكرام الله إياه . وأما الشيخ الذي رأيت أشبه الناس بي خلقا ووجها فذاك أبونا إبراهيم ، كلنا نؤمه [ ص: 521 ] ونقتدي به . وأما الناقة التي رأيت ورأيتني أبعثها فهي الساعة ، علينا تقوم ، لا نبي بعدي ، ولا أمة بعد أمتي " . قال : فما سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رؤيا بعد هذا إلا أن يجيء الرجل ، فيحدثه بها متبرعا . وقوله : ( على سرر موضونة ) قال ابن عباس : أي مرمولة بالذهب ، يعني : منسوجة به . وكذا قال مجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وزيد بن أسلم ، وقتادة ، والضحاك ، وغيره . وقال السدي : مرمولة بالذهب واللؤلؤ . وقال عكرمة : مشبكة بالدر والياقوت . وقال ابن جرير : ومنه سمي وضين الناقة الذي تحت بطنها ، وهو فعيل بمعنى مفعول ; لأنه مضفور ، وكذلك السرر في الجنة مضفورة بالذهب واللآلئ . وقال : ( متكئين عليها متقابلين ) أي : وجوه بعضهم إلى بعض ، ليس أحد وراء أحد . ( يطوف عليهم ولدان مخلدون ) أي : مخلدون على صفة واحدة ، لا يكبرون عنها ولا يشيبون ولا يتغيرون ، ( بأكواب وأباريق وكأس من معين ) ، أما الأكواب فهي : الكيزان التي لا خراطيم لها ولا آذان . والأباريق : التي جمعت الوصفين . والكئوس : الهنابات ، والجميع من خمر من عين جارية معين ، ليس من أوعية تنقطع وتفرغ ، بل من عيون سارحة . وقوله : ( لا يصدعون عنها ولا ينزفون ) أي : لا تصدع رءوسهم ولا تنزف عقولهم ، بل هي ثابتة مع الشدة المطربة واللذة الحاصلة . وروى الضحاك ، عن ابن عباس ، أنه قال : في الخمر أربع خصال : السكر ، والصداع ، والقيء ، والبول . فذكر الله خمر الجنة ونزهها عن هذه الخصال . وقال مجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وعطية ، وقتادة ، والسدي : ( لا يصدعون عنها ) يقول : ليس لهم فيها صداع رأس . وقالوا في قوله : ( ولا ينزفون ) أي : لا تذهب بعقولهم . وقوله : ( وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون ) أي : ويطوفون عليهم بما يتخيرون من الثمار . وهذه الآية دليل على جواز أكل الفاكهة على صفة التخير لها ، ويدل على ذلك حديث " عكراش بن ذؤيب " الذي رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي ، رحمه الله ، في مسنده : حدثنا العباس بن الوليد النرسي ، حدثنا العلاء بن الفضل بن عبد الملك بن أبي سوية ، حدثنا عبيد الله بن عكراش ، عن أبيه عكراش بن ذؤيب ، قال : بعثني بنو مرة في صدقات أموالهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقدمت المدينة فإذا هو جالس بين المهاجرين والأنصار ، وقدمت عليه بإبل كأنها عروق الأرطى ، قال : " من الرجل ؟ " [ ص: 522 ] قلت : عكراش بن ذؤيب . قال : " ارفع في النسب " ، فانتسبت له إلى " مرة بن عبيد " ، وهذه صدقة " مرة بن عبيد " . فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قال : هذه إبل قومي ، هذه صدقات قومي . ثم أمر بها أن توسم بميسم إبل الصدقة وتضم إليها . ثم أخذ بيدي فانطلقنا إلى منزل أم سلمة ، فقال : " هل من طعام ؟ " فأتينا بجفنة كثيرة الثريد والوذر ، فجعل يأكل منها ، فأقبلت أخبط بيدي في جوانبها ، فقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده اليسرى على يدي اليمنى ، فقال : " يا عكراش ، كل من موضع واحد ، فإنه طعام واحد " . ثم أتينا بطبق فيه تمر ، أو رطب - شك عبيد الله رطبا كان أو تمرا - فجعلت آكل من بين يدي ، وجالت يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الطبق ، وقال : " يا عكراش ، كل من حيث شئت فإنه غير لون واحد " . ثم أتينا بماء ، فغسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده ومسح ببلل كفيه وجهه وذراعيه ورأسه ثلاثا ، ثم قال : " يا عكراش ، هذا الوضوء مما غيرت النار " . وهكذا رواه الترمذي مطولا وابن ماجه جميعا ، عن محمد بن بشار ، عن أبي الهذيل العلاء بن الفضل ، به . وقال الترمذي : غريب لا نعرفه إلا من حديثه . وقال الإمام أحمد : حدثنا بهز بن أسد وعفان - وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا شيبان - قالوا : حدثنا سليمان بن المغيرة ، حدثنا ثابت ، قال : قال أنس : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تعجبه الرؤيا ، فربما رأى الرجل الرؤيا فسأل عنه إذا لم يكن يعرفه ، فإذا أثني عليه معروفا ، كان أعجب لرؤياه إليه . فأتته امرأة فقالت : يا رسول الله ، رأيت كأني أتيت فأخرجت من المدينة ، فأدخلت الجنة فسمعت وجبة انتحبت لها الجنة ، فنظرت فإذا فلان بن فلان ، وفلان بن فلان ، فسمت اثني عشر رجلا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بعث سرية قبل ذلك ، فجيء بهم عليهم ثياب طلس تشخب أوداجهم ، فقيل : اذهبوا بهم إلى نهر البيدخ - أو : البيذخ - قال : فغمسوا فيه ، فخرجوا ووجوههم كالقمر ليلة البدر ، فأتوا بصحفة من ذهب فيها بسر ، فأكلوا من بسره ما شاءوا ، فما يقلبونها من وجه إلا أكلوا من الفاكهة ما أرادوا ، وأكلت معهم . فجاء البشير من تلك السرية ، فقال : كان من أمرنا كذا وكذا ، وأصيب فلان وفلان . حتى عد اثني عشر رجلا فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المرأة فقال : " قصي رؤياك " فقصتها ، وجعلت تقول : فجيء بفلان وفلان كما قال . هذا لفظ أبي يعلى ، قال الحافظ الضياء : وهذا على شرط مسلم . وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا معاذ بن المثنى ، حدثنا علي بن المديني ، حدثنا ريحان بن سعيد ، عن عباد بن منصور ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أبي أسماء ، عن ثوبان ، قال : قال [ ص: 523 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الرجل إذا نزع ثمرة في الجنة ، عادت مكانها أخرى " . وقوله : ( ولحم طير مما يشتهون ) ، قال الإمام أحمد : حدثنا سيار بن حاتم ، حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي ، حدثنا ثابت ، عن أنس ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن طير الجنة كأمثال البخت ، يرعى في شجر الجنة " . فقال أبو بكر : يا رسول الله ، إن هذه لطير ناعمة فقال : " أكلتها أنعم منها - قالها ثلاثا - وإني لأرجو أن تكون ممن يأكل منها " . تفرد به أحمد من هذا الوجه . وروى الحافظ أبو عبد الله المقدسي في كتابه " صفة الجنة " من حديث إسماعيل بن علي الخطبي ، عن أحمد بن علي الخيوطي ، عن عبد الجبار بن عاصم ، عن عبد الله بن زياد ، عن زرعة ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : ذكرت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - طوبى ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يا أبا بكر ، هل بلغك ما طوبى ؟ " قال : الله ورسوله أعلم . قال : " طوبى شجرة في الجنة ، ما يعلم طولها إلا الله ، يسير الراكب تحت غصن من أغصانها سبعين خريفا ، ورقها الحلل ، يقع عليها الطير كأمثال البخت " . فقال أبو بكر : يا رسول الله ، إن هناك لطيرا ناعما ؟ قال : " أنعم منه من يأكله ، وأنت منهم إن شاء الله " . وقال قتادة في قوله : ( ولحم طير مما يشتهون ) : ذكر لنا أن أبا بكر قال : يا رسول الله ، إني أرى طيرها ناعمة كما أهلها ناعمون . قال : " من يأكلها - والله يا أبا بكر - أنعم منها ، وإنها لأمثال البخت ، وإني لأحتسب على الله أن تأكل منها يا أبا بكر " . وقال أبو بكر بن أبي الدنيا : حدثني مجاهد بن موسى ، حدثنا معن بن عيسى ، حدثني ابن أخي ابن شهاب ، عن أبيه ، عن أنس بن مالك ; أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الكوثر فقال : " نهر أعطانيه ربي عز وجل ، في الجنة أشد بياضا من اللبن ، وأحلى من العسل ، فيه طيور أعناقها يعني كأعناق الجزر " . فقال عمر : إنها لناعمة . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " آكلها أنعم منها " . وكذا رواه الترمذي عن عبد بن حميد ، عن القعنبي ، عن محمد بن عبد الله بن مسلم بن شهاب ، عن أبيه ، عن أنس ، وقال : حسن . وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن محمد الطنافسي ، حدثنا أبو معاوية ، عن عبيد الله بن الوليد الوصافي ، عن عطية العوفي ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : [ ص: 524 ] " إن في الجنة لطيرا فيه سبعون ألف ريشة ، فيقع على صحفة الرجل من أهل الجنة فينتفض ، فيخرج من كل ريشة - يعني لونا - أبيض من اللبن ، وألين من الزبد ، وأعذب من الشهد ، ليس منها لون يشبه صاحبه ثم يطير " . هذا حديث غريب جدا ، والوصافي وشيخه ضعيفان . ثم قال ابن أبي حاتم : ![]()
__________________
|
|
#494
|
||||
|
||||
![]() تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير) إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي الجزء (12) تفسير سورة الواقعة من صــ/ الى صــ / الحلقة (494) حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن صالح - كاتب الليث - حدثني الليث ، حدثنا خالد بن يزيد ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن أبي حازم عن عطاء ، عن كعب ، قال : إن طائر الجنة أمثال البخت ، يأكل مما خلق من ثمرات الجنة ، ويشرب من أنهار الجنة ، فيصطففن له ، فإذا اشتهى منها شيئا أتاه حتى يقع بين يديه ، فيأكل من خارجه وداخله ثم يطير لم ينقص منه شيء .صحيح إلى كعب . وقال الحسن بن عرفة : حدثنا خلف بن خليفة ، عن حميد الأعرج ، عن عبد الله بن الحارث ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إنك لتنظر إلى الطير في الجنة فتشتهيه فيخر بين يديك مشويا " . وقوله : ( وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون ) قرأ بعضهم بالرفع ، وتقديره : ولهم فيها حور عين . وقراءة الجر تحتمل معنيين ، أحدهما : أن يكون الإعراب على الإتباع بما قبله ; لقوله : ( يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين لا يصدعون عنها ولا ينزفون وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون وحور عين ) ، كما قال ( وامسحوا برءوسكم وأرجلكم ) [ المائدة : 6 ] ، وكما قال : ( عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق ) [ الإنسان : 21 ] . والاحتمال الثاني : أن يكون مما يطوف به الولدان المخلدون عليهم الحور العين ، ولكن يكون ذلك في القصور ، لا بين بعضهم بعضا ، بل في الخيام يطوف عليهم الخدام بالحور العين ، والله أعلم . وقوله : ( كأمثال اللؤلؤ المكنون ) أي : كأنهن اللؤلؤ الرطب في بياضه وصفائه ، كما تقدم في " سورة الصافات " ( كأنهن بيض مكنون ) [ الصافات : 49 ] وقد تقدم في سورة " الرحمن " وصفهن أيضا ; ولهذا قال : ( جزاء بما كانوا يعملون ) أي : هذا الذي أتحفناهم به مجازاة لهم على ما أحسنوا من العمل . ثم قال : ( لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما ) أي : لا يسمعون في الجنة كلاما لاغيا ، أي : غثا خاليا عن المعنى ، أو مشتملا على معنى حقير أو ضعيف ، كما قال : ( لا تسمع فيها لاغية ) [ الغاشية : 11 ] [ ص: 525 ] أي : كلمة لاغية ( ولا تأثيما ) أي : ولا كلاما فيه قبح ، ( إلا قيلا سلاما سلاما ) أي : إلا التسليم منهم بعضهم على بعض ، كما قال : ( تحيتهم فيها سلام ) [ إبراهيم : 23 ] وكلامهم أيضا سالم من اللغو والإثم . ( وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين ( 27 ) في سدر مخضود ( 28 ) وطلح منضود ( 29 ) وظل ممدود ( 30 ) وماء مسكوب ( 31 ) وفاكهة كثيرة ( 32 ) لا مقطوعة ولا ممنوعة ( 33 ) وفرش مرفوعة ( 34 ) إنا أنشأناهن إنشاء ( 35 ) فجعلناهن أبكارا ( 36 ) عربا أترابا ( 37 ) لأصحاب اليمين ( 38 ) ثلة من الأولين ( 39 ) وثلة من الآخرين ( 40 ) ) . لما ذكر تعالى مآل السابقين - وهم المقربون - عطف عليهم بذكر أصحاب اليمين - وهم الأبرار - كما قال ميمون بن مهران : أصحاب اليمين منزلة دون المقربين ، فقال : ( وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين ) أي : أي شيء أصحاب اليمين ؟ وما حالهم ؟ وكيف مآلهم ؟ ثم فسر ذلك فقال : ( في سدر مخضود ) . قال ابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد ، وأبو الأحوص ، وقسامة بن زهير ، والسفر بن نسير ، والحسن ، وقتادة ، وعبد الله بن كثير ، والسدي ، وأبو حرزة ، وغيرهم : هو الذي لا شوك فيه . وعن ابن عباس : هو الموقر بالثمر . وهو رواية عن عكرمة ، ومجاهد ، وكذا قال قتادة أيضا : كنا نحدث أنه الموقر الذي لا شوك فيه . والظاهر أن المراد هذا وهذا فإن سدر الدنيا كثير الشوك قليل الثمر ، وفي الآخرة على عكس من هذا لا شوك فيه ، وفيه الثمر الكثير الذي قد أثقل أصله ، كما قال الحافظ أبو بكر بن سلمان النجاد . حدثنا محمد بن محمد هو البغوي ، حدثني حمزة بن عباس ، حدثنا عبد الله بن عثمان ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، أخبرنا صفوان بن عمرو ، عن سليم بن عامر ، قال : كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولون : إن الله لينفعنا بالأعراب ومسائلهم ; قال : أقبل أعرابي يوما فقال : يا رسول الله ، ذكر الله في الجنة شجرة تؤذي صاحبها ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " وما هي ؟ " . قال : السدر ، فإن له شوكا موذيا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أليس الله يقول : ( في سدر مخضود ) ، خضد الله شوكه ، فجعل مكان كل شوكة ثمرة ، فإنها لتنبت ثمرا تفتق الثمرة منها عن اثنين وسبعين لونا من طعام ، ما فيها لون يشبه الآخر " . طريق أخرى : قال أبو بكر بن أبي داود : حدثنا محمد بن المصفى ، حدثنا محمد بن المبارك ، حدثنا يحيى بن حمزة ، حدثني ثور بن يزيد ، حدثني حبيب بن عبيد ، عن عتبة بن عبد السلمي [ ص: 526 ] قال : كنت جالسا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاء أعرابي فقال : يا رسول الله ، أسمعك تذكر في الجنة شجرة لا أعلم شجرة أكثر شوكا منها ؟ يعني : الطلح ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله يجعل مكان كل شوكة منها ثمرة مثل خصوة التيس الملبود ، فيها سبعون لونا من الطعام ، لا يشبه لون آخر " . وقوله : ( وطلح منضود ) : الطلح : شجر عظام يكون بأرض الحجاز ، من شجر العضاة ، واحدته طلحة ، وهو شجر كثير الشوك ، وأنشد ابن جرير لبعض الحداة : بشرها دليلها وقالا غدا ترين الطلح والجبالا وقال مجاهد : ( منضود ) أي : متراكم الثمر ، يذكر بذلك قريشا ; لأنهم كانوا يعجبون من وج ، وظلاله من طلح وسدر . وقال السدي : ( منضود ) : مصفوف . قال ابن عباس : يشبه طلح الدنيا ، ولكن له ثمر أحلى من العسل . قال الجوهري : والطلح لغة في الطلع . قلت : وقد روى ابن أبي حاتم من حديث الحسن بن سعد ، عن شيخ من همدان قال : سمعت عليا يقول : هذا الحرف في ( وطلح منضود ) قال : طلع منضود ، فعلى هذا يكون هذا من صفة السدر ، فكأنه وصفه بأنه مخضود وهو الذي لا شوك له ، وأن طلعه منضود ، وهو كثرة ثمره ، والله أعلم . وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو معاوية ، عن إدريس ، عن جعفر بن إياس ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد : ( وطلح منضود ) قال : الموز . قال : وروي عن ابن عباس ، وأبي هريرة ، والحسن ، وعكرمة ، وقسامة بن زهير ، وقتادة ، وأبي حزرة ، مثل ذلك ، وبه قال مجاهد وابن زيد - وزاد فقال : أهل اليمن يسمون الموز الطلح . ولم يحك ابن جرير غير هذا القول . وقوله : ( وظل ممدود ) : قال البخاري : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة - يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها ، اقرءوا إن شئتم : ( وظل ممدود ) . ورواه مسلم من حديث الأعرج ، به . وقال الإمام أحمد : حدثنا سريج ، حدثنا فليح ، عن هلال بن علي ، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة ، اقرءوا إن شئتم : ( وظل ممدود ) . [ ص: 527 ] وكذا رواه البخاري ، عن محمد بن سنان ، عن فليح به ، وكذا رواه عبد الرزاق ، عن معمر ، عن همام ، عن أبي هريرة . وكذا رواه حماد بن سلمة ، عن محمد بن زياد ، عن أبي هريرة ، والليث بن سعد ، عن سعيد المقبري ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، وعوف ، عن ابن سيرين ، عن أبي هريرة [ به ] . وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر وحجاج قالا حدثنا شعبة ، سمعت أبا الضحاك يحدث عن أبي هريرة ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها سبعين ، أو مائة سنة ، هي شجرة الخلد " . وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا يزيد بن هارون ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله قال : " في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام ما يقطعها ، واقرءوا إن شئتم : ( وظل ممدود ) . إسناده جيد ، ولم يخرجوه . وهكذا رواه ابن جرير ، عن أبي كريب ، عن عبدة وعبد الرحيم ، عن محمد بن عمرو ، به . وقد رواه الترمذي ، من حديث عبد الرحيم بن سليمان ، به . وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا مهران ، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن زياد - مولى بني مخزوم - عن أبي هريرة قال : إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة ، اقرءوا إن شئتم : ( وظل ممدود ) . فبلغ ذلك كعبا فقال : صدق ، والذي أنزل التوراة على موسى والفرقان على محمد ، لو أن رجلا ركب حقة أو جذعة ، ثم دار حول تلك الشجرة ما بلغها حتى يسقط هرما ، إن الله غرسها بيده ونفخ فيها من روحه ، وإن أفنانها لمن وراء سور الجنة ، وما في الجنة نهر إلا وهو يخرج من أصل تلك الشجرة . وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا محمد بن منهال الضرير ، حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن أنس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قول الله عز وجل : ( وظل ممدود ) ، قال : " في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها " . وكذا رواه البخاري ، عن روح بن عبد المؤمن ، عن يزيد بن زريع ، وهكذا رواه أبو داود [ ص: 528 ] الطيالسي ، عن عمران بن داور القطان ، عن قتادة به . وكذا رواه معمر ، وأبو هلال ، عن قتادة ، به . وقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد وسهل بن سعد ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر السريع مائة عام ما يقطعها " . فهذا حديث ثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل متواتر مقطوع بصحته عند أئمة الحديث النقاد ، لتعدد طرقه ، وقوة أسانيده ، وثقة رجاله . وقد قال الإمام أبو جعفر بن جرير : حدثنا أبو كريب ، حدثنا أبو بكر ، حدثنا أبو حصين قال : كنا على باب في موضع ، ومعنا أبو صالح وشقيق - يعني : الضبي - فحدث أبو صالح قال : حدثني أبو هريرة قال : إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها سبعين عاما . قال أبو صالح : أتكذب أبا هريرة ؟ قال : ما أكذب أبا هريرة ، ولكني أكذبك أنت . فشق ذلك على القراء يومئذ . قلت : فقد أبطل من يكذب بهذا الحديث ، مع ثبوته وصحته ورفعه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وقال الترمذي : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا زياد بن الحسن بن الفرات القزاز ، عن أبيه ، عن جده ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما في الجنة شجرة إلا ساقها من ذهب " . ثم قال : حسن غريب . وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن أبي الربيع ، حدثنا أبو عامر العقدي ، عن زمعة بن صالح ، عن سلمة بن وهرام ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : الظل الممدود شجرة في الجنة على ساق ظلها قدر ما يسير الراكب في نواحيها مائة عام . قال : فيخرج إليها أهل الجنة ; أهل الغرف وغيرهم ، فيتحدثون في ظلها . قال : فيشتهي بعضهم ويذكر لهو الدنيا ، فيرسل الله ريحا من الجنة فتحرك تلك الشجرة بكل لهو في الدنيا . هذا أثر غريب وإسناده جيد قوي حسن . وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا ابن يمان ، حدثنا سفيان ، حدثنا أبو إسحاق ، عن عمرو بن ميمون في قوله : ( وظل ممدود ) قال : سبعون ألف سنة . وكذا رواه ابن جرير ، عن بندار ، عن ابن مهدي ، عن سفيان ، مثله . ثم قال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون : ( وظل ممدود ) قال : خمسمائة ألف سنة . وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو الوليد الطيالسي ، حدثنا حصين بن نافع ، عن الحسن في قول الله تعالى : ( وظل ممدود ) قال : في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة لا يقطعها . [ ص: 529 ] وقال عوف عن الحسن : بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها " . رواه ابن جرير . وقال شبيب عن عكرمة ، عن ابن عباس : في الجنة شجر لا يحمل ، يستظل به . رواه ابن أبي حاتم . وقال الضحاك ، والسدي ، وأبو حرزة في قوله : ( وظل ممدود ) لا ينقطع ، ليس فيها شمس ولا حر ، مثل قبل طلوع الفجر . وقال ابن مسعود : الجنة سجسج ، كما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس . وقد تقدمت الآيات كقوله : ( وندخلهم ظلا ظليلا ) [ النساء : 57 ] ، وقوله : ( أكلها دائم وظلها ) [ الرعد : 35 ] ، وقوله : ( في ظلال وعيون ) [ المرسلات : 41 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقوله : ( وماء مسكوب ) قال الثوري : [ يعني ] يجري في غير أخدود . وقد تقدم الكلام عند تفسير قوله تعالى : ( فيها أنهار من ماء غير آسن ) الآية [ محمد : 15 ] ، بما أغنى عن إعادته هاهنا . وقوله : ( وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة ) أي : وعندهم من الفواكه الكثيرة المتنوعة في الألوان ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، ( كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ) [ البقرة : 25 ] أي : يشبه الشكل الشكل ، ولكن الطعم غير الطعم . وفي الصحيحين في ذكر سدرة المنتهى قال : " فإذا ورقها كآذان الفيلة ونبقها مثل قلال هجر " . وفيهما أيضا من حديث مالك ، عن زيد ، عن عطاء بن يسار ، عن ابن عباس قال : خسفت الشمس ، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس معه ، فذكر الصلاة . وفيه : قالوا : يا رسول الله ، رأيناك تناولت شيئا في مقامك هذا ، ثم رأيناك تكعكعت . قال : " إني رأيت الجنة ، فتناولت منها عنقودا ، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا " . وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا أبو خيثمة ، حدثنا عبد الله بن جعفر ، حدثنا عبيد الله ، حدثنا ابن عقيل ، عن جابر قال : بينا نحن في صلاة الظهر ، إذ تقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتقدمنا معه ، ثم تناول شيئا ليأخذه ثم تأخر ، فلما قضى الصلاة قال له أبي بن كعب : يا رسول الله ، صنعت اليوم [ ص: 530 ] في الصلاة شيئا ما كنت تصنعه ؟ قال : " إنه عرضت علي الجنة ، وما فيها من الزهرة والنضرة ، فتناولت منها قطفا من عنب لآتيكم به ، فحيل بيني وبينه ، ولو أتيتكم به لأكل منه من بين السماء والأرض لا ينقصونه " . وروى مسلم ، من حديث أبي الزبير ، عن جابر ، نحوه . وقال الإمام أحمد : حدثنا علي بن بحر ، حدثنا هشام بن يوسف ، أخبرنا معمر ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن عامر بن زيد البكالي : أنه سمع عتبة بن عبد السلمي يقول : جاء أعرابي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن الحوض وذكر الجنة ، ثم قال الأعرابي : فيها فاكهة ؟ قال : " نعم ، وفيها شجرة تدعى طوبى " فذكر شيئا لا أدري ما هو ، قال : أي شجر أرضنا تشبه ؟ قال : " ليست تشبه شيئا من شجر أرضك " . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أتيت الشام ؟ " قال : لا . قال : " تشبه شجرة بالشام تدعى الجوزة ، تنبت على ساق واحد ، وينفرش أعلاها " . قال : ما عظم أصلها ؟ قال : " لو ارتحلت جذعة من إبل أهلك ما أحاطت بأصلها حتى تنكسر ترقوتها هرما " . قال : فيها عنب ؟ قال : " نعم " . قال : فما عظم العنقود ؟ قال : " مسيرة شهر للغراب الأبقع ، ولا يفتر " . قال : فما عظم الحبة ؟ قال : " هل ذبح أبوك تيسا من غنمه قط عظيما ؟ " قال : نعم . قال : " فسلخ إهابه فأعطاه أمك ، فقال : اتخذي لنا منه دلوا ؟ " قال : نعم . قال الأعرابي : فإن تلك الحبة لتشبعني وأهل بيتي ؟ قال : " نعم وعامة عشيرتك " . وقوله : ( لا مقطوعة ولا ممنوعة ) أي : لا تنقطع شتاء ولا صيفا ، بل أكلها دائم مستمر أبدا ، مهما طلبوا وجدوا ، لا يمتنع عليهم بقدرة الله شيء . قال قتادة : لا يمنعهم من تناولها عود ولا شوك ولا بعد . وقد تقدم في الحديث : " إذا تناول الرجل الثمرة عادت مكانها أخرى " . وقوله : ( وفرش مرفوعة ) أي : عالية وطيئة ناعمة . قال النسائي وأبو عيسى الترمذي : حدثنا أبو كريب ، حدثنا رشدين بن سعد ، عن عمرو بن الحارث ، عن دراج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله : ( وفرش مرفوعة ) قال : " ارتفاعها كما بين السماء والأرض ، ومسيرة ما بينهما خمسمائة عام " . ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب لا نعرفه ، إلا من حديث رشدين بن سعد . قال : وقال بعض أهل العلم : معنى هذا الحديث : ارتفاع الفرش في الدرجات ، وبعد ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض . [ ص: 531 ] هكذا قال : إنه لا يعرف هذا إلا من رواية رشدين بن سعد ، وهو المصري ، وهو ضعيف . وهكذا رواه أبو جعفر بن جرير ، عن أبي كريب ، عن رشدين . ثم رواه هو وابن أبي حاتم ، كلاهما عن يونس بن عبد الأعلى ، عن ابن وهب ، عن عمرو بن الحارث ، فذكره . وكذا رواه ابن أبي حاتم أيضا عن نعيم بن حماد ، عن ابن وهب . وأخرجه الضياء في صفة الجنة من حديث حرملة عن بن وهب ، به مثله . ورواه الإمام أحمد عن حسن بن موسى ، عن ابن لهيعة ، حدثنا دراج ، فذكره . وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو معاوية ، عن جويبر ، عن أبي سهل - يعني : كثير بن زياد - عن الحسن : : ( وفرش مرفوعة ) قال : ارتفاع فراش الرجل من أهل الجنة مسيرة ثمانين سنة . وقوله : ( إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا عربا أترابا لأصحاب اليمين ) جرى الضمير على غير مذكور . لكن لما دل السياق ، وهو ذكر الفرش على النساء اللاتي يضاجعن فيها ، اكتفى بذلك عن ذكرهن ، وعاد الضمير عليهن ، كما في قوله : ( إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب ) [ ص : 31 ، 32 ] يعني : الشمس ، على المشهور من قول المفسرين . قال الأخفش في قوله : ( إنا أنشأناهن إنشاء ) أضمرهن ولم يذكرهن قبل ذلك . وقال أبو عبيدة : ذكرن في قوله : ( وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون ) [ الواقعة : 22 ، 23 ] . فقوله : ( إنا أنشأناهن ) أي : أعدناهن في النشأة الآخرة بعدما كن عجائز رمصا ، صرن أبكارا عربا ، أي : بعد الثيوبة عدن أبكارا عربا ، أي : متحببات إلى أزواجهن بالحلاوة والظرافة والملاحة . وقال بعضهم : ( عربا ) أي : غنجات . قال موسى بن عبيدة الربذي ، عن يزيد الرقاشي ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنا أنشأناهن إنشاء ) قال : " نساء عجائز كن في الدنيا عمشا رمصا " . رواه الترمذي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم . ثم قال الترمذي : غريب ، وموسى ويزيد ضعيفان . وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عوف الحمصي ، حدثنا آدم - يعني : ابن أبي إياس - حدثنا شيبان ، عن جابر ، عن يزيد بن مرة ، عن سلمة بن يزيد قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في قوله : ( إنا أنشأناهن إنشاء ) يعني : " الثيب والأبكار اللاتي كن في الدنيا " . ![]()
__________________
|
|
#495
|
||||
|
||||
![]() تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير) إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي الجزء (13) تفسير سورة الواقعة من صــ/ الى صــ / الحلقة (495) [ ص: 532 ] وقال عبد بن حميد : حدثنا مصعب بن المقدام ، حدثنا المبارك بن فضالة ، عن الحسن قال : أتت عجوز فقالت : يا رسول الله ادع الله أن يدخلني الجنة . فقال : " يا أم فلان ، إن الجنة لا تدخلها عجوز " . قال : فولت تبكي ، قال : " أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز ، إن الله تعالى يقول : ( إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا ) وهكذا رواه الترمذي في الشمائل عن عبد بن حميد . وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا بكر بن سهل الدمياطي ، حدثنا عمرو بن هاشم البيروتي ، حدثنا سليمان بن أبي كريمة ، عن هشام بن حسان ، عن الحسن ، عن أمه ، عن أم سلمة قالت : قلت : يا رسول الله ، أخبرني عن قول الله : ( وحور عين ) [ الواقعة : 22 ] ، قال : " حور : بيض ، عين : ضخام العيون ، شفر الحوراء بمنزلة جناح النسر " . قلت : أخبرني عن قوله : ( كأمثال اللؤلؤ المكنون ) [ الواقعة : 23 ] ، قال : " صفاؤهن صفاء الدر الذي في الأصداف ، الذي لم تمسه الأيدي " . قلت : أخبرني عن قوله : ( فيهن خيرات حسان ) [ الرحمن : 70 ] . قال : " خيرات الأخلاق ، حسان الوجوه " . قلت : أخبرني عن قوله : ( كأنهن بيض مكنون ) [ الصافات : 49 ] ، قال : " رقتهن كرقة الجلد الذي رأيت في داخل البيضة مما يلي القشر ، وهو : الغرقئ " . قلت : يا رسول الله ، أخبرني عن قوله : ( عربا أترابا ) . قال : " هن اللواتي قبضن في دار الدنيا عجائز رمصا شمطا ، خلقهن الله بعد الكبر ، فجعلهن عذارى عربا متعشقات محببات ، أترابا على ميلاد واحد " . قلت : يا رسول الله ، نساء الدنيا أفضل أم الحور العين ؟ قال : " بل نساء الدنيا أفضل من الحور العين ، كفضل الظهارة على البطانة " . قلت : يا رسول الله ، وبم ذاك ؟ قال : " بصلاتهن وصيامهن وعبادتهن الله عز وجل ، ألبس الله وجوههن النور ، وأجسادهن الحرير ، بيض الألوان ، خضر الثياب ، صفر الحلي ، مجامرهن الدر ، وأمشاطهن الذهب ، يقلن : نحن الخالدات فلا نموت أبدا ، ونحن الناعمات فلا نبأس أبدا ، ونحن المقيمات فلا نظعن أبدا ، ألا ونحن الراضيات فلا نسخط أبدا ، طوبى لمن كنا له وكان لنا " . قلت : يا رسول الله ، المرأة منا تتزوج زوجين والثلاثة والأربعة ، ثم تموت فتدخل الجنة ويدخلون معها ، من يكون زوجها ؟قال : " يا أم سلمة ، إنها تخير فتختار أحسنهم خلقا ، فتقول : يا رب ، إن هذا كان أحسن خلقا معي فزوجنيه ، يا أم سلمة ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة " . وفي حديث الصور الطويل المشهور أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشفع للمؤمنين كلهم في دخول الجنة فيقول الله : قد شفعتك وأذنت لهم في دخولها . فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " والذي بعثني بالحق ، ما أنتم في الدنيا بأعرف بأزواجكم ومساكنكم من أهل الجنة بأزواجهم ومساكنهم ، [ ص: 533 ] فيدخل الرجل منهم على ثنتين وسبعين زوجة ، سبعين مما ينشئ الله ، وثنتين من ولد آدم لهما فضل على من أنشأ الله ، بعبادتهما الله في الدنيا ، يدخل على الأولى منهما في غرفة من ياقوتة ، على سرير من ذهب مكلل باللؤلؤ ، عليه سبعون زوجا من سندس وإستبرق وإنه ليضع يده بين كتفيها ، ثم ينظر إلى يده من صدرها من وراء ثيابها وجلدها ولحمها ، وإنه لينظر إلى مخ ساقها كما ينظر أحدكم إلى السلك في قصبة الياقوت ، كبده لها مرآة - يعني : وكبدها له مرآة - فبينما هو عندها لا يملها ولا تمله ، ولا يأتيها من مرة إلا وجدها عذراء ، ما يفتر ذكره ، ولا تشتكي قبلها إلا أنه لا مني ولا منية ، فبينما هو كذلك إذ نودي : إنا قد عرفنا أنك لا تمل ولا تمل ، إلا أن لك أزواجا غيرها ، فيخرج ، فيأتيهن واحدة واحدة ، كلما جاء واحدة قالت : والله ما في الجنة شيء أحسن منك ، وما في الجنة شيء أحب إلي منك " . وقال عبد الله بن وهب : أخبرني عمرو بن الحارث ، عن دراج ، عن ابن حجيرة ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال له : أنطأ في الجنة ؟ قال : " نعم ، والذي نفسي بيده دحما دحما ، فإذا قام عنها رجعت مطهرة بكرا " . وقال الطبراني : حدثنا إبراهيم بن جابر الفقيه البغدادي ، حدثنا محمد بن عبد الملك الدقيق الواسطي ، حدثنا معلى بن عبد الرحمن الواسطي ، حدثنا شريك ، عن عاصم الأحول ، عن أبي المتوكل ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم عدن أبكارا " . وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا عمران ، عن قتادة ، عن أنس ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يعطى المؤمن في الجنة قوة كذا وكذا في النساء " . قلت : يا رسول الله ، ويطيق ذلك ؟ قال : " يعطى قوة مائة " . ورواه الترمذي من حديث أبي داود وقال : صحيح غريب . وروى أبو القاسم الطبراني من حديث حسين بن علي الجعفي ، عن زائدة ، عن هشام بن حسان ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة قال : قيل : يا رسول الله ، هل نصل إلى نسائنا في الجنة ؟ قال : " إن الرجل ليصل في اليوم إلى مائة عذراء " . قال الحافظ أبو عبد الله المقدسي : هذا الحديث عندي على شرط الصحيح ، والله أعلم . وقوله : ( عربا ) قال سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : يعني متحببات إلى أزواجهن ، ألم تر إلى الناقة الضبعة ، هي كذلك . وقال الضحاك ، عن ابن عباس : العرب : العواشق لأزواجهن ، وأزواجهن لهن عاشقون . وكذا قال عبد الله بن سرجس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وأبو العالية ، ويحيى بن أبي كثير ، وعطية ، [ ص: 534 ] والحسن ، وقتادة ، والضحاك ، وغيرهم . وقال ثور بن زيد ، عن عكرمة قال : سئل ابن عباس عن قوله : ( عربا ) قال : هي الملقة لزوجها . وقال شعبة ، عن سماك ، عن عكرمة : هي الغنجة . وقال الأجلح بن عبد الله ، عن عكرمة : هي الشكلة . وقال صالح بن حيان ، عن عبد الله بن بريدة في قوله : ( عربا ) قال : الشكلة بلغة أهل مكة ، والغنجة بلغة أهل المدينة . وقال تميم بن حذلم : هي حسن التبعل . وقال زيد بن أسلم ، وابنه عبد الرحمن : العرب : حسنات الكلام . وقال ابن أبي حاتم : ذكر عن سهل بن عثمان العسكري : حدثنا أبو علي ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جده قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( عربا ) قال : " كلامهن عربي " . وقوله : ( أترابا ) قال الضحاك ، عن ابن عباس يعني : في سن واحدة ، ثلاث وثلاثين سنة . وقال مجاهد : الأتراب : المستويات . وفي رواية عنه : الأمثال . وقال عطية : الأقران . وقال السدي : ( أترابا ) أي : في الأخلاق ، المتواخيات بينهن ، ليس بينهن تباغض ولا تحاسد ، يعني : لا كما كن ضرائر [ في الدنيا ] ضرائر متعاديات . وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو أسامة ، عن عبد الله بن الكهف ، عن الحسن ومحمد : ( عربا أترابا ) قالا : المستويات الأسنان ، يأتلفن جميعا ، ويلعبن جميعا . وقد روى أبو عيسى الترمذي ، عن أحمد بن منيع ، عن أبي معاوية ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن النعمان بن سعد ، عن علي رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن في الجنة لمجتمعا للحور العين ، يرفعن أصواتا لم تسمع الخلائق بمثلها ، يقلن : نحن الخالدات فلا نبيد ، ونحن الناعمات فلا نبأس ، ونحن الراضيات فلا نسخط ، طوبى لمن كان لنا وكنا له " . ثم قال : هذا حديث غريب . وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا أبو خيثمة ، حدثنا إسماعيل بن عمر ، حدثنا ابن أبي ذئب ، عن فلان بن عبد الله بن رافع ، عن بعض ولد أنس بن مالك ، عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الحور العين ليغنين في الجنة ، يقلن نحن خيرات حسان ، خبئنا لأزواج كرام " . [ ص: 535 ] قلت : إسماعيل بن عمر هذا هو أبو المنذر الواسطي أحد الثقات الأثبات . وقد روى هذا الحديث الإمام عبد الرحيم بن إبراهيم الملقب بدحيم ، عن ابن أبي فديك ، عن ابن أبي ذئب ، عن عون بن الخطاب بن عبد الله بن رافع ، عن ابن لأنس ، عن أنس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الحور العين يغنين في الجنة : نحن الجوار الحسان ، خلقنا لأزواج كرام " . وقوله : ( لأصحاب اليمين ) أي : خلقنا لأصحاب اليمين ، أو : ادخرن لأصحاب اليمين ، أو : زوجن لأصحاب اليمين . والأظهر أنه متعلق بقوله : ( إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا عربا أترابا لأصحاب اليمين ) فتقديره : أنشأناهن لأصحاب اليمين . وهذا توجيه ابن جرير . روي عن أبي سليمان الداراني - رحمه الله - قال : صليت ليلة ، ثم جلست أدعو ، وكان البرد شديدا ، فجعلت أدعو بيد واحدة ، فأخذتني عيني فنمت ، فرأيت حوراء لم ير مثلها وهي تقول : يا أبا سليمان ، أتدعو بيد واحدة وأنا أغذى لك في النعيم من خمسمائة سنة ! قلت : ويحتمل أن يكون قوله : ( لأصحاب اليمين ) متعلقا بما قبله ، وهو قوله : ( أترابا لأصحاب اليمين ) أي : في أسنانهم . كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم ، من حديث جرير ، عن عمارة بن القعقاع ، عن أبي زرعة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر ، والذين يلونهم على ضوء أشد كوكب دري في السماء إضاءة ، لا يبولون ولا يتغوطون ، ولا يتفلون ولا يتمخطون ، أمشاطهم الذهب ورشحهم المسك ومجامرهم الألوة ، وأزواجهم الحور العين ، أخلاقهم على خلق رجل واحد ، على صورة أبيهم آدم ، ستون ذراعا في السماء " . وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون وعفان قالا حدثنا حماد بن سلمة - وروى الطبراني ، واللفظ له من حديث حماد بن سلمة - عن علي بن زيد بن جدعان ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يدخل أهل الجنة الجنة جردا مردا بيضا جعادا مكحلين ، أبناء ثلاثين أو ثلاث وثلاثين ، وهم على خلق آدم ستون ذراعا في عرض سبعة أذرع " . وروى الترمذي من حديث أبي داود الطيالسي ، عن عمران القطان ، عن قتادة ، عن شهر بن حوشب ، عن عبد الرحمن بن غنم ، عن معاذ بن جبل ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " يدخل أهل الجنة الجنة جردا مردا مكحلين أبناء ثلاثين ، أو ثلاث وثلاثين سنة " . ثم قال : حسن غريب [ ص: 536 ] وقال ابن وهب : أخبرنا عمرو بن الحارث أن دراجا أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من مات من أهل الجنة من صغير أو كبير ، يردون بني ثلاث وثلاثين في الجنة ، لا يزيدون عليها أبدا ، وكذلك أهل النار " . ورواه الترمذي عن سويد بن نصر ، عن ابن المبارك ، عن رشدين بن سعد ، عن عمرو بن الحارث ، به وقال أبو بكر بن أبي الدنيا : حدثنا القاسم بن هاشم ، حدثنا صفوان بن صالح ، حدثنا رواد بن الجراح العسقلاني ، حدثنا الأوزاعي ، عن هارون بن رئاب ، عن أنس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يدخل أهل الجنة الجنة على طول آدم ستين ذراعا بذراع الملك ! على حسن يوسف ، وعلى ميلاد عيسى ثلاث وثلاثين سنة ، وعلى لسان محمد ، جرد مرد مكحلون " . وقال أبو بكر بن أبي داود : حدثنا محمود بن خالد وعباس بن الوليد قالا : " حدثنا عمر عن الأوزاعي ، عن هارون بن رئاب ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يبعث أهل الجنة على صورة آدم في ميلاد ثلاث وثلاثين ، جردا مردا مكحلين ، ثم يذهب بهم إلى شجرة في الجنة فيكسون منها ، لا تبلى ثيابهم ، ولا يفنى شبابهم " . وقوله : ( ثلة من الأولين وثلة من الآخرين ) أي : جماعة من الأولين وجماعة من الآخرين . وقال ابن أبي حاتم : حدثنا المنذر بن شاذان ، حدثنا محمد بن بكار ، حدثنا سعيد بن بشير ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن عمران بن حصين ، عن عبد الله بن مسعود - قال : وكان بعضهم يأخذ عن بعض - قال : أكرينا ذات ليلة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم غدونا عليه ، فقال : " عرضت علي الأنبياء وأتباعها بأممها ، فيمر علي النبي ، والنبي في العصابة ، والنبي في الثلاثة ، والنبي ليس معه أحد - وتلا قتادة هذه الآية : ( أليس منكم رجل رشيد ) [ هود : 78 ] - قال : حتى مر علي موسى بن عمران في كبكبة من بني إسرائيل " . قال : " قلت : ربي من هذا ؟ قال : هذا أخوك موسى بن عمران ومن معه من بني إسرائيل " . قال : " قلت : رب فأين أمتي ؟ قال : انظر عن يمينك في الظراب . قال : " فإذا وجوه الرجال " . قال : " قال : أرضيت ؟ " قال : قلت : " قد رضيت ، رب " . قال : انظر إلى الأفق عن يسارك فإذا وجوه الرجال . قال : أرضيت ؟ قلت : " رضيت ، رب " . قال : فإن مع هؤلاء سبعين ألفا ، يدخلون الجنة بغير حساب " . قال : وأنشأ عكاشة بن محصن من بني أسد - قال سعيد : وكان بدريا - قال : يا نبي الله ، ادع الله أن يجعلني منهم . قال : فقال : " اللهم اجعله منهم " . قال : أنشأ رجل آخر ، قال : يا نبي الله ، ادع الله [ ص: 537 ] أن يجعلني منهم . فقال : " سبقك بها عكاشة " قال : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " فإن استطعتم - فداكم أبي وأمي - أن تكونوا من أصحاب السبعين فافعلوا وإلا فكونوا من أصحاب الظراب ، وإلا فكونوا من أصحاب الأفق ، فإني قد رأيت ناسا كثيرا قد تأشبوا حوله " . ثم قال : " إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة " . فكبرنا ، ثم قال : " إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة " . قال : فكبرنا ، قال : " إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة " . قال : فكبرنا . ثم تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية : ( ثلة من الأولين وثلة من الآخرين ) قال : فقلنا بيننا : من هؤلاء السبعون ألفا ؟ فقلنا : هم الذين ولدوا في الإسلام ، ولم يشركوا . قال : فبلغه ذلك فقال : " بل هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون ، وعلى ربهم يتوكلون " . وكذا رواه ابن جرير من طريقين آخرين عن قتادة ، به نحوه . وهذا الحديث له طرق كثيرة من غير هذا الوجه في الصحاح وغيرها . وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا مهران ، حدثنا سفيان ، عن أبان بن أبي عياش ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( ثلة من الأولين وثلة من الآخرين ) قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " هما جميعا من أمتي " . ( وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال ( 41 ) في سموم وحميم ( 42 ) وظل من يحموم ( 43 ) لا بارد ولا كريم ( 44 ) إنهم كانوا قبل ذلك مترفين ( 45 ) وكانوا يصرون على الحنث العظيم ( 46 ) وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون ( 47 ) أوآباؤنا الأولون ( 48 ) قل إن الأولين والآخرين ( 49 ) لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم ( 50 ) ثم إنكم أيها الضالون المكذبون ( 51 ) لآكلون من شجر من زقوم ( 52 ) فمالئون منها البطون ( 53 ) فشاربون عليه من الحميم ( 54 ) فشاربون شرب الهيم ( 55 ) هذا نزلهم يوم الدين ( 56 ) ) . لما ذكر تعالى حال أصحاب اليمين ، عطف عليهم بذكر أصحاب الشمال ، فقال : ( وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال ) أي : أي شيء هم فيه أصحاب الشمال ؟ ثم فسر ذلك فقال : ( في سموم ) وهو : الهواء الحار ) وحميم ) وهو : الماء الحار . ( وظل من يحموم ) قال ابن عباس : ظل الدخان . وكذا قال مجاهد ، وعكرمة ، وأبو صالح ، وقتادة ، والسدي ، وغيرهم . وهذه كقوله تعالى : ( انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب إنها ترمي بشرر كالقصر كأنه جمالة صفر ويل يومئذ للمكذبين ) [ المرسلات : 29 ، 34 ] ، [ ص: 538 ] ولهذا قال هاهنا : ( وظل من يحموم ) وهو الدخان الأسود ( لا بارد ولا كريم ) أي : ليس طيب الهبوب ولا حسن المنظر ، كما قال الحسن وقتادة : ( ولا كريم ) أي : ولا كريم المنظر . وقال الضحاك : كل شراب ليس بعذب فليس بكريم . وقال ابن جرير : العرب تتبع هذه اللفظة في النفي ، فيقولون : " هذا الطعام ليس بطيب ولا كريم ، هذا اللحم ليس بسمين ولا كريم ، وهذه الدار ليست بنظيفة ولا كريمة " . ثم ذكر تعالى استحقاقهم لذلك ، فقال تعالى : ( إنهم كانوا قبل ذلك مترفين ) أي : كانوا في الدار الدنيا منعمين مقبلين على لذات أنفسهم ، لا يلوون على ما جاءتهم به الرسل . ( وكانوا يصرون ) أي : يصممون ولا ينوون توبة ( على الحنث العظيم ) وهو الكفر بالله ، وجعل الأوثان والأنداد أربابا من دون الله . قال ابن عباس : ( الحنث العظيم ) الشرك . وكذا قال مجاهد ، وعكرمة ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي ، وغيرهم . وقال الشعبي : هو اليمين الغموس . ( وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون أوآباؤنا الأولون ) ؟ يعني : أنهم يقولون ذلك مكذبين به مستبعدين لوقوعه ، قال الله تعالى : ( قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم ) أي : أخبرهم يا محمد أن الأولين والآخرين من بني آدم سيجمعون إلى عرصات القيامة ، لا نغادر منهم أحدا ، كما قال : ( ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود وما نؤخره إلا لأجل معدود يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد ) [ هود : 103 - 105 ] . ولهذا قال هاهنا : ( لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم ) أي : هو موقت بوقت محدد ، لا يتقدم ولا يتأخر ، ولا يزيد ولا ينقص . ( ثم إنكم أيها الضالون المكذبون لآكلون من شجر من زقوم فمالئون منها البطون ) : وذلك أنهم يقبضون ويسجرون حتى يأكلوا من شجر الزقوم ، حتى يملئوا منها بطونهم ، ( فشاربون عليه من الحميم فشاربون شرب الهيم ) وهي الإبل العطاش ، واحدها أهيم ، والأنثى هيماء ، ويقال : هائم وهائمة . قال ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة : الهيم : الإبل العطاش الظماء . وعن عكرمة أنه قال : الهيم : الإبل المراض ، تمص الماء مصا ولا تروى . وقال السدي : الهيم : داء يأخذ الإبل فلا تروى أبدا حتى تموت ، فكذلك أهل جهنم لا يروون من الحميم أبدا . [ ص: 539 ] وعن خالد بن معدان : أنه كان يكره أن يشرب شرب الهيم عبة واحدة من غير أن يتنفس ثلاثا . ثم قال تعالى : ( هذا نزلهم يوم الدين ) أي : هذا الذي وصفنا هو ضيافتهم عند ربهم يوم حسابهم ، كما قال في حق المؤمنين : ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا ) [ الكهف : 107 ] أي : ضيافة وكرامة . ![]()
__________________
|
|
#496
|
||||
|
||||
![]() تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير) إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي الجزء (13) تفسير سورة الواقعة من صــ/ الى صــ / الحلقة (496) ( نحن خلقناكم فلولا تصدقون ( 57 ) أفرأيتم ما تمنون ( 58 ) أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون ( 59 ) نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين ( 60 ) على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون ( 61 ) ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون ( 62 ) ) . يقول تعالى مقررا للمعاد ، وردا على المكذبين به من أهل الزيغ والإلحاد ، من الذين قالوا : ( أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون ) [ الصافات : 16 ] ، وقولهم ذلك صدر منهم على وجه التكذيب والاستبعاد ، فقال : ( نحن خلقناكم ) أي : نحن ابتدأنا خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا ، أفليس الذي قدر على البداءة بقادر على الإعادة بطريق الأولى والأحرى ; فلهذا قال : ( فلولا تصدقون ) أي : فهلا تصدقون بالبعث ! ثم قال مستدلا عليهم بقوله : ( أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون ) أي : أنتم تقرونه في الأرحام وتخلقونه فيها ، أم الله الخالق لذلك ؟ ثم قال : ( نحن قدرنا بينكم الموت ) أي : صرفناه بينكم . وقال الضحاك : ساوى فيه بين أهل السماء والأرض . ( وما نحن بمسبوقين ) أي : وما نحن بعاجزين . ( على أن نبدل أمثالكم ) أي : نغير خلقكم يوم القيامة ، ( وننشئكم في ما لا تعلمون ) أي : من الصفات والأحوال . ثم قال : ( ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون ) أي : قد علمتم أن الله أنشأكم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا ، فخلقكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة ، فهلا تتذكرون وتعرفون أن الذي قدر على هذه النشأة - وهي البداءة - قادر على النشأة الأخرى ، وهي الإعادة بطريق الأولى والأحرى ، وكما قال : ( وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه ) [ الروم : 27 ] ، وقال : ( أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا ) [ مريم : 67 ] ، وقال : ( أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم ) [ يس : 77 - 79 ] ، وقال تعالى : ( أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى ) ؟ [ القيامة : 36 - 40 ] . [ ص: 540 ] ( أفرأيتم ما تحرثون ( 63 ) أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون ( 64 ) لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون ( 65 ) إنا لمغرمون ( 66 ) بل نحن محرومون ( 67 ) أفرأيتم الماء الذي تشربون ( 68 ) أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون ( 69 ) لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون ( 70 ) أفرأيتم النار التي تورون ( 71 ) أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون ( 72 ) نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين ( 73 ) فسبح باسم ربك العظيم ( 74 ) ) يقول : ( أفرأيتم ما تحرثون ) ؟ وهو شق الأرض وإثارتها والبذر فيها ، ( أأنتم تزرعونه ) أي : تنبتونه في الأرض ( أم نحن الزارعون ) أي : بل نحن الذين نقره قراره وننبته في الأرض . قال ابن جرير : وقد حدثني أحمد بن الوليد القرشي ، حدثنا مسلم بن أبي مسلم الجرمي ، حدثنا مخلد بن الحسين ، عن هشام ، عن محمد ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تقولن : زرعت ، ولكن قل : حرثت " قال أبو هريرة : ألم تسمع إلى قوله : ( أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون ) . ورواه البزار ، عن محمد بن عبد الرحيم ، عن مسلم ، الجميع به . وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد ، عن عطاء ، عن أبي عبد الرحمن : لا تقولوا : زرعنا ولكن قولوا : حرثنا . وروي عن حجر المدري أنه كان إذا قرأ : ( أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون ) وأمثالها يقول : بل أنت يا رب . وقوله : ( لو نشاء لجعلناه حطاما ) أي : نحن أنبتناه بلطفنا ورحمتنا ، وأبقيناه لكم رحمة بكم ، ولو نشاء لجعلناه حطاما ، أي : لأيبسناه قبل استوائه واستحصاده ، ( فظلتم تفكهون ) . ثم فسر ذلك بقوله : ( إنا لمغرمون بل نحن محرومون ) أي : لو جعلناه حطاما لظلتم تفكهون في المقالة ، تنوعون كلامكم ، فتقولون تارة : ( إنا لمغرمون ) أي : لملقون . وقال مجاهد ، وعكرمة : إنا لمولع بنا ، وقال قتادة : معذبون . وتارة تقولون : بل نحن محرومون . وقال مجاهد أيضا : ( إنا لمغرمون ) ملقون للشر ، أي : بل نحن محارفون ، قاله قتادة ، أي : لا يثبت لنا مال ، ولا ينتج لنا ربح . [ ص: 541 ] وقال مجاهد : ( بل نحن محرومون ) أي : مجدودون ، يعني : لا حظ لنا . قال ابن عباس ، ومجاهد : ( فظلتم تفكهون ) : تعجبون . وقال مجاهد أيضا : ( فظلتم تفكهون ) تفجعون وتحزنون على ما فاتكم من زرعكم . وهذا يرجع إلى الأول ، وهو التعجب من السبب الذي من أجله أصيبوا في مالهم . وهذا اختيار ابن جرير . وقال عكرمة : ( فظلتم تفكهون ) تلاومون . وقال الحسن ، وقتادة ، والسدي : ( فظلتم تفكهون ) تندمون . ومعناه إما على ما أنفقتم ، أو على ما أسلفتم من الذنوب . قال الكسائي : تفكه من الأضداد ، تقول العرب : تفكهت بمعنى تنعمت ، وتفكهت بمعنى حزنت . ثم قال تعالى : ( أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن ) يعني : السحاب . قاله ابن عباس ، ومجاهد وغير واحد . ( أم نحن المنزلون ) يقول : بل نحن المنزلون . ( لو نشاء جعلناه أجاجا ) أي : زعاقا مرا لا يصلح لشرب ولا زرع ، ( فلولا تشكرون ) أي : فهلا تشكرون نعمة الله عليكم في إنزاله المطر عليكم عذبا زلالا ! ( لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون ) [ النحل : 10 ، 11 ] . وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عثمان بن سعيد بن مرة ، حدثنا فضيل بن مرزوق ، عن جابر ، عن أبي جعفر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه إذا شرب الماء قال : " الحمد لله الذي سقانا عذبا فراتا برحمته ، ولم يجعله ملحا أجاجا بذنوبنا " . ثم قال : ( أفرأيتم النار التي تورون ) أي : تقدحون من الزناد وتستخرجونها من أصلها . ( أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون ) أي : بل نحن الذين جعلناها مودعة في موضعها ، وللعرب شجرتان : إحداهما : المرخ ، والأخرى : العفار ، إذا أخذ منهما غصنان أخضران فحك أحدهما بالآخر ، تناثر من بينهما شرر النار . وقوله : ( نحن جعلناها تذكرة ) قال مجاهد ، وقتادة : أي تذكر النار الكبرى . قال قتادة : ذكر لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " يا قوم ، ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءا من نار جهنم " . قالوا : يا رسول الله إن كانت لكافية ! قال : " قد ضربت بالماء ضربتين - أو : مرتين - حتى يستنفع بها بنو آدم ويدنوا منها " . [ ص: 542 ] وهذا الذي أرسله قتادة رواه الإمام أحمد في مسنده ، فقال : حدثنا سفيان ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن ناركم هذه جزء من سبعين جزءا من نار جهنم ، وضربت بالبحر مرتين ، ولولا ذلك ما جعل الله فيها منفعة لأحد " . وقال الإمام مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " نار بني آدم التي يوقدون جزء من سبعين جزءا من نار جهنم " . فقالوا : يا رسول الله إن كانت لكافية فقال : " إنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا " . رواه البخاري من حديث مالك ، ومسلم من حديث أبي الزناد ، ورواه مسلم من حديث عبد الرزاق ، عن معمر ، عن همام ، عن أبي هريرة به . وفي لفظ : " والذي نفسي بيده لقد فضلت عليها بتسعة وستين جزءا كلهن مثل حرها " . وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن عمرو الخلال ، حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي ، حدثنا معن بن عيسى القزاز ، عن مالك ، عن عمه أبي السهيل ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أتدرون ما مثل ناركم هذه من نار جهنم ؟ لهي أشد سوادا من [ دخان ] ناركم هذه بسبعين ضعفا " . قال الضياء المقدسي : وقد رواه ابن مصعب عن مالك ، ولم يرفعه ، وهو عندي على شرط الصحيح . وقوله : ( ومتاعا للمقوين ) قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، والنضر بن عربي : معنى ) للمقوين ) المسافرين ، واختاره ابن جرير ، وقال : ومنه قولهم : " أقوت الدار إذا رحل أهلها " . وقال غيره : القي والقواء : القفر الخالي البعيد من العمران . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : المقوي هنا الجائع . وقال ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد : ( ومتاعا للمقوين ) للحاضر والمسافر ، لكل طعام لا يصلحه إلا النار . وكذا روى سفيان ، عن جابر الجعفي ، عن مجاهد . وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : ( للمقوين ) المستمتعين الناس أجمعين . وكذا ذكر عن عكرمة . [ ص: 543 ] وهذا التفسير أعم من غيره ، فإن الحاضر والبادي من غني وفقير الكل محتاجون للطبخ والاصطلاء والإضاءة وغير ذلك من المنافع . ثم من لطف الله تعالى أن أودعها في الأحجار ، وخالص الحديد بحيث يتمكن المسافر من حمل ذلك في متاعه وبين ثيابه ، فإذا احتاج إلى ذلك في منزله أخرج زنده وأورى ، وأوقد ناره فأطبخ بها واصطلى ، واشتوى واستأنس بها ، وانتفع بها سائر الانتفاعات . فلهذا أفرد المسافرون وإن كان ذلك عاما في حق الناس كلهم . وقد يستدل له بما رواه الإمام أحمد وأبو داود من حديث أبي خداش حبان بن زيد الشرعبي الشامي ، عن رجل من المهاجرين من قرن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " المسلمون شركاء في ثلاثة : النار والكلأ والماء " . وروى ابن ماجه بإسناد جيد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ثلاث لا يمنعن : الماء والكلأ والنار " . وله من حديث ابن عباس مرفوعا مثل هذا وزيادة : " وثمنه حرام " . ولكن في إسناده " عبد الله بن خراش بن حوشب " وهو ضعيف ، والله أعلم . وقوله : ( فسبح باسم ربك العظيم ) أي : الذي بقدرته خلق هذه الأشياء المختلفة المتضادة الماء العذب الزلال البارد ، ولو شاء لجعله ملحا أجاجا كالبحار المغرقة . وخلق النار المحرقة ، وجعل ذلك مصلحة للعباد ، وجعل هذه منفعة لهم في معاش دنياهم ، وزاجرا لهم في المعاد . ( فلا أقسم بمواقع النجوم ( 75 ) وإنه لقسم لو تعلمون عظيم ( 76 ) إنه لقرآن كريم ( 77 ) في كتاب مكنون ( 78 ) لا يمسه إلا المطهرون ( 79 ) تنزيل من رب العالمين ( 80 ) أفبهذا الحديث أنتم مدهنون ( 81 ) وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ( 82 ) ) . قال جويبر ، عن الضحاك : إن الله لا يقسم بشيء من خلقه ، ولكنه استفتاح يستفتح به كلامه . وهذا القول ضعيف . والذي عليه الجمهور أنه قسم من الله عز وجل ، يقسم بما شاء من خلقه ، وهو دليل على عظمته . ثم قال بعض المفسرين : " لا " هاهنا زائدة ، وتقديره : أقسم بمواقع النجوم . ورواه ابن جرير ، عن سعيد بن جبير . ويكون جوابه : ( إنه لقرآن كريم ) . وقال آخرون : ليست " لا " زائدة لا معنى لها ، بل يؤتى بها في أول القسم إذا كان مقسما به على منفي ، كقول عائشة رضي الله عنها : " لا والله ما مست يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يد امرأة قط " وهكذا هاهنا تقدير الكلام : " لا أقسم بمواقع النجوم ليس الأمر كما زعمتم في القرآن أنه سحر أو كهانة ، بل هو قرآن كريم " . [ ص: 544 ] وقال ابن جرير : وقال بعض أهل العربية : معنى قوله : ( فلا أقسم ) فليس الأمر كما تقولون ، ثم استأنف القسم بعد : فقيل : أقسم . واختلفوا في معنى قوله : ( بمواقع النجوم ) ، فقال حكيم بن جبير ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس يعني : نجوم القرآن ; فإنه نزل جملة ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء الدنيا ، ثم نزل مفرقا في السنين بعد . ثم قرأ ابن عباس هذه الآية . وقال الضحاك عن ابن عباس : نزل القرآن جملة من عند الله من اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا ، فنجمته السفرة على جبريل عشرين ليلة ، ونجمه جبريل على محمد - صلى الله عليه وسلم - عشرين سنة ، فهو قوله : ( فلا أقسم بمواقع النجوم ) نجوم القرآن . وكذا قال عكرمة ، ومجاهد ، والسدي ، وأبو حزرة . وقال مجاهد أيضا : ( بمواقع النجوم ) في السماء ، ويقال : مطالعها ومشارقها . وكذا قال الحسن ، وقتادة ، وهو اختيار ابن جرير . وعن قتادة : مواقعها : منازلها . وعن الحسن أيضا : أن المراد بذلك انتثارها يوم القيامة . وقال الضحاك : ( فلا أقسم بمواقع النجوم ) يعني بذلك : الأنواء التي كان أهل الجاهلية إذا مطروا ، قالوا : مطرنا بنوء كذا وكذا . وقوله : ( وإنه لقسم لو تعلمون عظيم ) أي : وإن هذا القسم الذي أقسمت به لقسم عظيم ، لو تعلمون عظمته لعظمتم المقسم به عليه ، ( إنه لقرآن كريم ) أي : إن هذا القرآن الذي نزل على محمد لكتاب عظيم . ( في كتاب مكنون ) أي : معظم في كتاب معظم محفوظ موقر . قال ابن جرير : حدثني إسماعيل بن موسى ، أخبرنا شريك ، عن حكيم - هو ابن جبير - عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( لا يمسه إلا المطهرون ) قال : الكتاب الذي في السماء . وقال العوفي ، عن ابن عباس : ( [ لا يمسه ] إلا المطهرون ) يعني : الملائكة . وكذا قال أنس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، والضحاك ، وأبو الشعثاء جابر بن زيد ، وأبو نهيك ، والسدي ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغيرهم . وقال ابن جرير : حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا ابن ثور ، حدثنا معمر ، عن قتادة : ( لا يمسه إلا المطهرون ) قال : لا يمسه عند الله إلا المطهرون ، فأما في الدنيا فإنه يمسه المجوسي النجس ، والمنافق الرجس . وقال : وهي في قراءة ابن مسعود : " ما يمسه إلا المطهرون " . وقال أبو العالية : ( لا يمسه إلا المطهرون ) ليس أنتم أصحاب الذنوب . وقال ابن زيد : زعمت كفار قريش أن هذا القرآن تنزلت به الشياطين ، فأخبر الله تعالى أنه لا يمسه إلا المطهرون كما قال : ( وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون إنهم عن السمع لمعزولون ) [ الشعراء : 210 - 212 ] . [ ص: 545 ] وهذا القول قول جيد ، وهو لا يخرج عن الأقوال التي قبله . وقال الفراء : لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن به . وقال آخرون : ( لا يمسه إلا المطهرون ) أي : من الجنابة والحدث . قالوا : ولفظ الآية خبر ومعناها الطلب ، قالوا : والمراد بالقرآن - هاهنا - المصحف ، كما روى مسلم ، عن ابن عمر : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو ، مخافة أن يناله العدو . واحتجوا في ذلك بما رواه الإمام مالك في موطئه ، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم : أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن حزم : ألا يمس القرآن إلا طاهر . وروى أبو داود في المراسيل من حديث الزهري قال : قرأت في صحيفة عند أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " ولا يمس القرآن إلا طاهر " . وهذه وجادة جيدة . قد قرأها الزهري وغيره ، ومثل هذا ينبغي الأخذ به . وقد أسنده الدارقطني عن عمرو بن حزم ، وعبد الله بن عمر ، وعثمان بن أبي العاص ، وفي إسناد كل منها نظر ، والله أعلم . وقوله : ( تنزيل من رب العالمين ) أي : هذا القرآن منزل من [ الله ] رب العالمين ، وليس هو كما يقولون : إنه سحر ، أو كهانة ، أو شعر ، بل هو الحق الذي لا مرية فيه ، وليس وراءه حق نافع . وقوله : ( أفبهذا الحديث أنتم مدهنون ) قال العوفي ، عن ابن عباس : أي مكذبون غير مصدقين . وكذا قال الضحاك ، وأبو حزرة ، والسدي . وقال مجاهد : ( مدهنون ) أي : تريدون أن تمالئوهم فيه وتركنوا إليهم . ( وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ) قال بعضهم : يعني : وتجعلون رزقكم بمعنى شكركم أنكم تكذبون ، أي : تكذبون بدل الشكر . وقد روي عن علي ، وابن عباس أنهما قرآها : " وتجعلون شكركم أنكم تكذبون " كما سيأتي . وقال ابن جرير : وقد ذكر عن الهيثم بن عدي : أن من لغة أزد شنوءة : ما رزق فلان بمعنى : ما شكر فلان . وقال الإمام أحمد : حدثنا حسين بن محمد ، حدثنا إسرائيل ، عن عبد الأعلى ، عن أبي [ ص: 546 ] عبد الرحمن ، عن علي - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( وتجعلون رزقكم ) يقول : " شكركم ( أنكم تكذبون ) تقولون : مطرنا بنوء كذا وكذا ، بنجم كذا وكذا " . وهكذا رواه ابن أبي حاتم ، عن أبيه ، عن مخول بن إبراهيم النهدي - وابن جرير ، عن محمد بن المثنى ، عن عبيد الله بن موسى ، وعن يعقوب بن إبراهيم ، عن يحيى بن أبي بكير ، ثلاثتهم عن إسرائيل به مرفوعا . وكذا رواه الترمذي ، عن أحمد بن منيع ، عن حسين بن محمد - وهو المروزي - به ، وقال : " حسن غريب " . وقد رواه سفيان ، عن عبد الأعلى ، ولم يرفعه . وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : ما مطر قوم قط إلا أصبح بعضهم كافرا يقولون : مطرنا بنوء كذا وكذا . وقرأ ابن عباس : " وتجعلون شكركم أنكم تكذبون " . وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس . وقال مالك في الموطأ ، عن صالح بن كيسان ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن زيد بن خالد الجهني أنه قال : صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح بالحديبية في أثر سماء كانت من الليل ، فلما انصرف أقبل على الناس فقال : " هل تدرون ماذا قال ربكم ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم . " قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته ، فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب ، وأما من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا . فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب " . أخرجاه في الصحيحين ، وأبو داود ، والنسائي ، كلهم من حديث مالك به . وقال مسلم : حدثنا محمد بن سلمة المرادي ، وعمرو بن سواد ، حدثنا عبد الله بن وهب ، عن عمرو بن الحارث أن أبا يونس حدثه ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " ما أنزل الله من السماء من بركة إلا أصبح فريق من الناس بها كافرين ، ينزل الغيث ، فيقولون : بكوكب كذا وكذا " . تفرد به مسلم من هذا الوجه . وقال ابن جرير : حدثني يونس ، أخبرنا سفيان ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الله ليصبح القوم بالنعمة أو يمسيهم بها فيصبح بها قوم كافرين يقولون : مطرنا بنوء كذا وكذا " . [ ص: 547 ] قال محمد - هو ابن إبراهيم - : فذكرت هذا الحديث لسعيد بن المسيب ، فقال : ونحن قد سمعنا من أبي هريرة ، وقد أخبرني من شهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو يستسقي ، فلما استسقى التفت إلى العباس فقال : يا عباس ، يا عم رسول الله ، كم بقي من نوء الثريا ؟ فقال : العلماء يزعمون أنها تعترض في الأفق بعد سقوطها سبعا . قال : فما مضت سابعة حتى مطروا . ![]()
__________________
|
|
#497
|
||||
|
||||
![]() تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير) إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي الجزء (13) تفسير سورة الحديد من صــ/ الى صــ / الحلقة (497) وهذا محمول على السؤال عن الوقت الذي أجرى الله فيه العادة بإنزال المطر ، لا أن ذلك النوء يؤثر بنفسه في نزول المطر ; فإن هذا هو المنهي عن اعتقاده . وقد تقدم شيء من هذه الأحاديث عند قوله : ( ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها ) [ فاطر : 2 ] . وقال ابن جرير : حدثني يونس ، أخبرنا سفيان ، عن إسماعيل بن أمية - أحسبه أو غيره - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلا - ومطروا - يقول : مطرنا ببعض عشانين الأسد . فقال : " كذبت ! بل هو رزق الله " . ثم قال ابن جرير : حدثني أبو صالح الصراري ، حدثنا أبو جابر محمد بن عبد الملك الأزدي ، حدثنا جعفر بن الزبير ، عن القاسم ، عن أبي أمامة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " ما مطر قوم من ليلة إلا أصبح قوم بها كافرين " . ثم قال : " ( وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ) يقول قائل : مطرنا بنجم كذا وكذا " . وفي حديث عن أبي سعيد مرفوعا : " لو قحط الناس سبع سنين ثم مطروا لقالوا : مطرنا بنوء المجدح " . وقال مجاهد : ( وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ) قال : قولهم في الأنواء : مطرنا بنوء كذا ، وبنوء كذا ، يقول : قولوا : هو من عند الله ، وهو رزقه ، وهكذا قال الضحاك وغير واحد . وقال قتادة : أما الحسن فكان يقول : بئس ما أخذ قوم لأنفسهم لم يرزقوا من كتاب الله إلا التكذيب . فمعنى قول الحسن هذا : وتجعلون حظكم من كتاب الله أنكم تكذبون به ; ولهذا قال قبله : ( أفبهذا الحديث أنتم مدهنون وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ) ( فلولا إذا بلغت الحلقوم ( 83 ) وأنتم حينئذ تنظرون ( 84 ) ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون ( 85 ) فلولا إن كنتم غير مدينين ( 86 ) ترجعونها إن كنتم صادقين ( 87 ) ) . يقول تعالى : ( فلولا إذا بلغت ) أي : الروح ( الحلقوم ) أي : الحلق ، وذلك حين الاحتضار [ ص: 548 ] كما قال : ( كلا إذا بلغت التراقي وقيل من راق وظن أنه الفراق والتفت الساق بالساق إلى ربك يومئذ المساق ) [ القيامة : 26 ، 30 ] ; ولهذا قال هاهنا : ( وأنتم حينئذ تنظرون ) أي : إلى المحتضر وما يكابده من سكرات الموت . ( ونحن أقرب إليه منكم ) أي : بملائكتنا ( ولكن لا تبصرون ) أي : ولكن لا ترونهم . كما قال في الآية الأخرى : ( وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين ) [ الأنعام : 61 ، 62 ] . وقوله : ( فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها ) : معناه : فهلا ترجعون هذه النفس التي قد بلغت الحلقوم إلى مكانها الأول ، ومقرها في الجسد إن كنتم غير مدينين . قال ابن عباس : يعني محاسبين . وروي عن مجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي ، وأبي حزرة مثله . وقال سعيد بن جبير ، والحسن البصري : ( فلولا إن كنتم غير مدينين ) غير مصدقين أنكم تدانون وتبعثون وتجزون ، فردوا هذه النفس . وعن مجاهد : ( غير مدينين ) غير موقنين . وقال ميمون بن مهران : غير معذبين مقهورين . ( فأما إن كان من المقربين ( 88 ) فروح وريحان وجنة نعيم ( 89 ) وأما إن كان من أصحاب اليمين ( 90 ) فسلام لك من أصحاب اليمين ( 91 ) وأما إن كان من المكذبين الضالين ( 92 ) فنزل من حميم ( 93 ) وتصلية جحيم ( 94 ) إن هذا لهو حق اليقين ( 95 ) فسبح باسم ربك العظيم ( 96 ) ) . هذه الأحوال الثلاثة هي أحوال الناس عند احتضارهم : إما أن يكون من المقربين ، أو يكون ممن دونهم من أصحاب اليمين . وإما أن يكون من المكذبين الضالين عن الهدى ، الجاهلين بأمر الله ; ولهذا قال تعالى : ( فأما إن كان ) أي : المحتضر ، ( من المقربين ) ، وهم الذين فعلوا الواجبات والمستحبات ، وتركوا المحرمات والمكروهات وبعض المباحات ، ( فروح وريحان وجنة نعيم ) أي : فلهم روح وريحان ، وتبشرهم الملائكة بذلك عند الموت ، كما تقدم في حديث البراء : أن ملائكة الرحمة تقول : " أيتها الروح الطيبة في الجسد الطيب كنت تعمرينه ، اخرجي إلى روح وريحان ، ورب غير غضبان " . قال علي بن طلحة ، عن ابن عباس : ( فروح ) يقول : راحة وريحان ، يقول : مستراحة . [ ص: 549 ] وكذا قال مجاهد : إن الروح : الاستراحة . وقال أبو حزرة : الراحة من الدنيا . وقال سعيد بن جبير ، والسدي : الروح : الفرح . وعن مجاهد : ( فروح وريحان ) : جنة ورخاء . وقال قتادة : فروح ورحمة . وقال ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير : ( وريحان ) : ورزق . وكل هذه الأقوال متقاربة صحيحة ، فإن من مات مقربا حصل له جميع ذلك من الرحمة والراحة والاستراحة ، والفرح والسرور والرزق الحسن ، ( وجنة نعيم ) . وقال أبو العالية : لا يفارق أحد من المقربين حتى يؤتى بغصن من ريحان الجنة ، فيقبض روحه فيه . وقال محمد بن كعب : لا يموت أحد من الناس حتى يعلم أمن أهل الجنة هو أم [ من ] أهل النار ؟ وقد قدمنا أحاديث الاحتضار عند قوله تعالى في سورة إبراهيم : ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت [ في الحياة الدنيا وفي الآخرة ] ) [ إبراهيم : 27 ] ، ، ولو كتبت هاهنا لكان حسنا ! ومن جملتها حديث تميم الداري ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " يقول الله لملك الموت : انطلق إلى فلان فأتني به ، فإنه قد جربته بالسراء والضراء فوجدته حيث أحب ، ائتني به فلأريحنه ، قال : فينطلق إليه ملك الموت ومعه خمسمائة من الملائكة ، معهم أكفان وحنوط من الجنة ، ومعهم ضبائر الريحان ، أصل الريحانة واحد وفي رأسها عشرون لونا ، لكل لون منها ريح سوى ريح صاحبه ، ومعهم الحرير الأبيض فيه المسك " . وذكر تمام الحديث بطوله كما تقدم ، وقد وردت أحاديث تتعلق بهذه الآية : قال الإمام أحمد : حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا هارون ، عن بديل بن ميسرة ، عن عبد الله بن شقيق ، عن عائشة أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ : " فروح وريحان " برفع الراء . وكذا رواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي من حديث هارون - وهو ابن موسى الأعور - به ، وقال الترمذي : لا نعرفه إلا من حديثه . وهذه القراءة هي قراءة يعقوب وحده ، وخالفه الباقون فقرءوا : ( فروح ) بفتح الراء . [ ص: 550 ] وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا أبو الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل : أنه سمع درة بنت معاذ تحدث عن أم هانئ : أنها سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أنتزاور إذا متنا ويرى بعضنا بعضا ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " تكون النسم طيرا يعلق بالشجر ، حتى إذا كان يوم القيامة دخلت كل نفس في جسدها " . هذا الحديث فيه بشارة لكل مؤمن ، ومعنى " يعلق " : يأكل ، ويشهد له بالصحة أيضا ما رواه الإمام أحمد ، عن الإمام محمد بن إدريس الشافعي ، عن الإمام مالك بن أنس ، عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ، عن أبيه ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه " . وهذا إسناد عظيم ، ومتن قويم . وفي الصحيح : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ، ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش " الحديث . وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا همام ، حدثنا عطاء بن السائب قال : كان أول يوم عرفت فيه عبد الرحمن بن أبي ليلى : رأيت شيخا أبيض الرأس واللحية على حمار ، وهو يتبع جنازة ، فسمعته يقول : حدثني فلان بن فلان ، سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه " . قال : فأكب القوم يبكون فقال : " ما يبكيكم ؟ " فقالوا : إنا نكره الموت . قال : " ليس ذاك ، ولكنه إذا حضر ( فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم ) ، فإذا بشر بذلك أحب لقاء الله عز وجل ، والله عز وجل للقائه أحب ( وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم [ وتصلية جحيم ] ) فإذا بشر بذلك كره لقاء الله ، والله للقائه أكره . هكذا رواه الإمام أحمد ، وفي الصحيح عن عائشة - رضي الله عنها - شاهد لمعناه . وقوله : ( وأما إن كان من أصحاب اليمين ) أي : وأما إن كان المحتضر من أصحاب اليمين ، ( فسلام لك من أصحاب اليمين ) أي : تبشرهم الملائكة بذلك ، تقول لأحدهم : سلام لك ، أي : لا بأس عليك ، أنت إلى سلامة ، أنت من أصحاب اليمين . وقال قتادة وابن زيد : سلم من عذاب الله ، وسلمت عليه ملائكة الله . كما قال عكرمة تسلم عليه الملائكة ، وتخبره أنه من أصحاب اليمين . [ ص: 551 ] وهذا معنى حسن ويكون ذلك كقوله تعالى : ( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم ) [ فصلت : 30 - 32 ] . وقال البخاري : ( فسلام لك ) أي : مسلم لك ، أنك من أصحاب اليمين . وألغيت " إن " وهو : معناها ، كما تقول : أنت مصدق مسافر عن قليل . إذا كان قد قال : إني مسافر عن قليل . وقد يكون كالدعاء له ، كقولك : سقيا لك من الرجال ، إن رفعت " السلام " فهو من الدعاء . وقد حكاه ابن جرير هكذا عن بعض أهل العربية ، ومال إليه ، والله أعلم . وقوله : ( وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصلية جحيم ) أي : وأما إن كان المحتضر من المكذبين بالحق ، الضالين عن الهدى ، ( فنزل ) أي : فضيافة ) من حميم ) وهو المذاب الذي يصهر به ما في بطونهم والجلود ، ( وتصلية جحيم ) أي : وتقرير له في النار التي تغمره من جميع جهاته . ثم قال تعالى : ( إن هذا لهو حق اليقين ) أي : إن هذا الخبر لهو حق اليقين الذي لا مرية فيه ، ولا محيد لأحد عنه . ( فسبح باسم ربك العظيم ) قال أحمد : حدثنا أبو عبد الرحمن ، حدثنا موسى بن أيوب الغافقي ، حدثني عمي إياس بن عامر ، عن عقبة بن عامر الجهني قال : لما نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( فسبح باسم ربك العظيم ) قال : " اجعلوها في ركوعكم " ولما نزلت : ( سبح اسم ربك الأعلى ) [ الأعلى : 1 ] ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " اجعلوها في سجودكم " . وكذا رواه أبو داود ، وابن ماجه من حديث عبد الله بن المبارك ، عن موسى بن أيوب به . وقال روح بن عبادة : حدثنا حجاج الصواف ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من قال : سبحان الله العظيم وبحمده ، غرست له نخلة في الجنة " . هكذا رواه الترمذي من حديث روح ، ورواه هو والنسائي أيضا من حديث حماد بن سلمة ، من حديث أبي الزبير ، عن جابر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال الترمذي : حسن غريب ، لا نعرفه إلا من حديث أبي الزبير . [ ص: 552 ] وقال البخاري في آخر كتابه : حدثنا أحمد بن إشكاب ، حدثنا محمد بن فضيل ، حدثنا عمارة بن القعقاع ، عن أبي زرعة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " كلمتان خفيفتان على اللسان ، ثقيلتان في الميزان ، حبيبتان إلى الرحمن : سبحان الله وبحمده ، سبحان الله العظيم " . ورواه بقية الجماعة إلا أبا داود ، من حديث محمد بن فضيل ، بإسناده مثله . تفسير سورة الحديد وهي مدنية قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن عبد ربه ، حدثنا بقية بن الوليد ، حدثني بحير بن سعد ، عن خالد بن معدان ، عن ابن أبي بلال ، عن عرباض بن سارية ، أنه حدثهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ المسبحات قبل أن يرقد ، وقال : " إن فيهن آية أفضل من ألف آية " . وهكذا رواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، من طرق عن بقية به . وقال الترمذي : حسن غريب . ورواه النسائي ، عن ابن أبي السرح ، عن ابن وهب ، عن معاوية بن صالح ، عن بحير بن سعد ، عن خالد بن معدان قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . . . فذكره مرسلا لم يذكر عبد الله بن أبي بلال ، ولا العرباض بن سارية والآية المشار إليها في الحديث هي - والله أعلم - قوله : ( هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم ) كما سيأتي بيانه إن شاء الله ، وبه الثقة ( سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ( 1 ) له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير ( 2 ) هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم ( 3 ) ) يخبر تعالى أنه يسبح له ما في السماوات والأرض أي : من الحيوانات والنباتات ، كما قال في الآية الأخرى : ( تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا ) [ الإسراء : 44 ] . وقوله : ( وهو العزيز ) أي : الذي قد خضع له كل شيء ) الحكيم ) في خلقه ، وأمره ، وشرعه ( له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت ) أي : هو المالك المتصرف في خلقه فيحيي ويميت ، ويعطي من يشاء ما يشاء ، ( وهو على كل شيء قدير ) أي : ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن . وقوله : ( هو الأول والآخر والظاهر والباطن ) وهذه الآية هي المشار إليها في حديث العرباض بن سارية : أنها أفضل من ألف آية . [ ص: 6 ] وقال أبو داود : حدثنا عباس بن عبد العظيم ، حدثنا النضر بن محمد ، حدثنا عكرمة - يعني بن عمار - حدثنا أبو زميل قال : سألت ابن عباس فقلت : ما شيء أجده في صدري ؟ قال : ما هو ؟ قلت : والله لا أتكلم به ، قال : فقال لي أشيء من شك ؟ قال : - وضحك - قال : ما نجا من ذلك أحد قال : حتى أنزل الله ( فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك [ لقد جاءك الحق من ربك ] ) الآية [ يونس : 94 ] قال : وقال لي : إذا وجدت في نفسك شيئا فقل : ( هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم ) وقد اختلفت عبارات المفسرين في هذه الآية وأقوالهم على نحو من بضعة عشر قولا . وقال البخاري : قال يحيى : الظاهر على كل شيء علما والباطن على كل شيء علما قال شيخنا الحافظ المزي : يحيى هذا هو بن زياد الفراء ، له كتاب سماه : " معاني القرآن " . وقد ورد في ذلك أحاديث ، فمن ذلك ما قال الإمام أحمد : حدثنا خلف بن الوليد ، حدثنا ابن عياش ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو عند النوم : " اللهم رب السماوات السبع ، ورب العرش العظيم ، ربنا ورب كل شيء ، منزل التوراة ، والإنجيل والفرقان ، فالق الحب والنوى ، لا إله إلا أنت ، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته ، أنت الأول ليس قبلك شيء ، وأنت الآخر ليس بعدك شيء ، وأنت الظاهر ليس فوقك شيء ، وأنت الباطن ليس دونك شيء . اقض عنا الدين ، وأغننا من الفقر " ورواه مسلم في صحيحه : حدثني زهير بن حرب ، حدثنا جرير ، عن سهيل قال : كان أبو صالح يأمرنا إذا أراد أحدنا أن ينام : أن يضطجع على شقه الأيمن ، ثم يقول : اللهم رب السماوات ، ورب الأرض ، ورب العرش العظيم ، ربنا ورب كل شيء ، فالق الحب والنوى ، ومنزل التوراة ، والإنجيل ، والفرقان ، أعوذ بك من شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته ، اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر فليس بعدك شيء ، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء ، اقض عنا الدين ، وأغننا من الفقر . وكان يروي ذلك عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد روى الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده عن عائشة أم المؤمنين نحو هذا ، فقال حدثنا عقبة ، حدثنا يونس ، حدثنا السري بن إسماعيل ، عن الشعبي ، عن مسروق ، عن عائشة أنها قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر بفراشه فيفرش له مستقبل القبلة ، فإذا أوى إليه توسد كفه اليمنى ، ثم همس - ما يدرى ما يقول - فإذا كان في آخر الليل رفع صوته فقال : " اللهم رب السماوات السبع ورب العرش العظيم ، إله كل شيء ، ورب كل شيء ، ومنزل التوراة ، والإنجيل ، والفرقان ، [ ص: 7 ] فالق الحب والنوى ، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته ، اللهم أنت الأول الذي ليس قبلك شيء ، وأنت الآخر الذي ليس بعدك شيء ، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء ، اقض عنا الدين ، وأغننا من الفقر " السري بن إسماعيل هذا ابن عم الشعبي ، وهو ضعيف جدا والله أعلم . وقال أبو عيسى الترمذي عند تفسير هذه الآية : حدثنا عبد بن حميد وغير واحد - المعنى واحد - قالوا : حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا شيبان بن عبد الرحمن ، عن قتادة قال : حدث الحسن ، عن أبي هريرة قال : بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس وأصحابه ، إذ أتى عليهم سحاب فقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم - : " هل تدرون ما هذا ؟ " . قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : " هذا العنان ، هذه روايا الأرض تسوقه إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه " . ثم قال : " هل تدرون ما فوقكم ؟ قالوا الله ورسوله أعلم ، قال : " فإنها الرقيع ، سقف محفوظ ، وموج مكفوف " . ثم قال : " هل تدرون كم بينكم وبينها ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : " بينكم وبينها خمسمائة سنة " . ثم قال : " هل تدرون ما فوق ذلك ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : " فإن فوق ذلك سماء بعد ما بينهما مسيرة خمسمائة سنة - حتى عد سبع سماوات - ما بين كل سماءين كما بين السماء والأرض " . ثم قال : " هل تدرون ما فوق ذلك ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : " فإن فوق ذلك العرش ، وبينه وبين السماء بعد ما بين السماءين " . ثم قال : " هل تدرون ما الذي تحتكم ؟ " . قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : " فإنها الأرض " . ثم قال : " هل تدرون ما الذي تحت ذلك ؟ " . قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : " فإن تحتها أرضا أخرى بينهما مسيرة خمسمائة سنة - حتى عد سبع أرضين - بين كل أرضين مسيرة خمسمائة سنة " . ثم قال : " والذي نفس محمد بيده ، لو أنكم دليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله " ، ثم قرأ : ( هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم ) ثم قال الترمذي : هذا حديث غريب من هذا الوجه ، ويروى عن أيوب ، ويونس - يعني بن عبيد - وعلي بن زيد قالوا : لم يسمع الحسن من أبي هريرة . وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقالوا : إنما هبط على علم الله ، وقدرته ، وسلطانه ، وعلم الله ، وقدرته ، وسلطانه في كل مكان ، وهو على العرش ، كما وصف في كتابه . انتهى كلامه وقد روى الإمام أحمد هذا الحديث عن سريج ، عن الحكم بن عبد الملك ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكره ، وعنده بعد ما بين الأرضين مسيرة سبعمائة عام ، وقال : " لو دليتم أحدكم بحبل إلى الأرض السفلى السابعة لهبط على الله " ، ثم قرأ : ( هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم ) [ ص: 8 ] ورواه بن أبي حاتم ، والبزار من حديث أبي جعفر الرازي ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن أبي هريرة . . . فذكر الحديث ، ولم يذكر ابن أبي حاتم آخره وهو قوله : " لو دليتم بحبل " ، وإنما قال : " حتى عد سبع أرضين بين كل أرضين مسيرة خمسمائة عام " ، ثم تلا ( هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم ) وقال البزار : لم يروه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أبو هريرة . ورواه ابن جرير ، عن بشر ، عن يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة : ( هو الأول والآخر والظاهر والباطن ) ذكر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - بينما هو جالس في أصحابه إذ ثار عليهم سحاب ، فقال : " هل تدرون ما هذا ؟ " وذكر الحديث مثل سياق الترمذي سواء ، إلا أنه مرسل من هذا الوجه ، ولعل هذا هو المحفوظ ، والله أعلم . وقد روي من حديث أبي ذر الغفاري ، رضي الله عنه وأرضاه ، رواه البزار في مسنده ، والبيهقي في كتاب الأسماء والصفات ، ولكن في إسناده نظر ، وفي متنه غرابة ونكارة ، والله سبحانه وتعالى أعلم . وقال ابن جرير عند قوله تعالى ( ومن الأرض مثلهن ) [ الطلاق " 12 " ] حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة قال : التقى أربعة من الملائكة بين السماء والأرض ، فقال بعضهم لبعض : من أين جئت ؟ قال أحدهم : أرسلني ربي ، عز وجل ، من السماء السابعة ، وتركته ، ثم ، قال الآخر : أرسلني ربي ، عز وجل من الأرض السابعة ، وتركته ، ثم ، قال الآخر : أرسلني ربي من المشرق ، وتركته ، ثم قال الآخر : أرسلني ربي من المغرب ، وتركته ، ثم وهذا [ حديث ] غريب جدا ، وقد يكون الحديث الأول موقوفا على قتادة كما روي ها هنا من قوله ، والله أعلم . ![]()
__________________
|
|
#498
|
||||
|
||||
![]() تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير) إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي الجزء (13) تفسير سورة الحديد من صــ/ الى صــ / الحلقة (498) ( هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير ( 4 ) له ملك السماوات والأرض وإلى الله ترجع الأمور ( 5 ) يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وهو عليم بذات الصدور ( 6 ) ) يخبر تعالى عن خلقه السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ، ثم أخبر باستوائه على العرش بعد خلقهن ، وقد تقدم الكلام على هذه الآية وأشباهها في سورة " الأعراف بما أغنى عن إعادته ها هنا . [ ص: 9 ] ( يعلم ما يلج في الأرض ) أي : يعلم عدد ما يدخل فيها من حب وقطر ( وما يخرج منها ) من زرع ونبات وثمار ، كما قال : ( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ) [ الأنعام : 59 ] . وقوله : ( وما ينزل من السماء ) أي : من الأمطار ، والثلوج والبرد ، والأقدار والأحكام مع الملائكة الكرام ، وقد تقدم في سورة " البقرة " أنه ما ينزل من قطرة من السماء إلا ومعها ملك يقررها في المكان الذي يأمر الله به حيث يشاء تعالى . وقوله : ( وما يعرج فيها ) أي : من الملائكة والأعمال ، كما جاء في الصحيح : " يرفع إليه عمل الليل قبل النهار ، وعمل النهار قبل الليل " وقوله : ( وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير ) أي : رقيب عليكم ، شهيد على أعمالكم حيث أنتم ، وأين كنتم ، من بر أو بحر ، في ليل أو نهار ، في البيوت أو القفار ، الجميع في علمه على السواء ، وتحت بصره وسمعه ، فيسمع كلامكم ويرى مكانكم ، ويعلم سركم ونجواكم ، كما قال : ( ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور ) [ هود : 5 ] . وقال ( سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار ) [ الرعد : 10 ] ، فلا إله غيره ولا رب سواه . وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه سلم قال لجبريل ، لما سأله عن الإحسان : " أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " . وروى الحافظ أبو بكر الإسماعيلي من حديث نصر بن خزيمة بن جنادة بن محفوظ بن علقمة ، حدثني أبي ، عن نصر بن علقمة ، عن أخيه ، عن عبد الرحمن بن عائذ قال : قال عمر : جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : زودني كلمة أعيش بها فقال : " استح الله كما تستحي رجلا من صالح عشيرتك لا يفارقك " هذا حديث غريب ، وروى أبو نعيم من حديث عبد الله بن معاوية الغاضري مرفوعا : " ثلاث من فعلهن فقد طعم الإيمان : من عبد الله وحده ، وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه في كل عام ، ولم يعط الهرمة ، ولا الدرنة ، ولا الشرط اللئيمة ، ولا المريضة ، ولكن من أوسط أموالكم . وزكى نفسه " ، وقال رجل : يا رسول الله ، ما تزكية المرء نفسه ؟ فقال : " يعلم أن الله معه حيث كان " وقال نعيم بن حماد ، رحمه الله : حدثنا عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار الحمصي ، عن محمد بن مهاجر ، عن عروة بن رويم ، عن عبد الرحمن بن غنم ، عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت " . غريب . [ ص: 10 ] وكان الإمام أحمد ينشد هذين البيتين : إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما يخفى عليه يغيب وقوله : ( له ملك السماوات والأرض وإلى الله ترجع الأمور ) أي : هو المالك للدنيا والآخرة كما قال : ( وإن لنا للآخرة والأولى ) [ الليل : 13 ] ، وهو المحمود على ذلك ، كما قال : ( وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة ) [ القصص : 70 ] ، وقال ( الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير ) [ سبإ : 1 ] . فجميع ما في السماوات والأرض ملك له ، وأهلهما عبيد أرقاء أذلاء بين يديه كما قال : ( إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا ) [ مريم : 93 - 95 ] . ولهذا قال : ( وإلى الله ترجع الأمور ) أي : إليه المرجع يوم القيامة ، فيحكم في خلقه بما يشاء ، وهو العادل الذي لا يجور ولا يظلم مثقال ذرة ، بل إن يكن أحدهم عمل حسنة واحدة يضاعفها إلى عشر أمثالها ، ( ويؤت من لدنه أجرا عظيما ) [ النساء : 40 ] وكما قال تعالى : ( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين ) [ الأنبياء : 47 ] . وقوله : ( يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ) أي : هو المتصرف في الخلق ، يقلب الليل والنهار ويقدرهما بحكمته كما يشاء ، فتارة يطول الليل ، ويقصر النهار ، وتارة بالعكس ، وتارة يتركهما معتدلين . وتارة يكون الفصل شتاء ، ثم ربيعا ، ثم قيظا ، ثم خريفا ، وكل ذلك بحكمته وتقديره لما يريده بخلقه ، ( وهو عليم بذات الصدور ) أي : يعلم السرائر وإن دقت ، وإن خفيت . ( آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير ( 7 ) وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين ( 8 ) هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور وإن الله بكم لرءوف رحيم ( 9 ) وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات والأرض لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير ( 10 ) من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم ( 11 ) ) [ ص: 11 ] أمر تعالى بالإيمان به وبرسوله على الوجه الأكمل ، والدوام والثبات على ذلك والاستمرار ، وحث على الإنفاق مما جعلكم مستخلفين فيه أي مما هو معكم على سبيل العارية ، فإنه قد كان في أيدي من قبلكم ، ثم صار إليكم ، فأرشد تعالى إلى استعمال ما استخلفهم فيه من المال في طاعته ، فإن يفعلوا وإلا حاسبهم عليه وعاقبهم لتركهم الواجبات فيه . وقوله : ( مما جعلكم مستخلفين فيه ) فيه إشارة إلى أنه سيكون مخلفا عنك ، فلعل وارثك أن يطيع الله فيه ، فيكون أسعد بما أنعم الله به عليك منك ، أو يعصي الله فيه فتكون قد سعيت في معاونته على الإثم والعدوان . قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، سمعت قتادة يحدث ، عن مطرف - يعني بن عبد الله بن الشخير - عن أبيه قال : انتهيت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول : " ( ألهاكم التكاثر ) [ التكاثر : 1 ] ، يقول ابن آدم : مالي مالي ! وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأمضيت ؟ " . ورواه مسلم من حديث شعبة به وزاد : " وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس " وقوله : ( فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير ) ترغيب في الإيمان والإنفاق في الطاعة ، ثم قال : ( وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم ) ؟ أي : وأي شيء يمنعكم من الإيمان والرسول بين أظهركم ، يدعوكم إلى ذلك ويبين لكم الحجج والبراهين على صحة ما جاءكم به ؟ وقد روينا في الحديث من طرق في أوائل شرح " كتاب الإيمان " من صحيح البخاري : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوما لأصحابه : " أي المؤمنين أعجب إليكم إيمانا ؟ " قالوا : الملائكة . قال : " وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربهم ؟ " قالوا : فالأنبياء . قال : " وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم ؟ " . قالوا : فنحن ؟ قال : " وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم ؟ ولكن أعجب المؤمنين إيمانا قوم يجيئون بعدكم يجدون صحفا يؤمنون بما فيها " وقد ذكرنا طرفا من هذا في أول سورة " البقرة " عند قوله : ( الذين يؤمنون بالغيب ) [ البقرة : 3 ] . وقوله : ( وقد أخذ ميثاقكم ) كما قال : ( واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا ) [ المائدة : 7 ] . ويعني بذلك : بيعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - . وزعم ابن جرير أن المراد بذلك الميثاق الذي أخذ عليهم في صلب آدم ، وهو مذهب مجاهد ، فالله أعلم . وقوله : ( هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ) أي : حججا واضحات ، ودلائل باهرات ، وبراهين قاطعات ، ( ليخرجكم من الظلمات إلى النور ) أي : من ظلمات الجهل والكفر والآراء [ ص: 12 ] المتضادة إلى نور الهدى واليقين والإيمان ، ( وإن الله بكم لرءوف رحيم ) أي : في إنزاله الكتب وإرساله الرسل لهداية الناس ، وإزاحة العلل وإزالة الشبه . ولما أمرهم أولا بالإيمان والإنفاق ، ثم حثهم على الإيمان ، وبين أنه قد أزال عنهم موانعه ، حثهم أيضا على الإنفاق . فقال : ( وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات والأرض ) أي : أنفقوا ولا تخشوا فقرا وإقلالا فإن الذي أنفقتم في سبيله هو مالك السماوات والأرض ، وبيده مقاليدهما ، وعنده خزائنهما ، وهو مالك العرش بما حوى ، وهو القائل : ( وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين ) [ سبإ : 39 ] ، وقال ( ما عندكم ينفد وما عند الله باق ) [ النحل : 96 ] فمن توكل على الله أنفق ، ولم يخش من ذي العرش إقلالا وعلم أن الله سيخلفه عليه . وقوله : ( لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل ) أي : لا يستوي هذا ومن لم يفعل كفعله ، وذلك أن قبل فتح مكة كان الحال شديدا ، فلم يكن يؤمن حينئذ إلا الصديقون ، وأما بعد الفتح فإنه ظهر الإسلام ظهورا عظيما ، ودخل الناس في دين الله أفواجا ; ولهذا قال : ( أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى ) والجمهور على أن المراد بالفتح ها هنا فتح مكة . وعن الشعبي وغيره أن المراد بالفتح ها هنا : صلح الحديبية ، وقد يستدل لهذا القول بما قال الإمام أحمد : حدثنا أحمد بن عبد الملك ، حدثنا زهير ، حدثنا حميد الطويل ، عن أنس قال : كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام ، فقال خالد لعبد الرحمن : تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها ؟ فبلغنا أن ذلك ذكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : " دعوا لي أصحابي فوالذي نفسي بيده ، لو أنفقتم مثل أحد - أو مثل الجبال - ذهبا ، ما بلغتم أعمالهم " ومعلوم أن إسلام خالد بن الوليد المواجه بهذا الخطاب كان بين صلح الحديبية وفتح مكة ، وكانت هذه المشاجرة بينهما في بني جذيمة الذين بعث إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد بعد الفتح ، فجعلوا يقولون : " صبأنا ، صبأنا " ، فلم يحسنوا أن يقولوا : " أسلمنا " ، فأمر خالد بقتلهم وقتل من أسر منهم ، فخالفه عبد الرحمن بن عوف ، وعبد الله بن عمر ، وغيرهما . فاختصم خالد ، وعبد الرحمن بسبب ذلك والذي في الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لا تسبوا أصحابي ، فوالذي نفسي بيده ، لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه " وروى ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، من حديث ابن وهب : أخبرنا هشام بن سعد ، عن زيد بن [ ص: 13 ] أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري أنه قال : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية ، حتى إذا كنا بعسفان قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يوشك أن يأتي قوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم " ، فقلنا : من هم يا رسول الله أقريش ؟ قال : لا ، ولكن أهل اليمن ، هم أرق أفئدة ، وألين قلوبا " . فقلنا : أهم خير منا يا رسول الله ؟ قال : " لو كان لأحدهم جبل من ذهب فأنفقه ، ما أدرك مد أحدكم ولا نصيفه ، ألا إن هذا فضل ما بيننا وبين الناس ، ( لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير ) ] وهذا الحديث غريب بهذا السياق ، والذي في الصحيحين من رواية جماعة ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد - ذكر الخوارج - : " تحقرون صلاتكم مع صلاتهم ، وصيامكم مع صيامهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية " الحديث . ولكن روى ابن جرير هذا الحديث من وجه آخر ، فقال : حدثني بن البرقي ، حدثنا بن أبي مريم ، أخبرنا محمد بن جعفر ، أخبرني زيد بن أسلم ، عن أبي سعيد التمار ، عن أبي سعيد الخدري : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " يوشك أن يأتي قوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم " . قلنا : من هم يا رسول الله ؟ قريش ؟ قال : " لا ، ولكن أهل اليمن ، لأنهم أرق أفئدة ، وألين قلوبا " . وأشار بيده إلى اليمن ، فقال : " هم أهل اليمن ، ألا إن الإيمان يمان ، والحكمة يمانية " . فقلنا : يا رسول الله ، هم خير منا ؟ قال : " والذي نفسي بيده ، لو كان لأحدهم جبل من ذهب ينفقه ما أدى مد أحدكم ولا نصيفه " . ثم جمع أصابعه ومد خنصره ، وقال : " ألا إن هذا فضل ما بيننا وبين الناس ، ( لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير ) ] " فهذا السياق ليس فيه ذكر الحديبية فإن كان ذلك محفوظا كما تقدم ، فيحتمل أنه أنزل قبل الفتح إخبارا عما بعده ، كما في قوله تعالى في سورة " المزمل " - وهي مكية ، من أوائل ما نزل - : ( وآخرون يقاتلون في سبيل الله ) الآية [ المزمل : 20 ] فهي بشارة بما يستقبل ، وهكذا هذه والله أعلم . وقوله : ( وكلا وعد الله الحسنى ) يعني المنفقين قبل الفتح وبعده ، كلهم لهم ثواب على ما عملوا ، وإن كان بينهم تفاوت في تفاضل الجزاء كما قال : ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما ) [ النساء : 95 ] . وهكذا الحديث الذي في الصحيح : " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، [ ص: 14 ] وفي كل خير " وإنما نبه بهذا لئلا يهدر جانب الآخر بمدح الأول دون الآخر ، فيتوهم متوهم ذمه ; فلهذا عطف بمدح الآخر والثناء عليه ، مع تفضيل الأول عليه ; ولهذا قال : ( والله بما تعملون خبير ) أي : فلخبرته فاوت بين ثواب من أنفق من قبل الفتح وقاتل ، ومن فعل ذلك بعد ذلك ، وما ذلك إلا لعلمه بقصد الأول وإخلاصه التام ، وإنفاقه في حال الجهد والقلة والضيق . وفي الحديث : " سبق درهم مائة ألف " ولا شك عند أهل الإيمان أن الصديق أبا بكر رضي الله عنه ، له الحظ الأوفر من هذه الآية ، فإنه سيد من عمل بها من سائر أمم الأنبياء ، فإنه أنفق ماله كله ابتغاء وجه الله ، عز وجل ، ولم يكن لأحد عنده نعمة يجزيه بها . وقد قال أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي عند تفسير هذه الآية أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي ، أخبرنا عبد الله بن حامد بن محمد ، أخبرنا أحمد بن إسحاق بن أيوب ، أخبرنا محمد بن يونس ، حدثنا العلاء بن عمرو الشيباني ، حدثنا أبو إسحاق الفزاري ، حدثنا سفيان بن سعيد ، عن آدم بن علي ، عن ابن عمر قال : كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وعنده أبو بكر الصديق ، وعليه عباءة قد خلها في صدره بخلال ، فنزل جبريل فقال : مالي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خلها في صدره بخلال ؟ فقال : " أنفق ماله علي قبل الفتح " قال : فإن الله يقول : اقرأ عليه السلام ، وقل له : أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط ؟ فقال رسول الله : " يا أبا بكر ، إن الله يقرأ عليك السلام ، ويقول لك : أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط ؟ " فقال : أبو بكر ، رضي الله عنه : أسخط على ربي عز وجل ؟ ! إني عن ربي راض هذا الحديث ضعيف الإسناد من هذا الوجه . وقوله : ( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا ) قال عمر بن الخطاب : هو الإنفاق في سبيل الله ، وقيل : هو النفقة على العيال ، والصحيح أنه أعم من ذلك ، فكل من أنفق في سبيل الله بنية خالصة ، وعزيمة صادقة دخل في عموم هذه الآية ; ولهذا قال : ( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له ) كما قال في الآية الأخرى : ( أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون ) [ البقرة : 245 ] أي : جزاء جميل ورزق باهر - وهو الجنة - يوم القيامة . قال بن أبي حاتم ، حدثنا الحسن بن عرفة ، حدثنا خلف بن خليفة ، عن حميد الأعرج ، عن عبد الله بن الحارث ، عن عبد الله بن مسعود قال : لما نزلت هذه الآية : ( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له ) قال أبو الدحداح الأنصاري : يا رسول الله ، وإن الله ليريد منا القرض ؟ " قال : " نعم ، يا أبا الدحداح " . قال : أرني يدك يا رسول الله ، قال : فناوله يده ، قال : فإني قد أقرضت ربي حائطي - وله حائط فيه ستمائة نخلة ، وأم الدحداح فيه وعيالها - قال : فجاء [ ص: 15 ] أبو الدحداح فناداها : يا أم الدحداح ، قالت : لبيك . فقال : اخرجي ، فقد أقرضته ربي ، عز وجل - وفي رواية : أنها قالت له : ربح بيعك يا أبا الدحداح . ونقلت منه متاعها وصبيانها ، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " كم من عذق رداح في الجنة لأبي الدحداح " . وفي لفظ : " رب نخلة مدلاة عروقها در وياقوت لأبي الدحداح في الجنة " . ![]()
__________________
|
|
#499
|
||||
|
||||
![]() تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير) إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي الجزء (13) تفسير سورة الحديد من صــ/ الى صــ / الحلقة (499) ( يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم ( 12 ) يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ( 13 ) ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور ( 14 ) فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير ( 15 ) ) يقول تعالى مخبرا عن المؤمنين المتصدقين : أنهم يوم القيامة يسعى نورهم بين أيديهم في عرصات القيامة ، بحسب أعمالهم ، كما قال عبد الله بن مسعود في قوله : ( يسعى نورهم بين أيديهم ) قال : على قدر أعمالهم يمرون على الصراط ، منهم من نوره مثل الجبل ، ومنهم من نوره مثل النخلة ، ومنهم من نوره مثل الرجل القائم ، وأدناهم نورا من نوره في إبهامه يتقد مرة ويطفأ مرة ورواه بن أبي حاتم ، وابن جرير . وقال قتادة : ذكر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول : " من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن أبين وصنعاء فدون ذلك ، حتى إن من المؤمنين من يضيء نوره موضع قدميه " وقال سفيان الثوري ، عن حصين ، عن مجاهد ، عن جنادة بن أمية قال : إنكم مكتوبون عند الله بأسمائكم ، وسيماكم ، وحلاكم ، ونجواكم ، ومجالسكم ، فإذا كان يوم القيامة قيل : يا فلان ، هذا نورك . يا فلان ، لا نور لك . وقرأ : ( يسعى نورهم بين أيديهم ) وقال الضحاك : ليس لأحد إلا يعطى نورا يوم القيامة ، فإذا انتهوا إلى الصراط طفئ نور المنافقين ، فلما رأي ذلك المؤمنون أشفقوا أن يطفأ نورهم كما طفئ نور المنافقين ، فقالوا : ربنا ، أتمم لنا نورنا . وقال الحسن [ في قوله ] ( يسعى نورهم بين أيديهم ) يعني : على الصراط . [ ص: 16 ] وقد قال ابن أبي حاتم ، رحمه الله : حدثنا أبو عبيد الله ابن أخي ابن وهب ، أخبرنا عمي ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن سعيد بن مسعود : أنه سمع عبد الرحمن بن جبير يحدث : أنه سمع أبا الدرداء ، وأبا ذر يخبران عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " أنا أول من يؤذن له يوم القيامة بالسجود ، وأول من يؤذن له برفع رأسه ، فأنظر من بين يدي ومن خلفي ، وعن يميني وعن شمالي ، فأعرف أمتي من بين الأمم " . فقال له رجل : يا نبي الله ، كيف تعرف أمتك من بين الأمم ، ما بين نوح إلى أمتك ؟ قال : " أعرفهم ، محجلون من أثر الوضوء ، ولا يكون لأحد من الأمم غيرهم ، وأعرفهم يؤتون كتبهم بأيمانهم ، وأعرفهم بسيماهم في وجوههم ، وأعرفهم بنورهم يسعى بين أيديهم وذريتهم وقوله ) وبأيمانهم ) قال الضحاك : أي وبأيمانهم كتبهم ، كما قال : ( فمن أوتي كتابه بيمينه ) [ الإسراء : 71 ] . وقوله : ( بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار ) أي : يقال لهم : بشراكم اليوم جنات ، أي : لكم البشارة بجنات تجري من تحتها الأنهار ، ( خالدين فيها ) أي : ماكثين فيها أبدا ( ذلك هو الفوز العظيم ) . وقوله : ( يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم ) وهذا إخبار منه تعالى عما يقع يوم القيامة في العرصات من الأهوال المزعجة ، والزلازل العظيمة ، والأمور الفظيعة وإنه لا ينجو يومئذ إلا من آمن بالله ورسوله ، وعمل بما أمر الله به ، وترك ما عنه زجر . قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبدة بن سليمان ، حدثنا ابن المبارك ، حدثنا صفوان بن عمرو ، حدثني سليم بن عامر قال : خرجنا على جنازة في باب دمشق ، ومعنا أبو أمامة الباهلي ، فلما صلى على الجنازة ، وأخذوا في دفنها ، قال أبو أمامة : أيها الناس ، إنكم قد أصبحتم وأمسيتم في منزل تقتسمون فيه الحسنات والسيئات ، وتوشكون أن تظعنوا منه إلى منزل آخر ، وهو هذا - يشير إلى القبر - بيت الوحدة ، وبيت الظلمة ، وبيت الدود ، وبيت الضيق ، إلا ما وسع الله ، تنتقلون منه إلى مواطن يوم القيامة ، فإنكم في بعض تلك المواطن [ حتى ] يغشى الناس أمر من الله ، فتبيض وجوه وتسود وجوه ، ثم تنتقلون منه إلى منزل آخر فتغشى الناس ظلمة شديدة ، ثم يقسم النور فيعطى المؤمن نورا ويترك الكافر والمنافق فلا يعطيان شيئا ، وهو المثل الذي ضربه الله في كتابه ، قال ( أو كظلمات في بحر لجي ) إلى قوله : ( فما له من نور ) [ النور : 40 ] ، فلا يستضيء الكافر والمنافق بنور المؤمن كما لا يستضيء الأعمى بنور البصير ، ويقول المنافقون للذين آمنوا : ( انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا ) وهي خدعة الله التي خدع [ ص: 17 ] بها المنافقين حيث قال : ( يخادعون الله وهو خادعهم ) [ النساء : 142 ] . فيرجعون إلى المكان الذي قسم فيه النور ، فلا يجدون شيئا فينصرفون إليهم وقد ضرب بينهم بسور له باب ، ( باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ) الآية . يقول سليم بن عامر : فما يزال المنافق مغترا حتى يقسم النور ، ويميز الله بين المؤمن والمنافق . ثم قال : حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن عثمان ، حدثنا ابن حيوة ، حدثنا أرطأة بن المنذر ، حدثنا يوسف بن الحجاج ، عن أبي أمامة قال : تبعث ظلمة يوم القيامة ، فما من مؤمن ، ولا كافر يرى كفه ، حتى يبعث الله بالنور إلى المؤمنين بقدر أعمالهم ، فيتبعهم المنافقون فيقولون : ( انظرونا نقتبس من نوركم ) . وقال العوفي ، والضحاك ، وغيرهما ، عن ابن عباس : بينما الناس في ظلمة إذ بعث الله نورا فلما رأي المؤمنون النور توجهوا نحوه ، وكان النور دليلا من الله إلى الجنة ، فلما رأى المنافقون المؤمنين قد انطلقوا اتبعوهم ، فأظلم الله على المنافقين ، فقالوا حينئذ : ( انظرونا نقتبس من نوركم ) فإنا كنا معكم في الدنيا . قال المؤمنون : ( ارجعوا ) من حيث جئتم من الظلمة ، فالتمسوا هنالك النور . وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا الحسن بن علويه القطان ، حدثنا إسماعيل بن عيسى العطار ، حدثنا إسحاق بن بشر أبو حذيفة ، حدثنا ابن جريج ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله يدعو الناس يوم القيامة بأسمائهم سترا منه على عباده ، وأما عند الصراط فإن الله يعطي كل مؤمن نورا ، وكل منافق نورا ، فإذا استووا على الصراط سلب الله نور المنافقين والمنافقات ، فقال المنافقون : ( انظرونا نقتبس من نوركم ) وقال المؤمنون : ( ربنا أتمم لنا نورنا ) [ التحريم : 8 ] . فلا يذكر عند ذلك أحد أحدا " وقوله : ( فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ) قال الحسن ، وقتادة : هو حائط بين الجنة النار . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هو الذي قال الله تعالى : ( وبينهما حجاب ) [ الأعراف : 46 ] . وهكذا روي عن مجاهد ، رحمه الله ، وغير واحد ، وهو الصحيح . ( باطنه فيه الرحمة ) أي : الجنة وما فيها ( وظاهره من قبله العذاب ) أي : النار . قاله قتادة ، وابن زيد ، وغيرهما . قال ابن جرير : وقد قيل : إن ذلك السور سور بيت المقدس عند وادي جهنم . ثم قال : حدثنا ابن البرقي ، حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، عن سعيد بن عطية بن قيس ، عن أبي العوام - [ ص: 18 ] مؤذن بيت المقدس - قال : سمعت عبد الله بن عمرو يقول : إن السور الذي ذكر الله في القرآن : ( فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ) هو السور الشرقي باطنه المسجد وما يليه ، وظاهره وادي جهنم . ثم روي عن عبادة بن الصامت ، وكعب الأحبار ، وعلي بن الحسين زين العابدين ، نحو ذلك . وهذا محمول منهم على أنهم أرادوا بهذا تقريب المعنى ومثالا لذلك ، لا أن هذا هو الذي أريد من القرآن هذا الجدار المعين ، ونفس المسجد وما وراءه من الوادي المعروف بوادي جهنم ; فإن الجنة في السماوات في أعلى عليين ، والنار في الدركات أسفل سافلين . وقول كعب الأحبار : إن الباب المذكور في القرآن هو باب الرحمة الذي هو أحد أبواب المسجد ، فهذا من إسرائيلياته وترهاته . وإنما المراد بذلك : سور يضرب يوم القيامة ليحجز بين المؤمنين والمنافقين ، فإذا انتهى إليه المؤمنون دخلوه من بابه ، فإذا استكملوا دخولهم أغلق الباب وبقي المنافقون من ورائه في الحيرة والظلمة والعذاب ، كما كانوا في الدار الدنيا في كفر وجهل وشك وحيرة ( ينادونهم ألم نكن معكم ) أي : ينادي المنافقون المؤمنين : أما كنا معكم في الدار الدنيا ، نشهد معكم الجمعات ، ونصلي معكم الجماعات ، ونقف معكم بعرفات ، ونحضر معكم الغزوات ، ونؤدي معكم سائر الواجبات ؟ ( قالوا بلى ) أي : فأجاب المؤمنون المنافقين قائلين : بلى ، قد كنتم معنا ، ( ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني ) قال بعض السلف : أي فتنتم أنفسكم باللذات والمعاصي والشهوات ( وتربصتم ) أي : أخرتم التوبة من وقت إلى وقت . وقال قتادة : ( وتربصتم ) بالحق وأهله ( وارتبتم ) أي : بالبعث بعد الموت ( وغرتكم الأماني ) أي : قلتم : سيغفر لنا . وقيل : غرتكم الدنيا ( حتى جاء أمر الله ) أي : ما زلتم في هذا حتى جاء الموت ( وغركم بالله الغرور ) أي : الشيطان . قال قتادة : كانوا على خدعة من الشيطان ، والله ما زالوا عليها حتى قذفهم الله في النار . ومعنى هذا الكلام من المؤمنين للمنافقين : إنكم كنتم معنا [ أي ] بأبدان لا نية لها ولا قلوب معها ، وإنما كنتم في حيرة وشك فكنتم تراءون الناس ولا تذكرون الله إلا قليلا . قال مجاهد : كان المنافقون مع المؤمنين أحياء يناكحونهم ، ويغشونهم ، ويعاشرونهم ، وكانوا معهم أمواتا ، ويعطون النور جميعا يوم القيامة ، ويطفأ النور من المنافقين إذا بلغوا السور ، ويماز بينهم حينئذ . وهذا القول من المؤمنين لا ينافي قولهم الذي أخبر الله به عنهم ، حيث يقول - وهو أصدق القائلين - : ( كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين ) [ المدثر : 38 - 47 ] ، [ ص: 19 ] فهذا إنما خرج منهم على وجه التقريع لهم والتوبيخ . ثم قال تعالى : ( فما تنفعهم شفاعة الشافعين ) [ المدثر : 48 ] ، كما قال تعالى ها هنا : ( فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا ) أي : لو جاء أحدكم اليوم بملء الأرض ذهبا ومثله معه ليفتدي به من عذاب الله ، ما قبل منه . وقوله : ( مأواكم النار ) أي : هي مصيركم وإليها منقلبكم . وقوله : ( هي مولاكم ) أي : هي أولى بكم من كل منزل على كفركم وارتيابكم ، وبئس المصير . ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون ( 16 ) اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون ( 17 ) ) يقول الله تعالى : أما آن للمؤمنين أن تخشع قلوبهم لذكر الله ، أي : تلين عند الذكر ، والموعظة ، وسماع القرآن ، فتفهمه ، وتنقاد له ، وتسمع له ، وتطيعه . قال عبد الله بن المبارك : حدثنا صالح المري ، عن قتادة ، عن ابن عباس أنه قال : إن الله استبطأ قلوب المهاجرين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة من نزول القرآن ، فقال : ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ) الآية ، رواه ابن أبي حاتم ، عن الحسن بن محمد بن الصباح ، عن حسين المروزي ، عن ابن المبارك به . ثم قال هو ومسلم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث ، عن سعيد بن أبي هلال - يعني الليث - عن عون بن عبد الله ، عن أبيه ، عن ابن مسعود ، رضي الله عنه ، قال : ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ) [ الآية ] إلا أربع سنين كذا رواه مسلم في آخر الكتاب . وأخرجه النسائي عند تفسير هذه الآية ، عن هارون بن سعيد الأيلي ، عن ابن وهب ، به ، وقد رواه ابن ماجه من حديث موسى بن يعقوب الزمعي ، عن أبي حزم ، عن عامر بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه ، مثله ، فجعله من مسند بن الزبير . لكن رواه البزار في مسنده من طريق موسى بن يعقوب ، عن أبي حازم ، عن عامر ، عن ابن الزبير ، [ ص: 20 ] عن ابن مسعود ، فذكره وقال سفيان الثوري ، عن المسعودي ، عن القاسم قال : مل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ملة ، فقالوا : حدثنا يا رسول الله . فأنزل الله تعالى : ( نحن نقص عليك أحسن القصص ) [ يوسف : 3 ] قال : ثم ملوا ملة فقالوا : حدثنا يا رسول الله ، فأنزل الله تعالى : ( الله نزل أحسن الحديث ) [ الزمر : 23 ] . ثم ملوا ملة فقالوا : حدثنا يا رسول الله . فأنزل الله : ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ) وقال قتادة : ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ) ذكر لنا أن شداد بن أوس كان يروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن أول ما يرفع من الناس الخشوع " وقوله : ( ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم ) نهى الله المؤمنين أن يتشبهوا بالذين حملوا الكتاب قبلهم من اليهود والنصارى ، لما تطاول عليهم الأمد بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم واشتروا به ثمنا قليلا ونبذوه وراء ظهورهم ، وأقبلوا على الآراء المختلفة والأقوال المؤتفكة ، وقلدوا الرجال في دين الله ، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ، فعند ذلك قست قلوبهم ، فلا يقبلون موعظة ، ولا تلين قلوبهم بوعد ولا وعيد . ( وكثير منهم فاسقون ) أي : في الأعمال ، فقلوبهم فاسدة ، وأعمالهم باطلة . كما قال : ( فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ) [ المائدة : 13 ] ، أي : فسدت قلوبهم فقست وصار من سجيتهم تحريف الكلم عن مواضعه ، وتركوا الأعمال التي أمروا بها ، وارتكبوا ما نهوا عنه ; ولهذا نهى الله المؤمنين أن يتشبهوا بهم في شيء من الأمور الأصلية والفرعية . وقد قال بن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا شهاب بن خراش ، حدثنا حجاج بن دينار ، عن منصور بن المعتمر ، عن الربيع بن أبي عميلة الفزاري قال : حدثنا عبد الله بن مسعود حديثا ما سمعت أعجب إلي منه ، إلا شيئا من كتاب الله ، أو شيئا قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد فقست قلوبهم اخترعوا كتابا من عند أنفسهم ، استهوته قلوبهم ، واستحلته ألسنتهم ، واستلذته ، وكان الحق يحول بينهم وبين كثير من شهواتهم فقالوا : تعالوا ندع [ ص: 21 ] بني إسرائيل إلى كتابنا هذا ، فمن تابعنا عليه تركناه ، ومن كره أن يتابعنا قتلناه . ففعلوا ذلك ، وكان فيهم رجل فقيه ، فلما رأى ما يصنعون عمد إلى ما يعرف من كتاب الله فكتبه في شيء لطيف ، ثم أدرجه ، فجعله في قرن ، ثم علق ذلك القرن في عنقه ، فلما أكثروا القتل قال بعضهم لبعض : يا هؤلاء ، إنكم قد أفشيتم القتل في بني إسرائيل ، فادعوا فلانا فاعرضوا عليه كتابكم ، فإنه إن تابعكم فسيتابعكم بقية الناس ، وإن أبى فاقتلوه . فدعوا فلانا ذلك الفقيه فقالوا : تؤمن بما في كتابنا ؟ قال : وما فيه ؟ اعرضوه علي . فعرضوه عليه إلى آخره ، ثم قالوا : أتؤمن بهذا ؟ قال : نعم ، آمنت بما في هذا وأشار بيده إلى القرن - فتركوه ، فلما مات نبشوه فوجدوه متعلقا ذلك القرن ، فوجدوا فيه ما يعرف من كتاب الله ، فقال بعضهم لبعض : يا هؤلاء ، ما كنا نسمع هذا أصابه فتنة . فافترقت بنو إسرائيل على ثنتين وسبعين ملة ، وخير مللهم ملة أصحاب ذي القرن " . قال ابن مسعود : [ وإنكم ] أوشك بكم إن بقيتم - أو : بقي من بقي منكم - أن تروا أمورا تنكرونها ، لا تستطيعون لها غيرا ، فبحسب المرء منكم أن يعلم الله من قلبه أنه لها كاره . وقال أبو جعفر الطبري : حدثنا ابن حميد ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن أبي معشر ، عن إبراهيم قال : جاء عتريس بن عرقوب إلى ابن مسعود فقال : يا أبا عبد الله هلك من لم يأمر بالمعروف وينه عن المنكر . فقال عبد الله : هلك من لم يعرف قلبه معروفا ولم ينكر قلبه منكرا ; إن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد وقست قلوبهم ، اخترعوا كتابا من بين أيديهم وأرجلهم ، استهوته قلوبهم ، واستحلته ألسنتهم ، وقالوا : نعرض على بني إسرائيل هذا الكتاب فمن آمن به تركناه ، ومن كفر به قتلناه . قال : فجعل رجل منهم كتاب الله في قرن ، ثم جعل القرن بين ثندوتيه فلما قيل له : أتؤمن بهذا ؟ قال آمنت به - ويومئ إلى القرن بين ثندوتيه - ومالي لا أؤمن بهذا الكتاب ؟ فمن خير مللهم اليوم ملة صاحب القرن وقوله : ( اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون ) فيه إشارة إلى أنه ، تعالى ، يلين القلوب بعد قسوتها ، ويهدي الحيارى بعد ضلتها ، ويفرج الكروب بعد شدتها ، فكما يحيي الأرض الميتة المجدبة الهامدة بالغيث الهتان [ الوابل ] كذلك يهدي القلوب القاسية ببراهين القرآن والدلائل ، ويولج إليها النور بعد ما كانت مقفلة لا يصل إليها الواصل ، فسبحان الهادي لمن يشاء بعد الإضلال ، والمضل لمن أراد بعد الكمال ، الذي هو لما يشاء فعال ، وهو الحكم العدل في جميع الفعال ، اللطيف الخبير الكبير المتعال . [ ص: 22 ] ( إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم ولهم أجر كريم ( 18 ) والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم ( 19 ) ) يخبر تعالى عما يثيب به المصدقين والمصدقات بأموالهم على أهل الحاجة والفقر والمسكنة ، ( وأقرضوا الله قرضا حسنا ) أي : دفعوه بنية خالصة ابتغاء وجه الله ، لا يريدون جزاء ممن أعطوه ولا شكورا ; ولهذا قال : ( يضاعف لهم ) أي : يقابل لهم الحسنة بعشر أمثالها ، ويزداد على ذلك إلى سبعمائة ضعف وفوق ذلك ( ولهم أجر كريم ) أي : ثواب جزيل حسن ، ومرجع صالح ومآب ) كريم ) وقوله : ( والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون ) هذا تمام لجملة وصف المؤمنين بالله ورسله بأنهم صديقون . قال العوفي ، عن ابن عباس في قوله : ( والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون ) هذه مفصولة ( والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم ) . ![]()
__________________
|
|
#500
|
||||
|
||||
![]() تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير) إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي الجزء (13) تفسير سورة الحديد من صــ/ الى صــ / الحلقة (500) وقال أبو الضحى : ( أولئك هم الصديقون ) ثم استأنف الكلام فقال : ( والشهداء عند ربهم ) وهكذا قال مسروق ، والضحاك ، ومقاتل بن حيان ، وغيرهم . وقال الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله في قوله : ( أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم ) قال : هم ثلاثة أصناف : يعني المصدقين ، والصديقين ، والشهداء ، كما قال [ الله ] تعالى : ( ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ) [ النساء : 69 ] ففرق بين الصديقين والشهداء ، فدل على أنهما صنفان . ولا شك أن الصديق أعلى مقاما من الشهيد ، كما رواه الإمام مالك بن أنس ، رحمه الله ، في كتابه الموطإ ، عن صفوان بن سليم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم ، كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب ، لتفاضل ما بينهم " . قالوا : يا رسول الله ، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم ؟ قال : " بلى والذي نفسي بيده ، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين " . اتفق البخاري ، ومسلم على إخراجه من حديث مالك به وقال آخرون : بل المراد من قوله : ( أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم ) فأخبر عن المؤمنين بالله ورسله بأنهم صديقون وشهداء . حكاه ابن جرير ، عن مجاهد ، ثم قال ابن جرير : [ ص: 23 ] حدثني صالح بن حرب أبو معمر ، حدثنا إسماعيل بن يحيى ، حدثنا ابن عجلان ، عن زيد بن أسلم ، عن البراء بن عازب قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " مؤمنو أمتي شهداء " . قال : ثم تلا - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية ( والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ) هذا حديث غريب وقال أبو إسحاق ، عن عمرو بن ميمون في قوله : ( والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم ) قال : يجيئون يوم القيامة معا كالإصبعين . وقوله : ( والشهداء عند ربهم ) أي : في جنات النعيم ، كما جاء في الصحيحين : " إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ، ثم تأوي إلى تلك القناديل ، فاطلع عليهم ربك اطلاعة فقال : ماذا تريدون ؟ فقالوا : نحب أن تردنا إلى الدار الدنيا فنقاتل فيك فنقتل كما قتلنا أول مرة . فقال إني قضيت أنهم إليها لا يرجعون " وقوله : ( لهم أجرهم ونورهم ) أي : لهم عند ربهم أجر جزيل ونور عظيم يسعى بين أيديهم ، وهم في ذلك يتفاوتون بحسب ما كانوا في الدار الدنيا من الأعمال ، كما قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن إسحاق ، حدثنا ابن لهيعة ، عن عطاء بن دينار ، عن أبي يزيد الخولاني قال : سمعت فضالة بن عبيد يقول : سمعت عمر بن الخطاب يقول : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " الشهداء أربعة : رجل مؤمن جيد الإيمان ، لقي العدو فصدق الله فقتل ، فذلك الذي ينظر الناس إليه هكذا - ورفع رأسه حتى سقطت قلنسوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو قلنسوة عمر ، والثاني مؤمن لقي العدو فكأنما يضرب ظهره بشوك الطلح ، جاءه سهم غرب فقتله ، فذاك في الدرجة الثانية ، والثالث رجل مؤمن خلط عملا صالحا وآخر سيئا لقي العدو فصدق الله حتى قتل ، فذاك في الدرجة الثالثة ، والرابع رجل مؤمن أسرف على نفسه إسرافا كثيرا ، لقي العدو فصدق الله حتى قتل ، فذاك في الدرجة الرابعة " . وهكذا رواه علي بن المديني ، عن أبي داود الطيالسي ، عن ابن المبارك عن ابن لهيعة ، وقال : هذا إسناد مصري صالح . ورواه الترمذي من حديث ابن لهيعة وقال : حسن غريب وقوله : ( والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم ) لما ذكر السعداء ومآلهم ، عطف بذكر الأشقياء وبين حالهم . ( اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ( 20 ) سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ( 21 ) ) يقول تعالى موهنا أمر الحياة الدنيا ومحقرا لها : ( أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد ) أي : إنما حاصل أمرها عند أهلها هذا ، كما قال : ( زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب ) [ آل عمران : 14 ] ثم ضرب تعالى مثل الحياة الدنيا في أنها زهرة فانية ونعمة زائلة فقال : ( كمثل غيث ) وهو : المطر الذي يأتي بعد قنوط الناس ، كما قال : ( وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته ) [ الشورى : 28 ] وقوله : ( أعجب الكفار نباته ) أي : يعجب الزراع نبات ذلك الزرع الذي نبت بالغيث ; وكما يعجب الزراع ذلك كذلك تعجب الحياة الدنيا الكفار ، فإنهم أحرص شيء عليها ، وأميل الناس إليها ، ( ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما ) أي : يهيج ذلك الزرع فتراه مصفرا بعد ما كان خضرا نضرا ، ثم يكون بعد ذلك كله حطاما ، أي : يصير يبسا متحطما ، هكذا الحياة الدنيا تكون أولا شابة ، ثم تكتهل ، ثم تكون عجوزا شوهاء ، والإنسان كذلك في أول عمره وعنفوان شبابه غضا طريا لين الأعطاف ، بهي المنظر ، ثم إنه يشرع في الكهولة ، فتتغير طباعه وينفد بعض قواه ، ثم يكبر فيصير شيخا كبيرا ، ضعيف القوى ، قليل الحركة ، يعجزه الشيء اليسير ، كما قال تعالى : ( الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير ) [ الروم : 54 ] . ولما كان هذا المثل دالا على زوال الدنيا وانقضائها وفراغها لا محالة ، وأن الآخرة كائنة لا محالة ، حذر من أمرها ورغب فيما فيها من الخير ، فقال : ( وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) أي : وليس في الآخرة الآتية القريبة إلا إما هذا وإما هذا : إما عذاب شديد ، وإما مغفرة من الله ورضوان . وقوله : ( وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) أي : هي متاع فان غار لمن ركن إليه فإنه يغتر [ ص: 25 ] بها وتعجبه حتى يعتقد أنه لا دار سواها ولا معاد وراءها ، وهي حقيرة قليلة بالنسبة إلى الدار الآخرة . قال ابن جرير : حدثنا علي ابن حرب الموصلي ، حدثنا المحاربي ، حدثنا محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها . اقرءوا : ( وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) وهذا الحديث ثابت في الصحيح بدون هذه الزيادة والله أعلم . وقال الإمام أحمد : حدثنا ابن نمير ، ووكيع ، كلاهما عن الأعمش ، عن شقيق ، عن عبد الله قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " للجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله ، والنار مثل ذلك " . انفرد بإخراجه البخاري في " الرقاق " ، من حديث الثوري ، عن الأعمش به ففي هذا الحديث دليل على اقتراب الخير والشر من الإنسان ، وإذا كان الأمر كذلك ; فلهذا حثه الله على المبادرة إلى الخيرات ، من فعل الطاعات ، وترك المحرمات ، التي تكفر عنه الذنوب والزلات ، وتحصل له الثواب والدرجات ، فقال تعالى : ( سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض ) والمراد جنس السماء والأرض ، كما قال في الآية الأخرى : ( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين ) [ آل عمران : 133 ] . وقال ها هنا : ( أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ) أي : هذا الذي أهلهم الله له هو من فضله ومنه عليهم وإحسانه إليهم ، كما قدمنا في الصحيح : أن فقراء المهاجرين قالوا : يا رسول الله ، ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم . قال : " وما ذاك ؟ " . قالوا : يصلون كما نصلي ، ويصومون كما نصوم ، ويتصدقون ولا نتصدق ، ويعتقون ولا نعتق . قال : " أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه سبقتم من بعدكم ، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم : تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين " . قال : فرجعوا فقالوا : سمع إخواننا أهل الأموال ما فعلنا ، ففعلوا مثله ! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء " ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير ( 22 ) لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور ( 23 ) الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد ( 24 ) ) يخبر تعالى عن قدره السابق في خلقه قبل أن يبرأ البرية فقال : ( ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم ) أي : في الآفاق وفي نفوسكم ( إلا في كتاب من قبل أن نبرأها ) أي : من قبل أن نخلق الخليقة ونبرأ النسمة . وقال بعضهم : ( من قبل أن نبرأها ) عائد على النفوس . وقيل : عائد على المصيبة . والأحسن عوده على الخليقة والبرية ; لدلالة الكلام عليها ، كما قال ابن جرير : حدثني يعقوب ، حدثنا ابن علية ، عن منصور بن عبد الرحمن قال : كنت جالسا مع الحسن ، فقال رجل : سله عن قوله : ( ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها ) فسألته عنها ، فقال : سبحان الله ! ومن يشك في هذا ؟ كل مصيبة بين السماء والأرض ، ففي كتاب الله من قبل أن يبرأ النسمة وقال قتادة : ( ما أصاب من مصيبة في الأرض ) قال : هي السنون . يعني : الجدب ، ( ولا في أنفسكم ) يقول : الأوجاع والأمراض . قال : وبلغنا أنه ليس أحد يصيبه خدش عود ولا نكبة قدم ، ولا خلجان عرق إلا بذنب ، وما يعفو الله عنه أكثر . وهذه الآية الكريمة من أدل دليل على القدرية نفاة العلم السابق - قبحهم الله - وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو عبد الرحمن ، حدثنا حيوة ، وابن لهيعة قالا حدثنا أبو هانئ الخولاني : أنه سمع أبا عبد الرحمن الحبلي يقول : سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " قدر الله المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة " . ورواه مسلم في صحيحه ، من حديث عبد الله بن وهب ، وحيوة بن شريح ، ونافع بن يزيد ، وثلاثتهم عن أبي هانئ به . وزاد بن وهب : " وكان عرشه على الماء " . ورواه الترمذي وقال : حسن صحيح وقوله : ( إن ذلك على الله يسير ) أي : أن علمه تعالى الأشياء قبل كونها ، وكتابته لها طبق ما يوجد في حينها سهل على الله ، عز وجل ; لأنه يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون . [ ص: 27 ] وقوله : ( لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم ) أي : أعلمناكم بتقدم علمنا وسبق كتابتنا للأشياء قبل كونها ، وتقديرنا الكائنات قبل وجودها ، لتعلموا أن ما أصابكم لم يكن ليخطئكم ، وما أخطأكم لم يكن ليصيبكم ، فلا تأسوا على ما فاتكم ، فإنه لو قدر شيء لكان ( ولا تفرحوا بما آتاكم ) أي : جاءكم ، ويقرأ : " آتاكم " أي : أعطاكم . وكلاهما متلازمان ، أي : لا تفخروا على الناس بما أنعم الله به عليكم ، فإن ذلك ليس بسعيكم ولا كدكم ، وإنما هو عن قدر الله ورزقه لكم ، فلا تتخذوا نعم الله أشرا وبطرا ، تفخرون بها على الناس ; ولهذا قال : ( والله لا يحب كل مختال فخور ) أي : مختال في نفسه متكبر فخور ، أي : على غيره . وقال عكرمة : ليس أحد إلا وهو يفرح ويحزن ، ولكن اجعلوا الفرح شكرا والحزن صبرا . ثم قال : ( الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ) أي : يفعلون المنكر ويحضون الناس عليه ، ( ومن يتول ) أي : عن أمر الله وطاعته ( فإن الله هو الغني الحميد ) كما قال موسى عليه السلام : ( إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد ) [ إبراهيم : 8 ] . ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز ( 25 ) ) يقول تعالى : ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات ) أي : بالمعجزات ، والحجج الباهرات ، والدلائل القاطعات ، ( وأنزلنا معهم الكتاب ) وهو : النقل المصدق ) والميزان ) وهو : العدل . قاله مجاهد ، وقتادة ، وغيرهما . وهو الحق الذي تشهد به العقول الصحيحة المستقيمة المخالفة للآراء السقيمة ، كما قال : ( أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ) [ هود : 17 ] ، وقال : ( فطرة الله التي فطر الناس عليها ) [ الروم : 30 ] ، وقال : ( والسماء رفعها ووضع الميزان ) [ الرحمن : 7 ] ; ولهذا قال في هذه الآية : ( ليقوم الناس بالقسط ) أي : بالحق والعدل وهو : اتباع الرسل فيما أخبروا به ، وطاعتهم فيما أمروا به ، فإن الذي جاءوا به هو الحق الذي ليس وراءه حق ، كما قال : ( وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا ) [ الأنعام : 115 ] أي : صدقا في الإخبار ، وعدلا في الأوامر والنواهي . ولهذا يقول المؤمنون إذا تبوءوا غرف الجنات ، والمنازل العاليات ، والسرر المصفوفات : ( الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق ) [ الأعراف : 43 ] . وقوله : ( وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ) أي : وجعلنا الحديد رادعا لمن أبى الحق وعانده بعد قيام الحجة عليه ; ولهذا أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة بعد النبوة ثلاث عشرة سنة توحى إليه السور المكية ، وكلها جدال مع المشركين ، وبيان وإيضاح للتوحيد ، وتبيان ودلائل ، فلما قامت الحجة على من [ ص: 28 ] خالف ، شرع الله الهجرة ، وأمرهم بالقتال بالسيوف ، وضرب الرقاب والهام لمن خالف القرآن وكذب به وعانده . وقد روى الإمام أحمد ، وأبو داود ، من حديث عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان ، عن حسان بن عطية ، عن أبي المنيب الجرشي الشامي ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له ، وجعل رزقي تحت ظل رمحي ، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري ، ومن تشبه بقوم فهو منهم " ولهذا قال تعالى : ( فيه بأس شديد ) يعني : السلاح كالسيوف ، والحراب ، والسنان ، والنصال ، والدروع ، ونحوها . ( ومنافع للناس ) أي : في معايشهم كالسكة ، والفأس ، والقدوم ، والمنشار ، والإزميل ، والمجرفة ، والآلات التي يستعان بها في الحراثة ، والحياكة ، والطبخ ، والخبز ، وما لا قوام للناس بدونه ، وغير ذلك . قال علباء بن أحمد ، عن عكرمة ، أن ابن عباس قال : ثلاثة أشياء نزلت مع آدم : السندان ، والكلبتان ، والميقعة ، يعني المطرقة . رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم . وقوله : ( وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب ) أي : من نيته في حمل السلاح نصرة الله ورسله ، ( إن الله قوي عزيز ) أي : هو قوي عزيز ، ينصر من نصره من غير احتياج منه إلى الناس ، وإنما شرع الجهاد ليبلو بعضكم ببعض . ![]()
__________________
|
![]() |
| الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2) | |
|
|
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |