الاعجاز في القران - الصفحة 5 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         فواصل للمواضيع . (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 15 - عددالزوار : 76 )           »          صورلأحاديث النبىﷺ تقربك من ربك وتعلمك دينك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 18 )           »          شرح حديث (اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ، اللَّهُمَّ لاَ قَابِضَ لِمَا بَسَطْتَ، و (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          هل تصلَّى التراويح مفردة أم جماعة ؟ وهل ختم القرآن في رمضان بدعة ؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          مراعاة حال الضعفاء من كبار السن ونحوهم في صلاة التراويح (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          الوصايا النبوية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 30 - عددالزوار : 10582 )           »          الفَرَحُ ما له وما عليه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 11 )           »          لا يستوون عند الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 3 - عددالزوار : 677 )           »          أثر العربية في نهضة الأمة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 3 - عددالزوار : 4881 )           »          الابتلاء ورفع الدرجات وتكفير السيئات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > الملتقى العلمي والثقافي
التسجيل التعليمـــات التقويم

الملتقى العلمي والثقافي قسم يختص بكل النظريات والدراسات الاعجازية والثقافية والعلمية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #41  
قديم 02-02-2007, 06:38 PM
الصورة الرمزية المستغفرة
المستغفرة المستغفرة غير متصل
عضو مبدع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2007
مكان الإقامة: سوريا
الجنس :
المشاركات: 1,063
الدولة : Syria
افتراضي

ويظهر لنا سر اختيار الفعل{ يحسَب }، دون الفعل{يظن }، إذا علمنا هذا الفرق الدقيق بينهما في المعنى؛ وهو: أنَّ يحسِب من الحِسبان بكسر الحاء. والحِسبانُ هو أن يحكم الحاسِبُ لأحد النقيضين من غير أن يخطر الآخر بباله، فيحسِبه ويعقد عليه الأصبع، ويكون بعَرَض أن يعتريه فيه شك. أما يظنُّ فهو من الظنِّ. والظنُّ هو أن يخطر النقيضان ببال الظانِّ، فيُغلِّب أحدهما على الآخر.
وهذا الظمآن عندما رأى السراب حَسِبَه ماء، ولم يخطر بباله أبدًا أنه نقيض الماء، فعقد عليه العزم، وراح يلهث وراءه. لقد خدعه هذا السراب الكاذب؛ كما خدع أولئك الذين كفروا أعمالهم الباطلة، فرأَوْها حسنة، وحسِبوها نافعة، وكان ذلك سبب شقائهم وضلالهم وضياعهم. والله تعالى يقول:﴿ أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ﴾.
ولو قيل:{ يحسَبه الرائي ماء }، بدلاً من قوله تعالى:﴿ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء ﴾، ثم يظهر أنه على خلاف ما قدَّر، لكان بليغًا؛ ولكن أبلغ منه لفظ القرآن؛ لأن الظمآن أشد حرصًا على الماء، من الرائي، وقلبُه أكثرُ تعلقًا به منه.. ثم إن لفظ الظمآن بما ينطوي عليه من معنى المبالغة، وبما يوحي به من معنى اللهفة والتحرُّق وشدة الحاجة، ثم شدة الإعياء والخيبة، يكسب الصورة ثراء وخصوبة، ويعطيها بعدًا وعمقًا، يجعلها أقدر على التعبير والإيحاء.
وقوله تعالى:﴿حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً﴾يعني: حتى إذا جاء الظمآن ما حسِبه ماء- وهو السراب- وعلَّق به رجاءه، لم يجده شيئًا أصلاً، لا محققًا، ولا متوهَّمًا؛ كما كان يراه قبل المجيء. وهو جملة شرطيَّة مؤلفة من عبارتين: الأولى شرطية:﴿حَتَّى إِذَا جَاءهُ﴾. والثانية جوابية:﴿لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً ﴾. أما العبارة الشرطية فقد أشارت بدخول﴿حَتَّى ﴾على﴿ إِذَا ﴾إلى نهاية رحلة شاقة، ومعاناة طويلة، أجهده فيها الظمأ، وحفزه إليها الأمل، وأفادت باستعمال﴿إِذَا ﴾أن الشرط قد تحقق في نهاية هذه الرحلة.
وأما العبارة الجوابية فقد جيء فيها بلفظ ﴿شَيْئاً ﴾مفعولاً به ثانيًا لقوله:﴿لَمْ يَجِدْهُ ﴾؛ ليفيد معنى العدم. وكان يمكن أن يقال:{ لم يجده ماء }؛ ولكن لفظ﴿شَيْئاً ﴾ جعله عدمًا محضًا. فتأمل هذا الشرط الذي ربط هذا العدم المحض بذلك السعي الدءوب، وهذا هو الخسران المبين!وصدق الله سبحانه؛ إذ يقول:
﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا*الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا*أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا*ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا ﴾ (الكهف:103-105)
تأمل بعد ذلك هذه الهاء في قوله تعالى:﴿لَمْ يَجِدْهُ﴾، وكان يمكن أن يقال:{لم يجد شيئًا }؛ ولكن ذكر الهاء نصَّ على الأمل المنشود، وصيَّره عدمًا، وفي ذلك إبراز للمغزى، وخيبة الأمل. وشيء آخر في ذكر هذه الهاء، وهو تهيئة الكلام لما بعده؛ لأنه لو قيل:{حتى إذا جاءه، لم يجد شيئًا }، لكان ذلك متناقضًا مع قوله:﴿وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ﴾.
ثم إن قوله تعالى:﴿حَتَّى إِذَا جَاءهُ ﴾يدلُّ على شىء موجود، واقع عليه المجيء، وأن قوله تعالى:﴿لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً ﴾مناقض له؛ لأنه يدلُّ على عدم وجود شىء، يقع عليه المجيء. وقد أجيب عن ذلك بأجوبة أظهرها قول من قال: إن السراب يرى من بعيد بسبب الكثافة كأنه ضباب وهباء، وإذا اقترب منه الرائي، رقَّ وانتثر وصار كالهواء.
أما قوله تعالى:﴿وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ﴾فالمراد به: أنه وجد مقدور الله تعالى عليه من هلاك بالظمأ عند موضع السراب، فأعطاه ما كتب له من ذلك وافيًا كاملاً؛ وهو المحسوب له. وقيل:وجد الله بالمرصاد فوفَّاه حسابه. أي: جزاء عمله. قال امرؤ القيس:
فولى مدبرًا يهوي حثيثًا *** وأيقن أنه لاقى حسابا
وقيل: وجد وعد الله بالجزاء على عمله. وقيل: وجد أمر الله عنده حشره. والمعنى متقارب.
﴿وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾. أي: معجَّل حسابه، لا يؤخره عن أحد؛ وذلك لأنه سبحانه عالم بجميع المعلومات، فلا يشقُّ عليه الحساب. وقال بعض المتكلمين: معناه: لا يشغله محاسبة واحد عن آخر؛ كنحن. ولو كان يتكلم بآلة- كما يقول المشبهة- لما صح ذلك.. وبذلك يكون الكلام مطابقًا للذين كفروا وأعمالهم، من حيث إنهم حسبوها نافعة لهم، فلم تنفعهم، وحصل لهم الهلاك بإثر ما حوسبوا.
2- وأماالتمثيل الثاني فهو قوله تعالى:﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ﴾(النور:39).
وهو تمثيل آخر يصوِّر أعمال الذين كفروا في الدنيا من حيث خلوها عن نور الحق بصورة ظلمات متراكبة من لجج البحر والأمواج والسحاب، بعد أن صُوِّرت في التمثيل الأول بصورة السراب الخادع.
وقيل في الفرق بين التمثيلين: أن التمثيل الأول فيما يؤول إليه أعمالهم في الآخرة، وهذا التمثيل فيما هم عليه في حال الدنيا. قال أبو حيان في البحر:وبدأ بالتشبيه الأول؛ لأنه آكد في الإخبار، لما فيه من ذكر ما يؤول إليه أمرهم من العقاب الدائم، والعذاب السرمدي، ثم أتبعه بهذا التمثيل، الذي نبَّهَهم على ما هي أعمالهم عليه؛ لعلهم يرجعون إلى الإيمان، ويفكرون في نور الله، الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
والظاهر أن التشبيه في التمثيلين لأعمالهم. وزعم الجرجاني أن الآية الأولى في ذكر أعمالهم، والثانية في ذكر كفرهم. ونسق الكفر على أعمالهم؛ لأن الكفر أيضًا من أعمالهم. ودليل ذلك قوله تعالى:﴿ اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ ﴾(البقرة:257). أي: يخرجهم من الكفر إلى الإيمان.
وقال أبو علي الفارسي: التقدير: أو كذي ظلمات. قال: ودل على هذا المضاف قوله تعالى:﴿إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ ﴾؛ فالكناية تعود إلى المضاف المحذوف. فالتشبيه وقع عند الجرجاني لكفر الكافر، وعند أبي علي للكافر، لا للأعمال. وكلاهما خلاف الظاهر.
أما﴿أَوْ ﴾ فقيل: هي للتخيير؛ فإن أعمالهم لكونها لاغية، لا منفعة لها كالسراب، ولكونها خالية عن نور الحق كالظلمات المتراكمة من لج البحر والأمواج والسحاب. وقيل: هي للتنويع؛ فإن أعمالهم إن كانت حسنة فهي كالسراب، وإن كانت قبيحة فهي كالظلمات. وقيل: هي للتقسيم باعتبار وقتين؛ فإنها كالظلمات في الدنيا، وكالسراب في الآخرة. وقيل: هي للإباحة، على تقدير: إن شئت مثل بالسراب، وإن شئت مثل بالظلمات.
واختار الكرماني كون ﴿أَوْ ﴾للتخيير، على تقدير: شبه أعمال الكفار بأيهما شئت. واختار أبو السعود كونها للتنويع، على تقدير: إِثْرَ ما مثِّلت أعمالهم، التي كانوا يعتمدون عليها أقوى اعتماد، ويفتخرون بها في كل واد وناد، بما ذكر من حال السراب مع زيادة حساب وعقاب، مثِّلت أعمالهم القبيحة، التي ليس فيها شائبة خيرية، يغتر بها المغترون، بظلمات كائنة في بحر لجي.
واختار ابن عاشور كونها للتخيير؛ لأن شأن ﴿أَوْ ﴾- كما قال- إذا جاءت في عطف التشبيهات أن تدل على تخيير السامع أن يشبه بما قبلها، وبما بعدها. واختار طنطاوي كونها للتقسيم.
و﴿أَوْ ﴾- عند أهل التحقيق من علماء اللغة-موضوعة لأحد الشيئين المذكورين معها. فدل وجودها عاطفة بين التمثيلين على أن أعمال الذين كفروا كسراب، أو كظلمات. فإنها لا تخلو من أحد المثلين.أما ما ذكروه من دلالتها على الإباحة، أو التخيير، أو التنويع، أو التقسيم، فإن ذلك يستفاد من السياق، لا من﴿أَوْ ﴾نفسها.
رد مع اقتباس
  #42  
قديم 02-02-2007, 06:39 PM
الصورة الرمزية المستغفرة
المستغفرة المستغفرة غير متصل
عضو مبدع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2007
مكان الإقامة: سوريا
الجنس :
المشاركات: 1,063
الدولة : Syria
افتراضي

والظاهر أنه عطِف بـ﴿أَوْ ﴾هنا؛ لأنه قُصِد التنويع. ويفهم من السياق في المثلين أن التنويع ليس لتنوع الأعمال؛ وإنما هو لتنوع الأحوال الداعية إلى تشبيهها مرة بالسراب الكاذب، ومرة أخرى بالظلمات الكثيفة. حكى الشوكاني في(فتح القدير) عن الزجاج قوله:أعلَمَ الله سبحانه أن أعمال الكفار، إن مثلت بما يُوجَد، فمثلها كمثل السراب، وإن مثلت بما يُرَى، فهي كهذه الظلمات التي وصف .
أما تشبيهها بالسراب فيكون لمن سكن الجزيرة العربية، أو جاورها. وفي هذا التشبيه يتجلىسطح الصحراء العربية المنبسط، والخداع الوهمي للسراب.. ذلك الخداع، الذي لا يدركه إلا أبناء البيئة الصحراوية.
وأما تشبيهها بالظلمات الكثيفة فيكون لمن لا يعرف شيئًا عن البيئة الصحراوية وأسرارها؛ لأنه يترجم- على عكس الأول- عن صورة، لا علاقة لهابالوسط الجغرافي للقرآن الكريم؛ بل لا علاقة لها بالمستوى العقلي، أو المعارف البحرية في العصر الجاهلي؛ وإنما هي في مجموعها منتزعة من بعض البلدان الشمالية التي يغشاها الضباب الكثيف، وتحيط بها مياه البحار والمحيطات من كل جانب. هذا ما يشير إليه تشبيه الأعمال بالظلمات الكثيفة في أعماق البحار نتيجة لتراكب الأمواج والسحاب. وذلك يستلزم من القائل أن يكون على معرفة علمية بالظواهر الخاصة بقاع البحار، وهي معرفة، لم تُتَحْ للبشرية، إلا بعد معرفة جغرافية المحيطات، ودراسة البصريات الطبيعية.
وغني عن البيان أن نقول: إن العصر القرآني كان يجهل كلية تراكب الأمواج، وظاهرة امتصاص الضوء، واختفائه على عمق معين في الماء. وعلى ذلك فما كان لنا أن ننسب هذا القول إلى عبقرية صنعتها الصحراء، ولا إلى ذات إنسانية صاغتها بيئة قاريَّة؛ كالتي عاش فيها محمد عليه الصلاة والسلام.. وهذا إعجاز جاء به القرآن الكريم إلى جانب إعجازاته الكثيرة.
﴿ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ﴾
و﴿بَحْرٍ لُّجِّيٍّ ﴾منسوب إلى اللجَُّّة؛ وهو الذي لا يكاد يدرك قعره. ولُجَّة البحر: تردُّد أمواجه. قال تعالى:﴿قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً ﴾(النمل:44).والجمع: لجج.تقول العرب‏: إلتجَّ البحر‏. أي‏:‏ تلاطمت أمواجه.‏
و﴿يَغْشَاهُ مَوْجٌ ﴾. أي: يستره ويغطيه. قال تعالى:﴿وإذا غشيهم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾(لقمان:32). أي: علاهم موج كالجبال. ومثله قوله تعالى:﴿فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ ﴾(طه:78). والموج في البحر ما يعلو من غوارب الماء.
و﴿مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ﴾. أي: من فوق ذلك الموج، الذي يغشى البحر اللجي موج آخر، ومن فوق هذا الموج الآخر سحاب. والسحاب هو الغيم، كان فيه ماء، أو لم يكن. ولهذا يقال: سحاب جَهَامٌ. أي: لا ما فيه. ويقال عكسه: سحاب ثِقال. قال تعالى:﴿هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ ﴾(الرعد:12).أي: المحمل بالمطر. وقد يذكَّر لفظه، ويراد به الظلُّ والظلمة؛ كما في هذه الآية:﴿مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ ﴾.
وقرأ جمهور السبعة:﴿سَحَابٌ ﴾، بالرفع والتنوين، و﴿ظُلُمَاتٌ ﴾، بالرفع على معنى: هي ظلماتٌ. وقرأ ابن كثير في رواية قنبل:﴿سَحَابٌ ﴾، بالرفع والتنوين، و﴿ظُلُمَاتٍ﴾، بالخفض على البدل من﴿ظُلُمَاتٍ ﴾ الأولى. وقرأ ابن محيصن والبزي:﴿سَحَابُ ظُلُمَاتٍ ﴾، بإضافة سحاب إلى ظلمات. ووجه الإضافة أن السحاب يرتفع وقت هذه الظلمات، فأضيف إليها لهذه الملابسة.
ويرى العلماء أن أسباب وجود هذه الظلمات في البحار اللجيَّة ترجع في الحقيقة إلى سببين رئيسين:
أما السبب الأول فهو العمق. فإن الجزء المرئي من أشعة الشمس، الذي ينفذ إلى كتل الماء في البحار والمحيطات،يتعرض لعمليات كثيرة من الانكسار‏,‏ والتحلل إلى الأطياف المختلفة، والامتصاص بواسطة كل من جزيئات الماء‏,‏ وجزيئات الأملاح المذابة فيه‏,‏ وبواسطة المواد الصلبة العالقة به‏,‏ وبما يحيا فيه من مختلف صور الأحياء‏,‏ وبما تفرزه تلك الأحياء من مواد عضوية‏؛ ولذلك يضعف الضوء المار في الماء بالتدريج مع العمق‏.‏
والطيف الأحمر هو أول ما يمتص من أطياف الضوء الأبيض. ويتم امتصاصه بالكامل على عمق، لا يكاد يتجاوز العشرين مترًا‏.‏فلو أن غواصًا جرح، وهو يغوص في ماء البحر، فإن الدم، الذي يخرج منه يكون أسودًا؛ لأن اللون الأحمر ينعدم تمامًا، ويصبح هناك ظلمة اللون الأحمر.ويليه الطيف البرتقالي، الذي يتم امتصاصه على عمق ثلاثين مترًا. ثم يليه الطيف الأصفر، الذي يتم امتصاصه زرق اللون، لتشتت هذا الطيف من أطياف الضوء الأبيض في المائتي متر العليا من تلك الكتل المائية‏.‏
وبذلك فإن معظم موجات الضوء المرئي تمتص على عمق مائة متر تقريبًا من مستوي سطح الماء في البحار والمحيطات‏,‏ ويستمر1% منها إلى عمق‏ مائة وخمسين مترًا‏,‏ و‏0,01%‏ إلى عمق‏ مائتيْ مترٍ في الماء الصافي الخالي من العوالق‏.‏
وعلى الرغم من السرعة الفائقة للضوء,‏ فإنه لا يستطيع أن يستمر في ماء البحار والمحيطات لعمق يزيد على الألف متر‏,‏ فبعد مائتي متر من أسطح تلك الأوساط المائية يبدأ الإظلام شبه الكامل؛ حيث لا ينفذ بعد هذا العمق سوى أقل من‏0,01%‏ من ضوء الشمس‏,‏ ويظل هذا القدر الضئيل من الضوء المرئي يتعرض للانكسار والتشتت والامتصاص حتى يتلاشى تمامًا على عمق، لا يكاد يصل إلي كيلومتر واحد تحت مستوى سطح البحر‏؛‏ حيث لا يبقى من أشعة الشمس الساقطة على ذلك السطح سوى واحد من عشرة تريليون جزء منها‏.‏ ثم تغرق أعماق تلك البحار والمحيطات بعد ذلك في ظلام دامس‏.‏
وأما السبب الثاني فهو الحواجز من الموج الداخلي، والموج الخارجي، والسحاب. فهذه كلها حواجز، تمنع مرور الشعاع الضوئي إلى الأسفل.
والموج الداخلي هو الذي يعلو البحر اللجِّي ويغطيه، ويعكس معظم ما بقي من الأشعة الشمسيةالساقطة على أسطح البحار والمحيطات‏,‏ ويحول دون الوصول إلى أعماقها. وبذلك يكون السبب الرئيس في إحداث الإظلام التام فوق قيعان البحار اللجية.ويتكون هذا الموج الداخلي عند الحدود الفاصلة بين كل كتلتين مائيتين مختلفتين في الكثافة‏. ويبدأ تكونه على عمق أربعين مترًا تقريبًا من مستوى سطح الماء في المحيطات؛ حيث تبدأ صفات الماء فجأة في التغير من حيث كثافتها ودرجة حرارتها‏,‏ وقد تتكرر على أعماق أخرى، كلما تكرر التباين بين كتل الماء في الكثافة‏.‏
ومن فوق هذا الموج الداخلي موج آخر، يسمَّى بالموج السطحي، الذي يعدُّ أحد العوائق أمام مرور الأشعة الشمسية. وبذلك يعد أحد الأسباب في إحداث ظلمة تلك الأعماق‏,‏ بالإضافة إلى تحلل تلك الأشعة إلي أطيافها، وامتصاصها بالتدريج في الماء‏.‏
ومن فوق هذا الموج السطحي يأتي السحاب، الذي يمتص حوالي‏ تسعة عشر جزءًا بالمائة من الأشعة الشمسية المارة من خلاله. ويحجب بالانعكاس والتشتيت نحو‏ ثلاثين جزءًا بالمائة منها‏‏,‏ فيحدث قدرًا من الظلمة النسبية، التي تحتاجها الحياة على سطح الأرض‏.‏وبذلك تجتمع ظلمة الموج الداخلي، وظلمة الموج السطحي، وظلمة السحاب مع ظلمات الأطياف السبعة، التي يحدثها امتصاص الماء لتلك الأطياف.
والله سبحانه عندما يصف هذه الظلمات، ينسبها إلى عمق البحر اللجي:﴿كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ﴾.
ثم يقول سبحانه:﴿ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ ﴾؛ وكأنه يقول لنا: هذه الظلمات الكثيفة المتراكبة سببها الأعماق، وسببها الحواجز. ومن المعروف أنلفظ﴿ظُلُمَاتٌ ﴾من جموع القلة. وجمع القلة من ثلاثة إلى عشرة. فأنت تقول: ظلمة، وظلمتان، وثلاث ظلمات إلى عشر ظلمات. والظلمات التي تتحدث عنها الآية الكريمة هي عشر ظلمات: سبع منها للألوان، وثلاث للحواجز(الأمواج الداخلية، والأمواج السطحية، والسحاب).
ثم عقب سبحانه على ذلك بقوله:﴿إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا﴾مبالغة في بيان شدة هذه الظلمات. والمعنى: إذا أخرج من ابتليَ بهذه الظلمات يده من كمِّه، لم يكد يراها.وجاز إضمار الفاعل- هنا- من غير أن يتقدم ذكره، لدلالة المعنى عليه دلالة واضحة.وكذا تقدير ضمير يرجع إلى ظلمات. واحتيج إليه؛ لأن الجملة في موضع الصفة لظلمات، ولا بد لها من رابط. وقيل: ضمير الفاعل عائد على اسم الفاعل المفهوم من الفعل. أي: إذا أخرج المخرج فيها يده، لم يكد يراها.
رد مع اقتباس
  #43  
قديم 02-02-2007, 06:40 PM
الصورة الرمزية المستغفرة
المستغفرة المستغفرة غير متصل
عضو مبدع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2007
مكان الإقامة: سوريا
الجنس :
المشاركات: 1,063
الدولة : Syria
افتراضي

اختلف علماء اللغة والتفسير في قوله تعالى:﴿لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ﴾؛ هل يقتضي أن هذا الرجل المقدر في هذه الأحوال، إذا أخرج يده من كمِّه، لم يرها البتة. أو رآها بعد عسر وشدة ؟ فقالت فرقة: لم يرها البتة؛ وذلك أن { كاد } معناها: قارب؛ فكأنه قال:﴿ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ ﴾، لم يقارب رؤيتها. وهذا يقتضي نفي الرؤية جملة. وقالت فرقة: بل رآها بعد عسر وشدة، وكاد أن لا يراها. ووجه ذلك: أن { كاد }، إذا صحبها حرف النفي، وجب الفعل الذي بعدها. وإذا لم يصحبها، انتفى ذلك الفعل.
وهذا القول يكون لازمًا، إذا كان حرف النفي بعد { كاد } داخلاً على الفعل، الذي بعدها. تقول: كاد زيد يقوم، فالقيام منفي. فإذا قلت: كاد زيد أن لا يقوم، فالقيام واجب واقع. وتقول: كاد النعام يطير. فهذا يقتضي نفي الطيران عنه. فإذا قلت: كاد النعام أن لا يطير، وجب الطيران له.
أما إذا كان حرف النفي مع { كاد }، فالأمر محتمل، مرة يوجب الفعل، ومرة ينفيه. تقول: المريض لا يكاد يسكن. فهذا كلام صحيح، تضمن نفي السكون. وتقول: رجل متكلم لا يكاد يسكن. فهذا كلام صحيح، يتضمن إيجاب السكون بعد جهد. ويشهد لذلك قوله تعالى:﴿أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ ﴾(الزخرف:52). أي: لا يكاد يظهر كلامه للثغته بالجمرة. التي تناولها في صغره.وقول تأبط شرًّا:
فأُبْتُ إلى فَهْمٍ، وما كِدْتُ آيِبًا *** وكم مثلها فارقتها وهي تصفر
يقول: رجعت إلى قبيلتي فَهْمٍ، وكدت لا أرجع؛ لأنني شافهت التلَفَ.
ومما يحمل على الاحتمالين قوله تعالى:﴿فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ﴾(البقرة:71). أي: وما كادوا يذبحون. فكنَّى عن الذبح بالفعل؛ لأن الفعل يكنَى به عن كل فعل. والنفي مع { كاد }- هنا- يتضمن وجوب الذبح بعد جهد، ويتضمن نفيه البتة. وبيان ذلك أن جملة:﴿وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ﴾تحتمل الحال والاستئناف. والأول أظهر إشارة إلى أن مماطلتهم قارنت أول أزمنة الذبح.. وعلى الاستئناف يصح اختلاف الزمنين: زمان نفي المقاربة، وزمان الذبح؛ إذ المعنى: وما قاربوا ذبحها قبل ذلك. أي: وقع الذبح بعد أن نفى مقاربته. فالمعنى: أنهم تعسروا في ذبحها، ثم ذبحوها بعد ذلك. قيل: والسبب الذي لأجله ما كادوا يذبحون هو: إمَّا غلاء ثمنها، وإمَّا خوف فضيحة القاتل، وإمَّا قلة انقياد وتعنت على الأنبياء- عليهم السلام- على ما عهد منهم.
ونحو ذلك قوله تعالى في هذه الآية:﴿لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ﴾،فإنه نفيٌ مع ﴿ يَكَدْ ﴾يتضمن- في أحد التأويلين- نفي الرؤية. ويتضمن- في الاحتمال الآخر وجوب الرؤية بعد عسر وشدة؛ فإن الكائن في ظلمات البحر اللجي،التي ما زال فيها شيء من ضوء، لا يرى يده إلا بصعوبة. لكن إذا غاص إلى الأعماق، التي تغرق في الظلام الشديد، ومد يده أمام عينيه، فإنه لا يراها أبداً. ولهذا، ونحوه قال سيبويه رحمه الله: إن أفعال المقاربة لها نحو آخر. بمعنى: أنها دقيقة التصرف. أما قول ابن الأنباري وغيره ممن اعتقد زيادة ﴿ يَكَدْ ﴾، وأن المعنى: لم يرها، فليس بصحيح.
ثم يختم الله تبارك وتعالى الآية الكريمةبهذه الحقيقة المعنوية الكبرى، فيقول سبحانه:﴿وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ ﴾.ثم تفاجئنا البحوث العلمية أخيرًا بواقع مادي ملموس لهذه الحقيقة المعنوية‏,‏ فقد كان العلماء إلى عهد قريب جدًا لا يتصورون إمكانية وجود حياة في أغوار المحيطات العميقة‏,‏ للظلمة التامة فيها‏,‏ وللبرودة الشديدة لمائها‏,‏ وللضغوط الهائلة الواقعة عليها، وللملوحة المرتفعة أحيانا لذلك الماء‏؛ ولكن بعد تطوير غوَّاصات خاصة لدراسة تلك الأعماق، فوجيء دارسو الأحياء البحرية بوجود بلايين الكائنات الحيَّة، التي تنتشر في تلك الظلمة الحالكة، وقد زودها خالقها بوسائل إنارة ذاتية في صميم بنائها الجسدي تعرف باسم الإنارة الحيوية.‏
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا‏:‏ من غير الله الخالق يمكنه أن يعطي كل نوع من أنواع تلك الأحياء البحرية العميقة‏,‏ هذا النور الذاتي؟ وهنا يتضح البعد المادي الملموس لهذا النص القرآني المعجز‏,‏ كما يتضح بعده المعنوي الرفيع‏:‏﴿وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ ﴾.
فمن لم ينوِّر الله تعالى قلبه بنوره، الذي أضاء الوجود كله، ويهديه إليه، فهو باق في ظلمات الجهل والغيِّ والضلال، لا يهتدي أبدًا. وكيف يهتدي، وهو لا يملك شيئًا من النور، الذي هو سبب الهداية ؟
ولتأكيد هذا المعنى جيء بعد﴿مَا ﴾النافية بـ﴿ مِن ﴾، التي يدل وجودها على استغراق النفي وشموله لكل جزء من أجزاء النور. ولو قيل:﴿فَمَا لَهُ نُّورٍ ﴾، بدون ﴿ مِن ﴾، ما أفاد هذا المعنى، الذي دل عليه وجودها.
نسأل الله تعالى أن ينوِّر بصائرنا وأبصارنا بنور وجه، الذي أشرقت به الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
__________________
رد مع اقتباس
  #44  
قديم 02-02-2007, 06:42 PM
الصورة الرمزية المستغفرة
المستغفرة المستغفرة غير متصل
عضو مبدع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2007
مكان الإقامة: سوريا
الجنس :
المشاركات: 1,063
الدولة : Syria
افتراضي

تركيب الجلد بينة علمية
The Skin Structure
A Scientific Evidence
د. محمد دودح
الباحث العلمي بالهيئة العالمية
للإعجاز العلمي في القرآن والسنة
([email protected])
إن دلائل الوحي في القرآن الكريم متعددة الوجوه وتختص بحديثه الجامع الفريد السامي الأغراض الداعي لكل فضيلة والناهي عن كل رزيلة والمحكم البيان الموافق للحق في كل نبأ, وفي جملة من روائع المشاهد التصويرية يجسد القرآن حال المكابرين أمام الآيات الناطقة بالحق كاشفا ستر حقائق علمية حبلت بها الأيام أدخرت لذوي النظر الباحثين عن الحق.

والجلد هو أكبر عضو في الجسم, وإذا عاينا قطاعا مجهريا في الجلد سنجد أن أهم تكويناته هي: الغدد العرقية وتقوم بإفراز العرق ليلطف درجة الحرارة عند إرتفاعها, والنهايات العصبية وتقوم بنقل الأحاسيس إلى المخ, والعضلة الناصبة للشعرة وتتقلص في بعض الأحوال مثل البرد والخشية والوجل والهلع والفزع والمفاجآت, ولا يتوقع قبل اكتشاف المجهر في القرن السابع عشر أن يتضمن أي مصدر الحديث تصريحا أو تلميحا عن تلك التكوينات المجهرية, ولكن القرآن الكريم منذ القرن السابع الميلادي خلال مهمته الأولى في لفت الانتباه إلى مصير الإنسان والإنذار بيوم الحساب يعرض لها مبينا وظائفها في بساطة بلا تكلف وفي تلطف لا يلفت عن الغرض وعمق أغوار بعيدة لا تفوت المحققين عند اكتشاف الحقيقة, ويحافظ على تمايز المكونات في الترتيب وفق مكانتها وأهميتها نظمًا ويتفق مع الحقيقة الخفية وصفًا؛ ناهيك عن بلاغة تجسد المعنويات بحسيات ترسخ المضمون في الأذهان وروائع تصويرية في البيان توقظ الشعور وتهز الوجدان, فضلاً عن استيعاب مجموع القرآن الكريم لكل تلك التكوينات قبل أن تشاهدها عين بينة تشهد بنزوله بعلم الله القدير علام الغيوب.
(أولا) الغدد العرقية
Eccrine Sweat Glands
يقول العلي القدير: "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ. وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـَكِنّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ وَاتّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ. سَآءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ. مَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ" الأعراف 175-178, والتمثيل يجسد عناد متجرد من فطرة الإيمان إلى حد اختيار الموت على الحياة, والعناد حالة معنوية شخصتها مشاهد حسية تصدق على كل متعامي عن دلائل الوحي, واللهاث في المثل تسارع الأنفاس لبالغ الجهد والإجهاد, ويستقيم أن يعود الوصف على من يفر مبتعدا عن الهدى سواء وعظته أو تركته بيانا لبالغ العناد؛ وفي التعقيب (ذّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ)؛تصريح بالتَرَفُّع عن معتاد القصة إلى تمثيل يشخص بالغ العناد وسوء المصير ويُعَرِّض بالسامع ليتجنب نفس المصير.
وقد اشتمل العرض على جملة من بدائع التصوير وروائع التمثيل تكشف خفايا النفوس, فمشهد المنسلخ الجلد المتعري بلا وقاية يجسد فقدان الإيمان, والفعل (انْسَلَخَ)يصف الساعي لهلاك نفسه بجيفة هالك تعددت مشاهد مهلكه, كأنه قد تردي من شاهق بلا مستند يبقيه ساميا فهلك, فمع تعريه طمع الشيطان في غوايته كأسد أطمعته فريسة فافترسها, والغافل أسير هواه أصم لا يستجيب كجيفة حيوان يمزقه سبع لاصق بالأرض بلا حركة تنم عن حياة, ولكن: أيسلخ عاقل جلده الواقي ليهلك!؛ هكذا المتجرد من فطرة الإيمان متعري الباطن مبالغ في الإعراض إن قامت عليه حجة لا يستجيب وإن غفل عنها لا يتوقف عن الفرار ساعيا لمهلكه من شدة العناد, قال ابن عاشور: ”الانسلاخ حقيقته خروج جسد الحيوان من جلده حينما يسلخ عنه جلده والسلخ إزالة جلد الحيوان الميت عن جسده“[1], وقال العيني: "(فَانْسَلَخَ مِنْهَا)اتبع هواه فانسلخ من الإيمان"[2], وقال ابن القيم: "أي خرج منها كما تنسلخ الحية من جلدها.. ولم يقل فسلخناه منها لأنه هو الذي تسبب إلى انسلاخه منها بإتباع هواه.. فلما انسلخ من آيات الله ظفر به الشيطان ظفر الأسد بفريسته"[3].
قال ابن الجوزي: "قوله تعالى(فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث)معناه أن هذا الكافر إن زجرته لم ينزجر وإن تركته لم يهتد فالحالتان عنده سواء.. والتشبيه (وقع) بالكلب اللاهث خاصة.. فضربه الله مثلا لمن كذب بآياته"[4], وقال الكلبي: "(و)اللهث.. تنفس بسرعة وتحريك أعضاء الفم وخروج اللسان"[5], وقال السيوطي: "عن قتادة.. قال هذا مثل ضربه الله لمن عرض عليه الهدى فأبى أن يقبله وتركه"[6], وقال البغوي: "نظيره قوله تعالى (وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَىَ لاَ يَتّبِعُوكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ) الأعراف 193"[7], وقال الرازي: "هو عام فيمن عرض عليه الهدى فأعرض عنه.. وهو قول قتادة وعكرمة وأبي مسلم.. وهذا يقع على كل كافر لم يؤمن بالأدلة وأقام على الكفر.. واللهث هو أن الكلب إذا ناله الإعياء عند شدة العدو وعند شدة الحر فإنه يدلع لسانه.. واعلم أن هذا التمثيل ما وقع بجميع (أحوال) الكلاب وإنما وقع بالكلب اللاهث.. قال تعالى (ذّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا)فعم بهذا التمثيل جميع المكذبين بآيات الله.. فحصل التمثيل بينهم وبين الكلب.. لأنهم.. بقوا على الضلال في كل الأحوال مثل هذا الكلب الذي بقي على اللهث في كل الأحوال.. (أي) صاروا في التمثيل.. بمنزلة الكلب اللاهث"[8].
وينقلك التمثيل إلى القفار في يوم قائظ تلهث فيه الكلاب لتعاين في مخيلتك هارب يتصبب عرقا تتلاحق أنفاسه قد ناله الإعياء من العدو والحر فارا من أمان العشيرة ساعيا للضلال والتعرض للضواري والموت كمن تردي من شاهق لا يستجيب لواعظ ولا يسترد رشده ويرتدع, يتمسك بالحطام ويلتصق بالرغام متهالك هالك كجيفة لم يتبق فيها علامة حياة, ولا يقف التمثيل عند تصوير تلاحق أنفاسه باللهاث بيانا للفرار من الحق وإنما لا يُبقي له بعد سلخه لجلده إلا اللهاث فحسب على كل حال بغير عرق فيشبهه بالكلب في الطبيعة كما في اللهاث, قال أبو السعود: "(إنما هو) تشبيه.. ما اعتراه بعد الانسلاخ"[9], وليس عند الكلب غدد عرق لتنظيم درجة الحرارة كما في جلد الإنسان ولذا لا يملك إلا اللهاث على الدوام سواء أهجته فبذل جهدا أو تركته.
وهكذا اشتمل العرض على جملة مشاهد يجسد كل منها هلاك ذلك المعرض عن الحقيقة بعد معاينة الدليل بيانا لهلاكه يوم الحساب؛ أولها مشهد المنسلخ الجلد المتعري بلا وقاية تصويرا لفاقد الإيمان والسلخ لا يكون إلا لجلد الذبائح, ومشهده كفريسة أطمعت الشيطان بغوايته فأتبعها كالأسد وافترسه, ومشهد المتردي من شاهق بلا مستند يبقيه ساميا فهلك, ومشهد الأسير هواه كميت لاصق بالأرض بلا حركة تنم عن حياة, أيفر عاقل من الطريق البين ليضل ويهلك!, إنه ليس مجرد فرار فحسب وإنما هو مشهد تلمح فيه كذلك إيغالا في الإعراض عن الحقيقة بإطالة اللسان نيلا من الحقيقة, وكأنه تعالى يقول: "أَشِحّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَآءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ كَالّذِي يُغْشَىَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحّةً عَلَى الْخَيْرِ أوْلَـَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ فَأَحْبَطَ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً" الأحزاب 19،وهكذا المكابر نافر دائما من البينات يفر كالحمر رهبة من الأسد وحتى لو طاردته حجة عقلها سيظل دوما لاهثا من الفرار ولن يضر النبوة الخاتمة علو نباحه, وهكذا في خضم هذه الروائع التي تجسد طوية هذا المسلوخ الجلد يتألق القرآن الكريم ويشبهه بالكلب خاصة الذي فاقه ببقائه على فطرته لم يفقد جلده وعلى طبيعته لا يملك إلا اللُهاث سواء بذل جهدا أو سكن, ولا تخرج الحرارة الزائدة عند الكلب إلا باللهاث حتى ولو لم يخرج لسانه لأن جلده يخلو من الغدد العرقية, وبهذا قد كشفت الأيام مغزى تشبيه المسلوخ الفاقد لجلده بالكلب, وإبطال الإنسان لتفكيره كأنه بلا عقل وفقده للإيمان الواقي يجسده فقده لجلده الواقي ليصبح تماما كالكلب لا يملك إلا اللُهاث في كل الأحوال ناهيك عن كونه حيوانا بلا عقل.
تفصيل الجانب العلمي:
لماذا يعرق الإنسان؟؛ لغرض حكيم مقصود لا تصنعه صدفة يشهد بحكمة الله تعالى وقدرته, ينتج الجسم حرارة نتيجة للعمليات الحيوية بالجسم واستهلاك طاقة الغذاء, ومع بذل الجهد والنشاط العضلي خاصة في القيظ تتولد حرارة زائدة فتنشط غدد لتفرز العرق فتنخفض درجة الحرارة مع تبخره؛ وكأنها على علم مسبق بحقائق علم الفيزياء, ولكن قيامها بالمهمات بلا وعي منها وعقل يوجه للصواب يشي بالقدرة المبدعة الهادية, ولك أن توقن بقدرة الله تعالى وعلمه وحكمته في خلقه عندما تدرك أن تنظيم درجة الحرارة وظيفة مكلف بها جهاز كامل من العاملين وليست غدد العرق فحسب, فلا تملك أن توجه نفسها فضلا عن توجيه غيرها وإنما هي مهمة مسبقة الإعداد يشترك فيها جملة عاملين موجَّهين والكون كله يشهد على الدوام بحكمة الله تعالى وقدرته وهدايته لكل شيء نحو الأصوب بحكمة وقصد, قال تعالى: "سَبّحِ اسْمَ رَبّكَ الأعْلَىَ. الّذِي خَلَقَ فَسَوّىَ. وَالّذِي قَدّرَ فَهَدَىَ" الأعلى 1-3، وقال تعالى: "قَالَ رَبّنَا الّذِيَ أَعْطَىَ كُلّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمّ هَدَىَ" طه 50.
وجهاز تنظيم درجة الحرارة في جسم الإنسان على أعلى درجة من الإتقان بحيث يحافظ على ثبات درجة حرارة الجسم نسبيا, فإذا ارتفعت نشطت آليات لتخفيضها وإذا انخفضت نشطت آليات أخرى لرفعها للمستوى المقدر, والنرد لا يأتي دوما بنفس النتيجة ولكن جهاز تنظيم الحرارة مقدر الوظيفة سلفا فكيف إذن يرد مجرد هاجس أن يُصنع ويعمل هكذا صدفة!, وتتراوح درجة حرارة جسم الإنسان بين 36.1 درجة مئوية و37.8 درجة مئوية (97–100 درجة بمقياس فهرنهيت), وعند فرط زيادة الحرارة Hyperthermiaبتجاوز تلك الحدود الطبيعية تنشط مستقبلات حسية Thermoreceptorsمعدة خصيصا لتنقل إشارات كهربية إلى مركز المراقبة الحرارية في المخ ويقع تحديدا في منطقة تحت المهاد Hypothalamus, وعلى الفور يستنفر مركز المراقبة جهاته التابعة في الجسم للعمل وبدورها تتجاوب بلا تدبير منها أو وعي ذاتي بالحكمة, فتتوسع الأوعية الدموية بالجلد والنتيجة العملية ترشدك للحكمة وهي زيادة الحرارة المفقودة مباشرة عن طريق الجلد, ناهيك أن يُعد الجلد كله مسبقا لتلك المهمة فيزداد نشاط غدد العرق لتفرز كميات أكبر ومع تبخر العرق تنخفض الحرارة, وعند فرط نقص الحرارة Hypothermiaتعمل آليات أخرى على المحافظة على الحرارة ورفعها, فتنقبض الأوعية الدموية في الجلد ويقل تعريض الدم لمزيد من فقد الحرارة, وترتجف العضلات الإرادية لا إراديا بالقشعريرة Shiveringوتتسارع عملية احتراق المواد الغذائية داخلها فتنتج كميات أكبر من الحرارة, أرأيت بديع صنع الله وسبق الإعداد بعلم واقتدار!.

يحتوي جلد الإنسان على غدد عرقية تختص بتنظيم درجة حرارة الجسم.
لا يحتوي جلد الكلب على غدد عرقية مثل الإنسان ولذا لا يملك إلا اللهاث.
رد مع اقتباس
  #45  
قديم 02-02-2007, 06:45 PM
الصورة الرمزية المستغفرة
المستغفرة المستغفرة غير متصل
عضو مبدع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2007
مكان الإقامة: سوريا
الجنس :
المشاركات: 1,063
الدولة : Syria
افتراضي

تفصيل الجانب العلمي:
لماذا يعرق الإنسان؟؛ لغرض حكيم مقصود لا تصنعه صدفة يشهد بحكمة الله تعالى وقدرته, ينتج الجسم حرارة نتيجة للعمليات الحيوية بالجسم واستهلاك طاقة الغذاء, ومع بذل الجهد والنشاط العضلي خاصة في القيظ تتولد حرارة زائدة فتنشط غدد لتفرز العرق فتنخفض درجة الحرارة مع تبخره؛ وكأنها على علم مسبق بحقائق علم الفيزياء, ولكن قيامها بالمهمات بلا وعي منها وعقل يوجه للصواب يشي بالقدرة المبدعة الهادية, ولك أن توقن بقدرة الله تعالى وعلمه وحكمته في خلقه عندما تدرك أن تنظيم درجة الحرارة وظيفة مكلف بها جهاز كامل من العاملين وليست غدد العرق فحسب, فلا تملك أن توجه نفسها فضلا عن توجيه غيرها وإنما هي مهمة مسبقة الإعداد يشترك فيها جملة عاملين موجَّهين والكون كله يشهد على الدوام بحكمة الله تعالى وقدرته وهدايته لكل شيء نحو الأصوب بحكمة وقصد, قال تعالى: "سَبّحِ اسْمَ رَبّكَ الأعْلَىَ. الّذِي خَلَقَ فَسَوّىَ. وَالّذِي قَدّرَ فَهَدَىَ" الأعلى 1-3، وقال تعالى: "قَالَ رَبّنَا الّذِيَ أَعْطَىَ كُلّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمّ هَدَىَ" طه 50.
وجهاز تنظيم درجة الحرارة في جسم الإنسان على أعلى درجة من الإتقان بحيث يحافظ على ثبات درجة حرارة الجسم نسبيا, فإذا ارتفعت نشطت آليات لتخفيضها وإذا انخفضت نشطت آليات أخرى لرفعها للمستوى المقدر, والنرد لا يأتي دوما بنفس النتيجة ولكن جهاز تنظيم الحرارة مقدر الوظيفة سلفا فكيف إذن يرد مجرد هاجس أن يُصنع ويعمل هكذا صدفة!, وتتراوح درجة حرارة جسم الإنسان بين 36.1 درجة مئوية و37.8 درجة مئوية (97–100 درجة بمقياس فهرنهيت), وعند فرط زيادة الحرارة Hyperthermiaبتجاوز تلك الحدود الطبيعية تنشط مستقبلات حسية Thermoreceptorsمعدة خصيصا لتنقل إشارات كهربية إلى مركز المراقبة الحرارية في المخ ويقع تحديدا في منطقة تحت المهاد Hypothalamus, وعلى الفور يستنفر مركز المراقبة جهاته التابعة في الجسم للعمل وبدورها تتجاوب بلا تدبير منها أو وعي ذاتي بالحكمة, فتتوسع الأوعية الدموية بالجلد والنتيجة العملية ترشدك للحكمة وهي زيادة الحرارة المفقودة مباشرة عن طريق الجلد, ناهيك أن يُعد الجلد كله مسبقا لتلك المهمة فيزداد نشاط غدد العرق لتفرز كميات أكبر ومع تبخر العرق تنخفض الحرارة, وعند فرط نقص الحرارة Hypothermiaتعمل آليات أخرى على المحافظة على الحرارة ورفعها, فتنقبض الأوعية الدموية في الجلد ويقل تعريض الدم لمزيد من فقد الحرارة, وترتجف العضلات الإرادية لا إراديا بالقشعريرة Shiveringوتتسارع عملية احتراق المواد الغذائية داخلها فتنتج كميات أكبر من الحرارة, أرأيت بديع صنع الله وسبق الإعداد بعلم واقتدار!.



يحتوي جلد الإنسان على غدد عرقية تختص بتنظيم درجة حرارة الجسم.


لا يحتوي جلد الكلب على غدد عرقية مثل الإنسان ولذا لا يملك إلا اللهاث.



والشاهد أن في جلد الإنسان مجهريا غدد عرق تختص بتنظيم درجة حرارة الجسم Eccrine Sweat Glands, ولا يوجد منها في جلد الكلب سوى القليل في أقدامه وتوجد بدلا عنها غدد تختص بالترطيب وتمييز رائحة الكلاب Apocrine Sweat Glands, ولا يوجد للكلب إذن غدد عرق كالإنسان وإنما يماثله فحسب بسلخ جلد الإنسان وبهذا قد كشفت المجاهر مغزى التشبيه في القرآن الكريم, فبفقد الإنسان لجلده الواقي تجسيدا لفقده الإيمان وإبطاله التفكير الواعي كأنه بلا عقل يصبح كالكلب تماما الذي يفتقر للعرق ولا يملك إلا اللُهاث فضلا عن كونه حيوانا بلا عقل, والتعريف في لفظ (الكلب) للجنس ولا تملك بالفعل كل أنواع الكلاب إلا اللهاث Panting, فالكلب الدانماركي العملاق Great Dane هو أطول الأنواع ويبلغ ارتفاعه حوالي 100 سنتيمتر ولا يكاد اللهاث أن يفارقه, وكذلك أقصرها وهو الكلب الإنجليزي القزم Yorkshire Terrierحيث يبلغ إرتفاعه حوالي 6.5 سنتيمتر فقط, وكذلك كل أنواع الحيوانات الكلبية Canine Animalsمثل الذئب والنمر والأسد فهي تلهث جميعا من حين لآخر وعند العدو, واللهاث أنفاس سريعة ضحلة تنتقل فجأة من حوالي 30-40 مرة في الدقيقة إلى حوالي 300-400 مرة في الدقيقة وتتجدد النوبات تباعا حتى عند الراحة مع فتح الفم وإخراج اللسان لتخرج الحرارة الزائدة مع بخار الماء في النفس, وأثناء الراحة يلهث الكلب من حين لآخر فتخرج الحرارة الزائدة ومع العدو يشتد لهاث الكلب فهو في أغلب الأحوال لاهث, ولم يقل القرآن (فمثله كالكلب) وإنما قال (فمثله كمثل الكلب) للمباعدة بينهما تنزيها للكلب عن الكافر المتنكر لفطرة الإيمان, فأي حديث يداني القرآن في دقة التعبير وروعة البيان!.
والفارق الجوهري إذن بين جلد الإنسان وجلد الكلب هو وجود الغدد العرقية المختصة بتنظيم درجة الحرارة ولن يشابه الإنسان الكلب حتى يفقد تلك الغدد بسلخ جلده, والعجيب أن تشبيهه بالكلب لم يقم في القرآن حتى سلخ عنه جلده تمثيلا بتجرده من فطرة الإيمان فأصبح كالكلب تماما لا يملك سوى اللهاث سواء طاردته فبذل جهدا أو تركته, وكذا المتجرد من فطرته سواء أقمت عليه حجة أو غفل عنها باقي دوما على العناد والإعراض والتكذيب.
قال الطبري: "إنما هو (لجميع الناس) مثل ضربه الله.. لسائر المكذبين بآيات الله.. ليتفكروا.. فيعلموا حقيقة أمرك وصحة نبوتك.. في علمك بذلك.. (لأنه يتضمن) الحجة البينة لك عليهم بأنك لله رسول وأنك لم تعلم ما علمت من ذلك.. إلا بوحي.. لعلهم يتفكرون فيعرفون أنه لم يأت بهذا الخبر.. إلا نبي.. ساء مثلا القوم الذين كذبوا بحجج الله وأدلته"[10], وقال سيد قطب: ”قد كانت آيات الهدي.. متلبسة بفطرتهم.. ثم إذا هم ينسلخون منها‏..‏ هابطون من مكان الإنسان إلي مكان الحيوان‏..‏ وكانوا من فطرتهم.. في أحسن تقويم‏ فإذا هم ينحطون منها إلي أسفل سافلين‏..‏ وهل أسوأ من الانسلاخ والتعري من الهدي مثلا؟.. وهل يظلم إنسان نفسه كما يظلمها من يصنع بها هكذا؟.. يعريها من الغطاء الواقي والدرع الحامية‏‏ ويدعها غرضا للشيطان.. وبعد‏..‏ فهل هو نبأ يتلي أم.. مثل يضرب في صورة النبأ..؟ (وحتى لو لم يكن هذا النبأ مثلا فالحكمة تقتضي منا) أن نأخذ من النبأ ما وراءه.. وما أكثر ما يتكرر هذا النبأ في حياة البشر‏“[11],‏ وقد كان نصيب المعرض عن دلائل التنزيل أن أعرض عنه البيان المعجز فتحدث عنه بالغيبة والإبهام, فلم يستحق في ساحة المحاكمة بتهمة التجرد من الفطرة أن يذكر له اسما وهو منزوي في طرف قفص الاتهام في ركن المخيلة خجلا لا يستطيع أن يداري سوأته ولا يملك دفاعا عن جريمته, واستسلم راغما إلى الحكم بإعدامة عدة مرات بطرق متنوعة ليكون مثلا لأمثاله, يقول العلي القدير: (وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاّ الْعَالِمُونَ) العنكبوت 43.
(ثانيا) النهايات العصبية الحسية
Sensory Nerve endings
قد تناول كثيرون بالدراسة دلالة القرآن الكريم على وجود تركيبات دقيقة في الجلد تقوم بوظيفة الإحساس Sensation, وإذا تدمرت تلك التركيبات عند حريق الجلد يتعطل نقل الإحساس ولا سبيل لإعادته سوى بتجديد الجلد وتبديل التالف, يقول العلي القدير: "إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنّ اللّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً" النساء 56، ولكنها هنا ضميمة تبين استيعاب القرآن الكريم لتلك الدقائق المجهرية بالجلد والعلم بوظائفها.
يقول الدكتور سالم عبد الله المحمود: " توجد (في الجلد).. خلايا تتأثر بالبيئة الخارجية، وهي مخصصة لحاسة اللمس وتشتمل على جسيمات مايسنر MEISSNERS CORPUSCLESوجسيمات ميرگل MERKELS CORPUSCLES, (وجسيمات باتشيني Pacinian corpuscles وتنقل الإحساس بالضغط إلى المخ), وبصيلات كروز KRAUSE END BULBESوهي مخصصة للإحساس بالبرودة, واسطوانات روفيني RUFFINI CYLINDERSوهي مخصصة للإحساس بالحرارة, ونهايات الأعصاب الحرة وهي مخصصة للإحساس بالألم..,(و)الجلد هو من أهم أجزاء جسم الإنسان إحساساً بالألم نظراً لأنه الجزء الأغنى بنهايات الأعصاب الناقلة للألم والحرارة.. (و)لو استعرضنا درجات الحروق التي يصاب بها الإنسان لوجدنا أن هناك حروقاً من الدرجة الأولى وحروقاً من الدرجة الثانية.. ثم حروقا من الدرجة الثالثة.. ولو ألقينا نظرة إلى ما يصيب الجلد نتيجة لهذه الأنواع الثلاثة من الحروق لوجدنا أن حروق الدرجة الأولى تصيب طبقة البشرة القرنية وتظهر على هيئة التهاب جلدي.. وفي هذه الحالة يحدث انتفاخ وألم بسيط لأن الحرق من الدرجة الأولى يصيب خلايا الطبقة السطحية, ومن المعتاد أن ظاهرة الاحمرار والانتفاخ والألم تختفي خلال يومين أو ثلاثة أيام.. وإذا طالت الإصابة ما تحت الطبقة السطحية من الجلد صنفت من الدرجة الثانية.. وهي تنقسم إلى قسمين: سطحي وعميق,(و)يحدث في حالة الحروق السطحية من الدرجة الثانية أن طبقة البشرة (ظاهر الجلد) تنضج وكذلك الأدمة - طبقة باطن الجلد- التي تحت البشرة, ويحدث في هذه الحالة انفصال طبقة البشرة عن طبقة الأدمة ، وتتجمع مواد مفرزة أو نتحات مابين هاتين الطبقتين.. ويعاني المصاب في هذه الحالة من آلام شديدة وزيادة مفرطة في الإحساس بالألم نتيجة لإثارة النهايات العصبية المكشوفة, ويبدأ التئام الجلد خلال أيام قد تصل إلى أربعة عشر يوماً نتيجة لعملية التجدد والانقلاب التي تحدث في الجلد, ولو انتقلنا إلى حروق الدرجةالثالثة لوجدنا أن طبقة الجلد تصاب بكاملها، وربما تصل الإصابة إلى العضلات أو العظام، ويفقد الجلد مرونته ويصبح قاسياً وجافاً.. وفي هذه الحالة فإن المصاب لا يحس بالألم كثيراً لأن نهايات الأعصاب تكون قد تلفت بسبب الاحتراق.., ولقد كشف العلم الحديث أن النهايات العصبية المتخصصة للإحساس بالحرارة وآلام الحريق لا توجد بكثافة إلا في الجلد, وما كان بوسع أحد من البشر قبل اختراع المجهر وتقدم علم التشريح الدقيق أن يعرف هذه الحقيقة التي أشار إليها القرآن الكريم منذ أربعة عشر قرناً مضت"[12].
رد مع اقتباس
  #46  
قديم 02-02-2007, 06:47 PM
الصورة الرمزية المستغفرة
المستغفرة المستغفرة غير متصل
عضو مبدع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2007
مكان الإقامة: سوريا
الجنس :
المشاركات: 1,063
الدولة : Syria
افتراضي

ثالثا) تباين مناطق الجلد في الإحساس
Skin Regional Variation in Sensation
لوحظ أن ترتيب الأعضاء في نظم القرآن الكريم يتفق مع الواقع فتعطى العناية الأكبر بتقديم الأهم وظيفةً والممنوح أكبر مساحة بالدماغ أو المتقدم وظيفيا وتشريحيا تبعا للمقام, فالعين نحو الأمام تليها الأذن وفي النظم تسبق العين الأذن, ومركز الإبصار يسبقه مركز السمع وفي النظم يسبق السمع البصر, ويقع بينهما مركز الكلام وهو تماما كذلك في النظم, ويغلب التصوير الدلالي في الكتاب العزيز فترد الوظائف العقلية مسلوبة واصفة من لا ينتفعون بها بالصمم والبكم والعمى, وإذا انقلبت الهيئة كما في مشاهد خزي المعذبين في الآخرة ينقلب الترتيب في النظم محافظا على ترتيب أصل الخلقة, وفي المنطقة الحركية في المخ أبرز الأعضاء هم الوجه تليه اليد يليها القدم وهو نفس الترتيب تماما في النظم, ولا يختلف الترتيب عنها في المنطقة الحسية سوى بزيادة منطقة الرأس قبل القدم والعجيب أنه نفس الترتيب تماما في النظم, ويكتفي الكتاب الكريم بالأهم في مقام بيان أهم المناطق في الجلد إحساسا فيتخير الوجه واليد والبنان خاصة الأنامل ويحفظ الترتيب وفق درجة الإحساس وعدد المستقبلات والمساحة الممنوحة بالدماغ فيقدم الجباه والجنوب على الظهور.
(1) تتقدم العين في النظم على الأذن تماما كما هي في الواقع:
· "أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا" الأعراف 195.
· "وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ" المائدة 45.
(2) تتقدم وظيفة السمع في النظم على وظيفة البصر وفق أصلها المركزي في المخ:
· "أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ" يونس 31.
· "وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ" البقرة 7.
· "وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ" البقرة 20.
· "أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ" الزخرف 40.
· "مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ" هود 20.
· "أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ" محمد 23.

(3) توجد منطقة بالمخ تسمى منطقة فيرنيكي Wernicke's areaوظيفتها الوعي بالكلام ولذا تسمى منطقة اللغة ******** areah, وتؤدي إصابتها إلى البكم بفقدان القدرة على الكلام السوي لفقدان الوعي باللغة Wernicke's Aphasia, وهي تتوسط مركزي السمع والبصر بالمخ, والبكم في النظم يتوسط الصمم والعمى كوظيفتين مسلوبتين بتعطيلهما:
· "صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ" البقرة 18.
· "صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ" البقرة 171.
· "وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ" الأنعام 39.

(4) تنعكس الهيئة في مشهد انتكاس المعذبين في الآخرة لترسيخ الخزي والمخالفة للخلقة السوية بمشهد حسي بلغ الانتكاس فيه الغاية, والعجيب المذهل أن ينعكس ترتيب الوظائف كذلك نظما حفاظا على أصل الترتيب في الخلقة السوية:
· ”وَلَوْ تَرَى إِذْ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا“ السجدة 12.
· "وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا" الإسراء 97.
(5) تترتب الأجهزة في النظم وفق تطورها الوظيفي في مقام تدرج التكوين (السمع ثم البصر), والمعلوم أن الجنين يستطيع السمع للأصوات كضربات قلب الأم من الشهر الخامس بينما يتأخر اكتمال الجهاز البصري إلى ما بعد الولادة:
· "إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا" الإنسان 2.
(6) في النظم الجلد والأحشاء من أهم المناطق إحساسا بالألم تماما كما هو في الواقع, والطبقة الخارجية من الأمعاء هي الأكثر ثراء بالأعصاب الحسية ولذا من العجيب أن يشترط النظم تقطيع الأمعاء ليبلغ الشعور بالألم أقصاه:
· "هَـَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ فِي رَبّهِمْ فَالّذِينَ كَفَرُواْ قُطّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مّن نّارِ يُصَبّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ. يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ. وَلَهُمْ مّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ. كُلّمَآ أَرَادُوَاْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمّ أُعِيدُواْ فِيهَا وَذُوقواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ" الحج 19-22.
· "وَقُلِ الْحَقّ مِن رّبّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ إِنّا أَعْتَدْنَا لِلظّالِمِينَ ناراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوجُوهَ بِئْسَ الشّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً" الكهف 29.
· "إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنّ اللّهَ كَانَعَزِيزاً حَكِيماً" النساء 56.
· "وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطّعَ أَمْعَآءَهُمْ" محمد 15.
(7) ترتيب أعضاء الحركة في النظم وفق ترتيبها المخبوء في الدماغ (الوجه ويمثله اللسان والفم ثم اليد ثم القدم):
• "يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" النور 24.
• "الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ" يس 65.
(8) تتفاضل مناطق الجلد الحسية وتتوالى في النظم وفق ترتيبها المخبوء بالدماغ (الوجه ثم اليد ثم الرأس ثم القدم), والفارق البارز مع المنطقة الحركية هو تميز المنطقة الحسية بالرأس بين اليد والقدم, وبحسب الظاهر قد يجعلها الإنسان مجاورة للوجه وليست بين اليد والقدم ولكنها في النظم مرتبة وفق الترتيب بالدماغ رغم تعلق السياق بحكم في التشريع:
· "يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ" المائدة 6.
تتفق المساحة الممنوحة لكل منطقة حسية في المخ مع كثافة أعضاء الحس بالمنطقة الجلدية التي تمثلها, وتمثل كل مناطق الجلد فيما يعرف باسم الإنسان الحسي Sensory Homunculus, وهو يوضح أن أكثر المناطق إحساسا هي منطقة الوجه خاصة اللسان والشفتين ثم اليدين خاصة أطراف الأصابع ثم القدمين.
(9) الاكتفاء بالوجه وتعقبه اليدين وهما أهم منطقتين في الجلد إحساسا واعتبارا في المخ:
· "فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ" المائدة 6.
· "فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ" النساء 43.
(10) الاكتفاء بالوجه وهو من أهم منطقتين في الجلد إحساسا واعتبارا في المخ:
· "تَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ النَّارُ" المؤمنون 104.
· "وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ" إبراهيم 50.
· "يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النّارِ عَلَىَ وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسّ سَقَرَ" القمر 48.
· "وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ" النمل 90.
· "أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" الزمر 24.
· "يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ" الأحزاب 66.
· "الّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَىَ وُجُوهِهِمْ إِلَىَ جَهَنّمَ أُوْلَـَئِكَ شَرّ مّكَاناً وَأَضَلّ سَبِيلاً" الفرقان 34.
· "وَقُلِ الْحَقّ مِن رّبّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ إِنّا أَعْتَدْنَا لِلظّالِمِينَ ناراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوجُوهَ بِئْسَ الشّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً" الكهف 29.
(11) الاكتفاء باليد خاصة الأنامل أو البنان وهي من أهم منطقتين في الجلد إحساسا واعتبارا في المخ:
· "وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ" الفرقان 27.
· "وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوَاْ آمَنّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الْأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ" آل عمران 119.
· "إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ" الأنفال 12.
(12) النظم يحفظ الترتيب في مقام بيان أهم مناطق الجلد إحساسا فيقدم الوجه ومقدمة الجسم ويؤخر المنطقة الخلفية والمعلوم أنها أقل ثراء في الاعصاب الحسية:
· "فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ" محمد 27.
· "وَلَوْ تَرَىَ إِذْ يَتَوَفّى الّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ" الأنفال 50.
· "لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمْ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ" الأنبياء 39
"وَالّذِينَ يَكْنِزُونَ الذّهَبَ وَالْفِضّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ. هَـَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ" التوبة 34و35.
وظاهرة الحفاظ على الرتبة في نظم الكتاب العزيز بما يتفق تماما مع أصل الخلقة تكوينيا وتشريحيا ووظيفيا لا يمكن نسبتها للصدفة خاصة مع التثنية والتكرير والحفاظ عليها بلا استثناء رغم تباين المقامات واختلاف الوظائف والأعضاء, ولا توجد ظاهرة الحفاظ على الرتبة بما يوافق الحقائق الخفية في أي كتاب يُنسب اليوم للوحي غير القرآن الكري
رد مع اقتباس
  #47  
قديم 02-02-2007, 07:00 PM
الصورة الرمزية المستغفرة
المستغفرة المستغفرة غير متصل
عضو مبدع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2007
مكان الإقامة: سوريا
الجنس :
المشاركات: 1,063
الدولة : Syria
افتراضي

(رابعا) العضلة الناصبة للشعرة
Arrector pili Muscle
يتكون الجلد من ثلاث طبقات هي: البشرة epidermisوالأدمة Dermisوالمنطقة التحت جلدية Hypodermis, وتتصل بالشعرة غدة دهنية Sebaceous Gland تفرز مادة دهنية Sebumلترطيبها والحفاظ عليها, وتتصل بها كذلك العضلة الناصبة للشعرة Arrector piliوهي عضلة لا إرادية تتقلص بسبب البرد أو الإثارة كالفزع والرعب والمفاجآت بغتة فيقشعر الجلد فيما يسمى قفوف الجلد.
وعندما تقل درجة الحرارة يصاب الإنسان بالقشعريرة Shiveringوهي ارتجافات لا إرادية للعضلات الإرادية فتتولد حرارة, ومع اشتداد البرودة يتجعد الجلد ويمتلئ بندب صغيرة نتيجة لتقبض تلك العضلات المجهرية التي تنصب الشعر في بعض الأحوال كالخشية والوجل والهلع, ولذلك يماثل حينئذ قشرة البرتقالة ويسمى كذلك بجلد الأوز Goose Bumps.

Shivering and Goose Bumps
قشعريرة الجلد تظهر في شكل ندبات تماثل ندبات قشـرة البرتقالةنتيجة تقلص عضلات مجهرية في الجلد تصاحب حالة القشعريرة.



وفي قول الله جل وعلا: "اللّهُ نَزّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مّتَشَابِهاً مّثَانِيَ تَقْشَعِرّ مِنْهُ جُلُودُ الّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبّهُمْ ثُمّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىَ ذِكْرِ اللّهِ ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ" الزمر 23؛ القشعريرة حالة من التقبض والتيبس والصلابة, وفي مقابلها ورد (اللين) فدل سياقا على الاسترخاء والمرونة, وقد نسب التعبير القشعريرة للجلد صراحة ووصفه باللين بعد تقبض فأثبت تكوينه العضلي؛ خاصة مع قرنه بالقلب العضلي الذي ينقبض ويلين بالمثل ممثلا به مَلَكَة التفكر تجسيدا للمكانة لا بيانا لمكان العقل لأنها هي التي تعي دلائل الوحي فينال الإنسان الخشية ويخبت لله.
قشعريرة الجلد حقيقة علمية ودلالة نصية:
قال أبو السعود: "(تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ)..مسوق لبيانِ آثارِه الظَّاهرةِ في سامعيهِ بعد بيانِ أوصافهِ في نفسِه.. والاقشعرارُ التَّقبضُ, يقال اقشعرَّ الجلدُ إذا تقبَّضَ تقبُّضاً شَديداً.. يُقال اقشعرَّ جلدُه (أي) وقفَ شعرُه إذا عرضَ له خوفٌ شديدٌ من منكرٍ هائلٍ دهمه بغتة, والمرادُ إمَّا بيانُ إفراطِ خشيتِهم بطريقِ التَّمثيلِ والتَّصويرِ أو بيانُ حصولِ تلك الحالةِ وعرُوضِها لهم بطريقِ التَّحقيقِ.. والمعني أنَّهم إذا سمعُوا القُرآنَ وقوارعَ آياتِ وعيده أصابتُهم هيبةٌ وخشيةٌ تقشعرُّ منها جلودُهم وإذا ذُكِّروا رحمةَ الله تعالى تبدَّلتْ خشيتُهم رجاءً ورهبتُهم رغبةً وذلك قولُه تعالى (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله), أي ساكنةً مطمئنَّةً إلى ذكر رحمتِه تعالى.. (ذلك هُدَى الله يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء)أنْ يهديه بصرفِ مقدورِه إلى الاهتداءِ بتأمُّلِه فيما في تضاعيفِه من شواهدِ الحق ودلائلِ كونِه من عندِ الله تعالى"[13],وقال ابن عجيبة: "(تَقْشَعِرُّ منه جُلودُ الذين يخشون ربهم)أي ترتعد وتنقبض والاقشعرار التقبُّض، يقال اقشعرّ الجلد إذا انقبض ويقال اقشعر جلده ووقف شعره إذا عرض له خوف شديد من مُنكر هائل دهمه بغتة, والمعنى أنهم إذا سمعوا القرآن وقوارعه وزواجره أصابتهم هيبة وخشية تقشعر منه جلودهم وإذا ذكروا رحمة الله تعالى تبدلت خشيتهم رجاءً ورهبتهم رغبةً وذلك قوله تعالى (ثم تَلينُ جُلودُهم وقلوبُهم إِلى ذكرِ الله)أي ساكنة مطمئنة.. بتأمله فيما في تضاعيفه من شواهد الحق ودلائل كونه من عند الله"[14].
وقال الألوسي: "قوله تعالى (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) .. مسوق لبيان آثاره الظاهرة في سامعيه بعد بيان أوصافه في نفسه ولتقرير كونه أحسن الحديث, والإقشعرار التقبض يقال اقشعر الجلد إذا تقبض تقبضاً شديداً.. يقال اقشعر جلده (و)وقف شعره إذا عرض له خوف شديد من أمر هائل دهمه بغتة، والمراد تصوير خوفهم بذكر لوازمه المحسومة.. وقيل هو تصوير للخوف بذكر آثاره وتشبيه حالة بحالة فيكون تمثيلاً.., والأول أحسن لأن تشبيه القصة بالقصة على سبيل الاستعارة ههنا لا يخلو عن تكلف, وأستظهر كون المراد بيان حصول تلك الحالة وعروضها لهم بطريق التحقيق، والمعنى أنهم إذا سمعوا القرآن وقوارع آيات وعيده أصابتهم رهبة وخشية تقشعر منها جلودهم وإذا ذكروا رحمة لله تعالى عند سماع آيات وعده تعالى وألطافه تبدلت خشيتهم رجاء ورهبتهم رغبة, وذلك قوله تعالى (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله)أي ساكنة مطمئنة إلى ذكر رحمته تعالى.. وليس في الآية أكثر من نعت أوليائه باقشعرار الجلود من القرآن ثم سكونهم إلى رحمته عز وجل وليس فيها نعتهم بالصعق والتواجد والصفق كما يفعله بعض الناس.. و(ذلك هُدَى الله) الإشارة إلى الكتاب الذي شرح أحواله (يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء)أي من يشاء الله تعالى هدايته بأن يوفقه سبحانه للتأمل فيما في تضاعيفه من شواهد الحق ودلائل كونه من عنده عز وجل.. وقيل الإشارة بذلك إلى المذكور من الإقشعرار واللين"[15].
وقال البروسوي: "(تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم)..مسوق لبيان آثاره الظاهرة فى سامعيه بعد بيان اوصافه فى نفسه.. يقال اقشعر جلده اخذته قشعريرة اى رعدة.. وقال بعضهم أصل الاقشعرار تغير.. يحدث فى جلد الانسان عند الوجل والخوف.. (و)الاقشعرار التقبض يقال اقشعر الجلد اذا تقبض تقبضا شديدا.. (و)يقال اقشعر جلده ووقف شعره اذا عرض له خوف شديد من منكر هائل دهمه بغتة, والمراد إما بيان افراط خشيتهم بطريق التمثيل والتصوير او بيان حصول تلك الحالة وعروضها لهم بطريق التحقيق وهو الظاهر؛ إذ هو موجود عند الخشية محسوس يدركه الانسان من نفسه وهو يحصل من التأثر القلبى فلا ينكر, والمعنى أنهم إذا سمعوا القرآن وقوارع آيات وعيده أصابتهم هيبة وخشية تقشعر منها جلودهم.. ثم اذا ذكروا رحمة الله وعموم مغفرته لانت ابدانهم ونفوسهم وزال عنها ما كان بها من الخشية والقشعريرة بان تبدلت خشيتهم رجاء ورهبتهم رغبة.. تسكن وتطمئن إلى ذكر الله لينة غير منقبضة.. استبدلوا بالخشية رجاء فى قلوبهم وبالقشعريرة لينا في جلودهم, فالجملتان إشارة إلى الخوف والرجاء أو القبض والبسط.. و(ذلك) الكتاب.. (هدى الله).. بتأمله فيما في تضاعيفه من الشواهد الخفية ودلائل كونه من عند الله"[16], وقال الرازي: "معنى (تَقْشَعِرُّ جُلُودُهُمْ)تأخذهم قشعريرة وهي تغير يحدث في جلد الإنسان عند الوجل والخوف.. (وكذلك) إذا تأمل في الدلائل.. فهنا يقشعر جلده.. يقال اقشعر جلده من الخوف و(وقف) شعره وذلك مثل في شدة الخوف"[17], وقال ابن الجوزي: "قوله تعالى (تَقْشَعِرُّ منهُ جلودُ الذين يَخْشَوْنَ ربِّهم)أي تأخذُهم قشعريرة وهو تغيُّر يحدُث في جِلْد الإِنسان من الوَجَل"[18], وقال ابن عطية: "وقوله تعالى (تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم)عبارة عن (وقوف) شعر الإنسان عندما يداخله خوف.. وقوله (ذلك هدى الله) يحتمل أن يشير إلى القرآن (كله).. ويحتمل أن يشير إلى.. (نبأ) اقشعرار الجلود (خاصة)"[19].
وقال الشوكاني: "(تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ)..الاقشعرار التقبض، يقال اقشعرّ جلده إذا تقبض وتجمع من الخوف.. قال الزجاج: إذا ذكرت آيات العذاب اقشعرّت جلود الخائفين لله (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ)إذا ذكرت آيات الرحمة, قال الواحدي: وهذا قول جميع المفسرين"[20], وقال القرطبي: "قال سهل بن عبد الله لا يكون خاشعا حتى تخشع كل شعرة على جسده لقول الله تبارك وتعالى (تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم),قلت: هذا هو الخشوع المحمود.. وقد كان السلف يجتهدون في ستر ما يظهر من ذلك"[21], وقال السمين الحلبي: "اقشعرَّ جِلْدُه إذا تقبَّضَ وتَجَمَّعَ من الخوف (ووقف) شعرُه"[22],وقال الثعالبي: "قوله تعالى: (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ)عبارة عَنْ (وقوف) شَعْرِ الإنسانِ عندَما يُدَاخِلُهُ خَوْفٌ.. وهذه علامةُ وقوعِ المعنى المُخْشِعِ (الجالب للخشوع) في قلبِ السامعِ"[23], وفي تفسير الميزان: "قوله (تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم)..الاقشعرار تقبض الجلد تقبضا شديدا لخشية عارضة عن استماع أمر هائل أو رؤيته، وليس ذلك إلا لأنهم على تبصر من موقف نفوسهم قبال عظمة ربهم فإذا سمعوا كلامه توجهوا إلى ساحة العظمة و الكبرياء فغشيت قلوبهم الخشية وأخذت جلودهم في الاقشعرار.. وقوله (ذلك هدى الله يهدي به من يشاء)أي ما يأخذهم من اقشعرار الجلود من القرآن ثم سكون جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله هو هدى الله"[24].
وقال ابن كثير: "قوله: (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ)أي هذه صفة الأبرار عند سماع كلام الجبار المهيمن العزيز الغفار لما يفهمون منه من الوعد والوعيد والتخويف والتهديد تقشعر منه جلودهم من الخشية والخوف (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ)لما يرجون ويُؤمِّلون من رحمته ولطفه.. إذا تليت عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا بأدب وخشية ورجاء ومحبة وفهم وعلم كما قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا),وقال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا)أي لم يكونوا عند سماعها متشاغلين لاهين عنها بل مصغين إليها فاهمين بصيرين بمعانيها؛ فلهذا إنما يعملون بها ويسجدون عندها عن بصيرة لا عن جهل ومتابعة لغيرهم.. يلزمون الأدب عند سماعها كما كان الصحابة رضي الله عنهم عند سماعهم كلام الله من تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم تقشعر جلودهم ثم تلين مع قلوبهم إلى ذكر الله, لم يكونوا يتصارخُون ولا يتكلّفون ما ليس فيهم"[25], وقال القرطبي: "قوله تعالى (وجلت قلوبهم) أي خافت وحذرت مخالفته فوصفهم بالخوف والوجل عند ذكره، وذلك لقوة يقينهم ومراعاتهم لربهم وكأنهم بين يديه.. هذه حالة العارفين بالله الخائفين من سطوته وعقوبته.. حال رسول الله صلى الله عليه وسلم.. (و)حال أصحابه في المعرفة بالله تعالى والخوف منه والتعظيم لجلاله..؛ الفهم عن الله والبكاء خوفا من الله.. قال الله تعالى (وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين).. فمن كان مستنا فليستن"[26].
رد مع اقتباس
  #48  
قديم 02-02-2007, 07:01 PM
الصورة الرمزية المستغفرة
المستغفرة المستغفرة غير متصل
عضو مبدع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2007
مكان الإقامة: سوريا
الجنس :
المشاركات: 1,063
الدولة : Syria
افتراضي

تعبير القلوب التي في الصدور بيان تصويري
يجسد ملكة التفكر والتعقل عند الإنســـان:
الدماغ أو المخ هو في الحقيقة موضع الملكات المميزة للإنسان من قدرات فكرية وذهنية وقيم إنسانية وليس عضلة القلب, ولم يصرح الكتاب العزيز أن القلب هو محل العقل, وقد ذهب كثير من علماء الإسلام إلى أن ذكر القلب في القرآن الكريم من باب ضرب المثل بالعقل الذي تميز به الإنسان في المكانة لا بيانا لمكان العقل تعبيرا عن المعنوي بحسي للإيضاح بالتصوير, قال ابن عاشور: "أطلقت القلوب على.. العقل على وجه المجاز.. وإنما آلة العقل هي الدماغ"[27],وقال بمثل هذا التأويل الجمع الغفير, قال الأصفهاني: "قال بعض الحكماء حيثما ذكر الله تعالى القلب فإشارة إلى العقل"[28], وقال أيضاً: "الرأس أشرف الأعضاء الإنسانية.. و(العقل من الإنسان) بمنزلة القلب من البدن"[29], وقال ابن تيمية: "لفظ القلب قد يراد به المضغة الصنوبرية الشكل التي في الجانب الأيسر من البدن.. كما في الصحيحين عن النبي أن (في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد فإن فسدت فسد لها سائر الجسد), وقد يراد بالقلب باطن الإنسان مطلقا, فإن قلب الشيء باطنه كقلب الحنطة واللوزة والجوزة ونحو ذلك.. وعلى هذا فإذا أريد بالقلب هذا فالعقل متعلق بدماغه.. ولهذا قيل إن العقل في الدماغ كما يقوله كثير من الأطباء, ونقل ذلك عن
وثيقة تاريخية تبين الاعتقاد السـائد في أوروبا فيالقرون الوسطى باعتبار القلب هو مركز الأحاسيس.
الإمام أحمد"[30], وفي قوله تعالى (إِنّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىَ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ)؛قال ابن القيم: "لم يرد بالقلب هنا
مضغة اللحم المشتركة بين الحيوانات"[31], وفي قوله تعالى: (وَاعْلَمُواْ أَنّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)؛قال الرازي: "قال مجاهد المراد من القلب هاهنا العقل.. وجعل القلب كناية عن العقل جائز كما قال تعالى: (إِنّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىَ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ)أي لمن كان له عقل"[32],وقال أبو حامد الغزالي: ”وحيث ورد في القرآن والسنة لفظ القلب فالمراد به المعنى الذي يفقه من الإنسان ويعرف حقيقة الأشياء وقد يكنى عنه بالقلب الذي في الصدر“[33],وقال القنوجي: "القلب له معنيان أحدهما اللحم الصنوبري المودع في الجانب الأيسر من الصدور.., والحيوانات كلها متشاركة في هذا النوع من القلب.., وثانيهما لطيفة ربانية نورانية.. وهو المخاطب والمكلف وبه يثاب الإنسان ويعاقب"[34],وتتمايز أحوال الناس في الملكات الفكرية والعاطفية والأمور الاعتقادية بينما لا تتمايز القلوب العضوية مما يعني أنها تمثيل للعقول والأفكار وبيان أن فاقدي الإيمان موتى الفكر في قوله تعالى: "تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ" البقرة 118، والنظائر الحسية والمعنوية عديدة للتعبير عن الملكات المميزة للإنسان وهي ليست مقصورة على لفظ القلوب وحده حتى يظن أنها محل العقل, فقد أشار القرآن الكريم إلى تلك الملكات أو بعضها بلفظ الافئدة وهي في اللغة قد تعني الأحشاء ومثلها الصدور والألباب والنهى, وكذلك الأحلام في قوله تعالى: "أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بِهَـَذَآ" الطور 32،والحجر في قوله تعالى: "هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لّذِى حِجْرٍ" الفجر 5،وفي قوله تعالى (إِنّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىَ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) ق 37؛ يشرح عبد القاهر الجرجاني أن لفظ القلب تمثيل للعقل وليس اسما له فيقول: "جعل الذي لا يعي ولا يسمع ولا ينظر ولا يتفكر كأنه قد عُدِمَ القلب من حيث عدم الانتفاع به (أي مات).. كما جُعل الذي لا ينتفع ببصره وسمعه ولا يفكر فيما يؤديان إليه ولا يحصل من رؤية ما يرى وسماع ما يسمع على فائدة بمنزلة من لا سمع له ولا بصر, فأما تفسير من يفسره على أنه بمعنى من كان له عقل.. كأن القلب اسم للعقل.. فمحال باطل لأنه يؤدي إلى إبطال الغرض من الآية وإلى تحريف الكلام عن صورته وإزالة المعنى عن جهته, وذاك أن المراد به الحث على النظر والتقريع على تركه وذم من يخل به ويغفل عنه..، بأن يكون قد جعل من لا يفقه بقلبه ولا ينظر ولا يتفكر كأنه ليس بذي قلب, كما يجعله كأنه جماد وكأنه ميت لا يشعر ولا يحس.., وفسر العمى والصمم والموت في صفة من يوصف بالجهالة على مجرد الجهل, وأجرى جميع ذلك على الظاهر فاعرفه, ومن عادة قوم ممن يتعاطى التفسير بغير علم أن يتوهموا أبدًا في الألفاظ الموضوعة على المجاز والتمثيل أنها على ظواهرها فيفسدوا المعنى بذلك ويبطلوا الغرض ويمنعوا أنفسهم والسامع منهم العلم بموضع البلاغة"[35].
كتاب معجز جامع فريد زاخر ببينات التنزيل:
قال الطبري: "يقول تعالى ذكره (اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا)يعني به القرآن (مُتَشَابِهًا)..يشبه بعضه بعضا لا اختلاف فيه ولا تضادّ.. عن سعيد بن جُبَير.. قال: يشبه بعضه بعضا، ويصدّق بعضه بعضا، ويدلّ بعضه على بعض.. وقوله (مَثَانِيَ).. عن ابن عباس.. قال: كتاب الله مثاني ثنى فيه الأمر مرارا"[36], وقال ابن كثير: "قال الضحاك (مَثَانِيَ) ترديد القول ليفهموا عن ربهم عز وجل.., زاد الحسن: تكون السورة فيها آية وفي السورة الأخرى آية تشبهها.. وليس هذا من المتشابه المذكور في قوله: (مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ)} ذاك معنى آخر"[37],وقال أبو السعود: (أَحْسَنَ الحديث)هو القرآنُ الكريمُ.. ومعنى كونِه مُتشابهاً تشابُه معانيهِ في الصِّحَّةِ والأحكامِ والابتناءِ على الحقِّ والصِّدقِ واستتباع منافعِ الخلقِ في المعادِ والمعاشِ وتناسب ألفاظِه في الفصاحةِ وتجاوبِ نظمِه في الإعجازِ, و(مَّثَانِيَ) .. قيل.. من التَّثنيةِ بمعنى التَّكريرِ والإعادةِ.. باعتبار تفاصيله"[38], وقال السعدي: "يخبر تعالى عن كتابه الذي نزله أنه (أَحْسَنَ الْحَدِيثِ)على الإطلاق، فأحسن الحديث كلام اللّه وأحسن الكتب المنزلة من كلام اللّه (هو) هذا القرآن، وإذا كان هو الأحسن علم أن ألفاظه أفصح الألفاظ وأوضحها وأن معانيه أجل المعاني لأنه أحسن الحديث في لفظه ومعناه متشابها في الحسن والائتلاف وعدم الاختلاف بوجه من الوجوه حتى إنه كلما تدبره المتدبر وتفكر فيه المتفكر رأى من اتفاقه.. ما يبهر الناظرين ويجزم بأنه لا يصدر إلا من حكيم عليم"[39], وقال الثعالبي: "(متشابها) لا تَنَاقُضَ فيه.. بل يُشْبِهُ بَعْضُهُ بعضاً في رَصْفِ اللَّفْظِ ووَثَاقَةِ البراهينِ وشَرَفِ المعاني"[40],وقال الجاوي: "(اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ)بحسب لفظه لفصاحته وجزالته وبحسب معناه لاشتماله على الغيوب الكثيرة في الماضي والمستقبل ولأن العلوم الموجودة فيه كثيرة جداً، (كِتَاباً مُّتَشَابِهاً)أي يشبه بعضه بعضاً كما قاله ابن عباس فإن كل ما فيه من الآيات يقوي بعضها بعضاً والمقصود منها بأسرها الدعوى إلى الدين وتقرير عظمة الله"[41], وقال الماوردي: "معناه يفسر بعضه بعضاً (كما) قاله ابن عباس"[42], وقال السمعاني: "أي يشبه بعضه بعضا في الصدق وصحة المعنى"[43],وقال البغوي: يشبه بعضه بعضًا في الحسن ويُصَدِّق بعضه بعضًا ليس فيه تناقض ولا اختلاف"[44], وقال الرازي: "الكاتب البليغ إذا كتب كتاباً طويلاً فإنه يكون بعض كلماته فصيحاً ويكون البعض غير فصيح والقرآن يخالف ذلك فإنه فصيح كامل الفصاحة بجميع أجزائه.. (و)كل ما فيه من الآيات والبينات فإنه يقوي بعضها بعضاً ويؤكد بعضها بعضاً.. (و)المقصود منها بأسرها الدعوة إلى الدين وتقرير عظمة الله.. فهذا هو المراد من كونه متشابهاً"[45],وقال ابن عاشور: "اقتضى قوله (تَقْشَعر منه جُلُودُ الذين يخشَونَ ربَّهُم)أن القرآن يشتمل على معان تقشعر منها الجلود وهي المعاني الموسومة بالجَزالة التي تثير في النفوس روعة وجلالة ورهبة تبعث على امتثال السامعين له وعملهم بما يتلقونه من قوارع القرآن وزواجره، وكنّي عن ذلك بحالةٍ تقارِنُ انفعال الخشية والرهبة في النفس لأن الإِنسان إذا ارتاع وخشي اقشعرّ جِلده من أثر الانفعال (والرهبة)، فمعنى (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ)تقشعر من سماعه وفهمه.. يقال اقشعر الجلد إذا تقبض تقبضاً شديداً كالذي يحصل عند شدة برد الجسد ورعدته, (و)يقال اقشعر جلده إذا سمع أو رأى مَا يثير انزعاجه وروَّعَه، فاقشعرار الجلود كناية عن وجل القلوب الذي تلزمه قشعريرة في الجلد غالباً, وقد عدّ (القاضي) عياض في (الشفاء) من وجوه إعجاز القرآن: الروعة التي تلحق قلوب سامعيه عند سماعه والهيبةَ التي تعتريهم عند تلاوته لعلوّ مرتبته على كل كلام من شأنه أن يهابه سامعه، قال تعالى: (لَوْ أَنزَلْنَا هَـَذَا الْقُرْآنَ عَلَىَ جَبَلٍ لّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ)الحشر 21"[46], وفي تفسير الميزان: "قوله تعالى: (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني)..الحديث هو القول كما في قوله تعالى (فليأتوا بحديث مثله)وقوله (فبأي حديث بعده يؤمنون),فهو أحسن القول لاشتماله على محض الحق.., وقوله (كتابا متشابها) أي يشبه بعض أجزائه بعضا.. وقوله (مثاني).. بتبيين بعضها ببعض وتفسير بعضها لبعض من غير اختلاف فيها بحيث يدفع بعضه بعضا ويناقضه كما قال تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا)"[47].
بينات الوحي تتألق اليوم بأنوار اليقين:
قبل اكتشاف المجهر في القرن السابع عشر لا يتوقع أن يصف مصدر بشري العضلات المجهرية في الجلد التي تجعله يقشعر من الخشية والوجل ثم يلين بعد تقبض, ولذا في كتاب في القرن السابع الميلادي تشابهت في الإحكام مبانيه وتأكدت بالتثنية معانيه لا تفسير سوى أنه كلام الله العليم وحده بكل حقائق التكوين عندما ينسب القشعريرة للجلد صريحا ويعلن عن لينه بعد تقبض من تقوى الله وخشيته وهيبته وإجلاله أمام روائع نظم كتابه ودلائل تنزيله, وليست الكشوف العلمية إذن سوى مدائح للإله تعلن عن حكمته تعالى في خلقه وبديع صنعه مؤيدةً نزول الكتاب العزيز بعلم الله شاهدةً له بالوحي ومؤكدةً رسالته, يقول العلي القدير: "قُلْ أَيّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيّ هَـَذَا الْقُرْآنُ لاُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَىَ قُل لاّ أَشْهَدُ قُلْ إِنّمَا هُوَ إِلَـَهٌ وَاحِدٌ وَإِنّنِي بَرِيءٌ مّمّا تُشْرِكُونَ" الأنعام 19.
__________________
رد مع اقتباس
  #49  
قديم 02-02-2007, 07:03 PM
الصورة الرمزية المستغفرة
المستغفرة المستغفرة غير متصل
عضو مبدع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2007
مكان الإقامة: سوريا
الجنس :
المشاركات: 1,063
الدولة : Syria
افتراضي

يعرفونه كما يعرفون أبناءهم
قال الله تعالى :{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [ سورة البقرة الآية :146]، تدل الآية على أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى يعرفون محمداً - صلى الله عليه وسلم -كما يعرفون أبناءهم ، والقول بعودة الهاء في قوله تعالى : (يعرفونه ) على النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - مروي عن ابن عباس - رضي الله عنه – [الإمام ابن الجوزي في تفسيره زاد المسير1/158 ]،وقال به مجاهد وقتادة وغيرهما [الإمام القرطبي في تفسيره 2/162]، وهذه المعرفة لم تكن بسيطة ، بل كانت في أعلى مستويات المعرفة ، بدلالة هذه الآية الكريمة .
ويبين قوة هذه المعرفة جواب عبد الله بن سلام - رضي الله عنه- وكان عالم اليهود وسيدهم ، أسلم بعد وصول النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ، وكان ممن بشر بالجنة - لسؤال عمر بن الخطاب رضي الله عنه – وهو من كبار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وثاني الخلفاء الراشدين – ، حين سأله قائلا له : أتعرف محمدا -صلى الله عليه وسلم -كما تعرف ابنك ؟ قال : نعم ، وأكثر . بعث الله أمينه في السماء إلى أمينه في أرضه بنعته فعرفته ، وابني لا أدري ما كان من أمه .[ أورد الرواية عن عمر القرطبي في تفسيره 2/163 ] .
فأهل الكتاب يجدون ذكر نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - في كتبهم التوراة والإنجيل ، قال الله – تعالى- في القرآن الكريم :{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [سورة الأعراف الآية: 157 ].
وهذا الذكر ، هل هو بالصفة فقط دون الاسم ، أو بالاسم والصفة ؟
أمّا على فرض أنه بالصفة دون الاسم فقد ذهب ابن القيم – رحمه الله - بوجاهة ذلك وحصول الحجية به ، فقال : إن الإخبار عن صفته ، ومخرجه ، أبلغ من ذكره بمجرد اسمه ، فإن الاشتراك قد يقع في الاسم فلا يحصل التعريف والتمييز .[ انظر هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى للإمام ابن قيم الجوزية، تحقيق رضوان جامع رضوان ، ص 60 ] .
ومن تأمل قصة قيصر الروم هرقل ، وما جعله يعترف بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم – من مطابقة صفاته لما يعرفه من البشارات التي جاءت بوصفه في التوراة ، والإنجيل خاصة ، فإنه يعلم ما لذكر الصفة من أثر في التعرف عليه ، فحين وصلت رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل يدعوه فيها إلى الإسلام ، جعل يبحث في مملكته عن من يأتيه بخبر وصفة هذا النبي الذي يدعوه للإسلام ، فظفر جنده بأبي سفيان بن حرب زعيم قريش وسيدها قبل أن يسلم ، وكان قد خرج في تجارة لقريش إلى الشام ، وذلك بعد صلح الحديبية ، فأدخل هو ومن معه على هرقل في قصره ، فأجلسهم بين يديه ،فقال :أيكم أقرب نسبا من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ؟ فقال أبو سفيان : أنا .فأجلسوه بين يديه ،وأجلسوا أصحابه خلفه ،ثم دعا بترجمانه فقال :قل لهم إني سائل هذا عن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ،فإن كذبَني فكذِّبوه .قال أبو سفيان :وأيم الله ، لولا أن يؤثروا علي الكذب لكذبت، ثم قال لترجمانه : سله كيف حسبه فيكم ؟ قلت :هو فينا ذو حسب .قال :فهل كان من آبائه ملك ؟ قلت : لا .
قال :فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قلت : لا . قال : أيتبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم ؟ قلت : بل ضعفاؤهم . قال : يزيدون أو ينقصون؟ قلت : لا ، بل يزيدون . قال : هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له ؟ قلت : لا . قال : فهل قاتلتموه ؟ قلت: نعم .قال :فكيف كان قتالكم إياه ؟ قلت : تكون الحرب بيننا وبينه سجالا يصيب منا ونصيب منه .قال : فهل يغدر ؟قلت : لا ، ونحن منه في هذه المدة لا ندري ما هو صانع فيها ، ووالله ما أمكنني من كلمة أدخل فيها غير هذه .قال : فهل قال هذا القول أحد قبله ؟ قلت : لا . ثم قال لترجمانه : قل له إني سألتك عن حسبه ؟ فزعمت أنه ذو حسب ، وكذلك الرسل تبعث في أحساب قومها . وسألتك هل كان في آبائه ملك ؟ فزعمت أن لا ، فقلت لو كان من آبائه ملك قلت رجل يطلب ملك آبائه . وسألتك عن أتباعه من الناس أضعفاؤهم أم أشرافهم ؟فقلت بل ضعفاؤهم ، وهم أتباع الرسل . وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ فزعمت أن لا ، فعرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الله . وسألتك هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له ؟ فزعمت أن لا ، وكذلك الإيمان إذا خالط بشاشة القلوب . وسألتك هل يزيدون أم ينقصون ؟ فزعمت أنهم يزيدون ، وكذلك الإيمان حتى يتم . وسألتك هل قاتلتموه ؟ فزعمت أنكم قاتلتموه ،فتكون الحرب بينكم وبينه سجالا ينال منكم وتنالون منه ، وكذلك الرسل تبتلى ، ثم تكون لهم العاقبة . وسألتك هل يغدر ؟ فزعمت أنه لا يغدر ، وكذلك الرسل لا تغدر . وسألتك هل قال أحد هذا القول قبله ؟ فزعمت أن لا ، فقلت لو كان قال هذا القول أحد قبله قلت رجل ائتم بقول قيل قبله . ثم قال : بم يأمركم ؟ قلت: يأمرنا بالصلاة ،والزكاة ،والصلة ،والعفاف .قال :إن يك ما تقول فيه حقا ،فإنه نبي ، وقد كنت أعلم أنه خارج ! ولم أك أظنه منكم ! ولو أني أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه ! ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه ! وليبلغن ملكه ما تحت قدمي !!
ثم دعا بكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقرأه فإذا فيه :
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم ، سلام على من اتبع الهدى .
أما بعد :
فإني أدعوك بدعاية الإسلام ، أسلم تسلم ، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين ( و يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ) .
فلما فرغ من قراءة الكتاب ارتفعت الأصوات عنده ، وكثر اللغط ،وأمر بنا فأخرجنا.[رواه الإمام البخاري ح/4278 ]، فهذا دليل بين بأنهم كانوا يعرفون وقت خروجه ومكانه وأوصافه ، لكن حب الدنيا وحب الملك وخوف القتل صدت هرقل عن قبول الحق ، والإيمان به ، فأعلن رفضه له ، ولم يقف موقف الثبات الذي وقفه الأسقف الأكبر في مملكته – معنى الأسقف : رئيس دين النصارى - والذي أقر هرقل بأنه صاحب أمرهم .
فقد أرسل هرقل بالكتاب إلى الأسقف واسمه ( ضغاطر ) ، فقال الأسقف: هذا الذي كنا ننتظر ، وبشرنا به عيسى ، أما أنا فمصدقه ومتبعه . فقال له قيصر: أما أنا إن فعلت ذلك ذهب ملكي . ثم قال الأسقف لرسول النبي صلى الله عليه وسلم دحية رضي الله عنه : خذ هذا الكتاب واذهب إلى صاحبك فأقرئ عليه السلام ،وأخبره أني أشهد أن لا إله الا الله وأن محمدا رسول الله ، وأني قد آمنت به وصدقته ،وأنهم قد أنكروا على ذلك .ثم خرج إليهم فقتلوه . فلما رجع دحية إلى هرقل قال له :قد قلت لك إنا نخافهم على أنفسنا ، فضغاطر كان أعظم عندهم مني .[ الإمام ابن حجر في فتح الباري شرح صحيح البخاري 1/42-43 ]، فدعا هرقل عظماء الروم ، فجمعهم في دار له فقال : يا معشر الروم ، هل لكم في الفلاح والرشد آخر الأبد ،وأن يثبت لكم ملككم ،فتبايعوا هذا النبي؟ فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب ، فوجدوها قد غلقت ، فقال :علي بهم .فدعا بهم فقال :إني إنما اختبرت شدتكم على دينكم ،فقد رأيت منكم الذي أحببت .فسجدوا له ورضوا عنه [رواه الإمام البخاري ح/4278 ].
ومن هذا الحديث نقف على أمرين مهمين :
أولا : أن بعث نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -بكتاب إلى قيصر دليل على عموم رسالته لجميع الناس ، عربهم وعجمهم ، أبيضهم وأسودهم ، قال تعالى :{ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [سورة الأعراف الآية: 158] ، وقال تعالى:{ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً}[ سورة الفرقان الآية: 1 ]، وحياته – صلى الله عليه وسلم – منذ بعثته ، وحتى وفاته شاهدة على عموم رسالته لجميع الناس ، فقد دعا اليهود في المدينة للإسلام ، وجاهدهم فأخرج بعضهم منها ، وقتل بعضهم ، وفي ذلك دليل على عموم رسالته ، ثم إنه دعا النصارى ، فناظر نصارى نجران ، ودعاهم للمباهلة ، وخرج لقتال النصارى في تبوك ، وبعث الكتب لكسرى ، وقيصر ، والمقوقس ، وغيرهم .
إنه لم يفعل ذلك كله إلا لأنه رسول لكل الشعوب على اختلاف ألسنتهم وألوانهم ، بل وللجن أيضا ، قال ابن تيمية – رحمه الله - مدللا على عموم رسالته صلى الله عليه وسلم ، وأنه مبعوث إلى جميع الناس أهل الكتاب ، وغير أهل الكتاب ، بل إلى الثقلين الإنس والجن : إنه كان يكفر اليهود والنصارى الذين لم يتبعوا ما أنزل الله عليه ، كما كان يكفر غيرهم ممن لم يؤمن بذلك ، وأنه جاهدهم وأمر بجهادهم .[ الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لشيخ الإسلام ابن تيمية 3/10 ] .
رد مع اقتباس
  #50  
قديم 02-02-2007, 07:04 PM
الصورة الرمزية المستغفرة
المستغفرة المستغفرة غير متصل
عضو مبدع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2007
مكان الإقامة: سوريا
الجنس :
المشاركات: 1,063
الدولة : Syria
افتراضي

أما الأمر الثاني :أن هرقل فقه مسألة مهمة ، وهي مسألة يتخذها المعاندون من أهل الكتاب ذريعة لصد الناس عن إتباع الحق ، وهي أن وصول كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه هو بلاغ لرسالته وإن كان بلغة العرب، فلم يرده ، ولم يرفضه ، بل بادر بترجمته ، وفهم معانيه ، وتحري الحق بحواره مع أبي سفيان ، وعرضه على علماء النصارى في مملكته ، وكذلك كان موقف ضغاطر أكبر علماء بلاده ، فلم يرفض الدعوة بحجة أن النبي عربي اللسان ، وهو للعرب خاصة دون غيرهم .
وإن المتأمل اليوم لكثرة المسلمين في شتى بقاع الأرض ، ومن كل اللغات ، ومن كل الأجناس ليعلم أن هذه الرسالة عامة لكل العالمين ، وأن من يقول بخصوصيتها لأهل اللسان العربي ليعارض النصوص من الكتب السماوية الصريحة ، ويغمض عينيه عن ما يشهد به الواقع البشري اليوم ومن قبل ، منذ بعثة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم حتى يومنا هذا .
يقول ابن تيمية رحمه الله :أنزل عليه القرآن باللسان العربي ، كما أنزلت التوراة باللسان العبري وحده ، وموسى -عليه السلام - لم يكن يتكلم إلا بالعبرية ، وكذلك المسيح - عليه السلام - لم يكن يتكلم بالتوراة والإنجيل وغيرهما إلا بالعبرية ، وكذلك سائر الكتب لا ينزلها الله إلا بلسان واحد ، بلسان الذي أنزلت عليه ولسان قومه الذين يخاطبهم أولا ، ثم بعد ذلك تبلغ الكتب وكلام الأنبياء لسائر الأمم : إما بأن يترجملمن لا يعرف لسان ذلك الكتاب ، كما حدث في قصة الكتاب لهرقل وغيره من الملوك ، وإما بأن يتعلم الناس لسان ذلك الكتابفيعرفون معانيه ، وإما بأن يبين للمرسل إليه معاني ما أرسل بهالرسول إليه بلسانه ، وإن لم يعرف سائر ما أرسل به .
فالحجة تقوم على الخلق ويحصل لهم الهدى بمن ينقل عن الرسول تارة المعنى ، وتارة اللفظ، ولهذا يجوز نقل حديثه بالمعنى ، والقرآن يجوز ترجمة معانيه لمن لا يعرف العربية باتفاق العلماء ، وأبناء فارس المسلمون لما اعتنوا بأمر الإسلام ، ترجموا مصاحف كثيرة ، فيكتبونها بالعربي ، ويكتبون الترجمة بالفارسية، وكانوا قبل الإسلام أبعد عن المسلمين من الروم والنصارى ، فإذا كان الفرس المجوس قد وصل إليهم معاني القرآن بالعربي وترجمته ، فكيف لا يصل إلى أهل الكتاب وهم أقرب إلى المسلمين منهم ؟! وعامة الأصول التي يذكرها القرآن عندهم شواهدها ، ونظائرها في التوراة والإنجيل والزبور ، وغير ذلك من النبوات، بل كل من تدبر نبوات الأنبياء ، وتدبر القرآن ، جزم يقينا بأن محمدا – صلى الله عليه وسلم - رسول الله حقا ، وأن موسى – عليه السلام - رسول الله صدقا ، لما يرى من تصادق الكتابين التوراة والقرآن ، مع العلم بأن موسى - عليه السلام - لم يأخذ عن محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وأن محمدا - صلى الله عليه وسلم -لم يأخذ عن موسى – عليه السلام - ، فإن محمدا - صلى الله عليه وسلم - باتفاق أهل المعرفة بحاله ،كان أُمّيِّاً ، قال تعالى : {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ }[ سورة العنكبوت الآية : 48 ]، ومن قوم أميين ،قال تعالى : {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ }[ سورة الجمعة الآية : 2 ]، ولم يكن عندهم من يحفظ التوراة والإنجيل ولا الزبور ، وكان محمد -صلى الله عليه وسلم – مقيما بمكة لم يخرج من بين ظهرانيهم ، ولم يسافر قط إلا سفرتين إلى الشام ، خرج مرة مع عمه أبي طالب قبل الاحتلام ، ولم يكن يفارقه ، ومرة أخرى مع ميسرة في تجارته ، وكان ابن بضع وعشرين سنة ، مع رفقة كانوا يعرفون جميع أحواله ، ولم يجتمع قط بعالم أخذ عنه شيئا لا من علماء اليهود ولا النصارى ولا من غيرهم ، لا بحيرى ولا غيره ، ولكن كان بحيرى الراهب لما رآه عرفه ، لما كان عنده من ذكره ونعته ، فأخبر أهله بذلك ، وأمرهم بحفظه من اليهود ، ولم يتعلم لا من بحيرى ، ولا من غيره كلمة واحدة ، وقد دافع الله تعالى عن نبيه محمد – صلى الله عليه وسلم – في كتابه رداً على من يزعم تعليم البشر له بقوله : {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ }[ سورة النحل الآية :103].ففي الآية تكذيب لهم ، لأن لسان الذي نسبوا إليه تعليم النبي – صلى الله عليه وسلم- أعجمي لا يفصح، والقرآن عربي غاية في الوضوح والبيان .
هذا مع أن في القرآن من الرد على أهل الكتاب في بعض ما حرفوهمثل : دعواهم أن المسيح - عليه السلام - صلب ، وقول بعضهم أنه إله ، وقول بعضهم أنه ساحر ، وطعنهم على سليمان - عليه السلام -وقولهم أنه كان ساحراً ، وأمثال ذلك ما يبين أنه لم يأخذ عنهم ، وفي القرآن من قصص الأنبياء - عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام - ما لا يوجد في التوراة والإنجيل ، مثل :قصة هود ، وصالح ، وشعيب وغير ذلك ، وفي القرآن من ذكر المعاد وتفصيله ، وصفة الجنة والنار ، والنعيم والعذاب ، ما لا يوجد مثله في التوراة والإنجيل .[ انظر الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 2/52، 54 ، 74 ، 78 ].
كما أن اللسان العربيمن أفصح لغات الآدميين ، وأوضحها ، والناس متفقون على أن القرآن في أعلى درجات البيان والبلاغة ، والفصاحة ، وفي القرآن من الدلالات الكثيرة على مقصود الرسول - صلى الله عليه وسلم - التي يذكر فيها أن الله - تعالى - أرسله إلى أهل الكتاب وغيرهم مالا يحصى إلا بكلفة ..[ الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 1/371 ].
وأما القول بأن ذكره بالاسم ورد في الكتب السماوية فيشهد له عدة أمور:
أولا: تصريح القرآن الكريم بذلك،قال تعالى : {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُفَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ }[ سورة الصف الآية :6].
ثانيا :تصريح بعض أهل الكتاب باسمه فيما كانوا يبشرون بهمن خروج نبي آخر الزمان ، فقد كان بعض العرب قد سمى ابنه محمدا طمعا في أن يكون النبي المنتظر لما سمعوه من التبشير بخروجه ، فقد خرج أربعة من بني تميم يريدون الشام وهم : عدي بن ربيعة ، وسفيان بن مجاشع ، وأسامة بن مالك ، ويزيد بن ربيعة ، فلما وصلوا الشام نزلوا على غدير ، فسمع حديثهم ديراني في صومعة له ، فأشرف عليهم الديراني فقال: إن هذه لغة ما هي بلغة أهل البلد .فقالوا :نعم ،نحن قوم من مضر .قال : من أي مضر ؟ قالوا : من خندف .قال :أما إنه سيبعث منكم وشيكا نبي ،فسارعوا وخذوا بحظكم منه ترشدوا ، فإنه خاتم النبيين .فقالوا :ما اسمه ؟ فقال :محمد .فلما انصرفوا من عنده ولد لكل واحد منهم غلاما فسماه محمد. [ المعجم الكبير للإمام الطبراني ح/273- ج 17/111 ].
ولما سمع أكثم بن صيفي التميمي بخروج النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث إليه ابنه ليأتيه بخبره ، فلما رجع ابنه ، قال له أكثم : ماذا رأيت ؟ قال :رأيته يأمر بمكارم الأخلاق ،وينهى عن ملائمها .فجمع أكثم قومه ، ودعاهم إلى اتباعه ،وقال لهم : إن سفيان بن مجاشع سمى ابنه محمدا حبا في هذا الرجل ، وإن أسقف نجران كان يخبر بأمره وبعثه ، فكونوا في أمره أولا ولا تكونوا أخرا. [ الإصابة في تمييز الصحابة للإمام ابن حجر 1/211 ].
ثالثا : التصريح باسمه في النبوءات والبشارات في الكتب السابقة ، ومن ذلك :
ما رواه برنابا عن عيسى - عليه السلام - من أنه صرح باسم محمد - صلى الله عليه وسلم - فمن كلامه عليه السلام : ( أن الله يعاقب على كل خطيئة مهما كانت طفيفة عقابا عظيما ، لأن الله يغضب من الخطيئة . فلذلك لما كانت أمي وتلاميذي الأمناء الذين كانوا معي أحبوني قليلا حبا عالميا ، أراد الله البر أن يعاقب على هذا الحب بالحزن الحاضر، حتى لا يعاقب عليه بلهب الجحيم . فلما كان الناس قد دعوني الله وابن الله ، على أني كنت بريئا في العالم ، أراد الله أن يهزأ الناس بي في هذا العالم بموت يهوذا ، معتقدين أنني أنا الذي مت على الصليب لكيلا تهزأ الشياطين بي يوم الدينونه . وسيبقى هذا إلى أن يأتي محمد رسول الله . الذي متى جاء كشف هذا الخداع للذين يؤمنون بشريعة الله ) [برنابا .22 – انظر البشارة بنبي الإسلام في التوراة والإنجيل لـ أحمد حجازي السقا 1/145 ].
وجاء في مزامير داود عليه السلام قول داود - عليه السلام - : ( إن ربنا عظم محموداً )، وفي مكان آخر : ( إلهنا قدوس ومحمد قد عم الأرض كلها فرحا )[ المزامير (48، 67 ، 111 ، 118 )- انظر هداية الحيارى لابن قيم الجوزية ، تحقيق رضوان جامع رضوان ،ص95 ]، وهذا تصريح من داود - عليه السلام - باسمه ، وجاء في سفر أشعياء ، قول أشعياء معلنا باسم محمد صلى الله عليه مسلم : ( إني جعلت أمرك يا محمد بالحمد يا قدوس الرب ، اسمك موجود قبل الشمس ) [سفر أشعياء الإصحاح (21)، انظر هداية الحيارى لابن قيم الجوزية ، تحقيق رضوان جامع رضوان ،ص 98 ].
وهذه الشواهد تجعلنا نعطي لمحة مختصرة عن التوراة والإنجيل :
يقول اليهود العبرانيون والسامريون والنصارى أيضا : إن التوراة عبارة عن خمسة أسفار هي: 1- التكوين 2- الخروج 3- اللاويين ( الأحبار ) 4- العدد 5- التثنية .
ويقول العبرانيون والنصارى بكتب تسمى التوراة مجازا لأنبياء أتوا من بعد موسى – عليه السلام – ويسمونها ( كتب الأنبياء ) [ انظر البشارة بنبي الإسلام 1/54 ].
وقد ترجمت من العبرانية إلى اللغة اليونانية عام 285 – 247 قبل الميلاد ، وقد قام بها اثنين وسبعين عالما من علماء اليهود ، ومن الزمان الذي ترجمت فيه التوراة إلى اليونانية ، انتشرت في العالم ، وظهرت ترجمات أخرى لها ، فصعب على اليهود تحريفها ، وزاد من صعوبة التحريف ظهور النصرانية ، وتمسك النصارى بالتوراة ، وتفرقهم بها في جميع البلاد ، وذلك لأنهم كانوا يكتبونها ويضعونها مع كتب الأناجيل الأربعة : 1- متى 2- يوحنا 3- لوقا 4- مرقس في كتاب واحد .
ويسمون مجموع كتب التوراة والإنجيل ( بيبل ) باللغة اليونانية ، أو الكتاب المقدس ،
أو كتب العهد القديم ( التوراة ) ، وكتب العهد الجديد ( الإنجيل ) .[ البشارة بنبي الإسلام 1/58-59 ].
رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
حمل حلقات ملامح الاعجاز فى القران لزغلول النجار التى كانت تذاع على قناة ابو ظبى محبه للجنه ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية 6 28-08-2009 03:31 AM
الاعجاز القرآني في خلق الذباب د / أحمد محمد باذيب الملتقى العلمي والثقافي 6 26-01-2008 05:45 PM
الاعجاز الطبي في الوضوء د / أحمد محمد باذيب الملتقى العلمي والثقافي 5 23-12-2007 02:05 PM
الاعجاز العلمى فى الطواف حول الكعبة ambary82 الملتقى العلمي والثقافي 10 30-08-2007 11:07 AM
الاعجاز العلمي في الحجاب نبيه الملتقى الاسلامي العام 3 30-03-2006 01:21 PM


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 258.67 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 252.91 كيلو بايت... تم توفير 5.77 كيلو بايت...بمعدل (2.23%)]