|
هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
![]() ![]() تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (11) سُورَةُ الأنبياء من صــ 294 الى صــ 303 الحلقة (481) ميزان وإنما هو العدل. والذي وردت به الأخبار وعليه السواد الأعظم القول الأول. وقد مضى في "الأعراف" بيان هذا ، وفي "الكهف" أيضا. وقد ذكرناه في كتاب "التذكرة" مستوفى والحمد لله. و {القِسط} العدل أي ليس فيها بخس ولا ظلم كما يكون في وزن الدنيا. و {الْقِسْط} صفة الموازين ووحد لأنه مصدر ؛ يقال : ميزان قسط ، وميزانان قسط ، وموازين قسط. مثل رجال عدل ورضا. وقرأت فرقة "القِصْطَ" بالصاد. {لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} أي لأهل يوم القيامة. وقيل : المعنى في يوم القيامة. {فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} أي لا ينقص من إحسان محسن ولا يزاد في إساءة مسيء. {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} قرأ نافع وشيبة وأبو جعفر {مِثْقَالُ حَبَّةٍ} بالرفع هنا ؛ وفي "لقمان" على معنى إن وقع أو حضر ؛ فتكون كان تامة ولا تحتاج إلى خبر الباقون {مِثْقَالَ} بالنصب على معنى وإن كان العمل أو ذلك الشيء مثقال. ومثقال الشيء ميزانه من مثله. "أتينا بها" مقصورة الألف قراءة الجمهور أي أحضرناها وجئنا بها للمجازاة عليها ولها. يجاء بها أي بالحجة ولو قال به أي بالمثقال لجاز. وقيل : مثقال الحبة ليس شيئا غير الحبة فلهذا قال : {أَتَيْنَا بِهَا} . وقرأ مجاهد وعكرمة {آتَيْنَا} بالمد على معنى جازينا بها. يقال آتى يؤاتي مؤاتاة. {وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} أي محاسبين على ما قدموه من خير وشر. وقيل : {حَاسِبِينَ} إذ لا أحد أسرع حسابا منا. والحساب العد. روى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها : أن رجلا قعد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني وأشتمهم وأضربهم فكيف أنا منهم ؟ قال : "يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافا لك ولا عليك وإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلا لك وإن كان عقابك فوق ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل" قال : فتنحى الرجل فجعل يبكي ويهتف. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أما تقرأ كتاب الله تعالى : {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} فقال الرجل : والله يا رسول الله ما أجد لي ولهؤلاء شيئا خيرا من مفارقتهم ، أشهدك أنهم أحرار كلهم. قال حديث غريب." الآيات : 48 - 50 {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ ، الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ ، وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} قوله تعالى : {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً} وحكي عن ابن عباس وعكرمة {الْفُرْقَانَ ضِيَاءً} بغير واو على الحال. وزعم الفراء أن حذف الواو والمجيء بها واحد ، كما قال عز وجل : {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} [الصافات : 6 - 7] أي حفظا. ورد عليه هذا القول الزجاج. قال : لأن الواو تجيء لمعنى فلا تزاد قال : وتفسير "الفرقان" التوراة ؛ لأن فيها الفرق بين الحرام والحلال. قال : {وَضِيَاءً} مثل {فِيهِ هُدىً وَنُورٌ} وقال ابن زيد : "الفرقان" هنا هو النصر على الأعداء ؛ دليله قوله تعالى : {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عبد نَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ} [الأنفال : 41] يعني يوم بدر. قال الثعلبي : وهذا القول أشبه بظاهر الآية ؛ لدخول الواو في الضياء ؛ فيكون معنى الآية : ولقد أتينا موسى وهارون النصر والتوراة التي هي الضياء والذكر. {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} أي غائبين ؛ لأنهم لم يروا الله تعالى ، بل عرفوا بالنظر. والاستدلال أن لهم ربا قادرا ، يجازي على الأعمال فهم يخشونه في سرائرهم ، وخلواتهم التي يغيبون فيها عن الناس. {وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} أي من قيامها قبل التوبة. {مُشْفِقُونَ} أي خائفون وجلون قوله تعالى : {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ} يعني القرآن {أَفَأَنْتُمْ لَهُ} يا معشر العرب {مُنْكِرُونَ} وهو معجز لا تقدرون على الإتيان بمثله. وأجاز الفراء {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ} بمعنى أنزلناه مباركا. الآية : 51 {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} الآية : 52 {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} الآية : 53 {قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} الآية : 54 {قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} الآية : 55 {قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} الآية : 56 {قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} قوله تعالى : {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ} قال الفراء : أي أعطياه هداه. {مِنْ قَبْلُ} أي من قبل النبوة ؛ أي وفقناه للنظر والاستدلال ، لما جن عليه الليل فرأى النجم والشمس والقمر. وقيل : {مِنْ قَبْلُ} أي من قبل موسى وهارون. والرشد على هذا النبوة. وعلى الأول أكثر أهل التفسير ؛ كما قال ليحيى : {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} [مريم : 12 ] . وقال القرظي : رشده صلاحه. {وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} أي إنه أهل لإيتاء الرشد وصالح للنبوة. قوله تعالى : {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ} قيل : المعنى أي اذكر حين قال لأبيه ؛ فيكون الكلام قد تم عند قوله : {وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} . وقيل : المعنى ؛ {وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ، إِذْ قَالَ} فيكون الكلام متصلا ولا يوقف على قوله : {عَالِمِينَ} . {لِأَبِيهِ} وهو آزر {وَقَوْمِهِ} نمرود ومن اتبعه. {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ} أي الأصنام. والتمثال اسم موضوع للشيء المصنوع مشبها بخلق من بخلق الله تعالى. يقال : مثلت الشيء بالشيء أي شبهته به. واسم ذلك الممثل تمثال. {الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} أي مقيمون على عبادتها. {قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} أي نعبد ها تقليدا لأسلافنا. {قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي في خسران بعبادتها ؛ إذ هي جمادات لا تنفع ولا تضر ولا تعلم. {قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ} أي أجاء أنت بحق فيما تقول ؟ {أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} أي لاعب مازح. {قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي لست بلاعب ، بل ربكم والقائم بتدبيركم خالق السموات والأرض. {الَّذِي فَطَرَهُنَّ} أي خلقهن وأبدعهن. {وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} أي على أنه رب السموات والأرض. والشاهد يبين الحكم ، ومنه {شَهِدَ اللَّهُ} [آل عمران : 18] بين الله ؛ فالمعنى : وأنا أبين بالدليل ما أقول. الآيتان : 57 - 58 {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ ، فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} قوله تعالى : {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} أخبر أنه لم يكتف بالمحاجة باللسان بل كسر أصنامهم فعل واثق بالله تعالى ، موطن نفسه على مقاساة المكروه في الذب عن الدين. والتاء في {تَاللَّهِ} تختص في القسم باسم الله وحده ، والواو تختص بكل مظهر ، والباء بكل مضمر ومظهر. قال الشاعر : تالله يبقي على الأيام ذو حيد ... بمشمخر به الظيان والآس وقال ابن عباس : أي وحرمة الله لأكيدن أصنامكم ، أي لأمكرن بها. والكيد المكر. كاده يكيده كيدا ومكيدة ، وكذلك المكايدة ؛ وربما سمي الحرب كيدا ؛ يقال : غزا فلان فلم يلق كيدا ، وكل شيء تعالجه فأنت تكيده. {بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} أي منطلقين ذاهبين. وكان لهم في كل سنة عيد يجتمعون فيه ، فقالوا لإبراهيم : لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا - روي ذلك عن ابن مسعود على ما يأتي بيانه في "والصافات" - فقال إبراهيم في نفسه : {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} . قال مجاهد وقتادة : إنما قال ذلك إبراهيم في سر من قومه ، ولم يسمعه إلا رجل. واحد وهو الذي أفشاه عليه والواحد يخبر عنه بخبر الجمع إذا كان ما أخبر به مما يرضى به غيره ومثله {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون : 8] . وقيل : إنما قاله بعد خروج القوم ، ولم يبق منهم إلا الضعفاء فهم الدين سمعوه. وكان إبراهيم احتال في التخلف عنهم بقوله : {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات : 89] أي ضعيف عن الحركة. قوله تعالى : {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً} أي فتاتا. والجذ الكسر والقطع ؛ جذذت الشيء كسرته وقطعته. والجذاذ والجذاذ ما كسر منه ، والضم أفصح من كسره. قاله الجوهري. الكسائي : ويقال لحجارة الذهب جذاذ ؛ لأنها تكسر. وقرأ الكسائي والأعمش وابن محيصن {جِذَاذًا} بكسر الجيم ؛ أي كسرا وقطعا جمع جذيذ وهو الهشيم ، مثل خفيف وخفاف وظريف وظراف. قال الشاعر : جذذ الأصنام في محرابها ... ذاك في الله العلي المقتدر الباقون بالضم ؛ واختاره أبو عبيد وأبو حاتم. [مثل] الحطام والرفات الواحدة جذاذة. وهذا هو الكيد الذي أقسم به ليفعلنه بها. وقال : {فَجَعَلَهُمْ} ؛ لأن القوم اعتقدوا في أصنامهم الإلهية. وقرأ ابن عباس وأبو نهيك وأبو السمال {جَذَاذًا} بفتح الجيم ؛ والفتح والكسر لغتان كالحصاد والحصاد. أبو حاتم : الفتح والكسر والضم بمعنى ؛ حكاه قطرب. {إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ} أي عظيم الآلهة في الخلق فإنه لم يكسره. وقال السدي ومجاهد : ترك الصنم الأكبر وعلق الفأس الذي كسر به الأصنام في عنقه ؛ ليحتج به عليهم. {لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} أي إلى إبراهيم دينه {يَرْجِعُونَ} إذا قامت الحجة عليهم. وقيل : {لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ} أي إلى الصنم الأكبر {يَرْجِعُونَ} في تكسيرها. الآيات : 59 - 60 {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ ، قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ، قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} الآية : {قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} قوله تعالى : {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} المعنى لما رجعوا من عيدهم ورأوا ما أحدث بآلهتهم ، قالوا على جهة البحث والإنكار : {مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} . وقيل : "من" ليس استفهاما ، بل هو ابتداء وخبره {لَمِنَ الظَّالِمِينَ} أي فاعل هذا ظالم. والأول أصح لقوله : {سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ} وهذا هو جواب {مَنْ فَعَلَ هَذَا} . والضمير في {قَالُوا} للقوم الضعفاء الذين سمعوا إبراهيم ، أو الواحد على ما تقدم. ومعنى {يَذْكُرُهُمْ} يعيبهم ويسبهم فلعله الذي صنع هذا. واختلف الناس في وجه رفع إبراهيم ؛ فقال الزجاج يرتفع على معنى يقال له هو إبراهيم ؛ فيكون [خبر مبتدأ] محذوف ، والجملة محكية. قال : ويجوز أن يكون رفعا على النداء وضمه بناء ، وقام له مقام ما لم يسم فاعله. وقيل : رفعه على أنه مفعول ما لم يسم فاعله ؛ على أن يجعل إبراهيم غير دال على الشخص ، بل يجعل النطق به دالا على بناء هذه اللفظة أي يقال له هذا القول وهذا اللفظ ، كما تقول زيد وزن ، فعل ، أو زيد ثلاثة أحرف ، فلم تدل بوجه الشخص ، بل دللت بنطقك على نفس اللفظة. وعلى هذه الطريقة تقول : قلت إبراهيم ، ويكون مفعولا صحيحا نزلته منزلة قول وكلام ؛ فلا يتعذر بعد ذلك أن يبني الفعل فيه للمفعول. هذا اختيار ابن عطية في رفعه. وقال الأستاذ أبو الحجاج الأشبيلي الأعلم : هو رفع على الإهمال. قال ابن عطية : لما رأى وجوه الرفع كأنها لا توضح المعنى الذي قصدوه ، ذهب إلى رفعه بغير شيء ، كما قد يرفع التجرد والعرو عن العوامل الابتداء. والفتى الشاب والفتاة الشابة. وقال ابن عباس : ما أرسل الله نبيا إلا شابا. ثم قرأ : {سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ} . قوله تعالى : {قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ} فيه مسألة واحدة ، وهي أنه لما بلغ الخبر نمرود وأشراف قومه ، كرهوا أن يأخذوه بغير بينة ، فقالوا : ائتوا به ظاهرا بمرأى من الناس حتى يروه {لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} عليه بما قال ؛ ليكون ذلك حجة عليه. وقيل : {لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} عقابه فلا يقدم أحد على مثل ما أقدم عليه. أو لعل قوما {يَشْهَدُونَ} بأنهم رأوه يكسر الأصنام ، أو {لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} طعنه على آلهتهم ؛ ليعلموا أنه يستحق العقاب. قلت : وفي هذا دليل على أنه كان لا يؤاخذ أحد بدعوى أحد فيما تقدم ؛ لقوله تعالى : {فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} وهكذا الأمر في شرعنا ولا خلاف فيه. الآيتان : 62 - 63 {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ ، قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} قوله تعالى : {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} فيه أربع مسائل : - الأولى : لما لم يكن السماع عاما ولا ثبتت الشهادة استفهموه هل فعل أم لا ؟ وفي الكلام حذف فجاء إبراهيم حين أتى به فقالوا أأنت فعلت هذا بالآلهة ؟ فقال لهم إبراهيم على جهة الاحتجاج عليهم : {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} . فقال لهم إبراهيم على جهة الاحتجاج عليهم : {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} . أي إنه غار وغضب من أن يعبد هو ويعبد الصغار معه ففعل هذا بها لذلك ، إن كانوا ينطقون فاسألوهم. فعلق فعل الكبير بنطق الآخرين ؛ تنبيها لهم على فساد اعتقادهم. كأنه قال : بل هو الفاعل إن نطق هؤلاء. وفي الكلام تقديم على هذا التأويل في قوله : {فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} . وقيل : أراد بل فعله كبيرهم إن كانوا ينطقون. بين أن من لا يتكلم ولا يعلم ولا يستحق أن يعبد. وكان قول من المعاريض ، وفي المعاريض مندوحة عن الكذب. أي سلوهم إن نطقوا فإنهم يصدقون ، وإن لم يكونوا ينطقون فليس هو الفاعل. وفي ضمن هذا الكلام اعتراف بأنه هو الفاعل وهذا هو الصحيح لأنه عدده على نفسه ، فدل أنه خرج مخرج التعريض. وذلك أنهم كانوا يعبد ونهم ويتخذونهم آلهة من دون الله ، كما قال إبراهيم لأبيه : {يَا أَبَتِ لِمَ تَعبد مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} [مريم : 42] - الآية - فقال إبراهيم : {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} ليقولوا إنهم لا ينطقون ولا ينفعون ولا يضرون ؛ فيقول لهم فلم تعبد ونهم ؟ فتقوم عليهم الحجة منهم ، ولهذا يجوز عند الأمة فرض الباطل مع الخصم حتى يرجع إلى الحق من ذات نفسه ؛ فإنه أقرب في الحجة وأقطع للشبهة ، كما قال لقومه : {هَذَا رَبِّي} وهذه أختي و {إِنِّي سَقِيمٌ} وبل فعله كبيرهم هذا "وقرأ ابن السميقع {بَلْ فَعَلَهُ} بتشديد اللام بمعنى فلعل الفاعل كبيرهم. وقال الكسائي : الوقف عند قوله : {بَلْ فَعَلَهُ} أي فعله من فعله ؛ ثم يبتدئ {كَبِيرُهُمْ هَذَا} . وقيل : أي لم ينكرون أن يكون فعله كبيرهم ؟ فهذا إلزام بلفظ الخبر. أي من اعتقد عبادتها يلزمه أن يثبت لها فعلا ؛ والمعنى : بل فعله كبيرهم فيما يلزمكم." الثانية : روى البخاري ومسلم والترمذي أبى عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لم يكذب إبراهيم النبي في شيء قط إلا في ثلاث : قوله {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات : 89] وقوله لسارة أختي وقوله {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} لفظ الترمذي. وقال : حديث حسن صحيح. ووقع في الإسراء في صحيح مسلم ، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة إبراهيم قال : وذكر قوله في الكوكب {هَذَا رَبِّي} . فعلى هذا تكون الكذبات أربعا إلا أن الرسول عليه السلام قد نفى تلك بقوله :" لم يكذب إبراهيم النبي قط إلا في ثلاث كذبات ثنتين في ذات الله قوله : {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات : 89] وقوله : {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} وواحدة في شأن سارة "الحديث لفظ مسلم وإنما يعد عليه قوله في الكوكب : {هَذَا رَبِّي} [الأنعام : 78] كذبة وهي داخلة في الكذب ؛ لأنه - والله أعلم - كان حين قال ذلك في حال الطفولة ، وليست حالة تكليف. أو قال لقومه مستفهما لهم على جهة التوبيخ الإنكار ، وحذفت همزة الاستفهام. أو على طريق الاحتجاج على قومه : تنبيها على أن ما لا يصلح للربوبية. وقد تقدمت هذه الوجوه كلها في "الأنعام" مبينة والحمد لله." الثالثة : قال القاضي أبو بكر بن العربي : في هذا الحديث نكتة عظمى تقصم الظهر ، وهي أنه عليه السلام قال : "لم يكذب إبراهيم إلا في ثلاث كذبات ثنتين ما حل بهما عن دين الله وهما قول {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات : 89] وقوله : {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} ولم يعد [قوله] هذه أختي في ذات الله تعالى وإن كان دفع بها مكروها ، ولكنه لما كان لإبراهيم عليه السلام فيها حظ من صيانة فراشه وحماية أهله ، لم يجعلها في ذات الله ؛ وذلك لأنه لا يجعل في جنب الله وذاته إلا العمل الخالص من شوائب الدنيا ، والمعاريض التي ترجع إلى النفس إذا خلصت للدين كانت لله سبحانه ، كما قال : {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر : 3] . وهذا لو صدر منا لكان لله ، لكن منزلة إبراهيم اقتضت هذا. والله أعلم." الرابعة : قال علماؤنا : الكذب هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه. والأظهر أن قول إبراهيم فيما أخبر عنه عليه السلام كان من المعاريض ، وإن كانت معاريض وحسنات وحججا في الخلق ودلالات ، لكنها أثرت في الرتبة ، وخفضت عن محمد المنزلة ، واستحيا منها قائلها ، على ما ورد في حديث الشفاعة ؛ فإن الأنبياء مما لا يشفق منه غيرهم إجلالا لله ؛ فإن الذي كان يليق بمرتبته في النبوة والخلة ، أن يصدع بالحق ويصرح بالحق لأمر كيفما كان ، ولكنه رخص له فقبل الرخصة فكان ما كان من القصة ؛ والقصة جاء في حديث الشفاعة "إنما اتخذت خليلا من وراء وراء" بنصب وراء فيهما على البناء كخمسة عشر ، وكما قالوا جاري بَيْتَ بَيْتَ. ووقع في بعض نسخ مسلم "من وراءُ من وراءُ" بإعادة من ، وحينئذ لا يجوز البناء على الفتح ، وإنما يبني كل واحد منهما على الضم ؛ لأنه قطع عن الإضافة ونوى المضاف كقبل وبعد ، وإن لم ينو المضاف أعرب ونون غير أن وراء لا ينصرف ؛ لأن ألفه للتأنيث ؛ لأنهم قالوا في تصغيرها ورية ؛ قال الجوهري : وهي شاذة. فعلى هذا الفتح فيهما مع وجود "من" فيهما. والمعنى إني كنت خليلا متأخرا عن غيري. ويستفاد من هذا أن الخلة لم تصح بكمالها إلا لمن صح له في ذلك اليوم المقام المحمود كما تقدم. وهو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. الآيات : 64 - 69 {فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ، ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ ، قَالَ أَفَتَعبد ونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ ، أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعبد ونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} قوله تعالى : {فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ} أي رجع بعضهم إلى بعض رجوع المنقطع عن حجته ، المتفطن لصحة حجه خصمه {فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} أي بعبادة من لا ينطق بلفظة ، ولا يملك لنفسه لحظة ، وكيف ينفع عابديه ويدفع عنهم البأس ، من لا يرد عن رأسه الفأس. {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ} أي عادوا إلى جهلهم وعبادتهم فقالوا {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ} فـ {قَالَ} قاطعا لما به يهذون ، ومفحما لهم فيما يتقولون {قَالَ أَفَتَعبد ونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ. أُفٍّ لَكُمْ} أي النتن لكم {وَلِمَا تَعبد ونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} . وقيل : {نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ} أي طأطأوا رؤوسهم خجلا من إبراهيم ، وفيه نظر ؛ لأنه لم يقل نكسوا رؤوسهم ، بفتح الكاف بل قال : {نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ} أي ردوا على ما كانوا عليه في أول الأمر وكذا قال ابن عباس ، قال : أدركهم الشقاء فعادوا إلى كفرهم. الآيتان : 68 - 69 {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ، قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} قوله تعالى : {قَالُوا حَرِّقُوهُ} لما انقطعوا بالحجة أخذتهم عزة بإثم وانصرفوا إلى طريق الغشم والغلبة وقالوا حرقوه. روي أن قائل هذه المقالة هو رجل من الأكراد من أعراب فارس ؛ أي من باديتها ؛ قال ابن عمرو ومجاهد وابن جريج. ويقال : اسمه هيزر فخسف الله به الأرض ، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة. وقيل : بل قال ملكهم نمرود. {وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ} بتحريق إبراهيم لأنه يسبها ويعيبها. وجاء في الخبر : أن نمرود بنى صرحا طوله ثمانون ذراعا وعرضه أربعون ذراعا. قال ابن إسحاق : وجمعوا الحطب شهرا ثم أوقدوها ، واشتعلت واشتدت ، حتى أن كان الطائر ليمر بجنباتها فيحترق من شدة وهجها. ثم قيدوا إبراهيم ووضعوه في المنجنيق مغلولا. ويقال : إن إبليس صنع لهم المنجنيق يومئذ. فضجت السموات والأرض ومن فيهن من الملائكة وجميع الخلق ، إلا الثقلين ضجة واحدة : ربنا! إبراهيم ليس في الأرض أحد يعبد ك غيره يحرق فيك فأذن لنا في نصرته. فقال الله تعالى : "إن استغاث بشيء منكم أو دعاه فلينصره فقد أذنت له في ذلك وإن لم يدع غيري فأنا أعلم به وأنا وليه" فلما أرادوا إلقاءه في النار ، أتاه خزان الماء - وهو في الهواء - فقالوا : يا إبراهيم إن أردت أخمدنا النار بالماء. فقال : لا حاجة لي إليكم. وأتاه ملك الريح فقال : لو شئت طيرت النار. فقال : لا. ثم رفع رأسه إلى السماء فقال : "اللهم أنت الواحد في السماء وأنا الواحد في الأرض ليس أحد يعبد ك غيري حسبي الله ونعم الوكيل". وروى أبي بن كعب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم "إن إبراهيم حين قيدوه ليلقوه في النار قال لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين لك الحمد ولك الملك لا شريك لك" قال : ثم رموا به في المنجنيق من مضرب شاسع ، فاستقبله جبريل ؛ فقال : يا إبراهيم ألك حاجة ؟ قال : "أما إليك فلا". فقال جبريل : فاسأل ربك. فقال : "حسبي من سؤالي علمه بحالي". فقال ![]()
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() ![]() تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (11) سُورَةُ الأنبياء من صــ 304 الى صــ 313 الحلقة (482) الله تعالى وهو أصدق القائلين : {يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} قال بعض العلماء : جعل الله فيها بردا يرفع حرها ، وحرا يرفع بردها ، فصارت سلاما عليه. قال أبو العالية : ولو لم يقل {بَرْداً وَسَلاماً} لكان بردها أشد عليه من حرها ، ولو لم يقل {عَلَى إِبْرَاهِيمَ} لكان بردها باقيا على الأبد. وذكر بعض العلماء : أن الله تعالى أنزل زربية من الجنة فبسطها في الجحيم ، وأنزل الله ملائكة : جبريل وميكائيل وملك البرد وملك السلام. وقال علي وابن عباس : لو لم يتبع بردها سلاما لمات إبراهيم من بردها ، ولم تبق يومئذ نار إلا طفئت ظنت أنها تعني. قال السدي : وأمر الله كل عود من شجرة أن يرجع إلى شجره ويطرح ثمرته. وقال كعب وقتادة : لم تحرق النار من إبراهيم إلا وثاقه. فأقام في النار سبعة أيام لم يقدر أحد أن يقرب من النار ، ثم جاؤوا فإذا هو قائم يصلي. وقال المنهال بن عمرو قال إبراهيم : "ما كنت أياما قط أنعم مني في الأيام التي كنت فيها في النار". وقال كعب وقتادة والزهري : ولم تبق يومئذ دابة إلا أطفأت عنه النار إلا الوزغ فإنها كانت تنفخ عليه ؛ فلذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلها وسماها فويسقة. وقال شعيب الحماني : ألقي إبراهيم في النار وهو ابن ست عشرة سنة. وقال ابن جريج : ألقي إبراهيم في النار وهو ابن ست وعشرين سنة. ذكر الأول الثعلبي ، والثاني الماوردي ؛ فالله أعلم. وقال الكلبي : بردت نيران الأرض جميعا فما أنضجت كراعا ، فرآه نمرود من الصراح وهو جالس على السرير يؤنسه ملك الظل. فقال : نعم الرب ربك! لأقربن له أربعة آلاف بقرة وكف عنه. الآيات : 70 - 73 {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ ، وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ، وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلّاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ ، وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} قوله تعالى : {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً} أي أراد نمرود وأصحابه أن يمكروا به {فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} في أعمالهم ، ورددنا مكرهم عليهم بتسليط أضعف خلقنا. قال ابن عباس : سلط الله عليهم أضعف خلقه البعوض ، فما برح نمرود حتى رأى عظام أصحابه وخيله تلوح ، أكلت لحومهم وشربت دماءهم ، ووقعت واحدة في منخره فلم تزل تأكل إلى أن وصلت دماغه ، وكان أكوم الناس عليه الذي يضرب رأسه بمرزبة من حديد. فأقام بهذا نحوا من أربعمائة سنة. قوله تعالى : {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} يريد نجينا إبراهيم ولوطا إلى أرض الشام وكانا بالعراق. وكان "إبراهيم" عليه السلام عمه ؛ قال ابن عباس. وقيل : لها مباركة لكثرة خصبها وثمارها وأنهارها ؛ ولأنها معادن الأنبياء. والبركة ثبوت الخير ، ومنه برك البعير إذا لزم مكانه فلم يبرح. وقال ابن عباس : الأرض المباركة مكة. وقيل : بيت المقدس ؛ لأن منها بعث الله أكثر الأنبياء ، وهي أيضا كثيرة الخصب والنمو ، عذبة الماء ، ومنها يتفرق في الأرض. قال أبو العالية : ليس ماء عذب إلا يهبط من السماء إلى الصخرة التي ببيت المقدس ، ثم يتفرق في الأرض. ونحوه عن كعب الأحبار. وقيل : الأرض المباركة مصر. قوله تعالى : {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} أي زيادة ؛ لأنه دعا في إسحاق وزيد في يعقوب من غير دعاء فكان ذلك نافلة ؛ أي زيادة على ما سأل ؛ إذ قال : {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات : 100] . ويقال لولد الولد نافلة ؛ لأنه زيادة على الولد. {وَكُلّاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ} أي وكلا من إبراهيم وإسحاق ويعقوب جعلناه صالحا عاملا بطاعة الله. وجعلهم صالحين إنما يتحقق بخلق الصلاح والطاعة لهم ، وبخلق القدرة على الطاعة ، ثم ما يكتسبه العبد فهو مخلوق لله تعالى. قوله تعالى : {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} أي رؤساء يقتدى بهم في الخيرات وأعمال الطاعات. ومعنى {بِأَمْرِنَا} أي بما أنزلنا عليهم من الوحي والأمر والنهي ؛ فكأنه قال يهدون بكتابنا وقيل : المعنى يهدون الناس إلى ديننا بأمرنا إياهم بإرشاد الخلق ، ودعائهم إلى التوحيد. {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ} أي أن يفعلوا الطاعات. {وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} أي مطيعين. الآيتان : 74 - 75 {وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ ، وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} قوله تعالى : {وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً} {لُوطاً} منصوب بفعل مضمر دل عليه الثاني ؛ أي وآتينا لوطا آتيناه. وقيل : أي واذكر لوطا. والحكم النبوة ، والعلم المعرفة بأمر الدين وما يقع به الحكم بين الخصوم. وقيل : {عِلْماً} فهما ؛ والمعنى واحد. {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ} يريد سدوم. ابن عباس : كانت سبع قرى ، قلب جبريل عليه السلام ستة وأبقي واحدة للوط وعياله ، وهي زغر التي فيها الثمر من كورة فلسطين إلى حد السراة ؛ ولها قرى كثيرة إلى حد بحر الحجاز وفي الخبائث التي كانوا يعملونها قولان : أحدهما : اللواط على ما تقدم. والثاني : الضراط ؛ أي كانوا يتضارطون في ناديهم ومجالسهم. وقيل : الضراط وحذف الحصي وسيأتي. {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ} أي خارجين عن طاعة الله ، والفسوق الخروج وقد تقدم. {وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا} في النبوة. وقيل : في الإسلام. وقيل : الجنة. وقيل : عنى بالرحمة إنجاءه من قومه {إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} . الآيتان : 76 - 77 {وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ، وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} قوله تعالى : {وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ} أي واذكر نوحا إذ نادى ؛ أي دعا. {مِنْ قَبْلُ} أي من قبل إبراهيم ولوط على قومه ، وهو قوله : {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} [نوح : 26] وقال لما كذبوه : {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر : 10] . {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} أي من الغرق. والكرب الغم الشديد {وَأَهْلَهُ} أي المؤمنين منهم. وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا قال أبو عبد ة : {مِنَ} بمعنى على. وقيل : المعنى فانتقمنا له {مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا} . {فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} أي الصغير منهم والكبير. الآيتان : 78 - 79 {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ، فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} فيه ست وعشرن مسألة : - الأولى : قوله تعالى : {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ} أي واذكرهما إذ يحكمان ، ولم يرد بقوله {إِذْ يَحْكُمَانِ} الاجتماع في الحكم وإن جمعهما في القول ؛ فإن حكمين على حكم واحد لا يجوز. وإنما حكم كل واحد منهما انفراده ؛ وكان سليمان الفاهم لها بتفهيم الله تعالى إياه. {فِي الْحَرْثِ} اختلف فيه على قولين : فقيل : كان زرعا ؛ قال قتادة. وقيل : كرما نبت عنا قيده ؛ قال ابن مسعود وشريح. و {الْحَرْثِ} يقال فيهما ، وهو في الزرع أبعد من الاستعارة. الثانية : {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} أي رعت فيه ليلا ؛ والنفش الرعي بالليل. يقال : نفشت بالليل ، وهملت بالنهار ، إذا رعت بلا راع. وأنفشها صاحبها. وإبل نفاش. وفي حديث عبد الله بن عمرو : الحبة في الجنة مثل كرش البعير يبيت نافشا ؛ أي راعيا ؛ حكاه الهروي. وقال ابن سيده : لا يقال الهمل في الغنم وإنما هو في الإبل. الثالثة : {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} دليل على أن أقل الجمع اثنان. وقيل : المراد الحاكمان والمحكوم عليه ؛ فلذلك قال {لِحُكْمِهِمْ} . الرابعة : قوله تعالى : {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} أي فهمناه القضية والحكومة ، فكنى عنها إذ سبق ما يدل عليها. وفضل حكم سليمان حكم أبيه في أنه أنه أحرز أن يبقي كل واحد منهما على متاعه ، وتبقي نفسه طيبة بذلك ؛ وذلك أن داود عليه السلام رأى أن يدفع الغنم إلى صاحب الحرث. وقالت فرقة : بل دفع الغنم إلى صاحب الحرث ، والحرث إلى صاحب الغنم. قال ابن عطية : فيشبه على القول الواحد أنه رأى الغنم تقاوم الغلة التي أفسدت. وعلى القول الثاني رآها تقاوم الحرث والغلة ؛ فلما خرج الخصمان على سليمان وكان يجلس على الباب الذي يخرج منه الخصوم ، وكانوا يدخلون إلى داود من باب أخر فقال : بم قضى بينكما نبي الله داود ؟ فقالا : قضى بالغنم لصاحب الحرث. فقال لعل الحكم غير هذا انصرفا معي. فأتى أباه فقال : يا نبي الله أنك حكمت بكذا وكذا وإني رأيت ما هو أرفق بالجميع. قال : وما هو ؟ قال : ينبغي أن تدفع الغنم إلى صاحب الحرث فينتفع بألبانها وسمونها وأصوافها ، وتدفع الحرث إلى صاحب الغنم ليقوم عليه ، فإذا عاد الزرع إلى حال التي أصابته الغنم في السنة المقبلة ، رد كل واحد منهما مال إلى صاحبه. فقال داود : وفقت يا بني لا يقطع الله فهمك. وقضى بما قضى به سليمان ؛ قال معناه ابن مسعود ومجاهد وغيرهما. قال الكلبي : قوم داود الغنم والكرم الذي أفسدته الغنم فكانت القيمتان سواء ، فدفع الغنم إلى صاحب الكرم. وهكذا قال النحاس ؛ قال : إنما قضى بالغنم لصاحب الحرث ؛ لأن ثمنها كان قريبا منه. وأما في حكم سليمان فقد قيل : كانت قيمة ما نال من الغنم وقيمة ما أفسدت الغنم سواء أيضا. الخامسة : قوله تعالى : {وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} تأول قوم أن داود عليه السلام لم يخطئ في هذه النازلة ، بل فيها أوتي الحكم والعلم. وحملوا قوله : {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} على أنه فضيلة له على داود وفضيلته راجعة إلى داود ، والوالد تسره زيادة ولده عليه. وقالت فرقة : بل لأنه لم يصب العين المطلوبة في هذه النازلة ، وإنما مدحه الله بأن له حكما وعلما يرجع إليه في غير هذه النازلة. وأما في هذه فأصاب سليمان وأخطأ داود عليهما الصلاة والسلام ، ولا يمتنع وجود الغلط والخطأ من الأنبياء كوجوده من غيرهم ، لكن لا يقرون عليه ، وإن أقر عليه غيرهم. ولما هدم الوليد كنيسة دمشق كتب إليه ملك الروم : إنك هدمت الكنيسة التي رأى أبوك تركها ، فإن كنت مصيبا فقد أخطأ أبوك ، وإن كان أبوك مصيبا فقد أخطأت أنت ؛ فأجابه الوليد {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ. فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} . وقال قوم : كان داود وسليمان - عليهما السلام - نبيين يقضيان بما يوحى إليهما ، فحكم داود بوحي ، وحكم سليمان بوحي نسخ الله به حكم داود ، وعلى هذا {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} أي بطريق الوحي الناسخ لما أوحى إلى داود ، وأمر سليمان أن يبلغ ذلك داود ؛ ولهذا قال : {وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} . هذا قول جماعة من العلماء ومنها ابن فورك. وقال الجمهور : إن حكمهما كان باجتهاد وهي : السادسة : واختلف العلماء في جواز الاجتهاد على الأنبياء فمنعه قوم ، وجوزه المحققون ؛ لأنه ليس فيه استحالة عقلية ؛ لأنه دليل شرعي فلا إحالة أن يستدل به الأنبياء ، كما لو قال له الله سبحانه وتعالى : إذا غلب على ظنك كذا فاقطع بأن ما غلب على ظنك هو حكمي فبلغه الأمة ؛ فهذا غير مستحيل في العقل. فإن قيل : إنما يكون دليلا إذا عدم النص وهم لا يعدمونه. قلنا : إذا لم ينزل الملك فقد عدم النص عندهم ، وصاروا في البحث كغيرهم من المجتهدين عن معاني النصوص التي عندهم. والفرق بينهم وبين غيرهم من المجتهدين أنهم معصومون عن الخطأ ، وعن الغلط ، وعن التقصير في اجتهادهم ، وغيرهم ليس كذلك. كما ذهب الجمهور في أن جميع الأنبياء صلوات الله عليهم معصومون عن الخطأ والغلط في اجتهادهم. وذهب أبو علي بن أبي هريرة من أصحاب الشافعي إلى أن نبينا صلى الله عليه وسلم مخصوص منهم في جواز الخطأ عليهم ، وفرق بينه وبين غيره من الأنبياء أنه لم يكن بعده يستدرك غلطه ، ولذلك عصمه الله تعالى منه ، وقد بعث بعد غيره من الأنبياء من يستدرك غلطة. وقد قيل : إنه على العموم في جميع الأنبياء ، وأن نبينا وغيره من الأنبياء صلوات الله عليهم في تجويز الخطأ على سواء إلا أنهم لا يقرون على إمضائه ، فلم يعتبر فيه استدراك من بعدهم من الأنبياء. هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سألته امرأة عن العدة فقال لها : "اعتدي حيث شئت" ثم قال لها : "امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله" . وقال له رجل : أرأيت إن قتلت صبرا محتسبا أيحجزني الجنة شيء ؟ فقال : "لا" ثم دعاه فقال : "إلا الدين كذا أخبرني جبريل عليه السلام" . السابعة : قال الحسن : لولا هذه الآية لرأيت القضاة هلكوا ، ولكنه تعالى أثنى على سليمان بصوابه ، وعذر داود باجتهاده. وقد اختلف الناس في المجتهدين في الفروع إذا اختلفوا ؛ فقالت فرقة : الحق في طرف واحد عند الله ، قد نصب على ذلك أدلة ، وحمل المجتهدين على البحث عنها ، والنظر فيها ، فمن صادف العين المطلوبة في المسألة فهو المصيب على الإطلاق ، وله أجران في الاجتهاد وأجر في الإصابة ، ومن لم يصادفها فهو مصيب في اجتهاده مخطئ في أنه لم يصب العين فله أجر وهو غير معذور. هذا سليمان قد صادف العين المطلوبة ، وهي التي فهم. ورأت فرقة أن العالم المخطئ لا إثم في خطئه وإن كان غير معذور. وقالت فرقة : الحق في طرف واحد ولم ينصب الله تعالى عليه دلائل [بل] وكل الأمر إلى نظر المجتهدين فمن أصابه أصاب ومن أخطأ فهو معذور مأجور متعبد بإصابته العين بل تعبد نا بالاجتهاد فقط. وقال جمهور أهل السنة وهو المحفوظ عن مالك وأصحابه رضي الله عنهم : إن الحق في مسائل الفروع في الطرفين ، وكل مجتهد مصيب ، والمطلوب إنما هو الأفضل في ظنه ، وكل مجتهد قد أداه نظره إلى الأفضل في ظنه ؛ والدليل على هذه المقالة أن الصحابة فمن بعدهم قرر بعضهم خلاف بعض ، ولم ير أحد منهم أن يقع الانحمال على قوله دون قول مخالفه. ومنه رد مالك رحمه الله للمنصور أبي جعفر عن حمل الناس "الموطأ" ؛ فإذا قال عالم في أم حلال فذلك هو الحق فيما يختص بذلك العالم عند الله تعالى وبكل من أخذ بقوله ، وكذا في العكس. قالوا : وإن كان سليمان عليه السلام فهم القضية المثلى والتي أرجح فالأولى ليست بخطأ ، وعلى هذا يحملون قول عليه السلام : "إذا اجتهد العالم فأخطأ" أي فأخطأ الأفضل. الثامنة : روى مسلم وغيره عن عمروه بن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر" هكذا لفظ الحديث في كتاب مسلم "إذا حكم فاجتهد" فبدأ بالحكم قبل الاجتهاد ، والأمر بالعكس ؛ فإن الاجتهاد مقدم لي الحكم ، فلا يجوز الحكم قبل الاجتهاد بالإجماع. وإنما معنى هذا الحديث : إذا أراد أن يحكم ، كما قال : {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ} [النحل : 98] فعند ذلك أراد أن يجتهد في النازلة. ويفيد هذا صحة ما قال الأصوليون : إن المجتهد يجب عليه أن يجدد نظرا عند وقوع النازلة ، ولا يعتمد على اجتهاده المتقدم لإمكان أن يظهر له ثانيا خلاف ما ظهر له أولا ، اللهم إن يكون ذاكرا لأركان اجتهاده ، مائلا إليه ، فلا يحتاج إلى استئناف نظر في أمارة أخرى. التاسعة : إنما يكون يكون الأجر للحاكم المخطئ إذا كان عالما بالاجتهاد والسنن والقياس ، وقضاء من مضي ؛ لأن اجتهاده عبادة ولا يؤجر على الخطأ بل يوضع عنه الإثم فقط ، فأما من لم يكن محلا للاجتهاد فهو متكلف لا يعذر بالخطأ في الحكم ، بل يخاف عليه أعظم الوزر. يدل على ذلك حديثه الآخر ؛ رواه أبو داود : "القضاة ثلاثة" الحديث. قال ابن المنذر : إنما يؤجر على اجتهاده في طلب الصواب لا على الخطأ ، ومما يؤيد هذا قوله تعالى : {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} الآية. قال الحسن : أثنى على سليمان ولم يذم داود. العاشرة : ذكر أبو التمام المالكي أن مذهب مالك أن الحق في واحد من أقاويل المجتهدين ، وليس ذلك في أقاويل المختلفين ، وبه قال أكثر الفقهاء. قال : وحكى ابن القاسم أنه سأل مالكا عن اختلاف الصحابة ، فقال : مخطئ ومصيب ، وليس الحق في جميع أقاويلهم. وهذا القول قيل : هو المشهور عن مالك وإليه ذهب محمد بن الحسين. واحتج من قال هذا بحديث عبد الله بن عمرو ؛ قالوا : وهو نص على أن في المجتهدين وفي الحاكمين مخطئا ومصيبا ؛ قالوا : والقول بأن كل مجتهد مصيب يؤدي إلى كون الشيء حلالا حراما ، وواجبا ندبا. واحتج أهل المقالة الأولى بحديث ابن عمر. قال : نادى فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم انصرف من الأحزاب "ألا لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة" فتخوف ناس فوت الوقت فصلوا دون بني قريظة ، وقال الآخرون : لا نصلي إلا حيث أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن فاتنا الوقت ، قال : فما عنف واحدا من الفريقين ؛ قالوا : فلو كان أحد الفريقين مخطئا لعينه النبي صلى الله عليه وسلم. ويمكن أن يقال : لعله إنما سكت عن تعيين المخطئين لأنه غير آثم بل مأجور ، فاستغنى عن تعيينه. والله أعلم. ومسألة الاجتهاد طويلة متشعبة ؛ وهذه النبذة التي ذكرناها كافية في معنى الآية ، والله الموفق للهداية. الحادية عشرة : ويتعلق بالآية فصل آخر : وهو رجوع الحاكم بعد قضائه من اجتهاده إلى اجتهاد آخر أرجح من الأول ؛ فإن داود عليه السلام فعل ذلك. وقد اختلف في ذلك علماؤنا رحمهم الله تعالى ؛ فقال عبد الملك ومطرف في "الواضحة" : ذلك له ما دام في ولايته ؛ فأما إن كانت ولاية أخرى فليس له ذلك ، وهو بمنزلة غيره من القضاة. وهذا هو ظاهر قول مالك رحمة الله في "المدونة". وقال سحنون في رجوعه من اجتهاد فيه قول إلى غيره مما رآه أصوب ليس له ذلك ؛ وقال ابن عبد الحكم. قالا : ويستأنف الحكم بما قوي عنده. قال سحنون : إلا أن يكون نسي الأقوى عنده في ذلك الوقت ، أو وهم فحكم بغيره فله نقضه ؛ وأما وإن حكم بحكم هو الأقوى عنده في ذلك الوقت ثم قوى عنده غيره بعد ذلك فلا سبيل إلى نقض الأول ؛ قاله سحنون في كتاب ابنه. وقال أشهب في كتاب ابن المواز : إن كان رجوعه إلى الأصوب في مال فله نقض الأول ، وإن كان في طلاق أو نكاح أو عتق فليس له نقضه. قلت : رجوع القاضي عما حكم القاضي إذا يتبين له أن الحق في غيره ما دام في ولايته أولى. وهكذا في رسالة عمر إلى أبي موسى. الله عنهما ؛ رواها الدارقطني ، وقد ذكرناها في "الأعراف" ولم يفصل ؛ وهي الحجة لظاهر قول مالك. ولم يختلف العلماء أن القاضي إذا قضى تجوزا وبخلاف أهل العلم فهوم دود ، إن كان على وجه الاجتهاد ؛ فأما أن يتعقب قاض حكم قاض آخر فلا يجوز ذلك له لأن فيه مضرة عظمى من جهة نقض الأحكام ، وتبديل الحلال بالحرام ، وعدم ضبط قوانين الإسلام ، ويتعرض أحد من العلماء لنقض ما رواه الآخر ، وإنما كان يحكم بما ظهر له. الثانية عشرة : قال بعض الناس : إن داود عليه السلام لم يكن أنفذ الحكم وظهر له ما قال غير. وقال آخرون لم يكن حكما وإنما كانت فتيا. قلت : وهكذا تؤول فيما رواه أبو هريرة عنه عليه السلام أنه قال : "بينما امرأتان معهما ابناهما جاء الذئب فذهب بابن إحداهما ، فقالت هذه لصاحبتها : إنما ذهب بابنك أنت. وقالت الأخرى : إنما ذهب بابنك ؛ فتحاكمتا إلى داود ، فقضى به للكبرى ؛ فخرجتا على سليمان بن داود عليهما السلام فأخبرتاه ؛ فقال : ائتوني بالسكين أشفه بينكما ؛ فقالت الصغرى : لا - يرحمك الله - هو ابنها ؛ فقضى به للصغرى" قال أبو هريرة : إن سمعت بالسكين قط إلا يومئذ ، ما كنا نقول إلا المدية ؛ أخرجه مسلم. فأما القول بأن ذلك من داود فتيا فهو ضعيف ؛ لأنه كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وفتياه حكم. وأما القول الآخر فيبعد ؛ لأنه تعالى قال : {إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} فبين أن كل واحد منهما كان قد حكم. وكذا قول في الحديث : فقضى به للكبرى ؛ يدل على إنفاذ القضاء وإنجازه. ولقد أبعد من قال : إنه كان من شرع داود أن يحكم به للكبرى من حيث هي كبرى ؛ لأن الكبر والصغر طرد محض عند الدعاوى كالطول والقصر والسواد والبياض وذلك لا يوجب ترجيح أحد المتداعيين حتى يحكم له أو عليه لأجل ذلك. وهو مما يقطع به من فهم ما جاءت به الشرائع. والذي ينبغي أن يقال : إن داود عليه السلام إنما قضى به للكبرى لسبب اقتضى عنده ترجيح قولها. ولم يذكر في الحديث تعيينه إذ لم تدع حاجة إليه ، فيمكن أن الولد كان بيدها ، وعلم عجز الأخرى عن إقامة البينة ، فقضى به لها إبقاء لما كان على ما كان. وهذا التأويل أحسن ما قيل في هذا الحديث. وهو الذي تشهد له قاعدة الدعاوي الشرعية التي يبعد اختلاف الشرائع فيها. لا يقال : فإن كان داود قضى بسبب شرعي فكيف ساغ لسليمان نقض حكمه ؛ فالجواب : أن سليمان عليه السلام لم يتعرض لحكم أبيه بالنقض ، وإنما احتال حيلة لطيفة ظهر له بسببها صدق الصغرى ؛ وهي أنه لما قال : هات السكين أشقه بينكما ، قالت الصغرى : لا ؛ فظهر له من قرينه الشفقة في الصغرى ، وعدم ذلك في الكبرى ، مع ما عساه انضاف إلى ذلك من القرائن ما حصل له العلم بصدقها فحكم لها. ولعله كان ممن سوغ له أن يحكم بعلمه. وقد ترجم النسائي على هذا الحديث "حكم الحاكم بعلمه". وترجم له أيضا "السعة للحاكم أن يقول ![]()
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() ![]() تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (11) سُورَةُ الأنبياء من صــ 314 الى صــ 323 الحلقة (483) للشيء الذي لا يفعله أفعل ليستبين الحق". وترجم له أيضا "نقض الحاكم لا يحكم به غيره ممن هو مثله أو أجل منه". ولعل الكبرى اعترفت بأن الولد للصغرى عندما رأت من سليمان الحزم والجد في ذلك ، فقضى بالولد للصغرى ؛ ويكون هذا كما إذا حكم الحاكم باليمين ، فلما مضى ليحلف حضر من استخرج من المنكر ما أوجب إقراره ، فإنه يحكم عليه بذلك الإقرار قبل اليمين وبعدها ، ولا يكون ذلك من باب نقض الحكم الأول ، لكن من باب تبدل الأحكام بحسب تبدل الأسباب. والله أعلم. وفي هذا الحديث من الفقه أن الأنبياء سوغ لهم الحكم بالاجتهاد ؛ وقد ذكرناه. وفيه من الفقه استعمال الحكام الحيل التي تستخرج بها الحقوق ، وذلك يكون عن قوة الذكاء والفطنة ، وممارسة أحوال الخلق ؛ وقد يكون في أهل التقوى فراسة دينية ، وتوسمات نورية ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. وفيه الحجة لمن يقول : إن الأم تستلحق ؛ وليس مشهور مذهب مالك ، وليس هذا موضع ذكره. وعلى الجملة فقضاء سليمان في هذه القصة تضمنها مدحه تعالى له بقوله : {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} . الثالثة عشرة : قد تقدم القول في الحرث والحكم في هذه الواقعة في شرعنا : أن على أصحاب الحوائط حفظ حيطانهم وزروعهم بالنهار ، ثم الضمان في المثل بالمثليات ، وبالقيمة في ذوات القيم. والأصل في هذه المسألة في شرعنا ما حكم به نبينا صلى الله عليه وسلم في ناقة البراء بن عازب. رواه مالك عن ابن شهاب عن حرام بن سعد بن محيصة : أن ناقة للبراء دخلت حائط رجل فأفسدت فيه ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على أهل الحوائط حفظها بالليل ، وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها. هكذا رواه جميع الرواة مرسلا. وكذلك رواه أصحاب ابن شهاب عن ابن شهاب ، إلا ابن عيينة فإنه رواه عن الزهري عن سعيد وحرام بن سعد بن محيصة : أن ناقة ؛ فذكر مثله بمعناه. ورواه ابن أبي ذئب عن ابن شهاب أنه بلغه أن ناقة البراء دخلت حائط قوم ؛ مثل حديث مالك سواء ، إلا أنه لم يذكر حرام بن سعد بن محيصة ولا غيره. قال أبو عمر : لم يصنع ابن أبي ذئب شيئا ؛ إلا أنه أفسد إسناده. ورواه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن حرام بن محيصة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يتابع عبد الرزاق على ذلك وأنكروا عليه قوله عن أبيه. ورواه ابن جريج عن ابن شهاب قال : حدثني أبو أمامة بن سهل بن حنيف أن ناقة دخلت في حائط قوم فأفسدت ؛ فجعل الحديث لابن شهاب عن أبي أمامة ، ولم يذكر أن الناقة كانت للبراء. وجائز أن يكون الحديث عن ابن شهاب عن ابن محيصة ، وعن سعيد بن المسيب ، وعن أبي أمامة - والله أعلم - فحدث به عمن شاء منهم على ما حضره وكلهم ثقات. قال أبو عمر : وهذا الحديث وإن كان مرسلا فهو حديث مشهور أرسله الأئمة ، وحدث به الثقات ، واستعمله فقهاء الحجاز وتلقوه بالقبول ، وجرى في المدينة العمل به ، وحسبك باستعمال أهل المدينة وسائر أهل الحجاز لهذا الحديث. الرابعة عشرة : ذهب مالك وجمهور الأئمة إلى القول بحديث البراء ، وذهب أبو حنيفة وأصحابه وجماعة من الكوفيين إلى أن هذا الحكم منسوخ ، وأن البهائم إذا أفسدت زرعا في ليل أو نهار أنه لا يلزم صاحبها شيء ، وأدخل فسادها في عموم قوله صلى الله عليه وسلم : "جرح العجماء جبار" فقاس جميع أعمالها على جرحها. ويقال : أنه ما تقدم أبا حنيفة أحد بهذا القول ، ولا حجة له ولا لمن اتبعه في حديث العجماء ، وكونه ناسخا لحديث البراء ومعارضا له ؛ فإن النسخ شروطه معدومة ، والتعاوض إنما يصح إذا لم يمكن استعماله أحدهما إلا بنفي الآخر ، وحديث "العجماء جرحها جبار" عموم متفق عليه ، ثم خص منه الزرع والحوائط بحديث البراء ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لو جاء عنه في حديث واحد : العجماء جرحها جبار نهارا لا ليلا وفي الزرع والحوائط والحرث ، لم يكن هذا مستحيلا من القول ؛ فكيف يجوز أن يقال في هذا متعارض ؟ ! وإنما هذا من باب العموم والخصوص على ما هو مذكور في الأصول. الخامسة عشرة : إن قيل : ما الحكمة في تفريق الشارع بين الليل والنهار ، وقد قال الليث بن سعد : يضمن أرباب المواشي بالليل والنهار كل ما أفسدت ، ولا يضمن أكثر من قيمة الماشية ؟ قلنا : الفرق بينهما واضح وذلك أن أهل المواشي لهم ضرورة إلى إرسال مواشيهم ترعى بالنهار ، والأغلب عندهم أن من عنده زرع يتعاهده بالنهار ويحفظه عمن أراده ، فجعل حفظ ذلك بالنهار على أهل الزروع ؛ لأنه وقت التصرف في المعاش ، كما قال الله سبحانه وتعالى : {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً} [النبأ : 11] فإذا جاء الليل فقد جاء الوقت الذي يرجع كل شيء إلى موضعه وسكنه ؛ كما قال الله تعالى : {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ} [القصص : 72] وقال : {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً} [الأنعام : 96] ويرد أهل المواشي مواشيهم إلى مواضعهم ليحفظوها ، فإذا فرط صاحب الماشية في ردها إلى منزله ، وفرط في ضبطها وحبسها عن الانتشار بالليل حتى أتلفت شيئا فعليه ضمان ذلك ، فجرى الحكم الأوفق الأسمح ، وكان ذلك أرفق بالفريقين ، وأسهل على الطائفتين ، وأحفظ للمالين ، وقد وضح الصبح لذي عينين ، ولكن لسليم الحاستين ؛ وأما قول الليث : لا يضمن أكثر من قيمة المال فقد قال أبو عمر : لا أعلم من أين قال هذا الليث بن سعد ، إلا أن يجعله قياسا على العبد الجاني لا يفتك بأكثر من قيمته ولا يلزم سيده في جنايته أكثر من قيمته ، وهذا ضعيف الوجه ؛ كما قال في "التمهيد" وفي "الاستذكار" فخالف الحديث في "العجماء جرحها جبار" وخالف ناقة البراء ، وقد تقدمه إلى ذلك طائفة من العلماء منهم عطاء. قال ابن جريج قلت لعطاء : الحرث الماشية ليلا أو نهارا ؟ قال : يضمن صاحبها ويغرم. قلت : كان عليه حظرا أو لم يكن ؟ قال نعم! يغرم. قلت : ما يغرم ؟ قال : قيمة ما أكل حماره ودابته وماشيته. وقال معمر عن ابن شبرمة : يقوم الزرع على حاله التي أصيب عليها دراهم. وروي عن عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما : يضمن رب الماشية ليلا أو نهارا ، من طرق لا تصح. السادسة عشرة : قال مالك : ويقوم الزرع الذي أفسدت المواشي بالليل على الرجاء والخوف. قال : والحوائط التي تحرس والتي لا تحرس ، والمحظر عليها وغير المحظر سواء ، يغرم أهلها ما أصابت بالليل بالغا ما بلغ ، وإن كان أكثر من قيمتها. قال : وإن انفلتت دابة بالليل فوطئت على رجل نائم لم يغرم صاحبها شيئا ، وإنما هذا في الحائط والزرع والحرث ؛ ذكره عنه ابن عبد الحكم. وقال ابن القاسم : ما أفسدت الماشية بالليل فهو في مال ربها ، وإن كان أضعاف ثمنها ؛ لأن الجناية من قبله إذ لم يربطها ، وليست الماشية كالعبيد ؛ حكاه سحنون وأصبغ وأبو زيد عن ابن القاسم. السابعة عشرة : ولا يستأني بالزرع أن ينبت أولا ينبت كما يفعل في سن الصغير. وقال عيسى عن ابن القاسم : قيمته لو حل بيعه. وقال أشهب وابن نافع في المجموعة عنه : وإن لم يبد صلاحه. ابن العربي : والأول أقوى لأنها صفته فتقوم كما يقوم كل متلف على صفته. الثامنة عشرة : لو لم يقض للمفسد له بشيء حتى نبت وانجبر فإن كان فيه قبل ذلك منفعة رعي أو شيء ضمن تلك المنفعة ، وإن لم تكن فيه منفعة فلا ضمان. وقال أصبغ : يضمن ؛ لأن التلف قد تحقق والجبر ليس من جهته فلا يعتد له به. التاسعة عشرة : وقع في كتاب ابن سحنون أن الحديث إنما جاء في أمثال المدينة التي هي حيطان محدقة ، وأما البلاد التي هي زروع متصلة غير محظرة ، وبساتين كذلك ، فيضمن أرباب النعم ما أفسدت من ليل أو نهار ؛ كأنه ذهب إلى أن ترك تثقيف الحيوان في مثل هذه البلاد تعد ؛ لأنها ولا بد تفسد. وهذا جنوب إلى قول الليث. الموفية عشرين : قال أصبغ في المدينة : ليس لأهل المواشي أن يخرجوا مواشيهم إلى قرى الزرع بغير ذواد ؛ فركب العلماء على هذا أن البقعة لا تخلو أن تكون بقعة زرع ، أو بقعة سرح ، فإن كانت بقعة زرع فلا تدخلها ماشية إلا ماشية تجتاح ، وعلى أربابها حفظها ، وما أفسدت فصاحبها ضامن ليلا أو نهارا ؛ وإن كانت بقعة سرح فعلى صاحب الذي حرثه فيها حفظه ، ولا شيء على أرباب المواشي. الحادية والعشرين : المواشي على قسمين : ضواري وحريسة وعليهما قسمها مالك. فالضواري هي المعتادة للزرع والثمار ، فقال مالك : تغرب وتباع في بلد لا زرع فيه ؛ رواه ابن القاسم في الكتاب وغيره. قال ابن حبيب : وإن كره ذلك ربها ، وكذلك قال مالك في الدابة التي ضريت في إفساد الزرع : تغرب وتباع. وأما ما يستطاع الاحتراس منه فلا يؤمر صاحبه بإخراجه. الثانية والعشرون : قال أصبغ : النحل والحمام والإوز والدجاج كالماشية ، لا يمنع صاحبها من اتخاذها وإن [ضريت] ، وعلى أهل القرية حفظ زروعهم. قال ابن العربي : وهذه رواية ضعيفة لا يلتفت إليها من أراد أن يجد ما ينتفع به مما لا يضر بغيره مكن منه ، وأما انتفاعه بما يتخذه بإضراره بأحد فلا سبيل إليه. قال عليه السلام : "لا ضرر ولا ضرار" وهذه الضواري عن ابن القاسم في المدينة لا ضمان على أربابها إلا بعد التقدم ابن العربي : وأرى الضمان عليهم قبل التقدم إذا كانت ضواري. ذكر عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن الشعبي أن شاة وقعت في غزل حائك فاختصموا إلى شريح ، فقال الشعبي : انظروه فإنه سيسألهم ليلا وقعت فيه أو نهارا ؛ ففعل. ثم قال : إن كان بالليل ضمن ، وإن كان بالنهار لم يضمن ، ثم قرأ شريح {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} قال : والنفش بالليل والهمل بالنهار. قلت : ومن هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم : "العجماء جرحها جبار" الحديث. وقال ابن شهاب : والجبار الهدر ، والعجماء البهيمة ، قال علماؤنا : ظاهر قوله : "العجماء جرحها جبار" أن ما انفردت البهيمة بإتلافه لم يكن فيه شيء ، وهذا مجمع عليه. فلو كان معها قائد أو سائق أو راكب فحملها أحدهم على شيء فأتلفته لزمه حكم المتلف ؛ فإن كانت جناية مضمونة بالقصاص وكان الحمل عمدا كان فيه القصاص ولا يختلف فيه ؛ لأن الدابة كالآلة. وإن كان عن غير قصد كانت فيه الدية على العاقلة. وفي الأموال الغرامة في مال الجاني. الرابعة والعشرون : واختلفوا فيمن أصابته برجلها أو ذنبها ، فلم يضمن مالك والليث والأوزاعي صاحبها ، وضمنه الشافعي وابن أبي ليلى وابن شبرمة. واختلفوا في الضارية فجمهورهم أنها كغيرها ، ومالك وبعض أصحابه يضمنونه. الخامسة والعشرون : روى سفيان بن حسين عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الرجل جبار" قال الدارقطني : لم يروه غير سفيان بن حسين ولم يتابع عليه ، وخالفه الحفاظ عن الزهري منهم مالك وابن عيينة ويونس ومعمر وابن جريج والزبيدي وعقيل وليث بن سعد ، وغيرهم كلهم رووه عن الزهري فقالوا : "العجماء جبار والبئر جبار والمعدن جبار" ولم يذكروا الرجل وهو الصواب. وكذلك روى أبو صالح السمان ، وعبد الرحمن الأعرج ، ومحمد بن سيرين ، ومحمد بن زياد وغيرهم عن أبي هريرة ، ولم يذكروا فيه "والرجل جبار" وهو المحفوظ عن أبي هريرة. السادسة والعشرون : قوله : "والبئر جبار" قد روى موضعه "والنار جبار" قال الدارقطني : حدثنا حمزة بن القاسم الهاشمي حدثنا حنبل بن إسحاق قال سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول في حديث عبد الرزاق : حديث أبي هريرة "والنار جبار" ليس بشيء لم يكن في الكتاب باطل ليس هو بصحيح. حدثنا محمد بن مخلد حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن هانئ قال سمعت أحمد بن حنبل يقول : أهل اليمن يكتبون النار النير ويكتبون البير ؛ يعني مثل ذلك. وإنما لقن عبد الرزاق "النار جبار" . وقال الرمادي : قال عبد الرزاق قال معمر لا أراه إلا وهما. قال أبو عمر : روي عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "النار جبار" وقال يحيي بن معين : أصله البئر ولكن معمرا صحفه قال أبو عمر : لم يأت ابن معين على قوله هذا بدليل ، وليس هكذا ترد أحاديث الثقات. ذكر وكيع عن عبد العزيز بن حصين عن يحي بن يحي الغساني قال : أحرق رجل سافي قراح له فخرجت شررة من نار حتى أحرقت شيئا لجاره. قال : فكتب فيه إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ابن حصين فكتب إلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "العجماء جبار" وأرى أن النار جبار. وقد روي "والسائمة جبار" بدل العجماء فهذا ما ورد في ألفاظ هذا الحديث ولكل معنى لفظ صحيح مذكور في شرح الحديث وكتب الفقه. قوله تعالى : {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ} قال وهب : كان داود يمر بالجبال مسبحا والجبال تجاوبه بالتسبيح ، وكذلك الطير. وقيل كان داود إذا وجد فترة أمر الجبال فسبحت حتى يشتاق ؛ ولهذا قال : {وَسَخَّرْنَا} أي جعلناها بحيث تطيعه إذا أمرها بالتسبيح. وقيل : إن سيرها معه تسبيحها ، والتسبيح مأخوذ من السباحة ؛ دليله قوله تعالى : {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} [سبأ : 10] . وقال قتادة : {يُسَبِّحْنَ} يصلين معه إذا صلى ، والتسبيح الصلاة. وكل محتمل. وذلك فعل الله تعالى بها ؛ ذلك لأن الجبال لا تعقل فتسبيحها دلالة على تنزيه الله تعالى عن صفات العاجزين والمحدثين. الآية : 80 {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} فيه ثلاث مسائل : - الأولى : قوله تعالى : {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ} يعني اتخاذ الدروع بإلانة الحديد له ، واللبوس عند العرب السلاح كله ؛ درعا كان أو جوشنا أو سيفا أو رمحا. قال الهذلي يصف رمحا : ومعي لبوس للبئيس كأنه ... روق بجبهة ذي نعاج مجفل واللبوس كل ما يلبس ، وأنشد ابن السكيت : ألبس كل حالة لبوسها ... إما نعيمها وإما ما بوسها وأراد الله تعالى هنا الدرع ، وهو بمعنى الملبوس نحو الركوب والحلوب. قال قتادة : أول من صنع الدروع داود. وإنما كانت صفائح ، فهو أول من سردها وحلقها. الثانية : قوله تعالى : {لِيُحْصِنَكُمْ} ليحرزكم. {مِنْ بَأْسِكُمْ} أي من حربكم. وقيل : من السيف والسهم والرمح ، أي من آلة بأسكم فحذف المضاف. ابن عباس : {مِنْ بَأْسِكُمْ} من سلاحكم. الضحاك : من حرب أعدائكم. والمعنى واحد. وقرأ الحسن وأبو جعفر وابن عامر وحفص وروح {لِتُحْصِنَكُمْ} بالتاء ردا على الصفة. وقيل : على اللبوس والمنعة التي هي الدروع. وقرأ شيبة وأبو بكر والمفضل ورويس وابن أبي إسحاق {لِنُحْصِنَكُمْ} بالنون لقوله : {وَعَلَّمْنَاهُ} . وقرأ الباقون بالياء جعلوا الفعل للبوس ، أو يكون المعنى ليحصنكم الله. {فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} أي على تيسير نعمة الدروع لكم. وقيل : {فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} بأن تطيعوا رسولي. هذه الآية أصل في اتخاذ الصنائع والأسباب ، وهو قول أهل العقول والألباب ، لا قول الجهلة الأغبياء القائلين بأن ذلك إنما شرع للضعفاء ، فالسبب سنة الله في خلقه فمن طعن في ذلك فقد طعن في الكتاب والسنة ، ونسب من ذكرنا إلى الضعف وعدم المنة. وقد أخبر الله تعالى عن نبيه داود عليه السلام أنه كان يصنع الدروع ، وكان أيضا يصنع الخوص ، وكان يأكل من عمل يده ، وكان آدم حراثا ، ونوح نجارا ، ولقمان خياطا ، وطالوت دباغا. وقيل : سقاء ؛ فالصنعة يكف بها الإنسان نفسه عن الناس ، ويدفع. بها عن نفسه الضرر والباس. وفي الحديث : "إن الله يحب المؤمن المحترف الضعيف المتعفف ويبغض السائل الملحف" . وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة "الفرقان" وقد تقدم في غير ما آية ، وفيه كفاية والحمد لله. الآيتان : 81 - 82 {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ ، وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} قوله تعالى : {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً} أي وسخرنا لسليمان الريح عاصفة ، أي شديدة الهبوب. يقال منه : عصفت الريح أي اشتدت فهي ريح عاصف وعصوف. وفي لغة بني أسد : أعصفت الريح فهي معصفة ومعصفة. والعصف التبن فسمي به شدة الريح ؛ لأنها تعصفه بشدة تطيرها. وقرأ عبد الرحمن الأعرج وأبو بكر {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحُ} برفع الحاء على القطع مما قبله ؛ والمعنى ولسليمان تسخير الريح ؛ ابتداء وخبر. {تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} يعني الشام يروي أنها كانت تجري به وبأصحابه إلى حيث أراد ، ثم ترده إلى الشام. وقال وهب : كان سليمان بن داود إذا خرج إلى مجلسه عكفت عليه الطير ، وقام له الجن والإنس حتى يجلس على سريره. وكان امرأ غزاء لا يعقد عن الغزو ؛ فإذا أراد أن يغزو أمر بخشب فمدت ورفع عليها الناس والدواب وآلة الحرب ، أمر العاصف فأقلت ذلك ، ثم أمر الرخاء فمرت به شهرا في رواحه وشهرا في غدوه ، وهو معنى قوله تعالى : {تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} [ص : 36] . والرخاء اللينة. {وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} أي بكل شيء عملنا عالمين بتدبيره. قوله تعالى : {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ} أي وسخرنا له من يغوصون ؛ يريد تحت الماء. أي يستخرجون له الجواهر من البحر. والغوص النزول تحت الماء ، وقد غاص في الماء ، والهاجم على الشيء غائص. والغواص الذي يغوص في البحر على اللؤلؤ ، وفعله الغياصة. {وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ} أي سوي ذلك من الغوص ؛ قاله الفراء. وقيل : يراد بذلك المحاريب والتماثيل وغير ذلك يسخرهم فيه. {وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} أي لأعمالهم. وقال الفراء : حافظين لهم من أن يفسدوا أعمالهم ، أو يهيجوا أحدا من بني آدم في زمان سليمان. وقيل : {حَافِظِينَ} من أن يهربوا أو يمتنعوا. أو حفظناهم من أن يخرجوا عن أمره. وقد قيل : إن الحمام والنورة والطواحين والقوارير والصابون من استخراج الشياطين. الآيتان : 83 - 84 {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} قوله تعالى : {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ} أي واذكر أيوب إذ نادى ربه. {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} أي نالني في بدني ضر وفي مالي وأهلي. قال ابن عباس : سمي أيوب لأنه آب إلى الله تعالى في كل حال. وروي أن أيوب عليه السلام كان رجلا من الروم ذا مال عظيم ، وكان برا تقيا رحيما بالمساكين ، يكفل الأيتام والأرامل ، ويكرم الضيف ، ويبلغ ابن السبيل ، شاكرا لأنعم الله تعالى ، وأنه دخل مع قومه على جبار عظيم فخاطبوه في أمر ، فجعل أيوب يلين له في القول من أجل زرع كان له فامتحنه الله بذهاب مال وأهله ، وبالضر في جسمه حتى تناثر لحمه وتدود جسمه ، حتى أخرجه أهل قريته إلى خارج القرية ، وكانت امرأته تخدمه. قال الحسن : مكث بذلك تسع سنين وستة أشهر. فلما أراد الله أن يفرج عنه قال الله تعالى له : {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص : 42] فيه شفاؤك ، وقد وهبت لك أهلك ومالك وولدك ومثلهم معهم. وسيأتي في "ص" ما للمفسرين في قصة أيوب من تسليط الشيطان عليه ، والرد عليهم إن شاء الله تعالى. واختلف في قول أيوب : {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} على خمسة عشر قولا : الأول : أنه وثب ليصلي فلم يقدر على النهوض فقال : {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} إخبارا عن حاله ، لا شكوى لبلائه ؛ رواه أنس مرفوعا. الثاني : أنه إقرار بالعجز فلم يكن منافيا للصبر. الثالث : أنه سبحانه أجراه على لسانه ليكون حجة لأهل البلاء بعده في الإفصاح بما ينزل بهم. الرابع : أنه أجراه على لسانه إلزاما له في صفة الآدمي في الضعف عن تحمل البلاء. الخامس : أنه انقطع الوحي عنه أربعين يوما فخاف هجران ربه فقال : {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} . وهذا قول جعفر بن محمد. السادس : أن تلامذته الذين كانوا يكتبون عنه لما أفضت حال إلى ما انتهت إليه محوا ما كتبوا عنه ، وقالوا : ما لهذا عند الله قدر ؛ فاشتكى الضر في ذهاب الوحي والدين من أيدي الناس. وهذا مما لم يصح سنده. والله أعلم ؛ قال ابن العربي. السابع : أن دودة سقطت من لحمه فأخذها وردها في موضعها فعقرته فصاح {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} فقيل : أعلينا تتصبر. قال ابن العربي : وهذا بعيد جدا ![]()
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() ![]() تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (11) سُورَةُ الأنبياء من صــ 324 الى صــ 333 الحلقة (484) مع أنه يفتقر إلى نقل صحيح ، ولا سبيل إلى وجوده. الثامن : أن الدود كان يتناول بدنه فصبر حتى تناولت دودة قلبه وأخرى لسانه ، فقال : {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} لاشتغاله عن ذكر الله ، قال ابن العربي : وما أحسن هذا لو كان له سند ولم تكن دعوى عريضة. التاسع : أنه أبهم عليه جهة أخذ البلاء له هل هو تأديب ، أو تعذيب ، أو تخصيص ، أو تمحيص ، أو ذخر أو طهر ، فقال : {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} أي ضر الإشكال في جهة أخذ البلاء. قال ابن العربي : وهذا غلو لا يحتاج إليه. العاشر : أنه قيل له سل الله العافية فقال : أقمت في النعيم سبعين سنة وأقيم في البلاء سبع سنين وحينئذ أسأله فقال : {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} . قال ابن العربي : وهذا ممكن ولكنه لم يصح في إقامته مدة خبر ولا في هذه القصة. الحادي عشر : أن ضره قول إبليس لزوجه اسجدي لي فخاف ذهاب الإيمان عنها فتهلك ويبقي بغير كافل. الثاني عشر : لما ظهر به البلاء قال قومه : قد أضر بنا كونه معنا وقذره فليخرج عنا ، فأخرجته امرأته إلى ظاهر البلد ؛ فكانوا إذا خرجوا رأوه وتطيروا به وتشاءموا برؤيته ، فقالوا : ليبعد بحيث لا نراه. فخرج إلى بعد من القرية ، فكانت امرأته تقوم عليه وتحمل قوته إليه. فقالوا : إنها تتناوله وتخالطنا فيعود بسببه ضره إلينا. فأرادوا قطعها عنه ؛ فقال : {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} . الثالث عشر : قال عبد الله بن عبيد بن عمير : كان لأيوب أخوان فأتياه فقاما. بعيد لا يقدران أن يدنوا منه من نتن ريحه ، فقال أحدهما : لو علم الله في أيوب خيرا ما ابتلاه بهذا البلاء ؛ فلم يسمع شيئا أشد عليه من هذه الكلمة ؛ فعند ذلك قال : {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} ثم قال : "اللهم إن كنت تعلم أني لم أبت شبعان قط وأنا أعلم مكان جائع فصدقني" فنادى مناد من السماء "أن صدق عبد ي" وهما يسمعان فخرا ساجدين. الرابع عشر : أن معنى {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} من شماتة الأعداء ؛ ولهذا قيل له : ما كان أشد عليك في بلائك ؟ قال شماتة الأعداء. قال ابن العربي : وهذا ممكن فإن الكليم قد سأله أخوه العافية من ذلك فقال : {إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ} [الأعراف : 150] . الخامس عشر : أن امرأته كانت ذات ذوائب فعرفت حين منعت أن تتصرف لأحد بسببه ما تعود به عليه ، فقطعت ذوائبها واشترت بها ممن قوتا وجاءت به إليه ، وكان يستعين بذوائبها في تصرفه وتنقله ، فلما عدمها وأراد الحركة في تنقله لم يقدر قال : {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} . وقيل : إنها لما اشترت القوت بذوائبها جاءه إبليس في صفة رجل وقال له : إن أهلك بغت فأخذت وحلق شعرها. فحلف أيوب أن يجلدها ؛ فكانت المحنة على قلب المرأة أشد من المحنة على قلب أيوب. قلت : وقول سادس عشر : ذكر ابن المبارك : أخبرنا يونس بن يزيد عن عقيل عن ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوما أيوب النبي صلى الله عليه وسلم وما أصابه من البلاء ؛ الحديث. وفيه أن بعض إخوانه ممن صابره ولازمه قال : يا نبي الله لقد أعجبني أمرك وذكرته إلى أخيك وصاحبك ، أنه قد ابتلاك بذهاب الأهل والمال وفي جسدك منذ ثمان عشرة سنة حتى بلغت ما ترى ألا يرحمك فيكشف عنك ! لقد أذنبت ذنبا ما أظن أحدا بلغه! فقال أيوب عليه السلام : "ما أدري ما يقولان غير أن ربي عز وجل يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتزاعمان وكل يحلف بالله - أو على النفر يتزاعمون - فأنقلب إلى أهلي فأكفر عن أيمانهم إرادة ألا يأثم أحد ذكره ولا يذكره أحد إلا بالحق" فنادى ربه {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} إنما كان دعاؤه عرضا عرضه على الله تبارك وتعالى يخبره بالذي بلغه ، صابرا لما يكون من الله تبارك وتعالى فيه. وذكر الحديث. وقول سابع عشر : سمعته ولم أقف عليه أن دودة سقطت من جسده فطلبها ليردها إلى موضعها فلم يجدها فقال : {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} لما فقد من أجر ألم تلك الدودة ، وكان أراد أن يبقي له الأجر موفرا إلى وقت العافية ، وهذا حسن إلا أنه يحتاج إلى سند. قال العلماء : ولم يكن قوله {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} جزعا ؛ لأن الله تعالى قال : {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً} [ص : 44] بل كان ذلك دعاء منه ، والجزع في الشكوى إلى الخلق لا إلى الله تعالى ، والدعاء لا ينافي الرضا. قال الثعلبي سمعت أستاذنا أبا القاسم بن حبيب يقول : حضرت مجلسا غاصا بالفقهاء والأدباء في دار السلطان ، فسألت عن هذه الآية بعد إجماعهم على أن قول أيوب كان شكاية قد قال الله تعالى : {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً} [ص : 44] فقلت : ليس هذا شكاية وإنما كان دعاء ؛ بيانه {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} والإجابة تتعقب الدعاء لا الاشتكاء. فاستحسنوه وارتضوه. وسئل الجند عن هذه الآية فقال : عرفه فاقة السؤال ليمن عليه بكوم النوال. قوله تعالى : {فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} قال مجاهد وعكرمة قيل لأيوب صلى الله عليه وسلم : قد آتيناك أهلك في الجنة فإن شئت تركناهم لك في الجنة وإن شئت آتيناكهم في الدنيا. قال مجاهد : فتركهم الله عز وجل له في الجنة وأعطاه مثلهم في الدنيا. قال النحاس : والإسناد عنهما بذلك صحيح. قلت : وحكاه المهدوي عن ابن عباس. وقال الضحاك : قال عبد الله بن مسعود كان أهل أيوب قد ماتوا إلا امرأته فأحياهم الله عز وجل في أقل من طرف البصر ، وآتاه مثلهم معهم. وعن ابن عباس أيضا : كان بنوه قد ماتوا فأحيوا له وولد له مثلهم معهم. وقال قتادة وكعب الأحبار والكلبي وغيرهم. قال ابن مسعود : مات أولاده وهم سبعة من الذكور وسبعة من الإناث فلما عوفي نشروا له ، وولدت امرأته سبعة بنين وسبع بنات. الثعلبي : وهذا القول أشبه بظاهر الآية. قلت : لأنهم ماتوا ابتلاء قبل آجالهم حسب ما تقدم بيانه في سورة "البقرة" في قصة {الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ} [البقرة : 243] . وفي قصة السبعين الذين أخذتهم الصعقة فماتوا ثم أحيوا ؛ وذلك أنهم ماتوا قبل آجالهم ، وكذلك هنا والله أعلم. وعلى قول مجاهد وعكرمة يكون المعنى : {وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ} في الآخرة {وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} في الدنيا. وفي الخبر : إن الله بعث إليه جبريل عليه السلام حين ركض برجله على الأرض ركضة فظهرت عين ماء حار ، وأخذ بيده ونفضه نفضة فتناثرت عنه الديدان ، وغاص في الماء غوصة فنبت لحمه وعاد إلى منزله ، ورد الله عليه أهله ومثلهم معهم ، ونشأت سحابة على قدر قواعد داره فأمطرت ثلاثة أيام بلياليها جرادا من ذهب. فقال له جبريل : أشبعت ؟ فقال : ومن يشبع من فضل الله!. فأوحى الله إليه : قد أثنيت عليك بالصبر قبل وقوعك في البلاء وبعده ، ولولا أني وضعت تحت كل شعرة منك صبرا ما صبرت. {رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} أي فعلنا ذلك به رحمة من عندنا. وقيل : ابتليناه ليعظم ثوابه غدا. {وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} أي وتذكيرا للعباد ؛ لأنهم إذا ذكروا بلاء أيوب وصبره عليه ومحنته له وهو أفضل أهل زمانه وطنوا أنفسهم على الصبر على شدائد الدنيا نحو ما فعل أيوب ، فيكون هذا تنبيها لهم على إدامة العبادة ، واحتمال الضرر. واختلف في مدة إقامته في البلاء ؛ فقال ابن عباس : كانت مدة البلاء سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ليال. وهب : ثلاثين سنة. الحسن سبع سنين وستة أشهر. قلت : وأصح من هذا والله أعلم ثماني عشرة سنة ؛ رواه ابن شهاب عن النبي صلى ؛ ذكره ابن المبارك وقد تقدم. الآيتان : 85 - 86 {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ ، وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ} قوله تعالى : {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ} وهو أخنوخ وقد تقدم. {وَذَا الْكِفْلِ} أي واذكرهم. وخرج الترمذي الحكيم في "نوادر الأصول" وغيره من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "كان في بني إسرائيل رجل يقال له ذو الكفل لا يتورع من ذنب عمله فاتبع امرأة فأعطاها ستين دينارا على أن يطأها فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته ارتعدت وبكت فقال ما يبكيك قالت من هذا العمل والله ما عملته قط قال أأكرهتك قالت لا ولكن حملني عليه الحاجة قال اذهبي فهو لك والله لا أعصى الله بعدها أبدا ثم مات من ليلته فوجدوا مكتوبا على باب داره إن الله قد غفر لذي الكفل" وخرجه أبو عيسى الترمذي أيضا ولفظه. ابن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يحدث حديثا لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين - حتى عد سبع موات - [لم أحدث به] ولكني سمعته أكثر من ذلك ؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "كان" ذو الكفل من بني إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله فأتته امرأة فأعطاها ستين دينارا أن يطأها فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته ارتعدت وبكت فقال ما يبكيك أأكرهتك قالت لا ولكنه عمل ما عملته قط وما حملني عليه إلا الحاجة فقال تفعلين أنت هذا وما فعلته اذهبي فهي لك وقال والله لا أعصي الله بعدها أبدا فمات من ليلته فأصبح مكتوبا على بابه إن الله قد غفر لذي الكفل "قال : حديث حسن. وقيل إن اليسع لما كبر قال : لو استخلفت رجلا على الناس أنظر كيف يعمل. فقال : من يتكفل لي بثلاث : بصيام النهار وقيام الليل وإلا يغضب وهو يقضي ؟ فقال رجل من ذرية العيص : أنا ؛ فرده ثم قال مثلها من الغد ؛ فقال الرجل : أنا ؛ فاستخلفه فوفي فأثنى الله عليه فسمي ذا الكفل ؛ لأنه تكفل بأمر ؛ قال أبو موسى ومجاهد وقتادة. وقال عمرو بن عبد الرحمن بن الحارث وقال أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم : إن ذا الكفل لم يكن نبيا ، ولكنه كان عبد ا صالحا فتكفل بعمل رجل صالح عند موته ، وكان يصلي ، لله كل يوم مائة صلاة فأحسن الله الثناء عليه قال كعب : كان في بني إسرائيل ملك كافر فمر ببلاده رجل صالح فقال : والله إن خرجت من هذه البلاد حتى أعرض على هذا الملك الإسلام. فعرض عليه فقال : ما جزائي ؟ قال : الجنة - ووصفها له - قال : من يتكفل لي بذلك ؟ قال : أنا ؛ فأسلم الملك وتخلى عن المملكة وأقبل على طاعة ربه حتى مات ، فدفن فأصبحوا فوجدوا يده خارجة من القبر وفيها رقعة خضراء مكتوب فيها بنور أبيض : إن الله قد غفر لي وأدخلني الجنة ووفى عن كفالة فلان ؛ فأسرع الناس إلى ذلك الرجل بأن يأخذ عليهم الإيمان ، ويتكفل لهم بما تكفل به للملك ، ففعل ذلك فأمنوا كلهم فسمي ذا الكفل. وقيل : كان رجلا عفيفا يتكفل بشأن كل إنسان وقع في بلاء أو تهمة أو مطالبة فينجيه الله على يديه. وقيل : سمي ذا الكفل لأن الله تعالى تكفل له في سعيه وعمله بضعف عمل غيره من الأنبياء الذين كانوا في زمانه. والجمهور على أنه ليس بنبي. وقال الحسن : هو نبي قبل إلياس. وقيل : هو زكريا بكفالة مريم. {كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ} أي على أمر الله والقيام بطاعته واجتناب معاصيه. {وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا} أي في الجنة {إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ} " الآيتان : 87 - 88 {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} قوله تعالى : {وَذَا النُّونِ} أي واذكر {ذَا النُّونِ} وهو لقب ليونس بن متى لابتلاع النون إياه. والنون الحوت. وفي حديث عثمان رضي الله عنه أنه رأى صبيا مليحا فقال : دسموا نونته كي لا تصيبه العين. روى ثعلب عن ابن الأعرابي : النونة النقبة التي تكون في ذقن الصبي الصغير ، ومعنى دسموا سودوا. {إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً} قال الحسن والشعبي وسعيد بن جبير : مغاضبا لربه عز وجل. واختاره الطبري والقتبي واستحسنه المهدوي ، وروي عن ابن مسعود. وقال النحاس : وربما أنكره هذا من لا يعرف اللغة وهو قول صحيح. والمعنى : مغاضبا من أجل ربه ، كما تقول : غضبت لك أي من أجلك. والمؤمن يغضب لله عز وجل إذا عصي. وأكثر أهل اللغة يذهب إلى أن قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة : "اشترطي لهم الولاء" من هذا. وبالغ القتبي في نصرة هذا القول. وفي الخبر في وصف يونس : إنه كان ضيق الصدر فلما حمل أعباء النبوة تفسخ تحتها تفسخ الربع تحت الحمل الثقيل ، فمضى على وجهه مضي الآبق الناد. وهذه المغاضبة كانت صغيرة. ولم يغضب على الله ولكن غضب لله إذ رفع العذاب عنهم. وقال ابن مسعود : أبق من ربه أي من أمر ربه حتى أمره بالعودة إليهم بعد رفع العذاب عنهم. فإنه كان يتوعد قومه بنزول العذاب في وقت معلوم ، وخرج من عندهم في ذلك الوقت ، فأظلهم العذاب فتضرعوا فرفع عنهم ولم يعلم يونس بتوبتهم ؛ فلذلك ذهب مغاضبا وكان من حقه ألا يذهب إلا بإذن محدد. وقال الحسن : أمره الله تعالى بالمسيرة إلى قومه فسأل أن ينظر ليتأهب ، فأعجله الله حتى سأل أن يأخذ نعلا ليلبسها فلم ينظر ، وقيل له : الأمر أعجل من ذلك - وكان في خلقه ضيق - فخرج مغاضبا لربه ، فهذا قول وقول النحاس أحسن ما قيل في تأويله. أي خرج مغاضبا من أجل ربه ، أي غضب على قومه من أجل كفرهم بربه وقيل : إنه غاضب قومه حين طال عليه أمرهم وتعنتهم فذهب فارا بنفسه ، ولم يصبر على أذاهم وقد كان الله أمره بملازمتهم والدعاء ، فكان ذنبه خروجه من بينهم من غير إذن من الله. روي عن ابن عباس والضحاك ، وأن يونس كان شابا ولم يحمل أثقال النبوة ؛ ولهذا قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : {وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم : 48] . وعن الضحاك أيضا خرج مغاضبا لقومه ؛ لأن قومه لما لم يقبلوا منه وهو رسول من الله عز وجل كفروا بهذا فوجب أن يغاضبهم ، وعلى كل أحد أن يغاضب من عصى الله عز وجل. وقالت فرقة منهم الأخفش : إنما خرج مغاضبا للملك الذين كان على قومه. قال ابن عباس : أراد شعيا النبي والملك الذي كان في وقته اسمه حزقيا أن يبعثوا يونس إلى ملك نينوى ، وكان غزا بني إسرائيل وسبى الكثير منهم ليكلمه حتى يرسل معه بني إسرائيل ، وكان الأنبياء في ذلك الزمان يوحى إليهم ، والأمر والسياسة إلى ملك قد اختاروه فيعمل على وحي ذلك النبي ، وكان أوحى الله لشعيا : أن قل لحزقيا الملك أن يختار نبيا قويا أمينا من بني إسرائيل فيبعثه إلى أهل نينوى فيأمرهم بالتخلية عن بني إسرائيل فإني ملق في قلوب ملوكهم وجبابرتهم التخلية عنهم. فقال يونس لشعيا : هل أمرك الله بإخراجي ؟ قال : لا. قال : فهل سماني لك ؟ قال : لا. قال فها هنا أنبياء أمناء أقوياء. فألحوا عليه فخرج مغاضبا للنبي الملك وقومه ، فأتى بحر الروم وكان من قصته ما كان ؛ فابتلي ببطن الحوت لتركه أمر شعيا ؛ ولهذا قال الله تعالى : {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} [الصافات : 142] والمليم من فعل ما يلام عليه. وكان ما فعله إما صغيرة أو ترك الأولى. وقيل : خرج ولم يكن نبيا في ذلك الوقت ولكن أمره ملك من ملوك بني إسرائيل أن يأتي نينوى ؛ ليدعو أهلها بأمر شعيا فأنف أن يكون ذهابه إليهم بأمر أحد غير الله ، فخرج مغاضبا للملك ؛ فلما نجا من بطن الحوت بعثه الله إلى قومه فدعاهم وآمنوا به. وقال القشيري : والأظهر أن هذه المغاضبة كانت بعد إرسال الله تعالى إياه ، وبعد رفع العذاب عن القوم بعد ما أظلهم ؛ فإنه كره رفع العذاب عنهم. قلت : هذا أحسن ما قيل فيه على ما يأتي بيانه في "والصافات" إن شاء الله تعالى. وقيل : إنه كان من أخلاق قومه قتل من جربوا عليه الكذب فخشي أن يقتل فغضب ، وخرج فارا على وجهه حتى ركب في سفينة فسكنت ولم تجر. فقال أهلها : أفيكم آبق ؟ فقال : أنا هو. وكان من قصته ما كان ، وابتلي ببطن الحوت تمحيصا من الصغيرة كما قال في أهل أحد : {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ} [آل عمران : 152] إلى قوله : {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران : 141] فمعاصي الأنبياء مغفورة ، ولكن قد يجري تمحيص ويتضمن ذلك زجرا عن المعاودة. وقول رابع : إنه لم يغاضب ربه ، ولا قومه ، ولا الملك ، وأنه من قولهم غضب إذا أنف. وفاعل قد يكون من واحد ؛ فالمعنى أنه لما وعد قومه بالعذاب وخرج عنهم تابوا وكشف عنهم العذاب ، فلما رجع وعلم أنهم لم يهلكوا أنف من ذلك فخرج أبقا. وينشد هذا البيت : وأغضب أن تهجي تميم بداوم أي آنف. وهذا فيه نظر ؛ فإنه يغال لصاحب هذا القول : إن تلك المغاضبة وإن كانت من الأنفة ، فالأنفة لا بد أن يخالطها الغضب وإن ذلك دق على من كان ؟ ! وأنت تقول لم يغضب على ربه ولا على قومه. قوله تعالى : {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ} قيل : معناه استنزله إبليس ووقع في ظنه إمكان ألا يقدر الله عليه بمعاقبته. وهذا قول مردود مرغوب عنه ؛ لأنه كفر. روي عن سعيد بن جبير حكاه عنه المهدوي ، والثعلبي عن الحسن وذكر الثعلبي وقال عطاء وسعيد بن جبير وكثير من العلماء معناه : فظن أن لن نضيق عليه. الحسن : هو من قوله تعالى : {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد : 26] أي يضيق. وقوله {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق : 7] . قلت : وهذا الأشبه بقول سعيد والحسن وقدر وقدر وقتر وقتر بمعنى ، أي ضيق وهو قول ابن عباس فيما ذكره الماوردي والمهدوي. وقيل : هو من القدر الذي هو القضاء والحكم ؛ أي فظن أن لن نقضي عليه بالعقوبة ؛ قال قتادة ومجاهد والفراء. مأخوذ من القدر وهو الحكم دون القدرة والاستطاعة. وروي عن أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب ، أنه قال في قول الله عز وجل : {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} هو من التقدير ليس من القدرة ، يقال منه : قدر الله لك الخير يقدره قدرا ، بمعنى قدر الله لك الخير. وأنشد ثعلب : فليست عشيات اللوى برواجع ... لنا أبدا ما أورق السلم النضر ولا عائد ذاك الزمان الذي مضى ... تباركت ما تقدر يقع ولك الشكر يعني ما تقدره وتقضي به يقع. وعلى هذين التأويلين العلماء. وقرأ عمر بن عبد العزيز والزهري : {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نُقَدِّرَ عَلَيهِ} بضم النون وتشديد الدال من التقدير. وحكى هذه القراءة الماوردي عن ابن عباس. وقرأ عبيد بن عمير وقتادة والأعرج : {أنْ لَنْ يُقَدَّرَ عَلَيهِ} بضم الياء مشددا على ، الفعل المجهول. وقرأ يعقوب وعبد الله بن أبي إسحاق والحسن وابن عباس أيضا {يُقْدَرُ عَلَيْهِ} بياء مضمومة وفتح الدال مخففا على الفعل المجهول. وعن الحسن أيضا {فَظَنَّ أَنْ لَنٍْ يَقْدِر عَلَيْهِ} . الباقون {نَقْدِرَ} بفتح النون وكسر الدال وكله بمعنى التقدير. قلت : وهذان التأويلان تأولهما العلماء في قول الرجل الذي لم يعمل خيرا قط لأهله إذا مات فحرقوه "فوالله لئن قدر الله على" الحديث فعلى التأويل الأول يكون تقديره : والله لئن ضيق الله علي وبالغ في محاسبتي وجزائي على ذنوبي ليكونن ذلك ، ثم أمر أن يحرق بإفراط خوفه. وعلى التأويل الثاني : أي لن كان سبق في قدر الله وقضائه أن يعذب كل ذي جرم على جرمه ليعذبني الله على إجرامي وذنوبي عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين غيري. وحديثه خرجه الأئمة في الموطأ وغيره. والرجل كان مؤمنا موحدا. وقد جاء في بعض طرقه "لم يعمل خيرا إلا التوحيد" وقد قال حين قال الله تعالى : لم فعلت هذا ؟ قال : من خشيتك يا رب. والخشية لا تكون إلا لمؤمن مصدق ؛ قال الله تعالى : {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} . [فاطر : 28] . وقد قيل : إن معنى {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} الاستفهام وتقديره : أفظن ، فحذف ألف الاستفهام إيجازا ؛ وهو قول سليمان "أبو" المعتمر. وحكى القاضي منذر بن سعيد : أن بعضهم قرأ "أفظن" بالألف. قوله تعالى : {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} فيه مسألتان : - الأولى : قوله تعالى : {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ} اختلف العلماء في جمع الظلمات ما المراد به ، فقالت فرقة منهم ابن عباس وقتادة : ظلمة الليل ، وظلمة البحر ، وظلمة الحوت. وذكر ابن أبي الدنيا حدثنا يوسف بن موسى حدثنا عبيدالله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون قال حدثنا عبد الله بن مسعود في بيت المال قال : لما ابتلع الحوت يونس عليه السلام أهوى به إلى قرار الأرض ، فسمع يونس تسبيح الحصى فنادى في الظلمات ظلمات ثلاث : ظلمة بطن الحوت ، وظلمة الليل ، وظلمة البحر {أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ} [الصافات : 145] كهيئة الفرخ الممعوط الذي ليس عليه ريش. وقالت فرقة منهم سالم بن أبي الجعد : ظلمة البحر ، وظلمة حوت التقم الحوت الأول. ويصح أن يعبر بالظلمات عن جوف الحوت الأول فقط ؛ كما قال : {فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ} [يوسف : 10] وفي كل جهاته ظلمة فجمعها سائغ. وذكر الماوردي : أنه يحتمل أن يعبر بالظلمات عن ظلمة الخطيئة ، وظلمة الشدة ، وظلمة الوحدة. وروي : أن الله تعالى أوحى إلى الحوت : "لا تؤذ منه شعرة فإني جعلت بطنك سجنه ولم أجعله طعامك" وروي : أن يونس عليه السلام سجد في جوف الحوت حين سمع تسبيح الحيتان في قعر البحر. وذكر ابن أبي الدنيا حدثنا العباس بن يزيد العبد ي حدثنا إسحاق بن إدريس حدثنا جعفر بن سليمان عن عوف عن سعيد بن أبي الحسن قال : لما التقم الحوت يونس عليه السلام ظن أنه قد مات فطول رجليه فإذا هو لم يمت فقام إلى عادته يصلي فقال في دعائه : "واتخذت لك مسجدا حيث لم يتخذه أحد" . وقال أبو المعالي : قوله صلى الله عليه وسلم "لا تفضلوني على يونس بن متى" المعنى فإني لم أكن وأنا في سدرة المنتهى بأقرب إلى الله منه ، وهو في قعر البحر في بطن الحوت. وهذا يدل على أن الباري سبحانه وتعالى ![]()
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
![]() ![]() تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (11) سُورَةُ الأنبياء من صــ 334 الى صــ 343 الحلقة (485) ليس في جهة. وقد تقدم هذا المعنى في "البقرة" و "الأعراف" . {أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} يريد فيما خالف فيه من ترك مداومة قومه والصبر عليهم وقيل : في الخروج من غير أن يؤذن له. ولم يكن ذلك من الله عقوبة ؛ لأن الأنبياء لا يجوز أن يعاقبوا ، وإنما كان ذلك تمحيصا. وقد يؤدب من لا يستحق العقاب كالصبيان ؛ ذكره الماوردي. وقيل : من الظالمين في دعائي على قومي بالعذاب. وقد دعا نوح على قومه فلم يؤاخذ. وقال الواسطي في معناه : نزه ربه عن الظلم وأضاف الظلم إلى نفسه اعترافا واستحقاقا. ومثل هذا قول آدم وحواء : {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [الأعراف : 23] إذ كانا السبب في وضعهما أنفسهما في غير الموضع الذي أنزلا فيه. الثانية : روى أبو داود عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "دعاء ذي النون في بطن الحوت {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} لم يدع به رجل مسلم في شيء قط إلا استجيب له" وقد قيل : إنه اسم الله الأعظم ورواه سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي الخبر : في هذه الآية شرط الله لمن دعاه أن يجيبه كما أجابه كما به وينجيه كما أنجاه ، وهو قوله : {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} وليس ههنا صريح دعاء وهو وإنما هو مضمون قوله : {إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} فاعترف بالظلم فكان تلويحا. قوله تعالى : {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} أي نخلصهم من همهم بما سبق من عملهم. وذلك قوله : {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ، لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات : 143 - 144] وهذا حفظ من الله عز وجل لعبد ه يونس رعى له حق تعبد ه ، وحفظ زمام ما سلف له من الطاعة. وقال الأستاذ أبو إسحاق : صحب ذو النون الحوت أياما قلائل فإلي يوم القيامة يقال له ذو النون ، فما ظنك بعيد عبد ه سبعين سنة يبطل هذا عنده! لا يظن به ذلك. {الْغَمِّ} أي من بطن الحوت. قوله تعالى : {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} قراءة العامة بنونين من أنجي ينجي. وقرأ ابن عامر {نجّيْ} بنون واحدة وجيم مشددة وتسكين الياء على الفعل الماضي وإضمار المصدر أي وكذلك نجي النجاء المؤمنين ؛ كما تقول : ضرب زيدا بمعنى ضرب الضرب زيدا وأنشد : ولو ولدت قفيرة جرو كلب ... لسب بذلك الجرو الكلابا أراد لسب السب بذلك الجرو. وسكنت ياؤه على لغة من يقول بقي ورضي فلا يحرك الياء. وقرأ الحسن {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا} [البقرة : 278] استثقالا لتحريك ياء قبلها كسرة. وأنشد : خمر الشيب لمتي تخميرا ... وحدا بي إلى القبور البعيرا ليت شعري إذا القيامة قامت ... ودعي بالحساب أين المصيرا سكن الياء في دعي استثقالا لتحريكها وقبلها كسرة وفاعل حدا المشيب ؛ أي وحدا المشيب البعير ؛ ليت شعري المصير أين هو. هذا تأويل الفراء وأبي عبيد وثعلب في تصويب هذه القراءة. وخطأها أبو حاتم والزجاج وقالوا : هو لحن ؛ لأنه نصب اسم ما لم يسم فاعله ؛ وإنما يقال : نجي المؤمنون. كما يقال : كرم الصالحون. ولا يجوز ضرب زيدا بمعنى ضرب الضرب زيدا ؛ لأنه لا فائدة [فيه] إذ كان ضرب يدل على الضرب. ولا يجوز أن يحتج بمثل ذلك البيت على كتاب الله تعالى. ولأبي عبيد قول آخر - وقال القتبي - وهو أنه أدغم النون في الجيم. النحاس : وهذا القول لا يجوز عند أحد من النحويين ؛ لبعد مخرج النون من مخرج الجيم فلا تدغم فيها ، ولا يجوز في {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} {مَجَّاءَ بِالحْسَنَةِ} قال النحاس : ولم أسمع في هذا أحسن من شيء سمعته من علي بن سليمان. قال : الأصل ننجي فحذف إحدى النونين ؛ لاجتماعهما كما تحذف إحدى التاءين ؛ لاجتماعهما نحو قوله عز وجل : {وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران : 103] والأصل تتفرقوا. وقرأ محمد بن السميقع وأبو العالية {وَكَذَلِكَ نَجَّى الْمُؤْمِنِينَ} أي نجى الله المؤمنين ؛ وهي حسنة. الآيتان : 89 - 90 {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} قوله تعالى : {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ} أي واذكر زكريا. وقد تقدم في "آل عمران" ذكره. {رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً} أي منفردا لا ولد لي وقد تقدم. {وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} أي خير من يبقي بعد كل من يموت ؛ وإنما قال {وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} لما تقدم من قوله : {يَرِثُنِي} [مريم : 6] أي أعلم أنك ، لا تضيع دينك ولكن لا تقطع هذه الفضيلة التي هي القيام بأمر الذين عن عقبي. كما تقدم في "مريم" بيانه. قوله تعالى : {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} أي أجبنا دعاءه : {وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى} . تقدم. {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} قال قتادة وسعيد بن جبير وأكثر المفسرين : إنها كانت عاقرا فجعلت ولودا. وقال ابن عباس وعطاء : كانت سيئة الخلق ، طويلة اللسان ، فأصلحها الله فجعلها حسنة الخلق. قلت : ويحتمل أن تكون جمعت المعنيين فجعلت حسنة الخلق ولودا. {إنَّهُمْ} يعني الأنبياء المسلمين في هذه السورة {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} وقيل : الكناية راجعة إلى زكريا وامرأته ويحيى. قوله تعالى : { يَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} فيه مسألتان : الأولى : قوله تعالى : {وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} أي يفزعون إلينا فيدعوننا في حال الرخاء وحال الشدة. وقيل : المعنى يدعون وقت تعبد هم وهم بحال رغبة ورجاء ورهبة وخوف ، لأن الرغبة والرهبة متلازمان. وقيل : الرغب رفع بطون الأكف إلى السماء ، والرهب رفع ظهورها ؛ قاله خصيف ؛ وقال ابن عطية : وتلخيص. أن عادة كل داع من البشر أن يستعين بيديه فالرغب من حيث هو طلب يحسن منه أن يوجه باطن الراح نحو المطلوب منه ، إذ هو موضع إعطاء أو بها يتملك ، والرهب من حيث هو دفع يحسن معه طرح ذلك ، والإشارة إلى ذهابه وتوقيه بنفض اليد ونحوه. الثانية : روى الترمذي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع يديه في الدعاء لم يحطهما حتى يسمح بهما وجهه وقد مضى في "الأعراف" الاختلاف في رفع الأيدي ، وذكرنا هذا الحديث وغيره هناك. وعلى القول بالرفع فقد اختلف الناس في صفته وإلى أين ؟ فكان بعضهم يختار أن يبسط كفيه رافعهما حذو صدره وبطونهما إلى وجهه ؛ روي عن ابن عمر وابن عباس. وكان علي يدعو بباطن كفيه ؛ وعن أنس مثله ، وهو ظاهر حديث الترمذي. وقوله صلى الله عليه وسلم : "إذا سألتم الله فاسألوه ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها وامسحوا بها وجوهكم" . وروي عن ابن عمر وابن الزبير برفعهما إلى وجهه ، واحتجوا بحديث أبي سعيد الخدري ؛ قال : وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة فجعل يدعو وجعل ظهر كفيه مما يلي وجهه ، ورفعهما فوق ثدييه وأسفل من منكبيه وقيل حتى يحاذي بهما وجهه وظهورهما مما يلي وجهه. قال أبو جعفر الطبري والصواب أن يقال : إن كل هذه الآثار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم متفقة غير مختلفة المعاني ، وجائز أن يكون ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم لاختلاف أحوال الدعاء كما قال ابن عباس : إذا أشار أحدكم بإصبع واحد فهو الإخلاص وإذا رفع يديه حذو صدره فهو الدعاء ، وإذا رفعهما حتى يجاوز بهما رأسه وظاهرهما مما يلي وجهه فهو الابتهال. قال الطبري وقد روى قتادة عن أنس قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بظهر كفيه وباطنهما. و {رَغَباً وَرَهَباً} منصوبان على المصدر ؛ أي يرغبون رغبا ويرهبون رهبا. أو على المفعول من أجله ؛ أي للرغب والرهب. أو على الحال. وقرأ طلحة بن مصرف {وَيَدْعُنَا} بنون واحدة. وقرأ الأعمش بضم الراء وإسكان الغين والهاء مثل السقم والبخل ، والعدم والضرب لغتان وابن وثاب والأعمش أيضا {رَغَباً وَرَهَباً} بالفتح في الراء والتخفيف في الغين والهاء ، وهما لغتان. مثل نهر ونهر وصخر وصخر. ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو. {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} أي متواضعين خاضعين. الآية : 91 {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} قوله تعالى : {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} أي واذكر مريم التي أحصنت فرجها وإنما ذكرها وليست من الأنبياء ليتم ذكر عيسى عليه السلام ولهذا قال : {وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} ولم يقل آيتين لأن معنى الكلام : وجعلنا شأنهما وأمرهما آية للعالمين. وقال الزجاج : إن الآية فيهما واحدة ؛ لأنها ولدته من غير فحل وعلى مذهب سيبويه التقدير : وجعلنا آيه للعالمين وجعلنا ابنها آية للعالمين ثم حذف. وعلى مذهب الفراء : وجعلناها آية للعالمين وابنها ؛ مثل قوله جل ثناؤه : {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} . وقيل : إن من آياتها أنها أول امرأة قبلت في النذر في المتعبد. ومنها أن الله عز وجل غذاها برزق من عنده لم يجره على يد عبد من عبيدة. وقيل : إنها لم تلقم ثديا قط. و {أَحْصَنَتْ} يعني عفت فامتنعت من الفاحشة. وقيل : إن المراد بالفرج فرج القميص ؛ أي لم تعلق بثوبها ريبة ؛ أي إنها طاهرة الأثواب. وفروج القميص أربعة : الكمان والأعلى والأسفل. قال السهيلي : فلا يذهبن وهمك إلى غير هذا ؛ فإنه من لطيف الكناية لأن القرآن أنزه معنى ، وأوزن لفظا ، وألطف إشارة ، وأحسن عبارة من أن يريد ما يذهب إليه وهم الجاهل ، لا سيما والنفخ من روح القدس بأمر القدوس ، فأضف القدس إلى القدوس ، ونزه المقدسة المطهرة عن الظن الكاذب والحدس. {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} يعني أمرنا جبريل حتى نفخ في درعها ، فأحدثنا بذلك النفخ المسيح في بطنها. وقد مضى هذا في "النساء" و "مريم" فلا معنى للإعادة. {آيَةً} أي علامة وأعجوبة للخلق ، وعلما لنبوة عيسى ، ودلالة على نفوذ قدرتنا فيما نشاء. الآية : 92 {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعبدونِ} قوله تعالى : {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} لما ذكر الأنبياء قال : هؤلاء كلهم مجتمعون على التوحيد ؛ فالأمة هنا بمعنى الدين الذي هو الإسلام ؛ قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما. فأما المشركون فقد خالفوا الكل. {وَأَنَا رَبُّكُمْ} أي إلهكم وحدي. {فاعبد ونُي} أي أفردوني بالعبادة. وقرأ عيسى بن عمرو وابن أبي إسحاق : {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} ورواها حسين عن أبي عمرو. الباقون {أُمَّةً وَاحِدَةً} بالنصب على القطع بمجيء النكرة بعد تمام الكلام ؛ قال الفراء. الزجاج : انتصب {أُمَّةً} على الحال ؛ أي في حال اجتماعها على الحق ؛ أي هذه أمتكم ما دامت أمة واحدة واجتمعتم على التوحيد فإذا تفرقتم وخالفتم فليس من خالف الحق من جملة أهل الدين الحق ؛ وهو كما تقول : فلان صديقي عفيفا أي ما دام عفيفا فإذا خالف العفة لم يكن صديقي. وأما الرفع فيجوز أن يكون على البدل من {أُمَّتُكُمْ} أو على إضمار مبتدأ ؛ أي إن هذه أمتكم ، هذه أمة واحدة. أو يكون خبرا بعد خبر. ولو نصبت {أمتكم} على البدل من {هذه} لجاز ويكون "أمَّةٌ وَاحِدَةٌ" خبر "إن" . الآيتان : 93 - 94 {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ ، فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} قوله تعالى : {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} أي تفرقوا في الدين ؛ قال الكلبي. الأخفش : اختلفوا فيه. والمراد المشركون ؛ ذمهم لمخالفة الحق ، واتخاذهم آلهة من دون الله. قال الأزهري : أي تفرقوا في أمرهم ؛ فنصب {أَمْرَهُمْ} بحذف "في" . فالمتقطع على هذا لازم وعلى الأول متعد. والمراد جميع الخلق ؛ أي جعلوا أمرهم في أديانهم قطعا وتقسموه بينهم ، فمن موحد ، ومن يهودي ، ومن نصراني ، ومن عابد ملك أو صنم. {كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} أي إلى حكمنا فنجازيهم. قوله تعالى : {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} {مِنَ} للتبعيض لا للجنس إذ لا قدرة للمكلف أن يأتي بجميع الطاعات فرضها ونفلها ؛ فالمعنى : من يعمل شيئا من الطاعات فرضا أو نفلا وهو موحد مسلم. وقال ابن عباس : مصدقا بمحمد صلى الله عليه وسلم. {فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} أي لا جحود لعمله ، أي لا يضيع جزاؤه ولا يغطي والكفر ضده الإيمان. والكفر أيضا جحود النعمة ، وهو ضد الشكر. وقد كفره كفورا وكفرانا. وفي ابن مسعود {فَلا كُفْرَ لِسَعْيِهِ} . {وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} لعمله حافظون. نظيره {أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [آل عمران : 195] أي كل ذلك محفوظ ليجازي به. الآيات : 95 - 97 {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ ، حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ، وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} قوله تعالى : {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} قراءة زيد بن ثابت وأهل المدينة {وَحَرَامٌ} وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم. وأهل الكوفة {وَحِرْمٌ} ورويت عن علي وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم. وهما مثل حل وحلال. وقد روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير {وَحَرِمَ} بفتح الحاء والميم وكسر الراء. وعن ابن عباس أيضا وعكرمة وأبي العالية {وَحَرُمَ} بضم الراء وفتح الحاء والميم. وعن ابن عباس أيضا {وَحَرَمَ} وعنه أيضا {وَحَرَّمَ} ، {وَحُرِّمَ} . وعن عكرمة أيضا {وَحَرِمٌ} . عن قتادة ومطر الوارق {وَحَرْمٌ} تسع قراءات. وقرأ السلمي {عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْتُهَا} . واختلف في {لا} في {لا يَرْجِعُونَ} فقيل : هي صلة ؛ روي ذلك عن ابن عباس ، واختاره أبو عبيد ؛ أي وحرام قرية أهلكناها أن يرجعوا بعد الهلاك. وقيل : ليست بصلة ، وإنما هي ثابتة ويكون الحرام بمعنى الواجب ؛ أي وجب على قرية ؛ كما قالت الخنساء : وإن حراما لا أرى الدهر باكيا ... على شجوه إلا بكيت على صخر تريد أخاها ؛ فـ "لا" ثابتة على هذا القول. قال النحاس : والآية مشكلة ومن أحسن ما قيل فيها وأجله ما رواه ابن عيينة وابن علية وهشيم وابن إدريس ومحمد بن فضيل وسليمان بن حيان ومعلى عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن بن عباس في قول الله عز وجل : {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} قال : وجب انهم لا يرجعون ؛ قال : لا يتوبون. قال أبو جعفر : واشتقاق هذا بين في اللغة ، وشرحه : أن معنى حرم الشيء حظر ومنع منه ، كما أن معنى أحل أبيح ولم يمنع منه ، فإذا كان {حَرَامٌ} و {حِرْمٌ} بمعنى واجب فمعناه أنه قد ضيق الخروج منه ومنع فقد دخل في باب المحظور بهذا ؛ فأما قول أبي عبيدة : إن {لا} زائدة فقد رده عليه جماعة ؛ لأنها لا تزاد في مثل هذا الموضع ، ولا فيما يقع فيه إشكال ، ولو كانت زائدة لكان التأويل بعيدا أيضا ؛ لأنه إن أراد وحرام على قرية أهلكناها أن يرجعوا إلى الدنيا فهذا ما لا فائدة فيه ، وإن أراد التوبة فالتوبة لا تحرم. وقيل : في الكلام إضمار أي وحرام على قرية حكمنا باستئصالها ، أو بالختم على قلوبها أن يتقبل منهم عمل لأنهم لا يرجعون أي لا يتوبون ؛ قال الزجاج وأبو علي ؛ و {لا} غير زائدة. وهذا هو معنى قول ابن عباس. قوله تعالى : {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} تقدم القول فيهم. وفي الكلام حذف ، أي حتى إذا فتح سد يأجوج ومأجوج ، مثل {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف : 82] . {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} قال ابن عباس : من كل شرف يقبلون ؛ أي لكثرتهم ينسلون من كل ناحية. والحدب ما ارتفع من الأرض ، والجمع الحداب مأخوذ من حدبة الظهر ؛ قال عنترة : فما رعشت يداي ولا ازدهاني ... تواترهم إلي إلي من الحداب وقيل : {يَنْسِلُونَ} يخرجون ؛ ومنه قول امرئ القيس : فسلي ثيابي من ثيابك تنسل وقيل : يسرعون ؛ ومنه قول النابغة : عسلان الذئب أمسى قاربا ... برد الليل عليه فنسل يقال : عسل الذئب يعسل عسلا وعسلانا إذا أعنق وأسرع. وفي الحديث : "كذب عليك العسل" أي عليك بسرعة المشي. وقال الزجاج : والنسلان مشية الذئب إذا أسرع ؛ يقال : نسل فلان في العدو ينسل بالكسر والضم نسلا ونسولا ونسلانا ؛ أي أسرع. ثم قيل في الذين ينسلون من كل حدب : إنهم يأجوج ومأجوج ، وهو الأظهر ؛ وهو قول ابن مسعود وابن عباس. وقيل : جميع الخلق ؛ فإنهم يحشرون إلى أرض الموقف ، وهم يسرعون من كل صوب. وقرئ في الشواذ {وَهُمْ مِنْ كُلِّ جَدَثٍ يَنْسِلُونَ} أخذا من قوله : {فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} [يس : 51] . وحكى هذه القراءة المهدوي عن ابن مسعود والثعلبي عن مجاهد وأبي الصهباء. قوله تعالى : {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} يعني القيامة. وقال الفراء والكسائي وغيرهما : الواو زائدة مقحمة ؛ والمعنى : حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج اقترب الوعد الحق {فَاقْتَرَبَ} جواب "إذا" . وأنشد الفراء : فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى أي انتحى ، والواو زائدة ؛ ومنه قوله تعالى : {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ. وَنَادَيْنَاهُ} [الصافات : 103 - 104] أي للجبين ناديناه. وأجاز الكسائي أن يكون جواب "إذا" {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} ويكون قوله : {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} معطوفا على الفعل الذي هو شرط. وقال البصريون : الجواب محذوف والتقدير : قالوا يا ويلنا ؛ وهو قول الزجاج ، وهو قول حسن. قال الله تعالى : {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعبد هُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر : 3] المعنى : قالوا ما نعبد هم ، وحذف القول كثير. {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ} {هِيَ} ضمير الأبصار ، والأبصار المذكورة بعدها تفسير لها كأنه قال : فإذا أبصار الذين كفروا شخصت عند مجيء الوعد. وقال الشاعر : لعمر أبيها لا تقول ظعينتي ... ألا فرَّ عني مالك بن أبي كعب فكنى عن الظعينة في أبيها ثم أظهرها. وقال الفراء : "هي" عماد ، مثل {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ} [الحج : 46] . وقيل : إن الكلام تم قول "هي" التقدير : فإذا هي ؛ بمعنى القيامة بارزة واقعة ؛ أي من قربها كأنها آتية حاضرة ابتداء فقال : {أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} على تقديم الخبر على الابتداء ؛ أي أبصار الذين كفروا شاخصة من هذا اليوم ؛ أي من هوله لا تكاد تطرف ؛ يقولون : يا ويلنا إنا كنا ظالمين ووضعنا العبادة في غير موضعها. الآية : 98 {إِنَّكُمْ وَمَا تَعبد ونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} فيه أربع مسائل : - الأولى : قوله تعالى : {إِنَّكُمْ وَمَا تَعبد ونَ} قال ابن عباس : آية لا يسألني الناس عنها! لا أدري أعرفوها فلم يسألوا عنها ، أو جهلوها فلا يسألون عنها ؛ فقيل : وما هي ؟ قال : {إِنَّكُمْ وَمَا تَعبد ونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} لما أنزلت شق على كفار قريش ، وقالوا : شتم آلهتنا ، وأتوا ابن الزبعرى وأخبروه ، فقال : لو حضرته لرددت عليه. قالوا : وما كنت تقول ؟ قال : كنت أقول له : هذا المسيح تعبد ه اليهود تعبد عزيرا أفهما من حصب جهنم ؟ فعجبت قريش من مقالته ، ورأوا أن محمدا قد خصم ؛ فأنزل الله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء : 101] وفيه نزل {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً} [الزخرف : 57] يعني ابن الزبعرى {إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف : 57] بكسر الصاد ؛ أي يضجون ؛ وسيأتي. الثانية : هذه الآية أصل القول بالعموم وأن له صيغا مخصوصة ، خلافا لمن قال : ليست له صيغة موضوعة للدلالة عليه ، وهو باطل بما دلت عليه هذه الآية وغيرها ؛ فهذا عبد الله بن الزبعرى قد فهم "ما" في جاهليته جميع من عبد ، ووافقه على ذلك قريش وهم العرب الفصحاء ، واللسن البلغاء ، ولو لم تكن للعموم لما صح أن يستثنى منها ، وقد وجد ذلك فهي للعموم وهذا واضح. الثالثة : قراءة العامة بالمهملة أي إنكم يا معشر الكفار والأوثان التي تعبد ونها من دون الله وقود جهنم ؛ قال ابن عباس قال مجاهد وعكرمة وقتادة : حطبها. وقرأ علي بن أبي طالب وعائشة رضوان الله عليهما {حَطَبُ جَهَنَّمَ} بالطاء. وقرأ ابن عباس {حَضبُ} بالضاد المعجمة ؛ قال الفراء : يريد الحصب. قال : وذكر لنا أن الحضب في لغة أهل ![]()
__________________
|
#6
|
||||
|
||||
![]() ![]() تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (12) سُورَةُ الحج من صــ 334 الى صــ 353 الحلقة (486) اليمن الحطب ، وكل ما هيجت به النار وأوقدتها به فهو حضب ؛ ذكره الجوهري. والموقد محضب. وقال أبو عبيدة في قوله تعالى : {حَصَبُ جَهَنَّمَ} كل ما ألقيته في النار فقد حصبتها به. ويظهر من هذه الآية أن الناس من الكفار وما يعبد ون من الأصنام حطب لجهنم. ونظير هذه الآية قوله تعالى : {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة : 24] . وقيل : إن المراد بالحجارة حجارة الكبريت ؛ على ما تقدم في "البقرة" وأن النار لا تكون على الأصنام عذابا ولا عقوبة ؛ لأنها لم تذنب ، ولكن تكون عذابا على من عبد ها : أول شيء بالحسرة ، ثم تجمع على النار فتكون نارها أشد من كل نار ، ثم يعذبون بها. وقيل : تحمى فتلصق بهم زيادة في تعذيبهم وقيل : إنما جعلت في النار تبكيتا لعبادتهم. قوله تعالى : {أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} أي فيها داخلون. والخطاب للمشركين عبد ه الأصنام ؛ أي أنتم واردوها مع الأصنام. ويجوز أن يقال : الخطاب للأصنام وعبد تها ؛ لأن الأصنام وإن كانت جمادات فقد يخبر عنها بكنايات الآدميين. وقال العلماء : لا يدخل في هذا عيسى ولا عزير ولا الملائكة صلوات الله عليهم ؛ لأن "ما" لغير الآدميين. فلو أراد ذلك لقال : "ومن" . قال الزجاج : ولأن المخاطبين بهذه الآية مشركو مكة دون غيرهم. الآيتان : 99 - 100 {لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ ، لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ} قوله تعالى : {لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا} أي لو كانت الأصنام آلهة لما ورد عابدوها النار. وقيل : ما وردها العابدون والمعبودون ؛ ولهذا قال : {وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} . قوله تعالى : {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ} أي لهؤلاء الذين وردوا النار من الكفار والشياطين ؛ فأما الأصنام فعلى الخلاف فيها ؛ هل يحييها الله تعالى ويعذبها حتى يكون لها زفير أو لا ؟ قولان : والزفير صوت نفس المغموم يخرج من القلب. وقد تقدم في "هود" . وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ قيل : في الكلام حذف ؛ والمعنى وهم فيها لا يسمعون شيئا ؛ لأنهم يحشرون صما ، كما قال الله تعالى : {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً} [الإسراء : 97] . وفي سماع الأشياء روح وأنس ، فمنع الله الكفار ذلك في النار. وقيل : لا يسمعون ما يسرهم ، بل يسمعون صوت من يتولى تعذيبهم من الزبانية. وقيل : إذا قيل لهم {اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون : 108] يصيرون حينئذ صما بكما ؛ كما قال ابن مسعود : إذا بقي من يخلد في النار في جهنم جعلوا في توابيت من نار ، ثم جعلت التوابيت في توابيت أخرى فيها مسامير من نار ، فلا يسمعون شيئا ، ولا يرى أحد منهم أن في النار من يعذب غيره. الآيات : 101 - 103 {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ، لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ ، لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} أي الجنة {أُولَئِكَ عَنْهَا} أي عن النار. {مُبْعَدُونَ} فمعنى الكلام الاستثناء ؛ ولهذا قال بعض أهل العلم : "إن" ههنا بمعنى "إلا" وليس في القرآن غيره. وقال محمد بن حاطب : سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقرأ هذه الآية على المنبر {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} فقال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : "إن عثمان منهم" . قوله تعالى : {لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} أي حس النار وحركة لهبها. والحسيس والحس الحركة. وروى ابن جريج عن عطاء قال قال أبو راشد الحروري لابن عباس : {لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} فقال ابن عباس : أمجنون أنت ؟ فأين قوله تعالى : {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} وقوله تعالى : {فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} [هود : 98] وقوله : {إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً} [مريم : 86] . ولقد كان من دعاء من مضى : اللهم أخرجني من النار سالما ، وأدخلني الجنة فائزا. وقال أبو عثمان النهدي : على الصراط حيات تلسع أهل النار فيقولون : حس حس. وقيل : إذا دخل أهل الجنة لم يسمعوا حس أهل النار وقبل ذلك يسمعون ؛ فالله أعلم. {وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ} أي دائمون وهم فيما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين. وقال {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} [فصلت : 31] . قوله تعالى : {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} وقرأ أبو جعفر وابن محيصن {لا يُحْزُنُهُمُ} بضم الياء وكسر الزاي. الباقون بفتح الياء وضم الزاي. قال اليزيدي : حزنه لغة قريش ، وأحزنه لغة تميم ، وقد قرئ بهما. والفزع الأكبر أهوال يوم القيامة والبعث ؛ عن ابن عباس. وقال الحسن : هو وقت يؤمر بالعباد إلى النار. وقال ابن جريح وسعيد بن جبير والضحاك : هو إذا أطبقت النار على أهلها ، وذبح الموت بين الجنة والنار وقال ذو النون المصري : هو القطيعة والفراق. وعن النبي صلى الله عليه وسلم : "ثلاثة يوم القيامة في كثيب من المسك الأذفر ولا يحزنهم الفزع الأكبر رجل أم قوما محتسبا وهم له رضوان ورجل أذن لقوم محتسبا ورجل ابتلى برق الدنيا فلم يشغله عن طاعة ربه" . وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن : مررت برجل يضرب غلاما له ، فأشار إليّ الغلام ، فكلمت مولاه حتى عفا عنه ؛ فلقيت أبا سعيد الخدري فأخبرته ، فقال : يا ابن أخي من أغاث مكروبا أعتقه الله من النار يوم الفزع الأكبر "سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم. {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} أي تستقبلهم الملائكة على أبواب الجنة يهنئونهم ويقولون لهم : {هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} وقيل : تستقبلهم ملائكة الرحمة عند خروجهم من القبور عن ابن عباس {هَذَا يَوْمُكُمُ} أي ويقولون لهم ؛ فحذف. {الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} فيه الكرامة." الآية : 104 {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} قوله تعالى : {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ} قرأ أبو جعفر بن القعقاع وشيبة بن نصاح والأعرج والزهري {تُطْوَى} بتاء مضمومة {السَّمَاء} رفعا على ما لم يسم فاعله. مجاهد {يَطوِي} على معنى يطوي الله السماء. الباقون {نَطْوِي} بنون العظمة. وانتصاب {يوم} على البدل من الهاء المحذوفة في الصلة ؛ التقدير : الذي كنتم توعدونه يوم نطوي السماء. أو يكون منصوبا بـ "نعيد" من قول {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} . أو بقول : {لا يَحْزُنُهُمُ} أي لا يحزنهم الفزع الأكبر في اليوم الذي نطوي فيه السماء. أو على إضمار واذكر ، وأراد بالسماء الجنس ؛ دليله : {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر : 67] . {كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكِتَابِ} قال ابن عباس ومجاهد : أي كطي الصحيفة على ما فيها ؛ فاللام بمعنى "على" . وعن ابن عباس أيضا اسم كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بالقوي ؛ لأن كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم معروفون ليس هذا منهم ، ولا في أصحابه من اسمه السجل. وقال ابن عباس أيضا وابن عمر والسدي : "السّجل" ملك ، وهو الذي يطوي كتب بني آدم إذا رفعت إليه. ويقال : إنه في السماء الثالثة ، ترفع إليه أعمال العباد ، يرفعها إليه الحفظة الموكلون بالخلق في كل خميس واثنين ، وكان من أعوانه فيما ذكروا هاروت وماروت. والسجل الصك ، وهو اسم مشتق من السجالة وهي الكتابة ؛ وأصلها من السجل وهو الدلو ؛ تقول : ساجلت الرجل إذا نزعت دلوا ونزع دلوا ، ثم استعيرت فسميت المكاتبة والمراجعة مساجلة. وقد سجل الحاكم تسجيلا. وقال الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب : من يساجلني يساجل ماجدا ... يملأ الدلو إلى عقد الكرب ثم بني هذا الاسم على فعل مثل حمر وطمر وبلي. وقرأ أبو زرعة بن عمرو بن جرير {كَطَيّ السُّجُلِّ} بضم السين والجيم وتشديد اللام. وقرأ الأعمش وطلحة {كَطَيّ السَّجْل} بفتح السين وإسكان الجيم وتخفيف اللام. قال النحاس : والمعنى واحد إن شاء الله تعالى. والتمام عند قوله : {لِلْكتَابِ} . والطي في هذه الآية يحتمل معنيين : أحدهما : الدرج الذي هو ضد النشر ، قال الله تعالى : {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر : 67] . والثاني : الإخفاء والتعمية والمحو ؛ لأن الله تعالى يمحو ويطمس رسومها ويكدر نجومها. قال الله تعالى : {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ. وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} [التكوير : 1 - 2] {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ} [التكوير : 11] . {لِلْكِتَابَ} وتم الكلام. وقراءة الأعمش وحفص وحمزة والكسائي ويحي وخلف : {لِلْكُتُبِ} جمعا ثم استأنف الكلام فقال : {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} أي نحشرهم حفاة عراة غرلا كما بدؤوا في البطون. وروى النسائي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "يحشر الناس يوم القيامة عراة غرلا أول الخلق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام - ثم قرأ - {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} أخرجه مسلم أيضا عن ابن عباس قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال :" يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام "وذكر الحديث. وقد ذكرنا هذا الباب في كتاب" التذكرة "مستوفى. وذكر سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل عن أبي الزعراء عن عبد الله بن مسعود قال : يرسل الله عز وجل ماء من تحت العرش كمني الرجال فتنبت منه لحمانهم وجسمانهم كما تنبت الأرض بالثرى. وقرأ {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} . وقال ابن عباس : المعنى. نهلك كل شيء ونفنيه كما كان أول مرة ؛ وعلى هذا فالكلام متصل بقوله : {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ} أي نطويها فنعيدها إلى الهلاك والفناء فلا تكون شيئا. وقيل : نفني السماء ثم نعيدها مرة أخرى بعد طيها وزوالها ؛ كقول : {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم : 48] والقول الأول أصح وهو نظير قوله : {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام : 94] وقوله عز وجل : {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} {وَعْداً} نصب على المصدر ؛ أي وعدنا وعدا {عَلَيْنَا} إنجازه والوفاء به أي من البعث والإعادة ففي الكلام حذف. ثم أكد ذلك بقول جل ثناؤه : {إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} قال الزجاج : معنى {إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} إنا كنا قادرين على ما نشاء. وقيل {إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} أي ما وعدناكم وهو كما قال : {كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً} [المزمل : 18] . وقيل : {كَانَ} للإخبار بما سبق من قضائه. وقيل : صلة." الآيتان : 105 - 106 {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ، إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} قوله تعالى : {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ} الزبور والكتاب واحد ؛ ولذلك جاز أن يقال للتوراة والإنجيل زبور. زبرت أي كتبت وجمعة زبر. وقال سعيد بن جبير : {الزَّبُورِ} التوراة والإنجيل والقرآن. {مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} الذي في السماء {أَنَّ الْأَرْضَ} أرض الجنة {يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} رواه سفيان عن الأعمش عن سعيد بن جبير. الشعبي : {الزَّبُورِ} زبور داود ، و {الذِّكْرِ} توراة موسى عليه السلام. مجاهد وابن زيد {الزَّبُورِ} كتب الأنبياء عليهم السلام ، و {الذِّكْرِ} أم الكتاب الذي عند الله في السماء. وقال ابن عباس : {الزَّبُورِ} الكتب التي أنزلها الله من بعد موسى على أنبيائه ، و {الذِّكْرِ} التوراة المنزلة على موسى. وقرأ حمزة {فِي الزَّبُورِ} بضم الزاي جمع زبر {أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} أحسن ما قيل فيه أنه يراد بها أرض الجنة كما قال سعيد بن جبير ؛ لأن الأرض في الدنيا قال قد يرثها الصالحون وغيرهم. وهو قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وقال مجاهد وأبو العالية : ودليل هذا التأويل قوله تعالى : {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ} [الزمر : 74] وعن ابن عباس أنها الأرض المقدسة. وعنه أيضا : أنها أرض الأمم الكافرة ترثها أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالفتوح. وقيل : إن المراد بذلك بنو إسرائيل ؛ بدليل قوله تعالى : {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف : 137] وأكثر المفسرين على أن المراد بالعباد الصالحين أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقرأ حمزة {عِبَادِي الصَّالِحُونَ} بتسكين الياء. {إِنَّ فِي هَذَا} أي فيما جرى ذكره في هذه السورة من الوعظ والتنبيه. وقيل : إن في القرآن {لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} قال أبو هريرة وسفيان الثوري : هم أهل الصلوات الخمس. وقال ابن عباس رضي الله عنهما : {عَابِدِينَ} مطيعين. والعابد المتذلل الخاضع. قال القشيري : ولا يبعد أن يدخل فيه كل عاقل ؛ لأنه من حيث الفطرة متذلل للخالق ، وهو بحيث لو تأمل القرآن واستعمله لأوصله ذلك إلى الجنة. وقال ابن عباس أيضا : هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين يصلون الصلوات الخمس ويصومون شهر رمضان. وهذا هو القول الأول بعينه. الآيات : 107 - 109 {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ، قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ} قوله تعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} قال سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كان محمد صلى الله عليه وسلم رحمة لجميع الناس فمن آمن به وصدق به سعد ، ومن لم يؤمن به سلم مما لحق الأمم من الخسف والغرق. وقال ابن زيد : أراد بالعالمين المؤمنين خاصة. قوله تعالى : {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} فلا يجوز الإشراك به. {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} أي منقادون لتوحيد الله تعالى ؛ أي فأسلموا ؛ كقوله تعالى : {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة : 91] أي انتهوا. قوله تعالى : {فَإِنْ تَوَلَّوْا} أي إن أعرضوا عن الإسلام {فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ} أي أعلمتكم على بيان أنا وإياكم حرب لا صلح بيننا ؛ كقوله تعالى : {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال : 58] أي أعلمهم أنك نقضت العهد نقضا ، أي استويت أنت وهم فليس لفريق عهد ملتزم في حق الفريق الآخر. وقال الزجاج : المعنى أعلمتكم بما يوحى إلي على استواء في العلم به ، ولم أظهر لأحد شيئا كتمته عن غيره. {وَإِنْ أَدْرِي} {إِنْ} نافيه بمعنى {مَا} أي وما أدري. {أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ} يعني أجل يوم القيامة لا يدريه أحد لا نبي مرسل ولا ملك مقرب ؛ قاله ابن عباس. وقيل : آذنتكم بالحرب ولكني لا أدري متى يؤذن لي في محاربتكم. الآيات : 110 - 112 {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ ، وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ، قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} قوله تعالى : {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} أي من الشرك وهو المجازي عليه. {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ} أي لعل الإمهال {فِتْنَةٌ لَكُمْ} أي اختبار ليرى كيف صنيعكم وهو أعلم. {وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} قيل : إلى انقضاء المدة. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى بني أمية في منامه يلون الناس ، فخرج الحكم من عنده فأخبر بني أمية بذلك ؛ فقالوا له : ارجع فسله متى يكون ذلك. فأنزل الله تعالى {وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ} {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} يقول لنبيه عليه السلام قل لهم ذلك. قوله تعالى : {قُلْ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} ختم السورة بأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتفويض الأمر إليه وتوقع الفرج من عنده ، أي احكم بيني وبين هؤلاء المكذبين وانصرني عليهم. روى سعيد عن قتادة قال : كانت الأنبياء تقول : {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف : 89] فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول : {رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} فكان إذا لقي العدو يقول وهو يعلم أنه على الحق وعدوه على الباطل {رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} أي اقض به. وقال أبو عبيدة : الصفة ههنا أقيمت مقام الموصوف والتقدير : رب احكم بحكمك الحق. و {رَبِّ} في موضع نصب ، لأنه نداء مضاف. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وابن محيصن {قُلْ رَبُّ احْكمْ بِالحَقَّ} بضم الباء. قال النحاس : وهذا لحن عند النحويين ؛ لا يجوز عندهم رجل أقبل ، حتى تقول يا رجل أقبل أو ما أشبهه. وقرأ الضحاك وطلحة ويعقوب {قَالَ رَبِّي أحْكَمُ بِالحَقَّ} بقطع الألف مفتوحة الكاف والميم مضمومة. أي قال محمد ربي أحكم بالحق من كل حاكم. وقرأ الجحدري {قُلْ رَبي أحْكَمَ} على معنى أحكم الأمور بالحق. {وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} أي تصفونه من الكفر والتكذيب. وقرأ المفضل والسلمي {عَلَى مَا يَصِفُوْنَ} بالياء على الخبر. الباقون بالتاء على الخطاب. والله أعلم. المجلد الثاني عشر وهي مكية ، سوى ثلاث آيات : قوله تعالى : {هَذَانِ خَصْمَانِ} [الحج : 19] إلى تمام ثلاث آيات ، قاله ابن عباس ومجاهد. وعن ابن عباس أيضا "أنهن أربع آيات" ، إلى قوله {عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج : 22] وقال الضحاك وابن عباس أيضا : "هي مدنية" - وقاله قتادة - إلا أربع آيات : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} [الحج : 52] إلى {عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} [الحج : 55] فهن مكيات. وعد النقاش ما نزل بالمدينة عشر آيات. وقال الجمهور : السورة مختلطة ، منها مكي ومنها مدني. وهذا هو الأصح ؛ لأن الآيات تقتضي ذلك ، لأن {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} مكي ، و {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} مدني. الغزنوي : وهي من أعاجيب السور ، نزلت ليلا ونهارا ، سفرا وحضرا ، مكيا ومدنيا ، سلميا وحربيا ، ناسخا ومنسوخا ، محكما ومتشابها ؛ مختلف العدد. تفسير سورة الحج الجزء 12 من الطبعة سورة الحج مقدمة السورة قلت : وجاء في فضلها ما رواه الترمذي وأبو داود والدارقطني عن عقبة بن عامر قال قلت : يا رسول الله ، فضلت سورة الحج بأن فيها سجدتين ؟ قال : "نعم ، ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما" . لفظ الترمذي. وقال : هذا حديث حسن ليس إسناده بالقوي. واختلف أهل العلم في هذا ؛ فروي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وابن عمر أنهما قالا : "فضلت سورة الحج بأن فيها سجدتين" . وبه يقول ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق. ورأى بعضهم أن فيها سجدة واحدة ؛ وهو قول سفيان الثوري. روى الدارقطني عن عبد الله بن ثعلبة قال : رأيت عمر بن الخطاب سجد في الحج سجدتين ؛ قلت في الصبح ؟ قال في الصبح. الآية : 1 {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} روى الترمذي عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ - إلى قوله - وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} قال : أنزلت عليه هذا الآية وهو في سفر فقال : "أتدرون أي يوم ذلك ؟ فقالوا : الله ورسوله أعلم ؛ قال : ذاك يوم يقول الله لآدم ابعث بعث النار قال يا رب وما بعث النار قال تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة" . فأنشأ المسلمون يبكون ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "قاربوا وسددوا فإنه لم تكن نبوة قط إلا كان بين يديها جاهلية - قال - فيؤخذ العدد من الجاهلية فإن تمت وإلا كملت من المنافقين وما مثلكم والأمم إلا كمثل الرقمة في ذراع الدابة أو كالشامة في جنب البعير - ثم قال - إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة - فكبروا ؛ ثم قال - إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة - فكبروا ؛ ثم قال - إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة" فكبروا. قال : لا أدري قال الثلثين أم لا. قال : هذا حديث حسن صحيح ، قد روي من غير وجه الحسن عن عمران بن حصين. وفيه : فيئس القوم حتى ما أبدوا بضاحكة ، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "اعملوا وأبشروا فوالذي نفسي بيده إنكم لمع خليقتين ما كانتا مع شيء إلا كثرتاه يأجوج ومأجوج ومن مات من بني آدم وبني إبليس" قال : فسري عن القوم بعض الذي يجدون ؛ فقال : "اعملوا وأبشروا فوالذي نفس محمد بيده ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير أو كالرقمة في ذراع الدابة" قال : هذا حديث حسن صحيح. وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يقول الله تعالى يا آدم فيقول لبيك وسعديك والخير في يديك - قال - يقول أخرج بعث النار قال وما بعث النار قال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين" قال فذاك حين يشيب الصغير وتضع كل ذات حمل ، حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد ". قال : فاشتد ذلك عليهم ؛ قالوا : يا رسول الله ، أينا ذلك الرجل ؟ فقال :" أبشروا فإن من يأجوج ومأجوج ألفا ومنكم رجل ". وذكر الحديث بنحو ما تقدم في حديث عمران بن حصين. وذكر أبو جعفر النحاس قال : حدثنا أحمد بن محمد بن نافع قال حدثنا سلمة قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ - إلى - وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} قال : نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مسير له ، فرفع بها صوته حتى ثاب إليه أصحابه فقال :" أتدرون أي يوم هذا هذا يوم يقول الله عز وجل لآدم صلى الله عليه وسلم يا آدم قم فابعث بعث أهل النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة ". فكبر ذلك على المسلمين ؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" سددوا وقاربوا وأبشروا فوالذي نفسي بيده ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير أو كالرقمة في ذراع الحمار وإن معكم خليقتين ما كانتا مع شيء إلا كثرتاه يأجوج ومأجوج ومن هلك من كفرة الجن والأنس "." قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} المراد بهذا النداء المكلفون ؛ أي اخشوه في أوامره أن تتركوها ، ونواهيه أن تقدموا عليها. والاتقاء : الاحتراس من المكروه ؛ وقد تقدم في أول "البقرة" القول فيه مستوفى ، فلا معنى لإعادته. والمعنى : احترسوا بطاعته عن عقوبته. قوله تعالى : {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} الزلزلة شدة الحركة ؛ ومنه {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} [البقرة : 214] . وأصل الكلمة من زل عن الموضع ؛ أي زال عنه وتحرك. وزلزل الله قدمه ؛ أي حركها. وهذه اللفظة تستعمل في تهويل الشيء. وقيل : هي الزلزلة المعروفة التي هي إحدى شرائط الساعة ، التي تكون في الدنيا قبل يوم القيامة ؛ هذا قول الجمهور. وقد قيل : إن هذه الزلزلة تكون في النصف من شهر رمضان ، ومن بعدها طلوع الشمس من مغربها ، فالله أعلم. ![]()
__________________
|
#7
|
||||
|
||||
![]() ![]() تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (12) سُورَةُ الحج من صــ 4 الى صــ 13 الحلقة (487) الآية : 2 {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} قوله تعالى : {يَوْمَ تَرَوْنَهَا} الهاء في {تَرَوْنَهَا} عائدة عند الجمهور على الزلزلة ؛ ويقوي هذا قوله عز وجل : {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} والرضاع والحمل إنما هو في الدنيا. وقالت فرقة : الزلزلة في يوم القيامة ؛ واحتجوا بحديث عمران بن حصين الذي ذكرناه ، وفيه : "أتدرون أي يوم ذلك..." الحديث. وهو الذي يقتضيه سياق مسلم في حديث أبي سعيد الخدري. قوله : {تَذْهَلُ} أي تشتغل ؛ قاله قطرب. وأنشد : ضربا يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله وقيل تنسى. وقيل تلهو ؛ وقيل تسلو ؛ والمعنى متقارب. {عَمَّا أَرْضَعَتْ} قال المبرد : {ما} بمعنى المصدر ؛ أي تذهل عن الإرضاع. قال : وهذا يدل على أن هذه الزلزلة في الدنيا ؛ إذ ليس بعد البعث حمل وإرضاع. إلا أن يقال : ما ماتت حاملا تبعث حاملا فتضع حملها للهول. ومن ماتت مرضعة بعثت كذلك. ويقال : هذا كما قال الله عز وجل : {يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً} [المزمل : 17] . وقيل : تكون مع النفخة الأولى. وقيل : تكون مع قيام الساعة ، حتى يتحرك الناس من قبورهم في النفخة الثانية. ويحتمل أن تكون الزلزلة في الآية عبارة عن أهوال يوم القيامة ؛ كما قال تعالى : {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا} [البقرة : 214] . وكما قال عليه السلام : "اللهم اهزمهم وزلزلهم" . وفائدة ذكر هول ذلك اليوم التحريض على التأهب له والاستعداد بالعمل الصالح. وتسمية الزلزلة بـ "شيء" إما لأنها حاصلة متيقن وقوعها ، فيستسهل لذلك أن تسمى شيئا وهي معدومة ؛ إذ اليقين يشبه الموجدات. وإما على المآل ؛ أي هي إذا وقعت شيء عظيم. وكأنه لم يطلق الاسم الآن ، بل المعنى أنها إذا كانت فهي إذا شيء عظيم ، ولذلك تذهل المراضع وتسكر الناس ؛ كما قال : قوله تعالى : {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى} أي من هولها ومما يدركهم من الخوف والفزع. {وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} من الخمر. وقال أهل المعاني : وترى الناس كأنهم سكارى. يدل عليه قراءة أبي زرعة هرم بن عمرو بن جرير بن عبد الله {وَتَرَى النَّاسَ} بضم التاء ؛ أي تظن ويخيل إليك. وقرأ حمزة والكسائي {سكرى} بغير ألف. الباقون {سُكارى} وهما لغتان لجمع سكران ؛ مثل كسلى وكسالى. والزلزلة : التحريك العنيف. والذهول. الغفلة عن الشيء بطروء ما يشغل عنه من هم أو وجع أو غيره. قال ابن زيد : المعنى تترك ولدها للكرب الذي نزل بها. الآية : 3 {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} الآية : 4 {كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير} قوله تعالى : {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} قيل : المراد النضر بن الحارث ، قال : إن الله عز وجل غير قادر على إحياء من قد بلي وعاد ترابا. {وَيَتَّبِعُ} أي في قوله ذلك. {كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} متمرد. {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ} قال قتادة ومجاهد : أي من تولى الشيطان. {فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} . الآية : 5 {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ - إلى قوله - مُسَمّىً} فيه اثنتا عشرة مسألة : - الألى : قوله تعالى : {إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ} هذا احتجاج على العالم بالبداءة الأولى. وقوله : {إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} متضمنة التوقيف. وقرأ الحسن بن أبي الحسن {البَعَث} بفتح العين ؛ وهي لغة في {الْبَعْثِ} عند البصريين. وهي عند الكوفيين بتخفيف {بَعَث} . والمعنى : يا أيها الناس إن كنتم في شك من الإعادة. {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ} أي خلقنا أباكم الذي هو أصل البشر ، يعني آدم عليه السلام {مِنْ تُرَابٍ} . {ثُمَّ} خلقنا ذريته. {مِنْ نُطْفَةٍ} وهو المني ؛ سمي نطفة لقلته ، وهو القليل من الماء ، وقد يقع على الكثير منه ؛ ومنه الحديث "حتى يسير الراكب بين النطفتين لا يخشى جورا" . أراد بحر المشرق وبحر المغرب. والنطف : القطر. نطف ينطف وينطف. وليلة نطوفة دائمة القطر. {ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} وهو الدم الجامد. والعلق الدم العبيط ؛ أي الطري. وقيل : الشديد الحمرة. {ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ} وهي لحمة قليلة قدر ما يمضغ ؛ ومنه الحديث "ألا وإن في الجسد مضغة" . وهذه الأطوار أربعة أشهر. قال ابن عباس : "وفي العشر بعد الأشهر الأربعة ينفخ فيه الروح" ، فذلك عدة المتوفى عنها زوجها ؛ أربعة أشهر وعشر. الثانية : روى يحيى بن زكريا بن أبي زائدة حدثنا داود عن عامر عن علقمة عن ابن مسعود وعن ابن عمر أن النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها ملك بكفه فقال : "يا رب ، ذكر أم أنثى ، شقي أم سعيد ، ما الأجل والأثر ، بأي أرض تموت ؟ فيقال له انطلق إلى" أم الكتاب فإنك تجد فيها قصة هذه النطفة ، فينطلق فيجد قصتها في أم الكتاب ، فتخلق فتأكل رزقها وتطأ أثرها فإذا جاء أجلها قبضت فدفنت في المكان الذي قدر لها ؛ ثم قرأ عامر {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} . وفي الصحيح عن أنس بن مالك - ورفع الحديث - قال : "إن الله قد وكل بالرحم ملكا فيقول أي رب نطفة. أي رب علقة. أي رب مضغة. فإذا أراد الله أن يقضي خلقا قال قال الملك أي رب ذكر أو أنثى شقي أو سعيد. فما الرزق فما الأجل. فيكتب كذلك في بطن أمه" . وفي الصحيح أيضا عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ثم يقول أي رب أذكر أم أنثى..." وذكر الحديث. وفي الصحيح عن عبد الله بن مسعود قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد..." الحديث. فهذا الحديث مفسر للأحاديث الأول ؛ فإنه فيه : "يجمع أحدكم في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم أربعين يوما علقة ثم أربعين يوما مضغة ثم يبعث الملك فينفخ فيه الروح" فهذه أربعة أشهر وفي العشر ينفخ الملك الروح ، وهذه عدة المتوفى عنها زوجها كما قال ابن عباس. وقوله : "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه" قد فسره ابن مسعود ، سئل الأعمش : ما يجمع في بطن أمه ؟ فقال : حدثنا خيثمة قال قال عبد الله : إذا وقعت النطفة في الرحم فأراد أن يخلق منها بشرا طارت في بشرة المرأة تحت كل ظفر وشعر ثم تمكث أربعين يوما ثم تصير دما في الرحم ؛ فذلك جمعها ، وهذا وقت كونها علقة. الثالثة : نسبة الخلق والتصوير للملك نسبة مجازية لا حقيقية ، وأن ما صدر عنه فعل ما في المضغة كان عند التصوير والتشكيل بقدرة الله وخلقه واختراعه ؛ ألا تراه سبحانه قد أضاف إليه الخلقة الحقيقية ، وقطع عنها نسب جميع الخليقة فقال : {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} [الأعراف : 11] . وقال : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون : 12 - 13] . وقال : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} . وقال تعالى : {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن : 2] . ثم قال : {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [غافر : 64] . وقال : {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين : 4] . وقال : {خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق : 2] . إلى غير ذلك من الآيات ، مع ما دلت عليه قاطعات البراهين أن لا خالق لشيء من المخلوقات إلا رب العالمين. وهكذا القول في قوله : "ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح" أي أن النفخ سبب خلق الله فيها الروح والحياة. وكذلك القول في سائر الأسباب المعتادة ؛ فإنه بإحداث الله تعالى لا بغيره. فتأمل هذا الأصل وتمسك به ، ففيه النجاة من مذاهب أهل الضلال الطبعيين وغيرهم. الرابعة : لم يختلف العلماء أن نفخ الروح فيه يكون بعد مائة وعشرين يوما ، وذلك تمام أربعة أشهر ودخوله في الخامس ؛ كما بيناه بالأحاديث. وعليه يعول فيما يحتاج إليه من الأحكام في الاستلحاق عند التنازع ، وفي وجوب النفقات على حمل المطلقات ؛ وذلك لتيقنه بحركة الجنين في الجوف. وقد قيل : إنه الحكمة في عدة المرأة من الوفاة بأربعة أشهر وعشر ، وهذا الدخول في الخامس يحقق براءة الرحم ببلوغ هذه المدة إذا لم يظهر حمل. الخامسة : النطفة ليست بشيء يقينا ، ولا يتعلق بها حكم إذا ألقتها المرأة إذا لم تجتمع في الرحم ، فهي كما لو كانت في صلب الرجل ؛ فإذا طرحته علقة فقد تحققنا أن النطفة قد استقرت واجتمعت واستحالت إلى أول أحوال يتحقق به أنه ولد. وعلى هذا فيكون وضع العلقة فما فوقها من المضغة وضع حمل ، تبرأ به الرحم ، وتنقضي به العدة ، ويثبت به لها حكم أم الولد. وهذا مذهب مالك رضي الله عنه وأصحابه. وقال الشافعي رضي الله عنه : لا اعتبار بإسقاط العلقة ، وإنما الاعتبار بظهور الصورة والتخطيط ؛ فإن خفي التخطيط وكان لحما فقولان بالنقل والتخريج ، والمنصوص أنه تنقضي به العدة ولا تكون أم ولد. قالوا : لأن العدة تنقضي بالدم الجاري ، فبغيره أولى. السادسة : قوله تعالى : {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} قال الفراء : {مُخَلَّقَةٍ} تامة الخلق ، {وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} السقط. وقال ابن الأعرابي : {مُخَلَّقَةٍ} قد بدأ خلقها ، {وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} لم تصور بعد. ابن زيد : المخلقة التي خلق الله فيها الرأس واليدين والرجلين ، {وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} التي لم يخلق فيها شيء. قال ابن العربي : إذا رجعنا إلى أصل الاشتقاق فإن النطفة والعلقة والمضغة مخلقة ؛ لأن الكل خلق الله تعالى ، وإن رجعنا إلى التصوير الذي هو منتهى الخلقة كما قال الله تعالى : {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} [المؤمنون : 14] فذلك ما قال ابن زيد. قلت : التخليق من الخلق ، وفيه معنى الكثرة ، فما تتابع عليه الأطوار فقد خلق خلقا بعد خلق ، وإذا كان نطفة فهو مخلوق ؛ ولهذا قال الله تعالى : {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} [المؤمنون : 14] والله أعلم. وقد قيل : إن قوله : {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} يرجع إلى الولد بعينه لا إلى السقط ؛ أي منهم من يتم الرب سبحانه مضغته فيخلق له الأعضاء أجمع ، ومنهم من يكون خديجا ناقصا غير تمام. وقيل : "المخلقة أن تلد المرأة لتمام الوقت" . ابن عباس : المخلقة ما كان حيا ، وغير المخلقة السقط. قال : أفي غير المخلقة البكاء ... فأين الحزم ويحك والحياء السابعة : أجمع العلماء على أن الأمة تكون أم ولد بما تسقطه من ولد تام الخلق. وعند مالك والأوزاعي وغيرهما بالمضغة كانت مخلقة أو غير مخلقة. قال مالك : إذا علم أنها مضغة. وقال الشافعي وأبو حنيفة : إن كان قد تبين له شيء من خلق بني آدم أصبع أو عين أو غير ذلك فهي له أم ولد. وأجمعوا على أن المولود إذا استهل صارخا يصلى عليه ؛ فإن لم يستهل صارخا لم يصل عليه عند مالك وأبي حنيفة والشافعي وغيرهم. وروي عن ابن عمر أنه يصلى عليه ؛ وقال ابن المسيب وابن سيرين وغيرهما. وروي عن المغيرة بن شعبة أنه "كان يأمر بالصلاة على السقط ، ويقول سموهم واغسلوهم وكفنوهم وحنطوهم ؛ فإن الله أكرم بالإسلام كبيركم وصغيركم ، ويتلو هذه الآية {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ - إلى - وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} ." قال ابن العربي : لعل المغيرة بن شعبة أراد بالسقط ما تبين خلقه فهو الذي يسمى ، وما لم يتبين خلقه فلا وجود له. وقال بعض السلف : يصلى عليه متى نفخ فيه الروح وتمت له أربعة أشهر. وروى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إذا استهل المولود ورث" . الاستهلال : رفع الصوت ؛ فكل مولود كان ذلك منه أو حركة أو عطاس أو تنفس فإنه يورث لوجود ما فيه من دلالة الحياة. وإلى هذا ذهب سفيان الثوري والأوزاعي والشافعي. قال الخطابي : وأحسنه قول أصحاب الرأي. وقال مالك : لا ميراث له وإن تحرك أو عطس ما لم يستهل. وروي عن محمد بن سيرين والشعبي والزهري وقتادة. الثامنة : قال مالك رضي الله عنه : ما طرحته المرأة من مضغة أو علقة أو ما يعلم أنه ولد إذا ضرب بطنها ففيه الغرة. وقال الشافعي : لا شيء فيه حتى يتبين من خلقه. قال مالك : إذا سقط الجنين فلم يستهل صارخا ففيه الغرة. وسواء تحرك أو عطس فيه الغرة أبدا ، حتى يستهل صارخا ففيه الدية كاملة. وقال الشافعي رضي الله عنه وسائر فقهاء الأمصار : إذا علمت حياته بحركة أو بعطاس أو باستهلاك أو بغير ذلك مما تستيقن به حياته ففيه الدية. التاسعة : ذكر القاضي إسماعيل أن عدة المرأة تنقضي بالسقط الموضوع ، واحتج عليه بأنه حمل ، وقال قال الله تعالى : {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} . قال القاضي إسماعيل : والدليل على ذلك أنه يرث أباه ، فدل على وجوده خلقا وكونه ولدا وحملا. قال ابن العربي : ولا يرتبط به شيء من هذه الأحكام إلا أن يكون مخلقا. قلت : ما ذكرناه من الاشتقاق وقول عليه الصلاة والسلام : "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه" يدل على صحة ما قلناه ، ولأن مسقطة العلقة والمضغة يصدق على المرأة إذا ألقته أنها كانت حاملا وضعت ما استقر في رحمها ، فيشملها قوله تعالى : {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق : 4] ولأنها وضعت مبدأ الولد عن نطفة متجسدا كالمخطط ، وهذا بين. العاشرة : روى ابن ماجه حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا خالد بن مخلد حدثنا يزيد عن عبد الملك النوفلي عن يزيد بن رومان عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لسقط أقدمه بين يدي أحب إلي من فارس أخلفه [خلفي] " . وأخرجه الحاكم في معرفة علوم الحديث له عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة فقال : "أحب إلي من ألف فارس أخلفه ورائي" . الحادية عشرة : {لِنُبَيِّنَ لَكُمْ} يريد : كمال قدرتنا بتصريفنا أطوار خلقكم. {وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ} قرئ بنصب {نقِر} و {نخرج} ، رواه أبو حاتم عن أبي زيد عن المفضل عن عاصم قال قال أبو حاتم : النصب على العطف. وقال الزجاج : {نقر} بالرفع لا غير ؛ لأنه ليس المعنى : فعلنا ذلك لنقر في الأرحام ما نشاء ، وإنما خلقهم عز وجل ليدلهم على الرشد والصلاح. وقيل : المعنى لنبين لهم أمر البعث ؛ فهو اعتراض بين الكلامين. وقرأت هذه الفرقة بالرفع {ونقرُّ} ؛ المعنى : ونحن نقر. وهي قراءة الجمهور. وقرئ : {ويقر} و {يخرجكم} بالياء ، والرفع على هذا سائغ. وقرأ. ابن وثاب {ما نِشاء} بكسر النون. والأجل المسمى يختلف بحسب جنين جنين ؛ فثم من يسقط وثم من يكمل أمره ويخرج حيا. وقال {مَا نَشَاءُ} ولم يقل من نشاء لأنه يرجع إلى الحمل ؛ أي يقر في الأرحام ما نشاء من الحمل ومن المضغة وهي جماد فكنى عنها بلفظ ما. الثانية عشرة : قوله تعالى : {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} أي أطفالا ؛ فهو اسم جنس. وأيضا فإن العرب قد تسمي الجمع باسم الواحد ؛ قال الشاعر : يلحينني في حبها ويلمنني ... إن العواذل ليس لي بأمير ولم يقل أمراء. وقال المبرد : وهو اسم يستعمل مصدرا كالرضا والعدل ، فيقع على الواحد والجمع ؛ قال الله تعالى : {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور : 31] . وقال الطبري : وهو نصب على التمييز ، كقوله تعالى : {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً} [النساء : 4] . وقيل : المعنى ثم نخرج كل واحد منكم طفلا. والطفل يطلق من وقت انفصال الولد إلى البلوغ. وولد كل وحشية أيضا طفل. ويقال : جارية طفل ، وجاريتان طفل وجوار طفل ، وغلام طفل ، وغلمان طفل. ويقال أيضا : طفل وطفلة وطفلان وطفلتان وأطفال. ولا يقال : طفلات. وأطفلت المرأة صارت ذات طفل. والمطفلة : الظبية معها طفلها ، وهي قريبة عهد بالنتاج. وكذلك الناقة ، [والجمع] مطافل ومطافيل. والطفل "بالفتح في الطاء" الناعم ؛ يقال : جارية طفلة أي ناعمة ، وبنان طفل. وقد طفل الليل إذا أقبل ظلامه. والطفل "بالتحريك" : بعد العصر إذا طفلت الشمس للغروب. والطفل "أيضا" : مطر ؛ قال : لوهد جاده طفل الثريا قوله تعالى : {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} قيل : إن {ثُمَّ} زائدة كالواو في قوله : {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر : 73] ؛ لأن ثم من حروف النسق كالواو. {أَشُدَّكُمْ} كمال عقولكم ونهاية قواكم. وقد مضى في "الأنعام" بيانه. {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} أي أخسه وأدونه ، وهو الهرم والخرف حتى لا يعقل ؛ ولهذا قال : {لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً} كما قال في سورة يس : {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} [يس : 68] . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو فيقول : "اللهم إني أعوذ بك من البخل وأعوذ بك من الجبن وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر وأعوذ بك من فتنة الدنيا وعذاب القبر" . أخرجه النسائي عن سعد ، وقال : وكان يعلمهن بنيه كما يعلم المكتب الغلمان. وقد مضى في النحل هذا المعنى. قوله تعالى : {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً} ذكر دلالة أقوى على البعث فقال في الأول : {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} فخاطب جمعا. وقال في الثاني : {وَتَرَى الْأَرْضَ} فخاطب واحدا ، فانفصل اللفظ عن اللفظ ، ولكن المعنى متصل من حيث الاحتجاج على منكري البعث. {هَامِدَةً} يابسة لا تنبت شيئا ؛ قال ابن جريج. وقيل : دارسة. والهمود الدروس. قال الأعشى : قالت قتيلة ما لجسمك شاحبا ... وأرى ثيابك باليات همدا الهروي : {هَامِدَةً} أي جافة ذات تراب. وقال شمر : يقال : همد شجر الأرض إذا بلي وذهب. وهمدت أصواتهم إذا سكنت. وهمود الأرض ألا يكون فيها حياة ولا نبت ولا عود ولم يصبها مطر. وفي الحديث : "حتى كاد يهمد من الجوع" أي يهلك. يقال : همد الثوب يهمد إذا بلي. وهمدت النار تهمد. قوله تعالى : {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ} أي تحركت. والاهتزاز : شدة الحركة ؛ يقال : هززت الشيء فاهتز ؛ أي حركته فتحرك. وهز الحادي الإبل هزيزا فاهتزت هي إذا تحركت في سيرها بحدائه. واهتز الكوكب في انقضاضه. وكوكب هاز. فالأرض تهتز بالنبات ؛ لأن النبات لا يخرج منها حتى يزيل بعضها من بعض إزالة خفية ؛ فسماه اهتزازا مجازا. وقيل : اهتز نباتها ، فحذف المضاف ؛ قال المبرد ، واهتزازه شدة حركته ، كما قال الشاعر : تثنى إذا قامت وتهتز إن مشت ... كما اهتز غصن البان في ورق خضر والاهتزاز في النبات أظهر منه في الأرض. {وَرَبَتْ} أي ارتفعت وزادت. وقيل : انتفخت ؛ والمعنى واحد ، وأصله الزيادة. ربا الشيء يربو ربوا أي زاد ؛ ومنه الربا والربوة. وقرأ يزيد بن القعقاع وخالد بن إلياس {وَرَبَأتْ} أي ارتفعت حتى صارت بمنزلة الربيئة ، وهو الذي يحفظ القوم على شيء مشرف ؛ فهو رابئ وربيئة على المبالغة. قال امرؤ القيس : ![]()
__________________
|
#8
|
||||
|
||||
![]() ![]() تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (12) سُورَةُ الحج من صــ 14 الى صــ 23 الحلقة (488) بعثنا ربيئا قبل ذاك مخملا ... كذئب الغضا يمشي الضراء ويتقي {وَأَنْبَتَتْ} أي أخرجت. {مِنْ كُلِّ زَوْجٍ} أي لون. {بَهِيجٍ} أي حسن ؛ عن قتادة. أي يبهج من يراه. والبهجة الحسن ؛ يقال : رجل ذو بهجة. وقد بهج "بالضم" بهاجة وبهجة فهو بهيج. وأبهجني أعجبني بحسنه. ولما وصف الأرض بالإنبات دل على أن قوله : {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} يرجع إلى الأرض لا إلى النبات. والله أعلم. الآيتان : 6 - 7 {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} قوله تعالى : {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} لما ذكر افتقار الموجودات إليه وتسخيرها على وفق اقتداره واختياره في قوله : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ - إلى قوله - بَهِيجٍ} . قال بعد ذلك : {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} . فنبه سبحانه وتعالى بهذا على أن كل ما سواه وإن كان موجودا حقا فإنه لا حقيقة له من نفسه ؛ لأنه مسخر مصرف. والحق الحقيقي : هو الموجود المطلق الغني المطلق ؛ وأن وجود كل ذي وجود عن وجوب وجوده ؛ ولهذا قال في آخر السورة : {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} [الحج : 62] . والحق الموجود الثابت الذي لا يتغير ولا يزول ، وهو الله تعالى. وقيل : ذو الحق على عباده. وقيل : الحق بمعنى في أفعاله. وقال الزجاج : {ذَلِكَ} في موضع رفع ؛ أي الأمر ما وصف لكم وبين. {بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} أي لأن الله هو الحق. وقال : ويجوز أن يكون {ذَلِكَ} نصبا ؛ أي فعل الله ذلك بأنه هو الحق. {وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى} أي بأنه {وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي وبأنه قادر على ما أراد. {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ} عطف على قوله : {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} من حيث اللفظ ، وليس عطفا في المعنى ؛ إذ لا يقال فعل الله ما ذكر بأن الساعة آتية ، بل لابد من إضمار فعل يتضمنه ؛ أي وليعلموا أن الساعة آتية {لا رَيْبَ فِيهَا} أي لا شك. {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} يريد للثواب والعقاب. الآيات : 8 - 10 {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ ، ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ ، ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} قوله تعالى : {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} أي نير بين الحجة. نزلت في النضر بن الحارث. وقيل : في أبي جهل بن هشام ؛ قال ابن عباس. "والمعظم على أنها نزلت في النضر بن الحارث كالآية الأولى ، فهما في فريق واحد ، والتكرير للمبالغة في الذم ؛ كما تقول للرجل تذمه وتوبخه : أنت فعلت هذا! أنت فعلت هذا! ويجوز أن يكون التكرير لأنه وصفه في كل آية بزيادة ؛ فكأنه قال : إن النضر بن الحارث يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد ، والنضر بن الحارث يجادل في الله من غير علم ومن غير هدى وكتاب منير ؛ ليضل عن سبيل الله" . وهو كقولك : زيد يشتمني وزيد يضربني ؛ وهو تكرار مفيد ؛ قال القشيري. وقد قيل : نزلت فيه بضع عشرة آية. فالمراد بالآية الأولى إنكاره البعث ، وبالثانية إنكاره النبوة ، وأن القرآن منزل من جهة الله. وقد قيل : كان من قول النضر بن الحارث أن الملائكة بنات الله ، وهذا جدال في الله تعالى : {مَنْ} في موضع رفع بالابتداء. والخبر في قوله : {وَمِنَ النَّاسِ} . {ثَانِيَ عِطْفِهِ} نصب على الحال. ويتأول على معنيين : أحدهما : روي عن ابن عباس أنه قال : "هو النضر بن الحارث ،" لوى عنقه مرحا وتعظما. والمعنى الآخر : وهو قول الفراء : أن التقدير : ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ثاني عطفه ، أي معرضا عن الذكر ؛ ذكره النحاس. وقال مجاهد وقتادة : لاويا عنقه كفرا. ابن عباس : معرضا عما يدعى إليه كفرا. والمعنى واحد. وروى الأوزاعي عن مخلد بن حسين عن هشام بن حسان عن ابن عباس في قوله عز وجل : {ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} قال : هو صاحب البدعة. المبرد ": العطف ما انثنى من العنق. وقال المفضل : والعطف الجانب ؛ ومنه قولهم : فلان ينظر في أعطافه ، أي في جوانبه. وعطفا الرجل من لدن رأسه إلى وركه. وكذلك عطفا كل شيء جانباه. ويقال : ثنى فلان عني عطفه إذا أعرض عنك. فالمعنى : أي هو معرض عن الحق في جداله ومول عن النظر في كلامه ؛ وهو كقوله تعالى : {وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا} [لقمان : 7] . وقوله تعالى : {لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ} [المنافقون : 5] . وقوله : {أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ} [الإسراء : 83] . وقوله : {ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى} [القيامة : 33] . {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي عن طاعة الله تعالى. وقرئ {لِيَضِل} بفتح الياء. واللام لام العاقبة ؛ أي يجادل فيضل ؛ كقوله تعالى : {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص : 8] . أي فكان لهم كذلك. ونظيره {إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ. لِيَكْفُرُوا } [النحل : 54 - 55] . {لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} أي هوان وذل بما يجري له من الذكر القبيح على ألسنة المؤمنين إلى يوم القيامة ؛ كما قال : {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} [القلم : 10] الآية. وقوله تعالى : {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد : 1] . وقيل : الخزي ههنا القتل ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قتل النضر بن الحارث يوم بدر صبرا ؛ كما تقدم في آخر الأنفال. {وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ} أي نار جهنم. {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} أي يقال له في الآخرة إذا دخل النار : ذلك العذاب بما قدمت يداك من المعاصي والكفر. وعبر باليد عن الجملة ؛" لأن اليد التي تفعل وتبطش للجملة. و {ذَلِكَ} بمعنى هذا ، كما تقدم في أول البقرة. الآية : 11 {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعبد اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} قوله تعالى : {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعبد اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} {مِنَ} في موضع رفع بالابتداء ، والتمام {انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} على قراءة الجمهور {خَسِرَ} . وهذه الآية خبر عن المنافقين. قال ابن عباس : يريد شيبة بن ربيعة كان قد أسلم قبل أن يظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فلما أوحى إليه ارتد شيبة بن ربيعة. وقال أبو سعيد الخدري : أسلم رجل من اليهود فذهب بصره وماله ؛ فتشاءم بالإسلام فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أقلني! فقال : "إن الإسلام لا يقال" فقال : إني لم أصب في ديني هذا خيرا! ذهب بصري ومالي وولدي! فقال : "يا يهودي إن الإسلام يسبك الرجال كما تسبك النار خبث الحديد والفضة والذهب" ؛ فأنزل الله تعالى : {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعبد اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} . وروى إسرائيل عن أبي حصين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : "ومن الناس من يعبد الله على حرف" قال : كان الرجل يقدم المدينة فإن ولدت امرأته غلاما ونتجت خيله قال هذا دين صالح ؛ فإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال هذا دين سوء ". وقال المفسرون : نزلت في أعراب كانوا يقدمون على النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون ؛ فإن نالوا رخاء أقاموا ، وإن نالتهم شدة ارتدوا. وقيل نزلت في النضر بن الحارث. وقال ابن زيد وغيره : نزلت في المنافقين. ومعنى {عَلَى حَرْفٍ} على شك ؛ قاله مجاهد وغيره. وحقيقته أنه على ضعف في عبادته ، كضعف القائم على حرف مضطرب فيه. وحرف كل شيء طرفه وشفيره وحده ؛ ومنه حرف الجبل ، وهو أعلاه المحدد. وقيل : {عَلَى حَرْفٍ} أي على وجه واحد ، وهو أن يعبده على السراء دون الضراء ؛ ولو عبد وا الله على الشكر في السراء والصبر على الضراء لما عبد وا الله على حرف. وقيل : {عَلَى حَرْفٍ} على شرط ؛ وذلك أن شيبة بن ربيعة قال للنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يظهر أمره : ادع لي ربك أن يرزقني مالا وإبلا" وخيلا وولدا حتى أومن بك وأعدل إلى دينك ؛ فدعا له فرزقه الله عز وجل ما تمنى ؛ ثم أراد الله عز وجل فتنته واختباره وهو أعلم به فأخذ منه ما كان رزقه بعد أن أسلم فارتد عن الإسلام فأنزل الله تبارك وتعالى فيه : {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعبد اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} يريد شرط. وقال الحسن : هو المنافق يعبد الله بلسانه دون قلبه. وبالجملة فهذا الذي يعبد الله على حرف ليس داخلا بكليته ؛ وبين هذا بقوله : {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ} صحة جسم ورخاء معيشة رضي وأقام على دينه. {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ} أي خلاف ذلك مما يختبر به. {انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} أي ارتد فرجع إلى وجهه الذي كان عليه من الكفر. {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} قرأ مجاهد وحميد بن قيس والأعرج والزهري وابن أبي إسحاق - وروي عن يعقوب - {خاسِرَ الدنيا} بألف ، نصبا على الحال ، وعليه فلا يوقف على {وَجْهِهِ} . وخسرانه الدنيا بأن لاحظ في غنيمة ولا ثناء ، والآخرة بأن لا ثواب له فيها. الآية : 12 {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} قوله تعالى : {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي هذا الذي يرجع إلى الكفر يعبد الصنم الذي ولا ينفع ولا يضر. {ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} قال الفراء : الطويل. الآية : 13 {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} قوله تعالى : {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} أي هذا الذي انقلب على وجهه يدعو من ضره أدنى من نفعه ؛ أي في الآخرة لأنه بعبادته دخل النار ، ولم ير منه نفعا أصلا ، ولكنه قال : ضره أقرب من نفعه ترفيعا للكلام ؛ كقوله تعالى : {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ : 24] . وقيل : يعبدونهم توهم أنهم يشفعون لهم غدا ؛ كما قال الله تعالى : {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس : 18] . وقال تعالى : {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر : 3] . وقال الفراء والكسائي والزجاج : معنى الكلام القسم والتأخير ؛ أي يدعو والله لمن ضره أقرب من نفعه. فاللام مقدمه في غير موضعها. و {مَن} في موضع نصب بـ {يدعو} واللام جواب القسم. و {ضَرُّه} مبتدأ. و {أَقْرَبُ} خبره. وضعف النحاس تأخير الكلام وقال : وليس للام من التصرف ما يوجب أن يكون فيها تقديم ولا تأخير. قلت : حق اللام التقديم وقد تؤخر ؛ قال الشاعر : خالي لأنت ومن جرير خال ... ينل العلاء ويكرم الأخوالا أي لخالي أنت ؛ وقد تقدم. النحاس : وحكى لنا علي بن سليمان عن محمد بن يزيد قال : في الكلام حذف ؛ والمعنى يدعو لمن ضره أقرب من نفعه إلها. قال النحاس : وأحسب هذا القول غلطا على محمد بن يزيد ؛ لأنه لا معنى له ، لأن ما بعد اللام مبتدأ فلا يجوز نصب إله ، وما أحسب مذهب محمد بن يزيد إلا قول الأخفش ، وهو أحسن ما قيل في الآية عندي ، والله أعلم ، قال : {يدعو} بمعنى يقول. و {من} مبتدأ وخبره محذوف ، والمعنى يقول لمن ضره أقرب من نفعه إلهه. قلت : وذكر هذا القول القشيري رحمه الله عن الزجاج والمهدوي عن الأخفش ، وكمل إعرابه فقال : {يدعو} بمعنى يقول ، و {من} مبتدأ ، و {ضَرُّهُ} مبتدأ ثان ، و {أَقْرَبُ} خبره ، والجملة صلة {مَن} ، وخبر {من} محذوف ، والتقدير يقول لمن ضره أقرب من نفعه إلهه ؛ ومثله قول عنترة : يدعون عنتر والرماح كأنها ... أشطان بئر في لبان الأدهم قال القشيري : والكافر الذي يقول الصنم معبودي لا يقول ضره أقرب من نفعه ؛ ولكن المعنى يقول الكافر لمن ضره أقرب من نفعه في قول المسلمين معبودي وإلهي. وهو كقوله تعالى : {يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} [الزخرف : 49] ؛ أي يا أيها الساحر عند أولئك الذين يدعونك ساحرا. وقال الزجاج : يجوز أن يكون {يَدْعُو} في موضع الحال ، وفيه هاء محذوفة ؛ أي ذلك هو الضلال البعيد يدعوه ، أي في حال دعائه إياه ؛ ففي {يَدْعُو} هاء مضمرة ، ويوقف على هذا على {يَدْعُو} . وقوله : {لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} كلام مستأنف مرفوع بالابتداء ، وخبره {لَبِئْسَ الْمَوْلَى} وهذا لأن اللام لليمين والتوكيد فجعلها أول الكلام. قال الزجاج : ويجوز أن يكون "ذلك" بمعنى الذي ، ويكون في محل النصب بوقوع {يَدْعُو} عليه ؛ أي الذي هو الضلال البعيد يدعو ؛ كما قال : {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} أي ما الذي. ثم قوله : {لَمَنْ ضَرُّهُ} كلام مبتدأ ، و {لَبِئْسَ الْعَشِيرُ} خبر المبتدأ ؛ وتقدير الآية على هذا : يدعو الذي هو الضلال البعيد ؛ قدم المفعول وهو الذي ؛ كما تقول : زيدا يضرب ؛ واستحسنه أبو علي. وزعم الزجاج أن النحويين أغفلوا هذا القول ؛ وأنشد : عدس ما لعباد عليك إمارة ... نجوت وهذا تحملين طليق أي والذي. وقال الزجاج أيضا والفراء : يجوز أن يكون {يَدْعُو} مكررة على ما قبلها ، على جهة تكثير هذا الفعل الذي هو الدعاء ، ولا تعديه إذ قد عديته أولا ؛ أي يدعو من دون الله ما لا ينفعه ولا يضره يدعو ؛ مثل ضربت زيدا ضربت ، ثم حذفت يدعو الآخرة اكتفاء بالأولى. قال الفراء : ويجوز {لِمَنْ ضَرُّهُ} بكسر اللام ؛ أي يدعو إلى من ضره أقرب من نفعه ، قال الله عز وجل : {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} أي إليها. وقال الفراء أيضا والقفال : اللام صلة ؛ أي يدعو من ضره أقرب من نفعه ؛ أي يعبده. وكذلك هو في قراءة عبد الله بن مسعود. {لَبِئْسَ الْمَوْلَى} أي في التناصر {وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} أي المعاشر والصاحب والخليل. مجاهد : يعني الوثن الآية : 14 {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} لما ذكر حال المشركين وحال المنافقين والشياطين ذكر حال المؤمنين في الآخرة أيضا. {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} أي يثيب من يشاء ويعذب من يشاء ؛ فللمؤمنين الجنة بحكم وعده الصدق وبفضله ، وللكافرين النار بما سبق من عدله ؛ لا أن فعل الرب معلل بفعل العبيد. الآية : 15 {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} قوله تعالى : {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} قال أبو جعفر النحاس : من أحسن ما قيل فيها أن المعنى من كان يظن أن لن ينصر الله محمدا صلى الله عليه وسلم وأنه يتهيأ له أن يقطع النصر الذي أوتيه. {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} أي فليطلب حيلة يصل بها إلى السماء. {ثُمَّ لْيَقْطَعْ} أي ثم ليقطع النصر إن تهيأ له {فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} وحيلته ما يغيظه من نصر النبي صلى الله عليه وسلم. والفائدة في الكلام أنه إذا لم يتهيأ له الكيد والحيلة بأن يفعل مثل هذا لم يصل إلى قطع النصر. وكذا قال ابن عباس : "إن الكناية في {يَنْصُرَهُ اللَّهُ} ترجع إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو وإن لم يجر ذكره فجميع الكلام دال عليه ؛ لأن الإيمان هو الإيمان بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم ، والانقلاب عن الدين انقلاب عن الدين الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم ؛ أي من كان يظن ممن يعادي محمدا صلى الله عليه وسلم ومن يعبد الله على حرف أنا لا ننصر محمدا فليفعل كذا وكذا" . وعن ابن عباس أيضا "أن الهاء تعود على {مَنْ} والمعنى : من كان يظن أن الله لا يرزقه فليختنق ، فليقتل نفسه ؛ إذ لا خير في حياة تخلو من عون الله" . والنصر على هذا القول الرزق ؛ تقول العرب : من ينصرني نصره الله ؛ أي من أعطاني أعطاه الله. ومن ذلك قول العرب : أرض منصورة ؛ أي ممطورة. قال الفقعسي : وإنك لا تعطي امرأ فوق حقه ... ولا تملك الشق الذي الغيث ناصره وكذا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ} أي لن يرزقه. وهو قول أبي عبيدة. وقيل : إن الهاء تعود على الدين ؛ والمعنى : من كان يظن أن لن ينصر الله دينه. {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ} أي بحبل. والسبب ما يتوصل به إلى الشيء. {إِلَى السَّمَاءِ} إلى سقف البيت. ابن زيد : هي السماء المعروفة. وقرأ الكوفيون {ثُمَّ لْيَقْطَعْ} بإسكان اللام. قال النحاس : وهذا بعيد في العربية ؛ لأن {ثُمَّ} ليست مثل الواو والفاء ، لأنها يوقف ، عليها وتنفرد. وفي قراءة عبد الله {فليقطعه ثم لينظر هل يُذهبن كيدُه ما يغيظه} . قيل : {مَا} بمعنى الذي ؛ أي هل يذهبن كيده الذي يغيظه ، فحذف الهاء ليكون أخف. وقيل : {مَا} بمعنى المصدر ؛ أي هل يذهبن كيده غيظه. الآية : 16 {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ} قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} يعني القرآن. {وَأَنَّ اللَّهَ} أي وكذلك أن الله {يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ} علق وجود الهداية بإرادته ؛ فهو الهادي لا هادي سواه. الآية : 17 {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} أي بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم. {وَالَّذِينَ هَادُوا} اليهود ، وهم المنتسبون إلى ملة موسى عليه السلام. {وَالصَّابِئِينَ} هم قوم يعبدون النجوم. {وَالنَّصَارَى} هم المنتسبون إلى ملة عيسى. {وَالْمَجُوسَ} هم عبد ة النيران القائلين أن للعالم أصلين : نور وظلمة. قال قتادة : الأديان خمسة ، أربعة للشيطان وواحد للرحمن. وقيل : المجوس في الأصل النجوس لتدينهم باستعمال النجاسات ؛ والميم والنون يتعاقبان كالغيم والغين ، والأيم والأين. وقد مضى في البقرة هذا كله مستوفى. {وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} هم العرب عبد ة الأوثان . {إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي يقضي ويحكم ؛ فللكافرين النار ، وللمؤمنين الجنة. وقيل : هذا الفصل بأن يعرفهم المحق من المبطل بمعرفة ضرورية ، واليوم يتميز المحق عن المبطل بالنظر والاستدلال. {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أي من أعمال خلقه وحركاتهم وأقوالهم ، فلا يعزب عنه شيء منها ، سبحانه! وقوله {إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ} خبر {إِنَّ} في قوله : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} كما تقول : إن زيدا إن الخير عنده. وقال الفراء : ولا يجوز في الكلام إن زيدا إن أخاه منطلق ؛ وزعم أنه إنما جاز في الآية لأن في الكلام معنى المجازاة ؛ أي من آمن ومن تهود أو تنصر أو صبأ يفصل بينهم ، وحسابهم على الله عز وجل. ورد أبو إسحاق على الفراء هذا القول ، واستقبح قوله : لا يجوز إن زيدا إن أخاه منطلق ؛ قال : لأنه لا فرق بين زيد وبين الذين ، و {إِنَّ} تدخل على كل مبتدأ فتقول إن زيدا هو منطلق ، ثم تأتي بإن فتقول : إن زيدا إنه منطلق. وقال الشاعر : إن الخليفة إن الله سربله ... سربال عز به ترجى الخواتيم الآية : 18 {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} ![]()
__________________
|
#9
|
||||
|
||||
![]() ![]() تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (12) سُورَةُ الحج من صــ 24 الى صــ 33 الحلقة (489) قوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} هذه رؤية القلب ؛ أي ألم تر بقلبك وعقلك. وتقدم معنى السجود في "البقرة" ، وسجود الجماد في "النحل" . {وَالشَّمْسُ} معطوفة على "من" . وكذا {وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} . ثم قال : {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} وهذا مشكل من الإعراب ، كيف لم ينصب ليعطف ما عمل فيه الفعل على ما عمل فيه الفعل ؛ مثل {وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} ؟ [الإنسان : 31] فزعم الكسائي والفراء أنه لو نصب لكان حسنا ، ولكن اختير الرفع لأن المعنى وكثير أبي السجود ، فيكون ابتداء وخبرا ، وتم الكلام عند قوله {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} . ويجوز أن يكون معطوفا ، على أن يكون السجود التذلل والانقياد لتدبير الله عز وجل من ضعف وقوة وصحة وسقم وحسن وقبح ، وهذا يدخل فيه كل شيء. ويجوز أن ينتصب على تقدير : وأهان كثيرا حق عليه العذاب ، ونحوه. وقيل : تم الكلام عند قوله {وَالدَّوُابُّ} ثم ابتدأ فقال {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} في الجنة {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} . وكذا روي عن ابن عباس أنه قال : "المعنى وكثير من الناس في الجنة وكثير حق عليه العذاب" ؛ ذكره ابن الأنباري. وقال أبو العالية : ما في السماوات نجم ولا قمر ولا شمس إلا يقع ساجدا لله حين يغيب ، ثم لا ينصرف حتى يؤذن له فيرجع من مطلعه ". قال القشيري : وورد هذا في خبر مسند في حق الشمس ؛ فهذا سجود حقيقي ، ومن ضرورته تركيب الحياة والعقل في هذا الساجد." قلت : الحديث المسند الذي أشار إليه خرجه مسلم ، وسيأتي في سورة "يس" عند قوله تعالى : {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس : 38] . وقد تقدم في البقرة معنى السجود لغة ومعنى. قوله تعالى : {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} أي من أهانه بالشقاء والكفر لا يقدر أحد على دفع الهوان عنه. وقال ابن عباس : "إن من تهاون بعبادة الله صار إلى النار" . قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} يريد أن مصيرهم إلى النار فلا اعتراض لأحد عليه. وحكى الأخفش والكسائي والفراء {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} أي إكرام. الآيات : 19 - 21 {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ، يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ، وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} قوله تعالى : {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} خرج مسلم عن قيس بن عباد قال : سمعت أبا ذر يقسم قسما إن {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} إنها نزلت في الذين برزوا يوم بدر : حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث رضي الله عنهم وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة. وبهذا الحديث ختم مسلم رحمه الله كتابه. وقال ابن عباس : "نزلت هذه الآيات الثلاث على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة في ثلاثة نفر من المؤمنين وثلاثة نفر كافرين" ، وسماهم ، كما ذكر أبو ذر. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : "إني لأول من يجثو للخصومة بين يدي الله يوم القيامة ؛ يريد قصته في مبارزته هو وصاحباه" ؛ ذكره البخاري. وإلى هذا القول ذهب هلال بن يساف وعطاء بن يسار وغيرهما. وقال عكرمة : المراد بالخصمين الجنة والنار ؛ اختصمتا فقالت النار : خلقني لعقوبته. وقالت الجنة خلقني لرحمته. قلت : وقد ورد بتخاصم الجنة والنار حديث عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "احتجت الجنة والنار فقالت هذه يدخلني الجبارون والمتكبرون وقالت هذه يدخلني الضعفاء والمساكين فقال الله تعالى لهذه أنت عذابي أعذب بك من أشاء وقال لهذه أنت رحمتي أرحم بك من أشاء ولكل واحدة منكما ملؤها" . خرجه البخاري ومسلم والترمذي وقال : حديث حسن صحيح. وقال ابن عباس أيضا : "هم أهل الكتاب قالوا للمؤمنين نحن أولى بالله منكم ، وأقدم منكم كتابا ، ونبينا قبل نبيكم. وقال المؤمنون : نحن أحق بالله منكم ، آمنا بمحمد وآمنا بنبيكم وبما أنزل إليه من كتاب ، وأنتم تعرفون نبينا وتركتموه وكفرتم به حسدا ؛ فكانت هذه خصومتهم" ، وأنزلت فيهم هذه الآية. وهذا قول قتادة ، والقول الأول أصح رواه البخاري عن حجاج بن منهال عن هشيم عن أبي هاشم عن أبي مجلز عن قيس بن عباد عن أبي ذر ، ومسلم عن عمرو بن زرارة عن هشيم ، ورواه سليمان التيمي عن أبي مجلز عن قيس بن عباد عن علي قال : فينا نزلت هذه الآية وفي مبارزتنا يوم بدر {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ - إلى قوله - عَذَابَ الْحَرِيقِ} . وقرأ ابن كثير {هَذَانِ خَصْمَانِ} بتشديد النون من {هَذَانِ} . وتأول الفراء الخصمين على أنهما فريقان أهل دينين ، وزعم أن الخصم الواحد المسلمون والآخر اليهود والنصارى ، اختصموا في دين ربهم ؛ قال : فقال : {اخْتَصَمُوا} لأنهم جمع ، قال : ولو قال "اختصما" لجاز. قال النحاس : وهذا تأويل من لا دراية له بالحديث ولا بكتب أهل التفسير ؛ لأن الحديث في هذه الآية مشهور ، رواه سفيان الثوري وغيره عن أبي هاشم عن أبي مجلز عن قيس بن عباد قال : سمعت أبا ذر يقسم قسما إن هذه الآية نزلت في حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب وعتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة. وهكذا روى أبو عمرو بن العلاء عن مجاهد عن ابن عباس. وفيه قول رابع "أنهم المؤمنون كلهم والكافرون كلهم من أي ملة كانوا" ؛ قاله مجاهد والحسن وعطاء بن أبي رباح وعاصم بن أبي النجود والكلبي. وهذا القول بالعموم يجمع المنزل فيهم وغيرهم. وقيل : نزلت في الخصومة في البعث والجزاء ؛ إذ قال به قوم وأنكره قوم. قوله تعالى : {فَالَّذِينَ كَفَرُوا} يعني من الفرق الذين تقدم ذكرهم. {قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} أي خيطت وسويت ؛ وشبهت النار بالثياب لأنها لباس لهم كالثياب. وقوله {قُطِّعَتْ} أي تقطع لهم في الآخرة ثياب من نار ؛ وذكر بلفظ الماضي لأن ما كان من أخبار الآخرة فالموعود منه كالواقع المحقق ؛ قال الله تعالى : {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} [المائدة : 116] أي يقول الله تعالى. ويحتمل أن يقال قد أعدت الآن تلك الثياب لهم ليلبسوها إذا صاروا إلى النار. وقال سعيد بن جبير : {مِنْ نَارٍ} من نحاس ؛ فتلك الثياب من نحاس قد أذيبت وهي السرابيل المذكورة في {قَطِرَانٍ} [إبراهيم : 50] وليس في الآنية شيء إذا حمي يكون أشد حرا منه. وقيل : المعنى أن النار قد أحاطت بهم كإحاطة الثياب المقطوعة إذا لبسوها عليهم ؛ فصارت من هذا الوجه ثيابا لأنها بالإحاطة كالثياب ؛ مثل {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً} [النبأ : 10] . {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} أي الماء الحار المغلى بنار جهنم. وروى الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الحميم حتى يخلص إلى جوفه فيسلت ما في جوفه حتى يمرق من قدميه وهو الصهر ثم يعاد كما كان" . قال : حديث حسن صحيح غريب. {يُصْهَرُ} يذاب. {بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ} والصهر إذابة الشحم. والصهارة ما ذاب منه ؛ يقال : صهرت الشيء فانصهر ، أي أذبته فذاب ، فهو صهير. قال ابن أحمر يصف فرخ قطاة : تروي لقى ألقي في صفصف ... تصهره الشمس فما ينصهر أي تذيبه الشمس فيصبر على ذلك. {وَالْجُلُودُ} أي وتحرق الجلود ، أو تشوى الجلود ؛ فإن الجلود لا تذاب ؛ ولكن يضم في كل شيء ما يليق به ، فهو كما تقول : أتيته فأطعمني ثريدا ، إي والله ولبنا قارصا ؛ أي وسقاني لبنا. وقال الشاعر : علفتها تبنا وماء باردا {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} أي يضربون بها ويدفعون ؛ الواحدة مقمعة ، ومقمع أيضا كالمحجن ، يضرب به على رأس الفيل. وقد قمعته إذا ضربته بها. وقمعته وأقمعته بمعنى ؛ أي قهرته وأذللته فانقمع. قال ابن السكيت : أقمعت الرجل عني إقماعا إذا طلع عليك فرددته عنك. وقيل : المقامع المطارق ، وهي المرازب أيضا. وفي الحديث "بيد كل ملك من خزنة جهنم مرزبة لها شعبتان فيضرب الضربة فيهوي بها سبعين ألفا" . وقيل : المقامع سياط من نار ، وسميت بذلك لأنها تقمع المضروب ، أي تذلله. الآية : 22 {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} قوله تعالى : {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ} أي من النار. {أُعِيدُوا فِيهَا} بالضرب بالمقامع. وقال أبو ظبيان : ذكر لنا أنهم يحاولون الخروج من النار حين تجيش بهم وتفور فتلقي من فيها إلى أعلى أبوابها فيريدون الخروج فتعيدهم الخزان إليها بالمقامع. وقيل : إذا اشتد غمهم فيها فروا ؛ فمن خلص منهم إلى شفيرها أعادتهم الملائكة فيها بالمقامع ، ويقولون لهم {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} أي المحرق ؛ مثل الأليم والوجيع. وقيل : الحريق الاسم من الاحتراق. تحرق الشيء بالنار واحترق ، والاسم الحرقة والحريق. والذوق : مماسة يحصل معها إدراك الطعم ؛ وهو هنا توسع ، والمراد به إدراكهم الألم. الآية : 23 {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} لما ذكر أحد الخصمين وهو الكافر ذكر حال الخصم الآخر وهو المؤمن. {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} {مِنْ} صلة. والأساور جمع أسورة ، وأسورة واحدها سوار ؛ وفيه ثلاث لغات : ضم السين وكسرها وإسوار. قال المفسرون : لما كانت الملوك تلبس في الدنيا الأساور والتيجان جعل الله ذلك لأهل الجنة ، وليس أحد من أهل الجنة إلا وفي يده ثلاثة أسورة : سوار من ذهب ، وسوار من فضة ، وسوار من لؤلؤ. قال هنا وفي فاطر : {مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً} [فاطر : 33] وقال في سورة الإنسان : {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} [الإنسان : 21] . وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم يقول : "تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء" . وقيل : تحلى النساء بالذهب والرجال بالفضة. وفيه نظر ، والقرآن يرده. {وَلُؤْلُؤاً} قرأ نافع وابن القعقاع وشيبة وعاصم هنا وفي سورة الملائكة {لُؤْلُؤْاً} بالنصب ، على معنى ويخلون لؤلؤا ؛ واستدلوا بأنها مكتوبة في جميع المصاحف هنا بألف. وكذلك قرأ يعقوب والجحدري وعيسى بن عمر بالنصب هنا والخفض في {فاطر} اتباعا للمصحف ، ولأنها كتبت ههنا بألف وهناك بغير ألف. الباقون بالخفض في الموضعين. وكان أبو بكر لا يهمز {اللؤلؤ} في كل القرآن ؛ وهو ما يستخرج من البحر من جوف الصدف. قال القشيري : والمراد ترصيع السوار باللؤلؤ ؛ ولا يبعد أن يكون في الجنة سوار من لؤلؤ مصمت. قلت : وهو ظاهر القرآن بل نصه. وقال ابن الأنباري : من قرأ {ولؤلؤٍ} بالخفض وقف عليه ولم يقف على الذهب. وقال السجستاني : من نصب {اللؤلؤ} فالوقف الكافي {من ذهب} ؛ لأن المعنى ويحلون لؤلؤا. قال ابن الأنباري : وليس كما قال ، لأنا إذا خفضنا {اللؤلؤ} نسقناه على لفظ الأساور ، وإذا نصبناه نسقناه على تأويل الأساور ، وكأنا قلنا : يحلون فيها أساور ولؤلؤا ، فهو في النصب بمنزلته في الخفض ، فلا معنى لقطعه من الأول. قوله تعالى : {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} أي وجميع ما يلبسونه من فرشهم ولباسهم وستورهم حرير ، وهو أعلى مما في الدنيا بكثير. وروى النسائي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ومن شرب الخمر في الدنيا لم يشربه في الآخرة ومن شرب في آنية الذهب والفضة لم يشرب فيها في الآخرة - ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لباس أهل الجنة وشراب أهل الجنة وآنية أهل الجنة" . فإن قيل : قد سوى النبي صلى الله عليه وسلم بين هذه الأشياء الثلاثة وأنه يحرمها في الآخرة ؛ فهل يحرمها إذا دخل الجنة ؟ قلنا : نعم! إذا لم يتب منها حرمها في الآخرة وإن دخل الجنة ؛ لاستعجاله ما حرم الله عليه في الدنيا. لا يقال : إنما يحرم ذلك في الوقت الذي يعذب في النار أو بطول مقامه في الموقف ، فأما إذا دخل الجنة فلا ؛ لأن حرمان شيء من لذات الجنة لمن كان في الجنة نوع عقوبة ومؤاخذة والجنة ليست بدار عقوبة ، ولا مؤاخذة فيها بوجه. فإنا نقول : ما ذكرتموه محتمل ، لولا ما جاء ما يدفع هذا الاحتمال ويرده من ظاهر الحديث الذي ذكرناه. وما رواه الأئمة من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم "من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة" . والأصل التمسك بالظاهر حتى يرد نص يدفعه ، بل قد ورد نص على صحة ما ذكرناه ، وهو ما رواه أبو داود الطيالسي في مسنده : حدثنا هشام عن قتادة عن داود السراج عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه هو" . وهذا نص صريح وإسناده صحيح. فإن كان "وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه هو" من قول النبي صلى الله عليه وسلم فهو الغاية في البيان ، وإن كان من كلام الراوي على ما ذكر فهو أعلى بالمقال وأقعد بالحال ، ومثله لا يقال بالرأي ، والله أعلم. وكذلك "من شرب الخمر ولم يتب" و "من استعمل آنية الذهب والفضة" وكما لا يشتهي منزلة من هو أرفع منه ، وليس ذلك بعقوبة كذلك لا يشتهي خمر الجنة ولا حريرها ولا يكون ذلك عقوبة. وقد ذكرنا هذا كله في كتاب التذكرة مستوفى ، والحمد لله ، وذكرنا فيها أن شجر الجنة وثمارها يتفتق عن ثياب الجنة ، وقد ذكرناه في سورة الكهف. الآية : 24 {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} قوله تعالى : {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} أي أرشدوا إلى ذلك. قال ابن عباس : "يريد لا إله إلا الله والحمد لله" . وقيل : القرآن ، ثم قيل : هذا في الدنيا ، هدوا إلى الشهادة ، وقراءة القرآن. {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} أي إلى صراط الله. وصراط الله : دينه وهو الإسلام. وقيل : هدوا في الآخرة إلى الطيب من القول ، وهو الحمد لله ؛ لأنهم يقولون غدا الحمد لله الذي هدانا لهذا ، الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن ؛ فليس في الجنة لغو ولا كذب فما يقولونه فهو طيب القول. وقد هدوا في الجنة إلى صراط الله ، إذ ليس في الجنة شيء من مخالفة أمر الله. وقيل : الطيب من القول ما يأتيهم من الله من البشارات الحسنة. {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} أي إلى طريق الجنة. الآية : 25 {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} فيه سبع مسائل : - الأولى : قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ} أعاد الكلام إلى مشركي العرب حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الحرام عام الحديبية ، وذلك أنه لم يعلم لهم صد قبل ذلك الجمع ؛ إلا أن يريد صدهم لأفراد من الناس ، فقد وقع ذلك في صدر المبعث. والصد : المنع ؛ أي وهم يصدون. وبهذا حسن عطف المستقبل على الماضي. وقيل : الواو زائدة {وَيَصُدُّونَ} خبر {إِنَّ} . وهذا مفسد للمعنى المقصود ، وإنما الخبر محذوف مقدر عند قوله {وَالْبَادِ} تقديره : خسروا إذا هلكوا. وجاء {وَيَصُدُّونَ} مستقبلا إذ هو فعل يديمونه ؛ كما جاء قوله تعالى : {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} [الرعد : 28] ؛ فكأنه قال : إن الذين كفروا من شأنهم الصد. ولو قال إن الذين كفروا وصدروا لجاز. قال النحاس : وفي كتابي عن أبي إسحاق قال وجائز أن يكون - وهو الوجه - الخبر {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} . قال أبو جعفر : وهذا غلط ، ولست أعرف ما الوجه فيه ؛ لأنه جاء بخبر {إنّ} جزما ، وأيضا فإنه جواب الشرط ، ولو كان خبر {إن} لبقي الشرط بلا جواب ، ولا سيما والفعل الذي في الشرط مستقبل فلا بد له من جواب. الثانية : قوله تعالى : {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} قيل : إنه المسجد نفسه ، وهو ظاهر القرآن ؛ لأنه لم يذكر غيره. وقيل : الحرم كله ؛ لأن المشركين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عنه عام الحديبية ، فنزل خارجا عنه ؛ قال الله تعالى : {وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الفتح : 25] وقال : {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء : 1] . وهذا صحيح ، لكنه قصد هنا بالذكر المهم المقصود من ذلك. الثالثة : {الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ} أي للصلاة والطواف والعبادة ؛ وهو كقوله تعالى : {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} [آل عمران : 96] . {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} العاكف : المقيم الملازم. والبادي : أهل البادية ومن يقدم عليهم. يقول : سواء في تعظيم حرمته وقضاء النسك فيه الحاضر والذي يأتيه من البلاد ؛ فليس أهل مكة أحق من النازح إليه. وقيل : إن المساواة إنما هي في دوره ومنازله ، ليس المقيم فيها أولى من الطارئ عليها. وهذا على أن المسجد الحرام الحرم كله ؛ وهذا قول مجاهد ومالك ؛ رواه عنه ابن القاسم. وروي عن عمر وابن عباس وجماعة "إلى أن القادم له النزول حيث وجد ، وعلى رب المنزل أن يؤويه شاء أو أبى" . وقال ذلك سفيان الثوري وغيره ، وكذلك كان الأمر في الصدر الأول ، كانت دورهم بغير أبواب حتى كثرت السرقة ؛ فاتخذ رجل بابا فأنكر عليه عمر وقال : أتغلق بابا في وجه حاج بيت الله ؟ فقال : إنما أردت حفظ متاعهم من السرقة ، فتركه فاتخذ الناس الأبواب. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أيضا أنه كان يأمر في الموسم بقلع أبواب دور مكة ، حتى يدخلها الذي يقدم فينزل حيث شاء ، وكانت الفساطيط تضرب في الدور. وروي عن مالك أن الدور ليست كالمسجد ولأهلها الامتناع منها والاستبداد ؛ وهذا هو العمل اليوم. وقال بهذا جمهور من الأمة. وهذا الخلاف يبنى على أصلين : أحدهما أن دور مكة هل هي ملك لأربابها أم للناس. وللخلاف سببان : أحدهما : هل فتح مكة كان عنوة فتكون مغنومة ، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقسمها وأقرها لأهلها ولمن جاء بعدهم ؛ كما فعل عمر رضي الله عنه بأرض السواد وعفا لهم عن الخراج كما عفا عن سبيهم واسترقاقهم إحسانا إليهم دون سائر الكفار فتبقى على ذلك لاتباع ولا تكرى ، ومن سبق إلى موضع كان أولى به. وبهذا قال مالك وأبو حنيفة والأوزاعي. أو كان فتحها صلحا - وإليه ذهب الشافعي - فتبقى ديارهم بأيديهم ، وفي أملاكهم يتصرفون كيف شاؤوا. وروي عن عمر أنه اشترى دار صفوان بن أمية بأربعة آلاف وجعلها سجنا ، وهو أول من حبس في السجن في الإسلام ، على ما تقدم بيانه في آية المحاربين من سورة "المائدة" . وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس في تهمة. وكان طاوس يكره السجن بمكة ويقول : لا ينبغي لبيت عذاب أن يكون في بيت رحمة. قلت : الصحيح ما قاله مالك ؛ وعليه تدل ظواهر الأخبار الثابتة بأنها فتحت عنوة. قال أبو عبيد : ولا نعلم مكة يشبهها شيء من البلاد. وروى الدارقطني عن علقمة بن نضلة قال : توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما وما تدعى رباع مكة إلا السوائب ؛ من احتاج سكن ومن استغنى أسكن. وزاد في رواية : وعثمان. وروي أيضا عن علقمة بن نضلة الكناني قال : كانت تدعى بيوت مكة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما السوائب ، لا تباع ؛ من احتاج سكن ومن استغنى أسكن. وروي أيضا عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن الله تعالى حرم مكة فحرام بيع رباعها وأكل ثمنها - وقال - من أكل من أجر بيوت مكة شيئا فإنما يأكل نارا" . قال الدارقطني : كذا رواه أبو حنيفة مرفوعا ووهم فيه ، ووهم أيضا في قوله عبيدالله بن أبي يزيد وإنما هو ابن أبي زياد القداح ، والصحيح أنه موقوف ، وأسند الدارقطني أيضا عن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله : "مكة مناخ لا تباع رباعها ولا تؤاجر" ![]()
__________________
|
#10
|
||||
|
||||
![]() ![]() تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (12) سُورَةُ الحج من صــ 34 الى صــ 43 الحلقة (490) يوتها ". وروى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت : قلت يا رسول الله ؛ ألا أبني لك بمنى بيتا أو بناء يظلك من الشمس ؟ فقال :" لا ، إنما هو مناخ من سبق إليه ". وتمسك الشافعي رضي الله عنه بقوله تعالى : {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} الحج : 40] فأضافها إليهم. وقال عليه السلام يوم الفتح :" من أغلق بابه فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن "." الرابعة : قرأ جمهور الناس {سواء} بالرفع ، وهو على الابتداء ، و {العاكف} خبره. وقيل : الخبر {سواء} وهو مقدم ؛ أي العاكف فيه والبادي سواء ؛ وهو قول أبي علي ، والمعنى : الذي جعلناه للناس قبلة أو متعبدا العاكف فيه والبادي سواء. وقرأ حفص عن عاصم {سواء} بالنصب ، وهي قراءة الأعمش. وذلك يحتمل أيضا وجهين : أحدهما : أن يكون مفعولا ثانيا لجعل ، ويرتفع {الْعَاكِفُ} به لأنه مصدر ، فأعمل عمل اسم الفاعل لأنه في معنى مستو. والوجه الثاني : أن يكون حالا من الضمير في جعلناه. وقرأت فرقة {سواء} بالنصب {العاكِف} بالخفض ، و {البادي} عطفا على الناس ، التقدير : الذي جعلناه للناس العاكف والبادي. وقراءة ابن كثير في الوقف والوصل بالياء ، ووقف أبو عمرو بغير ياء ووصل بالياء. وقرأ نافع بغير ياء في الوصل والوقف. وأجمع الناس على الاستواء في نفس المسجد الحرام ، واختلفوا في مكة ؛ وقد ذكرناه. الخامسة : قوله تعالى : {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} شرط ، وجوابه {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} . والإلحاد في اللغة : الميل ؛ إلا أن الله تعالى بين أن الميل بالظلم هو المراد. واختلف في الظلم ؛ فروى علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس : {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} قال : الشرك. وقال عطاء : الشرك والقتل. وقيل : معناه صيد حمامه ، وقطع شجره ؛ ودخول غير محرم. وقال ابن عمر : "كنا نتحدث أن الإلحاد فيه أن يقول الإنسان : لا والله! وبلى والله! وكلا والله! ولذلك كان له فسطاطان ، أحدهما" في الحل والآخر في الحرم ؛ فكان إذا أراد الصلاة دخل فسطاط الحرم ، وإذا أراد بعض شأنه دخل فسطاط الحل ، صيانة للحرم عن قولهم كلا والله وبلى والله ، حين عظم الله الذنب فيه. وكذلك كان لعبد بن عمرو بن العاص فسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم ، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل ، وإذا أراد أن يصلي صلى في الحرم ، فقيل له في ذلك فقال : إن كنا لنتحدث أن من الإلحاد في الحرم أن نقول كلا والله وبلى والله ، والمعاصي تضاعف بمكة كما تضاعف الحسنات ، فتكون المعصية معصيتين ، إحداهما بنفس المخالفة والثانية بإسقاط حرمة البلد الحرام ؛ وهكذا الأشهر الحرم سواء. وقد تقدم. وروى أبو داود عن يعلى بن أمية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه" . وهو قول عمر بن الخطاب. والعموم يأتي على هذا كله. السادسة : ذهب قوم من أهل التأويل منهم الضحاك وابن زيد إلى أن هذه الآية تدل على أن الإنسان يعاقب على ما ينويه من المعاصي بمكة وإن لم يعمله. وقد روي نحو ذلك عن ابن مسعود وابن عمر قالوا : لو هم رجل بقتل رجل بهذا البيت وهو "بعدن أبين" لعذبه الله. قلت : هذا صحيح ، وقد جاء هذا المعنى في سورة {نْ وَالْقَلَمِ} القلم : 1] مبينا ، على ما يأتي بيانه هناك إن شاء الله تعالى. الباء في {بِإِلْحَادٍ} زائدة كزيادتها في قوله تعالى : {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون : 20] ؛ وعليه حملوا قول الشاعر : نحن بنو جعدة أصحاب الفلج ... نضرب بالسيف ونرجو بالفرج أراد : نرجو الفرج. وقال الأعشى : ضمنت برزق عيالنا أرماحنا أي رزق : وقال آخر : ألم يأتيك والأنباء تنمي ... بما لاقت لبون بني زياد أي ما لاقت ؛ والباء زائدة ، وهو كثير. وقال الفراء : سمعت أعرابيا وسألته عن شيء فقال : أرجو بذاك ، أي أرجو ذاك. وقال الشاعر : بواد يمان ينبت الشث صدرة ... وأسفله بالمرخ والشبهان أي المرخ. وهو قول الأخفش ، والمعنى عنده : ومن يرد فيه إلحادا بظلم. وقال الكوفيون : دخلت الباء لأن المعنى بأن يلحد ، والباء مع أن تدخل وتحذف. ويجوز أن يكون التقدير : ومن برد الناس فيه بإلحاد. وهذا الإلحاد والظلم يجمع المعاصي من الكفر إلى الصغائر ؛ فلعظم حرمة المكان توعد الله تعالى على نية السيئة فيه. ومن نوى سيئة ولم يعملها لم يحاسب عليها إلا في مكة. هذا قول ابن مسعود وجماعة من الصحابة وغيرهم. وقد ذكرناه آنفا. الآية : 26 {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} فيه مسألتان : - الأولى : قوله تعالى : {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} أي واذكر إذ بوأنا لإبراهيم ؛ يقال : بوأته منزلا وبوأت له. كما يقال : مكنتك ومكنت لك ؛ فاللام في قوله : {لِإِبْرَاهِيمَ} صلة للتأكيد ؛ كقوله : {رَدِفَ لَكُمْ} [النمل : 72] ، وهذا قول الفراء. وقيل : {بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} أي أريناه أصله ليبنيه ، وكان قد درس بالطوفان وغيره ، فلما جاءت مدة إبراهيم عليه السلام أمره الله ببنيانه ، فجاء إلى موضعه وجعل يطلب أثرا ، فبعث الله ريحا فكشفت عن أساس آدم عليه السلام ؛ فرتب قواعده عليه ؛ حسبما تقدم بيانه في "البقرة" . وقيل : {بَوَّأْنَا} نازلة منزلة فعل يتعدى باللام ؛ كنحو جعلنا ، أي جعلنا لإبراهيم مكان البيت مبوأ. وقال الشاعر : كم من أخ لي ماجد ... بوأته بيدي لحدا الثانية : {أَنْ لا تُشْرِكْ} هي مخاطبة لإبراهيم عليه السلام في قول الجمهور. وقرأ عكرمة {أَنْ لاَ يُشْرِكْ} بالياء ، على نقل معنى القول الذي قيل له. قال أبو حاتم : ولا بد من نصب الكاف على هذه القراءة ، بمعنى لئلا يشرك. وقيل : إن "أن" مخففة من الثقيلة. وقيل مفسرة. وقيل زائدة ؛ مثل {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ} [يوسف : 96] . وفي الآية طعن على من أشرك من قطان البيت ؛ أي هذا كان الشرط على أبيكم ممن بعده وأنتم ، فلم تفوا بل أشركتم. وقالت فرقة : الخطاب من قول {أَنْ لا تُشْرِكْ} لمحمد صلى الله عليه وسلم ؛ وأمر بتطهير البيت والأذان بالحج. والجمهور على أن ذلك لإبراهيم ؛ وهو الأصح. وتطهير البيت عام في الكفر والبدع وجميع الأنجاس والدماء. وقيل : عنى به التطهير عن الأوثان ؛ كما قال تعالى : {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج : 30] ؛ وذلك أن جرهما والعمالقة كانت لهم أصنام في محل البيت وحوله قبل أن يبنيه إبراهيم عليه السلام. وقيل : المعنى نزه بيتي عن أن يعبد فيه صنم. وهذا أمر بإظهار التوحيد فيه. وقد مضى ما للعلماء في تنزيه المسجد الحرام وغيره من المساجد بما فيه كفاية في سورة "التوبة" . والقائمون هم المصلون. وذكر تعالى من أركان الصلاة أعظمها ، وهو القيام والركوع والسجود. الآية : 27 {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} فيه سبع مسائل : - الأولى : قوله تعالى : {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} قرأ جمهور الناس {وَأَذِّنْ} بتشديد الذال. وقرأ الحسن بن أبي الحسن وابن محيصن {وآذن } بتخفيف الذال ومد الألف. ابن عطية : وتصحف هذا على ابن جني ، فإنه حكى عنهما {وأذن} على أنه فعل ماض ، وأعرب على ذلك بأن جعله عطفا على {بَوَّأْنَا} . والأذان الإعلام ، وقد تقدم في "التوبة" الثانية : لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت ، وقيل له : أذن في الناس بالحج ، قال : يا رب! وما يبلغ صوتي ؟ قال : أذن وعلي الإبلاغ ؛ فصعد إبراهيم خليل الله جبل أبي قبيس وصاح : يا أيها الناس! إن الله قد أمركم بحج هذا البيت ليثيبكم به الجنة ويجيركم من عذاب النار ، فحجوا ؛ فأجابه من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء : لبيك اللهم لبيك! فمن أجاب يومئذ حج على قدر الإجابة ؛ إن أجاب مرة فمرة ، وإن أجاب مرتين فمرتين ؛ وجرت التلبية على ذلك ؛ قاله ابن عباس وابن جبير. وروي عن أبي الطفيل قال قال لي ابن عباس : "أتدري ما كان أصل التلبية ؟ قلت لا! قال : لما أمر إبراهيم عليه السلام أن يؤذن في الناس بالحج خفضت الجبال رؤوسها ورفعت له القرى ؛ فنادى في الناس بالحج فأجابه كل شيء : لبيك اللهم لبيك" . وقيل : إن الخطاب لإبراهيم عليه السلام تم عند قوله {السجود} ، ثم خاطب الله عز وجل محمدا عليه الصلاة والسلام فقال : {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} أي أعلمهم أن عليهم الحج. وقول ثالث : إن الخطاب من قوله {أَنْ لا تُشْرِكْ} مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم. وهذا قول أهل النظر ؛ لأن القرآن أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم ، فكل ما فيه من المخاطبة فهي له إلا أن يدل دليل قاطع على غير ذلك. وههنا دليل آخر يدل على أن المخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم ، وهو {أَنْ لا تُشْرِكْ بِي} بالتاء ، وهذا مخاطبة لمشاهد ، وإبراهيم عليه السلام غائب ، فالمعنى على هذا : وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت فجعلنا لك الدلائل على توحيد الله تعالى وعلى أن إبراهيم كان يعبد الله وحده. وقرأ جمهور الناس "بالحج" بفتح الحاء. وقرأ ابن أبي إسحاق في كل القرآن بكسرها. وقيل : إن نداء إبراهيم من جملة ما أمر به من شرائع الدين. والله أعلم. الثالثة : قوله تعالى : {يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} وعده إجابة الناس إلى حج البيت ما بين راجل وراكب ، وإنما قال : {يَأْتُوكَ} وإن كانوا يأتون الكعبة لأن المنادي إبراهيم ، فمن أتى الكعبة حاجا فكأنما أتى إبراهيم ؛ لأنه أجاب نداءه ، وفيه تشريف إبراهيم. ابن عطية : {رجالاً} جمع راجل مثل تاجر وتجار ، وصاحب وصحاب. وقيل : الرجال جمع رَجْل ، والرَّجْل جمع راجل ؛ مثل تجار وتجر وتاجر ، وصحاب وصحب وصاحب. وقد يقال في الجمع : رجال ، بالتشديد ؛ مثل كافر وكفار. وقرأ ابن أبي إسحاق وعكرمة {رُجَالاً} بضم الراء وتخفيف الجيم ، وهو قليل في أبنية الجمع ، ورويت عن مجاهد. وقرأ مجاهد {رُجَالَى} على وزن فعالى ؛ فهو مثل كسالى. قال النحاس : في جمع راجل خمسة أوجه ، ورجالة مثل ركاب ، وهو الذي روي عن عكرمة ، ورجال مثل قيام ، ورجلة ، ورجل ، ورجالة. والذي روي عن مجاهد رجالا غير معروف ، والأشبه به أن يكون غير منون مثل كسالى وسكارى ، ولو نون لكان على فعال ، وفعال في الجمع قليل. وقدم الرجال على الركبان في الذكر لزيادة تعبهم في المشي. {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ} لأن معنى {ضَامِرٍ} معنى ضوامر. قال الفراء : ويجوز {يأتي} على اللفظ. والضامر : البعير المهزول الذي أتعبه السفر ؛ يقال : ضمر يضمر ضمورا ؛ فوصفها الله تعالى بالمآل الذي انتهت عليه إلى مكة. وذكر سبب الضمور فقال : {يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} أي أثر فيها طول السفر. ورد الضمير إلى الإبل تكرمة لها لقصدها الحج مع أربابها ؛ كما قال : {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً} [العاديات : 1] في خيل الجهاد تكرمة لها حين سعت في سبيل الله. الرابعة : قال بعضهم : إنما قال {رِجَالاً} لأن الغالب خروج الرجال إلى الحج دون الإناث ؛ فقول {رجالاً} من قولك : هذا رجل ؛ وهذا فيه بعد ؛ لقوله : {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} يعني الركبان ، فدخل فيه الرجال والنساء. ولما قال تعالى : {رِجَالاً} وبدأ بهم دل ذلك على أن حج الراجل أفضل من حج الراكب. قال ابن عباس : "ما آسى على شيء فاتني إلا أن لا أكون حججت ماشيا ، فإني سمعت الله عز وجل يقول {يَأْتُوكَ رِجَالاً} . وقال ابن أبي نجيح : حج إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ماشيين. وقرأ أصحاب ابن مسعود {يأتون} وهي قراءة ابن أبي عبلة والضحاك ، والضمير للناس." الخامسة : لا خلاف في جواز. الركوب والمشي ، واختلفوا في الأفضل منهما ؛ فذهب مالك والشافعي في آخرين إلى أن الركوب أفضل ، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ، ولكثرة النفقة ولتعظيم شعائر الحج بأهبة الركوب. وذهب غيرهم إلى أن المشي أفضل لما فيه من المشقة على النفس ، ولحديث أبي سعيد قال : حج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مشاة من المدينة إلى مكة ، وقال : "اربطوا أوساطكم بأزركم" ومشى خلط الهرولة ؛ خرجه ابن ماجه في سننه. ولا خلاف في أن الركوب عند مالك في المناسك كلها أفضل ؛ للاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم. السادسة : استدل بعض العلماء بسقوط ذكر البحر من هذه الآية على أن فرض الحج بالبحر ساقط. قال مالك في الموازية : لا أسمع للبحر ذكرا ، وهذا تأنس ، لا أنه يلزم من سقوط ذكره سقوط الفرض فيه ؛ وذلك أن مكة ليست في ضفة بحر فيأتيها الناس في السفن ؛ ولابد لمن ركب البحر أن يصير في إتيان مكة إما راجلا وإما على ضامر ؛ فإنما ذكرت حالتا الوصول ؛ وإسقاط فرض الحج بمجرد البحر ليس بالكثير ولا بالقوي. فأما إذا اقترن به عدو وخوف أو هول شديد أو مرض يلحق شخصا ، فمالك والشافعي وجمهور الناس على سقوط الوجوب بهذه الأعذار ، وأنه ليس بسبيل يستطاع. قال ابن عطية : وذكر صاحب الاستظهار في هذا المعنى كلاما. ظاهره أن الوجوب لا يسقط بشيء من هذه الأعذار ؛ وهذا ضعيف. قلت : وأضعف من ضعيف ، وقد مضى في {البقرة} بيانه. والفج : الطريق الواسعة ، والجمع فجاج. وقد مضى في {الأنبياء} . والعميق معناه البعيد. وقراءة الجماعة {يأتِين} . وقرأ أصحاب عبد الله {يأتون} وهذا للركبان و {يأتِين} للجمال ؛ كأنه قال : وعلى إبل ضامرة يأتين {مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} أي بعيد ؛ ومنه بئر عميقة أي بعيدة القعر ؛ ومنه : وقاتم الأعماق خاوي المخترق السابعة : واختلفوا في الواصل إلى البيت ، هل يرفع يديه عند رؤيته أم لا ؛ فروى أبو داود قال : سئل جابر بن عبد الله عن الرجل يرى البيت ويرفع يديه فقال : ما كنت أرى أن أحدا يفعل هذا إلا اليهود ، وقد حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نكن نفعله. وروى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "ترفع الأيدي في سبع مواطن افتتاح الصلاة واستقبال البيت والصفا والمروة والموقفين والجمرتين" . وإلى حديث ابن عباس هذا ذهب الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق وضعفوا حديث جابر ؛ لأن مهاجرا المكي راوية مجهول. وكان ابن عمر يرفع يديه عند رؤية البيت. وعن ابن عباس مثله. الآيتان : 28 - 29 {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ، ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} فيه ثلاث وعشرون مسألة : - الأولى : قوله تعالى : {لِيَشْهَدُوا} أي أذن بالحج يأتوك رجالا وركبانا ليشهدوا ؛ أي ليحضروا. والشهود الحضور. {مَنَافِعَ لَهُمْ} أي المناسك ، كعرفات والمشعر الحرام. وقيل المغفرة. وقيل التجارة. وقيل هو عموم ؛ أي ليحضروا منافع لهم ، أي ما يرضي الله تعالى من أمر الدنيا والآخرة ؛ قال مجاهد وعطاء واختاره ابن العربي ؛ فإنه يجمع ذلك كله من نسك وتجارة ومغفرة ومنفعة دنيا وأخرى. ولا خلاف في أن المراد بقوله : {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ } الثانية : {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} قد مضى في "البقرة" الكلام في الأيام المعلومات والمعدودات. والمراد بذكر اسم الله ذكر التسمية عند الذبح والنحر ؛ مثل قولك : باسم الله والله أكبر ، اللهم منك ولك. ومثل قولك عند الذبح {إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} [الأنعام : 162] الآية. وكان الكفار يذبحون على أسماء أصنامهم ، فبين الرب أن الواجب الذبح على اسم الله ؛ وقد مضى في "الأنعام" . الثالثة : واختلف العلماء في وقت الذبح يوم النحر ؛ فقال مالك رضي الله عنه : بعد صلاة الإمام وذبحه ؛ إلا أن يؤخر تأخيرا يتعدى فيه فيسقط الاقتداء به. وراعى أبو حنيفة الفراغ من الصلاة دون ذبح. والشافعي دخول وقت الصلاة ومقدار ما توقع فيه الخطبتين ؛ فاعتبر الوقت دون الصلاة ، هذه رواية المزني عنه ، وهو قول الطبري. وذكر الربيع عن البويطي قال قال الشافعي : ولا يذبح أحد حتى يذبح الإمام إلا أن يكون ممن لا يذبح ، فإذا صلى وفرغ من الخطبة حل الذبح. وهذا كقول مالك. وقال أحمد : إذا انصرف الإمام فاذبح. وهو قول إبراهيم. وأصح هذه الأقوال قول مالك ؛ لحديث جابر بن عبد الله قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر بالمدينة ، فتقدم رجال فنحروا وظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نحر ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من كان نحر أن يعيد بنحر آخر ، ولا ينحروا حتى ينحر النبي صلى الله عليه وسلم خرجه مسلم والترمذي وقال : وفي الباب عن جابر وجندب وأنس وعويمر بن أشقر وابن عمر وأبي زيد الأنصاري ، وهذا حديث حسن صحيح ، والعمل على هذا عند أهل العلم ألا يضحى بالمصر حتى يصلي الإمام. وقد احتج أبو حنيفة بحديث البراء ، وفيه : "ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين" . خرجه مسلم أيضا. فعلق الذبح على الصلاة ولم يذكر الذبح ، وحديث جابر يقيده. وكذلك حديث البراء أيضا ، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا" الحديث. وقال أبو عمر بن عبد البر : لا أعلم خلافا بين العلماء أن من ذبح قبل الصلاة وكان من أهل المصر أنه غير مضح ؛ لقوله عليه السلام : "من ذبح قبل الصلاة فتلك شاة لحم" الرابعة : وأما أهل البوادي ومن لا أمام له فمشهور مذهب مالك يتحرى وقت ذبح الإمام ، أو أقرب الأئمة إليه. وقال ربيعة وعطاء فيمن لا إمام له : إن ذبح قبل طلوع الشمس لم يجزه ، ويجزيه إن ذبح بعده. وقال أهل الرأي : يجزيهم من بعد الفجر. وهو قول ابن المبارك ، ذكره عنه الترمذي. وتمسكوا بقوله تعالى : {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} ، فأضاف النحر إلى اليوم. وهل اليوم من طلوع الفجر أو من طلوع الشمس ، قولان. ولا خلاف أنه لا يجزى ذبح الأضحية قبل طلوع الفجر من يوم النحر. الخامسة : واختلفوا كم أيام النحر ؟ فقال مالك : ثلاثة ، يوم النحر ويومان بعده. وبه قال أبو حنيفة والثوري وأحمد بن حنبل ، وروي ذلك عن أبي هريرة وأنس بن مالك من غير اختلاف عنهما. وقال الشافعي : أربعة ، يوم النحر وثلاثة بعده. وبه قال الأوزاعي ، وروي ذلك عن علي رضي الله عنه وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم ، وروي عنهم أيضا مثل قول مالك وأحمد. وقيل : "هو يوم النحر خاصة وهو العاشر من ذي الحجة" ؛ وروي عن ابن سيرين. وعن سعيد بن جبير وجابر بن زيد أنهما قالا : النحر في الأمصار يوم واحد وفي منى ثلاثة أيام. وعن الحسن البصري في ذلك ثلاث روايات : إحداها : كما قال مالك ، والثانية : كما قال الشافعي ، والثالثة : إلى آخر يوم من ذي الحجة ؛ فإذا أهل هلال المحرم فلا أضحى. قلت : وهو قول سليمان بن يسار وأبي سلمة بن عبد الرحمن ، ورويا حديثا مرسلا مرفوعا خرجه الدارقطني : الضحايا إلى هلال ذي الحجة ؛ ولم يصح ، ودليلنا قوله تعالى : {فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} الآية ، وهذا جمع قلة ؛ لكن المتيقن منه الثلاثة ، وما بعد الثلاثة غير متيقن فلا يعمل به. قال أبو عمر بن عبد البر : أجمع العلماء على أن يوم النحر يوم أضحى ، وأجمعوا أن لا أضحى بعد انسلاخ ذي الحجة ، ولا يصح عندي في هذه إلا قولان : أحدهما : قول مالك والكوفيين. والآخر : قول الشافعي والشاميين ؛ وهذان القولان مرويان ![]()
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 8 ( الأعضاء 0 والزوار 8) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |