|
ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
![]() ![]() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد السادس الحلقة (459) سُورَةُ غَافِرٍ صـ 373 إلى صـ 380 [ ص: 373 ] وأن منهم قادة هم رؤساؤهم المتبوعون وهم المذكورون في قوله تعالى : ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله الآية [ 22 \ 8 - 9 ] . وبين تعالى في موضع آخر أن من أنواع جدال الكفار ، جدالهم للمؤمنين الذين استجابوا لله وآمنوا به وبرسوله ، ليردوهم إلى الكفر بعد الإيمان ، وبين بطلان حجة هؤلاء ، وتوعدهم بغضبه عليهم ، وعذابه الشديد وذلك في قوله تعالى : والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد [ 42 \ 16 ] . قوله تعالى : فلا يغررك تقلبهم في البلاد . نهى الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة ، ليشرع لأمته عن أن يغره تقلب الذين كفروا في بلاد الله ، بالتجارات والأرباح ، والعافية وسعة الرزق ، كما كانت قريش تفيض عليها الأموال من أرباح التجارات ، وغيرها من رحلة الشتاء والصيف المذكورة في قوله تعالى : إيلافهم رحلة الشتاء والصيف [ 106 \ 2 ] أي : إلى اليمن والشام وهم مع ذلك كفرة فجرة ، يكذبون نبي الله ويعادونه . والمعنى : لا تغتر بإنعام الله عليهم تقلبهم في بلاده في إنعام وعافية ; فإن الله جل وعلا يستدرجهم بذلك الإنعام ، فيمتعهم به قليلا ، ثم يهلكهم فيجعل مصيرهم إلى النار . وقد أوضح هذا المعنى في آيات من كتابه كقوله تعالى : لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد [ 3 \ 196 - 197 ] . وقوله تعالى : ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ [ 31 \ 23 - 24 ] وقوله تعالى : قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير [ 2 \ 26 ] وقوله تعالى : قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون [ 10 \ 69 - 70 ] إلى غير ذلك من الآيات . والفاء في قوله : فلا يغررك ، سببية أي : لا يمكن تقلبهم في بلاد الله . متنعمين [ ص: 374 ] بالأموال والأرزاق ، سببا لاغترارك بهم ، فتظن بهم ظنا حسنا ; لأن ذلك التنعم ، تنعم استدراج ، وهو زائل عن قريب ، وهم صائرون إلى الهلاك والعذاب الدائم . قوله تعالى : وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار . قرأ هذا الحرف نافع وابن عامر ( كلمات ) بصيغة الجمع المؤنث السالم وقرأه الباقون ( كلمة ربك ) بالإفراد . وقد أوضحنا معنى الكلمة والكلمات فيما يماثل هذه الآية في سورة يس في الكلام على قوله تعالى . لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون [ 36 \ 7 ] . قوله تعالى : ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم . لم يبين هنا الآية المتضمنة لوعدهم بالجنات ، هم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم . ولكنه جل وعلا أوضح وعده إياهم بذلك في سورة الرعد في قوله تعالى : والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب الآية [ 22 \ 23 - 13 ] . قوله تعالى : قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين . التحقيق الذي لا ينبغي العدول عنه ، أن المراد بالإماتتين في هذه الآية الكريمة ، الإماتة الأولى ، التي هي كونهم في بطون أمهاتهم نطفا وعلقا ومضغا ، قبل نفخ الروح فيهم ، فهل قبل نفخ الروح فيهم لا حياة لهم ، فأطلق عليهم بذلك الاعتبار اسم الموت . والإماتة الثانية هي إماتتهم وصيرورتهم إلى قبورهم عند انقضاء آجالهم في دار الدنيا . وأن المراد بالإحياءتين : الإحياءة الأولى في دار الدنيا ، والإحياءة الثانية ، التي هي البعث من القبور إلى الحساب ، والجزاء والخلود الأبدي ، الذي لا موت فيه ، إما في الجنة وإما في النار . [ ص: 375 ] والدليل من القرآن على أن هذا القول في الآية هو التحقيق ، أن الله صرح به واضحا في قوله جل وعلا : كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون [ 2 \ 28 ] وبذلك تعلم أن ما سواه من الأقوال في الآية لا معول عليه . والأظهر عندي أن المسوغ الذي سوغ إطلاق اسم الموت على العلقة ، والمضغة مثلا ، في بطون الأمهات ، أن عين ذلك الشيء ، الذي هو نفس العلقة والمضغة ، له أطوار كما قال تعالى : وقد خلقكم أطوارا يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق [ 39 \ 6 ] ، ولما كان ذلك الشيء ، تكون فيه الحياة في بعض تلك الأطوار ، وفي بعضها لا حياة له ، صح إطلاق الموت والحياة عليه من حيث إنه شيء واحد ، ترتفع عنه الحياة تارة وتكون فيه أخرى ، وقد ذكر له الزمخشري مسوغا غير هذا ، فانظره إن شئت . قوله تعالى : فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل . قد بين جل وعلا في غير هذا الموضع ، أن الاعتراف بالذنب في ذلك الوقت لا ينفع ، كما قال تعالى : فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير [ 67 \ 11 ] وقال تعالى ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون [ 32 \ 12 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فهل إلى خروج من سبيل قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية ، في سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى : يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل [ 7 \ 53 ] . قوله تعالى : ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا . قد تقدم الكلام عليه في سورة الصافات ، في الكلام على قوله تعالى : إنا كذلك نفعل بالمجرمين إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون الآية [ 37 \ 34 - 35 ] . قوله تعالى : فالحكم لله العلي الكبير . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الكهف ، في الكلام على قوله تعالى : ولا يشرك في حكمه أحدا [ 18 \ 26 ] . [ ص: 376 ] قوله تعالى : هو الذي يريكم آياته . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه جل وعلا هو الذي يري خلقه آياته ، أي : الكونية القدرية ; ليجعلها علامات لهم على ربوبيته ، واستحقاقه العبادة وحده ، ومن تلك الآيات الليل والنهار والشمس والقمر ; كما قال تعالى : ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر الآية [ 41 \ 37 ] . ومنها السماوات والأرضون ، وما فيهما والنجوم ، والرياح والسحاب ، والبحار والأنهار ، والعيون والجبال والأشجار وآثار قوم هلكوا ، كما قال تعالى : إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار إلى قوله لآيات لقوم يعقلون [ 2 \ 164 ] . وقال تعالى : إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب . وقال تعالى : إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون [ 45 \ 3 - 5 ] ، وقال تعالى إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون [ 10 \ 6 ] . وما ذكره جل وعلا في آية المؤمن هذه ، من أنه هو الذي يري خلقه آياته ، بينه وزاده إيضاحا في غير هذا الموضع ، فبين أنه يريهم آياته في الآفاق وفي أنفسهم ، وأن مراده بذلك البيان أن يتبين لهم أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم حق ، كما قال تعالى : سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق [ 41 \ 53 ] . والآفاق جمع أفق وهو الناحية ، والله جل وعلا قد بين من غرائب صنعه وعجائبه في نواحي سماواته وأرضه ، ما يتبين به لكل عاقل أنه هو الرب المعبود وحده . كما أشرنا إليه ، من الشمس والقمر والنجوم والأشجار والجبال ، والدواب والبحار ، إلى غير ذلك . وبين أيضا أن من آياته التي يريهم ولا يمكنهم أن ينكروا شيئا منها تسخيره لهم الأنعام ليركبوها ويأكلوا من لحومها ، وينتفعوا بألبانها ، وزبدها وسمنها ، وأقطها ويلبسوا من جلودها ، وأصوافها وأوبارها وأشعارها ، كما قال تعالى : الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم وعليها وعلى الفلك تحملون ويريكم آياته فأي آيات الله تنكرون [ 40 \ 79 - 81 ] . [ ص: 377 ] وبين في بعض المواضع أن من آياته التي يريها بعض خلقه معجزات رسله ; لأن المعجزات آيات أي : دلالات وعلامات على صدق الرسل ، كما قال تعالى في فرعون : ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى [ 20 \ 56 ] وبين في موضع آخر أن من آياته التي يريها خلقه عقوبته المكذبين رسله ، كما قال تعالى في قصة إهلاكه قوم لوط : ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون [ 29 \ 35 ] . وقال في عقوبته فرعون وقومه بالطوفان والجراد والقمل . . . إلخ : فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات الآية [ 7 \ 133 ] . قوله تعالى : وينزل لكم من السماء رزقا . أطلق جل وعلا في هذه الآية الكريمة الرزق وأراد المطر ; لأن المطر سبب الرزق ، وإطلاق المسبب وإرادة سببه لشدة الملابسة بينهما ، أسلوب عربي معروف ، وكذلك عكسه الذي هو إطلاق السبب وإرادة المسبب كقوله : أكلت دما إن لم أرعك بضرة بعيدة مهوى القرط طيبة النشر فأطلق الدم وأراد الدية ; لأنه سببها . وقد أوضحنا في رسالتنا المسماة : منع جواز المجاز ، في المنزل للتعبد والإعجاز ، أن أمثال هذا أساليب عربية ، نطقت بها العرب في لغتها ، ونزل بها القرآن ، وأن ما يقوله علماء البلاغة من أن في الآية ما يسمونه المجاز المرسل الذي يعدون من علاقاته السببية والمسببية لا داعي إليه ، ولا دليل عليه ، يجب الرجوع إليه . وإطلاق الرزق في آية المؤمن هذه على المطر جاء مثله ، في غير هذا الموضع كقوله تعالى في أول سورة الجاثية : وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها [ الآية 5 ] فأوضح بقوله : فأحيا به الأرض بعد موتها أن مراده بالرزق المطر ; لأن المطر هو الذي يحيي الله به الأرض بعد موتها . وقد أوضح جل وعلا أنه إنما سمي المطر رزقا ; لأن المطر سبب الرزق في آيات كثيرة من كتابه ، كقوله تعالى في سورة البقرة : وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم الآية [ 2 \ 22 ] ، والباء في قوله فأخرج به سببية كما ترى . [ ص: 378 ] وكقوله تعالى في سورة إبراهيم : الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك الآية [ 14 \ 32 ] . وقوله تعالى في سورة ق : ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقا للعباد [ 50 \ 9 - 11 ] . وبين في آيات أخر أن الرزق المذكور شامل لما يأكله الناس ، وما تأكله الأنعام ; لأن ما تأكله الأنعام ، يحصل بسببه للناس الانتفاع بلحومها ، وجلودها وألبانها ، وأصوافها وأوبارها وأشعارها ، كما تقدم ، كقوله تعالى : أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون [ 32 \ 27 ] ، وقوله تعالى هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات الآية [ 16 \ 10 - 11 ] . فقوله : فيه تسيمون ، أي : تتركون أنعامكم سائمة فيه ، تأكل منه من غير أن تتكلفوا لها مئونة العلف ، كما تقدم إيضاحه بشواهده العربية ، في سورة النحل وكقوله تعالى : وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم الآية [ 20 \ 53 - 54 ] . وقوله تعالى : أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم [ 79 \ 31 - 33 ] إلى غير ذلك من الآيات . قوله تعالى : وما يتذكر إلا من ينيب . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة ، أن الناس ما يتذكر منهم ، أي : ما يتعظ بهذه الآيات المشار إليها في قوله : هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقا وما يتذكر إلا من ينيب أي : من رزقه الله الإنابة إليه . والإنابة : الرجوع عن الكفر والمعاصي ، إلى الإيمان والطاعة . وهؤلاء المنيبون ، المتذكرون ، المتعظون ، هم أصحاب العقول السليمة من شوائب الاختلال ، المذكورون في قوله تعالى في أول سورة آل عمران : وما يذكر إلا أولو الألباب [ 3 \ 7 ] وفي قوله تعالى في سورة إبراهيم : وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولو الألباب [ 14 \ 52 ] [ ص: 379 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقد دلت آية المؤمن هذه ، وما في معناها من الآيات ، على أن غير أولي الألباب المتذكرين المذكورين آنفا ، لا يتذكر ولا يتعظ بالآيات ، بل يعرض عنها أشد الإعراض . وقد جاء هذا المعنى موضحا في آيات كثيرة من كتاب الله ، كقوله تعالى : وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون [ 12 \ 105 ] . وقوله تعالى : وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر [ 54 \ 2 ] وقوله : وإذا رأوا آية يستسخرون [ 37 \ 14 ] . وقوله تعالى : قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون [ 10 \ 101 ] وقوله : وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين [ 36 \ 46 ] في الأنعام ويس إلى غير ذلك من الآيات . قوله تعالى : فادعوا الله مخلصين له الدين . قد قدمنا الكلام على نحوه من الآيات في أول سورة الزمر ، في الكلام على قوله : فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص [ 39 \ 2 - 3 ] . قوله تعالى : يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق يوم هم بارزون . قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية ، في أول سورة النحل ، في الكلام على قوله تعالى : ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون [ 16 \ 2 ] . وقوله تعالى في آية المؤمن هذه : يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء جاء مثله في آيات كثيرة ، كقوله في بروزهم ذلك اليوم : يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار [ 14 \ 48 ] وقوله تعالى : وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا الآية [ 14 \ 21 ] . وكقوله في كونهم لا يخفى على الله منهم شيء ذلك اليوم : يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية [ 69 \ 18 ] . وقوله تعالى : إن ربهم بهم يومئذ لخبير [ 100 \ 11 ] . وقوله تعالى : إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء [ 3 \ 5 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة ، وقد بيناها في أول سورة هود في الكلام على قوله تعالى : ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه الآية [ 11 \ 5 ] ، [ ص: 380 ] وذكرنا طرفا من ذلك ، في أول سورة سبأ ، في الكلام على قوله تعالى : عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض الآية [ 34 \ 3 ] . قوله تعالى : وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين . الإنذار ، والإعلام المقترن بتهديد خاصة ، فكل إنذار إعلام ، وليس كل إعلام إنذارا . وقد أوضحنا معنى الإنذار وأنواعه في أول سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى : كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به الآية [ 7 \ 2 ] . والظاهر أن قوله هنا : يوم الآزفة هو المفعول الثاني للإنذار لا ظرف له ; لأن الإنذار والتخويف من يوم القيامة واقع في دار الدنيا . والآزفة القيامة . أي : أنذرهم يوم القيامة ، بمعنى خوفهم إياه وهددهم بما فيه من الأهوال العظام ليستعدوا لذلك في الدنيا بالإيمان والطاعة . وإنما عبر عن القيامة بـ الآزفة لأجل أزوفها أي : قربها ، والعرب تقول : أزف الترحل بكسر الزاي ، يأزف بفتحها ، أزفا بفتحتين ، على القياس ، وأزوفا فهو آزف ، على غير قياس ، في المصدر الأخير ، والوصف بمعنى قرب وقته وحان وقوعه ، ومنه قول نابغة ذبيان : أزف الترحل غير أن ركابنا لما تزل برحالنا وكأن قد ويروى أفد الترحل ، ومعناهما واحد . والمعنى : وأنذرهم يوم الآزفة أي : يوم القيامة القريب مجيؤها ووقوعها . وما تضمنته هذه الآية الكريمة من اقتراب قيام الساعة ، جاء موضحا في آيات أخر كقوله تعالى : أزفت الآزفة ليس لها من دون الله كاشفة [ 53 \ 57 - 58 ] ، وقوله تعالى : اقتربت الساعة الآية [ 54 \ 1 ] . وقوله تعالى : اقترب للناس حسابهم الآية [ 21 \ 1 ] . وقوله تعالى في الأحزاب : وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا [ 33 \ 63 ] وقوله تعالى في الشورى : وما يدريك لعل الساعة قريب [ 42 \ 17 ] . ![]()
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() ![]() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد السادس الحلقة (460) سُورَةُ غَافِرٍ صـ 381 إلى صـ 388 [ ص: 381 ] وقد قدمنا هذا في أول سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : أتى أمر الله فلا تستعجلوه [ 16 \ 1 ] . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين الظاهر فيه أن إذ بدل من يوم ، وعليه فهو من قبيل المفعول به لا المفعول فيه ، كما بينا آنفا . والقلوب : جمع قلب وهو معروف . ولدى : ظرف بمعنى عند . والحناجر : جمع حنجرة وهي معروفة . ومعنى كون القلوب لدى الحناجر ، في ذلك الوقت فيه لعلماء التفسير وجهان معروفان : أحدهما : ما قاله قتادة وغيره ; من أن قلوبهم يومئذ ترتفع من أماكنها في الصدور ، حتى تلتصق بالحلوق ، فتكون لدى الحناجر ، فلا هي تخرج من أفواههم فيموتوا ، ولا هي ترجع إلى أماكنها في الصدور فيتنفسوا . وهذا القول هو ظاهر القرآن . والوجه الثاني : هو أن المراد بكون القلوب لدى الحناجر ، بيان شدة الهول ، وفظاعة الأمر ، وعليه فالآية كقوله تعالى : وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا [ 33 \ 10 - 11 ] وهو زلزال خوف وفزع لا زلزال حركة الأرض . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : كاظمين معناه مكروبين ممتلئين خوفا وغما وحزنا . والكظم : تردد الخوف والغيظ والحزن في القلب حتى يمتلئ منه ، ويضيق به . والعرب تقول : كظمت السقاء إذا ملأته ماء ، وشددته عليه . وقول بعضهم كاظمين ، أي ساكتين ، لا ينافي ما ذكرنا ; لأن الخوف والغم الذي ملأ قلوبهم يمنعهم من الكلام ، فلا يقدرون عليه ، ومن إطلاق الكظم على السكوت [ ص: 382 ] قول العجاج : ورب أسراب حجيج كظم عن اللغا ورفث التكلم ويرجع إلى هذا القول معنى قول من قال : كاظمين أي : لا يتكلمون إلا من أذن له الله ، وقال الصواب ، كما قال تعالى : لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا [ 78 \ 38 ] . وقوله : كاظمين حال من أصحاب القلوب على المعنى . والتقدير : إذ القلوب لدى الحناجر ، أي : إذ قلوبهم لدى حناجرهم في حال كونهم كاظمين ، أي : ممتلئين خوفا وغما وحزنا ، ولا يبعد أن يكون حالا من نفس القلوب ; لأنها وصفت بالكظم الذي هو صفة أصحابها . ونظير ذلك في القرآن : إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين [ 12 \ 4 ] فإنه أطلق في هذه الآية الكريمة ، على الكواكب والشمس والقمر صفة العقلاء في قوله تعالى : رأيتهم لي ساجدين ، والمسوغ لذلك وصفه الكواكب والشمس والقمر بصفة العقلاء التي هي السجود . ونظير ذلك أيضا قوله تعالى : إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين [ 26 \ 4 ] وقوله تعالى : قالتا أتينا طائعين [ 41 \ 11 ] . قوله تعالى : ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع . قد قدمنا الكلام عليه في سورة البقرة وسورة الأعراف ، وأحلنا عليه مرارا . قوله تعالى : يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور . قد قدمنا الكلام على ما يماثله من الآيات في أول سورة هود وفي غيرها وأحلنا عليه أيضا مرارا . قوله تعالى : ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة ، أنه أرسل نبيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، بآياته وحججه الواضحة كالعصا واليد البيضاء إلى فرعون وهامان وقارون [ ص: 383 ] فكذبوه ، وزعموا أنه ساحر . وأوضح هذا المعنى ، في آيات كثيرة كقوله تعالى عن فرعون وقومه : وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها [ 7 \ 132 ] ، وقوله تعالى عن فرعون : إنه لكبيركم الذي علمكم السحر [ 20 \ 71 ] . وقوله تعالى : قال للملإ حوله إن هذا لساحر عليم [ 26 \ 34 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة . وقد بيناها في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك . قوله تعالى : وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن نبيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، عاذ بربه ، أي : اعتصم به ، وتمنع من كل متكبر ، أي : متصف بالكبر ، لا يؤمن بيوم الحساب ، أي لا يصدق بالبعث والجزاء . وسبب عياذ موسى بربه المذكور ، أن فرعون قال لقومه : ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد [ 40 \ 26 ] . فعياذ موسى المذكور بالله إنما هو في الحقيقة من فرعون ، وإن كانت العبارة أعم من خصوص فرعون ، لأن فرعون لا شك أنه متكبر ، لا يؤمن بيوم الحساب فهو داخل في الكلام دخولا أوليا ، وهو المقصود بالكلام . وما ذكره جل وعلا في آية المؤمن هذه ، من عياذ موسى بالله من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب كفرعون وعتاة قومه ، ذكر نحوه في سورة الدخان في قوله تعالى عن موسى مخاطبا فرعون وقومه : وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون الآية [ 44 \ 20 ] . قوله تعالى : وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن رجلا مؤمنا من آل فرعون يكتم إيمانه أي : يخفي عنهم أنه مؤمن ، أنكر على فرعون وقومه إرادتهم قتل نبي الله موسى عليه [ ص: 384 ] وعلى نبينا الصلاة والسلام ، حين قال فرعون : ذروني أقتل موسى وليدع ربه الآية [ 40 \ 26 ] . مع أنه لا ذنب له ، يستحق به القتل ، إلا أنه يقول : ربي الله . وقد بين في آيات أخر أن من عادة المشركين قتل المسلمين ، والتنكيل بهم ، وإخراجهم من ديارهم من غير ذنب ، إلا أنهم يؤمنون بالله ويقولون : ربنا الله ، كقوله تعالى في أصحاب الأخدود ، الذين حرقوا المؤمنين : قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد [ 85 \ 4 - 8 ] وقوله تعالى : أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله [ 22 \ 39 - 40 ] . وقوله تعالى : عن الذين كانوا سحرة لفرعون ، وصاروا من خيار المؤمنين ، لما هددهم فرعون قائلا : لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين [ 7 \ 124 ] أنهم أجابوه ، بما ذكره الله عنهم ، في قوله : قالوا إنا إلى ربنا منقلبون وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا [ 7 \ 125 - 126 ] إلى غير ذلك من الآيات . والتحقيق أن الرجل المؤمن المذكور في هذه الآية من جماعة فرعون كما هو ظاهر قوله تعالى : " من آل فرعون " . فدعوى أنه إسرائيلي وأن في الكلام تقديما وتأخيرا . وأن من آل فرعون متعلق بـ ( يكتم ) ، أي وقال رجل مؤمن يكتم إيمانه من آل فرعون أي يخفي إيمانه عن فرعون وقومه خلاف التحقيق كما لا يخفى . وقيل : إن هذا الرجل المؤمن هو الذي قال لموسى : إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج [ 28 \ 20 ] وقيل غيره . واختلف العلماء في اسمه اختلافا كثيرا فقيل : اسمه حبيب ، وقيل : اسمه شمعان ، وقيل : اسمه حزقيل ، وقيل غير ذلك ، ولا دليل على شيء من ذلك . والظاهر في إعراب المصدر المنسبك من أن وصلتها في قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : أن يقول ربي الله أنه مفعول من أجله . [ ص: 385 ] وقال البخاري رحمه الله في صحيحه في تفسير هذه الآية الكريمة : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا الأوزاعي ، قال : حدثني يحيى بن أبي كثير ، قال : حدثني محمد بن إبراهيم التيمي ، حدثني عروة بن الزبير ، قال : قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص : أخبرني بأشد ما صنع المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : " بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولوى ثوبه في عنقه ، فخنقه خنقا شديدا ، فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه ، ودفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ؟ قد جاءكم بالبينات من ربكم " . قوله تعالى : قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد . الظاهر أن أرى في هذه الآية الكريمة علمية عرفانية ، تتعدى لمفعول واحد ، كما أشار له في الخلاصة بقوله : لعلم عرفان وظن تهمه تعدية لواحد ملتزمه وعليه فالمعنى : قال فرعون ما أعلمكم وأعرفكم من حقيقة موسى وأنه ينبغي أن يقتل ، خوف أن يبدل دينكم ، ويظهر الفساد في أرضكم ، إلا ما أرى ، أي : أعلم وأعرف أنه الحق والصواب فما أخفي عنكم خلاف ما أظهره لكم ، وما أهديكم بهذا إلا سبيل الرشاد ، أي : طريق السداد والصواب . وهذان الأمران اللذان ذكر تعالى عن فرعون أنه قالهما في هذه الآية الكريمة ، قد بين في آيات أخر أن فرعون كاذب في كل واحد منهما . أما الأول منهما وهو قوله : ما أريكم إلا ما أرى فقد بين تعالى كذبه فيه في آيات من كتابه ، وأوضح فيها أنه يعلم ويتيقن أن الآيات التي جاءه بها موسى حق ، وأنها ما أنزلها إلا الله ، وأنه جحدها هو ومن استيقنها معه من قومه ليستخفوا بها عقول الجهلة منهم ، كقوله تعالى في سورة النمل : وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين [ 27 \ 12 - 14 ] . [ ص: 386 ] فقوله تعالى : في هذه الآية : وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا دليل واضح على أن فرعون كاذب في قوله : ما أريكم إلا ما أرى . وكقوله تعالى في سورة بني إسرائيل : قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يافرعون مثبورا [ 17 \ 102 ] فقول نبي الله موسى لفرعون : لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض مؤكدا إخباره بأن فرعون عالم بذلك بالقسم ، وقد دل أيضا على أنه كاذب في قوله : ما أريكم إلا ما أرى . وكان غرض فرعون بهذا الكذب التدليس والتمويه ; ليظن جهلة قومه أن معه الحق ، كما أشار تعالى إلى ذلك في قوله : فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين [ 43 \ 54 ] . وأما الأمر الثاني وهو قوله : وما أهديكم إلا سبيل الرشاد فقد بين تعالى كذبه فيه في آيات من كتابه كقوله تعالى : فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد [ 11 \ 97 ] . وقوله تعالى : وأضل فرعون قومه وما هدى [ 20 \ 79 ] . وقال بعض العلماء في قوله : ما أريكم إلا ما أرى أي : ما أشير عليكم إلا بما أرى لنفسي ، من قتل موسى . والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها . هذه الآية الكريمة وأمثالها من الآيات الدالة عن أن السيئات لا تضاعف ولا تجزى إلا بمثلها ، بينها وبين الآيات الأخرى الدالة على أن السيئات ربما ضوعفت في بعض الأحوال ، كقوله تعالى في نبينا صلى الله عليه وسلم : إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات [ 17 \ 75 ] وقوله تعالى في نسائه رضي الله عنهن : يانساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين [ 33 ] إشكال معروف . وقد قدمنا الجواب عنه موضحا في سورة النمل ، في الكلام على قوله تعالى : ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون [ 27 \ 90 ] . قوله تعالى : ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب [ ص: 387 ] قد أوضحنا معنى هذه الآية الكريمة ، وبينا العمل الصالح بالآيات القرآنية ، وأوضحنا الآيات المبينة لمفهوم المخالفة ، في قوله : وهو مؤمن في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك ، في سورة النحل ، في الكلام على قوله تعالى : من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة الآية [ 16 \ 97 ] . وفي أول سورة الكهف ، في الكلام على قوله تعالى : ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا [ 18 \ 2 - 3 ] . قوله تعالى : وتدعونني إلى النار تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم . الظاهر أن جملة قوله تدعونني تدعونني لأكفر بدل من قوله : وتدعونني إلى النار ; لأن الدعوة إلى الكفر بالله والإشراك به دعوة إلى النار . وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الكفر والإشراك بالله مستوجب لدخول النار ، بينه تعالى في آيات كثيرة من كتابه كقوله : إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار [ 5 \ 72 ] ، وقد قدمنا ما فيه كفاية من ذلك ، في سورة الحج في الكلام على قوله تعالى : ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء الآية [ 22 \ 31 ] . قوله تعالى : فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب . التحقيق الذي لا شك فيه أن هذا الكلام من كلام مؤمن آل فرعون الذي ذكر الله عنه ، وليس لموسى فيه دخل . وقوله : فستذكرون ما أقول لكم ، يعني أنهم يوم القيامة يعلمون صحة ما كان يقول لهم ، ويذكرون نصيحته ، فيندمون حيث لا ينفع الندم ، والآيات الدالة على مثل هذا من أن الكفار تنكشف لهم يوم القيامة حقائق ما كانوا يكذبون به في الدنيا - كثيرة ، كقوله تعالى : وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون [ 6 \ 66 - 67 ] وقوله تعالى : ولتعلمن نبأه بعد حين [ 38 \ 88 ] . وقوله تعالى : كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون [ 78 \ 4 - 5 ] وقوله تعالى : كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون [ 102 \ 3 - 4 ] . [ ص: 388 ] وقوله تعالى : فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد [ 50 \ 22 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد فوقاه الله سيئات ما مكروا [ 40 \ 44 - 45 ] دليل واضح على أن التوكل الصادق على الله ، وتفويض الأمور إليه سبب للحفظ والوقاية من كل سوء ، وقد تقرر في الأصول أن الفاء من حروف التعليل ، كقولهم : سها فسجد ، أي : سجد لعلة سهوه ، وسرق فقطعت يده ، أي : لعلة سرقته ، كما قدمناه مرارا . وما تضمنته هذه الآية الكريمة ، من كون التوكل على الله سببا للحفظ ، والوقاية من السوء ، جاء مبينا في آيات أخر ، كقوله تعالى : ومن يتوكل على الله فهو حسبه [ 65 \ 3 ] . وقوله تعالى : الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء [ 3 \ 173 - 174 ] . وقد ذكرنا الآيات الدالة على ذلك بكثرة ، في أول سورة بني إسرائيل ، في الكلام على قوله تعالى : ألا تتخذوا من دوني وكيلا [ 17 \ 2 ] . والظاهر أن ما في قوله : سيئات ما مكروا [ 40 \ 45 ] مصدرية ، أي : فوقاه الله سيئات مكرهم ، أي : أضرار مكرهم وشدائده ، والمكر : الكيد . فقد دلت هذه الآية الكريمة ، على أن فرعون وقومه أرادوا أن يمكروا بهذا المؤمن الكريم وأن الله وقاه ، أي حفظه ونجاه ، من أضرار مكرهم وشدائده بسبب توكله على الله ، وتفويضه أمره إليه . وبعض العلماء يقول : نجاه الله منهم مع موسى وقومه وبعضهم يقول : صعد جبلا فأعجزهم الله عنه ونجاه منهم ، وكل هذا لا دليل عليه ، وغاية ما دل عليه القرآن أن الله وقاه سيئات مكرهم ، أي حفظه ونجاه منها . ![]()
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() ![]() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد السادس الحلقة (461) سُورَةُ غَافِرٍ صـ 389 إلى صـ 397 وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وحاق بآل فرعون سوء العذاب معناه : أنهم لما أرادوا أن يمكروا بهذا المؤمن وقاه الله مكرهم ، ورد العاقبة السيئة عليهم ، فرد سوء مكرهم إليهم ، فكان المؤمن المذكور ناجيا في الدنيا والآخرة ، وكان فرعون وقومه هالكين [ ص: 389 ] في الدنيا والآخرة والبرزخ . فقال في هلاكهم في الدنيا : وأغرقنا آل فرعون ، وأمثالها من الآيات . وقال في مصيرهم في البرزخ : النار يعرضون عليها غدوا وعشيا [ 40 \ 46 ] . وقال في عذابهم في الآخرة : ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب [ 40 \ 46 ] . وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من حيق المكر السيئ بالماكر أوضحه تعالى في قوله : ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله [ 35 \ 43 ] . والعرب تقول حاق به المكروه يحيق به حيقا وحيوقا ، إذا نزل به وأحاط به ، ولا يطلق إلا على إحاطة المكروه خاصة . يقال : حاق به السوء والمكروه ، ولا يقال : حاق به الخير ، فمادة الحيق من الأجوف الذي هو يائي العين ، والوصف منه حائق على القياس ، ومنه قول الشاعر : فأوطأ جرد الخيل عقر ديارهم وحاق بهم من بأس ضبة حائق وقد قدمنا أن وزن السيئة بالميزان الصرفي فيعلة من السوء ، فأدغمت ياء الفيعلة الزائدة في الواو ، التي هي عين الكلمة ، بعد إبدال الواو ياء على القاعدة التصريفية المشار إليها ، في الخلاصة بقوله : إن يسكن السابق من واو ويا واتصلا ومن عروض عريا فياء الواو فلين مدغما وشذ معطي غير ما قد رسما قوله تعالى : وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد . قوله تعالى : يتحاجون في النار أصله يتفاعلون من الحجة أي : يختصمون ، ويحتج بعضهم على بعض ، وما تضمنته هذه الآية الكريمة ، جاء موضحا في آيات من كتاب الله ، كقوله تعالى : إن ذلك لحق تخاصم أهل النار [ 38 \ 64 ] وقوله تعالى : [ ص: 390 ] ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا [ 34 \ 31 - 33 ] . وقوله تعالى : كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون [ 7 \ 38 - 39 ] وقوله تعالى : إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا [ 2 \ 166 - 167 ] وقوله تعالى : وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتموني من قبل [ 14 \ 21 - 22 ] والآيات بمثل هذا كثيرة ، وقد قدمنا الكلام عليها في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك .قوله تعالى : وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة ، أن أهل النار طلبوا من خزنة جهنم أن يدعو لهم الله أن يخفف عنهم من شدة عذاب النار . وقد بين في سورة الزخرف أنهم نادوا مالكا خاصة من خزنة أهل النار ليقضي الله عليهم ، أي : ليميتهم فيستريحوا بالموت من عذاب النار . وقد أوضح جل وعلا في آيات من كتابه ، أنهم لا يحابون في واحد من الأمرين ; فلا يخفف عنهم العذاب ، الذي سألوا تخفيفه ، في سورة المؤمن هذه ، ولا يحصل لهم الموت الذي سألوه في سورة الزخرف ، فقال تعالى في عدم تخفيف العذاب عنهم في [ ص: 391 ] هذه الآية : أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال [ 40 \ 50 ] وقال تعالى : ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور [ 35 \ 36 ] وقال تعالى : فلن نزيدكم إلا عذابا [ 78 ] وقال تعالى : لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون [ 43 \ 75 ] وقال تعالى : إن عذابها كان غراما [ 25 \ 65 ] وقال تعالى : فسوف يكون لزاما [ 25 \ 77 ] وقال تعالى : لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون [ 3 \ 88 ] . وقال تعالى : ولهم عذاب مقيم [ 5 \ 37 ] . وقال تعالى في عدم موتهم في النار : لا يقضى عليهم فيموتوا [ 35 \ 36 ] . وقال تعالى : ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت [ 14 \ 17 ] . وقال تعالى : كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب [ 4 \ 56 ] . وقال تعالى : إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا [ 20 \ 74 ] . وقال تعالى : ويتجنبها الأشقى الذي يصلى النار الكبرى ثم لا يموت فيها ولا يحيا [ 87 \ 11 - 13 ] ولما قالوا : ليقض علينا ربك [ 43 \ 77 ] أجابهم بقوله : قال إنكم ماكثون [ 43 \ 77 ] . قوله تعالى : قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات . قد قدمنا الكلام عليه مع الآيات التي بمعناه في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ 17 \ 15 ] . قوله تعالى : إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة آل عمران في الكلام على قوله تعالى : وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير الآية [ 3 \ 14 ] ، وذكرنا طرفا من ذلك في الصافات في الكلام على قوله تعالى : ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون [ 37 \ 171 - 172 ] وستأتي له زيادة إيضاح إن شاء الله في سورة المجادلة . قوله تعالى : ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب هدى وذكرى لأولي الألباب . [ ص: 392 ] اللام في قوله : ولقد آتينا موسى الهدى موطئة للقسم ، وصيغة الجمع في آتينا و أورثنا للتعظيم . والمراد بالهدى ما تضمنه التوراة من الهدى في العقائد والأعمال : وأورثنا بني إسرائيل الكتاب وهو التوراة ، وقوله : هدى وذكرى لأولي الألباب مفعول من أجله ، أي : لأجل الهدى والتذكير . وقال بعضهم : هدى حال ، وورود المصدر المنكر حالا معروف ، كما أشار له في الخلاصة بقوله : ومصدر منكر حالا يقع بكثرة كـ بغتة زيد طلع وقال القرطبي : هدى بدل من الكتاب ، أو خبر مبتدأ محذوف ، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الله أنزل التوراة على موسى وأنزل فيها الهدى لبني إسرائيل جاء موضحا في آيات من كتاب الله ، كقوله تعالى : وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا [ 17 \ 2 ] . وقوله تعالى : ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه وجعلناه هدى لبني إسرائيل الآية [ 32 \ 23 ] . وقوله تعالى : إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار [ 5 \ 44 ] وقوله تعالى : ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون [ 28 \ 43 ] وقوله تعالى : ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون [ 6 \ 154 ] . وقوله تعالى : وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء الآية [ 7 \ 145 ] . إلى غير ذلك من الآيات . قوله تعالى : إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه . قد قدمنا إيضاحه في سورة الأعراف ، في الكلام على قوله تعالى : قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها [ 7 \ 13 ] ، وذكرنا هناك بعض النتائج السيئة الناشئة عن الكبر . قوله تعالى : لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس . [ ص: 393 ] قد قدمنا أن هذه الآية من البراهين الدالة على البعث ، وأوضحنا كل البراهين الدالة على البعث بالآيات القرآنية بكثرة في سورة البقرة ، وسورة النحل ، وأحلنا على مواضع ذلك مرارا . قوله تعالى : وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وما يستوي الأعمى والبصير قدمنا الكلام عليه في سورة هود ، في الكلام على قوله تعالى : مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع الآية [ 11 \ 24 ] . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء قد قدمنا إيضاح معناه بالآيات القرآنية في سورة ص في الكلام على قوله تعالى : أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار [ 38 \ 28 ] . قوله تعالى : إن الساعة لآتية لا ريب فيها ولكن أكثر الناس لا يؤمنون . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى : بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا [ 25 \ 11 ] . قوله تعالى : وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين . قال بعض العلماء : ادعوني أستجب لكم : اعبدوني أثبكم من عبادتكم ، ويدل لهذا قوله بعده : إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين . وقال بعض العلماء : ادعوني أستجب لكم أي : اسألوني أعطكم . ولا منافاة بين القولين ; لأن دعاء الله من أنواع عبادته . وقد أوضحنا هذا المعنى ، وبينا وجه الجمع بين قوله تعالى : وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان [ 2 \ 186 ] مع قوله تعالى : فيكشف ما تدعون إليه إن شاء [ ص: 394 ] فأغنى ذلك عن إعادته هنا . قوله تعالى : الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون . قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية في سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى : وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا [ 25 \ 47 ] وفي سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى : فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم [ 17 \ 12 ] . قوله تعالى : هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون . قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية في سورة الحج في الكلام على قوله تعالى : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة الآية [ 22 \ 5 ] ، وفي غير ذلك من المواضع . قوله تعالى : فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون . قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون [ 16 \ 40 ] . وبينا أوجه القراءة في قوله : فيكون هناك . قوله تعالى : ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين . لم يبين هنا جل وعلا عدد أبواب جهنم ، ولكنه بين ذلك في سورة الحجر ، في قوله تعالى : وإن جهنم لموعدهم أجمعين لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم [ 15 \ 43 - 44 ] . قوله تعالى : ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك . ما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الله تبارك وتعالى قص على نبيه صلى الله عليه وسلم أنباء بعض [ ص: 395 ] الرسل ; أي : كنوح وهود ، وصالح ، وإبراهيم ، ولوط ، وشعيب ، وموسى ، وأنه لم يقصص عليه أنباء رسل آخرين ، بينه في غير هذا الموضع ، كقوله في سورة النساء : ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما [ 4 \ 164 ] ، وأشار إلى ذلك في سورة إبراهيم في قوله : ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات الآية [ 14 \ 9 ] . وفي سورة الفرقان في قوله تعالى : وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا [ 25 \ 38 ] إلى غير ذلك من الآيات . قوله تعالى : فإذا جاء أمر الله قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون . قوله هنا : فإذا جاء أمر الله أي قامت القيامة ، كما قدمنا إيضاحه في قوله تعالى : أتى أمر الله فلا تستعجلوه [ 16 \ 1 ] أي : فإذا قامت القيامة قضى بين الناس بالحق الذي لا يخالطه حيف ولا جور ، كما قال تعالى : وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق الآية [ 39 \ 69 ] . وقال تعالى : وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق [ 39 \ 75 ] . والحق المذكور في هذه الآيات : هو المراد بالقسط المذكور في سورة يونس في قوله تعالى : ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط [ 10 \ 47 ] . وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أنه إذا قامت القيامة يخسر المبطلون ، أوضحه جل وعلا في سورة الجاثية في قوله تعالى : ولله ملك السماوات والأرض ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون [ 45 \ 27 ] . والمبطل هو : من مات مصرا على الباطل . وخسران المبطلين المذكور هنا قد قدمنا بيانه في سورة يونس في الكلام على قوله تعالى : قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين [ 10 \ 45 ] . قوله تعالى : الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم وعليها وعلى الفلك تحملون [ ص: 396 ] قد قدمنا أن لفظة جعل تأتي في اللغة العربية لأربعة معان ; ثلاثة منها في القرآن : الأول : إتيان جعل بمعنى اعتقد ، ومنه قوله تعالى : وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا [ 43 \ 19 ] أي : اعتقدوهم إناثا ، ومعلوم أن هذه تنصب المبتدأ والخبر . الثاني : جعل بمعنى صير ، كقوله : حتى جعلناهم حصيدا خامدين [ 21 \ 15 ] وهذه تنصب المبتدأ والخبر أيضا . الثالث : جعل بمعنى خلق ، كقوله تعالى : الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور [ 6 \ 1 ] أي : خلق السماوات والأرض وخلق الظلمات والنور . والظاهر أن منه قوله هنا : الله الذي جعل لكم الأنعام أي : خلق لكم الأنعام ، ويؤيد ذلك قوله تعالى : والأنعام خلقها لكم [ 16 \ 5 ] ، وقوله : أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما الآية [ 36 \ 71 ] . الرابع : وهو الذي ليس في القرآن جعل بمعنى شرع ، ومنه قوله : وقد جعلت إذا ما قمت يثقلني ثوبي فأنهض نهض الشارب السكر وما ذكره الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة ، من الامتنان بهذه النعم الكثيرة ، التي أنعم عليهم بها بسبب خلقه لهم الأنعام وهي الذكور والإناث ، من الإبل والبقر والضأن والمعز ، كما قدمنا إيضاحه في سورة آل عمران في الكلام على قوله : والأنعام والحرث [ 3 \ 14 ] بينه أيضا في مواضع أخر ، كقوله تعالى : والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس [ 16 \ 5 - 7 ] . والدفء ما يتدفئون به في الثياب المصنوعة من جلود الأنعام وأوبارها وأشعارها وأصوافها . وقوله تعالى : جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين [ 16 \ 80 ] . وقوله تعالى : [ ص: 397 ] أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون [ 36 \ 71 - 73 ] وقوله تعالى : وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين [ 61 \ 66 ] . وقوله تعالى : وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون وعليها وعلى الفلك تحملون [ 23 \ 21 - 22 ] . وقوله تعالى ومن الأنعام حمولة وفرشا كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين إلى قوله : أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا [ 6 \ 142 - 144 ] وقوله تعالى : وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج [ 39 \ 6 ] . وقوله تعالى : جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا الآية [ 42 \ 11 ] . وقوله تعالى : والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون الآية [ 43 \ 12 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . قوله تعالى : أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم . قد ذكرنا الآيات الموضحة له في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك ، وبينا مواضعها في سورة الروم في الكلام على قوله تعالى : أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم . قوله تعالى : فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون . قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية ، في سورة يونس في الكلام على قوله تعالى : أثم إذا ما وقع آمنتم به آلآن وقد كنتم به تستعجلون [ 10 \ 51 ] ، وفي سورة ص في الكلام على قوله تعالى فنادوا ولات حين مناص [ 38 \ 3 ] . ![]()
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() ![]() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد السابع الحلقة (462) سُورَةُ فُصِّلَتْ صـ 3 إلى صـ 10 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ فُصِّلَتْ قَوْلُهُ تَعَالَى : حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَظَائِرِهِ مِنَ الْآيَاتِ ، فِي أَوَّلِ سُورَةِ الزُّمَرِ . قوله تعالى : كتاب فصلت آياته . ( كتاب ) خبر مبتدإ محذوف ، أي : هذا كتاب ، والكتاب فعال بمعنى مفعول ، أي مكتوب . وإنما قيل له ( كتاب ) لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ ، كما قال - تعالى - : بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ [ 85 \ 21 - 22 ] . ومكتوب أيضا في صحف عند الملائكة ; كما قال - تعالى - : كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة [ 80 \ 11 - 16 ] . وقال - تعالى - في قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - لما تضمنته الصحف المكتوب فيها القرآن : رسول من الله يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة ) [ 98 \ 2 - 3 ] . وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : فصلت آياته التفصيل ضد الإجمال ، أي فصل الله آيات هذا القرآن ، أي بينها وأوضح فيها ما يحتاج إليه الخلق من أمور دينهم ودنياهم . والمسوغ لحذف الفاعل في قوله - تعالى - : فصلت آياته هو العلم بأن تفصيل آيات هذا القرآن لا يكون إلا من الله وحده . وما تضمنته هذه الآية الكريمة من تفصيل آيات هذا الكتاب ، جاء موضحا في آيات أخر ، مبينا فيها أن الله فصله على علم منه ، وأن الذي فصله حكيم خبير ، وأنه فصله ليهدي [ ص: 4 ] به الناس ويرحمهم ، وأن تفصيله شامل لكل شيء ، وأنه لا شك أنه منزل من الله ، كقوله - تعالى - : ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون [ 7 \ 52 ] وقوله - تعالى - : كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير [ 11 \ 1 ] . وقوله - تعالى - : وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين [ 10 \ 37 ] ، وقوله - تعالى - : ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون [ 11 \ 111 ] ، وقوله - تعالى - : أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا [ 6 \ 114 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة . قوله - تعالى - : قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون قوله : ( قرآنا عربيا ) قد تكلمنا عليه وعلى الآيات التي بمعناه في القرآن في سورة " الزمر " في الكلام على قوله - تعالى - : قرءانا عربيا غير ذي عوج [ 39 \ 28 ] . وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : لقوم يعلمون [ 41 \ 3 ] أي فصلت آياته في حال كونه ( قرآنا عربيا لقوم يعلمون ) . وإنما خصهم بذلك لأنهم هم المنتفعون بتفصيله ، كما خصهم بتفصيل الآيات في سورة " يونس " في قوله - تعالى - : ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون [ 10 \ 5 ] وفي سورة " الأنعام " في قوله - تعالى - : قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون [ 6 \ 97 - 98 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقد أوضحنا وجه تخصيص المنتفعين بالأمر المشترك دون غيرهم في سورة " فاطر " في الكلام على قوله - تعالى - : إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة [ 35 \ 18 ] وبينا هناك أن تخصيصهم بالإنذار دون غيرهم في آية " فاطر " هذه ، وفي قوله - تعالى - في " يس " : إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب [ 36 \ 11 ] ، وقوله في النازعات : إنما أنت منذر من يخشاها [ 79 \ 45 ] ، وقوله في " الأنعام " وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع [ ص: 5 ] الآية [ 6 \ 51 ] . مع أن أصل الإنذار عام شامل للمذكورين وغيرهم ، كما يدل عليه قوله - تعالى - : تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا [ 25 \ 1 ] . وإنما خص المذكورين بالإنذار ، لأنهم هم المنتفعون به ; لأن من لم ينتفع بالإنذار ، ومن لم ينذر أصلا - سواء في عدم الانتفاع ، كما قال الله - تعالى - : وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون [ 36 \ 10 ] . وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : بشيرا ونذيرا [ 41 \ 4 ] حال بعد حال . وقد قدمنا الكلام عليه وبعض شواهده العربية في أول سورة " الكهف " في الكلام على قوله - تعالى - : لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين [ 18 \ 2 ] ، وبسطنا الكلام عليه في أول سورة " الأعراف " في الكلام على قوله - تعالى - : كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين [ 7 \ 2 ] . وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : فأعرض أكثرهم . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " يس " في الكلام على قوله - تعالى - : لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون [ 36 \ 7 ] وفي سورة " الأنعام " في الكلام على قوله - تعالى - : وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله [ 6 \ 116 ] . وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : فهم لا يسمعون أي لا يسمعون سماع قبول وانتفاع . وقد أوضحنا ذلك بالآيات القرآنية في سورة " النمل " في الكلام على قوله - تعالى - : إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء الآية [ 27 \ 80 ] . قوله تعالى : وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب . ذكر الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن الكفار صرحوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأنهم لا يستجيبون له ولا يؤمنون به ، ولا يقبلون منه ما جاءهم به ; فقالوا له : قلوبنا التي نعقل بها ونفهم ( في أكنة ) أي أغطية . [ ص: 6 ] والأكنة جمع كنان ، وهو الغطاء والغلاف الذي يغطي الشيء ويمنعه من الوصول إليه . ويعنون أن تلك الأغطية مانعة لهم من فهم ما يدعوهم إليه - صلى الله عليه وسلم - . وقالوا : إن في آذانهم التي يسمعون بها وقرا ، أي ثقلا ، وهو الصمم ، وإن ذلك الصمم مانع لهم من أن يسمعوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا ومما يقول ، كما قال - تعالى - عنهم : وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه [ 41 \ 26 ] . وأن من بينهم وبينه حجابا مانعا لهم من الاتصال والاتفاق ; لأن ذلك الحجاب يحجب كلا منهما عن الآخر ، ويحول بينهم وبين رؤية ما يبديه - صلى الله عليه وسلم - من الحق . والله - جل وعلا - ذكر عنهم هذا الكلام في معرض الذم ، مع أنه - تعالى - صرح بأنه جعل على قلوبهم الأكنة ، وفي آذانهم الوقر ، وجعل بينهم وبين رسوله حجابا عند قراءته القرآن ، قال - تعالى - في سورة " بني إسرائيل " : وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا [ 17 \ 45 - 46 ] . وقال - تعالى - في " الأنعام " : ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها [ 6 \ 25 ] . وقال - تعالى - " في الكهف " : إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا [ 18 \ 57 ] . وهذا الإشكال الذي أشرنا إليه في هذه الآيات قوي ، ووجه كونه مشكلا ظاهر; لأنه - تعالى - ذمهم على دعواهم الأكنة والوقر والحجاب في هذه الآية الكريمة من " فصلت " ، وبين في الآيات الأخرى أن ما ذمهم على ادعائه واقع بهم فعلا ، وأنه - تعالى - هو الذي جعله فيهم . فيقال : فكيف يذمون على قول شيء هو حق في نفس الأمر ؟ والتحقيق في الجواب عن هذا الإشكال هو ما ذكرناه مرارا من أن الله إنما جعل على قلوبهم الأكنة ، وطبع عليها وختم عليها ، وجعل الوقر في آذانهم ، ونحو ذلك من الموانع من الهدى - بسبب أنهم بادروا إلى الكفر ، وتكذيب الرسل طائعين مختارين ، فجزاهم الله على ذلك الذنب الأعظم طمس البصيرة ، والعمى عن الهدى ، جزاء وفاقا . [ ص: 7 ] فالأكنة والوقر والحجاب المذكورة إنما جعلها الله عليهم مجازاة لكفرهم الأول . ومن جزاء السيئة تمادي صاحبها في الضلال ، ولله الحكمة البالغة في ذلك . والآيات المصرحة بمعنى هذا كثيرة في القرآن ، كقوله - تعالى - : وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم [ 4 \ 155 ] . فقول اليهود في هذه الآية : قلوبنا غلف كقول كفار مكة : قلوبنا في أكنة ; لأن الغلف جمع أغلف ، وهو الذي عليه غلاف ، والأكنة جمع كنان ، والغلاف والكنان كلاهما بمعنى الغطاء الساتر . وقد رد الله على اليهود دعواهم ب ( بل ) التي هي للإضراب الإبطالي ، في قوله : بل طبع الله عليها بكفرهم [ 4 \ 155 ] . فالباء في قوله : ( بكفرهم ) سببية ، وهي دالة على أن سبب الطبع على قلوبهم هو كفرهم ، والأكنة والوقر والطبع كلها من باب واحد . وكقوله - تعالى - : ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون [ 63 \ 3 ] ، والفاء في قوله : ( فطبع ) سببية ، أي ثم كفروا ، فطبع على قلوبهم بسبب ذلك الكفر . وقد قدمنا مرارا أنه تقرر في الأصول أن الفاء من حروف التعليل ، ومن المعلوم أن العلة الشرعية سبب شرعي . وكذلك الفاء في قوله : فهم لا يفقهون فهي سببية أيضا ، أي فطبع على قلوبهم ، فهم بسبب ذلك الطبع ( لا يفقهون ) أي لا يفهمون من براهين الله وحججه شيئا . وذلك مما يبين أن الطبع والأكنة يئول معناهما إلى شيء واحد ، وهو ما ينشأ عن كل منهما من عدم الفهم . لأنه قال في الطبع فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون . وقال في الأكنة : وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه [ 6 \ 25 ] أي كراهة أن يفقهوه ، أو لأجل ألا يفقهوه ، كما قدمنا إيضاحه . [ ص: 8 ] وكقوله - تعالى - : فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم [ 61 \ 5 ] فبين أن زيغهم الأول كان سببا لإزاغة الله قلوبهم ، وتلك الإزاغة قد تكون بالأكنة والطبع والختم على القلوب . وكقوله - تعالى - : في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا [ 2 \ 10 ] وقوله - تعالى - : ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة الآية [ 6 \ 110 ] وقوله - تعالى - : وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم [ 9 \ 125 ] . وإيضاح هذا الجواب أن الكفار قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب يقصدون بذلك إخباره - صلى الله عليه وسلم - بأنهم لا يؤمنون به بوجه ، ولا يتبعونه بحال ، ولا يقرون بالحق الذي هو كون كفرهم هذا هو الجريمة والذنب الذي كان سببا في الأكنة والوقر والحجاب . فدعواهم كاذبة ; لأن الله جعل لهم قلوبا يفهمون بها ، وآذانا يسمعون بها ، خلافا لما زعموا ، ولكنه سبب لهم الأكنة والوقر والحجاب بسبب مبادرتهم إلى الكفر ، وتكذيب الرسول - صلى الله عليه وسلم - . وهذا المعنى أوضحه رده - تعالى - على اليهود في قوله عنهم : وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم . وقد حاول الفخر الرازي في تفسير هذه الآية الكريمة الجواب على الإشكال المذكور ، فقال : فإن قيل إنه - تعالى - حكى هذا المعنى عن الكفار في معرض الذم ، وذكر أيضا ما يقرب منه في معرض الذم ، فقال : وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم [ 2 \ 88 ] ثم إنه - تعالى - ذكر هذه الأشياء الثلاثة بعينها في معنى التقرير والإثبات في سورة الأنعام ، فقال : وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا [ 6 \ 25 ] فكيف الجمع بينهما ؟ قلنا : إنه لم يقل ها هنا إنهم كذبوا في ذلك ، إنما الذي ذمهم عليه أنهم قالوا : إنا إذا كنا كذلك لم يجز تكليفنا وتوجيه الأمر والنهي علينا ، وهذا الثاني باطل . أما الأول فلأنه ليس في الآية ما يدل على أنهم كذبوا فيه . اهـ منه . والأظهر هو ما ذكرنا . [ ص: 9 ] قال صاحب الكشاف في تفسير قوله - تعالى - : ومن بيننا وبينك حجاب . فإن قلت : هل لزيادة ( من ) في قوله : ( ومن بيننا وبينك حجاب ) - فائدة ؟ قلت : نعم ; لأنه لو قيل : وبيننا وبينك حجاب ، لكان المعنى أن حجابا حاصل وسط الجهتين . وأما بزيادة ( من ) فالمعنى أن حجابا ابتدأ منا وابتدأ منك ، فالمسافة المتوسطة لجهتنا وجهتك مستوعبة بالحجاب ، لا فراغ فيها . انتهى منه . واستحسن كلامه هذا الفخر الرازي ، وتعقبه ابن المنير على الزمخشري ، فأوضح سقوطه ، والحق معه في تعقبه عليه . وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : ومن بيننا وبينك حجاب ، وقد قدمنا تفسيره وإيضاحه بالآيات القرآنية في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله - تعالى - : وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا [ 17 \ 45 ] . قوله - تعالى - : قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد . أمر الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يقول للناس : إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد . والقصر في قوله : إنما أنا بشر إضافي ، أي لا أقول لكم : إني ملك ، وإنما أنا رجل من البشر . وقوله : مثلكم في الصفات البشرية ، ولكن الله فضلني بما أوحى إلي من توحيده . كما قال - تعالى - عن الرسل في سورة إبراهيم : قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده [ 14 \ 11 ] أي كما من علينا بالوحي والرسالة . وما ذكره الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة ذكره في آخر سورة الكهف في قوله - تعالى - : قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا الآية [ 18 \ 110 ] . [ ص: 10 ] وقد أوضحنا وجه حصر ما أوحي إليه - صلى الله عليه وسلم - في مضمون لا إله إلا الله ، في قوله - تعالى - قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون في سورة بني إسرائيل ، في الكلام على قوله - تعالى - إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] . وبينا في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك إنكار المشركين كون الرسل من البشر ، وأنهم ينبغي أن يكونوا من الملائكة ، وما رد الله عليهم به ذلك من الآيات القرآنية ، أوضحنا ذلك في سورة ص ، في الكلام على قوله - تعالى - : وعجبوا أن جاءهم منذر منهم [ 38 \ 4 ] وفي سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله - تعالى - : وما منع الناس أن يؤمنوا إلى قوله : لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا [ 17 \ 94 - 95 ] . قوله - تعالى - : وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون . قد استدل بعض علماء الأصول بهذه الآية الكريمة على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة ; لأنه - تعالى - صرح في هذه الآية الكريمة بأنهم مشركون ، وأنهم كافرون بالآخرة ، وقد توعدهم بالويل على شركهم وكفرهم بالآخرة ، وعدم إيتائهم الزكاة ، سواء قلنا : إن الزكاة في الآية هي زكاة المال المعروفة ، أو زكاة الأبدان بفعل الطاعات واجتناب المعاصي . ورجح بعضهم القول الأخير ; لأن سورة فصلت هذه من القرآن النازل بمكة قبل الهجرة ، وزكاة المال المعروفة إنما فرضت بعد الهجرة سنة اثنتين ، كما قدمناه في سورة الأنعام ، في الكلام على قوله - تعالى - : وآتوا حقه يوم حصاده [ 6 \ 141 ] . وعلى كل حال ، فالآية تدل على خطاب الكفار بفروع الإسلام . أعني امتثال أوامره واجتناب نواهيه . وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من كونهم مخاطبين بذلك ، وأنهم يعذبون على الكفر ، ويعذبون على المعاصي - جاء موضحا في آيات أخر ، كقوله - تعالى - عنهم مقررا له : ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين [ 74 \ 42 - 47 ] . ![]()
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
![]() ![]() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد السابع الحلقة (463) سُورَةُ فُصِّلَتْ صـ 11 إلى صـ 18 [ ص: 11 ] فصرح - تعالى - عنهم مقررا له أن من الأسباب التي سلكتهم في سقر - أي أدخلتهم النار - عدم الصلاة ، وعدم إطعام المسكين ، وعد ذلك مع الكفر بسبب التكذيب بيوم الدين . ونظير ذلك قوله - تعالى - : خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه [ 69 \ - 32 ] ثم بين سبب ذلك فقال : إنه كان لا يؤمن بالله العظيم ولا يحض على طعام المسكين فليس له اليوم هاهنا حميم ولا ولا طعام إلا من غسلين [ 69 \ 33 - 36 ] إلى غير ذلك من الآيات . قوله - تعالى - : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون . الأجر جزاء العمل ، وجزاء عمل الذين آمنوا وعملوا الصالحات هو نعيم الجنة ، وذلك الجزاء ( غير ممنون ) أي غير مقطوع ، فالممنون اسم مفعول منه بمعنى قطعه ، ومنه قول لبيد بن ربيعة في معلقته : لمعفر قهد تنازع شلوه غبس كواسب ما يمن طعامها فقوله : ما يمن طعامها ، أي ما يقطع . وقول ذي الأصبع : إني لعمرك ما بابي بذي غلق على الصديق ولا خيري بممنون وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن أجرهم غير ممنون - نص الله - تعالى - عليه في آيات أخر من كتابه ، كقوله - تعالى - في آخر سورة الانشقاق : إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون [ 84 \ 25 ] . وقوله - تعالى - في سورة التين : إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون [ 95 \ 6 ] . وقوله - تعالى - في سورة هود : وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ [ 11 \ 108 ] . فقوله : ( غير مجذوذ ) أي غير مقطوع ، وبه تعلم أن ( غير مجذوذ ) و ( غير ممنون ) - معناهما واحد . وقوله - تعالى - في " ص " : إن هذا لرزقنا ما له من نفاد [ 38 \ 54 ] أي ما له من انتهاء ولا انقطاع . وقوله في " النحل " : ما عندكم ينفد وما عند الله باق [ 16 \ 96 ] . [ ص: 12 ] وهذا الذي ذكرنا هو الذي عليه الجمهور خلافا لمن قال : إن معنى ( غير ممنون ) غير ممنون عليهم به . وعليه ; فالمن في الآية من جنس المن المذكور في قوله - تعالى - : لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى [ 2 \ 264 ] . ومن قال : إن معنى ( غير ممنون ) غير منقوص ، محتجا بأن العرب تطلق الممنون على المنقوص ، قالوا : ومنه قول زهير : فضل الجياد على الخيل البطاء فلا يعطى بذلك ممنونا ولا نزقا فقوله : ممنونا ، أي منقوصا . وهذا وإن صح لغة ، فالأظهر أنه ليس معنى الآية . بل معناها هو ما قدمنا . والعلم عند الله - تعالى - . قوله - تعالى - : وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام . الظاهر أن معنى قوله هنا ( في أربعة أيام ) أي في تتمة أربعة أيام . وتتمة الأربعة حاصلة بيومين فقط ; لأنه - تعالى - قال : قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين ثم قال : ( في أربعة أيام ) أي في تتمة أربعة أيام . ثم قال : فقضاهن سبع سماوات في يومين [ 41 \ 12 ] فتضم اليومين إلى الأربعة السابقة ، فيكون مجموع الأيام التي خلق فيها السماوات والأرض وما بينهما - ستة أيام . وهذا التفسير الذي ذكرنا في الآية لا يصح غيره بحال ; لأن الله - تعالى - صرح في آيات متعددة من كتابه بأنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ، كقوله في " الفرقان " : الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا [ 25 \ 59 ] . وقوله - تعالى - في السجدة : الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع [ 32 \ 4 ] . وقوله - تعالى - في " ق " : ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب [ 50 \ 38 ] . وقوله - تعالى - في " الأعراف " : إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش [ ص: 13 ] [ 7 \ 54 ] . إلى غير ذلك من الآيات . فلو لم يفسر قوله - تعالى - : في أربعة أيام بأن معناه في تتمة أربعة أيام - لكان المعنى أنه - تعالى - خلق السماوات والأرض وما بينهما في ثمانية أيام; لأن قوله - تعالى - : في أربعة أيام إذا فسر بأنها أربعة كاملة ثم جمعت مع اليومين اللذين خلقت فيهما الأرض المذكورين في قوله : قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين [ 41 \ 9 ] ، واليومين اللذين خلقت فيهما السماوات المذكورين في قوله - تعالى - : فقضاهن سبع سماوات في يومين [ 41 \ 12 ] - لكان المجموع ثمانية أيام . وذلك لم يقل به أحد من المسلمين . والنصوص القرآنية مصرحة بأنها ستة أيام ، فعلم بذلك صحة التفسير الذي ذكرنا ، وصحة دلالة الآيات القرآنية عليه . وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة وجعل فيها رواسي من فوقها قد قدمنا الكلام على أمثاله من الآيات في سورة " النحل " في الكلام على قوله - تعالى - : وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم [ 16 \ 15 ] ، وقوله - تعالى - : وبارك فيها أي أكثر فيها البركات ، والبركة الخير ، وقوله - تعالى - وقدر فيها أقواتها . التقدير والخلق في لغة العرب معناهما واحد . والأقوات جمع قوت ، والمراد بالأقوات أرزاق أهل الأرض ومعايشهم وما يصلحهم . وقد ذكرنا في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " أن آية " فصلت " هذه ، أعني قوله - تعالى - : وقدر فيها أقواتها يفهم منها الجمع بين الآيات الدالة على أن الأرض خلقت قبل السماء ، كقوله هنا : قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين ثم رتب على ذلك بـ ( ثم ) قوله : ثم استوى إلى السماء وهي دخان إلى قوله فقضاهن سبع سماوات في يومين مع بعض الآيات الدالة على أن السماء خلقت قبل الأرض ، كقوله - تعالى - في " النازعات " : أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها إلى قوله : والأرض بعد ذلك دحاها [ 79 \ 27 - 30 ] . فقلنا في كتابنا المذكور ما نصه : قوله - تعالى - : [ ص: 14 ] هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء [ 2 \ 29 ] ، الآية تدل على أن خلق الأرض قبل خلق السماء ، بدليل لفظة ( ثم ) التي هي للترتيب والانفصال . وكذلك آية " حم السجدة " تدل أيضا على خلق الأرض قبل السماء ; لأنه قال فيها : قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين إلى أن قال ثم استوى إلى السماء وهي دخان الآية . مع أن آية " النازعات " تدل على أن دحو الأرض بعد خلق السماء ; لأنه قال فيها أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها ، ثم قال : والأرض بعد ذلك دحاها . اعلم أولا أن ابن عباس - رضي الله عنهما - سئل عن الجمع بين آية " السجدة " وآية " النازعات " فأجاب بأن الله - تعالى - خلق الأرض أولا قبل السماء غير مدحوة ، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبعا في يومين ، ثم دحا الأرض بعد ذلك ، وجعل فيها الرواسي والأنهار وغير ذلك . فأصل خلق الأرض قبل خلق السماء ، ودحوها بجبالها وأشجارها ونحو ذلك بعد خلق السماء . ويدل لهذا أنه قال : والأرض بعد ذلك دحاها ولم يقل : خلقها ، ثم فسر دحوه إياها بقوله : أخرج منها ماءها ومرعاها [ 79 \ 31 ] ، وهذا الجمع الذي جمع به ابن عباس بين هاتين الآيتين واضح لا إشكال فيه ، مفهوم من ظاهر القرآن العظيم إلا أنه يرد عليه إشكال من آية " البقرة " هذه . وإيضاحه أن ابن عباس جمع بأن خلق الأرض قبل خلق السماء ، ودحوها بما فيها بعد خلق السماء . وفي هذه الآية التصريح بأن جميع ما في الأرض مخلوق قبل خلق السماء ; لأنه قال فيها هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء الآية . وقد مكثت زمنا طويلا أفكر في حل هذا الإشكال حتى هداني الله إليه ذات يوم ، ففهمته من القرآن العظيم . وإيضاحه : أن هذا الإشكال مرفوع من وجهين ، كل منهما تدل عليه آية من القرآن . [ ص: 15 ] الأول : أن المراد بخلق ما في الأرض جميعا قبل خلق السماء - الخلق اللغوي الذي هو التقدير ، لا الخلق بالفعل ، الذي هو الإبراز من العدم إلى الوجود ، والعرب تسمي التقدير خلقا . ومنه قول زهير : ولأنت تفري ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يفري والدليل على أن المراد بهذا الخلق التقدير أنه - تعالى - نص على ذلك في سورة " فصلت " ; حيث قال : وقدر فيها أقواتها ثم قال : ثم استوى إلى السماء وهي دخان الآية . الوجه الثاني : أنه لما خلق الأرض غير مدحوة وهي أصل لكل ما فيها كان كل ما فيها كأنه خلق بالفعل لوجود أصله فعلا . والدليل من القرآن على أن وجود الأصل يمكن به إطلاق الخلق على الفرع ، وإن لم يكن موجودا بالفعل - قوله - تعالى - : ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة الآية [ 7 \ 11 ] ، فقوله : خلقناكم ثم صورناكم أي بخلقنا وتصويرنا لأبيكم آدم الذي هو أصلكم . وجمع بعض العلماء بأن معنى قوله والأرض بعد ذلك دحاها أي مع ذلك ، فلفظة ( بعد ) بمعنى مع . ونظيره قوله - تعالى - : عتل بعد ذلك زنيم وعليه ; فلا إشكال في الآية . ويستأنس لهذا القول بالقراءة الشاذة - وبها قرأ مجاهد - : ( والأرض مع ذلك دحاها ) . وجمع بعضهم بأوجه ضعيفة ; لأنها مبنية على أن خلق السماء قبل الأرض ، وهو خلاف التحقيق . منها : أن ( ثم ) بمعنى الواو . ومنها : أنها للترتيب الذكري ، كقوله - تعالى - : ثم كان من الذين آمنوا الآية [ 90 \ 17 ] . [ ص: 16 ] قوله - تعالى - : وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا . المصابيح : النجوم . وما تضمنته هذه الآية من تزيين السماء الدنيا بالنجوم ، قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية ، في سورة " الأنعام " في الكلام على قوله - تعالى - : وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها [ 6 \ 97 ] . وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : وحفظا قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية في سورة " الحجر " في الكلام على قوله - تعالى - : وحفظناها من كل شيطان رجيم الآية [ 15 \ 17 ] . قوله - تعالى - : قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة فإنا بما أرسلتم به كافرون . قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية في سورة " ص " في الكلام على قوله - تعالى - : وعجبوا أن جاءهم منذر منهم [ 38 \ 4 ] . قوله - تعالى - : فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات . الصرصر : وزنه بالميزان الصرفي " فعفل " ، وفي معنى الصرصر لعلماء التفسير وجهان معروفان . أحدهما : أن الريح الصرصر هي الريح العاصفة الشديدة الهبوب التي يسمع لهبوبها صوت شديد ، وعلى هذا ; فالصرصر من الصرة التي هي الصيحة المزعجة . ومنه قوله - تعالى - فأقبلت امرأته في صرة أي في صيحة ، ومن هذا المعنى صرير الباب والقلم ، أي صوتهما . الوجه الثاني : أن الصرصر من الصر الذي هو البرد الشديد المحرق ، ومنه على أصح التفسيرين قوله - تعالى - : كمثل ريح فيها صر الآية [ 3 \ 117 ] ، أي فيها برد شديد محرق ، ومنه قول حاتم الطائي : أوقد فإن الليل ليل قر والريح يا واقد ريح صر عل يرى نارك من يمر [ ص: 17 ] فقوله : ريح صر ، أي باردة شديدة البرد . إن جلبت ضيفا فأنت حر والأظهر أن كلا القولين صحيح ، وأن الريح المذكورة جامعة بين الأمرين ، فهي عاصفة شديدة الهبوب ، باردة شديدة البرد . وما ذكره - جل وعلا - من إهلاكه عادا بهذه الريح الصرصر ، في تلك الأيام النحسات - أي المشئومات النكدات; لأن النحس ضد السعد ، وهو الشؤم - جاء موضحا في آيات من كتاب الله . وقد بين - تعالى - في بعضها عدد الأيام والليالي التي أرسل عليهم الريح فيها ، كقوله - تعالى - : وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية [ 69 \ 6 - 8 ] ، وقوله - تعالى - : وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم [ 51 \ 41 - 42 ] ، وقوله - تعالى - : إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر [ 54 \ 19 - 20 ] ، وقوله - تعالى - : بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها الآية [ 46 \ 24 - 25 ] . وهذه الريح الصرصر هي المراد بصاعقة عاد في قوله - تعالى - : فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد الآية [ 41 \ 13 ] . وقرأ هذا الحرف نافع ، وابن كثير ، وأبو عمر ( نحسات ) بسكون الحاء; وعليه فالنحس وصف أو مصدر ، نزل منزلة الوصف . وقرأه ابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ( نحسات ) بكسر الحاء ، ووجهه ظاهر . قد قدمنا أن معنى النحسات المشئومات النكدات . وقال صاحب الدر المنثور : وأخرج الطستي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن نافع بن الأزرق قال له : أخبرني عن قوله - عز وجل - : في يوم نحس [ 54 \ 19 ] . قال : [ ص: 18 ] النحس البلاء والشدة . قال : وهل تعرف العرب ذلك ؟ قال : نعم ، أما سمعت زهير بن أبي سلمى يقول : سواء عليه أي يوم أتيته أساعة نحس تتقي أم بأسعد وتفسير النحس بالبلاء والشدة تفسير بالمعنى ; لأن الشؤم بلاء وشدة ، ومقابلة زهير النحس بالأسعد في بيته يوضح ذلك ، وهو معلوم . ويزعم بعض أهل العلم أنها من آخر شوال ، وأن أولها يوم الأربعاء ، وآخرها يوم الأربعاء ، ولا دليل على شيء من ذلك . وما يذكره بعض أهل العلم من أن يوم النحس المستمر هو يوم الأربعاء الأخير من الشهر ، أو يوم الأربعاء مطلقا ، حتى إن بعض المنتسبين لطلب العلم وكثيرا من العوام صاروا يتشاءمون بيوم الأربعاء الأخير من كل شهر ، حتى إنهم لا يقدمون على السفر والتزوج ونحو ذلك فيه ، ظانين أنه يوم نحس وشؤم ، وأن نحسه مستمر على جميع الخلق في جميع الزمن - لا أصل له ولا معول عليه ، ولا يلتفت إليه من عنده علم; لأن نحس ذلك اليوم مستمر على عاد فقط الذين أهلكهم الله فيه ، فاتصل لهم عذاب البرزخ والآخرة بعذاب الدنيا ، فصار ذلك الشؤم مستمرا عليهم استمرارا لا انقطاع له . أما غير عاد فليس مؤاخذا بذنب عاد ; لأنه لا تزر وازرة وزر أخرى . وقد أردنا هنا أن نذكر بعض الروايات التي اغتر بها من ظن استمرار نحس ذلك اليوم ; لنبين أنها لا معول عليها . قال صاحب الدر المنثور : وأخرج ابن أبي حاتم عن زر بن حبيش في يوم نحس مستمر قال : يوم الأربعاء . وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " قال لي جبريل : اقض باليمين مع الشاهد . وقال : يوم الأربعاء يوم نحس مستمر " . وأخرج ابن مردويه عن علي قال : " نزل جبريل على النبي - صلى الله عليه وسلم - باليمين مع الشاهد ، والحجامة ، ويوم الأربعاء يوم نحس مستمر " . ![]()
__________________
|
#6
|
||||
|
||||
![]() ![]() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد السابع الحلقة (464) سُورَةُ فُصِّلَتْ صـ 19 إلى صـ 26 [ ص: 19 ] وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " يوم نحس يوم الأربعاء " . وأخرج ابن مردويه عن أنس قال : " سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الأيام ، وسئل عن يوم الأربعاء قال : يوم نحس . قالوا كيف ذاك يا رسول الله ؟ قال : أغرق فيه الله فرعون وقومه ، وأهلك عادا وثمود " . وأخرج وكيع في الغرر ، وابن مردويه والخطيب بسند ضعيف عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " آخر أربعاء في الشهر يوم نحس مستمر " . فهذه الروايات وأمثالها لا تدل على شؤم يوم الأربعاء على من لم يكفر بالله ولم يعصه; لأن أغلبها ضعيف ، وما صح معناه منها فالمراد بنحسه شؤمه على أولئك الكفرة العصاة الذين أهلكهم الله فيه بسبب كفرهم ومعاصيهم . فالحاصل أن النحس والشؤم إنما منشؤه وسببه الكفر والمعاصي . أما من كان متقيا لله مطيعا له في يوم الأربعاء المذكور - فلا نحس ولا شؤم فيه عليه . فمن أراد أن يعرف النحس والشؤم والنكد والبلاء والشقاء على الحقيقة ، فليتحقق أن ذلك كله في معصية الله وعدم امتثال أمره ، والعلم عند الله - تعالى - . قوله - تعالى - : وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى . قوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : فهديناهم المراد بالهدى فيه هدى الدلالة والبيان والإرشاد ، لا هدى التوفيق والاصطفاء . والدليل على ذلك قوله - تعالى - بعده : فاستحبوا العمى على الهدى ; لأنها لو كانت هداية توفيق لما انتقل صاحبها عن الهدى إلى العمى . وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : فاستحبوا العمى على الهدى أي اختاروا الكفر على الإيمان وآثروه عليه ، وتعوضوه منه . وهذا المعنى الذي ذكرنا يوضحه قوله - تعالى - : ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان [ 9 \ 23 ] فقوله في آية " التوبة " هذه : [ ص: 20 ] إن استحبوا الكفر على الإيمان موافق في المعنى لقوله هنا : فاستحبوا العمى على الهدى . ونظير ذلك في المعنى قوله - تعالى - : الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله [ 14 \ 3 ] . فلفظة استحب في القرآن كثيرا ما تتعدى بعلى; لأنها في معنى اختار وآثر . وقد قدمنا في سورة " هود " في الكلام على قوله - تعالى - : مثل الفريقين كالأعمى - أن العمى الكفر ، وأن المراد بالأعمى في آيات عديدة الكافر . وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الهدى يأتي في القرآن بمعناه العام ، الذي هو البيان والدلالة والإرشاد - لا ينافي أن الهدى قد يطلق في القرآن في بعض المواضع على الهدى الخاص الذي هو التوفيق والاصطفاء ، كقوله - تعالى - : أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده [ 6 \ 90 ] . فمن إطلاق القرآن الهدى على معناه العام قوله هنا : وأما ثمود فهديناهم أي بينا لهم طريق الحق وأمرناهم بسلوكها ، وطرق الشر ونهيناهم عن سلوكها على لسان نبينا صالح - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - : فاستحبوا العمى على الهدى أي اختاروا الكفر على الإيمان بعد إيضاح الحق لهم . ومن إطلاقه على معناه العام قوله - تعالى - : إنا هديناه السبيل [ 76 \ 3 ] بدليل قوله بعده : إما شاكرا وإما كفورا ; لأنه لو كان هدى توفيق لما قال : وإما كفورا . ومن إطلاقه على معناه الخاص قوله - تعالى - : فبهداهم اقتده [ 6 \ 90 ] . وقوله - تعالى - : والذين اهتدوا زادهم هدى [ 47 \ 17 ] . وقوله : من يهد الله فهو المهتدي [ 18 \ 17 ] . وبمعرفة هذين الإطلاقين تتيسر إزالة إشكال قرآني وهو أنه - تعالى - : أثبت الهدى لنبينا - صلى الله عليه وسلم - في آية ، وهي قوله - تعالى - : وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم [ 42 \ 52 ] ونفاه عنه في آية أخرى ، وهي قوله - تعالى - : إنك لا تهدي من أحببت [ 28 \ 56 ] . [ ص: 21 ] فيعلم مما ذكرنا أن الهدى المثبت له - صلى الله عليه وسلم - هو الهدى العام ، الذي هو البيان والدلالة والإرشاد ، وقد فعل ذلك - صلى الله عليه وسلم - فبين المحجة البيضاء ، حتى تركها ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها هالك . والهدى المنفي عنه في آية : إنك لا تهدي من أحببت [ 28 \ 56 ] - هو الهدى الخاص ، الذي هو التفضل بالتوفيق ; لأن ذلك بيد الله وحده ، وليس بيده - صلى الله عليه وسلم - كما قال - تعالى - : ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم الآية [ 5 \ 41 ] . وقوله - تعالى - : إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل [ 16 \ 37 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة . وكذلك قوله - تعالى - : شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس الآية [ 2 \ 185 ] - لا منافاة فيه بين عموم الناس في هذه الآية ، وخصوص المتقين في قوله - تعالى - : ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين لأن الهدى العام للناس هو الهدى العام ، والهدى الخاص بالمتقين هو الهدى الخاص ، كما لا يخفى . وقد بينا هذا في غير هذا الموضع ، والعلم عند الله - تعالى - . قوله - تعالى - : فأخذتهم صاعقة العذاب الهون . الفاء في قوله : ( فأخذتهم ) سببية ، أي فاستحبوا العمى على الهدى ، وبسبب ذلك أخذتهم صاعقة العذاب الهون . واعلم أن الله - جل وعلا - عبر عن الهلاك الذي أهلك به ثمود بعبارات مختلفة ، فذكره هنا باسم الصاعقة في قوله : فأخذتهم صاعقة العذاب الهون ، وقوله : فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود [ 41 \ 31 ] . وعبر عنه أيضا بالصاعقة في سورة " الذاريات " في قوله - تعالى - : وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين فعتوا عن أمر ربهم فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون [ 51 \ 43 - 44 ] . وعبر عنه بالصيحة في آيات من كتابه ، كقوله - تعالى - في سورة " هود " في إهلاكه ثمود : وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيها ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود [ ص: 22 ] [ 11 \ 67 - 68 ] وقوله - تعالى - في " الحجر " : وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين فأخذتهم الصيحة مصبحين [ 15 \ 82 - 83 ] وقوله - تعالى - في القمر : إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر [ 54 \ 31 ] وقوله - تعالى - في " العنكبوت " ومنهم من أخذته الصيحة يعني به ثمود المذكورين في قوله قبله : وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم الآية [ 29 \ 38 ] . وعبر عنه بالرجفة في سورة الأعراف في قوله - تعالى - : فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا ياصالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين فأخذتهم الرجفة الآية [ 7 \ 77 - 51 ] . وعبر عنه بالتدمير في سورة " النمل " في قوله - تعالى - : فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين [ 27 \ 51 ] . وعبر عنه بالطاغية في " الحاقة " في قوله - تعالى - : فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية [ 69 \ 5 ] . وعبر عنه بالدمدمة في " الشمس " في قوله - تعالى - : فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها [ 91 \ 14 ] . وعبر عنه بالعذاب في سورة " الشعراء " في قوله - تعالى - : فعقروها فأصبحوا نادمين فأخذهم العذاب إن في ذلك لآية [ 26 \ 157 - 158 ] . ومعنى هذه العبارات كلها راجع إلى شيء واحد ، وهو أن الله أرسل عليهم صيحة أهلكتهم ، والصيحة الصوت المزعج المهلك . والصاعقة تطلق أيضا على الصوت المزعج المهلك ، وعلى النار المحرقة ، وعليهما معا ، ولشدة عظم الصيحة وهولها من فوقهم رجفت بهم الأرض من تحتهم ، أي تحركت حركة قوية ، فاجتمع فيها أنها صيحة وصاعقة ورجفة ، وكون ذلك تدميرا واضح . وقيل لها طاغية ; لأنها واقعة مجاوزة للحد في القوة وشدة الإهلاك . والطغيان في لغة العرب مجاوزة الحد ، ومنه قوله - تعالى - : إنا لما طغى الماء الآية [ 69 \ 11 ] أي جاوز الحدود التي يبلغها الماء عادة . [ ص: 23 ] واعلم أن التحقيق أن المراد بالطاغية في قوله - تعالى - : فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية [ 69 \ 5 ] أنها الصيحة التي أهلكهم الله بها ، كما يوضحه قوله بعده : وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية [ 69 \ 6 ] . خلافا لمن زعم أن الطاغية مصدر كالعاقبة والعافية ، وأن المعنى أنهم أهلكوا بطغيانهم ، أي بكفرهم وتكذيبهم نبيهم ، كقوله : كذبت ثمود بطغواها [ 91 \ 11 ] . وخلافا لمن زعم أن الطاغية هي أشقاهم الذي انبعث فعقر الناقة ، وأنهم أهلكوا بسبب فعله ، وهو عقره الناقة ، وكل هذا خلاف التحقيق . والصواب - إن شاء الله - هو ما ذكرنا ، والسياق يدل عليه ، واختاره غير واحد . وأما قوله - تعالى - : فدمدم عليهم ربهم بذنبهم [ 91 \ 14 ] فإنه لا يخالف ما ذكرنا ; لأن معنى دمدم عليهم ربهم بذنبهم ، أي أطلق عليهم العذاب وألبسهم إياه ، بسبب ذنبهم . قال الزمخشري في معنى دمدم : وهو من تكرير قولهم : ناقة مدمومة ، إذا ألبسها الشحم . وأما إطلاق العذاب عليه في سورة " الشعراء " فواضح ، فاتضح رجوع معنى الآيات المذكورة إلى شيء واحد . وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة صاعقة العذاب الهون - من النعت بالمصدر ; لأن الهون مصدر بمعنى الهوان ، والنعت بالمصدر أسلوب عربي معروف ، أشار إليه في الخلاصة بقوله : ونعتوا بمصدر كثيرا فالتزموا الإفراد والتذكيرا وهو موجه بأحد أمرين : أحدهما : أن يكون على حذف مضاف ، أي العذاب ذي الهون . والثاني : أنه على سبيل المبالغة ، فكأن العذاب لشدة اتصافه بالهوان اللاحق بمن وقع عليه - صار كأنه نفس الهوان ، كما هو معروف في محله . [ ص: 24 ] وقوله - تعالى - : بما كانوا يكسبون كالتوكيد في المعنى ; لقوله : فاستحبوا العمى على الهدى ; لأن كلا منهما سبب لأخذ الصاعقة إياهم ، فالفاء في قوله : ( فأخذتهم ) سببية ، والباء في قوله : ( بما كانوا ) سببية ، والعلم عند الله - تعالى - . قوله - تعالى - : ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه أهلك ثمود بالصاعقة ، ونجى من ذلك الإهلاك الذين آمنوا وكانوا يتقون الله ، والمراد بهم صالح ومن آمن معه من قومه . وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء مبينا في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - في سورة " هود " فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ إن ربك هو القوي العزيز وأخذ الذين ظلموا الصيحة الآية [ 11 \ 66 ] ، وقوله - تعالى - في " النمل " : ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان يختصمون [ 27 \ 45 ] إلى قوله - تعالى - في " ثمود " فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون [ 27 \ 52 - 53 ] أي وهم صالح ومن آمن معه . قوله - تعالى - : ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون . قرأ هذا الحرف عامة القراء غير نافع ( يحشر ) بضم الياء وفتح الشين مبنيا للمفعول ، ( أعداء الله ) بالرفع على أنه نائب الفاعل . وقرأه نافع وحمزة ، من السبعة ( نحشر أعداء الله ) بالنون المفتوحة الدالة على العظمة ، وضم الشين مبنيا للفاعل ، ( أعداء الله ) بالنصب على أنه مفعول به ، أي واذكر ويوم يحشر أعداء الله أي يجمعون إلى النار . وما دلت عليه هذه الآية من أن لله أعداء ، وأنهم يحشرون يوم القيامة إلى النار - جاء مذكورا في آيات أخر; فبين في بعضها أن له أعداء ، وأن أعداءه هم أعداء المؤمنين ، وأن جزاءهم النار ، كقوله - تعالى - : من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين [ 2 \ 98 ] . وقوله - تعالى - : ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم [ 8 \ 60 ] . وقوله - تعالى - : ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم الآية [ ص: 25 ] [ 60 \ 1 ] . وقوله - تعالى - : فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له [ 20 \ 39 ] . وقوله - تعالى - : ذلك جزاء أعداء الله النار لهم فيها دار الخلد الآية [ 41 \ 28 ] . إلى غير ذلك من الآيات . وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة فهم يوزعون أي يرد أولهم إلى آخرهم ، ويلحق آخرهم بأولهم ، حتى يجتمعوا جميعا ، ثم يدفعون في النار ، وهو من قول العرب : وزعت الجيش ، إذا حبست أوله على آخره حتى يجتمع . وأصل الوزع الكف ، تقول العرب وزعه يزعه وزعا فهو وازع له ، إذا كفه عن الأمر ، ومنه قول نابغة ذبيان : على حين عاتبت المشيب على الصبا فقلت ألما أصح والشيب وازع وقول الآخر : ولن يزع النفس اللجوج عن الهوى من الناس إلا وافر العقل كامله وبما ذكرنا تعلم أن أصل معنى ( يوزعون ) أي يكف أولهم عن التقدم وآخرهم عن التأخر ، حتى يجتمعوا جميعا . وذلك يدل على أنهم يساقون سوقا عنيفا ، يجمع به أولهم مع آخرهم . وقد بين - تعالى - أنهم يساقون إلى النار في حال كونهم عطاشا في قوله - تعالى - : ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا [ 19 \ 86 ] . ولعل الوزع المذكور في الآية يكون في الزمرة الواحدة من زمر أهل النار ; لأنهم يساقون إلى النار زمرا زمرا ، كما قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الزمر " في الكلام على قوله - تعالى - : وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا الآية [ 39 \ 71 ] . قوله - تعالى - : حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " يس " في الكلام على قوله - تعالى - : اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم الآية [ 36 \ 65 ] . وفي سورة النساء في الكلام على قوله - تعالى - : ولا يكتمون الله حديثا [ 4 \ 42 ] . [ ص: 26 ] وبينا هناك وجه الجمع بين قوله - تعالى - : ولا يكتمون الله حديثا مع قوله ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين [ 6 \ 23 ] . قوله - تعالى - : ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين فإن يصبروا فالنار مثوى لهم . قد قدمنا الكلام عليه في سورة " ص " في الكلام على قوله - تعالى - : ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار [ 38 \ 27 ] . قوله - تعالى - : وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين . قد بينا معناه مع شواهده العربية في سورة " النحل " في الكلام على قوله - تعالى - : ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون [ 16 \ 84 ] . قوله - تعالى - : وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم . لعلماء التفسير في تفسير قوله : قيضنا عبارات يرجع بعضها في المعنى إلى بعض . كقول بعضهم : وقيضنا لهم قرناء أي جئناهم بهم ، وأتحناهم لهم . وكقول بعضهم : قيضنا أي هيأنا . وقول بعضهم : قيضنا أي سلطنا . وقول بعضهم : أي بعثنا ووكلنا . وقول بعضهم : قيضنا أي سببنا . وقول بعضهم : قدرنا . ونحو ذلك من العبارات; فإن جميع تلك العبارات راجع إلى شيء واحد ، وهو أن الله - تبارك وتعالى - هيأ للكافرين قرناء من الشياطين يضلونهم عن الهدى ، ويزينون لهم الكفر والمعاصي ، وقدرهم عليهم . والقرناء : جمع قرين ، وهم قرناؤهم من الشياطين على التحقيق . ![]()
__________________
|
#7
|
||||
|
||||
![]() ![]() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد السابع الحلقة (465) سُورَةُ فُصِّلَتْ صـ 27 إلى صـ 34 وقوله فزينوا لهم ما بين أيديهم - أي من أمر الدنيا حتى آثروه على الآخرة - [ ص: 27 ] وما خلفهم أي من أمر الآخرة ، فدعوهم إلى التكذيب به ، وإنكار البعث . وما تضمنته هذه الآية الكريمة أنه - تعالى - قيض للكفار قرناء من الشياطين ، يضلونهم عن الهدى - بينه في مواضع أخر من كتابه . وزاد في بعضها سبب تقييضهم لهم ، وأنهم مع إضلالهم لهم يظنون أنهم مهتدون ، وأن الكافر يوم القيامة يتمنى أن يكون بينه وبين قرينه من الشياطين بعد عظيم ، وأنه يذمه ذلك اليوم ، كما قال - تعالى - : ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون حتى إذا جاءنا قال ياليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين [ 43 \ 36 - 38 ] . فترتيبه قوله : ( نقيض له شيطانا ) على قوله : ( ومن يعش عن ذكر الرحمن ) - ترتيب الجزاء على الشرط يدل على أن سبب تقييضه له هو غفلته عن ذكر الرحمن . ونظير ذلك قوله - تعالى - : من شر الوسواس الخناس [ 114 \ 4 ] لأن الوسواس هو كثير الوسوسة ليضل بها الناس ، والخناس هو كثير التأخر والرجوع عن إضلال الناس ، من قولهم : خنس - بالفتح - يخنس - بالضم - إذا تأخر . فهو وسواس عند الغفلة عن ذكر الرحمن ، خناس عند ذكر الرحمن ، كما دلت عليه آية " الزخرف " المذكورة ، ودل عليه قوله - تعالى - : إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون [ 16 \ 99 - 100 ] لأن الذين يتولونه والذين هم به مشركون - غافلون عن ذكر الرحمن ، وبسبب ذلك قيضه الله لهم فأضلهم . ومن الآيات الدالة على تقييض الشياطين للكفار ليضلوهم ، قوله - تعالى - : أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا [ 19 \ 83 ] وقد أوضحنا الآيات الدالة على ذلك في سورة " مريم " في الكلام على قوله - تعالى - : أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين الآية . وبينا هناك أقوال أهل العلم في معنى تؤزهم أزا . وبينا أيضا هناك أن من الآيات الدالة على ذلك . قوله - تعالى - : ويوم يحشرهم جميعا يامعشر الجن قد استكثرتم من الإنس [ 6 \ 128 ] أي استكثرتم من إضلال الإنس في دار الدنيا ، وقوله : وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون [ 7 \ 202 ] . [ ص: 28 ] ومنها أيضا قوله - تعالى - : ألم أعهد إليكم يابني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إلى قوله : ولقد أضل منكم جبلا كثيرا [ 36 \ 60 - 62 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقد دل قوله في آية " الزخرف " : فبئس القرين [ 43 \ 38 ] على أن قرناء الشياطين المذكورين في آية " فصلت " وآية " الزخرف " وغيرهما - جديرين بالذم الشديد ، وقد صرح - تعالى - بذلك في سورة " النساء " في قوله : ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا [ 4 \ 38 ] لأن قوله : فساء قرينا بمعنى فبئس القرين ; لأن كلا من " ساء " و " بئس " فعل جامد لإنشاء الذم ، كما ذكره في الخلاصة بقوله : واجعل كبئس ساء واجعل فعلا من ذي ثلاثة كنعم مسجلا واعلم أن الله - تعالى - بين أن الكفار الذي أضلهم قرناؤهم من الشياطين - يظنون أنهم على هدى ، فهم يحسبون أشد الضلال أحسن الهدى ، كما قال - تعالى - عنهم : وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون [ 43 \ 37 ] وقال - تعالى - : إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون [ 7 ] . وبين - تعالى - أنهم بسبب ذلك الظن الفاسد هم أخسر الناس أعمالا ، في قوله - تعالى - : قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا [ 18 \ 103 - 104 ] . وقوله - تعالى - في آية " الزخرف " : ومن يعش عن ذكر الرحمن [ 43 \ 36 ] من قولهم : عشا - بالفتح - عن الشيء يعشو - بالضم - إذا ضعف بصره عن إدراكه ; لأن الكافر أعمى القلب ، فبصيرته تضعف عن الاستنارة بذكر الرحمن ، وبسبب ذلك يقيض الله له قرناء الشياطين . قوله - تعالى - : وحق عليهم القول . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " يس " في الكلام على قوله - تعالى - : لقد حق القول على أكثرهم الآية [ 36 \ 7 ] . قوله - تعالى - : وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن . [ ص: 29 ] وقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " البقرة " في الكلام على قوله - تعالى - خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا [ 2 \ 93 ] . قوله - تعالى - : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم . ما تضمنته هذه الآية الكريمة مما أعده الله في الآخرة للذين قالوا : ( ربنا الله ثم استقاموا ) - ذكره الله - تعالى - في الجملة في قوله في " الأحقاف " : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون [ 46 \ 13 - 14 ] لأن انتفاء الخوف والحزن والوعد الصادق بالخلود في الجنة المذكور في آية " الأحقاف " هذه - يستلزم جميع ما ذكر في هذه الآية الكريمة من سورة " فصلت " . قوله - تعالى - : ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم . قد أوضحناه مع الآيات التي بمعناه في آخر سورة " الأعراف " في الكلام على قوله - تعالى - : خذ العفو وأمر بالعرف إلى قوله إنه سميع عليم [ 7 \ 199 - 200 ] . قوله - تعالى - : ومن آياته الليل والنهار . وقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله - تعالى - : وجعلنا الليل والنهار آيتين الآية [ 17 \ 12 ] وفي غير ذلك من المواضع . قوله - تعالى - : لا تسجدوا للشمس ولا للقمر الآية [ 41 \ 37 ] . قد قدمنا الكلام عليه في سورة " النمل " في الكلام على قوله - تعالى - : ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض الآية [ 27 \ 25 ] . قوله - تعالى - : فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون . [ ص: 30 ] قوله - تعالى - : فإن استكبروا ، أي فإن تكبر الكفار عن توحيد الله والسجود له وحده ، وإخلاص العبادة له ( فالذين عند ربك ) وهم الملائكة ( يسبحون له بالليل ) أي يعبدونه وينزهونه دائما ليلا ونهارا ( وهم لا يسأمون ) أي لا يملون من عبادة ربهم ; لاستلذاذهم لها وحلاوتها عندهم ، مع خوفهم منه - جل وعلا - كما قال - تعالى - : ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته [ 13 \ 13 ] . وقد دلت هذه الآية الكريمة من سورة " فصلت " على أمرين : أحدهما : أن الله - جل وعلا - إن كفر به بعض خلقه ، فإن بعضا آخر من خلقه يؤمنون به ويطيعونه كما ينبغي ، ويلازمون طاعته دائما بالليل والنهار . والثاني منهما : أن الملائكة يسبحون الله ويطيعونه دائما لا يفترون عن ذلك . وهذان الأمران اللذان دلت عليهما هذه الآية الكريمة - قد جاء كل منهما موضحا في غير هذا الموضع . أما الأول منهما : فقد ذكره - جل وعلا - في قوله : فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين [ 6 \ 89 ] . وأما الثاني منهما : فقد أوضحه - تعالى - في آيات من كتابه ، كقوله - تعالى - في " الأنبياء " : وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون [ 21 \ 19 - 20 ] وقوله - تعالى - في آخر " الأعراف " إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون [ 7 \ 206 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : وهم لا يسأمون أي لا يملون ، والسآمة : الملل ، ومنه قول زهير : سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولا لا أبا لك يسأم قوله - تعالى - : ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت . هذه الآية الكريمة قد أوضحنا الكلام عليها مع ما في معناها من الآيات ، وبينا أن [ ص: 31 ] تلك الآيات فيها البرهان القاطع على البعث بعد الموت ، وذكرنا معها الآيات التي يكثر الاستدلال بها في القرآن على البعث بعد الموت ، وهي أربعة براهين قرآنية . ذكرنا ذلك في سورة " البقرة " وفي سورة " النحل " وغيرهما ، وأحلنا عليه مرارا . قوله - تعالى - : أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة . قد قدمنا الكلام عليه مع ما يماثله من الآيات في سورة " الفرقان " في الكلام على قوله - تعالى - : قل أذلك خير أم جنة الخلد الآية [ 15 \ 15 ] . قوله - تعالى - : قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء . قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة " البقرة " في الكلام على قوله - تعالى - : هدى للمتقين [ 2 \ 2 ] وفي سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله - تعالى - : وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين الآية [ 17 \ 82 ] . قوله - تعالى - : من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله - تعالى - : إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها [ 41 \ 7 ] وفي سورة " النمل " في الكلام على قوله - تعالى - : ومن شكر فإنما يشكر لنفسه [ 27 \ 40 ] . قوله - تعالى - : وما ربك بظلام للعبيد . ما ذكره - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة من كونه ليس بظلام للعبيد - ذكره في مواضع أخر ، كقوله - تعالى - في سورة " آل عمران " : ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد الذين قالوا إن الله عهد إلينا [ 3 \ 182 ] . وقوله في " الأنفال " ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد كدأب آل فرعون [ 8 \ 51 - 52 ] . وقوله في " الحج " : ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد ومن الناس من يعبد الله الآية [ 22 \ 10 - 11 ] . وقوله في سورة " ق " : ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد [ 50 \ 29 ] . وفي هذه الآيات سؤال معروف ، وهو أن لفظة ( ظلام ) فيها صيغة مبالغة ، ومعلوم [ ص: 32 ] أن نفي المبالغة لا يستلزم نفي الفعل من أصله . فقولك مثلا : زيد ليس بقتال للرجال - لا ينفي إلا مبالغته في قتلهم ، فلا ينافي أنه ربما قتل بعض الرجال . ومعلوم أن المراد بنفي المبالغة في الآيات المذكورة - هو نفي الظلم من أصله . والجواب عن هذا الإشكال من أربعة أوجه : الأول : أن نفي صيغة المبالغة في الآيات المذكورة قد بينت آيات كثيرة أن المراد به نفي الظلم من أصله . ونفي صيغة المبالغة إذا دلت أدلة منفصلة على أن يراد به نفي أصل الفعل ، فلا إشكال لقيام الدليل على المراد . والآيات الدالة على ذلك كثيرة معروفة ، كقوله - تعالى - : إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها الآية [ 4 \ 40 ] . وقوله - تعالى - : إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون [ 10 \ 44 ] . وقوله - تعالى - : ولا يظلم ربك أحدا [ 18 \ 49 ] . وقوله - تعالى - : ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا الآية [ 21 \ 47 ] . إلى غير ذلك من الآيات ، كما قدمنا إيضاحه في سورة " الكهف " و " الأنبياء " . الوجه الثاني : أن الله - جل وعلا - نفى ظلمه للعبيد ، والعبيد في غاية الكثرة ، والظلم المنفي عنهم تستلزم كثرتهم كثرته ، فناسب ذلك الإتيان بصيغة المبالغة للدلالة على كثرة المنفي التابعة لكثرة العبيد المنفي عنهم الظلم ، إذ لو وقع على كل عبد ظلم ، ولو قليلا ، كان مجموع ذلك الظلم في غاية الكثرة ، كما ترى . وبذلك تعلم اتجاه التعبير بصيغة المبالغة ، وأن المراد بذلك نفي أصل الظلم عن كل عبد من أولئك العبيد ، الذين هم في غاية الكثرة ، سبحانه وتعالى عن أن يظلم أحدا شيئا ، كما بينته الآيات القرآنية المذكورة ، وفي الحديث : " يا عبادي ، إني حرمت الظلم على نفسي " الحديث . الوجه الثالث : أن المسوغ لصيغة المبالغة أن عذابه - تعالى - بالغ من العظم والشدة أنه لولا استحقاق المعذبين لذلك العذاب بكفرهم ومعاصيهم - لكان معذبهم به ظلاما بليغ [ ص: 33 ] الظلم متفاقمه ، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا . وهذا الوجه والذي قبله أشار لهما الزمخشري في سورة " الأنفال " . الوجه الرابع : ما ذكره بعض علماء العربية وبعض المفسرين من أن المراد بالنفي في قوله : وما ربك بظلام للعبيد نفي نسبة الظلم إليه ; لأن صيغة فعال تستعمل مرادا بها النسبة ، فتغني عن ياء النسب ، كما أشار له في الخلاصة بقوله : ومع فاعل وفعال فعل في نسب أغنى عن اليا فقبل ومعنى البيت المذكور أن الصيغ الثلاثة المذكورة فيه التي هي فاعل كظالم وفعال كظلام وفعل كفرح - كل منها قد تستعمل مرادا بها النسبة ، فيستغنى بها عن ياء النسب ، ومثاله في فاعل قول الحطيئة في هجوه الزبرقان بن بدر التميمي : دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاس فالمراد بقوله : الطاعم الكاسي - النسبة ، أي ذو طعام وكسوة . وقول الآخر - وهو من شواهد سيبويه - : وغررتني وزعمت أنك لابن في الصيف تامر أي ذو لبن وذو تمر . وقول نابغة ذبيان : كليني لهم يا أميمة ناصب وليل أقاسيه بطيء الكواكب فقوله : " ناصب " ، أي ذو نصب . ومثاله في فعال قول امرئ القيس : وليس بذي رمح فيطعنني به وليس بذي سيف وليس بنبال فقوله : وليس بنبال ، أي ليس بذي نبل ، ويدل عليه قوله قبله : وليس بذي رمح ، وليس بذي سيف . وقال الأشموني بعد الاستشهاد بالبيت المذكور : قال المصنف - يعني ابن مالك - : وعلى هذا حمل المحققون قوله - تعالى - : وما ربك بظلام للعبيد أي بذي ظلم . اهـ . [ ص: 34 ] وما عزاه لابن مالك جزم به غير واحد من النحويين والمفسرين ، ومثاله في فعل قول الراجز - وهو من شواهد سيبويه - : ليس بليلي ولكني نهر لا أدلج الليل ولكن أبتكر فقوله : نهر بمعنى نهاري ، وقد قدمنا إيضاحه معنى الظلم بشواهده العربية ، في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك ، والعلم عند الله - تعالى - . قوله - تعالى - : إليه يرد علم الساعة . تقدم الكلام على نحوه في سورة " الأعراف " في الكلام على قوله - تعالى - : قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو [ 7 \ 187 ] . وفي " الأنعام " عند قوله - تعالى - : وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو [ 6 \ 59 ] .قوله - تعالى - : وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه . قد قدمنا الكلام عليه في سورة " الرعد " في الكلام على قوله - تعالى - : الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد الآية [ 13 \ 8 ] .قوله - تعالى - : وظنوا ما لهم من محيص . الظن هنا بمعنى اليقين ; لأن الكفار يوم القيامة إذا عاينوا العذاب ، وشاهدوا الحقائق - علموا في ذلك الوقت أنهم ليس لهم من محيص ، أي ليس لهم مفر ولا ملجأ . والظاهر أن المحيص مصدر ميمي ، من حاص يحيص بمعنى حاد وعدل وهرب . وما ذكرنا من أن الظن في هذه الآية الكريمة بمعنى اليقين والعلم - هو التحقيق - إن شاء الله - ; لأن يوم القيامة تنكشف فيه الحقائق ، فيحصل للكفار العلم بها لا يخالجهم في ذلك شك ، كما قال - تعالى - عنهم أنهم يقولون يوم القيامة : ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون [ 32 \ 12 ] . وقال - تعالى - : أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا [ 19 \ 38 ] . وقال - تعالى - : فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد [ 50 \ 22 ] . وقال - تعالى - : ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا [ 6 ] . ![]()
__________________
|
#8
|
||||
|
||||
![]() ![]() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد السابع الحلقة (466) سُورَةُ الشُّورَى صـ 35 إلى صـ 42 وقد [ ص: 35 ] قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة " النمل " في الكلام على قوله - تعالى - : بل ادارك علمهم في الآخرة [ 27 \ 66 ] . ومعلوم أن الظن يطلق في لغة العرب التي نزل بها القرآن على معنيين : أحدهما : الشك ، كقوله وإن الظن لا يغني من الحق شيئا [ 53 \ 28 ] . وقوله - تعالى - عن الكفار : إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين [ 45 \ 32 ] . والثاني : هو إطلاق الظن مرادا به العلم واليقين ، ومنه قوله - تعالى - هنا : وظنوا ما لهم من محيص [ 41 \ 48 ] أي أيقنوا أنهم ليس لهم يوم القيامة محيص ، أي لا مفر ولا مهرب لهم من عذاب ربهم ، ومنه بهذا المعنى قوله - تعالى - : ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها [ 18 \ 53 ] أي أيقنوا ذلك وعلموه ، وقوله - تعالى - : الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون [ 2 \ 46 ] . وقوله - تعالى - : قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله [ 2 \ 249 ] . وقوله - تعالى - : فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه إني ظننت أني ملاق حسابيه [ 69 \ 19 - 20 ] . فالظن في الآيات المذكورة كلها بمعنى اليقين . ونظير ذلك من كلام العرب قول دريد بن الصمة : فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج سراتهم في الفارسي المسرد وقول عميرة بن طارق : بأن تغتزوا قومي وأقعد فيكم وأجعل مني الظن غيبا مرجما والظن في البيتين المذكورين بمعنى اليقين ، والفعل القلبي في الآية المذكورة التي هي قوله : وظنوا ما لهم من محيص معلق عن العمل في المفعولين بسبب النفي بلفظة ( ما ) في قوله : ما لهم من محيص كما أشار له في الخلاصة بقوله : والتزم التعليق قبل نفي " ما "قوله - تعالى - : ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى . [ ص: 36 ] قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الكهف " في الكلام على قوله - تعالى - : ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا [ 18 \ 36 ] .قوله - تعالى - : وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض . قد قدمنا الآيات الموضحة له وبعض الأحاديث الصحيحة الموافقة لها في سورة " يونس " في الكلام على قوله - تعالى - : وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه [ 10 \ 12 ] .قوله - تعالى - : سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم الآية . قد قدمنا الكلام عليه في سورة " المؤمن " في الكلام على قوله - تعالى - : هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقا الآية [ 40 \ 13 ] .قوله - تعالى - : ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم . المرية : الشك . وما تضمنته هذه الآية الكريمة من شك الكفار في البعث والجزاء - قد قدمنا الآيات الموضحة له ، ولما يترتب عليه من الخلود في النار في سورة " الفرقان " في الكلام على قوله - تعالى - : بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا [ 25 \ 11 ] .[ ص: 37 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ الشُّورَى قَوْلُهُ - تَعَالَى - : حم عسق كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ . قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ " هُودٍ " . وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ الْوَحْيِ ، أَوْ مِثْلَ ذَلِكَ الْكِتَابِ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الرُّسُلِ مِنْ قَبِلَكَ اللَّهُ . يَعْنِي أَنَّ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ السُّورَةُ مِنَ الْمَعَانِي قَدْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْكَ مِثْلَهُ فِي غَيْرِهَا مِنَ السُّوَرِ ، وَأَوْحَاهُ مِنْ قَبْلِكَ إِلَى رُسُلِهِ ، عَلَى مَعْنَى أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - كَرَّرَ هَذِهِ الْمَعَانِيَ فِي الْقُرْآنِ ، وَفِي جَمِيعِ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ ، لِمَا فِيهَا مِنَ التَّنْبِيهِ الْبَلِيغِ ، وَاللُّطْفِ الْعَظِيمِ ، لِعِبَادِهِ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ . اهـ مِنْهُ . وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّ التَّشْبِيهَ فِي قَوْلِهِ : ( كَذَلِكَ يُوحِي ) بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُوحَى بِاسْمِ الْمَفْعُولِ . وَالْأَظْهَرُ أَنَّ التَّشْبِيهَ فِي الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ الَّذِي هُوَ الْإِيحَاءُ . وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَمْ يُصَرِّحْ هُنَا بِشَيْءٍ مِنْ أَسْمَاءِ الَّذِينَ فِي قَبْلِهِ الَّذِينَ أَوْحَى إِلَيْهِمْ ، كَمَا أَوْحَى إِلَيْهِ ، وَلَكِنَّهُ قَدْ بَيَّنَ أَسْمَاءَ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ فِي سُورَةِ " النِّسَاءِ " ، وَبَيَّنَ فِيهَا أَنَّ بَعْضَهُمْ لَمْ يَقْصُصْ خَبَرَهُمْ عَلَيْهِ ، وَأَنَّهُ أَوْحَى إِلَيْهِمْ وَأَرْسَلَهُمْ لِقَطْعِ حُجَجِ الْخَلْقِ فِي دَارِ الدُّنْيَا ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - : إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [ ص: 38 ] [ 4 \ 163 - 165 ] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - : اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِيهِ الثَّنَاءَ عَلَى نَفْسِهِ بِاسْمِهِ الْعَزِيزِ وَاسْمِهِ الْحَكِيمِ بَعْدَ ذِكْرِهِ إِنْزَالَهُ وَحْيَهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ " النِّسَاءِ " الْمَذْكُورَةِ : وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا بَعْدَ ذِكْرِهِ إِيحَاءَهُ إِلَى رُسُلِهِ . وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ " الزُّمَرِ " أَنَّ اسْتِقْرَاءَ الْقُرْآنِ قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - إِذَا ذَكَرَ تَنْزِيلَهُ لِكِتَابِهِ أَتْبَعَ ذَلِكَ بَعْضَ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا ، وَذَكَرْنَا كَثِيرًا مِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ . وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَامَّةُ السَّبْعَةِ غَيْرَ ابْنِ كَثِيرٍ : ( يُوحِي ) بِكَسْرِ الْحَاءِ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ ، وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ هَذِهِ فَقَوْلُهُ : ( اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ) - فَاعِلُ يُوحِي . وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ ( يُوحَى إِلَيْكَ ) بِفَتْحِ الْحَاءِ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ ، فَقَوْلُهُ : ( اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) فَاعِلُ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ يُوحَى ، كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي سُورَةِ " النُّورِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - : يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ [ 24 \ 36 - 37 ] . وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعَانِيَ الْوَحْيِ مَعَ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ فِي سُورَةِ " النَّحْلِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - : وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [ 16 \ 68 ] وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ .قوله - تعالى - : وهو العلي العظيم . وصف نفسه - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة بالعلو والعظمة ، وهما من الصفات الجامعة كما قدمناه في سورة " الأعراف " في الكلام على قوله - تعالى - : ثم استوى على العرش [ 7 \ 54 ] . وما تضمنته هذه الآية الكريمة من وصفه - تعالى - نفسه بهاتين الصفتين الجامعتين المتضمنتين لكل كمال وجلال - جاء مثله في آيات أخر ، كقوله - تعالى - : ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم [ 2 \ 255 ] . وقوله - تعالى - : إن الله كان عليا كبيرا [ 4 \ 34 ] . وقوله - تعالى - : عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال [ 13 \ 9 ] . وقوله - تعالى - : وله الكبرياء في السماوات والأرض الآية [ 45 \ 37 ] . إلى غير ذلك من الآيات .[ ص: 39 ] قوله - تعالى - : تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض . قرأ هذا الحرف عامة السبعة غير نافع والكسائي ( تكاد ) بالتاء الفوقية ; لأن السماوات مؤنثة ، وقرأه نافع والكسائي ( يكاد ) بالياء التحتية لأن تأنيث السماوات غير حقيقي . وقرأه عامة السبعة غير أبي عمرو ، وشعبة عن عاصم ( يتفطرن ) بتاء مثناة فوقية مفتوحة بعد الياء وفتح الطاء المشددة ، مضارع تفطر ، أي تشقق . وقرأه أبو عمرو وشعبة عن عاصم ( ينفطرن ) بنون ساكنة بعد الياء وكسر الطاء المخففة ، مضارع انفطرت ، كقوله : إذا السماء انفطرت [ 82 \ 1 ] أي انشقت . وقوله : تكاد ، مضارع كاد ، التي هي فعل مقاربة ، ومعلوم أنها تعمل في المبتدإ والخبر ، ومعنى كونها فعل مقاربة ، أنها تدل على قرب اتصاف المبتدإ بالخبر . وإذا ، فمعنى الآية أن السماوات قاربت أن تتصف بالتفطر على القراءة الأولى ، والانفطار على القراءة الثانية . واعلم أن سبب مقاربة السماوات للتفطر في هذه الآية الكريمة - فيه للعلماء وجهان كلاهما يدل له قرآن : الوجه الأول : أن المعنى : تكاد السماوات يتفطرن خوفا من الله ، وهيبة وإجلالا ، ويدل لهذا الوجه قوله - تعالى - قبله : وهو العلي العظيم [ 42 \ 4 ] ; لأن علوه وعظمته سبب للسماوات ذلك الخوف والهيبة والإجلال ، حتى كادت تتفطر . وعلى هذا الوجه ، فقوله بعده : والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض مناسبته لما قبله واضحة; لأن المعنى : أن السماوات في غاية الخوف منه - تعالى - والهيبة والإجلال له ، وكذلك سكانها من الملائكة ، فهم ( يسبحون بحمد ربهم ) أي ينزهونه عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله مع إثباتهم له كل كمال وجلال ، خوفا منه وهيبة وإجلالا ، كما قال - تعالى - : ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته [ 13 \ 13 ] . وقال - تعالى - : ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون [ 16 \ 49 - 50 ] . [ ص: 40 ] فهم لشدة خوفهم من الله وإجلالهم له يسبحون بحمد ربهم ، ويخافون على أهل الأرض ، ولذا يستغفرون لهم خوفا عليهم من سخط الله وعقابه ، ويستأنس لهذا الوجه بقوله - تعالى - : إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض إلى قوله : وأشفقن منها [ 33 \ 72 ] ; لأن الإشفاق الخوف . وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : ويستغفرون لمن في الأرض يعني لخصوص الذين آمنوا منهم وتابوا إلى الله واتبعوا سبيله ، كما أوضحه - تعالى - بقوله : الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا [ 40 \ 7 ] . فقوله : للذين آمنوا - يوضح المراد من قوله : لمن في الأرض . \ 5 ويزيد ذلك إيضاحا قوله - تعالى - عنهم أنهم يقولون في استغفارهم للمؤمنين - : فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك [ 40 \ 7 ] لأن ذلك يدل دلالة واضحة على عدم استغفارهم للكفار . الوجه الثاني : أن المعنى تكاد السماوات يتفطرن من شدة عظم الفرية التي افتراها الكفار على خالق السماوات والأرض - جل وعلا - من كونه اتخذ ولدا - سبحانه وتعالى - عن ذلك علوا كبيرا ، وهذا الوجه جاء موضحا في سورة " مريم " في قوله - تعالى - : وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا [ 19 \ 88 - 93 ] . كما قدمنا إيضاحه . وغاية ما في هذا الوجه أن آية " الشورى " هذه فيها إجمال في سبب تفطر السماوات ، وقد جاء ذلك موضحا في آية " مريم " المذكورة . وكلا الوجهين حق . وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : يتفطرن من فوقهن فيه للعلماء أوجه . قيل : ( يتفطرن ) ، أي السماوات . ( من فوقهن ) أي الأرضين ، ولا يخفى بعد هذا القول كما ترى . [ ص: 41 ] وقال بعضهم : ( من فوقهن ) ، أي كل سماء تتفطر فوق التي تليها . وقال الزمخشري في الكشاف : فإن قلت : لم قال : من فوقهن ؟ قلت : لأن أعظم الآيات وأدلها على الجلال والعظمة فوق السماوات ، وهي : العرش ، والكرسي ، وصفوف الملائكة المرتجة بالتسبيح والتقديس حول العرش ، وما لا يعلم كنهه إلا الله - تعالى - من آثار ملكوته العظمى ، فلذلك قال : يتفطرن من فوقهن أي يبتدئ الانفطار من جهتهن الفوقانية . أو لأن كلمة الكفر جاءت من الذي تحت السماوات ، فكان القياس أن يقال : يتفطرن من تحتهن من الجهة التي جاءت منها الكلمة ، ولكنه بولغ في ذلك ، فجعلت مؤثرة في وجهة الفوق ، كأنه قيل : يكدن يتفطرن من الجهة التي فوقهن ، دع الجهة التي تحتهن . ونظيره في المبالغة قوله - عز وجل - : يصب من فوق رءوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم فجعل الحميم مؤثرا في أجزائهم الباطنة . ا هـ محل الغرض منه . وهذا إنما يتمشى على القول بأن سبب التفطر المذكور هو افتراؤهم على الله في قولهم : اتخذ الرحمن ولدا [ 19 \ 88 ] . وقد قدمنا آنفا أنه دلت عليه سورة " مريم " المذكورة ، وعليه فمناسبة قوله : والملائكة يسبحون بحمد ربهم لما قبله - أن الكفار وإن قالوا أعظم الكفر وأشنعه ، فإن الملائكة بخلافهم ، فإنهم يداومون ذكر الله وطاعته . ويوضح ذلك قوله - تعالى - : فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون [ 41 \ 38 ] . وقوله - تعالى - : فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين [ 6 \ 89 ] . كما قدمنا إيضاحه في آخر سورة " فصلت " . قوله - تعالى - : ألا إن الله هو الغفور الرحيم . أكد - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة ، أنه هو الغفور الرحيم ، وبين فيها أنه هو وحده المختص بذلك . [ ص: 42 ] وهذان الأمران اللذان تضمنتهما هذه الآية الكريمة - قد جاءا موضحين في غير هذا الموضع . أما اختصاصه هو - جل وعلا - بغفران الذنوب ، فقد ذكره في قوله - تعالى - : ومن يغفر الذنوب إلا الله [ 3 \ 135 ] . والمعنى لا يغفر الذنوب إلا الله ، وفي الحديث " رب إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ، ولا يغفر الذنوب إلا أنت " الحديث . وفي حديث سيد الاستغفار : " اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني " الحديث . وفيه " وأبوء بذنبي فاغفر لي ; فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت " . ووجه دلالة هذه الآية على أن الله وحده هو الذي يغفر الذنوب - هو أن ضمير الفصل بين المسند والمسند إليه في قوله : ألا إن الله هو الغفور الرحيم يدل على ذلك كما هو معلوم في محله . وأما الأمر الثاني : هو توكيده - تعالى - أنه هو الغفور الرحيم ; فإنه أكد ذلك هنا بحرف الاستفتاح الذي هو ( ألا ) ، وحرف التوكيد الذي هو ( إن ) . وقد أوضح ذلك في آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - : إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم [ 39 \ 53 ] . وقوله - تعالى - : وإني لغفار لمن تاب وآمن الآية [ 20 \ 82 ] . وقوله - تعالى - : إن ربك واسع المغفرة [ 53 \ 32 ] . وقوله في الكفار : قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف [ 8 \ 38 ] . وقوله في الذين قالوا : إن الله ثالث ثلاثة : أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم [ 5 \ 74 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة . فنرجو الله - جل وعلا - الكريم الرءوف الغفور الرحيم - أن يغفر لنا جميع ذنوبنا ، ويتجاوز عن جميع سيئاتنا ، ويدخلنا جنته على ما كان منا ، ويغفر لإخواننا المسلمين ، إنه غفور رحيم . ![]()
__________________
|
#9
|
||||
|
||||
![]() ![]() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد السابع الحلقة (467) سُورَةُ الشُّورَى صـ 43 إلى صـ 50 قوله - تعالى - : والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل . قوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : اتخذوا من دونه أولياء . أي أشركوا معه شركاء يعبدونهم من دونه ، كما أوضح - تعالى - ذلك في قوله : والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب [ 39 \ 3 ] . [ ص: 43 ] وقوله - تعالى - : والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون [ 2 \ 257 ] . وقوله - تعالى - : إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون [ 7 ] . وقوله - تعالى - : إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه [ 3 \ 175 ] . أي يخوفكم أولياءه . وقوله - تعالى - : فقاتلوا أولياء الشيطان الآية [ 4 \ 76 ] . وقد وبخهم - تعالى - على اتخاذهم الشيطان وذريته أولياء من دونه - تعالى - في قوله : أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا . وقد أمر - جل وعلا - باتباع هذا القرآن العظيم ، ناهيا عن اتباع الأولياء المتخذين من دونه - تعالى - في أول سورة الأعراف في قوله - تعالى - اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون [ 7 \ 3 ] . وقد علمت من الآيات المذكورة أن أولياء الكفار الذين اتخذوهم وعبدوهم من دون الله نوعان : الأول منهما : الشياطين ، ومعنى عبادتهم للشيطان طاعتهم له فيما يزين لهم من الكفر والمعاصي ، فشركهم به شرك طاعة ، والآيات الدالة على عبادتهم للشياطين بالمعنى المذكور كثيرة ، كقوله - تعالى - : ألم أعهد إليكم يابني آدم أن لا تعبدوا الشيطان الآية [ 36 \ 60 ] . وقوله - تعالى - عن إبراهيم ياأبت لا تعبد الشيطان الآية [ 19 \ 44 ] . وقوله - تعالى - : إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا [ 4 \ 117 ] ، أي وما يعبدون إلا شيطانا مريدا . وقوله - تعالى - : قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون [ 34 \ 41 ] . وقوله - تعالى - إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون [ 16 \ 100 ] . وقوله - تعالى - وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون [ 6 \ 121 ] . إلى غير ذلك من الآيات . والنوع الثاني : هو الأوثان ، كما بين ذلك - تعالى - بقوله : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى الآية [ 39 \ 3 ] . وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : الله حفيظ عليهم ، أي رقيب عليهم حافظ [ ص: 44 ] عليهم كل ما يعملونه من الكفر والمعاصي ، وفي أوله اتخاذهم الأولياء يعبدونهم من دون الله . وفي الآية تهديد عظيم لكل مشرك . وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : وما أنت عليهم بوكيل . أي لست يا محمد بموكل عليهم تهدي من شئت هدايته منهم ، بل إنما أنت نذير فحسب ، وقد بلغت ونصحت . والوكيل عليهم هو الله الذي يهدي من يشاء منهم ، ويضل من يشاء ، كما قال - تعالى - : إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل [ 11 \ 12 ] . وقال - تعالى - : ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون [ 10 \ 99 - 100 ] . وقال - تعالى - : وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين [ 6 \ 35 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة . وبما ذكرنا تعلم أن التحقيق في قوله - تعالى - : وما أنت عليهم بوكيل ، وما جرى مجراه من الآيات ليس منسوخا بآية السيف . والعلم عند الله - تعالى - . قوله - تعالى - : وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا . وقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الشعراء " في الكلام على قوله - تعالى - : لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين [ 26 \ 194 - 195 ] . وفي " المؤمن " في الكلام على قوله - تعالى - : قرءانا عربيا غير ذي عوج [ 39 \ 28 ] . وفي غير ذلك من المواضع . قوله - تعالى - : لتنذر أم القرى ومن حولها . خص الله - تبارك وتعالى - في هذه الآية الكريمة إنذاره - صلى الله عليه وسلم - بأم القرى ومن حولها ، والمراد بأم القرى مكة - حرسها الله - . ولكنه أوضح في آيات أخر أن إنذاره عام لجميع الثقلين ، كقوله - تعالى - قل ياأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا [ 7 \ 158 ] . وقوله - تعالى - : تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا [ 25 \ 1 ] . [ ص: 45 ] وقوله - تعالى - : وما أرسلناك إلا كافة للناس الآية [ 34 \ 28 ] . كما أوضحنا ذلك مرارا في هذا الكتاب المبارك . وقد ذكرنا الجواب عن تخصيص أم القرى ومن حولها هنا ، وفي سورة " الأنعام " في قوله - تعالى - : ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به الآية [ 6 \ 92 ] . في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " فقلنا فيه : والجواب من وجهين : الأول : أن المراد بقوله : ومن حولها شامل لجميع الأرض ، كما رواه ابن جرير وغيره ، عن ابن عباس . الوجه الثاني : أنا لو سلمنا تسليما جدليا أن قوله ومن حولها لا يتناول إلا القريب من مكة المكرمة - حرسها الله - كجزيرة العرب مثلا ، فإن الآيات الأخر ، نصت على العموم ، كقوله ليكون للعالمين نذيرا [ 25 \ 1 ] . وذكر بعض أفراد العام بحكم العام - لا يخصصه عند عامة العلماء ، ولم يخالف فيه إلا أبو ثور . وقد قدمنا ذلك واضحا بأدلته في سورة " المائدة " ، فالآية على هذا القول كقوله وأنذر عشيرتك الأقربين [ 26 \ 214 ] ; فإنه لا يدل على عدم إنذار غيرهم ، كما هو واضح . والعلم عند الله - تعالى - ا هـ منه . قوله - تعالى - : وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه [ 42 \ 7 ] . تضمنت هذه الآية الكريمة أمرين : أحدهما : أن من حكم إيحائه - تعالى - إلى نبينا - صلى الله عليه وسلم - هذا القرآن العربي - إنذار يوم الجمع ، فقوله - تعالى - : وتنذر يوم الجمع معطوف على قوله : لتنذر أم القرى أي لأجل أن تنذر أم القرى وأن تنذر يوم الجمع ، فحذف في الأول أحد المفعولين ، وحذف في الثاني أحدهما ، فكان ما أثبت في كل منهما دليلا على ما حذف في الثاني ، ففي الأول حذف المفعول الثاني ، والتقدير " لتنذر أم القرى " ، أي أهل مكة " ومن حولها " ، عذابا شديدا إن لم يؤمنوا . وفي الثاني حذف المفعول الأول ، أي وتنذر الناس يوم الجمع وهو يوم القيامة ، أي تخوفهم مما فيه من الأهوال والأوجال; ليستعدوا لذلك في دار الدنيا . [ ص: 46 ] والثاني : أن يوم الجمع المذكور ( لا ريب فيه ) ، أي لا شك في وقوعه . وهذان الأمران اللذان تضمنتهما هذه الآية الكريمة - جاءا موضحين في آيات أخر . أما تخويفه الناس يوم القيامة ، فقد ذكر في مواضع من كتاب الله ، كقوله - تعالى - : واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله الآية [ 2 \ 281 ] . وقوله - تعالى - : وأنذرهم يوم الآزفة الآية [ 40 \ 18 ] . وقوله - تعالى - : فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا السماء منفطر به [ 73 \ 17 - 18 ] . وقوله - تعالى - : ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين [ 83 \ 4 - 6 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة . وأما الثاني منهما : وهو كون يوم القيامة ( لا ريب فيه ) فقد جاء في مواضع أخر ، كقوله - تعالى - : الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه [ 4 \ 87 ] . وقوله : فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه [ 3 \ 25 ] . وقوله - تعالى - : وأن الساعة آتية لا ريب فيها الآية [ 22 \ 7 ] . وقوله - تعالى - وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة الآية [ 45 \ 32 ] . إلى غير ذلك من الآيات . وإنما سمي يوم القيامة يوم الجمع ; لأن الله يجمع فيه جميع الخلائق . والآيات الموضحة لهذا المعنى كثيرة ، كقوله - تعالى - : قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم [ 56 \ 49 - 50 ] . وقوله - تعالى - : هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين [ 77 \ 38 ] . وقوله - تعالى - : الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة الآية [ 4 \ 87 ] . وقوله - تعالى - : يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن [ 64 \ 9 ] . وقوله - تعالى - ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود [ 11 \ 103 ] . وقوله - تعالى - : فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون [ 3 \ 25 ] . وقوله - تعالى - : وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا [ 18 \ 47 ] . وقد بين - تعالى - شمول ذلك الجمع لجميع الدواب والطير في قوله - تعالى - : وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون [ 6 \ 38 ] . والآيات الدالة على الجمع المذكورة كثيرة . قوله - تعالى - : فريق في الجنة وفريق في السعير . [ ص: 47 ] ما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن الله خلق الخلق ، وجعل منهم فريقا سعداء ، وهم أهل الجنة ، وفريقا أشقياء وهم أصحاب السعير ، جاء موضحا في آيات أخر ، كقوله - تعالى - : هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن [ 64 \ 2 ] . وقوله - تعالى - : ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم [ 11 \ 118 - 119 ] ، أي ولذلك الاختلاف إلى مؤمن وكافر وشقي وسعيد - خلقهم - على الصحيح - . ونصوص الوحي الدالة على ذلك كثيرة جدا . وقد ذكرنا في كتابنا : " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " - وجه الجمع بين قوله : ولذلك خلقهم [ 11 \ 119 ] على التفسير المذكور ، وبين قوله وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [ 51 \ 56 ] . وسنذكر ذلك - إن شاء الله - في سورة " الذاريات " . وقد قدمنا معنى السعير بشواهده العربية في أول سورة " الحج " في الكلام على قوله - تعالى - : ويهديه إلى عذاب السعير الآية [ 22 \ 4 ] . والجنة في لغة العرب البستان . ومنه قول زهير بن أبي سلمى : كأن عيني في غربي مقتلة من النواضح تسقي جنة سحقا فقوله : جنة سحقا ، يعني بستانا طويل النخل ، وفي اصطلاح الشرع هي دار الكرامة التي أعد الله لأوليائه يوم القيامة . والفريق : الطائفة من الناس ، ويجوز تعدده إلى أكثر من اثنين ، ومنه قول نصيب : فقال فريق القوم ، لا وفريقهم نعم ، وفريق قال ويحك ما ندري والمسوغ للابتداء بالنكرة في قوله : ( فريق في الجنة ) ، أنه في معرض التفصيل . ونظيره من كلام العرب قول امرئ القيس : فلما دنوت تسديتها فثوبا نسيت وثوبا أجر قوله - تعالى - : وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله . ما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن ما اختلف فيه الناس من الأحكام فحكمه إلى الله وحده ، لا إلى غيره - جاء موضحا في آيات كثيرة . [ ص: 48 ] فالإشراك بالله في حكمه كالإشراك به في عبادته ، قال في حكمه : ولا يشرك في حكمه أحدا [ 18 \ 26 ] . وفي قراءة ابن عامر من السبعة ولا تشرك في حكمه أحدا بصيغة النهي . وقال في الإشراك به في عبادته : فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا [ 18 \ 110 ] ، فالأمران سواء كما ترى إيضاحه - إن شاء الله - . وبذلك تعلم أن الحلال هو ما أحله الله ، والحرام هو ما حرمه الله ، والدين هو ما شرعه الله ، فكل تشريع من غيره باطل ، والعمل به بدل تشريع الله عند من يعتقد أنه مثله أو خير منه - كفر بواح لا نزاع فيه . وقد دل القرآن في آيات كثيرة على أنه لا حكم لغير الله ، وأن اتباع تشريع غيره كفر به ، فمن الآيات الدالة على أن الحكم لله وحده قوله - تعالى - : إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه [ 12 \ 40 ] . وقوله - تعالى - : إن الحكم إلا لله عليه توكلت الآية [ 12 \ 67 ] . وقوله - تعالى - : إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين [ 6 \ 57 ] . وقوله : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون [ 5 \ 44 ] . وقوله - تعالى - : ولا يشرك في حكمه أحدا [ 18 \ 26 ] . وقوله - تعالى - : كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون [ 28 \ 88 ] . وقوله - تعالى - : له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون [ 28 \ 70 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة . وقد قدمنا إيضاحها في سورة " الكهف " في الكلام على قوله - تعالى - : ولا يشرك في حكمه أحدا [ 18 \ 26 ] . وأما الآيات الدالة على أن اتباع تشريع غير الله المذكور كفر ، فهي كثيرة جدا ، كقوله - تعالى - : إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون [ 16 \ 100 ] . وقوله - تعالى - : وإن أطعتموهم إنكم لمشركون [ 16 \ 121 ] . وقوله - تعالى - : ألم أعهد إليكم يابني آدم أن لا تعبدوا الشيطان الآية [ 36 \ 60 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا ، كما تقدم إيضاحه في " الكهف " . [ ص: 49 ] مسألة اعلم أن الله - جل وعلا - بين في آيات كثيرة صفات من يستحق أن يكون الحكم له ، فعلى كل عاقل أن يتأمل الصفات المذكورة التي سنوضحها الآن - إن شاء الله - ويقابلها مع صفات البشر المشرعين للقوانين الوضعية ، فينظر هل تنطبق عليهم صفات من له التشريع ، سبحان الله وتعالى عن ذلك . فإن كانت تنطبق عليهم - ولن تكون - فليتبع تشريعهم . وإن ظهر يقينا أنهم أحقر وأخس وأذل وأصغر من ذلك ، فليقف بهم عند حدهم ، ولا يجاوزه بهم إلى مقام الربوبية . سبحانه وتعالى أن يكون له شريك في عبادته أو حكمه أو ملكه . فمن الآيات القرآنية التي أوضح بها - تعالى - صفات من له الحكم والتشريع قوله هنا : وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ، ثم قال مبينا صفات من له الحكم : ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير له مقاليد السماوات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيء عليم [ 42 \ 10 - 12 ] . فهل في الكفرة الفجرة المشرعين للنظم الشيطانية من يستحق أن يوصف بأنه الرب الذي تفوض إليه الأمور ، ويتوكل عليه ، وأنه فاطر السماوات والأرض - أي خالقهما ومخترعهما - على غير مثال سابق ، وأنه هو الذي خلق للبشر أزواجا ، وخلق لهم أزواج الأنعام الثمانية المذكورة في قوله - تعالى - : ثمانية أزواج من الضأن اثنين الآية [ 6 \ 143 ] ، وأنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، وأنه له مقاليد السماوات والأرض ، وأنه هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر - أي يضيقه على من يشاء - وهو بكل شيء عليم . فعليكم أيها المسلمون أن تتفهموا صفات من يستحق أن يشرع ويحلل ويحرم ، ولا تقبلوا تشريعا من كافر خسيس حقير جاهل . ونظير هذه الآية الكريمة قوله - تعالى - فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا [ 4 \ 59 ] ، فقوله فيها : فردوه إلى الله كقوله في هذه : فحكمه إلى الله . [ ص: 50 ] وقد عجب نبيه - صلى الله عليه وسلم - بعد قوله : فردوه إلى الله من الذين يدعون الإيمان مع أنهم يريدون المحاكمة إلى من لم يتصف بصفات من له الحكم ، المعبر عنه في الآية بالطاغوت ، وكل تحاكم إلى غير شرع الله فهو تحاكم إلى الطاغوت ، وذلك في قوله - تعالى - : ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا [ 4 \ 60 ] . فالكفر بالطاغوت الذي صرح الله بأنه أمرهم به في هذه الآية - شرط في الإيمان كما بينه - تعالى - في قوله : فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى [ 2 \ 256 ] . فيفهم منه أن من لم يكفر بالطاغوت لم يتمسك بالعروة الوثقى ، ومن لم يستمسك بها فهو مترد مع الهالكين . ومن الآيات الدالة على ذلك قوله - تعالى - : له غيب السماوات والأرض أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا [ 18 \ 26 ] . فهل في الكفرة الفجرة المشرعين من يستحق أن يوصف بأن له غيب السماوات والأرض ؟ وأن يبالغ في سمعه وبصره لإحاطة سمعه بكل المسموعات وبصره بكل المبصرات ؟ وأنه ليس لأحد دونه من ولي ؟ سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا . ومن الآيات الدالة على ذلك قوله - تعالى - : ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون [ 28 \ 88 ] . فهل في الكفرة الفجرة المشرعين من يستحق أن يوصف بأنه الإله الواحد ؟ وأن كل شيء هالك إلا وجهه ؟ وأن الخلائق يرجعون إليه ؟ تبارك ربنا وتعاظم وتقدس أن يوصف أخس خلقه بصفاته . ومن الآيات الدالة على ذلك قوله - تعالى - : ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير [ 40 \ 12 ] . ![]()
__________________
|
#10
|
||||
|
||||
![]() ![]() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد السابع الحلقة (468) سُورَةُ الشُّورَى صـ 51 إلى صـ 58 [ ص: 51 ] فهل في الكفرة الفجرة المشرعين النظم الشيطانية من يستحق أن يوصف في أعظم كتاب سماوي بأنه العلي الكبير ؟ سبحانك ربنا وتعاليت عن كل ما لا يليق بكمالك وجلالك . ومن الآيات الدالة على ذلك قوله - تعالى - : وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون [ 28 \ 73 ] . فهل في مشرعي القوانين الوضعية من يستحق أن يوصف بأن له الحمد في الأولى والآخرة ، وأنه هو الذي يصرف الليل والنهار ، مبينا بذلك كمال قدرته ، وعظمة إنعامه على خلقه . سبحان خالق السماوات والأرض - جل وعلا - أن يكون له شريك في حكمه أو عبادته أو ملكه . ومن الآيات الدالة على ذلك قوله - تعالى - : إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون [ 12 \ 40 ] . فهل في أولئك من يستحق أن يوصف بأنه هو الإله المعبود وحده ، وأن عبادته وحده هي الدين القيم ؟ سبحان الله وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا . ومنها قوله - تعالى - : إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون [ 12 \ 67 ] . فهل فيهم من يستحق أن يتوكل عليه ، وتفوض الأمور إليه ؟ ومنها قوله - تعالى - : [ ص: 52 ] وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون [ 5 \ 49 - 50 ] . فهل في أولئك المشرعين من يستحق أن يوصف بأن حكمه بما أنزل الله وأنه مخالف لاتباع الهوى ؟ وأن من تولى عنه أصابه الله ببعض ذنوبه ؟ لأن الذنوب لا يؤاخذ بجميعها إلا في الآخرة ؟ وأنه لا حكم أحسن من حكمه لقوم يوقنون ؟ سبحان ربنا وتعالى عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله . ومنها قوله - تعالى - : إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين [ 6 \ 57 ] . فهل فيهم من يستحق أن يوصف بأنه يقص الحق ، وأنه خير الفاصلين ؟ ومنها قوله - تعالى - : أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا الآية [ 6 \ 114 - 115 ] . فهل في أولئك المذكورين من يستحق أن يوصف بأنه هو الذي أنزل هذا الكتاب مفصلا ، الذي يشهد أهل الكتاب أنه منزل من ربك بالحق ، وبأنه تمت كلماته صدقا وعدلا - أي صدقا في الأخبار ، وعدلا في الأحكام - وأنه لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم ؟ سبحان ربنا ، ما أعظمه ، وما أجل شأنه . ومنها قوله - تعالى - : قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون [ 10 \ 59 ] . فهل في أولئك المذكورين من يستحق أن يوصف بأنه هو الذي ينزل الرزق للخلائق ، وأنه لا يمكن أن يكون تحليل ولا تحريم إلا بإذنه ؟ لأن من الضروري أن من خلق الرزق وأنزله هو الذي له التصرف فيه بالتحليل والتحريم ؟ سبحانه - جل وعلا - أن يكون له شريك في التحليل والتحريم . ومنها قوله - تعالى - : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون [ 5 \ 44 ] . [ ص: 53 ] فهل فيهم من يستحق الوصف بذلك ؟ سبحان ربنا وتعالى عن ذلك . ومنها قوله - تعالى - : ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل ولهم عذاب أليم [ 16 \ 116 - 117 ] . فقد أوضحت الآية أن المشرعين غير ما شرعه الله إنما تصف ألسنتهم الكذب ، لأجل أن يفتروه على الله ، وأنهم لا يفلحون ، وأنهم يمتعون قليلا ثم يعذبون العذاب الأليم ، وذلك واضح في بعد صفاتهم من صفات من له أن يحلل ويحرم . ومنها قوله - تعالى - : قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم [ 6 \ 150 ] . فقوله : هلم شهداءكم صيغة تعجيز ، فهم عاجزون عن بيان مستند التحريم . وذلك واضح في أن غير الله لا يتصف بصفات التحليل ولا التحريم . ولما كان التشريع وجميع الأحكام - شرعية كانت أو كونية قدرية - من خصائص الربوبية - كما دلت عليه الآيات المذكورة - كان كل من اتبع تشريعا غير تشريع الله قد اتخذ ذلك المشرع ربا ، وأشركه مع الله . والآيات الدالة على هذا كثيرة ، وقد قدمناها مرارا وسنعيد منها ما فيه كفاية ، فمن ذلك - وهو من أوضحه وأصرحه - أنه في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقعت مناظرة بين حزب الرحمن وحزب الشيطان في حكم من أحكام التحريم والتحليل ، وحزب الرحمن يتبعون تشريع الرحمن في وحيه في تحريمه ، وحزب الشيطان يتبعون وحي الشيطان في تحليله . وقد حكم الله بينهما وأفتى فيما تنازعوا فيه فتوى سماوية قرآنية تتلى في سورة " الأنعام " . وذلك أن الشيطان لما أوحى إلى أوليائه فقال لهم في وحيه : سلوا محمدا عن الشاة تصبح ميتة ، من هو الذي قتلها ؟ فأجابوهم أن الله هو الذي قتلها . فقالوا : الميتة إذا ذبيحة الله ، وما ذبحه الله كيف تقولون إنه حرام ؟ مع أنكم تقولون [ ص: 54 ] إنما ذبحتموه بأيديكم حلال ، فأنتم إذا أحسن من الله وأحل ذبيحة . فأنزل الله بإجماع من يعتد به من أهل العلم قوله - تعالى - : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه [ 6 \ 121 ] ، يعني الميتة ، أي وإن زعم الكفار أن الله ذكاها بيده الكريمة بسكين من ذهب . وإنه لفسق [ 6 \ 121 ] ، والضمير عائد إلى الأكل المفهوم من قوله : ولا تأكلوا ، وقوله : لفسق ، أي خروج عن طاعة الله ، واتباع لتشريع الشيطان . وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم [ 6 \ 121 ] . أي بقولهم : ما ذبحتموه حلال وما ذبحه الله حرام ، فأنتم إذا أحسن من الله ، وأحل تذكية ، ثم بين الفتوى السماوية من رب العالمين ، في الحكم بين الفريقين في قوله - تعالى - : وإن أطعتموهم إنكم لمشركون [ 6 \ 121 ] فهي فتوى سماوية من الخالق - جل وعلا - صرح فيها بأن متبع تشريع الشيطان المخالف لتشريع الرحمن - مشرك بالله . وهذه الآية الكريمة مثل بها بعض علماء العربية لحذف اللام الموطئة للقسم ، والدليل على اللام الموطئة المحذوفة عدم اقتران جملة ( إنكم لمشركون ) بالفاء ; لأنه لو كان شرطا لم يسبقه قسم لقيل : فإنكم لمشركون على حد قوله في الخلاصة : واقرن بفا حتما جوابا لو جعل شرطا لأن أو غيرها لم ينجعل وهو مذهب سيبويه ، وهو الصحيح ، وحذف الفاء في مثل ذلك من ضرورة الشعر . وما زعمه بعضهم من أنه يجوز مطلقا ، وأن ذلك دلت عليه آيتان من كتاب الله : إحداهما : قوله - تعالى - : وإن أطعتموهم إنكم لمشركون . والثانية : قوله - تعالى - : وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم [ 42 ] بحذف الفاء في قراءة نافع وابن عامر من السبعة خلاف التحقيق . بل المسوغ لحذف الفاء في آية : إنكم لمشركون تقدير القسم المحذوف قبل الشرط المدلول عليه بحذف الفاء ، على حد قوله في الخلاصة : واحذف لدى اجتماع شرط وقسم جواب ما أحرت فهو ملتزم وعليه ، فجملة إنكم لمشركون جواب القسم المقدر ، وجواب الشرط محذوف ، فلا دليل في الآية لحذف الفاء المذكور . [ ص: 55 ] والمسوغ له في آية بما كسبت أيديكم أن ( ما ) في قراءة نافع وابن عامر موصولة ، كما جزم به غير واحد من المحققين ، أي والذي أصابكم من مصيبة كائن وواقع بسبب ما كسبت أيديكم . وأما على قراءة الجمهور : فما موصولة أيضا ، ودخول الفاء في خبر الموصول جائز كما أن عدمه جائز ، فكلتا القراءتين جارية على أمر جائز . ومثال دخول الفاء في خبر الموصول قوله - تعالى - : الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون [ 2 \ 274 ] وهو كثير في القرآن . وقال بعضهم : إن ( ما ) في قراءة الجمهور شرطية ، وعليه فاقتران الجزاء بالفاء واجب . أما على قراءة نافع وابن عامر فهي موصولة ليس إلا ، كما هو التحقيق - إن شاء الله - . وكون ( ما ) شرطية على قراءة ، وموصولة على قراءة - لا إشكال فيه ; لما قدمنا من أن القراءتين في الآية الواحدة كالآيتين . ومن الآيات الدالة على نحو ما دلت عليه آية " الأنعام " المذكورة قوله - تعالى - : إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون [ 16 \ 100 ] . فصرح بتوليهم للشيطان ، أي باتباع ما يزين لهم من الكفر والمعاصي مخالفا لما جاءت به الرسل ، ثم صرح بأن ذلك إشراك به في قوله - تعالى - : والذين هم به مشركون ، وصرح أن الطاعة في ذلك الذي يشرعه الشيطان لهم ويزينه عبادة للشيطان . ومعلوم أن من عبد الشيطان فقد أشرك بالرحمن ، قال - تعالى - : ألم أعهد إليكم يابني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جبلا كثيرا ، ويدخل فيهم متبعو نظام الشيطان دخولا أولياء أفلم تكونوا تعقلون [ 36 \ 60 - 62 ] . ثم بين المصير الأخير لمن كان يعبد الشيطان في دار الدنيا ، في قوله - تعالى - : هذه جهنم التي كنتم توعدون اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون [ 36 \ 63 - 65 ] . وقال - تعالى - عن نبيه إبراهيم : ياأبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا [ 19 \ 44 ] فقوله : [ ص: 56 ] ( لا تعبد الشيطان ) أي باتباع ما يشرعه من الكفر والمعاصي ، مخالفا لما شرعه الله . وقال - تعالى - : إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا [ 4 \ 117 ] ، فقوله : وإن يدعون إلا شيطانا يعني ما يعبدون إلا شيطانا مريدا . وقوله - تعالى - : ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون [ 34 \ 40 - 41 ] . فقوله - تعالى - : بل كانوا يعبدون الجن أي يتبعون الشياطين ويطيعونهم فيما يشرعون ويزينون لهم من الكفر والمعاصي ، على أصح التفسيرين . والشيطان عالم بأن طاعتهم له المذكورة إشراك به كما صرح بذلك وتبرأ منهم في الآخرة ، كما نص الله عليه في سورة " إبراهيم " في قوله - تعالى - : وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم إلى قوله : إني كفرت بما أشركتمون من قبل [ 14 \ 22 ] . فقد اعترف بأنهم كانوا مشركين به من قبل ، أي في دار الدنيا ، ولم يكفر بشركهم ذلك إلا يوم القيامة . وقد أوضح النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا المعنى الذي بينا في الحديث لما سأله عدي بن حاتم - رضي الله عنه - عن قوله : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا [ 9 \ 31 ] كيف اتخذوهم أربابا ؟ وأجابه - صلى الله عليه وسلم - أنهم أحلوا لهم ما حرم الله ، وحرموا عليهم ما أحل الله - فاتبعوهم ، وبذلك الاتباع اتخذوهم أربابا . ومن أصرح الأدلة في هذا أن الكفار إذا أحلوا شيئا يعلمون أن الله حرمه ، وحرموا شيئا يعلمون أن الله أحله - فإنهم يزدادون كفرا جديدا بذلك مع كفرهم الأول ، وذلك في قوله - تعالى - : إنما النسيء زيادة في الكفر إلى قوله : والله لا يهدي القوم الكافرين [ 9 \ 37 ] . وعلى كل حال فلا شك أن كل من أطاع غير الله في تشريع مخالف لما شرعه الله - فقد أشرك به مع الله ، كما يدل لذلك قوله : وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم [ 6 \ 137 ] . فسماهم شركاء لما أطاعوهم في قتل الأولاد . [ ص: 57 ] وقوله - تعالى - : أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله [ 42 \ 21 ] فقد سمى - تعالى - الذين يشرعون من الدين ما لم يأذن به الله - شركاء ، ومما يزيد ذلك إيضاحا أن ما ذكره الله عن الشيطان يوم القيامة من أنه يقول للذين كانوا يشركون به في دار الدنيا : ( إني كفرت بما أشركتموني من قبل ) - أن ذلك الإشراك المذكور ليس فيه شيء زائد على أنه دعاهم إلى طاعته فاستجابوا له ، كما صرح بذلك في قوله - تعالى - عنه : وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي الآية ، وهو واضح كما ترى . قوله - تعالى - : فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه . قوله - تعالى - : فاطر السماوات والأرض تقدم تفسيره في أول سورة " فاطر " . وقوله جعل لكم من أنفسكم أزواجا ، أي خلق لكم أزواجا من أنفسكم ، كما قدمنا الكلام عليه في سورة " النحل " في الكلام على قوله - تعالى - : والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة [ 16 \ 72 ] . وبينا أن المراد بالأزواج الإناث ، كما يوضحه قوله - تعالى - : ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة الآية [ 30 \ 21 ] . وقوله - تعالى - : وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى [ 53 \ 45 - 46 ] . وقوله : فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى [ 75 \ 39 ] . وقوله - تعالى - : والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى وما خلق الذكر والأنثى [ 92 \ 1 - 3 ] . وقوله في آدم : ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها الآية [ 4 \ 1 ] . وقوله - تعالى - فيه أيضا : هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها الآية [ 7 \ 189 ] . وقوله - تعالى - فيه أيضا : خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها الآية [ 39 \ 6 ] . وقوله - تعالى - : ومن الأنعام أزواجا هي الثمانية المذكورة في قوله - تعالى - : ثمانية أزواج من الضأن اثنين الآية [ 6 \ 143 ] . وفي قوله : خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج [ 39 \ 6 ] . وهي ذكور الضأن والمعز والإبل والبقر وإناثها ، كما قدمنا إيضاحه في سورة " آل عمران " في الكلام على قوله - تعالى - : والأنعام والحرث [ 3 \ 14 ] . [ ص: 58 ] وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : يذرؤكم فيه الظاهر أن ضمير الخطاب في قوله : يذرؤكم شامل للآدميين والأنعام ، وتغليب الآدميين على الأنعام في ضمير المخاطبين في قوله : ( يذرؤكم ) واضح لا إشكال فيه . والتحقيق - إن شاء الله - أن الضمير في قوله : " فيه " راجع إلى ما ذكر من الذكور والإناث من بني آدم والأنعام ، في قوله - تعالى - : جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا سواء قلنا إن المعنى : أنه جعل للآدميين إناثا من أنفسهم ، أي من جنسهم ، وجعل للأنعام أيضا إناثا كذلك ، أو قلنا : إن المراد بالأزواج الذكور والإناث منهما معا . وإذا كان ذلك كذلك ، فمعنى الآية الكريمة ( يذرؤكم ) ، أي يخلقكم ويبثكم وينشركم ( فيه ) ، أي فيما ذكر من الذكور والإناث ، أي في ضمنه عن طريق التناسل ، كما هو معروف . ويوضح ذلك في قوله - تعالى - : اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء [ 4 \ 1 ] . فقوله - تعالى - : وبث منهما رجالا كثيرا ونساء يوضح معنى قوله : يذرؤكم فيه . فإن قيل : ما وجه إفراد الضمير المجرور في قوله : ( يذرؤكم فيه ) مع أنه على ما ذكرتم عائد إلى الذكور والإناث من الآدميين والأنعام ؟ فالجواب : أن من أساليب اللغة العربية التي نزل بها القرآن رجوع الضمير أو الإشارة بصيغة الإفراد إلى مثنى أو مجموع باعتبار ما ذكر مثلا . ومثاله في الضمير : قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به الآية [ 6 \ 46 ] . فالضمير في قوله : ( به ) مفرد ، مع أنه راجع إلى السمع والأبصار والقلوب . فقوله : يأتيكم به أي بما ذكر من سمعكم وأبصاركم وقلوبكم ، ومن هذا المعنى قول رؤبة بن العجاج : فيها خطوط من سواد وبلق كأن في الجلد توليع البهق فقوله : كأنه ، أي ما ذكر من خطوط من سواد وبلق . ![]()
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |