شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي - الصفحة 47 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حول مصنفات وآثار الإمام ابن جرير الطبري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 11 - عددالزوار : 524 )           »          سيرة المحدث المربي فضيلة الشيخ الدكتور خلدون الأحدب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          ذواقة العربية ... وهب رومية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          من مائدة الصحابة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 6 - عددالزوار : 1600 )           »          حكاية لا تصح مذكورة في ترجمة العلامة ابن باز (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          الخلاصة النافعة في التعريف بابن تيمية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          مفهوم الإنسانية الحقة، في ميزان الله والخلق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          وسائل صناعة الكراهية بين الثقافات: الاستشراق الإعلامي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          العلم والتقنية؛ أية علاقة؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          من وسائل صناعة الكراهية بين الثقافات: الاستشراق والتنصير (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام
التسجيل التعليمـــات التقويم

الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #461  
قديم 13-02-2025, 10:23 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,234
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الوديعة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (384)

صـــــ(1) إلى صــ(15)




شرح زاد المستقنع - باب الوديعة [1]
لقد حث الإسلام على حفظ الودائع وصيانتها، وهي مما توثق الروابط بين المسلمين وتزيدها صلابة، وفي طيات هذا الدرس العديد من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالوديعة وما يترتب على التفريط فيها.
تعريف الوديعة لغة واصطلاحا
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الوديعة] .
الوديعة في لغة العرب مأخوذة من الودع، يقال: ودع الشيء إذا تركه، ومنه قول الحق تبارك وتعالى: {ما ودعك ربك وما قلى} [الضحى:3] ما ودعك يعني: ما تركك، وما قلى، يعني: ما هجرك؛ لأن الوحي انقطع عن النبي صلى الله عليه وسلم مدة من الزمن، فقالت امرأة تهزأ بالنبي صلى الله عليه وسلم: ما أظن نجيك إلا قلاك، فأنزل الله عز وجل: {والضحى * والليل إذا سجى * ما ودعك ربك وما قلى} [الضحى:1 - 3] أقسم الله بالضحى الذي هو بداية النهار فكنايته عن النهار كله، {والليل إذا سجى} [الضحى:2] الذي هو ابتداء الليل، فأقسم الله بابتداء الليل وبابتداء النهار، والزمان كله إما ليل أو نهار، ثم قال تعالى: {ما ودعك ربك وما قلى} [الضحى:3] يعني: ما تركك، فالودع هو الترك، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم وغيره: (لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين) فقوله: (لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات) يعني: عن تركهم صلاة الجمعة، (أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين) فلا ينتفعون بموعظة أبدا، فالقلب إذا ختم عليه -والعياذ بالله- لو صبت عليه مواعظ الدنيا لم تؤثر فيه شيئا، نسأل الله السلامة؛ لأنه يغلق عليه تماما.
فلذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات) يعني: عن تركهم شهود صلاة الجمعة، فالودع هنا بمعنى الترك.
وأما الوديعة في اصطلاح العلماء، فأهل العلم رحمهم الله إذا أطلقوا هذا المصطلح الشرعي فإنهم يعنون به التوكيل في حفظ مال ونحوه.
وبعضهم يقول: تسليط الغير على حفظ المملوك أو المحترم شرعا، والمعنى متقارب، فإذا كان عندك مال وأردت حفظه عند شخص فقلت له: خذ هذا المال وديعة عندك فقد وكلته، وأقمته مقام نفسك بحفظ هذا المال ورعايته وصيانته، فالوديعة توكيل وتفويض من الشخص المالك للغير في أن يحفظ المال، فنزله منزلته، وذلك لأنك لن تودع إلا عند من تأتمنه؛ لأن الوديعة أمانة، فتوكيل الغير المراد به التفويض في حفظ المال، مثل أن تقول له: هذه مائة ألف ضعها عندك وديعة، وهذا كيلو من الذهب ضعه وديعة عندك، هذا كله يعتبر توكيل بشيء مخصوص وهو الحفظ.
ولما قال العلماء: الوديعة توكيل معناه أنه تنطبق على الوديعة ما ينطبق على الوكالة، فلا بد أن تكون الوديعة -أي: الإيداع وطلب الحفظ- صادرة من شخص له حق أن يودع، أو يصح من مثله أن يودع، ومثل هذا البالغ العاقل الرشيد الذي له حق التصرف في المال، فلا تصح الوديعة من صبي إلا إذا كان مميزا مأذونا له بالتجارة فهذا يستثنى؛ لأننا إذا أذنا للصبي بالتجارة فإن من لازم الإذن بالتجارة أنه يحتاج إلى حفظ ماله، والقاعدة أن الإذن بالشيء إذن بلازمه، فإذا أذن الوالد لولده أن يتاجر بماله، فجلس في دكانه، فإنه يصح لمثله أن يوكل، ويصح لمثله أن يودع إذا كان في حدود ما فوض إليه كما تقدم معنا في باب الوكالة.
كذلك: لا تصح الوديعة من مجنون، فلو أن شخصا مجنونا أعطى مالا لشخص، وقال: هذا وديعة عندك لم تنطبق عليه أحكام الوديعة، وهكذا بالنسبة للمحجور عليه لسفه، فإنه ليس له حق التصرف في ذلك، وليس له حق إيداعه.
كذلك من يودع عنده يشترط فيه أن يكون عاقلا، وأن يكون رشيدا، وأن يكون حرا، وأن يكون بالغا إلا على التفصيل الذي ذكرناه في المأذون له بالتجارة، والسبب في ذلك أنه إذا لم يكن عاقلا فإنه لا يستطيع أن يحفظ ماله فضلا عن أن يحفظ أموال الآخرين، فمثله ليس بأهل لأن يحفظ الوديعة؛ ولأن الغالب فيه أن يضيع المال، فيفوت المقصود من حفظ الوديعة.
قول العلماء رحمهم الله: توكيل الغير في حفظ المال ونحوه، وبعض العلماء يقول: توكيل الغير في حفظ المملوك أو المحترم شرعا، مثلا: المال يشمل الذهب والفضة وغيرها من سائر الأشياء، بل قد تقول له: عمارتي وديعة عندك، فهو يشمل الأموال والعقارات، ولكن قول بعض العلماء أو المحترم شرعا يشمل ما ليس مملوكا، فالقرآن محترم شرعا وليس بمملوك -على قول من يقول لا يجوز بيعه- فحينئذ يدخل في الوديعة، يمكن أن يأخذ مصحفا ويقول لشخص: هذا وديعة عندك، فهو ليس بمال على القول بأنه لا يجوز بيعه، وهذا مذهب طائفة من العلماء: ومنع بيعه لدى ابن حنبل وكرهه لدى ابن شافع جلي وقد تقدمت معنا هذه المسألة في البيع، فإذا قلنا: إن الوديعة تختص بالأموال يشكل علينا أن هناك أشياء ليست بأموال وليست في حكم الأموال ويقال: إنها وديعة وتأخذ حكم الوديعة، كما مثلنا بالقرآن وما في حكمه.
الأدلة على مشروعية الوديعة والحكمة من تشريعها
الوديعة مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع، أما كتاب الله عز وجل فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} [النساء:58] ، فأمر الله سبحانه وتعالى بأداء الأمانات، وهذا يدل على أنها كانت محفوظة عند أهلها، ومن هنا قال طائفة من أهل العلم: هذه الآية الكريمة أصل في مشروعية الوديعة، وأصل في جواز الإيداع عند الغير، وأنه يجب على من استودع أن يحفظ الوديعة وأن يرد الأمانات إلى أهلها.
ومن السنة قوله عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح: (أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك) .
وأجمع أهل العلم رحمهم الله على مشروعية الوديعة، وأنه يشرع للإنسان أن يحفظ ماله عند الغير، ويشرع له -أيضا- أن يقوم بحفظ أموال الناس، لكن الواجب على المسلم أن لا يتحمل مسئولية حفظ الأموال ومسئولية الودائع إلا إذا غلب على ظنه أنه يحفظ حقوق الناس، وأنه لا يخاطر بهذه الحقوق، ولا يجوز لمسلم أن يضر بمصالح إخوانه المسلمين فيمكنهم من الإيداع عنده والغالب على ظنه أن ودائعهم لا تحفظ؛ لأن هذا خلاف النصيحة.
ومن الحكم المستفادة من شرعية الوديعة أنها تعين على جلب المصالح ودفع المفاسد والمضار، ففيها مصلحة للشخص الذي يملك مالا ولا يستطيع حفظه، كما لو أن شخصا أراد السفر وغلب على ظنه أنه لو سافر يضيع ماله أو يتعرض للتلف، فاستودعه شخصا؛ فإن هذا يدفع عنه الضرر ويحقق له مصلحة بقاء المال، كذلك فيه مصلحة للشخص الذي توضع عنده الودائع، لما في ذلك من الأجر العظيم والثواب الكبير، ولما فيها من التراحم والتواصل والتعاطف؛ لأن المسلم لا يحفظ مال أخيه المسلم إلا إذا رحمه، وأحس بما بينه وبين أخيه من أخوة الإسلام التي توجب عليه أن يحسن إليه وأن يبذل له ما يستطيع بذله خاصة عند حاجته ومن ذلك الوديعة، ففي الوديعة خير كثير، ولذلك تزداد المحبة بين الناس بالودائع، فلو أن شخصا له مائة ألف وقال للآخر: ضعها عندك وديعة، فإن الشخص الذي يدفع الوديعة سيشعر أن أخاه أحسن إليه فيحبه؛ لأن القلوب جبلت على محبة من أحسن إليها.
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم لطالما استعبد الناس إحسان فالإحسان يوجب محبة الناس وإكرامهم للمحسن.
كذلك أيضا الوديعة فيها خير بالنسبة للشخص الذي يقوم بالوديعة، فإنه إذا جاءه أخوه وقال له: ضع هذه المائة ألف أمانة عندك فإنه سيشعر أن أخاه يثق فيه، وأن أخاه قد أنزله منزلة من بين سائر الناس إذ ائتمنه على عورة من عوراته، أو على حق من حقوقه، أو على أمواله، وهذا يدل على أن منزلة المودع عنده كبيرة، ولذلك ما أقبح أن يخون الإنسان هذه الأمانة أو يضيع هذه الوديعة، ومن هنا كان يقول بعض العلماء رحمهم الله: إن من سنن الله عز وجل أنه ما خان أحد وديعته ولا فرط فيها ولا ضيعها إلا عاقبه الله في الدنيا قبل الآخرة، وتأتي العواقب على أسوأ ما يكون، خاصة إذا كان في إنكار الوديعة وجحود الوديعة فإن الله يخذله.
وكان العلماء يستشهدون بالحادثة المشهورة التي وقعت في زمان بني العباس، أن رجلا أراد الحج إلى بيت الله الحرام، وكان معه هميان أو كمر، وجمع فيه ماله وتجارة عمره، وكان بداخله من الجواهر الغالية الثمن التي هي كل ما يملكه في حياته، فجاء إلى رجل في السوق يعرفه بينه وبينه مودة ومعاملة في التجارة، فقال له: خذ هذا الكمر والهميان أمانة ووديعة عندك حتى أحج وأرجع، فذهب إلى الحج ولما رجع اشترى له هدية من باب المكافأة، فلما دخل عليه إذا بالرجل يتنكر له، سلم عليه فرد عليه السلام بجفاء، فجلس بجواره يظن أنه منكوب أو مكروب فقال له: أولا تعرفني؟ قال: لا أعرفك، من أنت؟ قال: أنا فلان الفلاني، قال: ما أعرفك، فأنكر معرفته، فقال له: بلى أنت تعرفني وقد استودعتك مالي، قال: لا أعرفك وليس لك عندي مال، فحاول الرجل أن يسترد ما أودعه عند صاحبه المرة والمرتين والثلاث حتى يئس منه، فانطلق إلى الخليفة يقال أنه المعتضد رحمه الله، وكان المعتضد من أقوى الخلفاء فراسة ودهاء وذكاء، وشكا إليه ما وجد، فقال له: اذهب إلى الرجل وأمهله ثلاثة أيام، واجلس كل يوم باب دكانه لعله يعرفك أو يتذكرك، فلما مضت ثلاثة أيام رجع إليه وقال: لم يصنع شيئا، بل طردني من أمام الدكان، وقال: لا أراك بعد اليوم تجلس في هذا المكان.
فقال له الخليفة المعتضد رحمه الله: إذا كان من الغد فإني داخل السوق، فإذا دخلت السوق فسأمر بك فكن على مجلسك، وسأسلم عليك وأنت جالس مكانك فلا تتحرك، ولا تبد اهتماما ولا تحدث أي شيء، وأعتني بك ولا تعتن بي، ثم أنصرف عنك، وانظر ماذا يكون من الرجل، فانطلق رحمه الله ومر عليه وهو بالسوق، فلما مر عليه قام السوق وقعد لدخول الخليفة فيه، فلما مر على الرجل سلم عليه فرد عليه السلام كأي شخص، فسأله عن حاله وعن حال أولاده وأهله وإذا به على حاله لم يتحرك فيه شيء، فلما مضى الخليفة إذا بالرجل قد أصابه الرعب مما نظر، الخليفة يسلم عليه ولا يبالي ولا يكترث به، وإذا بالخليفة يسأل عن أولاده وأهله، فعند ذلك استدعاه المودع عنده ولاطفه وقال له: ربما أني نسيت من أنت؟ فقال المودع: أنا فلان بن فلان، تذكرت وديعتي؟ قال: نعم، قال: فأخرج له الهميان -نسأل الله السلامة والعافية- فإذا بالخائن قد خاف من المخلوق أكثر من خوفه من الخالق، قال: فأخرج له الهميان فإذا هو بعينه، فأخذ الهميان وانطلق إلى الخليفة وقال: يا أمير المؤمنين! هذا الرجل وهذا ما صنع، فأمر به رحمه الله فجلده في السوق، وعزره تعزيرا بليغا.
فهذه عاقبته في الدنيا، وعاقبته في الآخرة أشد وأنكى، قل أن يخون أحد وديعة إلا عجل الله له العقوبة في الدنيا قبل الآخرة، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: (أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك) يقولون: حتى منع الشخص أن يخون الأمانة مع وجود الأذية، مع أن الله يقول: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} [الشورى:40] ، فلا يقابل المسيء بالإساءة في الأمانة؛ فإذا خان فلا تخن أنت؛ فإن الأمانة أمرها عظيم.
يقول المصنف رحمه الله: (باب الوديعة) أي: في هذا الموضوع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالودائع، وحقوق الناس المحفوظة عند الغير، وهذا يشمل بيان حقيقة الوديعة، ويشمل عقد الوديعة، وما يترتب عليه من سقوط الضمان وعدمه، ومتى يكون الشخص المودع عنده ضامنا، ومتى يكون أمينا لا يلزمه الضمان.

الأمر المترتب على من تعدى أو فرط في الوديعة
قال رحمه الله تعالى: [إذا تلفت من بين ماله ولم يتعد ولم يفرط لم يضمن] .
يقول المصنف رحمه الله: إذا تلفت من بين ماله ولم يتعد ولم يفرط لم يضمن، وإذا شئت فقل بدل هذه العبارة: إن الوديعة أمانة، ويد المودع عنده يد أمانة لا يضمن إلا إذا فرط أو تعدى؛ لأن إسقاط الضمان مع عدم التفريط والتعدي لا يكون إلا في يد الأمانة، وقد تكلمنا غير مرة في مسائل المعاملات على أن اليد تنقسم إلى يد ضمان ويد أمانة، يد الأمانة هي اليد التي لا نلزمها بالضمان إلا إذا تعدت أو فرطت، فلو حصل شيء سماوي مثل الصواعق والأعاصير فأتلفت وأحرقت هذا الشيء المودع دون أن تفرط ودون أن تتسبب في إحراقه فإنه لا ضمان عليك، هذه يد أمانة لا ضمان على الإنسان فيها إلا إذا تعدى أو فرط، وبناء على ذلك تستطيع أن تختصر الجملة وتقول: إن الوديعة أمانة، ويد المودع عنده يد أمانة لا يضمن إلا إذا فرط أو تعدى.
تقدم معنا مسألة التفريط فهناك أسباب لابد من وجودها وتوفرها إذا قصر الشخص في هذه الأسباب كلها أو بعضها وحصل الضرر فإنه يضمن.
مثال قديم: لو قال شخص لآخر: خذ هذه الناقة وديعة عندك، فمن المعلوم أن الناقة إذا آوت فإنها تعقل؛ فإذا حل عقالها فهذا تفريط، وحينئذ يلزمه الضمان، ويخرج عن كون يده يد أمانة إلى كونه ضامنا، فلو فرت هذه الناقة لزمه ضمانها، لا نقول: إنه مودع عنده، وأنه مؤتمن ويده يد أمانة، نقول: يده يد أمانة ما لم يفرط.
مثال آخر في زماننا: لو قال له: خذ هذه السيارة واجعلها عندك وديعة لا أسمح لك بركوبها ولا استخدامها، اجعلها عندك وديعة واحفظها في داخل الحوش، فأوقفها خارج الحوش، ثم حصل حريق فاحتقرت السيارة، نقول: عليه الضمان لأنه فرط؛ فقد أمره أن يضعها في حرز معين فلم يضعها في ذلك الحرز فيضمن.
قال له: هذا مبلغ عشرة آلاف ريال احفظه عندك، أخذ المبلغ منه فوضعه على مكتبه دون أن يحفظه ثم ذهب، ثم جاء سارق وسرق المبلغ، فمن المعلوم أن العشرة آلاف لا توضع على المكتب، وإنما توضع في الأدراج وتحفظ وتصان، ولكنه لم يقم بصيانة المال، فهذا تفريط وإهمال، فالتفريط والإهمال يوجب الضمان على المودع؛ فليس له أن يقول: يدي يد أمانة لا أضمن، ونقول: يدك يد أمانة بشرط أن لا تفرط، ولكنك فرطت في حقوق الناس، ولذلك يلزمك ضمان هذه الوديعة.
والتعدي مجاوزة الحد، ويكون التعدي بتجاوز الحدود سواء كانت شرعية أو كانت عرفية، وهذه الحدود التي تعرف بالشرع أو بالعرف تصان بها الودائع، فإذا تجاوز المودع عنده هذا الحد، فحينئذ نقول: قد تعدى، أو تجاوز هذا الحد، ففي هذه الحالة يكون التعدي منه موجبا للضمان.
مثال للتعدي فإذا قال له: خذ هذه السيارة وضعها عندك في المزرعة ولا تستعملها، فأخذها واستعملها فهذا تعد؛ لأنه وضع له حدا وقال له: لا تستعملها.
وإذا قال له: خذ هذه السيارة، آذن لك أن تستخدمها في ذهابك إلى المسجد ورجوعك، ولا آذن لك بغير ذلك، فخرج بها للنزهة والسفر، فهذا تعد.
إذا قال له: خذ هذه السيارة وديعة عندك، وآذن لك أن تستفيد منها بشرط أن لا تتجاوز السرعة بها عن مائة، فتعدى وتجاوز المائة والعشرين فلو حصل تلف أو حادث فإنه يضمن.
إذا: الوديعة لا تضمن إذا لم يتعد ولم يفرط، وسيذكر المؤلف رحمه الله صورا جميلة هي تقارب السبعة أو الثمانية، وبعضهم يوصلها إلى التسعة، وهذه الصور كلها يخرج فيها المودع عن كونه أمينا إلى كونه ضامنا، ولذلك المسائل في الوديعة غالبها يدور حول سؤال واحد: متى يكون المودع ملزما بالضمان ومتى يسقط عنه الضمان، متى نبقيه على الأصل فنقول: لا ضمان عليه، ومتى نخرجه عن هذا الأصل ونقول: ليست يده يد أمانة ويلزمه الضمان، وهذا الذي يبحثه العلماء رحمهم الله في مسائل الوديعة، ولما بحث أهل العلم رحمهم الله هذه المسائل بحثوها بالأمثلة، ويجعلون لكل سبب من أسباب الضمان ضابطا، وربما في بعض الأحيان هذه الأسباب يدخل بعضها تحت بعض، يعني: التعدي والتفريط ممكن أن تعتبره أصلا للجميع، فإما متعد وإما مفرط، ولا يخرج عن كونه متعديا أو مفرطا كما سيأتي.
الإيداع يكون بالقول والفعل
الوديعة عقد من العقود على أصح أقوال العلماء، بناء على ذلك الوديعة يكون عقدها بالأقوال وبالأفعال، وقد تكون هناك أفعال معروفة تدل على الايداع، الوديعة تكون بالأقوال يقول له: خذ هذه السيارة وديعة عندك، فهذا صريح، أو يقول: خذ هذه السيارة واحفظها، وهذا ضمني، فعندنا لفظ صريح في الإيداع، ولفظ دال على الإيداع ضمنا مثل احفظها اتركها عندك أبقها عندك، وفي عرفنا نقول: خليها عندك، لكن هذا يدل على أنه يريد الوديعة.
إذا الوديعة تكون بالقول.
وتكون بالأفعال كل عرف بحسبه، فإذا وجدت أفعال معينة تدل على أنه يريد الإيداع مثلا: شخص معروف أنه يحفظ ودائع الناس، فيعطيه شخص شيئا محفوظا، يعطيه صندوقا، أو يعطيه كيسا مربوطا ويكتب عليه اسمه، جرت العادة أنه يحفظ هذه الودائع بدون مقابل، فيأتي ويودعها عنده، قد لا يتكلم وإنما يأتي إليه مباشرة ويعطيه الصندوق، فيكتب البيانات الموجودة على الصندوق، مواصفات الصندوق ثم يكتب: ثلاثة أشهر أربعة أشهر دون أن يتكلم، حينئذ نعلم أنها وديعة.
الطالب يريد أن يسافر إلى أهله جرت العادة أنه يجمع متاعه في سكنه الطلابي ونحوه، ويأتي ويغلف ما عنده ثم يضعها في مكان معد لهذه الأمور، نعرف أن هذه الأفعال دالة على الوديعة.
فإما أن تكون معرفة الإيداع عن طريق الألفاظ صريحة كانت أو غير صريحة، وإما أن يكون الإيداع معروفا بالأفعال، والأفعال تنزل منزلة الأقوال كما بينا في مسألة بيع المعاطاة.
فالوديعة تقوم على الإيجاب والقبول، فإذا قال له: أودعتك هذه السيارة، فإنه يقول: قبلت، وفي زماننا يقول: لا يهمك، لا تشيل هم، لا يكون في بالك شيء، هذه كلها ألفاظ جرى العرف بها للدلالة على الرضا.
الوديعة عقد جائز لا لازم
يرد
السؤال هل الوديعة تعتبر من العقود اللازمة التي لا يملك أحد الطرفين الرجوع عنها إلا برضا الطرفين معا، أم هي عقد جائز؟ تقدم معنا مسألة العقود الجائزة في أول البيوع، المسألة التي معنا الآن: لو جاء شخص ووضع سيارته عند شخص وقال له: هذه السيارة وديعة عندك شهرا، ثم جاء بعد يوم أو يومين وقال: أعطني سيارتي، هل تقول له: لا، أنت وضعتها وديعة عندي شهرا فلا تأخذها إلا بعد شهر؟ هذا معنى لزوم العقد فلا يملك أحد المتعاقدين الرجوع إلا إذا رضي الآخر، مثل البيع إذا تم بين الطرفين لم يملك أحدهما الرجوع إلا إذا رضي الطرف الثاني، فهل الوديعة لازمة أو جائزة؟ الوديعة من العقود الجائزة من الطرفين، أي: سواء رجع صاحب الوديعة أو رجع الشخص الذي تكفل بالوديعة.
فلو جاء شخص وقال لك: خذ هذه السيارة وضعها عندك وديعة شهرا، فقلت: قبلت، ثم بعد ساعة طرأ لك ظرف فقلت له: لا أستطيع خذ السيارة، ورددتها فإن من حقك ذلك، أي: أنك لست بملزم في عقد الوديعة.
إذا: عقد الوديعة ليس بلازم، وإنما هو من العقود الجائزة للطرفين للمودع والمودع، لا يلزم أحدهما به، إنما يلزم بمضمون الوديعة يلزم المودع بأن يقوم بالوديعة بحقوقها وواجباتها كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
من أحكام الوديعة وجوب الحفظ والرعاية والصيانة على المودع، فيقوم بحفظ مال أخيه المسلم ورعايته على الوجه التام، ويترتب عليها أنه لا يضمن لأن يده يد أمانة، ومن أحكام المودع أنه يجب عليه رد الوديعة إلى صاحبها ودفعها إليه متى طلبها.
المعتبر في الحرز الذي توضع فيه الوديعة
قال المصنف رحمه الله: [ويلزمه حفظها في حرز مثلها] .
(ويلزمه) أي: المودع (حفظها) أي: حفظ الوديعة، (في حرز) الحرز دائما يكون صيانة ووقاية للشيء، فالحرز واق بإذن الله عز وجل للأشياء، مثلا: السيارات لها حرز، الدواب لها حرز، الأموال لها حرز، كل شيء له حرز، حرز الأموال في الصناديق المقفلة والخزانات الحديدية التي تحفظ المال بإذن الله عز وجل، لكن لا يمكن أن نقول أن حرز الأموال أكياس الورق، ليس هناك أحد يضع عشرة آلاف في بيته في كيس ورق؛ لأن كيس الورق ليس بحرز للمال، ولا بحفظ للمال.
كذلك يكون الحرز للدواب الزريبة؛ زريبة الإبل، زريبة الغنم، زريبة البقر، توضع هذه الحيوانات في زرائبها، وقس على هذه المسألة غيرها من المسائل.
فيجب على المودع أن يحفظ الوديعة في حرز مثلها، فلو أعطاه ذهبا، فحرز الذهب الخزانة من الحديد.
فإذا وضع الذهب في صندوق حديد مقفل، واحتاط فوضعه في داخل الدار -إذ لابد أن يكون هناك وعاء يحفظ المال- وكان المكان الذي يوضع فيه الذهب أمينا، فجاء شخص واعتدى على البيت وسرق هذا الصندوق، فإنه في هذه الحالة لا يلزمه ضمان؛ لأنه وضع الذهب في حرز مثله الذي هو الصندوق المقفل، في مكان أمين في داخل البيت، لكن لو جاء ووضع الصندوق المقفل أمام الناس أمام داره، فلا شك أن هذا يعرضه للسرقة ويعرضه للأخذ، فهو وإن وضعه في وعائه لكنه لم يضعه في مكانه المأمون الذي يمكن أن يكون محفوظا فيه.
ولو أعطاه سيارة وقال له: خذ هذه السيارة وضعها عندك وديعة -والسيارات تحفظ في جراش مخصوص- فجاء ووضعها في جراش البيت وأقفل عليها الجراش، فلو حصل شيء أو ضرر أو احترق بيته واحترقت السيارة؛ وهي في جراش البيت بدون تفريط وبدون تعد منه ولم يمكنه إخراجها فحينئذ لا ضمان عليه؛ لأنه حفظ السيارة في حرز مثلها، ولم يتعد ولم يفرط فلا ضمان عليه.
إذا: يجب على المودع أن يحفظ الوديعة في حرز مثلها.
بقي شيء: لو اختصم اثنان المودع والمودع الذي هو صاحب الوديعة، وقال له: فرطت إذ لم تحفظ وديعتي في حرز مثلها، قال المودع: بل حفظت وديعتك ولا ضمان علي، واختصما عند القاضي، فماذا يفعل القاضي؟ يسأل أهل الخبرة عن هذا الشيء الذي كانت فيه الوديعة هل هو في حرز مثلها أم لا، هذه المسألة تتفرع على القاعدة المشهورة عند العلماء وهي إحدى القواعد الفقهية الخمس: العادة محكمة، وهي الرجوع إلى الأعراف في الأشياء سواء في قيم المتلفات، أو في حرز ونحو ذلك، يرجع إلى أهل الخبرة ويقال: هل حرز الذهب في مثل هذا؟ هل السيارات تحرز في مثل هذا؟ هل الكتب تحرز في مثل هذا؟ فإذا جرى العرف أن مثل هذه الأشياء التي وضعت فيها الوديعة حرز لمثلها فإنه لا ضمان عليه.

المترتب على إحراز الوديعة في غير المكان الذي عينه المودع
قال المصنف رحمه الله: [فإن عينه صاحبها فأحرزها بدونه ضمن] .
هناك قرابة تسعة أسباب سيذكرها المؤلف يخرج بها المودع عن كونه أمينا إلى كونه ضامنا، وبعضهم يختصرها وبعضهم يفصل فيها، فهنا سيشرح بالتفصيل بالنسبة للحرز، يجب الضمان على المودع إذا قصر في حفظ الوديعة، إذا التقصير في حفظ الوديعة هو السبب الأول من أسباب كون المودع ضامنا.
التقصير في حفظ الوديعة يكون بعدم حفظها في حرز مثلها كما ذكرنا، ويكون التقصير أيضا بمخالفة صاحب الوديعة فيما عينه.
مثلا لو قال له: هذا الكيلو من الذهب ضعه وديعة عندك، قال له: قبلت حفظه، قال: سآتي بعد شهر وآخذه منك، إذا قال له: خذ هذا الكيلو من الذهب وديعة عندك وسكت صاحب الوديعة فهنا نرجع إلى الأصل، ونحتكم إلى العرف هل وضعها في حرز مثلها عرفا أو لا.
إذا قال له: خذ هذا الكيلو من الذهب وضعه في صندوق الدكان -والرجل المودع تاجر وعنده صناديق في الدكان وعنده صناديق في البيت- فقال له المودع: ضعها في صندوق الدكان، فجاء ووضعها في صندوق الدكان فاحترق الدكان، فلا ضمان عليه؛ لأنه التزم بالتعيين الذي عينه له صاحب الوديعة، فأصبح صاحب الوديعة هو المسئول عن وديعته، لأنه قال: ضعها في صندوق الدكان، ففعل ورقع الاحتراق ولم يكن هناك تعد من صاحب الدكان فإنه لا ضمان عليه.
لو قال له: ضعها في صندوق الدكان فذهب ووضعها في صندوق البيت، أو ووضعها في خزنته في المزرعة أو خارج المدينة، فإنه بمجرد مخالفته لأمر صاحب الوديعة يلزمه الضمان، ولذلك ينبغي أن يتقيد بأمر صاحب الوديعة.
قال المصنف رحمه الله: (فإن عينه صاحبها فأحرزها بدونه ضمن) .
فإن عينها يعني: عين الحرز، فأحرزه يعني: أحرز الشيء المراد حفظه والقيام عليه بدونه، يعني: في غير المكان الذي أمره به، لكن هذا الغير ينقسم إلى ثلاثة أقسام: إما أن يكون مثل الحرز الذي طلب منه، وإما أن يكون أفضل منه، وإما أن يكون أدنى منه، فلو قال له: خذ هذه المائة ألف وضعها في صندوق من خشب، فذهب ووضعها في صندوق حديد، إذا: عين صاحب الوديعة، فوضع المودع الوديعة فيما هو أفضل مما عين، هذه صورة الأفضل أن يأمره أن يضعها في صندوق خشب فيضعها في حديد، يأمره أن يضعها في صندوق من حديد عنده في الدكان من نوع ضعيف وعنده صندوق في البيت من نوع جيد فيضعها في البيت؛ لأن فالبيت أستر وأضمن وأيضا الحديد الذي فيه أجود، فهنا يكون أفضل وأجود من جهة المكان ومن جهة المحل الموضوعة فيه.
كذلك يكون الحرز أدنى منه عكس ما سبق، كما لو أمره أن يضعها في صندوق من حديد فوضعها في صندوق من خشب، قال له: ضعها في البيت فوضعها في الدكان، فالخطر الذي في الدكان أشد منه في الخطر الموجود في البيت، ففي هذه الحالة يكون الحرز الذي اختاره أقل وأردأ.
وقد يكون الحرز مثله ومساويا كما لو كان الضرر الموجود في الدكان كالضرر الموجود في البيت، واحتمال الضياع الموجود في الدكان موجود في البيت بنسبة واحدة، والصندوق الذي وضعها في البيت مثل الصندوق الذي وضعها في الدكان، مثله نوعه ووضعه، فإذا إما أن يحرزها فيما هو أضمن وأحفظ، وإما أن يكون حرزه دون ذلك، وإما أن يكون حرزه مساويا لما أمره به.
فإن كان طلب منه حرزا معينا فأحرزه في مثله أو أفضل منه فلا ضمان، قالوا: لأنه لما أحرز في مثله وافق قوله ولم يخالفه، وكان بذلك غير متعد ولا مفرط؛ لأنه مثله لا فرق بينهما، تيسر له هذا المثل فوضعه فيه، لكن لو أحرز فيما دون ذلك حينئذ يكون مفرطا ويلزمه الضمان.
قال المصنف رحمه اللا: [وبمثله أو أفضل فلا] .
(وبمثله) بمثل ما أمر به ومساويا له، (أو أفضل) يعني: أن الحرز أقوى حفظا وأكثر صيانة، كما لو قال: ضعها في وعاء من زجاج فوضعها في الحديد، ووعاء الحديد أبلغ فهو لا شك أفضل.
قطع العلف عن الدابة المودعة دون إذن صاحبها
قال المصنف رحمه الله: [وإن قطع العلف عن الدابة بغير قول صاحبها ضمن] .
هذا السبب الثاني: التضييع للوديعة، التضييع للوديعة يضيع أكلها، وعلاجها ودواءها، لو قال له: خذ هذا الفرس وديعة عندك، آخذه منك بعد شهر، أخذ الفرس فقطع عنه الطعام فمات الفرس، أو أصابه الهزال، أو لم يقطع عنه الطعام لكن كان طعامه رديئا أو قليلا فمرض الفرس، فإنه في هذه الحالة يضمن، لكن لو قال له صاحب الفرس: أطعمه كل يوم من نوع كذا وكذا من الطعام سواء كان فرسا أو فحلا أو ناقة أو شاة، كما لو قال: أطعم شياهي من الشعير، أعطها كل يوم صاعين من شعير، ثم بعد ثلاثة أيام قال: أعطها صاعا واحدا، فأنقص الطعام لكن بإذن صاحب الوديعة، إذا أذن له وقال له: أنقص الطعام، أو قال: اقطع عنها الطعام فإنه في هذه الحالة لا ضمان عليه، لكن
السؤال لو قال له: لا تطعم البهيمة، فهل من حقه أن يفعل ذلك؟
الجواب إذا قال له: لا تطعم البهيمة، يقول له: هذا محرم؛ لأنه تعذيب للحيوان وإفساد في الأرض، وهذا لا يأمر الله عز وجل به؛ لأن من الإفساد في الأرض إهلاك الدواب، لو كان يريد تذكيتها وذبحها فلا بأس، أما لو حبس عنها الطعام ماتت وصارت ميتة لا ينتفع بها، وهذا لا شك من إضاعة المال، وقد نهى الله عن إضاعة المال فهل نطيعه، فالجواب أن يقول له: إما أن تأخذ وديعتك أو تسمح لي بإطعامها، أما أن يطيعه في معصية الله، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
يتبع



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #462  
قديم 13-02-2025, 10:26 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,234
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي


إذا عين المودع جيب المودع مكانا للوديعة فتركها في كمه

قال المصنف رحمه الله: [وإن عين جيبه فتركها في كمه أو يده ضمن، وعكسه بعكسه] .
هذا سبب ثالث يتعلق بالتعيين والمخالفة في التعيين، وبعض العلماء يجعل هذا السبب والسبب الأول الذي ذكرناه واحدا، لكن ذكر العلماء مسألة الكم والجيب؛ لأن الجيب أحفظ من الكم، لأنهم كانوا يضعون الأشياء بأكمامهم، فالكم ليس في الحرز كالجيب، فالجيب أحفظ وأصون، ولذلك يقولون: الكم قد تسقط منه الأشياء بخلاف الجيب فإنه يحفظ الأشياء أكثر، فلو أعطاه شيئا وقال له: ضعفه في كمك، فوضعه في جيبه فالجيب أحرز، فحينئذ لا ضمان عليه ولو سرق، ولو قال له: ضعه في جيبك فوضعه في كمه وسرق أو سقط وتلف فإنه حينئذ يضمن لأنه خالف.
إذا عين صاحب الوديعة مكانا أو صفة وجب عليه أن يلتزم بذلك؛ لأنه صاحب المال وهو أدرى بماله وأدرى بطريقة الحفظ، فلا يجوز له أن يخالفه، فإذا خالفه ضمن، في بعض الأحيان قد يكون وضع الشيء في يده أحفظ منه في جيبه، مثلا: يقول له: هذا الشيء ضعه في جيبك، فوضعه في يده، فالوضع في الجيب قد يكون مفضيا للهلاك أكثر من اليد، مثلا: لو أعطاه بيض دجاج بيضة أو بيضتين، وقال له: ضعها في كيس، لو وضعها في جيبه ودخل في زحام فانكسرت، فوضعها في الجيب أخطر من وضعها في اليد؛ لأنه يمكنه أن يقيها من الكسر بيده، لكن لماذا العلماء اختاروا الكم؟ لأن أغلب الأشياء حفظها في الجيب أقوى من حفظها في اليد والكم، وعلى هذا فإنه لا يمتنع أن توجد بعض الأشياء التي يكون المخالفة فيها في اليد والجيب تكون من حق المودع أن تكون في اليد أكثر من وضعها في الجيب.

نقل المودع الوديعة إلى طرف ثالث
قال المصنف رحمه الله: [وإن دفعها إلى من يحفظ ماله أو مال ربها لم يضمن] .
هنا سبب آخر نقل الوديعة من عنده إلى طرف ثالث، هو ينقله بنفسه إلى شخص ثالث عنهما، في هذه الحالة من حيث الأصل لا ينقل الوديعة، من حيث الأصل هو مطالب بحفظها، لكن قد تأتي ظروف وأحوال ينقل فيها الوديعة إلى الغير، ويكون ذلك أصون وأحفظ وأمكن لرعاية الوديعة، فإذا دفع الوديعة إلى شخص آخر وكان هذا الشخص يأتمنه على ماله، ومن عادته أن يضع عنده ماله، فإنه ينزل منزلته، فقه المسألة أن الشخص المودع إذا قال له: خذ سيارتي وديعة عندك معناه أنه نزله منزلة نفسه، ولذلك يصدق في قوله ويؤتمن؛ لأنه ليس هناك أحد يعطي سيارته أو ماله إلا لشخص ينزله منزلة نفسه، ومن هنا قالوا: المودع أمين، فإذا أعطاه سيارته أو أعطاه أي شيء من أملاكه وقال له: ضعه عندك وديعة، فمعناه أنه نزله منزلة نفسه في حفظه وصيانته، فإذا نزله منزلة نفسه في حفظه، فإنه إذا قام هذا الشخص بنقل الوديعة إلى مكان هو يأمن بهذا ويحفظه لنفسه كان بمثابة المودع نفسه؛ لأنه رضيه متسلطا على ماله، ولذلك بعض العلماء يقول: تسليط الغير على حفظ المال، فتضمنت الوديعة التوكيل والتفويض، وبناء على ذلك فهو إذا وكل غيره وفوض غيره وكان ذلك الغير يوكله على ماله هو بنفسه فقد رضي لأخيه ما رضي لنفسه، وحينئذ يكون مثل ما لو نقل الوديعة إلى حرز يماثل الحرز الذي أمره بوضعها فيه، فانتقلت من عنده إلى شخص مثل نفسه ونزله منزلة نفسه فلا ضمان عليه.
أو إلى شخص من عادة صاحب الوديعة أنه يضع أمواله عنده ويودع عنده، فإذا نقل الوديعة إليه فلا ضمان عليه.
قال المصنف رحمه الله: [وعكسه الأجنبي والحاكم، ولا يطالبان إن جهلا] .
وعكسه الأجنبي، يعني: شخص أجنبي، أجنبي هنا أصل المجانبة بمعنى البعد، مادة جنب تطلب بمعنى القرب وتطلق بمعنى البعد، تقول: فلان بجنبي يعني: قريب مني، وفلان مجانبني بمعنى: أنه مباعد ومبتعد عني، ومنه الجنابة لأنها تبعد الإنسان عن الصلاة والطواف بالبيت ودخول المسجد إذا تلبس بها، فهي من ألفاظ الأضداد، فمقصود العلماء بالأجنبي هو الطرف الثالث الذي يضع عنده المودع الوديعة؛ فإذا قلت له: هذه السيارة وديعة عندك، هذا المنزل وديعة عندك، فأنت قد حددت الشخص الذي تكون عنده الوديعة، فإذا صرف الوديعة إلى طرف ثالث فهو أجنبي بالنسبة لكما كمتعاقدين أي أن كل واحد من الناس غيركما يعتبر أجنبيا؛ لأنه ليس داخلا في العقد، فهو أجنبي بهذا المعنى، لكن إذا كان هذا الأجنبي تضع عنده مالك وتأتمنه على مالك، وتضع عنده الأشياء التي تهمك فأنت قد نزلت وديعة أخيك منزلة وديعتك ولا إشكال كما لو حفظتها عندك.
فإن خرجت عن هذا المكان الذي هو أنت المودع ومن يأتمنه صاحب الوديعة ومن تأتمنه أنت، صارت إلى أجنبي، فإنه يجب عليك الضمان بصرفها، وهذا من أسباب الضمان أن يصرفها لأجنبي.
ومن هو الأجنبي؟ الأجنبي هنا هو الذي لا تضع ودائعك عنده ولا يضع صاحب الوديعة، يعني: لا يؤتمن على وديعته لا من المودع ولا من المودع، ففي هذه الحالة يجب الضمان.
قال رحمه الله: (وعكسه الأجنبي والحاكم) لو جاء ووضعها عند القاضي فإنه يضمن؛ لأنه لم يؤمر بوضعها عند أجنبي، والقاضي أجنبي، صحيح أن له ولاية عامة على أموال الناس، لكن بشرط ألا يكون هذا على سبيل حقوق الناس نفسها، فالوديعة حق لصاحبها يودعها إلى من يريد.
القاضي أجنبي عن هذا، ولايته عامة على الأموال التي لا يعرف صاحبها، لكن الأموال التي عرف أصحابها والودائع التي يعرف أصحابها لا سلطان للقاضي عليها، فإذا أودعها عند القاضي فالقاضي منزل منزلة الأجنبي، وحينئذ يضمن.
ولا يطالبان إن جهلا، لا يطالبان بضمانها إن جهلا، لو أن المودع أعطى السيارة لأجنبي، فتلفت عند الأجنبي ولم يكن يأتمنه لا هو ولا المودع عنده، فإنها إذا تلفت وجب الضمان على المودع، والأجنبي إن فرط وحصل منه تعد أقام المودع دعوى ضد هذا المفرط وطالبه بالضمان، لكن لو تلفت بآفة سماوية كالمزرعة تحترق أو يأتي سيل ويجرفها فإنه يجب على الأجنبي أن يضمنها للمودع، وعلى المودع أن يضمنها لرب الوديعة وصاحبها، هذا إذا علم، أما إذا لم يعلم الأجنبي أو الحاكم وتلفت بآفة سماوية فإنه لا ضمان عليه؛ لأنها في حكم الوديعة؛ لأنه يظن أنها ماله، فلما استودعه قبل الأجنبي هذه الوديعة، على أنها مال للمودع، فعنده شبهة تسقط عنه الضمان، من الذي يضمن الآن؟ المودع.
صورة المسألة: عندك سيارة أعطيتها لزيد، وقلت: يا زيد! خذ هذه السيارة وديعة عندك، فأخذ زيد السيارة وذهب بها إلى شخص لا يودع عنده ولا تودع أنت عنده؛ فهو أجنبي، فأخذ الشخص هذه السيارة وأوقفها في بيته ولم يتعد ولم يفرط، فالشخص الأجنبي حين قبل من زيد سيارته قبلها على أي أساس؟ على أنها وديعة، فعنده شبهة أنه مؤتمن، وإلا ما كان يدخل نفسه في شيء يوجب الضمان عليه، فلما قبل وهو يظن أنه يملك السيارة وأدخلها في حرز مثلها وجاءت صاعقة فأحرقتها أو جاء سارق وسرقها نقول: هذا الشخص الأجنبي الذي يجهل أنها وديعة عندك وقبلها على أنها وديعة لا ضمان عليه لأنه لا يعلم، لكن إن علم أن هذه السيارة لصاحبها الفلاني، وأن المودع تعدى وأعطاه إياها فإنه يضمن، هذا معنى قوله: إن جهلا، فإن علم الحاكم والأجنبي أنه صرف الوديعة عن محلها ضمن، ويكون ضمانهما للمودع، والمودع يضمن لصاحب الوديعة، لكن إذا جهلا يكون الضمان فقط على المودع، ولا يضمن الحاكم ولا الأجنبي.
حال الوديعة عند سفر المودع
قال المصنف رحمه الله: [فإن غاب حملها معه إن كان أحرز، وإلا أودعها ثقة] .
شرع المصنف رحمه الله في بيان موجب من موجبات الضمان في الوديعة، فإذا أعطى إنسان إنسانا وديعة فلا يخلو من قسمين: القسم الأول له حالتان: الحالة الأولى: أن يأذن له بالسفر بها إذا أراد أن يسافر.
الحالة الثانية: أن يلزمه بأخذها معه إذا سافر.
والقسم الثاني: أن يسكت.
فإذا ألزمه بأخذها معه، فإنه حيئنذ يجب عليه أخذ الوديعة إذا أمره، ويكون مخيرا إذا خيره.
فإن قال له -وهذه الحالة الأولى، وهي حالة الإذن-: إذا سافرت فإن شئت فخذها معك، وإن شئت فأبقها فيكون حينئذ مخيرا.
كرجل أعطى رجلا ساعة ثمينة وقال له: هذه الساعة وديعة عندك، وكان طالبا يدرس في مكان ففي مدة الدراسة يجلس في سكنه ثم يسافر في العطل، فقال له: إذا سافرت في العطلة؛ فإن شئت أخذتها وإن شئت حفظتها في درجك أو في مسكنك.
في هذه الحالة خيره بين الأمرين؛ فإن سافر بها فلا ضمان عليه، وإن أبقاها في درجه فلا ضمان عليه؛ فهو مخير بين الأمرين؛ لأنه التزم ما أمره به صاحب الوديعة.
الحالة الثانية: أن يلزمه بأخذها معه إذا سافر فيقول له: هذه الساعة وديعة عندك، ولكن إذا سافرت فخذها معك، هذه السيارة أمانة ووديعة عندك فإذا سافرت فلا تبقها، وسافر بها، ففي هذه الحالة لا يجوز له أن يتركها، فإذا تركها وحصل شيء ضمن، وإذا سافر بالسيارة وحصل عليها ضرر بحيث لم يتعد ولم يفرط فلا ضمان عليه، لأنه التزم ما أمره به صاحب الوديعة.
هناك حالة أخرى تقتضيها القسمة العقلية تلتحق بهذا القسم: وهي أن ينهاه عن إخراجها، فيقول له: إذا سافرت فلا تأخذها.
إذا إما أن يأمره صاحب الوديعة بأخذ الوديعة معه إذا سافر، أو يأمره بإبقائها إذا سافر، أو يخيره بين الأمرين، فإن أمره بالإبقاء أو بالأخذ وخالف ضمن، وإن خيره فلا ضمان عليه، سواء أبقاها أو أخذها، ففي هذه الصور الثلاث تكلم صاحب الوديعة، وأمر، أو نهى، أو أذن، كل هذا نعتبره موجبا للضمان في حال المخالفة، ولا يوجب الضمان إذا لم يخالف المودع.
وإذا سكت صاحب الوديعة؛ يقول المصنف رحمه الله تعالى: [فإن غاب حملها معه إن كان أحرز، وإلا أودعها ثقة] .
إذا في حال سفر المودع إذا سكت صاحب الوديعة-وهذا هو القسم الثاني إذا سكت صاحب الوديعة فلم يأمره ولم ينهاه ولم يأذن له، في هذه الحالة نقول: ما هو الأصلح والأفضل لهذه الودائع؟ هل بقاؤها في السكن، أو بقاؤها في الخزائن، أو بقاؤها عند ثقة، والسفر بدونها أفضل وأكثر أمانا أو العكس؟ فحينئذ نحاسبه على حسب العرف؛ فإن كان السفر بها يوجب حفظها أكثر ويمنع من ضياعها وسرقتها، فحينئذ يجب عليه السفر بها، فإن لم يسافر بها فقد قصر فيلزمه الضمان، وأما إذا كان الأفضل أن يبقيها -لأن السفر فيه خطر عليه، وقد يتأخر تسليمها الى أصحابها كما لو كان من بلد بعيد ويصعب عليه ردها إلى أصحابها أو يتحمل أصحابها المشقة- فالذي يجب حينئذ أن يحفظ الوديعة عند الثقة الأمين.
أما الدليل على كونه يعطي الوديعة أمينا وثقة، فلما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما أراد الهجرة، وأذن الله له بالهجرة من مكة إلى المدينة، قام بإعطاء الودائع لـ أم أيمن رضي الله عنها وأرضاها حاضنته، وأمر عليا أن يرد هذه الودائع إلى أهلها، فلم يسافر صلى الله عليه وسلم بالودائع، وإنما تركها وأمر عليا رضي الله عنه أن يقوم بردها إلى أصحابها وأهلها.
وبناء على ذلك قال العلماء: من السنة إذا كان هناك الثقة والعدل الذي يرضى لحفظ الوديعة والغالب أنك إذا سافرت بها عرضت الوديعة الى الخطر، فإنك تحتاط في صيانتها فتعطيها إلى الثقة حتى تتمكن من القيام بما أوجب الله عليك.
ولذلك قال الله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} [النساء:58] .
أمرنا بأداء الأمانات إلى أهلها، والأمر بالشيء أمر بلازمه، فلا تستطيع أن تؤديها إلا إذا حفظتها، فلما كان السفر بها يؤدي إلى ضياعها وعرقلتها عن أهلها ولربما يؤدي إلى سرقتها، فإنه يجب عليك أن تحتاط بإعطاء ثقة هذه الودائع ليردها إلى أهلها.
التصرف في الودائع والانتفاع بها
قال المصنف رحمه الله: [ومن أودع دابة فركبها لغير نفعها، أو ثوبا فلبسه، أو دراهم فأخرجها من محرز ثم ردها، أو رفع الختم ونحوه، أو خلطها بغير متميز فضاع الكل ضمن] .
(ومن أودع دابة فركبها لغير نفعها): ومن أودع دابة فركبها لغير نفعها، هذه مسألة التصرف في الودائع بالركوب والانتفاع.
مثل رحمه الله بالدابة: في القديم كان الرجل يعطي الرجل حصانه ويعطيه ناقته ونحو ذلك مما يركب من الدواب.
فإذا قال له: خذ هذا البعير وديعة عندك وجب عليه أن يحفظه، وأن لا يتصرف فيه، لأنه مؤتمن، وأن لا يقوم باستغلال هذا الشيء الذي أودع عنده؛ لأن استغلاله بالعمل والحركة يضر بذلك الشيء.
الدابة إذا ركبها الإنسان فإن هذا قد يضر بالدابة، وقد يعرضها للتلف، وقد يعرضها للعطب، وقد يعرضها لحصول ضرر في جسدها، ولذلك ينبغي أن يحفظها وأن لا يتصرف بها.
فشرع المصنف رحمه الله في بيان سبب من أسباب الضمان وهو التصرف في الودائع.
إذا تصرف في الوديعة بركوبها كما مثل المصنف بالدابة، أو السيارة في زماننا، فإذا أعطاه سيارة وركبها بمجرد ركوبه للسيارة وإخراجها من حرزها يكون ضامنا، فلو حصل عطل في السيارة، أو ضرر حتى ولو لم يكن بيده يعني لم يكن بوسعه إنما كان بسبب سماوي، أو اعتدى عليه أحد أو سرق منها شيء ولم يعثر على سارقه، فإنه يضمن ذلك كله؛ لأن يده اعتدت بإخراج الوديعة.
إذا لا يجوز لمن وضعت عنده وديعة أن ينتفع بها بالركوب أو الاستخدام ما لم يأذن له صاحبها، فإذا قال له صاحبها: أذنت لك بركوب السيارة وجب عليه أن يتقيد بهذا الإذن، فإذا كان إذنا في داخل المدينة فيكون غير ضامن إذا ركبها داخل المدينة، وضامنا إذا ركبها خارج المدينة، إذا قال له: أذنت لك أن تركبها لقضاء مصلحة ما، فخرج عن هذه المصلحة إلى مصلحة ثانية وجب عليه الضمان.
إذا من أودع دابة وفي زماننا السيارة؛ فلا يخلو صاحب الوديعة من حالتين: إما أن يأذن له بالتصرف فيها، وإما أن لا يأذن له فيمنعه من التصرف فيها بركوبها واستغلالها، فإن أذن له بركوبها واستغلالها والانتفاع بها لم يخل إذنه من حالتين: إما أن يكون مطلقا، وإما أن يكون مقيدا.
يقول له: هذه سيارتي وديعة عندك، وإذا شئت فاركبها في أي وقت وفي أي ساعة فقد أذنت لك، بمعنى أنه فوض إليه أن ينتفع ويرتزق بالمعروف، فلا يضمن في هذه الحالة إذا قيد أو أطلق إلا إذا اعتدى، فلو حمل السيارة حمولتها وفوق طاقتها فحينئذ يضمن، ولا نعتبر إذن صاحب الوديعة؛ لأن إذنه بالمعروف، وكونه يحمل السيارة فوق ما تحتمل خارج عن المعروف، فيجب عليه ضمانها.
الحالة الثانية: أن لا يأذن له بركوبها، ولا يأذن له بالانتفاع، قال له: يا محمد! هذه سيارتي وديعة عندك، هذا مسجلي وديعة عندك، هذه ساعتي وديعة عندك، هذا قلمي وديعة عندك، فالواجب أن يحفظ الوديعة كما هي، فإن احتاج إلى إخراجها كالسيارة تركب، والدابة كما ذكر المصنف تركب، فيجوز له أن يركبها ويخرجها إذا كان في مصلحة الوديعة نفسها، مثلا السيارات في زماننا إذا جلست وديعة عند الإنسان سنة، ربما تتضرر بطول الوقوف، ربما أخرجها بسبب انتقاله إلى بيت آخر أو إصلاح شيء فيها لازم، فهذا الإخراج إخراج بالمعروف لا ضمان عليه، لكن لو أخرجها لمصلحته هو، كأن يصل إلى مكان أو يوصل منقطعا، فإنه يجب عليه الضمان.
إذا الضابط عندنا أن الوديعة من حيث الأصل لا يتصرف فيها الإنسان إلا بإذن صاحبها -الذي هو المودع- فإن خرج عن حدود هذا الإذن، أو تصرف تصرفا خارجا عن المعروف وجب عليه الضمان، وبناء على ذلك لا يضمن إذا أبقاها، ولا يضمن في حدود ما أذن له، ولا يضمن إذا كان تصرفه بالمعروف.
هذا كله متعلق بمسألة التصرف في الودائع.
الآن الأدوات الكهربائية الموجودة في زماننا؛ كالغسالات، والثلاجات، والمكيفات؛ لو أن شخصا أعطى شخصا مكيفا وديعة، أو أعطاه ثلاجة وديعة، وجب عليه أن يحفظها، وعدم تحريكها وتشغيلها؛ لأنه لا مصلحة له في تشغيلها، فإذا جاء صاحبه ولو بعد عشرات السنين يعطيه إياها كما هي، لكن هناك أشياء لابد من استصلاحها ولابد من تحريكها حتى يكون ذلك أرفق وأحفظ بها، فهو لما أذن له بحفظها من حفظها أن يغير زيتها، من حفظها أن يتفقدها عند الحاجة.
إذا الإذن بالشيء إذن بلازمه ومن لوازم الحفظ القيام بذلك، فلا ضمان عليه إذا تصرف في حدود المعروف.
(أو ثوبا فلبسه) إذا قال له: خذ هذا الثوب وديعة عندك، فأخذه فالواجب عليه أن يحفظه وأن لا يلبسه وأن لا يعرضه للتلف، فإذا أخذه وحفظه وصانه حتى جاء صاحبه فدفعه إليه فلا إشكال أنه لا ضمان عليه، فلو أخذه وحفظه وجاء ضرر على الثوب من حريق أو نحوه دون تعد أو تفريط، فلا ضمان عليه، لكن لو أنه لبس الثوب، فأثناء دخوله لمكان انشق الثوب، أثناء قفزه لحفرة انقطع الثوب مثلا، فهذه كلها أضرار دخلت على الثوب بسبب اللبس، ففي هذه الحالة إذا كان لبس الثوب بالمعروف؛ بمعنى أنه خاف على الثوب الضرر فلبسه، كيف يخاف على الثوب الضرر؟ كالعثة مثلا؛ لأن الثوب إذا ترك في مكان فيه عثة مدة تصيبه العثة فتؤثر عليه، فحينئذ لابد أن ينقله إلى مكان آخر ليس فيه عثة، افرض أن بيته كله فيه عثة وليس هناك أمين يضع عنده الثوب، فحينئذ يلبس الثوب أو يحمله معه إذا أمكنه الحمل دون ضرر.
(أو دراهم فأخرجها من محرز ثم ردها) أو كانت الوديعة دراهم فأخرجها من محرز، هذه كلها أمثلة مثل بها المصنف رحمه الله، الدابة تخرج إلى الضمان بالركوب وفيها منفعة الركوب، الثوب فيه منفعة اللبس، الدراهم معروف منافعها، وقد يأخذها لمنفعته ويتزين بها ويتجمل بها، كما في الحلي ونحوه إذا كان من ذهب أو فضة.
مسألة الدراهم؛ إذا أعطى إنسان إنسانا دراهم، أو نقودا ورقية، فالواجب عليه إذا أعطاه إياها وديعة أن يحفظ عين المعطى، أن يحفظ عين الورق، ولا يتصرف في ذلك الورق ولا يستبدل به ورقا آخر، فإن فعل ذلك وجب عليه الضمان.
بل إن الفقهاء يعتبرون إخراجها من محرز فقط يعني لو أعطاه إياها داخل محفظة وقال له: خذ هذه المحفظة فيها خمسة آلاف ريال وديعة عندك، فأخرجها فقط ونظر فيها وجب عليه الضمان؛ لأن الوديعة تحفظ كما هي.
إذا كانت هذه الخمسة آلاف الموجودة في المحفظة ردت بعينها، وردت داخل المحفظة، ومع ذلك وجب عليه الضمان بالإخراج فقط؛ لأنها أمانة، والشريعة تنظر إلى حقيقة الوديعة كوديعة، فما بالك إذا أخذ الخمسة آلاف واشترى بها وباع، أو أعطاها شخصا آخر، ثم رد مثلها في العدد هل تكون وديعة؟
الجواب لا.
ومن هنا تتفرع مسائل الوديعة المصرفية الموجودة في زماننا، فالودائع المصرفية في زماننا، تنقسم إلى أقسام: هناك ودائع توضع لسحبها عند الحاجة، وهناك ودائع توضع كما هي وتؤخذ دون أن يتصرف البنك أو المصرف بأي تصرف تحفظ بعينها كما هي، ويمكن العميل من أخذ عين ماله وعين الشيء المودع دون أي تصرف للبنك.
القسم الأول: يعرف في زماننا بالحساب الجاري، والحساب الجاري: أن يضع الشخص مبلغا من المال في البنك تحت رقم معين، والتزام البنك أنه يمكنه من سحب المبلغ كله أو بعضه متى شاء وفي أي وقت، فلو جاء مثلا بمليون ووضعها في البنك، وبعد دقيقة جاء وسحبها، مكنه البنك من سحبها، يلتزم بهذا، وأيضا يلتزم البنك بإعطاء هذا المبلغ الذي وضع في الحساب الجاري للشخص نفسه ولغيره، وكالة بطرق معينة عن طريق الشيك، ونحو ذلك من الوثائق التي تثبت التوكيل بالسحب وأخذ المبلغ.
بالنسبة لهذا النوع، وهو وضع المال في حساب معين، وسحبه عند الحاجة، لا تنبطق عليه أوصاف الودائع، لا من قريب ولا من بعيد، فليس هو في وديعة حقيقة، فتسميته وديعة مصرفية من ناحية العرف، وجريان هذا الاسم لا يمت إلى الحقيقة من جهة المصطلح الشرعي بصلة؛ لأن الوديعة تترك كما هي، ويؤخذ عين المال المودع.
إذا ثبت هذا تفرع عليه أن المال إذا وضع يكون حكمه حكم القرض، بمعنى أنه بمجرد ما تضع مبلغا في الحساب أصبحت مقرضا للبنك ذلك المبلغ؛ لأنه لا ينطبق عليه وصف الوديعة، فليس بملتزم أن يرد لك عين المال، وليس بملتزم بحفظ المال، إنما التزم لك بمثل المال في أي وقت تشاؤه، إما أصالة أو نيابة بوكالة لشخص آخر.
وقد تكلمنا على مسائل الوديعة المصرفية وفصلنا في أحكامها في دروس الربا والصرف، وبينا المشروع منها والممنوع وبينا المصطلحات الموجودة في زماننا، وحتى القوانين الوضعية توافق الشريعة الإسلامية في كون الوديعة المصرفية قرض وليست بوديعة، فتسيمتها وديعة ليس له حقيقة من جهة المصطلح الشرعي، وهذا أمر نحب أن ننبه عليه طالب العلم حتى لا يكون هناك اغترار بالاسم، وهنا ننبه على أنه ربما يكون هناك اختيار لبعض المصطلحات الشرعية من قبل عامة الناس وينخدع بها طالب العلم، وربما يظن أنها وديعة ويخضع لها أحكام الوديعة وهي ليست كذلك، وهذه هي فائدة التعريفات الاصطلاحية.
فائدة وضع العلماء رحمة الله عليهم بالتعريف الاصطلاحي للمصطلحات الشرعية إنما هو معرفة ما تنطبق عليه حقيقة المصطلح الشرعي وما لا تنطبق عليه، حتى لا يصبح هناك تلاعب، وإلا ادعى كل إنسان ما شاء وألصقت المعاملات الشرعية بما ليس منها.
لذلك لابد من تطبيق ضوابط الوديعة على الحساب الجاري، فلما طبقناها وجدناها أنها لا تنطبق على ذلك، يصبح حكمها حكم القرض، إذا أثبتنا أن حكمها حكم القرض يصبح أخذ أي فائدة سواء كان من العميل شرطا أو عرفا يعتبر موجبا للحكم بتحريمها، لأنها من الربا كما تقدم بيانه وتفصيله في دروس الربا والصرف.
أما النوع الثاني من الودائع الموجودة في البنوك فهي الوديعة المستندية، وهذا النوع من الودائع يقوم العميل فيه باستئجار صندوق معين برقم يمكنه البنك من أخذ هذا المفتاح، وفتح هذا الصندوق، ووضع ما شاء فيه، وسحب ما شاء دون أن يكون هناك للبنك أي نظر للشيء المودع سواء كان مالا، أو جواهر، أو مستندات، فهذا النوع لا شك أنه تنطبق عليه حقيقة الوديعة، هذا النوع الذي هو استئجار الصناديق البنكية لوضع الوثائق والمستندات ووضع الأموال، ووضع الجواهر، أو الأشياء النفيسة، لا شك أنه تنطبق عليه ضوابط الوديعة الش

الأسئلة


حكم من تأخر عن دفع الوديعة في الوقت المحدد فتلف
السؤال هل يضمن الشخص إذا حدد له المودع وقتا محددا ثم انقضى هذا الوقت فتلفت العين بعد مضي الوقت بيوم أو يومين؟
الجواب نعم يضمن إذا حدد له وقتا للدفع وحدد له الدفع إلى شخص معين فتأخر في الدفع عن الوقت المحدد تخرج يده من يد الأمانة إلى يد الضمان، لكن بشرط أن لا يوجد عذر للتأخير، فإن وجد عذر للتأخير فإنه حينئذ لا ضمان عليه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبيه.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #463  
قديم 14-02-2025, 01:16 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,234
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الوديعة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (385)

صـــــ(1) إلى صــ(16)



شرح زاد المستقنع - باب الوديعة [2]
في طيات هذا الدرس العديد من المسائل والأحكام منها: حكم التصرف في الودائع والانتفاع بها دون إذن صاحبها، واختلاف المودع مع المودع في رد الوديعة أو تلفها، وقول ورثة المودع في رد الوديعة أو تلفها وغير ذلك.

شرح زاد المستقنع - باب إحياء الموات [1]

وقد حث الإسلام على إحياء الموات، ورغب في ذلك، وملك الأرض الموات لمن يحييها، لذلك أولى أهل العلم هذا الباب اهتماما كبيرا؛ فذكروا في طيات مؤلفاتهم شروط وضوابط الإحياء، والمسائل المتفرعة عنها كالإقطاع، وهل هو خاص بالإمام أم لا، ومسألة الحمى، والسبق إلى المباح، واشتراك الناس في موارد المياه، والمرافق العامة وغيرها.
إحياء الموات تعريفه وشروطه وأدلة مشروعيته
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب إحياء الموات] : الحي ضد الميت، والإحياء لا شك أنه مما اختص به سبحانه وتعالى، فهو وحده لا شريك له الذي يحيي الموتى، لكن التعبير بالإحياء هنا نسبي، ويكون في الجمادات، حيث يقوم المكلف باستحداث العمران فيها، بناء، أو غرسا، أو استصلاحا، ويعتبر هذا إحياء نسبيا، فلذلك يقول العلماء: باب إحياء الموات، فإذا كان الإحياء مما اختص به الله سبحانه وتعالى فلماذا يعبر العلماء بهذا التعبير؟
و الجواب تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال في الحديث الصحيح عنه: (من أحيا أرضا ميتة فهي له) فعبر بالإحياء ولهذا توسع فيه العلماء؛ لأن المراد به: الإحياء النسبي.
وقوله رحمه الله: إحياء الموات: المراد بالموات: الأراضي البور.
والأراضي التي تحيا ويحكم بإحيائها فيها تفصيل، فقد تكون الأرض ميتة لكنها ملك للغير فلا يصح إحياؤها، فالمراد بقوله: الموات: موات مخصوص؛ فهو إحياء لشيء مخصوص على صفة مخصوصة من شخص مخصوص، فليس على إطلاقه.
والأصل في هذا الباب حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وجاء عن غيرها من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كـ جابر رضي الله عنه عند أحمد في المسند، وأبي داود في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحيا أرضا ميتة فهي له) ، وفي رواية من حديث عائشة (وليس لعرق ظالم حق) ، فنبه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الأول على مشروعية إحياء الأرض الميتة، وقوله: (من أحيا) صيغة من صيغ العموم، فيشمل الصغير، والكبير، والذكر، والأنثى.
ويختلف الإحياء بحسب اختلاف الأراضي وما يقصد منها، فتارة يكون الإحياء بالبناء، فإذا كان بالبناء فلا بد من وجود شيء يصدق عليه أنه إحياء بالبناء كما سيأتي، وتارة يكون بالغرس، فيغرس الأرض بالنخل أو الزروع، ويكون هذا إحياء بالزراعة، وتارة يكون الإحياء بحفر البئر، فإذا حفر بئرا في مكان فقد أحياه، وهذه البئر قد تحفرها القبيلة من أجل سقي الدواب، وقد يحفرها الإنسان من أجل سقي دوابه، أو سقي مزرعته، حتى ولو كانت بعيدة عن مزرعته، فيكون لها حريم، وتكون لها حرمة.
وقوله: (من أحيا أرضا) : أرضا نكرة، والنكرة تفيد العموم، وبناء عليه أخذ بعض العلماء من ذلك عموم الأراضي، لكن المسألة فيها تفصيل كما ذكرنا، فهذه الصيغة الدالة على العموم قد جاء ما يخصصها، ويفيد أن الحكم ليس على العموم من كل وجه، وهو قوله: (ليس لعرق ظالم حق) فدل على أن الأرض إذا كانت ملكا للغير وهي ميتة، ثم جاء شخص وأحياها، وهو يعلم أنها ملك لفلان فقد ظلمه، أو لم يعلم ثم علم واستمر مالكا لها، فقد ظلم ببقائه، فليس له فيها حق، وقوله عليه الصلاة والسلام: (ليس لعرق ظالم حق) ، العروق تنقسم إلى أربعة أقسام -كما ذكرنا في باب الغصب- عرقين ظاهرين، وعرقين باطنين.
فمن اعتدى على أرض ميتة، لأخيه المسلم، فأحياها وهو يعلم أنها ملك لأخيه المسلم، فيكون العرق منه ظالما إما بظاهر وإما بباطن، فالعرق الظاهر الظالم يكون بشيئين: بالبناء فيها- وهذا اعتداء-، وبالغرس فيها -وهذا اعتداء-، والعرق الباطن الظالم يكون بشيئين: بحفر البئر في الأرض، وبإجراء النهر من الآبار والعيون ونحوها، فهذا كله يعتبر لاغيا شرعا، وبينا الأحكام المترتبة على اغتصاب الأرضين، وذكرنا الوعيد الشديد الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.
فالشاهد من هذا أن إحياء الأرض يشترط فيه ألا تكون الأرض ملكا للغير، وهذا الشرط الأول.
والشرط الثاني: أن تكون الأرض خالية عن الاختصاصات، والاختصاصات المراد بها: المصالح والمرافق العامة للمسلمين، التي تعلقت بها مصالح خاصة؛ مثل الطرقات فقد تعلقت بها مصلحة المسلمين بالمشي عليها، ومثل الأماكن التي يتجمع فيها الناس داخل المدن أو حتى خارج المدن في بعض الأحيان، ومثل أن يكون هناك مكان مختص بشيء، كأن تكون هناك أماكن لرمي النفايات خارج المدينة، وهي أرض ميتة، فلا يجوز لأحد إحياؤها؛ لأنه تعلق بها مصلحة جماعة المسلمين، فلابد أن تكون الأرض ميتة بورا، ويكون الإحياء -كما ذكرنا- بالغرس، والبناء، والحفر.
ويجري مجرى الإحياء: كف الماء عن الأرض، وهذا يقع عند الفيضانات من النهر أو السيل إذا غطى المناطق الصحراوية، فقام أحد بسحب هذا الماء من منطقة منها، وهيأها حتى أصبحت صالحة للزراعة، فهذه التهيئة إحياء.
وفي حكم هذا تحجير الرياض، والمراد بالرياض: الروضات التي تكون في القرى، فيتخذون فيها أماكن لزرع الحبوب على الجبال ونحوها، ويحجرونها، ولا يبنون عليها ولا يزرعونها زرعا ثابتا كالنخيل ونحوه، بل زراعتهم تكون موسمية في مواسم المطر، فيحجرونها بتنظيف الأرض، ويضعون بجوانبها الحجار، فهذا نوع من الإحياء، وقوله عليه الصلاة والسلام: (من أحيا) يشمل هذا كله.
ومعنى قول المؤلف رحمه الله (باب إحياء الموات) : أي: سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بإحياء الأرض الميتة، وما يترتب لمن أحياها إذا ثبت إحياؤه لها، من حيث انتفاعه بها ومليكته لها.
وهذا الباب اعتنى به المحدثون، واعتنى به الفقهاء، فكثير من كتب الحديث اعتنت به، وأعني بكتب الحديث غير الصحيحين، التي ذكر مصنفوها حديث: (من أحيا أرضا ميتة فهي له) ، وهم من كان هذا الحديث على شرطه، فهناك بعض الأبواب لا يوجد فيها إلا حديث واحد، فإذا لم يوجد فيها إلا حديث واحد فإن الأبواب تكون بحسب شرط المخرج، فهو ينظر إلى الحديث هل هو من شرطه أو لا؟ فإذا كان من شرطه ذكره، وإلا فلا.
قال رحمه الله تعالى: [وهي الأرض المنفكة عن الاختصاصات، وملك معصوم] .
أي: هي الأرض المنفكة التي لا تعلق فيها بالاختصاصات، مثل الطرق، والأماكن التي يخرج الناس إليها في حال نزول المطر، والأماكن التي تكون قريبة من المدن يتنزهون فيها، والأماكن التي يرمون فيها نفاياتهم، ولذلك يقولون: هناك حريم للمدن، وحريم للبيوت، وحريم للآبار، فحريم المدن: أماكن يمنع أن يستغلها شخص لمصلحته حتى لا يضر بمصلحة الجماعة، فالأماكن التي وضعت -مثلا- لرمي النفايات لا نقول عنها: هي ميتة، ولو جاء شخص وزرع فيها أو بنى عليها فقد أحياها! لكن نقول: فيها تعلق بمصلحة جماعة المسلمين، فلا يصح إحياؤها، وكذلك الطرق التي يمشون عليها، فقد تكون هناك طرق من أراض ميتة تعتبر مسالك لنقل الناس في أسفارهم أو نقلهم داخل المدن، فلا يجوز إحياؤها، ولا يجوز التسلط عليها بحجة الإحياء، والاختصاصات تختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة، ففي القديم كانت هناك مراع، والمراعي التي تكون لإبل الصدقة تسمى حمى، يخصها ولي الأمر لدواب المسلمين؛ لأنهم كانوا يجاهدون في سبيل الله فيحتاج بيت مال المسلمين إلى توفير الخيل والإبل، بحيث لو حدث حادث تكون الظهر -الخيل والإبل- جاهزة، فمثلا لو كان بيت المال فيه ألف ناقة، فهذه الألف تحتاج إلى مرعى لتأكل منه، ولا يمكن أن تكون قريبة من المدينة إلا إذا هيئت لها أرض محمية يمنع منها الناس، فيمنع منها الخاصة لمنفعة العامة، وعلى هذا ذكروا القاعدة المشهورة: يحتمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام، فهنا تدفع مضرة عامة بإحداث الحمى.
والأصل في ذلك ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حمى النقيع، وهو على مسافة أكثر من ثلاثين فرسخا من المدينة، وبعضهم يقول: من جهة النقيعة المعروفة الآن، وجاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه حمى الربذة، وهي المشهورة الموجودة الآن، ومن الحمى الذي كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم العطن الموجود في المدينة، وهو بجوار مسجد السبق، فهذه المنطقة كان يفيض عليها شعب من شعاب جبل سلع، وكانت مرتعا مخضرا، فكان يحميها لإبل الصدقة، وهل إبل بيت مال المسلمين، فهذه كلها اختصاصات، فلو جاء أحد يحيي شيئا من هذه الأماكن فقد عطل مصالح بيت مال المسلمين، فلا يجوز الإحياء في مثل هذا المكان الذي تعلقت به مصالح بيت مال المسلمين، كالطرقات ونحوها.
وقوله: (وملك معصوم) أي: لا يتعلق به ملك معصوم، فإذا كانت الأرض التي يراد إحياؤها ليست ملكا لأحد، خالية عن الاختصاص؛ جاز إحياؤها، لكن إذا كانت ملكا لأحد؛ فإما أن تكون ملكيته لها بالشراء، وإما أن تكون ملكيته لها بالإحياء، فلو أن شخصا جاء إلى أرض بيضاء وبنى عليها أو غرس فيها، ثم تبين أنها ملك لغيره، فلا نقول ببطلان الإحياء إلا بالتفصيل، فإن كانت هذه الأرض ملكها السابق بالشراء فحينئذ الإحياء لاغ؛ لأن يده ثبتت عليها بالشراء والملك، لكن لو كان السابق ملكها بالإحياء، ثم عطلها حتى ماتت، ثم جاء الثاني وأحياها؛ ففيه خلاف بين العلماء رحمهم الله، هل يبطل الإحياء الثاني الإحياء الأول أم لا؟ فعند بعض العلماء وبعض أئمة السلف رحمهم الله كالإمام مالك وغيره من فقهاء المدينة: أن من أحيا أرضا، ثم تخلى عنها حتى رجعت بورا، رجعت كما كانت لعامة المسلمين، فمن سبق إليها وأحياها فهي ملك له.
وهذا القول من يتأمل فيه يجد أن فيه مصلحة عظيمة، خاصة في هذا الزمن الذي تجد الشخص فيه يأتي ويتكلف حتى يحيي الأرض ويأخذ الصك عليها، ثم بعد ذلك يتركها، والشريعة ما شرعت الإحياء لفراغ، وإنما شرعته لمصالح الجماعة؛ كي تحفز الناس لما فيه مصلحتهم، فيبني الرجل مثلا بيتا، أو يجعل له مزرعة فينفع وينتفع، لكن أن يأتي ويعطل هذه الأرض، فيقيم عليها مسكنا أو بناء ثم يأخذ الصك، ثم تصبح الأرض جرداء بيضاء ما فيها شيء، ثم كل من جاء ليحييها يقول له: لا؛ هذه الأرض لي، وقد قضى القاضي لي بها، فهذا يضر بمصالح الناس، ويخرج مقصود الشرع من الإحياء، فمقصوده عمران المدن، ووجود الزرع، أما هذا الإحياء فهو تعطيل للناس، وإذا قلنا: إذا ماتت الأرض المحياة فتبقى في ملك من أحياها، فهذا
مسائل في إحياء الموات
بينا المراد بإحياء الموات، وما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإذن بإحياء الموات، وقد قصدت الشريعة الإسلامية من تمليك المحيي للأرض مساعدة الناس ومعونتهم، والرفق بهم، وإحياء الموات يعين على حصول الخير لعموم المسلمين وخصوصهم، فيحصل الخير لعمومهم بإحياء الأراضي بالزراعة، فيستغني المسلمون عن غيرهم بوجود الزرع والنبات، وكذلك يكون فيه منفعة خاصة للمحيي، كما لو بنى بيتا ليسكنه، ويستر عورته، ويكون فيه الرفق له ولأهله.
ومن عادة العلماء رحمهم الله في هذا الباب أن يبينوا بعض المسائل التي تفرعت عن الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في إحياء الموات، وهذه الأحاديث منها ما هو صحيح، ومنها ما هو حسن، ومنها ما هو ضعيف، والضعيف منها شهدت الأصول باعتباره، أو جرى عمل السلف رحمهم الله به، ولذلك يعتنون ببيان أمور منها: أولا: من الذي يحيي الأرض؟ ومن له حق الإحياء؟ ثانيا: ما هي الأرض التي يجوز إحياؤها، وإذا أحياها إنسان حكم بملكيته لها؟ ثالثا: ما هي حقيقة الإحياء التي اشترطها عليه الصلاة والسلام للحكم بملكية المحيي؟ كما يبينون حقيقة الإحياء؛ لأنها تختلف بحسب اختلاف المقاصد، فإحياء الأرض بالزراعة يحتاج إلى ضوابط، وإحياء الأرض بالبناء يحتاج إلى ضوابط؛ ومن هنا لزم بيان هذه المسائل في باب إحياء الموات.
وبعض أهل العلم يلحق بمسائل إحياء الموات مسائل (الاختصاصات) ، كمن جلس في مكان عام لكل الناس لمصلحة مثل المسجد؛ فمتى يحكم بكونه أحق بالجلوس في هذا المكان؟ وهكذا من جلس في طريق، فوضع بضاعته ليبيعها، وعرضها وبسطها على الأرض؛ فمتى يكون أحق بهذا المكان من غيره؟ ونحو ذلك من المسائل، التي يذكرونها في باب إحياء الموات؛ لأنها وإن كانت استحقاقا خاصا لمدة معينة، فهي في حكم الإحياء من جهة الاستحقاق.
حكم إحياء الكافر للموات

قال رحمه الله: [فمن أحياها ملكها] .
فمن أحيا الأرض الميتة بالزراعة -وسنبين كيف يكون الإحياء بالزراعة- أو بالبناء فيها فقد ملكها، أي: حكم له بها، فيكون مالكا لها، لقوله عليه الصلاة والسلام: (من أحيا أرضا ميتة فهي له) ، فدل قوله: (فهي له) على أنه يملكها.
وقد ذكر المصنف القاعدة العامة: (من أحياها ملكها) أي: حكم الشرع له بملكيتها، فلو نازعه أحد بعد إحيائه إياها، وثبوت ملكيته لتلك الأرض؛ فإنه لا يستحق شيئا من تلك الأرض، وإنما هي ملك لمن أحياها.
قال رحمه الله: [من مسلم وكافر] .
(من) بيانية، أي: سواء كان المحيي مسلما أو كافرا، والمسلم إذا أحيا مواتا في أرض المسلمين فلا إشكال في ملكيته؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من أحيا أرضا ميتة فهي له) ، لكن هل يجوز للكافر الإحياء في بلاد المسلمين؟ والبلاد التي يكون فيها كفار معاهدون أهل ذمة، فأحيا أحدهم أرضا مواتا فيها، فهل يملكها؟ اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة، فمنهم من يقول: الكافر لا يحيي في أرض المسلمين ألبتة، وليس له حق إحياء أرض في أرض المسلمين حتى ولو كان من أهل الذمة؛ لأن المسلمين قد فتحوا هذه الأرض وأصبحت تابعة للمسلمين، فلا إحياء لكافر؛ لأن مقصود الشرع أن تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى، فأحل الله لأهل الكتاب إذا صالحوا المسلمين أن يبقوا في ديارهم، وأن يتركوا على ما هم عليه، لكن لا يتوسعوا وتصبح لهم شوكة بسبب إكثارهم من ملكية الأراضي، وأشد من هذا وأعظم إذا جاءوا إلى بلاد المسلمين، وأرادوا الإحياء فيها، وبالأخص في جزيرة العرب، فإن النص فيها واضح؛ ولذلك لم يملك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر اليهود حينما كانوا بخيبر، ولم يحكم لهم بإحياء، بل قال عليه الصلاة والسلام ليهود خيبر -كما في الصحيحين- لما عاملهم على سقي الأرض: (نقركم فيها ما شاء الله) ؛ فلم يجعلهم ثابتي اليد على الأرض، ولم يجعل لهم سلطانا عليها.
وعلى هذا: فالقول بأن الكافر لا إحياء له قول صحيح، وهو مذهب الشافعية وطائفة من أهل العلم رحمة الله عليهم، ومقاصد الشريعة تدل على ذلك؛ لأن من مقصود الشرع: أن يكون الكافر تحت المسلم، وألا يكون له سلطان على المسلم، ولو فتح لهم مثل هذا -خاصة في بلاد المسلمين- فإن الشوكة تكون لهم، وتكون لهم القوة، وقد يضر ذلك بمصالح المسلمين، وقد يضيق هذا على من يريد الإحياء من المسلمين؛ وعلى هذا لا يفتح لهم الباب، والقول بمنعهم هو الأوجه والأرجح.
ومن أهل العلم من أحل لهم الإحياء مطلقا، وهو قول المصنف رحمه الله، ومن أهل العلم من قيد ذلك فقال: إذا أذن لهم الإمام أن يحيوا في ديارهم فلهم ذلك، ولهم أن يملكوا، وإذا لم يأذن لهم فإنهم لا يملكون.
والقول بعدم فتح باب الإحياء لهم أصح، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث الصحيح- قال: (لا تبدءوا أهل الكتاب بالسلام، وإذا لقيتموهم في الطريق فاضطروهم إلى أضيقه) ، وهم إذ ذاك أهل ذمة وتحت سلطان المسلمين، وقد فصلنا هذه المسائل في باب أحكام الذمة، وبينا أن مقصود الشريعة التضييق عليهم حتى يسلموا، فإذا نظرت إلى حكمة الشرع في أن الذمي إذا كان تحت حكم المسلمين لا يبدأ بالسلام، وإذا مشى في الطريق اضطر إلى أضيقه، ولا يرفع داره فوق دار المسلمين، ولا يكون لهم شعار ظاهر، فيصبح الشعار والظهور كله للإسلام؛ فيحس الذمي بالذلة والصغار، وهذا هو مقصود الإسلام؛ ولذلك قال تعالى: {حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} [التوبة:29] ، فإذا شعروا بالذلة والصغار فإن ذلك يدفعهم لاعتناق الإسلام، وينفر ذلك المسلم عن الردة، حتى حديثي الإسلام يتألف قلوبهم إلى الإسلام بما يكون من حسن المعاملة، والتضييق عليهم إنما جاز للضرورة، وقد نبه على هذا الإمام ابن القيم رحمه الله في كلامه على بعض المسائل التي اختلف فيها في مساواة الذمي بالمسلم.
فالذي تطمئن إليه النفس أنه لا يكون للكفار ملك بالأحياء في بلاد المسلمين.
ومن أجازوا ذلك استدلوا بعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (من أحيا أرضا ميتة فهي له) ، والعموم يخصص بالشريعة العامة، وخاصة في هذا الزمان، فلا يشك المسلم بحصول الضرر لحرص الكفار على التمكن من ديار المسلمين، ولا مانع من تخصيص العموم، إذ أن العموم خوطب به المسلمون، وإذا كان المخاطب به هم المسلمون فالحكم يكون لهم، وعلى هذا: لا يدخل أهل الذمة في هذا العموم، فهو عام مخصص بعرف الشرع أي: أن الشرع جعل الخطاب للمسلمين وقال: (من أحيا) ، ومما يؤكد هذا قوله عليه الصلاة والسلام: (من أحيا أرضا ميتة فهي له) أي: بشرط ألا يكون فيها حق لمسلم، وأراضي المسلمين التي لم تحيا وهي في بلادهم ملك لعامة المسلمين، وإذا مكن الكافر منها فلا شك أنه يخالف مقاصد الشريعة العامة، فالعموم هنا لا يخلو من نظر كما ذكرنا.
قال رحمه الله: [بإذن الإمام وعدمه] .
أي: سواء أذن الإمام أو لم يأذن.
قال رحمه الله: [في دار الإسلام وغيرها] .
أي: سواء أحيا في دار الإسلام أو في غير دار المسلمين كدار الحرب، فإذا كان الكفار ممن وقع بينهم وبين المسلمين حرب، وأحيا مسلم دارا فيها؛ فإنه يملكها.
وقد ذكرنا مسألة: إذا فتحنا بلاد الكفار، وكان فيها ملك للمسلمين، فهل ترتفع عنها يد المسلم لكونها صارت مفتوحة عنوة أو لا؟ فيه تفصيل عند العلماء رحمهم الله، وقد ذكرنا هذه المسألة في كتاب الجهاد.
قال رحمه الله: [والعنوة وغيرها] .
أي: سواء فتحت عنوة أو فتحت صلحا.

ضوابط إحياء الموات
قال المصنف رحمه الله: [ويملك بالإحياء ما قرب من عامر إن لم يتعلق بمصلحته] .
الأراضي التي يقع عليها الإحياء الأصل أنها تكون خارج المدن، أما ما داخل المدن فالغالب فيها أنها مملوكة أو أنها من مصالح المسلمين ومرافقهم العامة، فالمناطق التي تحيا غالبا تكون في ضواحي المدن، وضواحي المدن تنقسم إلى قسمين: ما قرب من المدينة، وما بعد عنها.
أما القريب منها فلا مجال لإحيائه إن كان هذا القريب متصلا بالمدينة، وتتعلق به مصالح أهلها، فلا يفتح باب الإحياء فيه، ولا يمكن أحد من الإحياء فيه، مثل الأماكن القريبة من المدن التي يرمي فيها الناس الفضلات والنفايات، أو الأماكن التي للفروسية والسباق بالخيول كما كان في القديم، أو أماكن اعتاد الناس أن يخرجوا ويتنزهوا فيها، وعرف أنها متنزه للناس، وقد كان العقيق -مع أنه داخل حدود المدينة- متنزها للصحابة رضي الله عنهم، وكانوا إذا نزل الغيث خرجوا إليه، وأثر هذا عن جمع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فهو قريب من المدينة، لكنه يعتبر متنزها ومتنفسا للناس فلا يملك؛ لأن تمليكه لمن يحييه يضر بمصالح المسلمين، فكل ما كان قريبا لا يمكن تمليكه لمن يحييه إذا أضر بالمصالح.
ومن هنا نعلم أنه لا يصح الإحياء في عرفات بالنسبة لأهل مكة، مع أنها خارج حدود الحرم، وهذا مبني على أنها مشعر، وإحياؤها يضر بمصالح المسلمين، وهكذا منى ومزدلفة، فجمهرة العلماء رحمهم الله سلفا وخلفا على أنها لا تملك، ولا يملك أحد أرضا فيها مهما كان، ولو ادعى أنه يريد إحياؤها فلا ملكية له ولا عبرة بهذا الإحياء؛ لأن منى مناخ من سبق، وتمليكها يضر بالناس في مشاعرهم؛ لأنها هيئت وأعدت من أجل أداء المناسك، فلا يملك أحد فيها ألبتة، واختار هذا القول سماحة الشيخ العلامة الإمام الجليل محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله برحمته الواسعة كما في فتاويه، ونبه أنه لا ملكية لأحد في هذه المشاعر، ولا يثبت لأحد استحقاق الملك فيها، ولا شك أن هذا القول هو القول الحق، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (منى مناخ من سبق) ، فيتضرر بالإحياء فيها الحاج الذي يؤدي المناسك، فلا يملك أحد شيئا في هذه المواطن؛ لأنها جعلت لعموم المسلمين، ولا يستطيع أحد أن يدعي أنه أحيا شيئا فيها؛ لأنها ليست من جنس ما يمكن الإحياء فيه.
وهل هناك مصلحة في مضايقة من يؤدي هذا الركن العظيم من أركان الإسلام؟! فلذلك لا شك أن المشاعر ليست من الأماكن التي يحيا فيها، وهكذا بالنسبة للمتنزهات، ومواقف السيارات القريبة من المدن، ونحو ذلك، فهذه كلها لا تملك بالإحياء، ومن أراد الإحياء فليذهب إلى غيرها، وهذا مبني على القاعدة التي نبه عليها العلماء، وهي: الضرر يزال، فلو أننا قلنا بشرعية الإحياء مطلقا لتضرر من يرتفق بهذه المصالح، والضرر لا يسمح به، بل الشريعة تأمر بزواله، ومما يدخل في هذه القاعدة -كما ذكر العلماء- أن يكون هناك مرفق لجماعة المسلمين، فيريد شخص مصلحة خاصة من هذا المرفق بحيث يضر بالجماعة، فهي مصلحة فرد تضر بالجماعة، فهل نقدم مصلحة الفرد على مصلحة الجماعة أم نقدم مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد؟ لا شك أن حكم الله عز وجل أن تقدم مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد، فكيف إذا كانت مصلحة الجماعة دينية شرعية؟! فالحكم بها أولى وأحرى، ومما يدخل في هذه القاعدة ما ذكره الإمام الشاطبي رحمه الله في كتابه الموافقات أنه إذا رخص التاجر سعر السلعة وحصل الإضرار بالسوق، فلا يقر؛ فهي مصلحة فرد يحصل بها الضرر للجماعة، فلا تقر الشريعة هذه المصلحة الخاصة بضرر عام، وإنما تدفع الضرر العام بالضرر الخاص، ومن قواعدها: إذا تعارضت مفسدتان إحداهما أعظم من الأخرى روعيت العظمى بارتكاب الصغرى.
حقيقة الإحياء
قال رحمه الله تعالى: [ومن أحاط مواتا] .

حفر بئر في أرض موات
قال المصنف رحمه الله: [أو حفر بئرا فوصل إلى الماء، أو أجراه إليه من عين ونحوها] .
الآبار على نوعين: النوع الأول: ما يقوم على الجمة، وهي الآبار التي تكون في الأراضي الغنية بالماء، بحيث لو حفرت مترا أو مترين أو ثلاثة أمتار تمتلئ؛ لأن الأرض مليئة بالماء، فإذا حفر هذا القدر جاءت الجمة واجتمعت في البئر، فإذا نزحت الماء عادت مرة ثانية، فمثل هذا الماء إذا كان كافيا لإحياء الأرض، وكان نصف البئر المحفور يكفي ماؤه لإحياء الأرض فلا إشكال، فيحفر ويحيي الأرض، لكن إذا كان الماء قليلا لا يكفي لإحياء الأرض، وكان من يعرف الزراعة يعرف أن هذا الماء لا يمكن صاحبه أن يزرع الأرض؛ فلا يكفي هذا للحكم بإحياء الأرض.
النوع الثاني: الآبار الجوفية، فهذه ماؤها غير ماء الأولى، الأولى لو حصل جفاف -كما لو قل المطر أو قحط الناس- انقطعت مياهها لأنها سطحية، ولذلك مثل هذه الآبار السطحية خاصة في المناطق النائية التي يقل فيها الماء، لا يكون مثلها موجبا للحكم بالإحياء، وعلى القاضي أن يحتاط في مثل هذا؛ لأنه ربما خدع في وقت امتلاء البئر، فيظن أن الأرض يمكن إحياؤها بهذا القدر من الماء، والواقع أن مثل هذا لا يكفي، لكن المياه الجوفية التي يكون الماء موجودا فيها غالبا، فإنها سبب لحياة الأرض، فمثل هذه الآبار لا شك أنها تثبت الملكية بها.
وللبئر حريم سيبينه المصنف، لكن نحن نتكلم هنا على أن حفره للبئر في الأرض التي سورها نوع من الإحياء، فإذا أرادها للزراعة أو للسكنى وحفر فيها بئرا؛ فهذا نوع من الإحياء، والبئر ينتفع بها حتى إذا كانت الأرض للسكنى، فيكون البئر للبيت كما في القديم أو للزراعة، ويكون إحياؤها بذلك الماء.
وقوله: (أو أجراه إليه من عين ونحوها) أي: أو أجرى الماء إلى الأرض المحياة من عين، أو من غيرها، كأن يحفر في مكان تتوافر فيه المياه، ويجري الماء عن طريق القناطر أو عن طريق المواسير -كما هو موجود في زماننا- إلى هذا الموضع الذي ليس فيه ماء، وقد كانوا في القديم يستقون من العيون، بواسطة القناطر والمجاري التي تأتي من العيون والخيوف وتسقي المزارع، وتجري القنطرة من بئر بعيدة أو من عين بعيدة، فإذا حفر بئرا بعيدة، وأوصل ماءها إلى نفس المكان المحيا، فإنه نوع من الإحياء.
نزح الماء عن أرض مغمورة وحبسه عنها
قال رحمه الله: [أو حبسه عنه] .

هنا الصورة عكسية، في الأول الأرض يابسة، وهنا الأرض مليئة مغمورة، فإذا كانت الأرض مغمورة كواد في النيل أو الفرات أو دجلة، فغمر النهر الأرض، فيقوم المحيي فيحول بين الماء وبين الأرض، فيحبس الماء عن أرضه، ويضع الحواجز التي تمنعه، فتنكشف الأرض، وتصلح للزراعة، وتكون خصبة، فهذا نوع من الإحياء، فهو يكشف الماء ثم بعد ذلك يدخره حتى يستقي منه، لكن بشرط: ألا يضر بالنهر، فإذا أضر به كأن يدفن جزءا منه فلا يحق له ذلك؛ لأن هذا التضييق سيضر بالطرف الثاني من النهر، وإذا ضاق مجرى النهر قوي دفعه على ما بعده، فيكون دفعه شديدا كحال الفيضانات والأمطار ومثل هذا اعتداء، ولذلك يحكم العلماء بأن النهر لابد له من حمى عن يمينه وعن يساره، وهما ضفتا النهر أو ضفتا الوادي، فهذه حمى لا يجوز لأحد أن يدخل فيها فيضيق مجرى النهر، ولذلك قالوا: لا يملك بالإحياء ما كان داخل مجاري السيول؛ لأنه إذا دخل مجاري السيول فإما أن يعرض نفسه للخطر، فيغرق وتغرق دوابه ويفسد ماله ويذهب زرعه، وهذا موجود، ومن سنن الله عز وجل أن من غلب على الماء في مجاري الأنهار والسيول أن الله عز وجل يسلط عليه السيول الجارفة، وإما أن يضيق مجرى النهر أو مجرى الوادي، فإذا ضيق مجرى النهر أو مجرى الوادي أضر بمن هو أعلى منه، وبمن هو دونه، فإذا كان مجرى الوادي مائة متر، فضيقه بدخوله فيه حتى صار خمسين مترا، فمعنى ذلك: أن الماء سينحبس، فإذا جاء السيل فإنه سيضر بالناس ويؤذيهم؛ ولذلك لا يجوز الإحياء بسحب الماء أو الدخول على المجاري، فهذا هو مقصود المؤلف رحمه الله، أنه لا يضر بالنهر ولا يضر بمن يستقي من النهر.
قال رحمه الله: [ليزرع] .
اللام: للتعليل، أي: يحوط الأرض، ويحفر فيها، أو يجري لها الماء من بعيد بقصد الزراعة، فهذا إحياء للزراعة، كذلك من الإحياء للزراعة حراثة الأرض، وتنظيف الأرض من الحجارة، وتنظيفها من الشجر حتى يزرع فيها، وتكون صالحة للزرع، وكل هذا يعتبر من الإحياء.
قال رحمه الله: [فقد أحياها] .
أي: إذا حصل منه هذا فإنه يكون محييا لها؛ لأنه إحياء خاص، وهو الإحياء بالزراعة.

يتبع


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #464  
قديم 14-02-2025, 01:20 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,234
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي


إحاطة الأرض وزراعتها
هنا فصل المصنف رحمه الله حقيقة الإحياء، فكأن سائلا سأل: كيف يكون الإحياء؟ فقال رحمه الله برحمته الواسعة: (ومن أحاط مواتا) ، فالأرض إذا كانت على طبيعتها مواتا، فلابد من فصلها عن غيرها، فالإحاطة تكون بالسور، أو برفع الأرض، أو بالتحجير بوضع جدار من الحجارة بعضها على بعض، أو من الخشب، أو الإحاطة بالأسلاك الشائكة الموجودة في زماننا، أو غير الشائكة من الزنك أو الحديد أو غير ذلك مما تحصل به الإحاطة، والمقصود فصل ما يريد إحياءه عما هو من أصل الموارد، فلابد أن يفصل أرضه؛ لأنه سيحكم له بملكية هذه الأرض، والملكية تنصب على معين لا على مجهول، فلابد -لكي نحكم له بالملكية- أن يحدد ما يحييه، ويكون التحديد -كما ذكرنا- بالإحاطة، والإحاطة قد تكون من جنس الأرض نفسها كرفع العقوم، وهو أن يرفع عقم التراب، فيحيط أرضا مثلا مائة متر في مائة متر، فهذه الإحاطة بالتراب نوع من الإحياء، لكن ليست كل الإحياء، فهناك مرحلتان للإحياء: المرحلة الأولى: تهيئة الأرض للإحياء، والمرحلة الثانية: إثبات الإحياء بالغرس أو البناء أو نحو ذلك، فإذا رفع عقوم الأرض، وبين عقومها، فحينئذ يشرع في الإحياء، وإذا سوى الأرض وجعلها مستوية، فجعل أعلاها مستويا مع أسفلها، وساوى الأرض، فهذا شروع في الإحياء، وكذلك الرياض التي تكون على الجبال، وعلى مجاري الأنهار أو العيون إذا حجرها ووضع الحجارة حولها بحيث إذا جاء الماء ينحبس في نصيبه حتى يسقيه، ثم يرسل ما زاد عن حاجته، فهذا نوع من الشروع في الإحياء، وهذا الشروع في الإحياء لا يثبت الملكية، فلا يكون مالكا بمجرد بناء سور أو بناء عقم؛ لأن من بنى سورا على أرض لم يحيها حقيقة، إذ لو فتح هذا الباب فقد يأتي شخص إلى أرض واسعة (كيلو في كيلو) ، ويبني عليها سورا ويقول: أحييت هذه الأرض كلها! إنما يكون الإحياء إما بالزراعة وإما بالبناء، أو نحو ذلك مما يقصد به الإحياء، ومن الإحياء أن يجمع بين زراعتها وبنائها، أو يجعلها مستودعات أو نحو ذلك، لكن مجرد بناء السور أو الإحاطة لا يكفي.
فإذا أحاط الأرض وقلنا: لا يملك بمجرد الإحاطة، فيرد
السؤال ما هي فائدة قولنا: إن الإحاطة شروع في الإحياء؟ نقول: إنه بهذه الإحاطة يكون له حق السبق، بحيث لو جاء منافس يريد أن يحيي نفس الأرض نمنعه منها، ونقول لمن أحاطها: يا فلان! أحي هذه الأرض وإلا مكنا غيرك منها.
إذا: التحجير والإحاطة دون وجود إحياء فعلي في نفس الأرض لا يقتضي الحكم بالملكية، بل لابد من وجود الإحياء الحقيقي بزراعة أو استغلال يثبت بمثله الإحياء، فلو أنه حجر الأرض ونازعه غيره؛ قلنا: إن هذا التحجير يوجب الحكم بالسبق.
يرد سؤال: لو أن شخصا بنى سورا على أرض كبيرة، ولم يحدث فيها بناء ولا زرعا، ولم يحيها إحياء يثبت بمثله الملكية، وتم هذا البناء للسور ومكث مدة، ثم جاء أحد يريد أن يحيي هذه الأرض، فقال له: أنا بنيت الجدار، لكنه لم يحدث شيئا، فهل يبقى الوضع هكذا على مر السنين والدهور مع أنه قد يفعل هذا حيلة فيبني الجدار ويحجر؟ هذا يسمى التحجير، ويروى فيه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما -وفي سنده الحسن بن عمارة ضعيف- أنه قضى فيمن حجر أرضا ثلاث سنين، ثم لم يفعل خلال الثلاث السنوات شيئا، أنه يمكن غيره من الإحياء، ويرفع الأول يده، فنقول له: خلال الثلاث السنوات إذا أحييت ملكت، وأما إذا لم تحي فغيرك أحق، والعمل على هذا عند أهل العلم أنه يؤجل ثلاث سنوات لإحيائها بالزراعة أو نحو ذلك.
وهذا القول لا شك أنه يقفل باب الضرر الموجود في زماننا، فقد يأتي الشخص ويرفع عقم الأرض، ولا يحدث فيها شيئا ألبتة، ويأتي الثاني ويبني جدارا على أرض ولا يحدث فيها أي إحياء، ثم يمتنع من تمكين غيره منها، فلا شك أن في هذا إضرارا وتضييقا على المسلمين؛ وتصور المدينة أو القرية إذا أصبح كل شخص يبني سورا طال أو قصر، وإذا بالناس يتباعدون، ولو أراد شخص أن يخرج خارج المدينة ليرتفق لا يجد مرفقا أو منتزها إلا بعد عشرين أو ثلاثين أو أربعين كيلو مترا! فكأنهم حبسوا في مدنهم! فهذا تضييق على الناس؛ ولذلك: لابد من وضع ضوابط شرعية، فلا يستغل كل شخص قضية الإحياء حتى يضيق على المسلمين في مصالحهم.
إذا: الإحاطة لا تكفي في الإحياء، بل هذا تحجير.
حريم البئر
قال رحمه الله تعالى: [ويملك حريم البئر العادية خمسين ذراعا من كل جانب، وحريم البدية نصفها] .
حريم البئر غير المطوية
البئر الصغرى التي تكون غير مطوية وغيرة ثابتة، محفورة باليد وما فيها طي، ومثل هذا النوع من الآبار مؤقت قد ينهدم ولا يبقى، لكن البئر العادية المبنية المطوية تبقى قرونا؛ لأنها ثابتة، لكن الآبار غير المطوية وغير المعتنى بها تبقى مؤقتا، وقد يحفرها الشخص ثم يرتحل عنها؛ فيعطى من الحريم ما يناسبه، ومن العلماء رحمهم الله من عمل بهذا الحديث المرفوع وجعله أصلا، ومنهم من قال: هذا أمر مختلف بحسب العرف، فنمكن صاحب البئر من أخذ حمى للبئر على قدر حاجته، فمثلا: قبيلة حفرت بئرا فتحتاج حريما إلى خمسين ذراعا، والقبائل الصغرى ليست كالكبرى، فمثل هذا يختلف باختلاف أحوال الناس، وهذا مذهب الجمهور، وهذا قول قوي؛ لأنه لم يصح في ذلك شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن عمل بهذا المرفوع، فلا بأس، وقد جرى عليه العمل عند بعض السلف رحمهم الله.
قوله: (خمسين ذراعا من كل جانب) لأن الناس عندما يردون على الآبار يستقون لدوابهم ما يريدون من مكان معين، والبئر في بعض الأحيان يكون لها منزح للماء وبرك وحياض في جهة معينة يستقى منها، لكن بالنسبة للبئر عموما قد يستقي منها العشرة في آن واحد، كالبئر الكبيرة، وكل واحد له رشاء، وماؤها قريب ما تحتاج إلى بكرة ونحوها فينزح الناس منها، لكن إذا كان للبئر بكرة واحدة -يعني دلو واحد- فيحتاج الناس إلى حياض، وإلى قنطرة تسني إلى الحياض، وإلى ترتيب، فلذلك: ترك الأمر إلى اختلاف الأحوال واختلاف الأشخاص أنسب وأولى.
قوله: (وحريم البدية نصفها) .
حريم الشيء حرمته، والمراد بذلك: ما ذكرناه أن هذه البئر تحتاج إلى مثل الحمى تحمى به حتى تبقى، وحتى يتمكن صاحبها الذي احتفرها من أخذ مصلحته التي يريدها منها برفق.
حريم البئر المطوية
(البئر العادية) نسبة إلى عاد، ومن عادة العرب أن القديم تنسبه إلى عاد، فالشيء القديم يقال عنه: العادي، والمراد بها هنا: البئر المطوية، وتكون إلى عين ومجرى، وما تكون بئرا مؤقتة كالتي تجتمع بالجمة.
وكانوا في القديم يحفرون الآبار من أجل أن يستقوا لأنفسهم أو يحفروها سبيلا للناس، أو يحفرها الرجل لخاصته مثل المزرعة، وقد نص العلماء رحمهم الله أنه لو حفر أحد بئرا واستخرج الماء من البئر فإن لهذه البئر حريما، والحريم يشبه الحمى؛ لأن من حفر بئرا يحتاج إلى مسافة معينة ليستفيد من هذه البئر، فكانوا في القديم، تحفر قبيلة بئرا في مكان ما، فيقال: هذه بئر بني فلان، فيحتاجون إلى سقي دوابهم، فإذا جاءوا بدوابهم فإنهم يحتاجون إلى مكان متسع حتى يشربوا، ويحتاجون إلى أحواض ليكون فيها الماء، فالماء ينزح من البئر ويوضع في هذه الحياض حتى ترده الإبل والدواب، فهذا شيء رتبه العلماء رحمهم الله، ونظروا إلى أن الأعراف جارية بوجود مصالح مرتبطة بالبئر، وقد جاء حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نص على أن حريم البئر العادية خمسون ذراعا، والبدية خمسة وعشرون ذراعا، لكن من حيث العمل عند العلماء رحمهم الله أن حريم البئر مرتبط بمصلحة هذه البئر، فقد يطول وقد يقصر على حسب اختلاف المراد من هذه البئر.
إقطاع الأرض الموات لمن يحييها
قال رحمه الله: [وللإمام إقطاع موات لمن يحييه ولا يملكه] .
قال رحمه الله: (وللإمام) اللام: للاختصاص، الإقطاع مثل المنحة، وفيه خلاف بين العلماء رحمهم الله، فمن أهل العلم من قال: يجوز للإمام أن يقطع وأن يمنح ولا يجوز لمن دونه ذلك، فيختص الإقطاع بالإمام وحده، وقالوا: إنه لا يقطع إلا في شيء فيه مصلحة للمسلمين؛ لأن أراضي المسلمين لهم جميعا، ولا يجوز تخصيص بعضهم دون بعض إلا إذا وجدت مصلحة للمسلمين في ذلك التخصيص، وهذا هو الأصل الشرعي، وهو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثبت الإقطاع عنه عليه الصلاة والسلام في الأحاديث الصحيحة، ومنها حديث وائل بن حجر الكندي رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطعه أرضا بحضرموت، وكذلك أقطع عليه الصلاة والسلام الحارث بن بلال رضي الله عنه وأرضاه بالعقيق -ويقال: إنه العقيق الذي قرب الطائف- أقطعه منجما، ولما كان زمان عمر رضي الله عنه وأرضاه قال له عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أقطعك لتحييه، ولم يقطعك من أجل أن تحتجزه من دون الناس، فما أحييته فهو لك، وما لم تحيه فالناس معك فيه سواء، فدلت هذه السنة العمرية على أن الإقطاع نفسه لا يقتضي التمليك، وأنه ولو قلنا بصحة الإقطاع لا يكون تمليكا على أصح قولي العلماء رحمهم الله لدلالة السنة عليه، فيكون أولية وسبق، فإن أحياها وتعهدها وتولاها ثبتت ملكيته، وأما إذا لم يتمكن من ذلك فقد جاء عن عمر رضي الله عنه ما يدل على اعتبار الثلاث سنين مهلة للإحياء، فإن رجلا أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضا، ثم تأخر في إحيائها، فجاء قوم وأحيوها، فاختصم معهم إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له عمر: لو كان أبو بكر أقطعك إياها لتركتك، يعني: لأن المدة لم تصل إلى ثلاث سنوات، أما وقد أقطعك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تحيه فلا تملكه -أي: لا ملك لك- لو كنت تريده لأحييته، فيكون فائدة الإقطاع سبق الأولوية وكونه أحق من غيره حتى يقوم بعمارة الأرض، وإلا لو فتح الإقطاع عموما لأضر بمصالح المسلمين، ومن هنا قالوا: إنه لابد من قيامه بالإحياء، وتعهده ذلك المكان بما يكون به الإحياء الموجب لثبوت الملكية.
وبين رحمه الله بهذه الجملة مسائل:
إقطاع الإمام للأرض
المسألة الأولى: أن من حق الإمام الإقطاع، وهذا مبني على مصلحة المسلمين كما ذكرنا؛ لأنه نائب عنهم، فما كانت المصلحة في إقطاعه أقطعه، وما لا مصلحة في إقطاعه فلا يقطع فيه، وهكذا ما أضر بهم فضيق عليهم فإنه لا يقطع فيه، فيكون الإقطاع لما فيه المصلحة.
تمليك الأرض بشرط الإحياء
المسألة الثانية: إذا أقطع شخصا فإن أحياه كان ما أقطعه ملكا له على قضاء عمر رضي الله عنه وأرضاه، وهي سنة عمرية أن من أحيا ما أقطع يملكه، كما قال للحارث: فما أحييته فهو لك، وما لم تحيه فلا تحتجزه من دون المسلمين، أي: ليس لك حق أن تحتجزه من دون المسلمين.
المسألة الثالثة: مفهوم قوله: ولا يملكه -أي: لا يملكه بالإقطاع- أنه لا يصح بيعه قبل إحيائه، فحينئذ لا تثبت له يد الملكية بمجرد الإقطاع حتى يكون منه إحياء، وهو والمسلمون في ذلك سواء؛ مادام أنه لم يحيه، ولم تكن له يد عليه.
إقطاع الجلوس في الطرق لمن يبيع فيها
قال رحمه الله: [وإقطاع الجلوس في الطرق الواسعة ما لم يضر بالناس] .
للإمام الإقطاع للجلوس في الطرقات، والمراد بهذه المسألة الباعة، كانوا في القديم يختصمون في الطرقات؛ لأن الباعة يبسطون ما يبيعونه على الطريق من أجل أن يشتري الناس منهم، فللإمام الإقطاع للجلوس في الطرقات من أجل البيع وعرض السلع، فيحدد أماكن ويقول: المكان الأول لفلان والثاني لفلان وهكذا لأنه لو تركهم ربما حصلت فتنة بين الناس وحصل ضرر، فله الحق أن يتدخل من أجل كف بعضهم عن بعض تحقيقا للمصلحة، ودرءا للمفسدة، فيجعل لهم من يرتبهم، ويقسم بينهم الأماكن بالعدل والسوية، وإن حصلت مشاحة أو استواء أقرع بينهم أو نظر إلى ما يوجب تفضيل بعضهم على بعض مما يأذن به الشرع، فهذا إقطاع للجلوس على الطرقات، لكن بشرط: ألا يضر هذا الجلوس بالمسلمين، فإن كانت الأماكن التي أقطعت تضيق الطريق وتؤدي إلى ضيق الناس أثناء خروجهم من المساجد أو من المجتمعات أو نحوها؛ فحينئذ لا يقطع مثل هذا، بل يقطع على وجه لا ضرر فيه، ومما يضر بالناس في مشيهم في هذا الطريق زحام الناس على الباعة، فأصحاب البيوت يتضررون في خروجهم ودخولهم، ويتضرر نساؤهم، ويطلع على عوراتهم، فإن كان كذلك لم يقطع في مثل هذا، ومراد المصنف أن الحكم العام ينبغي ألا يضر بالمصالح الموجودة للمسلمين في ذلك المكان، ولذلك لابد من ترتيب هذا الأمر، والنظر إلى مصالح الناس، ومراعاة عدم حصول الضرر عليهم، وهذا الضرر قد يكون حسيا كالزحام الشديد في الطريق، وقد يكون معنويا كصياح الناس ولغطهم، لا سيما إذا كان الإقطاع لهم بجوار المستشفيات أو بجوار الأماكن التي يكون فيها مرضى، أو فيها كبار السن، أو فيها مدارس، فيكون هذا إزعاجا لهم، فكل شيء ينبغي أن يترتب، ويوضع في مكانه، فيكون الإقطاع على وجه لا ضرر فيه، والشريعة لا تأذن بالمصلحة التي فيها ضرر، إنما تريد المصلحة التي لا ضرر فيها، أو يكون الضرر فيها مقبولا وسائغا، ولذلك لابد أن يراعي الإمام عدم الإضرار بالناس.
قال رحمه الله: [ويكون أحق بجلوسها] .
ويكون المقطع أحق بالجلوس في هذا المكان ولا يملكه، فكونه أذن له بالجلوس في هذا المكان لا يقتضي ملكيته، فلو أزيل هذا الشارع مثلا لم يعط شيئا عوضا عنه؛ لأنه لا يملك المكان بهذا الإقطاع، ولا يجوز أن يبيعه، فلو جاء وقال: أنا أخذت محلا في المكان الفلاني لأبيع فيه في الموسم، فلا يجوز أن يقول لشخص: اشتر المكانه مني؛ لأنه لا يملكه، وشرط الشراء والبيع: أن يكون البائع مالكا لما يبيعه، وهذا ليس بمالك، ولذلك لا يصح بيعه، لكن بعض أهل العلم يرخص في أخذه العوض للتنازل، وهذا مبني على مسألة: هل يجوز المعاوضة والنزول عن الاستحقاق أو لا؟ فبعض العلماء يرخص في هذا.
لكن تجويز أن يبيع استحقاقا لا يخلو من نظر، خاصة في مثل هذا؛ لأنك إذا جئت تنظر إلى أن الإقطاع من أجل مصلحة المسلمين، فإذا تأخر عن ذلك وقال: لا أريد، وأريد غيري، فيخرج حتى يمكن من هو أحق منه، وهذا هو الذي كان يختاره بعض مشايخنا: أن الاستحقاق لا يحق فيه أخذ العوض حتى ولو كان سابقا، والسبب في هذا: أننا لو جئنا -مثلا- إلى أماكن نريد أن نقطعها لأشخاص من أجل البيع فيها في الموسم، فرضنا أنها خمسمائة مكان، وتقدم ألف شخص، فإذا أقطعت هذه الأماكن، فإن الخمسمائة شخص سيأخذون هذه الأماكن، والخمسمائة الثانية من الأشخاص أولهم يستحق المكان الذي ينسحب منه أي شخص من السابقين؛ لأن كل مكان يخلو من الخمسمائة الأولى يستحق للخمسمائة الثانية، فهناك من هو أحق، فكيف يقدم من هو متراخ، ويكون ذلك للعوض؟ فلذلك كثيرا ما يحدث الضرر بمثل هذه الفتوى، فتجد من يتقدم لهذه الأماكن وهو لا يريدها، ولم يفكر في يوم من الأيام أن يبيع فيها، إنما مراده أن يأخذها حتى يقول: أنا أخذتها وسبقت، فأبيعها وآخذ عوضا، فهو لا يريد إلا المتاجرة بهذا الاستحقاق، ولذلك قفل الباب في مثل هذا والمنع منه؛ أولى وأحرى إن شاء الله.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #465  
قديم 14-02-2025, 01:27 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,234
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب إحياء الموات)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (386)

صـــــ(1) إلى صــ(17)


شرح زاد المستقنع - باب إحياء الموات [2]
الشريعة الإسلامية تسد كل باب يدعو إلى البغضاء والتنازع، وتنظم وترتب الأمور التي قد يحدث فيها تخاصم، فمن ذلك أنه من سبق الى مكان مباح فهو أولى به، وإن سبق إليه اثنان ولم يمكن اشتراكهما فيه أقرع بينهما، وقد تكلم العلماء في أحكام السبق إلى مكان في المسجد، وحجز مكان فيه، وحكم من قام من مجلسه ثم رجع إليه، وهذا كله يدل على كمال الشريعة وحكمتها.
السبق معتبر في الإقطاع
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ومن غير إقطاع لمن سبق بالجلوس ما بقي قماشه فيها وإن طال] .
هذه المسألة؛ ما فائدتها وتعلقها؟! المصنف رحمه الله رتب المسائل: فتكلم عن مسائل الإحياء وحقيقة الإحياء، ثم تكلم عن الإقطاع؛ لأن الإقطاع تكون الملكية فيه بعد الإحياء، فأثبت للمقطع الحق في السبق، ثم بين أنه لا يملك، وبين أن الإقطاع إما أن يكون للأرض من أجل أن تحيا، وإما أن يكون لأرض من أجل الجلوس، فبعد أن بين الإقطاع الأخف -وهو الذي للجلوس- شرع في مسألة المجالس، فمن يستحق المجلس ويقدم على غيره؟ ومتى يحكم للشخص بأنه أحق بهذا المكان الذي جلس فيه، بحيث لا يجوز لغيره أن يزاحمه فيه؟ نتكلم عن هذه المسألة: فأولا: نذكر الأحقية بالسبق، وثانيا: هل هذه الأحقية تثبت؟ هناك أماكن إذا جلس فيها الإنسان وسبق إليها يبقى على الدوام، مثل أماكن البيع، مثلا: شخص من عادته أن يبسط بسطته في أول الطريق، ما أقطعه أحد، لكن يأتي ويضع فراشه في هذا المكان، ويبسط بسطته، ويأتي البائع الثاني بجواره والثالث والرابع، فما دام قماشه موجودا -كما ذكر المصنف- فهو أحق، فهو عادة يبسط بالنهار، فإذا غابت الشمس حمل متاعه وذهب وجاء في اليوم الثاني، فمن أهل العلم من يقول: كل مكان سبق إليه إنسان، وجرى العرف بجلوسه فيه لبيع أو غرض غير محرم شرعا، فهو أحق به، وقد يكون هذا الغرض مما يتناوب، فالأماكن التي تكون ليلية ويأتي الشخص فيها ليلا ويبسط قماشه فيها كل ليلة، ويداوم على ذلك المكان، فهو أحق به من غيره، فلو جاء في الليلة الثانية وقد سبقه جاره وجلس في مكانه فإنه لا يستحقه، فما دام أنهما في صنعة واحدة وفي عمل واحد وسبق هذا فيحكم له بالسبق ما داما في هذا المكان، ثم يفصل فيه على الأحوال، فإذا كانوا يبيعون في الليل فهو أحق به ليلا، وإذا كانوا يبيعون في النهار فهو أحق به نهارا، وهذا مذهب طائفة من العلماء رحمهم الله فيرون أن مداومته على المكان في هذه المدة المؤقتة تثبت أحقيته فيه.
وهذا بالنسبة للأمور الدنيوية مثل: البسطات المعروفة في زماننا للبيع، وقد تكون بعربية يوقفها في هذا المكان، أو بسيارته يوقفها في هذا المكان، فالمسألة واحدة، ففي القديم كان القماش، وفي زماننا السيارة، والعربية، وأي شيء يكون به عرض السلع على حسب اختلاف المبيعات واختلاف الأعراف فيما تحمل به تلك المبيعات.
اعتبار التخصيص شرعا
ويتفرع على مسألة حجز مكان في المسجد، حجز مكان لدرس الشيخ، فهل يجوز حجز مكان له أو لا؟ فعلى القول الأول أنه اعتاد أن يأتي واعتاد أن يجلس فيه يصبح له رخصة، وعلى القول الثاني هل نترخص أو نأخذ بالأصل؟ هذه المسألة كان أحد المشايخ رحمة الله عليه يلاطف فيها ويقول: مما يدل على جوازه للشيخ أن النفوس طابت، يعني: النفوس تطيب بذلك، ولذلك يوسع فيه أكثر من غيره، فيجوز للشيخ والمفتي أن يختص بمكان من أجل أن يعرفه الناس داخل المسجد فيقصدونه للفتوى، لا سيما في المساجد الكبيرة كالحرمين ونحوها، ولابد أن يكون ذلك له مكان معين حتى يكون ذلك أسهل للناس لو أرادوا السؤال والفتوى، وقد كان بعض السلف رحمهم الله لا يجلس إلى سارية بعينها، ومنهم الإمام إبراهيم النخعي رحمه الله، مع أنه كان آية في العلم والفتوى، وممن ورث علم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، فكان هذا الإمام العظيم لا يجلس إلى سارية بعينها خوفا من الشهرة، لكن في ذلك الزمان كان العلماء موجودين، والأئمة متناثرين، لكن في زماننا الأمر صعب، وقد يأتي السائل وقد تعلق به سفره، وتعلقت به رفقة، وحصل حرج، وقد يأتي السائل قبل أن يؤدي عمرته كما في المسجد الحرام ويحتاج إلى أسئلة مباشرة وعاجلة، فإذا كان لا يعرف مكان من يفتي، ولا يعرف مكان من يوجهه؛ فإن هذا يضر بمصالح الناس، فخففوا في هذا لتعلق حاجة المصلين به، حتى أن أحد المشايخ رحمة الله عليه قال لبعض المشايخ ممن يقوي القول بأنه لا يستحق المكان حتى ولو عاد: إن قلت بهذا فلا تقدم إماما؛ لأن الإمام في الأصل يحجز له هذا المكان؛ لأنه سيتقدم ويصلي بهم، فتعلقت به مصلحة الجماعة، فرأى شيخنا رحمه الله أن تعلق مصلحة الجماعة بالإمام، وإذن الشرع به، يدل على أن كل إنسان تعلقت به مصلحة دينية داخل المسجد فلا بأس باختصاصه بمكان، ويكون الأمر على السعة، ويدخل فيه القارئ تبعا للشيخ، ويقاس عليه من هذا الوجه؛ لأن الإذن بالشيء إذن بلازمه، فلابد أن يكون له مكان قريب حتى يتسنى له أن يسمع الحاضرين.
القرعة بين سابقين إلى مباح
قال رحمه الله: [وإن سبق اثنان اقترعا] .
(إن سبق اثنان) يعني: تنافس اثنان على مكان، (اقترعا) يعني: أجريت القرعة بينهما لتحديد المستحق، وقد ذهب جمهور العلماء رحمهم الله إلى أن القرعة من حيث الجملة يحتكم إليها، وهذا في حالة ضرورة أو حاجة، والأصل في شرعية القرعة قوله تعالى: {فساهم فكان من المدحضين} [الصافات:141] ، وذلك أن يونس بن متى عليه الصلاة والسلام لما كان في المركب قالوا: لا نجاة لنا إلا برمي واحد منا، فاستهموا فخرجت القرعة على يونس -بلاء من الله عز وجل- فرمي في البحر، والمساهمة هنا هي: الاقتراع، فأخذ العلماء رحمهم الله مشروعية القرعة عند الازدحام، فلو كان أناس -مثلا- في مركب وتعرضوا للغرق، ولا نجاة لهم إلا أن يغرق واحد لنجاة الجماعة، فقال بعض أهل العلم رحمة الله عليهم: يقرع بينهم، ويلقى من خرجت عليه القرعة، ونحن لا نفتي بهذا، لكن نقول: إنه قد جرى لدى أهل العلم إعمال القرعة، ومن ذلك أيضا: لو أن اثنين ازدحما في مكان وجاءا في وقت واحد، ولا نعرف من منهما السابق، فالمكان لا يقبل التشريك، أو الاستحقاق لا يقبل التشريك، فدخلا معا، ولا فضل لأحدهما على الآخر، فما الحكم؟ يفصل بينهما بالقرعة، وقالوا: القرعة خيار من الله، فمن اختاره الله لذلك فهو أحق به.
السبق إلى المسجد
هذا بالنسبة لأمور الدنيا، يبقى السؤال عن المسألة إن تعلقت بالسبق في أمور الدين، فمثلا المساجد فيها أماكن يجلس الإنسان فيها للصلاة وللذكر ولقراءة القرآن، ويجلس فيها لطلب العلم، ويجلس فيها للفتوى حيث يأتي من يستفتيه، وقد ذكرنا أن من انتاب مكانا واعتاد عليه، وأصبح ديدنه أنه يجلس في هذا المكان، ولهذا المكان مواسم معينة؛ فهو أحق به، وفرع على ذلك بعض الأئمة رحمة الله عليهم مسألة المسجد، فقال: من كان من عادته أن يداوم على الصلوات المفروضة في مكان معين، بحيث أن هذا المكان ما يسبقه إليه أحد، فإنه في هذه الحالة يكون أحق بهذا المكان، ويشمل ذلك مكان الصلاة، أو المعتكف، فالمعتكف إذا جلس في هذا المكان، واستوطن هذا المكان، ثم خرج بعد ذلك ورجع، فالمكان له على هذا القول، وكذلك إذا خرج بعد الفروض إلى بيته ثم رجع إلى ذلك المكان في فرض العصر والظهر والمغرب والعشاء والفجر فإنه أحق به.
وفي الحقيقة أن هذا القول لا يخلو من نظر؛ لأنه ورد النهي عن توطن الإنسان لمكان معين في المسجد لا يصلي إلا فيه، ولو قيل بهذا القول فلا شك أنه بعيد عن ظاهر السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليليني منكم أولو الأحلام والنهى) ، والمراد بذلك: أن يبكروا بالحضور للمساجد، وألا يسبقهم من هو دونهم، وكان عليه الصلاة والسلام يحب أن يليه أولو الأحلام والنهى والعقول حتى يعقلوا عنه، ولهذا يستحب عند أهل العلم أن يقرب منهم الأكبر؛ لأنهم أكثر وعيا وأضبط، لكن لا يمنع أن الأصغر يتقدم، حتى في الصف الأول ما دام أنه سبق، وكان ابن عباس رضي الله عنهما من أسبق الصحابة، وكان يقدمه عمر رضي الله عنه ويجعله في مقدمة المجلس، وأجلسه النبي صلى الله عليه وسلم عن يمينه، فهذا لا يمنع إذا عرف فضل الشخص، لكن نحن نتكلم عن الغالب، والذي يظهر -والله أعلم- أن المسألة لا تنضبط في المساجد، ولا يفتح الباب لكل من جلس إلى سارية أو جلس في مكان من المسجد أن يصبح هذا المكان محجورا عليه؛ فإن المساجد لها حرمة عظيمة، والناس فيها سواسية، وجعل التفضيل فيها بالتقوى، أما أمور الدنيا فلا بأس فيها عند الحاجة دفعا للضرر عن الناس، أما أمور الدين فلا، والقياس في هذا لا يخلو من نظر، ولذلك لم يجر عمل السلف على ترتب أماكنهم في المساجد، إذ لو كان هذا لفعله الصحابة رضوان الله عليهم، مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولفعله مع الخلفاء ولعرفت أماكنهم.
فنقول: من سبق إلى المكان فهو أحق به، سواء كان سبق غيره في فرض غير هذا الفرض أو لا، ونبقي المساجد على حرمتها، ويشدد في المساجد أكثر من غيرها، فإن المساجد بيوت الله عز وجل، وأمور الدين لا ينبغي أن يفضل فيها أحد إلا بتقوى الله عز وجل، والناس في بيوت الله سواسية، ليس من حق أحد أن يحجز مكانا بفراش أو يحجزه بشخص يستأجره للجلوس فيه، فإذا فعل ذلك فإنه يعتبر آثما من وجهين: الوجه الأول: ظلمه لإخوانه المسلمين بمنعهم من الصلاة في هذا المكان، وتعطيله من ذكر الله عز وجل.
الوجه الثاني: عدم رعايته لحرمة المسجد، ولذلك يقول بعض العلماء: الأذية في المسجد أعظم من الأذية خارج المسجد؛ لأن الإثم فيها أعظم لمكان حرمة المكان، ولا يجوز للإنسان أن يحجز مكانا في المسجد إلا في حالة واحدة، وهي ما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قام من مجلسه لحاجته ثم عاد إليه فهو أحق به) وأضاف بعض العلماء -كالإمام النووي رحمه الله- كلمة: (في المسجد) ، لكن لا أعرفها مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تكون هناك روايات، لكن الرواية مطلقة: (من قام من مجلسه لحاجته ثم عاد إليه فهو أحق به) وقوله: (لحاجته) ، فسرها جمهرة الشراح على قضاء الحاجة، ومعنى ذلك أنه مرابط في المسجد، أي: جالس في المسجد، والله يعلم أنه ما قام من هذا المكان إلا من أجل أن يقضي حاجته، فهو مضطر، أو من أجل أن يتوضأ كأن يحدث وهو جالس فيخرج للوضوء، فهذا هو الذي يرخص له، أما لو قام لحلقة علم ووضع سجادة في مكانه فلا يجوز له ذلك؛ لأن المسجد أرضه كلها مقصود عمارتها بذكر الله عز وجل، فمن جلس في هذا المكان يذكر الله فهو أحق به مدة جلوسه، فإذا قام عنه لقضاء الحاجة فهو أحق به إذا عاد للنص، بشرط: أن يتغيب بقدر الحاجة، ولا يزيد على ذلك حتى لا يضر بالناس، أما إذا قام لطاعة مثل طلب العلم أو السلام على إنسان أو تشييع جنازة أو نحو ذلك فإنه مخير بين أمرين: الجلوس في المكان ومراعاة فضل الجلوس فيه، أو الذهاب إلى هذه الطاعة، فإن اختار الذهاب إلى الطاعة من طلب علم وشهود جنازة ونحو ذلك لم يجز له أن يمنع غيره من عمارة المكان بذكر الله عز وجل؛ ولذلك لا يجوز حجز الأماكن في المساجد إلا لهذا الأمر خاصة، وأما غيره فإنه محرم، ومن ذلك واستئجار الناس ووضع الناس أو السجاجيد ونحوها لحجز الأماكن، فيذهب إلى بيته ليأكل ويشرب وربما ينام -نسأل الله السلامة والعافية- ثم يرجع إلى المسجد، فإذا وجد أحدا في مكانه سبه وشتمه وأضره، ولربما ركض ظهره أمام الناس، وربما حصل من الفتنة ما الله به عليم في بيوت الله عز وجل، حتى في الحرمين الذين هما أعظم حرمة عند الله سبحانه وتعالى، وقد يكون هذا في الصفوف الأول، وقد يكون هذا من أناس لا ينبغي لمثلهم أن يحدث هذا ككبار السن ونحوهم الذين هم أهل العقل وأهل الروية، فيحدث من الضرر ما الله به عليم بسبب هذا الحجز، وقد نص شيخ الإسلام ابن تيمية -وهذا قول بعض أهل العلم- أنه لو وضع سجادته وذهب إلى بيته لغير ما استثني في الشرع -أنه يعتبر غاصبا للأرض، وشكك في صحة صلاته؛ لأن مذهب الإمام أحمد رحمة الله عليه وطائفة من السلف أن الأرض المغصوبة لا تصح الصلاة عليها، فإذا غصب مكانا وصلى فيه -سواء في المسجد أو خارجه- لم تصح صلاته، فالأمر عظيم، وإن كان مذهب الجمهور أن الصلاة صحيحة، لكن نقول: انظروا كيف شدة السلف رحمهم الله وتعظيمهم لبيوت الله وتعظيمهم لحرمتها! فالواجب على المسلم أن يتقي الله عز وجل فيها، وألا يتسبب في الإضرار بغيره، فهذا المكان هو وغيره فيه على حد سواء ما لم يخرج لقضاء حاجته ثم يعود، فإنه أحق به من غيره كما هو نصه عليه الصلاة والسلام.
نظام الري من الماء المباح
قال رحمه الله: [ولمن في أعلى الماء المباح السقي، وحبس الماء إلى أن يصل إلى كعبه، ثم يرسله إلى من يليه] .
هذه المسألة متعلقة بالباب من جهة الاستحقاق، كما أن إحياء الموات فيه استحقاق كما ذكرنا في مسائل الإقطاع ومسائل الأمكنة ونحوها، فشرع المصنف في مسألة استحقاق في السقي بالماء، وهذه المسألة تحدث فيها الخصومات والنزاعات، حتى وقعت في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، حينما كان الصحابة رضوان الله عليهم يستقون من شراج الحرة، إذا كان هناك نهر، أو سيل، أو عين جارية، وهذه يستقى منها بالترتيب، والحكم فيها أن الأقرب يقدم على الأبعد، فيستقي من هو أقرب إلى العين حتى يصيب القدر الذي حدده الشرع، ثم يجب عليه بعد ذلك أن يرسل الماء للذي بعده، ثم الذي بعده يستقي حتى يصيب القوام الذي حده الشرع، ثم يرسل الماء لمن بعده وهكذا.
والأصل في هذه القضية ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الزبير بن العوام رضي الله عنه وأرضاه مع الأنصاري عندما اختصما في بعض مياه شراج الحرة.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم (قضى في شراج الحرة -وفي رواية: في مهزور ومذينيب من شراج الحرة- أن يسقي الأعلى فالأعلى) ، ومهزور ومذينيب كانا واديين يسيلان من شرقي المدينة إلى وسطها، ومن ثم إلى بطحان ومن بطحان إلى مجمع الأسياف، والحرة المراد بها الحرة التي تسمى اليوم: الحرة الشرقية، وكانت تسمى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم: بحرة واقم، فالحرة الشرقية كان يقال لها: حرة واقم، والحرة الغربية كان يقال لها: حرة الوبرة، والحرة الشرقية كانت أغنى ماء من الغربية، والغربية كانت فيها خيوف وعيون أيضا، ومهزور ومذينيب واديان يأتيان من أعلى الحرة الشرقية ويفيضان إلى جهة مسجد بلال الموجود في زماننا، فيلتقيان مع قربان وادي رانوناء الذي ينزل من وسط قباء من أمام المسجد ووادي بطحان، وتلتقي هذه الأربعة السيول قبل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تفيض إلى السيح الذي سمي سيحا لسوح الماء فيه وكثرته، فهذان الواديان كانا في أعلى الحرة، وكان الصحابة يحدث بينهم بعض الخصومة بسبب إرسال الماء وعدمه، فقضى عليه الصلاة والسلام في مهزور ومذينيب من شراج الحرة أن يسقي الأعلى ثم يرسل الماء إلى من دونه، فجعل الحق للأقرب إلى العين أو الأقرب إلى النهر، فيسقي مزرعته.
وما هو قدر السقيا؟ جاء أنصاري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الزبير وقد اختصما على الماء، فقال عليه الصلاة والسلام: (اسق يا زبير! ثم أرسل الماء، فقال له الأنصاري: أن كان ابن عمتك! -فزل بذلك لسانه رضي الله عنه وأرضاه وقال هذه الكلمة- فغضب عليه الصلاة والسلام وقال: اسق يا زبير! حتى يبلغ الماء الجدار، ثم أرسل الماء) قال بعض الرواة: إنهم حزروا الجدار إلى قريب من الكعبين، وهذا الحزر -كما يقول بعض العلماء- محل نظر؛ لأن الجدار لا يصل إلى الكعبين، وهذا الحديث يحتمل أن يكون الأصل أنه يسقي إلى حد الكعبين كما أمره في أول الأمر، وكما جاء في بعض الروايات المنفصلة، فلما اعترض الأنصاري عزره النبي صلى الله عليه وسلم للاعتراض على الحكم، ولذلك يعتبر هذا من الجفاء، ومن هنا أخذ بعض العلماء أن من أساء الأدب مع القاضي فيجب على القاضي أن يعزره، ولا يسامحه القاضي؛ لأن الحق ليس للقاضي وإنما للشرع، قال الناظم: ومن جفا القاضي فالتأديب أولى وذا لشاهد مطلوب (ومن جفا القاضي) أي: قال له: ظلمتني، أو قال: ما حكمت بالعدل، أو: ما هذا بعدل، ولا بإنصاف.
فيعزره حتى ولو كان القاضي طابت نفسه أن يسامح فيسامح الحق لنفسه، لكن مجلس القضاء مجلس شرع، فالتهكم به والاستخفاف به يعتبر استهزاء بالشرع واستخفافا به، ومن هنا قال بعض العلماء: الاستهزاء بالعلماء استهزاء بالشرع، ولذلك قال الله فيمن استهزأ بالقراء: {لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} [التوبة:66] ، وهم قالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أجبن عند اللقاء، وأكثر عند الطمع، وأقل عند الفزع، فأنزل الله هذه الآية؛ لأنهم استهزءوا بحملة كتاب الله عز وجل.
فالشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم عزره لقوله: أن كان ابن عمتك؛ لأن الزبير ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم صفية رضي الله عنها وأرضاها، فغضب عليه الصلاة والسلام وعزره بهذا.
فبناء على ذلك: لا يسقي إلى الجدر؛ لأن الجدار فوق الكعبين بكثير، فالجدار قد يكون نصف قامة الإنسان، فالسقيا إلى هذا القدر كثير، لكن بعض العلماء رحمة الله عليه يقول: إن الزرع لا يمكن سقيه إلى الجدار الحقيقي فحزرهم بالكعبين مبني على أن الجدر تختلف، ففي بعض الأحيان تكون جدر -خاصة في الأماكن التي فيها العيون- صغيرة؛ حتى يتمكن الثاني من السقي بعد الأول، فيكون فيها منافذ للماء، فيكون قدر الكعبين مصمتا ومغلقا، وما زاد عن الكعبين فيه جدار، ولكن الماء يتسرب منه مثل الحجارة المرصوصة الموجودة إلى الآن في رياض الجبال ونحوها مثل الخيوف، فيخرج الماء من بين الحجارة، فهذا قد يكون فيه تحديد الكعبين واردا.
فدل هذا الحديث على أن الحق للأعلى، ثم يرسل إلى من بعده ولو قل الماء، فيسقي حتى يتم قوامه ثم بعد ذلك يرسل إلى من بعده.
حكم الاستقاء من غير استحقاق
بناء على هذا يرد
السؤال إذا كنا نقول: إن السقي من العيون يكون للأعلى فالأعلى، فتتفرع المسألة الموجودة في زماننا، فقد تكون هناك عيون، ويأتي شخص، ويسحب الماء من العين، بالوايت مثلا، فتضعف العين ولا ترسل إلى من بعده، مع أنه ليس من أهل تلك الأرض، ولا يعتبر له استحقاق فيها، فإذا جاء ودخل فقد تخطى ترتيب الشرع؛ لأن ترتيب الشرع أن يسقي الأعلى فالأعلى، ولو فتح الباب للخارج عن هذه القسمة فمعنى ذلك أنه قد لا يصل الماء إلى الآخرين، خاصة باستخدام (المواطير) التي تسحب الماء بكثرة، فقد يأتي -مثلا- عشرون أو ثلاثون (وايتا) فما يبقى شيء من ماء العين، فلابد من بيان حكم الشرع في هذا.
فيقال: إن المزارع والخيوف التي حول العين أحق ممن بعد؛ بدليل: أن الشرع جعل الثاني لا يسقي إلا بعد الأول، وجعل القرب من العين موجب للاستحقاق، فبناء عليه: لا يجوز دخول هذا الساقي من خارج إلا بتفصيل: إن كان هذا الساقي يريد الماء للشرب لإنقاذ الأرواح، ولم يجد مكانا يستقي منه إلا هذا، فهذه حالات ضرورة تحتاج إلى المقارنة بين المزارع وسقيهم بالآلات وسقيهم بالعين، فإن كان عندهم بدل عن هذه العين وأمكنهم السقي بالنواضح وبالآلات ونحوها صرفوا إليها، وجاز لهذا أن يأخذ الماء منها؛ لأنه سينقذ الأرواح والأنفس، لكن هل يجوز له أن يتاجر بالماء، أو لا يجوز إلا من أجل إنقاذ الأنفس، هذا يحتاج إلى نظر.
وقد تجد بعض أصحاب البيوت يسقي من العين مع وجود أنابيب توصل الماء إلى البيوت لكنها أكثر كلفة، فيملأ خزاناته من العين حتى يكون أربح له، فحينئذ يمنع؛ لأن الشرع جعل الاستحقاق للأقرب، وهو ليس بأقرب ولا في حكم الأقرب، وكان بعض مشايخنا رحمة الله عليه يقول: إذا كانت العين مرسلة، وكان أهل الزرع يستقون منها نهارا، فيجوز لهذا المستقي أن يصرف إليه الماء ليلا، فيأتي ويملأ (الوايت) في الليل ولا يملؤه نهارا؛ لأن النهار تعلقت به مصلحة أصحاب الزرع، فيتوسط بين الحقين، لكن في بعض الأحيان يستقي أهل المزارع ليلا ونهارا، ولذلك لابد من التفصيل في هذا، وظاهر الحديث: أن الأقرب إلى العين أحق من الأبعد، فلا يجوز للأبعد أن يدخل على عين خاصة للبساتين تستقي منها، فيضر بمصالح المزارعين على الوجه الذي ذكرنا.
اتخاذ الإمام الحمى
قال رحمه الله: [وللإمام دون غيره حمى مرعى لدواب المسلمين ما لم يضرهم] .
وللإمام -على الاختصاص- حمى مرعى لدواب المسلمين ما لم يضرهم، والمراد بالحمى: أن يمنع الناس من الرعي في موضع مخصوص، ويجعل هذا الموضع لدواب المسلمين ولدواب الصدقة ولإبل الجهاد، فيتركها في ذلك المكان ترعى، فله الحق في ذلك، وهكذا في زماننا لو حمى الإمام أماكن يحتاج إليها لحماية الناس، أو مرتفعات من أجل حمايتهم، فتكون أماكن محمية؛ فلا بأس بذلك، وغير هذا لا حمى، فليس هناك حمى إلا ما حمى الله ورسوله، قال صلى الله عليه وسلم: (لا حمى إلا ما حمى الله ورسوله) ، فلا يجوز للإمام أن يحمي مكانا إلا إذا تعلقت به مصلحة المسلمين في ذلك الحمى، فيمنعهم من الرعي فيه من أجل دواب المسلمين، ولا يمنعهم لذات المكان، أما أن يمنعهم لذات المكان حتى يصير جميلا أو محلا للنزهة أو نحو ذلك فهذا ليس له أصل، فالأصل أنه لا يحمى إلا ما فيه مصلحة للمسلمين، ولم يحدث عليهم ضررا، فلا يجوز أن يحمي مكانا فيه كسب لبعض الناس، مثل أماكن برية أو بحرية يصطادون فيها.
فيضر بأرزاقهم، فهذا رزق جعله الله لهم، والسابق مالك له، فما يحمي الإمام شيئا إلا إذا وجدت المصلحة للمسلمين.
اعتبار المصلحة الضرورية
والمصالح تنقسم إلى ثلاثة مراتب: مصلحة ضرورية، ومصلحة حاجية، ومصلحة تحسينية تجميلية كمالية.
فيحمى من أجل المصالح الضرورية التي يتوقف عليها حياة الناس، فإذا كانت حياة الناس موقوفة على حمى هذا المكان وجب أن يحمى، كما إذا خيف الضرر عليهم، فتحمى تكون أماكن تحصن من أجل أن يدفع منها العدو حتى لا يدخل منها ولا تكون ثغورا، فيقال -مثلا-: هذه الأماكن لا تزرعوا فيها، ويوضع فيها شيء لحراسة ثغور المسلمين، فهذه الحراسة التي جعلت في أرض محمية من أجل الحفاظ على أرواح المسلمين؛ هي مصلحة ضرورية، فيحمى مثل هذا المكا


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #466  
قديم 14-02-2025, 01:32 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,234
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

اعتبار المصلحة الحاجية
والمصلحة الحاجية التي يكون فيها رفق بمصالحهم، ولا تصل إلى درجة الخوف على النفس، إنما يتضررون لو فاتت هذه المصالح، فمثلا: الأماكن التي تلقى فيها النفايات، تبعد عن المدينة أو عن القرية ثلاثين كيلو مترا، فيقال للناس: هذا المكان محمي من أجل رمي الفضلات أو النفايات فيه، فلو لم نحم هذا المكان لا يموت الناس، ليست مصلحة ضرورية، لكنهم يتضررون؛ لأن الروائح الكريهة والنفايات لابد لها من مكان ترمى فيه، فلو عدم هذا المكان لأضر بالناس، ووقعوا في حرج وضيق، فصارت في مرتبة الحاجيات، فالضروريات هي الخوف على الأنفس أو الأطراف، والحاجيات ليس فيها خوف على الأنفس ولا على الأطراف، وإنما هي دون ذلك، بحيث يحصل الحرج والضيق إذا لم يمكنوا منها.
اعتبار المصلحة التكميلية
والمصلحة التكميلية الجمالية مثل الأشجار الجميلة، فهذه جمالية تحسينية، فالحمى يكون للضرورية والحاجية، وأما غير الضروري والحاجي فلا حمى فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا حمى إلا ما حمى الله ورسوله) ، فيختص الحكم بوجود الضرورة ووجود الحاجة، فإذا وجدت الضرورة ووجدت الحاجة فحينئذ يجوز الحمى، ويكون الحمى لا لذاته وإنما من أجل مصلحة المسلمين العامة.

الأسئلة


حكم صرف العملة في المسجد
السؤال هل الصرف داخل المسجد داخل في عموم النهي عن البيع في المسجد؟
الجواب الصرف داخل المسجد كذلك؛ لأن الصرف نوع من البيوع، فلو كانت معه مائة فقال: اصرفها لي، فصرفها، فهذا عقد بيع، ولا يجوز فعله داخل المسجد، والله تعالى أعلم.

تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر ولا ثالث لهما
السؤال هل من الذنوب ما ليس بصغائر ولا كبائر؟
الجواب الذنوب إما صغائر وإما كبائر، وإذا لم يكن كبيرة ولا صغيرة فليس ذنبا؛ لأن الله يقول: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} [النساء:31] ، فجعل الذنوب منقسمة إلى كبيرة وصغيرة، ولذلك جمهرة أهل العلم رحمهم الله -وهو مأثور عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كـ ابن عباس وغيره- على أن الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر، وقال بعض العلماء: لا صغائر ولا كبائر، والذنوب لا يقال فيها: صغير وكبير؛ لأن الله أعظم من أن يقال في معصيته: صغيرة، لكن قال شيخ الإسلام رحمه الله: وأما من لم يقل بالتقسيم فإنه لم يعرف الكبائر.
يعني: لم يعرف ضابط الكبيرة من قال: لا يوجد صغائر وكبائر، والواقع: أن الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر بدليل الكتاب والسنة، أما دليل الكتاب: فكقول الله سبحانه وتعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} [النساء:31] ، فوصف المنهيات بأن فيها كبائر، فقال: {كبائر ما تنهون عنه} [النساء:31] ، وكذلك قال تعالى: {وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان} [الحجرات:7] ، فالكفر خروج من الملة، ثم جعل من بداخل الملة إما فاسقا وإما عاصيا، والفسوق: هو ارتكاب الكبائر أو الإصرار على الصغائر حتى تصل إلى حد الكبيرة، والعصيان: صغائر الذنوب.
أما السنة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال -كما في الصحيحين من حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنه وأرضاه-: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله ... ) الحديث، فقال: (أكبر الكبائر) ، فوصف الذنب بأنه كبير، وأن الكبائر فيها أكبر، بصيغة (أفعل) التي تقتضي اشتراك الاثنين في الصفة، وأن أحدهما أقوى وأكبر من الآخر.
فهذه النصوص كلها تدل على انقسام الذنوب إلى صغائر وكبائر، فالذنب إما صغيرة وإما كبيرة، وكل معصية لله عز وجل إما أن تكون صغيرة أو كبيرة.
كذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الحديث الصحيح: (الجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، والعمرة إلى العمرة، والصلوات الخمس مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر) ، فقال: (مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر) ، فجعل الذنب مكفرا إذا كان صغيرة، بشرط: اجتناب الكبيرة.
فدل على أن الذنب إما كبير وإما صغير، وضابط الكبيرة هو: (كل ذنب سماه الله أو رسوله كبيرة، أو شرع الله له حدا في الدنيا، أو توعد عليه بعقوبة في الآخرة، أو بغضب، أو نفي إيمان، أو لعنة، أو نحو ذلك) ، فهذا ضابط الكبيرة، وهذا القول -أعني: ضابط الكبيرة- مأثور عن حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وبه يقول الإمام أحمد رحمة الله عليه، واختاره جمع من العلماء، كالإمام أبي محمد علي بن حزم الظاهري رحمه الله، وجمع من الأئمة المتأخرين، وهو -إن شاء الله- من أجمع الضوابط للكبائر، والله تعالى أعلم.
نسأل الله العظيم أن يسلمنا من صغائر الذنوب وكبائرها، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

اشتراط المحرم وحكم المحصور
السؤال امرأة أحرمت بالعمرة من الميقات وهي مريضة، فلما وصلت مكة لم تستطع أداء مناسك العمرة، علما أن مرضها لا يرجى برؤه، فما تفعل الآن؟ وجزاكم الله خيرا.
الجواب نسأل الله العظيم، رب العرش الكريم؛ أن يفرغ عليها الصبر، وأن يربط على قلبها وعلى قلب ذويها، وأن يعجل لها بالشفاء، وأن يتداركها برحمته وهو أرحم الراحمين.
السنة إذا أرادت المرأة أن تحرم أو أراد الرجل أن يحرم وهو مريض غير واثق من نفسه من المرض أن يشترط، لحديث ضباعة رضي الله عنها، قالت: (يا رسول الله! إني أريد الحج وأنا شاكية، فقال عليه الصلاة والسلام: أهلي واشترطي) ، فهذه هي السنة، فإذا اشترطت المرأة فإنها تحل من إحرامها ولا شيء عليها؛ لأنها قد اشترطت، أما إذا لم تشترط ودخلت في نسك العمرة فعند العلماء خلاف: هل المريض محصر أو ليس بمحصر؟ وبعبارة أخرى: هل المرض يعد حصرا أم أن الحصر يختص بالعدو؟ فمن قال: إن المرض يكون إحصارا خاصة في الأمراض الخطيرة، التي تعجز المرأة معها بالكلية عن إتمام عمرتها، فإنه في هذه الحالة يكون حكمها حكم المحصر، فتذبح شاة وتتحلل لقوله تعالى: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} [البقرة:196] ، فتذبح شاة كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما أحصر عن مكة فنحر وتحلل من عمرته، والله تعالى أعلم.

الانهزامية لدى بعض الآباء ونهيهم أبناءهم عن الخير
السؤال والدتي حلفت أني لا أحضر للدورة، وحلفت أيمانا في أكثر من مجلس في أوقات متفرقة، ثم وافقت، فهل عليها كفارة يمين واحدة أو كفارات؟ وهل أكفر عنها من مالي؟
الجواب في هذا السؤال عدة جوانب: الجانب الأول: على الوالدين أن يتقي كل واحد منهما ربه في الأولاد، وأن نعلم أن صلاح الدين والدنيا والآخرة في صلاح أبنائنا، فهذه الذرية إذا صلحت بالدين واستقامت عليه فإن ذلك الخير ليس لأهل البيت فحسب، بل يتعدى ذلك إلى المجتمع، بل قد يتعدى إلى الأمة، فكم من شاب صالح نشئ نشأة صالحة وأصبح إماما من أئمة المسلمين! فنفع الله به أمة.
فلذلك: على الوالدين أن يتقوا الله عز وجل، وعلينا أن ننزع من قلوبنا هذا الشعور بالغربة تجاه الإسلام والدين، أصبح الدين عند البعض كأنه شيء بغيض، وهذا إن لم يكن عداء صريحا فهو عداء ضمني، فإذا كان الرجل يخاف إذا ذهب ابنه إلى المسجد، وإذا ذهب إلى حلقة، أو ذهب إلى عالم!! فما هذا الشعور؟! هذه غربة غربة كاملة وتامة؛ حيث يصير الإنسان منهزما إلى درجة -والعياذ بالله- أن يتخلى عن دينه، ويصبح عدوا لدينه حتى في معاملته مع أولاده!! بينما كان السلف رحمهم الله يفرح أحدهم الفرح الشديد إذا علم أن ابنه يذهب إلى حلقة علم، وإذا علم أنه يحفظ القرآن، أو يشهد مجالس الذكر، فيقول: الحمد لله الذي أخرج من صلبي من يذكر الله عز وجل، والحمد لله الذي أخرج من صلبي من يعبد الله لا يشرك به شيئا.
فما هذه الغربة التي يكون فيها الإنسان غريبا عن دينه إلى درجة أنه يخاف على ولده إذا ذهب دورة علمية! والسبب في هذا تضليل أعداء الإسلام للمسلمين، ولذلك تجدهم يحرصون دائما على تصوير الإسلام دائما في أبشع صورة؛ لأن قلوبهم مملوءة بالحقد على هذا الدين، وهذا الحقد على الدين ناشئ من أصل بينه الله عز وجل وهو: أن الكافر عدو لله عداوة بينة، فكل شيء قد يرضاه إلا الله، فما يريد شيئا اسمه الإسلام، ولا يريد شيئا اسمه الدين، ولذلك كل شيء يلصقونه بالدين، فالدين عندهم هو التخلف، والدين هو التحجر، والدين هو الهمجية، والدين هو الإرهاب، والدين هو كذا وكذا.
، وهذا كله عداوة لله عز وجل: {وكان الإنسان كفورا} [الإسراء:67] ، فمن كفر الإنسان بربه -والعياذ بالله-، واعتدائه لحدوده؛ هذه الغربة التي أصبح فيها الحق باطلا، والمعروف منكرا، فتجد الأم تحلف على ابنها أو تمنع ابنها، والأب يضيق على ولده لماذا هذا؟! سبحان الله! والله! إنك لتعجب من حلم الله على عباده! الله أكبر! يرى ابنه يذهب بالساعات والأيام والأسابيع بل والشهور مع قرناء السوء يمنة ويسرة وما يسأله يوما واحدا: أين بات؟ وما إن يراه ذهب إلى مسجد إلا جلس يسأله: أين ذهبت؟ ومع من جلست؟ وماذا فعلت؟ وماذا قلت؟ لماذا هذا؟ أما علمت أنه تصرف لا ينبغي للمسلم، وأن عواقبه وخيمة؟ فينبغي علينا أن نعتز بديننا وألا ننهزم، وألا نكون في الحضيض؛ لأنا أمة أعزنا الله بهذا الدين، فمهما ابتغينا العزة فيما سواه أذلنا الله، وإذا كان الإنسان يتخلى عن دينه وعن إسلامه حتى في أهله وولده! فهذه مصيبة عظيمة.
فهذا أمر ينبغي على المسلم أن ينتبه له، إذ أن عواقبه وخيمة، فمن كفر نعمة الله آذنه الله بزوال نعمته وحلول نقمته؛ فإن الله غني عن العالمين، فالله ليس محتاجا لأحد، والله في غنى تام كامل عن خلقه: كما في الحديث القدسي: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا) ، الله عز وجل لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين، فلنستحي من الله، ولنتق الله عز وجل في أنفسنا، ولنملأ هذه القلوب محبة للدين؛ حتى نشعر -صغارا وكبارا وشبابا وشيبا- أن هذا الدين عز لنا وكرامة وشرف، وليس بذلة ولا بخوف، الأمان كله في الدين، والعزة كلها في الدين، والرفعة كلها في الدين، والصلاح أجمعه في دين الله عز وجل، ليس بيننا وبين الله حسب ولا نسب، فالعزة ما تأتي إلا بدينه وطاعته سبحانه وتعالى، والاستقامة على منهجه.
وهذا أمر عظيم جدا، إذا كان المقصود من منع الأم مثل هذا الشعور، وقد أصبح موجودا بين بعض الناس، والسبب في هذا: تضليل أعداء الإسلام للمسلمين، ولذلك يحرصون على جعل الإسلام في الصورة المشوهة، ألا شاهت وجوههم، وقطع الله دابرهم، وشتت شملهم، وفرق جمعهم، وأنزل بهم بأسه الذي لا يرد عن الظالمين، فإذا كان الشعور نابعا من هذا فينبغي علاجه، وينبغي علينا أن نعيد النظر في قلوبنا، فإنها محل النظر من الله سبحانه وتعالى: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) ، ولذلك عزت الأمة وسادت وبزت عندما كانت المرأة تعتز بدينها في أولادها وذريتها، ولم يكن ذلك بأن يتعلم الولد، أو بأن يصلي ويركع فقط، ما كان السلف رحمهم الله يعتزون فقط بالصلاة، لا، والله! بل كانوا يعتزون حينما تسيل دماء أبنائهم وذراريهم في سبيل الله عز وجل! فتقول المرأة: الحمد لله الذي أكرمني بشهادتهم، فكانت لا يقر قرارها حتى يشرفها الله عز وجل بشهادة أبنائها في سبيل الله لإعلاء كلمة الله مقبلين غير مدبرين، صابرين مرابطين، فأين هذا من زماننا؟! فلذلك: ينبغي علينا أن نعيد النظر في هذا الشعور، وينبغي أن ينصح بعضنا بعضا وأن يوجه بعضنا بعضا، وأن يقول الابن لأمه ولأبيه: اتق الله عز وجل، ما يجوز هذا، ويذكره بالله عز وجل، وكراهية ذهاب الأبناء إلى حلق الذكر وطاعة الله عز وجل لا شك أنها عداوة لله عز وجل وعداوة لدينه، فلا يجوز هذا الشعور.
الجانب الثاني: إذا كان منع الأم -وهي المسألة المهمة- لمصلحة متعلقة بها، أو خوف ضرر على الولد من أشياء موجودة في الطريق عند ذهابه، أو نحو ذلك من الأمور المبررة في حنان الأم وعاطفتها على ولدها؛ فلا بأس للأم أن تمنع ولدها، كأن يكون صغير السن وتخاف أن يتلقفه إنسان منحرف، فهذا شيء مبرر شرعا وسائغ؛ لأن الله جعل الوالدين موجهين لولدهما فيأمرانه بما فيه الخير، وينهيانه عما فيه الشر، فإذا كان الدافع للأم الخوف على الولد من ضرر فنعم؛ ويحق لها منعه.
كذلك -أيضا- إذا وجدت مصلحة للأم أو مصلحة للوالد، كأن يكون عند الوالد عمل في تجارة أو دكان، ويتضرر بذهابك إذ لا يوجد من يساعده فهنا نقول: بر والديك، واجلس معهما والزمهما؛ فإن في ذلك خيرا كثيرا لك، فإن الذي أمرك بطلب العلم هو الذي أمرك ببر والديك، وانظر إلى أحد الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم يأتي من أكثر من ألف كيلو يقطعها مهاجرا إلى الله ورسوله، ويقول: (يا رسول الله! أقبلت من اليمن أبايعك على الهجرة والجهاد - أي: من أجل أن أجاهد معك وأعلي كلمة الله- فقال: أحي والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد) ، ولا أفضل ولا أكمل ولا أشرف من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ العلم عنه، وهو يريد الجهاد، فجميع الفضائل يسرت له، ومع ذلك يقول له: (أحي والداك؟ قال: نعم.
قال: ففيهما فجاهد) .
فأقول للأبناء: إذا كان الوالدان بحاجة فاحرص على قضاء حوائج الوالدين، وعند أن يأتيك الشيطان ويقول: بدلا من أن تجلس في ذكر الله تذهب وتجلس في دكان أو مزرعة في السخط واللغط والغفلة عن ذكر الله عز وجل! فنقول لك: متى ما شعرت أن الذي تعبده في المسجد هو الذي تعبده في سوقك وتعبده في متجرك وتعبده في دكانك؛ فإنك تتقي الله عز وجل، فإن كان يوجد فتنة فغض بصرك، لكن تحرص على رضا والديك، وتحرص على ألا يخرج والدك ولا والدتك من هذه الدنيا إلا وهما راضيان عنك، واحرص على أن تكون في خدمتهم وقضاء حوائجهم بنفس مطمئنة، ونفس مرتاحة مستجمة، وتكون مع والديك، ووالله! إني أعرف من طلاب العلم من كان يذهب إلى السوق وإلى أماكن لو أعطي عليها عشرات الألوف لا يذهب، لكن ذهب برا لوالديه وامتثالا لأمرهما؛ وطاعة لله وللرسول؛ فعوضه الله عز وجل من الخير والبركة ما الله به عليم! وكان يخرج قبل الأذان الأول للفجر لقضاء مصلحة دنيوية، فمن الله سبحانه وتعالى عليه بقيام الليل وأعطاه من الخير ما هو سبحانه به عليم! ابدأ ببر والديك، ولو كنت في سوق تبيع وتشتري -ولو في أضعف الأشياء- وربما تحس أنها تنقص من حالك أمام الناس، فاصبر للوالدين، واخفض لهما جناح الذل من الرحمة، ولو كان والدك في أبسط الحرف فكن مع والدك، واحرص أن تجلس مع والدك، وأنت تحس أنها رحمة، ما تحس بالغضاضة ولا بالاحتقار، بل ينبغي على الابن أن يكون معتزا بوالديه، ومفتخرا بوالديه، مثلما اعتز بك والدك وهو يحملك ولعابك على فمك، ومثلما اعتز بك صغيرا يحملك أمام الناس فكذلك أنت تعتز به، وكم كنت في هموم وغموم فكشفها عنك! فتفي له كما وفى لك، وتكون ابنا صالحا كاملا في برك لوالديك، قد يبر الابن أبويه، ولكن يشعر في داخل قلبه أنه محتقر بسبب هذا البر! لا ينبغي هذا أبدا، البر الكامل ما ذكرناه، والله! أعرف أناسا أعطوا من مناصب الدنيا الشيء الكثير، ومع ذلك إذا جاء عند والده لا يجلس إلا عند رجليه، ومنهم من أبوه يبيع في السوق ويكون ولده عنده كأنه عامل في الدكان، ولا يشعر بأية غضاضة، وإذا كان غائبا يسأل عنهم، ويتصل بهم ويتفقدهم، ويدعو لهم، ويشعرهم بعظيم الود لهما، سواء غاب أو حضر امتثالا لأمر الباري تعالى: {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة} [الإسراء:24] .
فإياك إذا منعك الوالدان لمصلحة قد يريدانها، أو تعلم أنهما محتاجان إليك -ولو كان حنانا- أو الوالد كبير في السن ضعيف يريدك بجانبه، وقد يقول لك: لا تخرج، فعندئذ نقول لك: لا تخرج، اجلس معه، وتقرب إليه، يقول الوالد رحمة الله عليه: دخلت على أحد الجيران -وكان بارا بوالده- ووالده في مرض الموت، ورأيته بحالة مدهشة مع والده، فلما رأيتها بكيت، وتمنيت أني مكانه رجاء رحمة الله عز وجل ومرضاته.
عن علي وعمر رضي الله عنهما أنهما رأيا رجلا قد
حكم التصرف في الأموال المؤتمن عليها
السؤال ما الحكم فيمن يتصرف في الأموال المؤتمن عليها، علما بأنه لو جاء صاحب المال يطلبه أعطاه مباشرة ورد عليه ماله؟ فهل في ذلك حرج، علما بأن أصحاب الأموال يعلمون من المودع ذلك؟
الجواب لا يجوز للمودع أن يتصرف في الوديعة إلا إذا أذن له ربها، فإن تصرف فهو آثم، ويلزمه الضمان على التفصيل الذي ذكرناه، أما لو أخبرهم وأذنوا له ولم يمنعوه، فإن الوديعة حينئذ تكون قرضا له، إذا أخذها يكون حكمها حكم القرض، فالأصل الشرعي يقتضي أن الودائع تحفظ، ولا يجوز لأحد أن يتصرف فيها إلا إذا أذن له ربها، فمن تصرف فيها على غير هذا الوجه فعليه أن يرد مثلها كاملة إلى أهلها، ثم يطلب من أهلها السماح إذا كان لم يستأذنهم من قبل.
وعلم أهلها لا يكفي؛ لأنهم قد يعلمون منه هذا ولا يحبونه ولا يرضون، لكن يكونون مضطرين للإيداع عنده، ويعلمون أنه سيتصرف به، فالعلم لا يعتبر موجبا لسقوط الإثم، فلابد أن يتحلل من مظلمتهم في ذلك، وسؤالهم أن يحلوه، والله تعالى أعلم.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #467  
قديم 14-02-2025, 01:43 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,234
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب الجعالة )
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (387)

صـــــ(1) إلى صــ(23)



شرح زاد المستقنع - باب الجعالة
لقد اعتنى العلماء بذكر جملة من المسائل والأحكام المتعلقة بباب الجعالة؛ كبيان حقيقتها، ومتى يجزم بكونها عقد جعل، فبينوا صفتها من حيث العمل المطلوب، وكونه مجهولا أو معلوما، وصفة الشيء المجعول، وهل يجوز أن يكون مجهولا، كما بينوا صفة عقد الجعالة: هل هو لازم أو جائز، ومتى يصير لازما، وحكم فسخ عقد الجعالة، وغيرها من المسائل الذي تكلم عنها العلماء في باب الجعالة.
الجعالة وأحكامها
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الجعالة] .
الجعالة: مثلثة الجيم: جعالة وجعالة وجعالة، وهي الشيء الذي يضعه الإنسان لفعل مخصوص على وجه مخصوص.
وهذا الفعل كرد الآبق والشارد، وفتح الشيء المقفل، (على وجه مخصوص) أي: على حسب ما يشترطه، فقد يشترط زمانا معينا كقوله: من رد بعيري الشارد خلال شهر، أو من رد سيارتي الضائعة خلال سنة، أو نحو ذلك.
فهذا كله من الجعالة، فيقوم عقد الجعالة على وجود حاجة من الجاعل؛ كرد شيء مفقود له يشترط على شخص مخصوص، أو على العموم.
وصيغة الجعالة على شخص أن يقول: يا محمد! إن رددت سيارتي الضائعة فلك ألف ريال؛ فحينئذ يقع عقد الجعالة بين شخصين معينين: الجاعل والمجعول له، وهو الشخص محمد، فلا يسري إلى غيره.
وربما جعل الحكم عاما فقال: من رد علي بعيري فله ألف ريال.
فقوله: (من) من صيغ العموم، فتشمل عموم الناس، ولا تختص في الطرف الثاني من العقد بشخص مخصوص.
وهذا الباب يعتبر من الأبواب المهمة.
أدلة مشروعية الجعالة
والأصل في مشروعية الجعالة: ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقرها وأذن بها، واستحل أخذ الجعل بذلك.
ومن أهل العلم من يقول: إن مشروعيتها ثبتت بدليل الكتاب، وهذه المسألة مبنية على مسألة أصولية تقدمت الإشارة إليها غير مرة، وهي: هل شرع من قبلنا شرع لنا أم لا؟ فقد جاء عن يوسف عليه السلام أنه قال: {ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم} [يوسف:72] .
فجعل عليه الصلاة والسلام حمل البعير جعلا، وحمل البعير معروف بالعرف؛ لأن البعير يحمل وسقا كاملا من التمر، وهو ستون صاعا، فقال: من جاء بصواع الملك المفقود الضائع فنعطيه هذا القدر وهو ستون صاعا.
فهذا الفعل من يوسف عليه السلام قصه الله عز وجل في كتابه، ولم يرد في شريعتنا ما يخالفه، فدل على أنه يجوز للإنسان إذا ضاع له شيء أو هرب منه شيء أو أعجزه فتح شيء أو نحو ذلك أن يجعل الجعل لمن يقوم به.
وأما دليل السنة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري: (أن طائفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خرجوا في سفرة سافروها، فمروا على حي من أحياء العرب وسألوهم أن يضيفوهم، فامتنعوا وبخلوا عليهم، فشاء الله عز وجل أن لدغ سيد الحي، فلما لدغ ما تركوا شيئا إلا فعلوه لعلاجه فلم يفده شيئا، فقال بعضهم لبعض: إن هؤلاء الذين نزلوا عليكم قد يكون عندهم شيء، فلو سألتموهم، فجاءوا إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا لهم: إن سيدنا قد لدغ وما تركنا من شيء إلا فعلناه، فلم يفده في شيء، فهل عندكم من شيء؟ وكان فيهم راق، فقال: إننا قد استضفناكم فلم تضيفونا، فوالله لا أرقي لكم حتى تجعلوا لنا جعلا، فجعلوا لهم قطيعا من الغنم، فقام رضي الله عنه ورقاه بفاتحة الكتاب، فشفاه الله عز وجل، وقام الرجل كأنما نشط من عقال، ليس فيه منقلبة -يعني: لم يتغير به حال- صحيحا كأن لم يصبه سوء، فأعطوهم الجعل كاملا ووفوا لهم، فلما أرادوا أن يقسموا الجعل، قال بعضهم لبعض: حتى نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكرهوا ذلك، وأتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اقسموا واضربوا لي معكم بسهم) ، وفي رواية: (وما يدريك أنها رقية، خذوا القطيع واضربوا لي معكم بسهم، وضحك عليه الصلاة والسلام) .
ووجه الدلالة: أن الصحابة رضوان الله عليهم أخذوا الجعل على معالجة هذا الرجل وشفائه بإذن الله عز وجل، فأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على أخذ الجعل على الرقية.
وقد تفرعت على هذا الحديث مسألة الرقية التي سننبه عليها -إن شاء الله تعالى- بعد بيان مشروعية الجعل.
الدليل الثاني: حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نزلوا على ماء، ولما نزلوا إذا برجل قد لدغ إما من حية أو من عقرب، فسألهم سائل وقال: إن بالماء رجلا لدغ، فهل عندكم من شيء؟ فقام رجل فرقاه بفاتحة الكتاب فشفاه الله عز وجل فأعطوه شاء، فلما أخذ الشاء وجاء إلى الصحابة غضبوا عليه وقالوا له: أخذت على كتاب الله أجرا! أخذت على كتاب الله أجرا! وما زالوا به حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! إنه قد أخذ على كتاب الله أجرا، فقص على رسول الله صلى الله عليه وسلم القصة، فقال عليه الصلاة والسلام: إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله) .
فهذا الحديث يدل على مشروعية أخذ الجعل، وقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة أن يأخذوا الغنم والشاء لقاء شفاء اللديغ.
كذلك حديث خارجة بن الصلد عن عمه رضي الله عنه وأرضاه، وهو من بني تميم وقد واختلفوا في اسمه فقيل: عبد الله بن عثير، وقيل غير ذلك، وهو من بني تميم، أنه (أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فرغ من الوفاد على رسول الله صلى الله عليه وسلم سافر، فنزل على موضع، فإذا فيه رجل مجنون مكبل بالحديد، فقال له أهل ذلك الحي: إنكم أتيتيم من عند هذا الرجل الذي جعل الله الخير على يده، فهل عندكم من شيء لهذا المريض؟ فقام رضي الله عنه وأرضاه ورقاه ثلاثة أيام، وكان يرقيه بالفاتحة مرتين في اليوم، يجمع بريقه ويتفل عليه رضي الله عنه وأرضاه، فلما كان اليوم الثالث شفي الرجل؛ فأعطوه جعلا، ومضى رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه، فقال عليه الصلاة والسلام: خذه، وأذن له بأخذه، وقال: لعمري من أخذ برقية باطل فلقد أخذت برقية حق) .
وهذا الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده وبعض أصحاب السنن.
فجميع هذه الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم هي أصل عند أهل العلم في مشروعية أخذ الجعل إذا استعصى عليك شيء وصعب عليك أن تستأجر؛ لأن الفرق بين الجعل والإجارة: أن الإجارة تكلفك كثيرا، فلو جئت تستأجر شخصا للبحث عن سيارتك الضائعة لكلفك كثيرا، فمن سماحة الشريعة أنك تجعل له مالا على إحضار الشيء المفقود، أو الضائع، أو التائه، ثم بعد ذلك يقوم هذا الشخص بالبحث والتحري حتى يجده، فلا تتحمل بذلك المشقة والعناء خاصة من حيث الكلفة، وفي هذا رفق عظيم بالناس، وتيسير لهم في شرع الله تبارك وتعالى.
أما من حيث الإجماع فقد أجمع العلماء رحمهم الله على مشروعية الجعل، وأنه مأذون به شرعا.
وأما بالنسبة للعقل: فإن الحاجة داعية إلى وجود الجعل؛ لأن الناس تحصل لهم الظروف من ضياع الأشياء وسقوطها والإهمال في حفظها إلى درجة يحصل بها شيء من فواتها، ففي مشروعية الجعالة يسر وتخفيف على الأمة.
والعلماء رحمهم الله يعتنون بذكر جملة من المسائل المتعلقة بالجعالة كبيان حقيقتها، وما هي الجعالة؟ ومتى نجزم بكونه عقد جعل؟ ثم يبينون صفة الجعالة من حيث العمل المطلوب، وكونه مجهولا أو معلوما، وصفة الشيء المجعول ما الذي يجعل؟ وهل يجوز أن يكون مجهولا أو يشترط فيه العلم؟ ويبينون صفة عقد الجعالة: هل هو لازم أو جائز؟ وإذا كان جائزا -كما هو قول جماهير العلماء- فمتى يصير لازما؟ وإذا تعاقد اثنان على عقد الجعالة ففسخ أحدهم العقد فما الحكم؟ كل هذه المسائل يتكلم العلماء رحمهم الله عليها في باب الجعالة.
وهناك مناسبة بين باب الجعالة والأبواب السابقة من الوديعة، من جهة كونها تكون في حفظ الأموال ورعايتها؛ لأن الذي يبحث عن المال يوصله إلى صاحبه، والوديعة يقصد منها حفظ المال حتى يعود إليها صاحبها، فهناك مناسبة بين البابين من هذا الوجه.
من عقود الجعالة
قال رحمه الله: [باب الجعالة] .
أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بعقد الجعالة.
ومن أشهر العقود الموجودة لعقد الجعالة في زماننا عقد الرقية.
وقد انتشر هذا الباب في زماننا حتى احتاج كثير من الناس ومن طلاب العلم إلى معرفة جملة من الأحكام والمسائل التي ينبغي بيانها، حتى يستطيع الإنسان إذا أراد أن يقوم بالرقية أن يعطي الناس حقوقهم، دون أن يحصل شيء من الظلم، أو التعدي على حقوق الناس عن طريق الرقية بالجعل.
ومن حيث الأصل الشرعي لا إشكال في جواز الرقية لقاء المال والجعل، ولكن ينبغي أن ينبه على أمور: منها ما يتعلق بالشخص الراقي، ومنها ما يتعلق بالشخص الذي يرقى، ومنها ما يتعلق بأهله.

إذا خصص الجعل لشفاء المريض فلا يستحقه الراقي إلا بتمام شفائه
كذلك مما ينبغي على الراقي: أن يعلم أن الجعل إذا خصص لشفاء المريض فليس هو كالجعل الموضوع على مجرد القراءة، فهناك فرق بين أخذ الجعل على الشفاء، وبين أخذ الجعل على مجرد القراءة.
فإذا اتفق العاقدان -الجاعل والمجعول له- على أنه إن شفي هذا الممسوس بإذن الله عز وجل فسيعطيه ألفا؛ لم يجز له أن يأخذ منها شيئا حتى يشفى شفاء تاما.
وبناء على ذلك: فإن فعل بعض أصحاب الرقية كما يفعل الطبيب، فيجعل حالات كشف، وكلما جاءه مريض أخذ منه قدرا معينا؛ سبعين ريالا أو مائة ريال على الكشف، فهذا لا يستقيم مع مسألة الرقية، فالرقية باب مخصوص له ضوابطه، والجعل له أحكامه، والإجارة الطبية لها أحكامها، فهذا شيء وهذا شيء، وقد نبهنا على هذا غير مرة.
وجمهرة أهل العلم -فهو شبه اتفاق بين العلماء- على أن الجعل إذا وضع على شيء فلا تستحقه -ولو جئت بثلاثة أرباع الشيء- إلا إذا جئت به تاما كاملا.
ولو شفي هذا الممسوس وظلت تنتابه النوبة يوما في السنة؛ لم يشف، ولا يستحق الجعل كاملا حتى يشفى شفاء تاما كاملا؛ لأنه جعل المال من أجل شيء مخصوص يفوت بفواته كله أو بعضه.
وهذا أمر لا يفرق فيه البعض، وهو أمر مهم جدا، حتى في أمور الطب؛ فإن الطبيب إذا جاءه المريض من أجل الشفاء وقال له: أعالجك وتشفى بإذن الله؛ لم يستحق أن يأخذ شيئا من المال حتى يشفى المريض شفاء تاما.
ومن هنا يحصل -بعض الأحيان- أكل المال بالباطل، فإذا جاء المريض عند الطبيب ووصف له المرض، فشخص المرض وأعطاه دواء وعالجه، ثم تبين أن المرض ليس هو الذي قرره الطبيب؛ لم يستحق شيئا، ويكفي أن المريض يدفع أجرة كشفه، ثم يدفع أجرة التشخيص، ثم يدفع بعد ذلك أجرة علاج لا يمت إلى مرضه بصلة، فبأي حق أكل هذا المال؟ وبأي وجه؟ إنه بالباطل، فإذا المريض للعلاج وكشف عليه وقال: عندك كذا، وقرر أن عنده مرضا معينا، وعالجه على أن عنده مرضا، وتبين أنه ليس عنده ذلك المرض؛ فإنه يضمن له ذلك كله؛ لأنه غرر به؛ بل قد يعرضه للموت والهلاك؛ لأنه ربما يصرف له دواء يضر بصحته، وقد يؤدي إلى تلف أعضائه.
فهذه الأمور لابد من وضع الموازين لها، ولابد من وضع الأمور فيها في نصابها، حتى لا تؤكل أموال الناس بالباطل، وسواء كان ذلك في الرقية أو في العلاج والمداواة، فأموال الناس محرمة إلا أن يأذن بها أهلها.
فيشترط أن يكون هناك المقصود الذي من أجله شرعت الرقية، ومن أجله اتفق العاقدان على الجعل، ولابد من وجوده.
كذلك مما يترتب على ما ذكرناه من الأمور التي ينبغي توفرها في الراقي: أنه لا يجوز أن يتقلد هذه الرقية من كان جاهلا، فالجاهل يعرض أرواح الناس وأجسادهم للضرر.
وفي هذه الحالة أيضا إذا وضع في الحسبان معالجة النساء؛ والرقية على النساء فإن هذا يتضمن كشفا لعوراتهن، وسماعا لأصواتهن، وربما يكون فيها بعض الفتنة، وربما تكشفت، فلا يجوز أن يقوم بهذه الرقية وأن تكشف هذه المحظورات والمحرمات إلا عند الضرورة، ولمن هو أهل، أما أن يتقلد الرقية كل من هب ودب، وكل من أراد أن يقرأ على الناس يقوم بذلك فلا، ولابد أن يرجع إلى أهل الخبرة، وأن يسألهم وأن يتعلم منهم كيفية العلاج وآداب الرقية، وكيف يقوم بعمله على أتم الوجوه وأكملها.
أمور يجب أن يتصف بها الذي يرقى
كذلك ينبغي أن تتوفر في الشخص الذي يرقى أمور في بعض الأحوال خاصة إذا كان بإدراكه وشعوره: أولها وأعظمها: أن يوحد الله عز وجل، فما الراقي إلا سبب من الأسباب، فلا يجوز الاعتقاد في الناس، فيعتقد أن فلانا هو الذي تشفي رقيته؛ بل علينا أن نعتقد اعتقادا جازما أن الفضل والأمر كله لله سبحانه وتعالى: {وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه} [هود:123] فإليه سبحانه يرجع الأمر كله، فترد الأمر كله لله سبحانه وتعالى.
ومن تعلق بشيء وكله الله إلى ذلك الشيء، ومن وكله الله إلى غيره فقد خذله -نسأل الله السلامة والعافية- فيخرج الإنسان إلى الرقية من باب الأخذ بالمباح والأخذ بالأسباب، والأخذ بالرقية لا ينافي أصل التوكل، لكنه ينافي كمال التوكل، وهناك فرق بين أصل التوكل، وبين كمال التوكل.
وقد تكلم على هذه المسألة الإمام ابن القيم رحمه الله كلاما نفيسا في رده على المتصوفة الذين يقولون: إن الإنسان لا يسترقي الإنسان؛ لأنه يطعن في توحيد المؤمن، وبين رحمه الله أن الله عز وجل جعل الدواء والداء، ومن التوكل على الله كون الإنسان آخذا بالأسباب بتناول الدواء.
فسبحان من أنزل الداء وجعل له الدواء! فإذا وجدت أن الداء يشفى بإذن الله عز وجل؛ تعجبت وازددت إيمانا بالله سبحانه وتعالى، الذي وضع الخير في هذا تذهب إلى غصن شجرة فيه أوراق فتأخذها بقدر معين ويجعلها الله شفاء لمرض في صدر الإنسان أو بطنه، وتتعجب من شجرة في الصحراء، في أرض قاحلة، وإذا بالنفوس تبحث عنها؛ لأن الله جعل فيها الدواء!! عن أسامة بن شريك رضي الله عنه قال: (أتى الناس من هاهنا وهاهنا وقالوا: يا رسول الله! أنتداوى؟ فقال عليه الصلاة والسلام: تداووا عباد الله! فإن الله ما أنزل من داء إلا وأنزل له دواء) ، ولذلك يقول العلماء: حكم التداوي الندب، فإن كان المرض روحيا مثل الأمراض النفسية، فأعظم دواء جعله الله لها كتابه سبحانه وتعالى، الذي فيه الخير والبركة.
وأفضل ما يكون التداوي بالقرآن أن تقرأه بحضور قلب وخشوع، حتى يجعل الله لبلائك ودائك ومصيبتك فرجا ومخرجا، حتى لو كان الشخص مسحورا، فإنه إذا أكثر من تلاوة القرآن واستحضر قلبه عند سماع القرآن، ونظر أفضل القراء، الذين يتأثر بسماع تلاوتهم، فإن الله سبحانه وتعالى يجعل له فرجا ومخرجا.
وكم سمعنا من قصص الصالحين من أهل الفضل والأخيار، الذين كمل إيمانهم بالله عز وجل -نحسبهم كذلك- حينما توكلوا على الله وهم في شدة البلاء؛ فأكثروا من تلاوة القرآن، فسحق الله من سحرهم، وأنزل بهم البلاء، فخرجوا من سحرهم من دون أن يمسهم السوء، وقد حصل هذا من أشخاص عديدين، فالشخص إذا سحر وأوذي وربط عن أهله -ومنهم من ربط عن الخير ودعوته- فأكثر من تلاوة القرآن؛ جعل الله له بكتابه فرجا ومخرجا.
فيعتقد الإنسان في قرارة قلبه أن هناك أسبابا جعلها الله عز وجل، ولا يعتقد في الراقي، إنما يعتقد في الآيات والأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكلها تشتمل على التوحيد، كحديث: (أذهب الباس رب الناس) (أذهب) سؤال وابتهال ودعاء.
(أذهب الباس رب الناس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما)، فهو توحيد ودعاء، وثناء على الله بما هو أهله، وهو رب الجنة ورب الناس، رب كل شيء ومليكه، (واشف) دعاء وابتهال ومسألة، والله يحب أن تدعوه: {فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا} [الأنعام:43] (واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك) فلا زيد ولا عمرو ولا الطبيب ولو كان من أمهر الأطباء، فقد يعالج المريض اليوم وفي الغد يموت الطبيب ويعيش المريض؛ لأن الله بيده الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله، ولربما منعك الطبيب مما فيه الدواء، ولربما قال لك: لا تتناول كذا، وعلم الله أن شفاءك فيه.
فلا أحد يستطيع أن يجاوز حده قدره؛ لأن الله عز وجل وضعه عند هذا الحد، فلا يتعلق المخلوق بالمخلوق وإنما يتعلق بالخالق، ولا يتعلق بمن لا يملك له ضرا ولا نفعا؛ بل يتعلق بالله سبحانه وتعالى.
فهذا أمر مهم جدا في الشخص الذي يرقى؛ أن يكون تعلقه بالله سبحانه وتعالى، وتوكله على الله سبحانه وتعالى، ومن التوكل على الله أنه إذا جاء لشخص يرقيه ورقاه ولم تنفع رقيته؛ فليعلم أن الله يريد به خيرا، فقد يكون هذا البلاء وهذه المصيبة التي حلت به يريد الله أن يرفع بها درجته، ويعلي بها منزلته، ولذلك فلا يتعجل الفرج بقراءة زيد أو عمرو، حتى لا يصبح عنده ضعف؛ لأن النفوس مجبولة على التعلق بمن أحسن إليها، وقد يأتي فيها دواخن من وسوسة الشيطان، فتعييه الحيلة، ثم إذا بربه يأذن بشفائه في يوم لم يحسب له من حساب، فإذا به كأن لم يكن به شيء، فيزداد محبة لله سبحانه وتعالى، واعترافا بفضله، والتجاء إليه سبحانه.
ومسألة طلب الرقية: قلنا: إنها تنافي كمال الإيمان؛ لحديث السبعين الذين لا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون، فطلب الرقية ينافي الكمال، والأكمل أن تتوكل على الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، وأن ترقي نفسك، وأن تكثر من ذكر الله عز وجل، وأن تحافظ على الأذكار.
وأما أهل الذي يريد أن يرقى، فعليهم النصيحة، فلا يذهبون به إلا لمن يوثق بدينه وأمانته، فلا يذهبون للمشعوذين، ولا إلى من فيهم شبهة.
وتستطيع أن تعرف الشخص الصادق من الشخص الكاذب، فتجد الشخص الذي يرقي ورقيته شرعية يتكلم بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم كلاما واضحا معلوما معروفا، مأخوذا من نور الكتاب والسنة، وأما الذي عنده شركيات وخرافات وطلاسم، وعنده تعاويذ ما أنزل الله بها من سلطان، فتجده يتمتم ويهمهم، وربما يكتب الحروز بكلمات غير مفهومة، وربما -والعياذ بالله- يستخدم الجن، فبلغ من تقربه لهم -والعياذ بالله- أن يعكس آيات القرآن في حروزه نسأل الله السلامة والعافية.
فلا يجوز للمسلم، ولا يجوز لأهل المريض أن يذهبوا لأمثال هؤلاء، ولا يذهب الشخص للرقية حتى يسأل عن الراقي، فإن شهد له بخير وعرف بالاستقامة، والمحافظة على الصلوات، والخوف من الله عز وجل، وتحري السنة؛ ذهب إليه وإلا فلا.
كذلك ينبغي على الإنسان إذا أصابه مثل هذا البلاء -أي: الأمور التي تحتاج إلى رقية- أن يقتصر فيها على الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال بعض العلماء وهو مذهب طائفة: إنه لا رقية إلا من عين أو حمة، ويخصون الرقية بهذا حتى لا ينفتح الباب.
فالأفضل والأكمل أن الإنسان ينحصر دائما في المحل الذي يضطر إليه، وما زاد على ذلك فالأفضل فيه أن يفوض لله سبحانه وتعالى ويتوكل عليه، حتى يجعله الله عز وجل من السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب.
نسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم منهم بمنه وكرمه، وهو أرحم الراحمين.
أمور يجب أن يتصف بها الراقي
فأما بالنسبة للشخص الذي يقوم بالرقية فلابد أن يتصف بعدة أمور: الأمر الأول: ينبغي عليه أن يصحح نيته فيما بينه وبين الله عز وجل، وأن يصلح سريرته في مداواته ومعالجته للناس، ومن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن أصلح سريرته زكى الله علانيته.
فأول ما يجب عليه أن يصدق مع الله عز وجل، وأن لا يجعل الدنيا أكبر همه ولا مبلغ علمه، ولا غاية رغبته وسؤله، فمن جعل الدنيا كذلك جعل الله الفقر بين عينيه، فهو فقير ولو كان أغنى الناس، وفتح عليه أبواب الدنيا حتى أصبح يلهث فيها، فلا يبالي الله به في أي أوديتها هلك.
فالواجب على الإنسان أن يعلم أن الآخرة هي الأصل، خاصة وأنه يرقي الناس بكتاب الله، وبما ورد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيعلم أن هناك جانبا شرعيا لابد من حفظه.
الأمر الثاني: أن يعتقد أنه لا حول له ولا قوة في معالجة الناس، وأن الحول حول الله، وأن القوة من الله وحده لا شريك له.
ولذلك فإن من كنوز الجنة: (لا حول ولا قوة إلا بالله) ، وكان أفضل الخلق عند الله صلوات الله وسلامه عليه يقول: (يا حي يا قيوم! برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين) ، فإن الشيطان يتسلط على الراقي بالوساوس والخطرات، ويأتيه من أبواب لم تخطر له على بال، وقد يأتيه من باب يظن الرجل الراقي أنه باب خير، وإذا به باب فتنة عليه في دينه ودنياه.
فالواجب عليه أن يوطن نفسه بالله عز وجل، ومن ذكر الله عصمه من هذه الوساوس، فهو إذا اعتقد في جميع أمره وشأنه وما أصبح ولا أمسى إلا وهو بريء من حوله وقوته، كثير الالتجاء إلى الله، كثير الاعتماد على الله؛ إلا كفاه الله أمره، وأصبح بخير حال.
وإذا أصبح يعتقد أنه وصل إلى درجة يؤثر فيها على الناس، وإلى درجة تنفع فيها رقيته، وأنه الشخص الذي إذا رقى وضعت لرقيته القبول والتأثير؛ فقد يهلكه الله عز وجل بهذا الاعتقاد.
وأكثر ما تأتي الآفات من نيات القلوب: {إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا} [الأنفال:70] ، ومفهوم ذلك: إذا سلب هذا الخير فبقدر ما يسلب من هذا الخير بقدر ما يكون محروما والعياذ بالله! فالواجب تصحيح النية، واعتقاد الفضل لله وحده لا شريك له، الذي علمه ما لم يكن يعلم، علمه كيفية الرقية، وعمله ما يرقي به، وفتح له من أبواب الفضل؛ فيعتقد دائما أنه لله ومع الله، ولا حول له ولا قوة إلا بالله عز وجل.
الأمر الثالث: تعلم الرقية، فلا يرقي الناس جاهل يتعلم.
ولابد أن يتعلم أمورا في الرقية منها: ما هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرقية؟ وما الذي ورد عنه من صحاح الأحاديث والأخبار والآثار التي شرعت للرقية؟ فلا يرقي الناس بشيء من عنده، ولا يأتي للناس ببدع ومحدثات، وإنما يوطن نفسه بالخوف من الله والأمانة والنصيحة لهذه الأمة ولعامتها، ويتحرى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن كان على السنة أصاب الإخلاص، وهداه الله الصراط المستقيم، وبارك له.
الأمر الرابع: عليه أن يجعل هذا الهدي الذي ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مطبقا على الصفة الواردة، فلا يزيد عليها ولا ينتقص منها؛ بل يتعلم الوارد ثم يتقيد به، ولا يزيد عليه ولا ينقص منه، ويحاول قدر استطاعته عند قراءة الأذكار وقراءة القرآن أن يكون مستحضرا لعظمة الله جل جلاله، ومستحضرا لهيبته سبحانه وتعالى، فهي الخير كله والبركة كلها؛ لأن المعرفة بالله والإيمان به وتوحيده والإخلاص له عز وجل خير للعبد في جميع أحواله، ولو كان الإنسان في أي حالة فإنه يمكنه أن يوحد الله على تلك الحالة، ففي أي حالة من الأحوال يستطيع أن يتفكر ويعتبر ويدكر.
فإذا كان في حال رقيته كلها يتلو كلام الله، ويستشعر أثناء تلاوته عظيم البركة التي وضعها الله عز وجل في كتابه: {كتاب أنزلناه إليك مبارك} [ص:29] بحيث إذا رقي به المريض شفي، وإذا قرئ على اللديغ نشط كأنما نشط من عقال، وإذا قرئ على الممسوس إذا به يفيق.
ووالله إن العقول لتحار! فكم رأيت بعيني شخصا يرقى فتراه أمامك كالطفل الصغير، وإذا به بفضل الله سبحانه وتعالى، ثم بآيات الله التي أنزلها على رسوله صلى الله عليه وسلم إذا به يخرج من تلك البلية ومن ذلك البلاء كأن لم يكن به شيء، وقد يكون لا يعرف حتى نفسه التي بين جنبيه، وإذا به يرجع في أقل من طرفة العين بقدرة الله جل جلاله الذي هو على كل شيء قدير! فعندها تعلم أنه لا يمكن أن يخرج عن أمر الله في هذا الكون ولا في غيره شيء: {قل من بيده ملكوت كل شيء} [المؤمنون:88] .
فينبغي لأهل الرقية أن يكونوا من أكمل الناس توحيدا وإخلاصا لو اعتبروا وادكروا، والراقي الذي يصل إلى هذه الدرجة ترى من سمته أنه يزداد توحيدا لله وتعظيما له سبحانه وتعالى، فأبشر منه بكل خير.
أما الراقي الذي يبدأ أول رقيته وهو لا يعرف شيئا، فقد يستدرجه الشيطان.
وكيف يعرف صلاح الراقي؟ يعرف كما إذا جاء المريض يشتكي فقال له: -إذا كان موحدا مؤمنا- أنا ليس عندي شيء من الأمر، بل الأمر لله إن شاء الله يشفيك ويداويك، فنسأل الله أن يذهب عنك الباس، وأبشر بخير، فالله رحيم بعباده، ولطيف بهم فيغرس في القلوب الإيمان.
وهذه هي النصيحة لعامة المسلمين، والإمام أحمد رحمه الله لما دخلت عليه امرأة فقالت: يا إمام! إن ابني مريض فادع الله أن يشفيه.
قال: يا أمة الله! إنك مضطرة، والله يجيب دعاء المضطر.
فلما خرجت رفع كفه وقال: اللهم اشف مريضها.
فقيل له: لم فعلت ذلك؟ قال: أخشى إن شفى الله ولدها أن تقول: شفى الله ولدي بدعوة أحمد، فهو يريدها أن تقول: شفى الله مريضي بدعائي وإخلاصي وتوحيدي له.
والله ينزل البلاء من أجل أن ندعوه، فإذا دعوته وأجاب دعاءك ازددت إيمانا به، وتوحيدا وإخلاصا له، وعرفت أنه لا منجى ولا ملجأ من الله إلا إليه، فسبحان من أنزل الداء والدواء! وسبحان من لا يعجزه شيء! فإذا بالراقي يزداد إيمانا.
وقد أدركت رجلا كبير السن كان من حملة كتاب الله، ومن خيار عباده، فجاءته امرأة في لدغة حية، فقرأ عليها ورقاها، ثم جلسنا من بعد صلاة الفجر حتى انبلج النهار في الضحى، وقد كانت بحالة كادت أن تموت، وأهلها يصيحون ويقولون: إن شاء الله يضع الله البركة، وجعل هذا الرجل يرقيها من بعد صلاة الفجر حتى شفاها الله، ثم قامت وهي تعاني بعض الشيء، فلما صار الضحى جاءه البشير وقاله له: الحمد لله لقد شفيت.
فبكى وقال: الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله، وما ضحك وما اغتر بنفسه.
فالراقي ينبغي أن يوطن نفسه على الإيمان بالله؛ لأن الجن والشياطين تخادع، وربما يستدرج؛ وهذا باب خطير.
ولذلك تجد بعض القراء الصالحين الناصحين إذا ابتدأ الرقية بدأ بكتاب الله يرقي به، ولا يتكلم مع أحد، ولو حاولت الجن أن تقطعه فلا يلتفت إليهم؛ لأنه مشغول بلذة كلام الله، ولا يمكن الشيطان من ذلك؛ لأن الشيطان يريد أن يقطعه عن التلاوة والذكر؛ لأن التلاوة والذكر تتنزل لها الملائكة، وهم لا يريدون أن يستمر في خشوعه، فيشغلونه بالأحاديث والأخبار.
ولذلك تجد بعض القراء إذا رقى شفي الإنسان شفاء تاما، ومنهم من هو بين بين، فالواجب على الراقي أن لا يجعل من رقيته ما يخسر به دينه وآخرته، وعليه أن يجعل من الرقية ما يعنيه على الإيمان بالله والإخلاص لله عز وجل، ولذلك إذا كمل هذا الشعور عنده عف عن الدنيا ولم يلتفت إلى المال، ولا إلى شيء من زخرف الدنيا، وإنما يلتفت إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى وحده.
أحكام ومسائل في باب الجعالة
قال رحمه الله تعالى: [وهي أن يجعل شيئا معلوما] .
قوله: (وهي) أي: الجعالة.
وقوله: (أن يجعل شيئا معلوما) تصوير للمسألة؛ وليس تعريفا لأن فيه دورا، لأنك ما عرفت مادة جعل؛ فلا يصح أن تقول: الصلاة أن يصلي؛ لأنه ما عرف حقيقة الصلاة، ولا الجعالة أن يجعل، ولا الوديعة أن يودع، ولا البيع أن يبيع؛ فهو إلى الآن لم يعرف الجعالة، فكيف تقول له: أن يجعل؛ لأن الجعل يحتاج إلى تعريف.
فمراد المصنف هنا أن يصوره، وأن يجعل له شيئا معلوما.
إذا اختلف الجاعل مع العامل قدم قول الجاعل
قال رحمه الله: [ومع الاختلاف في أصله أو قدره يقبل قول الجاعل] .
هذه المسألة تعرف: بمسألة الاختلاف، وقد تقدمت الإشارة إليها غير مرة، إذا حصل الاختلاف في البيع بين البائع والمشتري، وفي الرهن بين الراهن والمرتهن، وفي الشفعة إذا اختلف الشفيع والمشتري، كل هذا قد تقدم معنا.
وهنا نتعرض لمسألة اختلاف الجاعل والشخص الذي يقوم بالبحث، فإذا اختلفوا في الشيء المجعول، وكان الباحث قد ذهب وبحث فوجد السيارة فجاء بها إلى صاحبها فقال: أعطني الجعل، فقال: هذه ألف، فقال الباحث: أنت قلت: سأعطيك ألفين.
فإن اختلفوا في قدر الجعل أو نوعه كأن يقول له: هذه سيارتك قد وجدتها أعطني الجعل، فأعطاه ألف ريال، فقال: نحن اتفقنا على ألف دولار، والألف ريال قيمتها غير الألف دولار؛ لأنها ربما تساوي ثلاثة أضعافها، فيختلفون هنا في نوع الجعل، وقد يختلفون في جنسه: هل هو ذهب أو فضة؟ فمثلا يقول له: هذه سيارتك وأعطني نصيبي الربع كيلو من الذهب، فيقول: لا.
أنا قلت: ربع كيلو من فضة، فيختلفون في جنسها هل هو ذهب أو فضة؟ فإذا اختلفوا في الجعل؛ فالقول قول الجاعل مع يمينه؛ لأنه مدعى عليه، فنقول للجاعل: ما الذي وضعته؟ لأنه أدرى ما الذي وضعه، فإن قال: وضعت ألف ريال، وخصمه يقول: بل ألف دولار، فنقول: أحضر شهودا يشهدون أنها ألف دولار، وإلا حلف الجاعل وبرئ.
إذا: القول قول الجاعل مع يمينه، وهذا تنطبق عليه القواعد: أولا: أن الجاعل أعلم بما جعل، ويكون الشخص الذي يدعي الزيادة مدع، و (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى أناس دماء أناس وأموالهم) .
ثانيا: أن الجاعل غارم، والقاعدة عند بعض العلماء: (أن الغارم دائما مدعى عليه) ؛ فتنطبق عليه الضوابط.
وكذلك لو قال له- مثلا-: أعطني ثلاثة آلاف ريال، فقال: أنا جعلت ألفين.
فكلا الطرفين متفق على أنها ألفان، والخلاف في الألف الثالثة، فلو قال له: هي ألفان.
فقال: بل ثلاثة آلاف.
فنقول: أعطه الألفين وأقم دليلا على الألف الزائدة، بأنه فعلا وضعها لك.
إذا: ينطبق عليها قاعدة: (الأصل واليقين) ، فنبقى على اليقين والشك نلغيه؛ لأن الأصل براءة الذمة منه حتى يدل الدليل على شغلها.
إذا: القول قول الجاعل بيمينه، ما لم يقم المدعي -وهو الشخص المجعول له- بينة تدل على صدق دعواه.

من عمل عملا لغيره بغير جعل لم يستحق عوضا

قال رحمه الله: [ومن رد لقطة أو ضالة، أو عمل لغيره عملا بغير جعل؛ لم يستحق عوضا] .
من حيث الأصل: أن من قام بعمل دون أن يتفق مع صاحبه على شيء فنعتبر عمله محض تبرع؛ لأنه عمله على ظاهر حاله محض تبرع، ومحض بر وإحسان، فلا نستطيع أن نلزم الناس بدفع عوض وأجرة لمن يقوم بأعمال لم يلتزم بها.
ولو فتح هذا الباب لانفتح باب عظيم عظيم لأكل أموال الناس، فقد توقف سيارتك وإذا بشخص يغسلها، ويقول: أعطني أجرة غسيل السيارة، وإذا بآخر يلمع الباب ويقول: أعطني أجرة البويا التي لمعتها، وينفتح باب عظيم لأكل أموال الناس.
وأنا لا أريد هذا الشيء، ولي الحق أن أطلبه، ولي الحق أن لا أطلبه، فهذا مالي ولي مطلق التصرف فيه بإذن الله عز وجل، وبإذن الشرع لي.
إذا: لا نستطيع أن نلزم الناس بدفع تكاليف أعمال الغير التي لم يلتزموا بها، ودلالة الظاهر محتكم إليها، وإذا لم يوجد عقد بين الطرفين نقول لهذا الشخص الذي عمل العمل: هل ألزمك أحد بهذا؟ فإن قال: لا.
فنقول: إذا ظاهر حالك يدل على أنك متبرع، فنقبله منك تبرعا ولا نلزم الطرف الثاني بالدفع، هذا من حيث الأصل.
ولو جاء شخص ورفع لك ساقطا، أو حفظ لك شيئا ضائعا أو نحو ذلك، فمن حيث الأصل لا يستحق شيئا، إلا إذا كان هناك عقد.
وفي هذه المسألة سنة عمرية عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد قضى في بعض الأشياء بوجود استحقاق فيها، واستثنى مذهب الحنابلة رحمهم الله هذه الأشياء، وهناك خلاف عند العلماء في مثل هذه السنن: هل هي سنن مؤقتة لا يزاد عليها ولا ينقص فيها من حيث القدر المجعول فيها أم أنها سنن تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، فيكون فعل عمر أصلا في جوازها، ثم تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة في ضبطها وتقديرها؟ وسيأتي ذلك إن شاء الله.
ما يستحقه من رد العبد الآبق
قال رحمه الله: [لم يستحق عوضا إلا دينارا أو اثني عشر درهما عن رد الآبق] .
هذا في مسألة رد الآبق، فقد جعل فيه اثني عشر درهما، وقد فرق عمر رضي الله عنه بين الشيء الذي في داخل المدن، والشيء الذي في خارج المدن، ففرق رضي الله عنه في رد الآبق؛ لأنه إذا فر عن صاحبه وأتي به من خارج المدينة أعطي من أتى به دينارا أو أعطي اثني عشر درهما؛ لأن الدينار في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر إلى زمان عبد الملك حيث ضرب الدينار الإسلامي -كان يعادل اثني عشر درهما، فجعل على التخيير، إما أن يعطيه دينارا من الذهب أو يعطيه عدله من الفضة، وهذه السنة العمرية، بعض العلماء يقول فيها: إنها مؤقتة، فننظر إلى قيمة الدينار وما يعادله في جميع الأزمنة، كما في زماننا فينظر إلى ما يعادله فيعطه، وبعض العلماء يقول: إن ذلك الزمان تقدر فيه الكلفة بدينار، ففي كل زمان يقدره بحسب الموجود، ولهذه المسألة نظائر: منها: إعطاء الشاة أو مائتي درهم إذا كان هناك مثلا سن واجب من الإبل، وعجز صاحب الإبل عن وجود هذه السن فأعطى ما دونها، فيعطي الفرق بين السن شاة، أو مائتي درهم، كما ورد في حديث أبي بكر رضي الله عنه في كتاب الصدقة.
وبعض العلماء يقول: الشاة والمائتا درهم سنة توقيفية لجميع الأزمنة، ففي بعض الأحيان تكون الشاة فعلا تعادل السن، وفرق ما بين السن والسن، وفي بعض الأحيان يكون الفرق بين البعير الذي في سن الجذعة والبعير المسن ثلاثة آلاف ريال، أو أربعة آلاف ريال، وتجد الثلاثة آلاف تعادل ثلاث شياه، والأربعة آلاف تعادل أربع شياه.
فإذا قلنا: إنها سنة توقيفية، بقينا على الأصل (أنها شاة أو مائتا درهم) ، وإذا قلنا: إنها سنة اجتهادية فيدفع الفرق بينهما، ويصبح في هذه الحالة يختلف الحكم باختلاف الأزمنة والأمكنة، فنقدر لكل زمان الفرق بين السن.
هذا وجه.
ومن نظائرها في الحمى: حمى النبي صلى الله عليه وسلم، وحمى وأبي بكر وعمر والصحابة، فهل يبقى الحمى إلى يوم الدين حمى؟ أو يمكن نزعه بحيث لو قلنا: إن في ذلك الزمان كان مرتعا، واحتيج لإبل الصدقة مثل الربذة، فإذا قيل: إنها حمى فتبقى حمى إلى يوم الدين، لا تغير ولا تبدل، وإذا قيل: إنها حمى لمصلحة واجتهاد، فإذا وجد غيره وانتقل إلى غيره رجع إلى الأصل من كونه أرضا مواتا يمكن إحياؤها، والحكم في هذا مشهور، وهذا ظاهر مذهب الحنابلة، واختاره صاحب الأمصار كما نص عليه أنه يبقى التشريع إلى الأبد، ولا يغير فيه.
قال رحمه الله: [ويرجع بنفقته أيضا] .
وهذا مذهب طائفة من العلماء، وهو أنه يرجع بالنفقة، فالعبد إذا وجده فإنه يحتاج أن يطعمه ويسقيه، وربما وجده عاريا فكساه، فإذا قام بهذه الأمور لحفظه حتى جاء به إلى صاحبه، فكلفه ذلك مائتي ريال، فهل من حقه أن يطالب بالنفقة؟ مذهب بعض العلماء: أن من حقه أن يطالب بالنفقة؛ لأن المال ماله، وحفظ المال من لازمه أن يوجد هذا الشيء فله أن يعود على صاحبه.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #468  
قديم 14-02-2025, 01:56 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,234
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي



وفي الحقيقة هذه المسألة فتح الباب فيها صعب؛ لأنها مخالفة للأصل، ولذلك لا تخلو من نظر وبحث، وحاصل ذلك: أن الأصل يقتضي أن من قام بعمل دون عقد فإنه لا يستحق شيئا، ولما فتح هذا الباب رتبت عليها مسائل: منها: أنه لو شردت دابة من إنسان، فأمسكها آخر وحفظها وقام بسقيها، والإحسان إليها، وكلفه ذلك، فإنه يرجع بنفقها أيضا على هذا القول الذي اختاره المصنف رحمه الله.
وهذه المسائل كلها مخالفة للأصل، وقد سبق أن قلنا: أن المسائل: أصل، ومستثنى من الأصل، وإذا استثني من الأصل هل يقاس عليه أو لا؟ فإذا كان قضاء عمر رضي الله عنه برد الآبق مستثنى، فهل يقاس غيره عليه؟ من حيث الأصل لا يقاس غيره؛ لأنه فعل بمحض البر والإحسان، فلا نطالب صاحبه بدفع مال له.
وقد يسأل سائل ويقول: لماذا لا ندفع له كلفة إحضاره؟ فنقول: سكوت صاحب المال عن وضع جعل وعن التعهد والالتزام بالجعل يبرئ ذمته، وهذا هو الأصل.
وأخوه المسلم حينما جاءه ووجد هذا الشيء هناك، فإذا فاته حض من دنياه فهناك حض في الآخرة، فإننا نجد الشريعة تبقي أشياء لأخوة الإسلام ولمعاني الأخوة؛ بل قد تفسد المعاملة وتلغيها بسبب معارضتها للأخوة، وربما منعت ما أحله الله لمعارضته للأصول كقوله عليه الصلاة والسلام: (ولا يبع بعضكم على بيع بعض) ، ونهى عليه الصلاة والسلام أن يسوم المسلم على سوم أخيه، مع أن البيع جائز، والسوم جائز، لكن إذا أضر بالأخوة منع، فإذا كان الإنسان المسلم لا يستشعر الأخوة الإسلامية، وقد يبحث عن ضالة أخيه المسلم من أجل أن يأخذ نفقتها، فيكون هذا أمرا مؤثرا في محبة المسلمين وتعاطفهم.
وما دام أن الله أعطاك القدرة على أن تجد هذا الشيء وتعثر عليه، فلماذا لا تحفظه لأخيك المسلم وترده له، ولا يكون لك منه شيء، فقد قال صلى الله عليه وسلم في بداية الهجرة لما أتى المهاجرون إلى المدينة، قال عليه الصلاة والسلام للأنصار: (من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه ولا يؤجرها) ، ورواية مسلم: (ولا يؤاجرها) ، فنهاهم عن الإجارة، وهي مباحة؛ لأن حالة المهاجرين حينما هاجروا في أول الأمر لا تسمح لهم أن يدفعوا الأجرة، ثم بعد ذلك رخص في شراء الأراضي؛ لأن الأمر اتسع وأصبح الناس في سعة.
ففي بعض الأحيان يضيع الشيء من عندي ولا أستطيع أن أدفع تكاليفه، ولا أستطيع أن أدفع شيئا لمن وجده، ففتح باب المعاوضة لا يخلو من نظر وبحث؛ لأن هناك أصولا معروفة من هدي الشرع ينبغي الاحتكام إليها، ولعل الأشبه أنه لا يأخذ شيئا، لكن لا ينبغي لصاحب الشيء أن يفوت المكافأة والإحسان لأخيه المسلم؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: (من صنع إليكم معروفا فكافئوه) ، وهذا يدل على أنه يدخل تحت باب المكافأة، لكن لا يلزم بشيء لأنه لم يلتزم.
وهذا هو الأشبه من حيث الأصول، والله أعلم.
وجوب كون الجعالة معلومة على شيء معلوم أو مجهول
وقوله: (أن يجعل له شيئا) نكرة تشمل القليل والكثير، فمن حقك أن تقول: من أحضر لي كذا أعطيه ريالا، وهذا قليل بالنسبة للعرف، أو أعطيه عشرة أو مائة، فكله جعالة، سواء كان قليلا أو كثيرا.
وقوله: (معلوما) خرج به المجهول، فلا يجعل شيئا مجهولا، كما لو قال: من عثر على سيارتي الضائعة فأرضيه، أو أعطيه شيئا، أو أعطيه مالا، أو له مكافأة، فهذا لا يجوز؛ لأنه مبهم، والجعل مجهول، ولا يجوز أن يجعل جعلا مجهولا، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله، فلا يقول: أعطيه مكافأة؛ لأنه ربما ذهب المسكين وتعب وظن أن المكافأة فوق ألف ريال، ولو علم أنها دون الألف ريال لما أتعب نفسه، فيأتي وإذا بها مائة ريال، فإذا جاء يقول: لماذا لم تعطني إلا مائة؟ قال: أنا قلت: لك مكافأة، وهذه مكافأة.
إذا: لا يغرر بالناس، ولابد أن يكون الجعل معلوما، فلا يصح أن يقول: أرضيك، ولا يصح أن يقول: مكافأة، ولا يصح أن يقول: نعطيه ثوبا، أو نعطيه سيارة، حتى يصف الثوب الذي سيعطيه أو السيارة التي سيعطيه، بمعنى: أن يحدد الثواب والجعل الذي وضعه؛ لقوله تعالى: {ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم} [يوسف:72] ، والحمل معروف -كما ذكرنا- في الوصف وهو ستون صاعا، فقال: {حمل بعير} ؛ لأنه معروف بالعرف، فيجوز أن يطلقه لمعرفته عن طريق العرف.
فقوله رحمه الله: (أن يجعل شيئا معلوما) ، أي: أن يجعل شيئا معلوما ببداية العقل، ويقول له: هذا الشيء المعلوم، وهو يشمل جميع الأموال، سواء كانت من الأعيان من الحيوانات أو من غيرها، فكل ذلك يصح حتى ولو كان من العقار، فإن قال: من وجد لي سيارتي الضائعة أعطيه أرضية في موضع كذا وكذا، فيصح أن يجعل الشيء من العقار، فهذا عام شامل لجميل الأموال.
قال رحمه الله: [لمن يعمل له عملا معلوما] .
كقوله: إن خطت لي قميصا من نوع كذا وكذا، أو خطت لي ثوبا من نوع كذا وكذا، والجعالة قد تكون في بعض صور الإجارة المحرمة، توسعة من الله على العباد، فيقول له: من خاط لي قميصا من نوع كذا وكذا، أو خاط لي ثوبا من نوع كذا وكذا، أعطيه كذا وكذا.
إذا: لو قال مثلا: من خاط لي ثوبا من نوع كذا أعطيه مائة، فخياطة الخياط عمل معلوم، أو يقول: من بنى لي جدارا ثلاثة أمتار في مترين، فهذا معلوم، فيجوز على العمل المعلوم.
وتجوز الجعالة على العمل المجهول، لقوله: [أو مجهولا] ، كأن يقول: من رد لي سيارتي الضائعة، والبحث عن السيارة الضائعة له وسائل عديدة وطرق متعددة، فإذا أطلق وقال: من رد لي سيارتي -أي: بأي طريقة وبأي وسيلة- أعطيه ألفا أو أعطيه ألفين.
تحديد المدة في الجعالة
قال رحمه الله: [مدة معلومة] .
كأن يقول: من عثر على سيارتي المفقودة خلال هذا الشهر أعطيه عشرة آلاف ريال، أو من عثر على ابني الضائع خلال هذه الأسبوع أعطيه ألفا، فهذه مدة معلومة.
وهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله: هل يجوز أن يحدد مدة معلومة للبحث أم لا؟ وكلهم متفقون على أنه إذا أطلق وقال: من وجد سيارتي الضائعة، أو من وجد ابني الضائع، أو من وجد ساعتي المفقودة، أو من وجد كتابي أو مسجلي أو قلمي أعطيه كذا، ولم يحدد مدة، فكلهم متفقون على أنه يجوز.
لكن الخلاف إذا حدد مدة معينة، فقال: من عثر على سيارتي خلال شهر رمضان، أو من عثر على سيارتي خلال سنة، أو من عثر على كتابي خلال يوم، أو خلال ساعة، فحدد مدة معلومة، فمذهب الجمهور على جواز ذلك، وقال بعض العلماء: لا يصح أن يحدد مدة معلومة، والأصح هو مذهب الجمهور.
وقوله: [أو مجهولة] : كما ذكرنا، مثل أن يقول: من عثر على كتابي، ولم يحدد، ولذلك إذا قال: من عثر على سيارتي فتبقى إلى الأبد، إذا لم يفسخها ولم يوجد من قام ببعض العمل، فإذا فسخت فحينئذ تنفسخ على تفصيل سيذكره إن شاء الله تعالى.
أمثلة استحقاق الجعل
قال رحمه الله: [كرد عبد] .
تمثيل لتقرير ما سبق، وقد كانوا قديما ربما فر العبد أو ضاع، فيقول: من رد لي عبدي الضائع فله كذا.
قال: [ولقطة] .
كأن تسقط منه ساعة فيقول: من وجد ساعتي من نوع كذا وكذا فله كذا وكذا.
فهذه لقطة: من وجد ساعتي، من وجد قلمي، كأن يسقط القلم في المدرسة، أو في المكتب، أو في مكان معين ويقول: من وجد لي قلمي فأعطيه كذا وكذا، فهذه لقطة، فالقلم إذا سقط والتقطه أحد صار بحكم اللقطة، وسيأتي إن شاء الله بيان أحكامها.
قال: [وخياطة] .
كأن يقول: من خاط لي قميصا، أو خاط لي ثوبا، ونحو ذلك.
قال: [وبناء حائط] .
كأن يقول: من بنى لي سورا على مزرعتي مائة متر في مائة في علو مترين أو متر ونصف، أعطيه ثلاثين ألفا.
فهذا رخص فيه بعض العلماء على أنه من باب الجعالة.
متى يستحق الجعل
قال رحمه الله: [فمن فعله بعد علمه بقوله استحقه] .
قوله: (فمن) : من صيغ العموم.
(فمن فعل) أي: رد الشارد، وعثر على اللقطة، وخاط القميص، وبنى الحائط، فمن فعل هذه الأشياء بعد قوله استحق الجعل.
وقوله: (بعد علمه بقوله) إذا فعله بعد قوله فإنه يستحق الجعالة بلا إشكال؛ لأنه التزم، وهذا عقد بين الطرفين، سواء كان لمعلوم أو مطلق لعمل جميع الناس، فإذا فعل ذلك بعد قوله استحق الجعل؛ لأنه اشترط والتزم.
ولذلك يكون كأنه التزم بالمال أن يدفعه عند وجود هذا الشيء الذي هو رد الآبق، والعثور على الضائع ونحوه، فإذا عثر عليه لزمه أن يدفع، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة:1] ، فهو التزم أن يدفع له، فيجب عليه الوفاء بما التزم به، ويلزمه القاضي، فإذا حدد عشرة آلاف أو مبلغا معينا على رد الضائع وجيء له بالضائع؛ لزمه أن يدفعها لمن وجدها.
وقوله: (استحقه) أي: استحق الجعل كاملا، لكن يشترط أن يكون الفعل كاملا، فلو أنه عثر على المفقود، وقبل أن يعطيه لصاحبه بساعة توفي، فإنه ينفسخ عقد الجعالة؛ لأنه ما أتم الفعل؛ إذ لابد أن يصل إلى الشخص نفسه، وحينئذ من حيث الأصل لا يستحق الجعل كاملا؛ لأنه لم يفعل فعلا كاملا.
إذا: يستحق الجعل من قام به على وجهه، وعلى الشرط الموجود في قول الجاعل، أما لو فعل البعض فهذا فيه تفصيل سيأتي إن شاء الله تعالى.
الاشتراك في الجعل
قال رحمه الله: [والجماعة يقتسمونه] .
بعد أن قرر أن من فعل بعد القول استحق الجعل كاملا، فإن كانوا جماعة اقتسموا؛ فلو فر بعير وشرد فانطلق ثلاثة أشخاص، فقال صاحب البعير: من أمسك لي بعيري الشارد أعطيه ثلاثة آلاف، فانطلق ثلاثة أشخاص وكلهم اجتمعوا على ذلك البعير وأمسكوه وجاءوا به، فإذا جاءوا به استحقوا ما جعله الجاعل ويقسم بينهم؛ لحديث الجعل: (قالوا: اقسموا.
قالوا: والله لا نقسم حتى نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسأله) ، فلما جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا يشكون في جوازه قال لهم: (اقسموا واضربوا لي معكم بسهم، وضحك عليه الصلاة والسلام) .
أي: أنه شيء مباح، فأذن بقسمته، فدل هذا على أن الجعل قد يقسم إذا كان هناك أكثر من شخص، أو طائفة اجتمعت في العثور على ضائع أو وجود شيء مفقود؛ فإنهم يستحقونه ويقسم الجعل بينهم على الشرط الذي التزم به صاحبه.
استحقاق الجعل في أثناء القول
قال رحمه الله: [وفي أثنائه يأخذ قسط تمامه] .
قوله: (وفي أثنائه) : صورة المسألة في أثناء قوله: كأن تضيع مني السيارة يوم السبت، فجعلت أبحث عنها يوم السبت كله، فبحث شخص دون أن يتعاقد معي، وعثر عليها يوم الأحد، وفي يوم الأحد أعلنت أن من أحضر السيارة أعطيه ألفا؛ فحينئذ يستحق ما بعد الإعلان لا ما قبله، فإن كان الذي بعد الإعلان له أجرة وله قدر، فحصل ما يوجب انتقالها إلى المعاوضة بالإجارة، ويستحق قدر الذي يكون بعد القول لا الذي قبله.
وهذا في مسائل منها: مسألة الرجوع عن النفقة في البحث والتحري، ففي بعض الأحيان تلزم، وفي بعض الأحيان لا تلزم، كأن تقول: من بحث عن بعيري سأعطيه مائة ونفقته علي، فحينئذ يستحق النفقة التي بعد القول لا التي قبل القول؛ لأنك التزمت له من ذلك الوقت، فيستحقها بعد القول لا قبله.
فقوله: (وفي أثنائه يأخذ قسط تمامه) أي: قسط تمام الفعل ما بين القول والعثور على الشيء الذي ضاع من صاحبه.
صحة فسخ عقد الجعالة من الطرفين
قال رحمه الله: [ولكل فسخها] .
شرع رحمه الله في صفة عقد الجعالة، فقال رحمه الله: [ولكل فسخها] .
فعقد الجعالة عقد جائز، بمعنى: أن من حقك أن تفسخ متى شئت، ومن حق الشخص الذي يقوم بالبحث أن يفسخ عقد الجعالة، ولو أن شخصا قال: يا محمد! ابحث لي عن سيارتي الضائعة وأعطيك عشرة آلاف ريال.
فقال: قبلت.
فلما قال: قبلت التزم أن يبحث، ولو أنه بعد ما قال: قبلت، قال: لا أريد أن أبحث، فهل يلزم؟
الجواب لا يلزم؛ لأن هذا عقد جائز وليس ملزما به.
لكن بالنسبة للشخص الذي وضع الجعل إذا قال: فسخت الجعالة، فحينئذ فيه تفصيل؛ لأنه في بعض الأحيان يفسخ الجعالة ويضر بمصالح الأشخاص الذين يبحثون، فمثلا يقول: من عثر على سيارتي أعطيه مائة ألف، فيذهب الناس ويتكبدون المشقة والعناء، وفي نفس الطريق وقبل وصولهم يقول: قد فسخت.
إذا: في هذه الحالة صاحب الجعل أو المالك لا يستحق أن يرجع عن عقد الجعالة؛ وفي ذلك تفصيل: فإذا أضر رجوعه بحق العامل وجب عليه أن يدفع للعامل أجرة العمل ما بين الاتفاق والفسخ.
وأما إذا كان لا يضر به، فإنه لا إشكال في كونه لا حرج عليه في الفسخ.
كذلك ينفسخ عقد الجعالة بالموت، فلو أن الباحث بحث ووجد ثم مات قبل التسليم، فإن العقد في هذه الحالة ينفسخ، وكذلك لو قال: من عثر على سيارتي أعطيه عشرة آلاف، ثم توفي بعد ساعة وعثر عليها بعد ساعتين، أو قال: من عثر على سيارتي أعطيه عشرة آلاف ريال، ثم بعد ذلك زالت أهليته، فكل هذا يؤثر في العقد، والعقد ضعيف من العقود الجائزة، فإذا كان لا ضرر في الفسخ، فإنه يصح فسخها من العامل ومن رب الشيء المفقود.
قال رحمه الله: [ولكل فسخها فمن العامل لا يستحق شيئا] .
قوله: (من العامل) أي: إن وقع الفسخ من العامل فلا يستحق شيئا؛ لأنه فوت على نفسه المال، وفوت على نفسه الجعل، فيتحمل مسئولية نفسه، فلو أنه بحث سنة كاملة ولم يجد، ثم قال: لا أريد أن أتم البحث، فذلك له، ويكون قد أسقط حقه بفسخه.
قال رحمه الله: [ومن الجاعل بعد الشروع للعامل أجرة عمله] .
فإن فسخت الجعالة من المالك والجاعل بعد شروع العامل، أو بعد شروع أكثر من شخص في البحث والتحري وقال: فسخت؛ لزمه أن يدفع له الأجرة ما بين قوله والفسخ، فمثلا: لو ضاعت السيارة، أو ضاعت الإبل، أو ضاعت الغنم في صحراء، والصحراء تبعد عن المدينة مائة كيلو، فخرج اثنان للبحث عنها، وبعد يومين فسخ الجاعل العقد، فكانوا قد وصلوا إلى المكان الذي فيه الشيء المفقود، فالسفر الذي تكبدوه للذهاب إلى ذلك الموضع يعتبر استحقاقا لهم على المالك والجاعل، فتقدر أجرة مثلهم، ويفسخ العقد، ويعطيهم حقهم في هذا العمل الذي عملوه؛ لأن في ذلك تفويتا عليهم، ويجب عليه أن يضمن لهم ذلك الحق.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #469  
قديم 14-02-2025, 02:00 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,234
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي


الأسئلة


الجمع بين حديث: (تداووا) ، وحديث: (وإن شئت صبرت ولك الجنة)
السؤال أشكل علي فهم هذين الحديثين: الأول: قوله عليه الصلاة والسلام: (تداووا عباد الله) .
والحديث الثاني: قوله عليه الصلاة والسلام للمرأة التي أصيبت بالصرع: (اصبري ولك الجنة) ؟

الجواب حديث المرأة السوداء في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لبعض أصحابه يوما: (ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟) وكانت مبشرة بالجنة إذ التزمت بشرطها وهي تمشي على وجه الأرض: (تلك المرأة السوداء أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إني أصرع فادع الله أن يشفيني، فقال عليه الصلاة والسلام: إن شئت دعوت لك، وإن شئت صبرت ولك الجنة، فقالت: أصبر) .
وهذا الحديث الجواب عنه من وجوه: الوجه الأول: أن الأصل التداوي، وهذه القضية قضية عين لا عموم لها، والقاعدة: (قضايا الأعيان لا تصبح دليلا للعموم) .
فما هو ضابط قضية العين؟ قضية العين: أن تأتي على وجه لا يمكن إلحاق الغير بها، وتخالف أصلا، فإذا جاءت مخالفة للأصل فتخصها في قضية عين -هذا الشخص بعينه- مثلا شهادة زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه لما جعله النبي صلى الله عليه وسلم بشهادة رجلين، فهل يمكن أن نقيس غير زيد عليه؟ لا يمكن ذلك؛ بل نقول: هذه قضية عين لا تصلح دليلا للعموم.
إذا: إذا وجد فيها ما يدل على التخصيص والاختصاص، فنقول: هذه قضية عين لا تصلح للعموم، فالمرأة لما كان شفاؤها بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم محتما قال: (إن شئت دعوت لك، وإن شئت صبرت ولك الجنة، فقالت: أصبر) ، فهذا أمر فيه اشتراط من جهة الشرط: (إن شئت صبرت ولك الجنة) ، فاختارت الصبر، وهذا لا يطعن في مسألة التداوي، ولا يعارضها؛ لأن هذا شيء من الغيب، وشفاؤها محقق أنه لو دعا لها واستجيبت دعوته عليه الصلاة والسلام ستشفى.
إذا: قضية العين فيها واردة، ويكون ورود هذه الحادثة تعليما للأمة وتوجيها لكل مبتلى، خاصة بالأمراض النفسية والأمراض الروحية، أنها سبيل إلى الجنة إذا صبر عليها العبد واحتسب الهم والغم والأحزان، والأمراض النفسية مثل الصرع وفي حكمها الجنون، لا شك أن الصبر عليها من أعظم الأسباب الموجبة لغفران الذنب؛ لأن البلاء يغفر الله به ذنوب العبد، وبناء على هذا فقصة المرأة تكون قضية عين، ولا تصح لأن تكون دليلا للعموم.
الوجه الثاني: أن المرأة لم تعارض الحديث؛ لأن الحديث يقول: (تداووا عباد الله) ، والدعاء خارج عن الدواء الذي أمر به من حيث هو؛ لأن التداوي شيء والدعاء شيء آخر، فالدعاء بين العبد وبين ربه، والرقية تكون من التداوي وفيها أدعية، لكن التابع ليس أصلا، فجاءت تبعا ولم تأت أصلا.
فجعل التداوي في الوسائل المعروفة مثل: الأسقية، والأشياء الموجودة في الأعشاب ونحوها مما يتداوى بها العبد، فجاء الشرع لبيان أن التداوي بها لا يعارض ولا ينافي التوكل ولا يضاده، وقوله عليه الصلاة والسلام: (وإن شئت دعوت لك) يصبح خاصا من عام.
ويكون التعارض لو كان عاما مع عام، وهنا لا تعارض؛ لأنه حديث خاص في نوع خاص وهو الدعاء، وحديث عام في التداوي الذي يشمل الأسقية والأدوية، والرقية من الدعاء تبع له ولا تكون أصلا.
لكن الدعاء هنا جاء أصلا: (إن شئت دعوت لك) أي: فشفيتي بدعائي، فيكون خاصا من عام، والخاص من العام لا يقتضي المعارضة من كل وجه أبدا.
فمثلا: تقول: لو أن شخصا قال: أريد أن أتداوى، وقال شخص آخر: بل أسأل الله عز وجل أن يشفيني، وسأستمر على الدعاء، فليس هناك تعارض بين هذا وهذا، فيدعو هذا، وإذا أراد أن يتداوى تداوى، فيكون هذا خاصا من عام، ولا تعارض، بمعنى: أن كونه يدعو لا يعارض التداوي، إنما تكون المعارضة بين الحديثين لو كان الدعاء غير التداوي، فيضاده من كل وجه، كأن يقول عليه الصلاة والسلام: (تداووا عباد الله) ، ثم يأتي حديث آخر ويقول: (لا تتداووا) فهذا تعارض، أما إذا جاء: (تداووا عباد الله) ، وجاء الدعاء كنوع من أنواع التداوي، وأعرضت عنه المرأة توكلا على الله، فهذا إعراض عن خاص لا عام.
فلذلك لا يعتبر اختيار المرأة للجنة والصبر معارضا لمسألة التداوي، وعلى هذا يمكن أن يكون هذا جمعا بين الحديثين.
الوجه الثالث: أن الشريعة من حيث هي فيها الحسن والأحسن، فيكون قوله عليه الصلاة والسلام: (إن شئت دعوت لك) دواء وعلاجا لها، وهذا حسن، والأحسن أن تتوكل وتفوض أمرها إلى الله إذا وجدت الضمان، وقد قال بعض العلماء: إن وثق من نفسه.
كما في حديث الرقية، قالوا: يترك الرقية إذا وثق من نفسه.
ولذلك الذي تكون الرقية شفاء له، ويغلب على ظنه أنه إذا لم يسترق يضعف إيمانه فيتسخط على القضاء والقدر، فقد تكون الرقية واجبة عليه؛ لأن التداوي واجب في بعض الأحيان؛ لإنقاذ نفسه، أو خشية الفتنة.
فعلى هذا نقول: إن حديث التداوي لا يعارض حديث المرأة من هذا الوجه.
والله تعالى أعلم.

اشتراط العلم في استحقاق الجعل
السؤال ذكر المصنف رحمه الله تعالى في تعريف الجعالة عملا معلوما أو مجهولا مدة معلومة أو مجهولة، فلم يجعل العلم بالعمل والمدة شرطا لأخذ الجعالة، ثم قال بعد ذلك: (وفي أثنائه يأخذ قسط تمامه) ، فكيف جعل العلم شرطا في استحقاق الجعل في هذا؟
الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
المسألة من حيث الالتزام: أن صاحب الشيء الضائع إذا التزم فله صورتان: الصورة الأولى: أن يلتزم لشخص مخصوص، فلا يلزمه غيره، فإذا قال: يا محمد! ابحث لي عن سيارتي الضائعة، فوجدها بكر أو عمر، فلا يلتزم بدفعها لعمر، وتصبح المسألة تابعة للمسألة التي ذكرناها: (من وجد شيئا ضائعا) ، هذا من حيث التزامه للشخص المخصوص.
أما من حيث التزامه عموما وقوله: (من وجد) ، فكل من وجد فإنه قد التزم له أن يعطيه هذا الجعل في ظاهر العبارة بعد علم الشخص الذي وجد ذلك الشيء بالمكافأة والجعل؛ لأنه نوى في قرارة قلبه والتزم بهذا العقد من حيث الأصل إذا كان يعلم بالجعل.
أما إذا كان لا يعلم بالجعل فصحيح أن الذي وضع الجعل وضعه لجميع المسلمين، لكن لمن رضي أن يتعاقد معه، وهو لم يتعاقد معه، فذهب ووجد هذا البعير الشارد وليس في نيته أن يأخذ عوضا، فيبقى على نيته، ويكون محض تبرع وبر وإحسان.
هذا من حيث الأصل الشرعي.
وقد فرق رحمه الله بين أن يعلم وبين أن لا يعلم، لكن هذا لا يقع في المعاملة مع الله، وبعض الفقهاء يقيس هذا على المعاملة مع الله، وهذا ضعيف جدا، ويقولون: إنك لا تنال الأجر إلا إذا استشعرت الثواب الموضوع على العمل، وهذا لا ينطبق على كرم الله سبحانه وتعالى وما أعده لعباده.
فما ورد من الأحاديث في الفضائل فعمله العامل مستشعرا للثواب أو غير مستشعر له؛ فإن الله يعطيه ذلك الثواب، وجماهير العلماء رحمهم الله على ذلك، وقد فعل الصحابة أعمالا، وأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بما يكون لهم من الأجر والمثوبة، وما كان عندهم علم أنهم سيعطون؛ لأن هذا القول نسي أصلا، وهو أن هناك فرقا بين مسألة الجعل وبين مسألة المعاملة مع الله.
والفرق بينهما: أن الشخص عندما يذهب ويجد بعيرا شاردا، ويعرف أنه لفلان ويأتي به إليه، ما خطر على باله أنه يأخذ شيئا، لكن الذي يعمل الطاعة فهو بمجرد إيمانه يعمل الصالحات ويثاب عليها وينوي ثوابها، بمعنى: أن أي عمل تعمله من الأعمال الصالحة تستشعر أن الله سيجزيك عنه.
فهناك فرق واضح بين الشخص الذي يعمل العمل الصالح وينتظر الثواب من الله، وبين المتصوفة الذين يقولون: لا نعمل طلبا لجنته ولا خوفا من ناره -أعوذ بالله! - فلسنا بأتقى لله عز وجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين عملوا خوفا من النار وطلبا للجنة.
فنعمل خوفا من عذاب الله ونرجو رحمة الله، ولا يقدح ذلك في توكلنا ولا في إيماننا؛ لأنه ليس هناك أعظم من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أعلى درجة منه، وهو يخاف من نار الله عز وجل ويرجو جنته، قال عليه الصلاة والسلام: (ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته) ، وهو يسأل الله عز وجل: (اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها) أما هؤلاء فيقولون: الإنسان يعبد الله لأنه ربه فلا يعبده من أجل جنته أو ناره!! فالعامل من حيث هو يعمل للعمل الصالح، وهو يعلم أن هناك جزاء وثوابا: {من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم} [النحل:97] ، فجعل الجزاء مرتبا على العمل.
فبناء على ذلك لا نستطيع أن نقيس عملا بدون العلم بالتعاقد؛ لأن المخلوق مع المخلوق لابد من التعاقد بينهما، وأما المخلوق مع الخالق فهذه مسألة قد تكلم عليها شيخ الإسلام رحمه الله وأشار إليها في مصطلح العقد، والعلماء تكلموا عليها في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة:1] .
وبعض المفسرين من السلف كـ الحسن البصري وغيره أخذ هذا اللفظ على عمومه، وقال: إن العقد يقع بين المخلوق والخالق: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم} [التوبة:111] ، فجعله تعاقدا: {فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به} [التوبة:111] ، وكقوله لله علي أن أصوم، لله علي أن أعتق، لله علي أن أفعل كذا وكذا، فهناك تعاقد بين المخلوق والخالق، وهناك تعاقد أصلي من الخالق، أن أي عمل صالح لا يضيعه: {أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى} [آل عمران:195] .
فلا نستطيع أن نقول: أن الثواب لا يحصل على الأعمال الصالحة إلا بالنية، مثلا: ليلة القدر، يقولون: لا يغفر له ما تقدم من ذنبه إذا أحيا العشر الأواخر وليس في نيته أن يغفر الله له ما تقدم له من ذنبه، وهذا غير صحيح، فسواء نوى أو لم ينو فالله سبحانه وتعالى أكرم من يعامل، فله الفضل والمنة التامة الكاملة.
فمسألة النية ليست واردة هنا؛ لأن قياس هذا على مسألة الجعل والاستحقاقات في تعاقد المخلوق وتغليب النظر والفقه على هذا ضعيف، ولذلك يبقى الأصل أن المخلوق ينال الأجر ولو لم يكن عنده شعور بذلك الأجر، لكن ينبغي أن يكون عنده الأساس وهو الإخلاص لله، ورجاء الثواب من الله عز وجل، وهذا يكفي إجمالا من حيث الإجمال، ومسألة التفصيل: أن يعلم أنه إذا قام هذه العشر الأواخر وأصاب ليلة القدر يغفر له ما تقدم من ذنبه، ويطلب منه ذلك، فليس هذا بوارد، إنما هو محض فضل من الله سبحانه وتعالى، ولا يمكن قياس هذه المسألة على المسألة التي وردت أن المخلوق مع المخلوق لا يكون له تعاقد وهو في الجعل إلا بعد علمه.
والله تعالى أعلم.

الشراكة في الجعالة بالرفقة
السؤال كيف توزع وتقسم الجعالة على الصحابة كلهم مع أن القارئ كان واحدا؟
الجواب قد استشكل بعض العلماء هذا الحديث، لكنهم يقولون: تكون الشراكة في بعض الأحيان بالرفقة.
فإذا سافر فإنهم يشتركون جماعة في الغنم والغرم، فالضرر الذي يأتي يأتي عليهم كلهم، والنفع يأتي لهم كلهم، وبعض مشايخنا رحمة الله عليهم كان يقول: هذا الحديث فيه هذا الإشكال، ويمكن أن يجاب عنه: أنه كان يمكن لكل شخص منهم أن يرقي، فلما اختار أحدهم أن يرقي صارت الكلفة عليه، والأجرة للجميع.
ومن هنا قال عليه الصلاة والسلام: (واضربوا لي معكم بسهم وضحك) ؛ لأن الشرع له وجه؛ فإن الرقية جاءت من دلالته عليه الصلاة والسلام، وهو الذي أنزلت عليه الفاتحة، ويكون على هذا قوله: (اضربوا لي معكم بسهم وضحك) أي: كما استحققتم أنتم بحكم أن كلا منكم كان يمكن أن يرقي، فإن الشرع له وجه من جهة أن الفاتحة كانت من شرع الله عز وجل ومن دينه.
والله تعالى أعلم.

حكم وضع الجعالة على المسابقات ونحوها
السؤال هل تكون الجعالة بالأمور المعنوية كأن يقول المعلم لطلابه: من حل مسألة كذا فله عشر درجات، ونحو ذلك؟
الجواب السنة واضحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في مسألة المسابقة: (لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر) ، فهذا نص واضح ليس فيه أي إشكال، فنؤمن بما جاء ونلتزم ونسلم به، فلا يجوز وضع الجوائز إلا على هذه الثلاثة، والسبب: أن الجوائز تحدث الشحناء والبغضاء، وتحدث نوعا من التنافس، وما تنافس قوم غالبا إلا حرص أحدهم أن يكون هو الأسبق.
قال بعض العلماء: فاستثنيت هذه الثلاثة الأشياء لأمور لا تعارض الأصل الذي منع منه في وضع الجوائز؛ لأن: (لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر) كلها في الجهاد في سبيل الله، كما تقدم معنا في باب السبق، فحينما يسبقك أخوك وتراه يسبقك فإنك تفرح؛ لأنه سيكون أعظم نكاية للعدو، وسيكون أقوى في الجهاد في سبيل الله عز وجل، وحينما يكون أكثر رميا منك تفرح لما سيكون له من حسن البلاء في العدو والنكاية بهم.
وقالوا: إنها أجيزت لوجود الحاجة إليها في الجهاد.
وأيا ما كان فإن هذا نص واضح بأنه لا يجوز وضع المسابقات؛ لأنها تحدث الشحناء والبغضاء بين الناس إلا فيما استثنى الشرع.
وعلى هذا: فالمسابقة الثقافية داخلة تحت هذا العموم، والحديث يقول: (لا سبق) أي: لا جعل يجعل على السباق إلا في هذه الثلاث، فنلتزم بهذه السنة ولا نفتح مجال القياس والرأي، ولو قلنا: إنها باب الجعل، فقد خالفت الجعل، فالجعل أن تحتاج الشيء كبعيرك الشارد تحتاجه وأنت عاجز عنه، وسيارتك الضائعة تحتاجها وأنت عاجز عنها، وجدارك الساقط، وقلمك الضائع، فالجعل يكون في شيء تحتاجه وأنت عاجز عنه.
لكن المسابقة ماذا يحتاج منها؟ هو يعرفها ويعلمها، فأين الجعل من إيجاد شيء، ولذلك لا منفعة فيها، ومن هنا يقول العلماء: لا يصح الجعل إذا لم توحد مشقة على العامل، وقد ذكر هذه المسألة الإمام النووي وغيره وأشار إليها في الروضة: كما لو قال: من أخبرني بوقت خروج فلان فله كذا.
قالوا: لم يستحق؛ لأن الإخبار بالخروج ليس فيه أي عناء ولا أي جهد.
هذا إذا كان العامل لم يتحمل مشقة، فكيف إذا كان الجاعل لا مصلحة له؟ فأي مصلحة للجاعل حينما يقول: من حل المسألة الفلانية وهو يعلم حلها؟ إذا: لا مصلحة له في معرفتها.
وقد يقول قائل: المصلحة أن الطلاب يتنافسون.
فنقول: نعم.
يتنافسون ويتباغضون ويتحاسدون بسبب هذا التنافس، ولذلك رأينا بأعيننا أن الطلاب إذا وضع لهم الجعل على مسابقة حقد بعضهم على بعض، حتى لقد رأيت بعيني من بعض الزملاء أنهم كانوا إذا جرت بينهم مسابقة في الحفظ تمنى بعضهم أن يخطئ أخوه في القرآن وفي كتاب الله عز وجل، ناهيك عن أنه إذا كان صغيرا وأعطي الجعل على حفظ كتاب الله عز وجل ينشأ متعلق القلب بهذه الدنيا، وربما يمر عليه العام كاملا ولا يراجع القرآن إلا إذا أعطي مسجدا يقوم فيه للتراويح، أو طلب للمسابقة، أما غير ذلك فلا.
وكتاب الله والأمور العلمية ينبغي صيانتها من الدنيا ما أمكن، وينبغي حفظها والمحافظة عليها، ومن صان العلم صانه الله في الدنيا والآخرة، ومن حفظ العلم لآخرته حفظه الله في دنياه وآخرته، وبارك له في هذا العلم، وبارك له فيما يجد.
ولذلك تجد من يتعلق بالحوافز والجوائز تدخل عليه من الفتن الشيء الكثير، ولا يبارك له في علمه، ولا ينتفع؛ حتى إن نفسه ربما ضعفت عن الاحتساب إذا لم يوجد الثواب، وتجده متقاعسا في الأمور التي يكون فيها نفع للعامة، ولا يبارك له في علمه كالشخص الذي يصون علمه عن أن ينافس به أحدا.
وانظر إلى طالب العلم يأتي مع طالب علم آخر، ويأتون إلى أجل المسائل الفقهية أو الشرعية ويتنافسان ماذا نريد من تنافس الاثنين؟ حتى نعلم من هو أعلم فالأفضل لك أن لا تتعالم بعلمك، والأفضل لك أن لا تشعر الناس أنك أعلم.
إذا: هذه المسابقات لا تتفق مع مقاصد الشريعة، ولا تتفق مع معالي الإخلاص والتوحيد التي من أجلها قامت هذه الشريعة؛ لأنها تفسد النيات، وتحدث الدخن بين طلاب العلم مع بعضهم ومع معلميهم، فينبغي صيانة العلم عن مثل هذا.
والأعظم بلاء والأشد إذا كانت الأشياء المسئول عنها في الثقافة أشياء لا ينتفع بها المسلم، فربما كانت عن تاريخ ميلاد كافر أو فاجر أو عاهر، وفي هذه الحالة إذا وضعت هذه الأسئلة عن تاريخ كافر أو فاجر، يصبح أبناء المسلمين متعلقين بقراءة كتب الكفار، ويصبح عندهم نوع من التغليب اللاشعوري، فيذهب ويشتري الكتب التي تتحدث عن تاريخ الكفار، فإذا قيل له: ماذا تريد منها؟ فيقول: ربما أسأل عنها فيزيد من ثقافتي، ويصبح الذي يجيب عن هذه الأسئلة الغريبة محل إشادة أنه أوسع معلومة! فهذه أمور تجر إلى مفاسد وأضرار، ولذلك ينبغي إغلاق هذا الباب؛ لأنه إذا فتح في أمور الدين فتح علينا في أمور الدنيا، وحصل في ذلك من الضرر ما الله به عليم، فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، وصيانة العلم وحفظه، ومن حفظ العلم وصانه كما قال الشاعر رحمه الله برحمته الواسعة: ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه في النفوس لعظما ولذلك من حفظ العلم حفظ الله له كرامة العلم في وجهه وفي أهله وماله وحيثما كان، ويبارك له في علمه ما صانه وجعله لآخرته، فيتكلم به لله، ويتعلمه لله، ويعلمه لله، أما إذا فتحت أمور الدنيا خاصة على النشء والصغار فإن هذا يعودهم على التعلق بالدنيا.
ولنا في سفلنا الصالح أسوة، فقد قادوا الأمة والعالم من المحيط إلى المحيط وكانت مدارس المسلمين منتشرة في كل صقع، وما كانوا يعرفون مسابقة، ولا جوائز؛ بل كانوا يثنون الركب في حلق العلم، محتسبين الأجر عند الله سبحانه وتعالى، مبتغين الثواب منه سبحانه وتعالى، فبارك الله لهم، وبارك في علمهم، وبقي علمهم إلى اليوم خالدا، حتى إنك تجد كتاب العالم من علماء المسلمين محفوظا في دول الكفر على أنه تراث، فسبحان الله! لأن اليد خطت لله، والعلم دون لله، فسخر الله عدوه أن يحفظه.
وهذه كلها آيات وعبر في الإخلاص والتوحيد؛ ولذلك تجد بعض حفظة كتاب الله عز وجل يحفظ من أجل جوائز الدنيا، فإذا به ميت القلب لا ينتفع بالقرآن، نسأل الله السلامة والعافية.
وربما تجد الشخص عنده نصف القرآن لكنه مخلص لله، يقوم به الليل، ويبكي من آياته إذا تلاها، وينتفع بها، وتجد الرجل يأتي ويلقي القرآن من أجمل ما يكون قراءة، ولم يدخل في قلبه منها أثر، فالإخلاص لابد منه.
فالواجب علينا أن نجعل الآخرة وما عند الله نصب أعيننا: {تلك الدار الآخرة} [القصص:83] انظر إلى هذه الآية وتأملها كما يقول أهل العلم: ما قال: الدار الآخرة؛ بل قال: (( تلك )) ، وهذا إشارة إلى العلو ورفعة المنزلة {تلك الدار الآخرة} [القصص:83] ، فقد علت وسمت فعلا أهلها وسموا عن حطام الدنيا؛ لأن الدنيا ضرتها تماما، فمن أراد الدنيا فإنه لا يريد الآخرة: {تلك الدار الآخرة نجعلها} [القصص:83] ويجعل الله لك الآخرة متى؟ (للذين) اللام تفيد الاختصاص: {للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا} [القصص:83] ، الذين اتقوا الله في هذا العلم {والعاقبة للمتقين} [القصص:83] .
فينبغي على أهل العلم صيانة العلم، وينبغي أن يعود طالب العلم من الصغر على طلب العلم لله وفي الله، وابتغاء ما عند الله عز وجل، حتى يبارك له في علمه، فإذا فعلنا ذلك وجدنا الخير والبركة، ووجدنا من يستطيع أن يخرج من بيته من الصباح ولا يرجع إلى بيته إلا في الليل، وهو عاكف في بيت من بيوت الله يعلم أبناء المسلمين، أما إذا وضعت على ذلك الحوافز والجوائز فربما تعلق قلبه بها، والقلب إذا تعلق بشيء فتن به، نسأل الله السلامة والعافية.
ولقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن: (الدنيا معلونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، أو عالما أو متعلما) أي: من أراد وجه الله، وإلا فما عدا ذلك فهو ممحوق البركة.
فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا ممن أراد بهذا العلم وجهه، وأن يجعل ما تعلمناه وعلمناه خالصا لوجه الكريم، موجبا لرضوانه العظيم، وأن يصرف عنا فتنة العلم ما ظهر منها وما بطن.
والله تعالى أعلم.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #470  
قديم 14-02-2025, 05:31 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,234
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب اللقطة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (388)

صـــــ(1) إلى صــ(32)



شرح زاد المستقنع - باب اللقطة

الإنسان في حياته معرض لضياع ماله عنه، وبما أن الضائع غالبا ما يجده إنسان آخر ويلتقطه؛ فلهذا وضعت الشريعة للقطة أحكاما تتعلق بمن يأخذ اللقطة، وما الشيء الذي يجوز له التقاطه، وما الذي لا يجوز له التقاطه، وكيف يعرفها حتى يجد صاحبها، وما هو المال الذي يعرف والذي لا يعرف، وما الذي يترتب على عدم مجيء صاحبها، وغير ذلك من الأحكام الخاصة بباب اللقطة، وهذا كله من كمال الشريعة وشمولها.
اللقطة وأحكامها
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين: يقول المصنف رحمه الله تعالى: (باب اللقطة) أراد أن يشرع المصنف رحمه الله في بيان أحكام الضائعات من الأموال ونحوها، وقد بينت الشريعة الإسلامية ما يجب على المسلم إذا وجد مال أخيه المسلم؛ من حفظه، ورعايته، والسعي في تحصيل الأسباب بمعرفة صاحبه ورده إليه، فإن الإنسان ربما سقط منه ماله وهو لا يدري، ولربما ضاع منه، فيحتاج إلى حفظ ذلك المال، حتى يتمكن صاحبه من وجدانه، وقد جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جملة من الأحاديث التي اشتملت على أحكام اللقطة، وفصلت في بيان ما يجب على الملتقط، ومتى يحكم له بأخذها والتصرف فيها، وما الذي يترتب على ذلك الأخذ، وأنه إذا وجد صاحبه في يوم من الأيام فإنه يكون ضامنا له.
وقد ذكر المصنف رحمه الله باب اللقطة بعد باب الجعالة، والمناسبة: أن باب الجعالة تضمن جملة من المسائل والأحكام التي غالبا ما يكون فيها الجعل في الأشياء الضائعة، واللقطة من الضائعات، فهناك توافق بين باب الجعالة وبين باب اللقطة.
وقوله رحمه الله: (باب اللقطة) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة باللقطة.
ضابط المال الذي يأخذ حكم اللقطة
قال رحمه الله: [وتتبعه همة] ، الاهتمام بالشيء: العناية به، والأموال منها ما يهتم به الإنسان، ومنها ما لا يكترث به، فالفقهاء رحمهم الله يريدون أن يفرقوا بين الشيء الذي يأخذ حكم اللقطة العامة والشيء الذي لا يأخذ هذه الأحكام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرق في سنته، فلما قال جابر رضي الله عنه: (خفف عنا في السوط والعصا) ، هذا يدل على أن الشيء اليسير لا يحتاج إلى تعريف به، ولا يأخذ حكم اللقطة العامة.
إذا: نحتاج إلى وضع ضابط، ووضع ميزان نفرق به بين الشيء الذي يأخذ حكم اللقطة، وبين لشيء الذي لا يأخذ حكم اللقطة، فوضعوا ضابطا وهو: همة أوساط الناس، وقالوا: وسط؛ لأنه دائما في التقديرات الغالبة ينظر إلى أوساط الناس، فمثلا: قاعدة: العادة محكمة، لما جاء العلماء يضعون قاعدة الاحتكام إلى العرف وضعوا الضابط الغالب، فالغالب هو الذي يكون في الوسط، ليس لأهل الغنى ولا لأهل الفقر، فكذلك هنا بالنسبة للأموال، لا ننظر إلى الأشياء الغالية ولا إلى الأشياء الرخيصة، ولكن ننظر إلى الأشياء الوسط، ونجعلها هي التي تسري عليها أحكام اللقطة، فنقول: من باب أولى إذا كانت أغلى من هذه، وعلى هذا وضع المصنف رحمه الله قيد: أوساط، والوسط هو المقام الذي يكون بين الطرفين: الغالي والرخيص، فاللقطة هي الشيء الذي ليس بالرخيص جدا، بل كان رخصه تتبعه همة أوساط الناس؛ لأنه يمكن أن يكون الرخيص عندي قيمته مائة ريال لغناي، وقد يكون عندي الرخيص قيمته ألف ريال، وقد يكون عشرة آلاف ريال وهكذا.
إذا: ننظر إلى أوساط المجتمع، وهذا يختلف باختلاف الأعراف، والأزمنة والأمكنة، فالقاضي والشيخ والمفتي وطالب العلم إذا سئل عن شيء: هل هو لقطة أم لا؟ فينبغي أن ينظر إلى الوسط، والمصنف رحمه الله ابتدأ بهذه الجملة؛ لأن أول ما تبحث من أحكام اللقطة أن تعرف ما هو الشيء الوسط الذي تتبعه همة أوساط الناس، حتى تقول بعد ذلك: يجب تعريفه، ويجب كذا وكذا من أحكام اللقطة، فهو يقول: نضع ضابطا لأوساط الناس.
وأوساط الناس تختلف باختلاف الزمان والمكان؛ فقد تجد مجتمعا يكون وسط المال فيه ألف ريال، بحيث أن ما دون الألف يكون شيئا يسيرا.
وقد تجد زمنا الوسط فيه مائة ريال، بحيث أن ما نزل عن المائة يكون يسيرا، وقد يكون العشرة ريال، فيرد هذا إلى كل عرف بحسبه.
قال رحمه الله: (وتتبعه همة أوساط الناس) أي: يهتم صاحبه بالبحث عنه؛ لأننا لا نستطيع أن نكلف شخصا أن يعتني بما لا يريده صاحبه، أي: لا ينشغل به صاحبه، ففي ذلك عناء ومشقة، وأحكام اللقطة صعبة، والتعريف باللقطة فيه عناء ومشقة.
أحوال الملتقط من جهة قصد التعريف وعدمه
قال رحمه الله: [وله التقاط غير ذلك من حيوان وغيره إن أمن نفسه على ذلك] .
قوله: (من حيوان) (من) بيانية، على التفصيل الذي تقدم معنا فيما يجوز أخذه من الحيوانات وغيرها، وقوله: (وله التقاط) ، هذا الالتقاط على التفصيل الذي ذكرناه، وقد بين المصنف هذا هنا؛ لأن الأحكام المتعلقة بالالتقاط مفرعة عن معرفة الشيء الذي يلتقط، فبعد أن بين رحمه الله الشيء الذي يلتقط، بين أحوال التقاط اللقطة، فالذي يلتقط اللقطة يلتقطها على صور: الصورة الأولى: أن يلتقطها بقصد تعريفها وردها إلى صاحبها، والصورة الثانية: أن يلتقطها بقصد أن يملكها وأن يأخذها.
ففي الصورة الأولى إذا أخذها بقصد تعريفها، والوصول إلى صاحبها، إن كانت من جنس ما تنطبق عليها أحكام اللقطة فلا إشكال، فيعرفها ثم بعد انتهاء مدة التعريف يكون مالكا لها، كما سيأتي.
الصورة الثانية: من أخذ اللقطة قاصدا أن يملكها مباشرة، كمن وجد قلما أو كتابا له قيمة، ولا يستطيع أن يجد صاحبه، أو وجد ذهبا أو فضة، فحملها وقال: أريد أن أنفق من هذا المال، فهذا حكمه حكم الغاصب، أي أنه في الصورة الأولى يكون حكمه حكم الملتقط، وفي الثانية يكون حكمه حكم الغاصب، ففي الأولى لا يضمن، وفي الثانية يضمن.
فائدة هذه المسألة: أنه لو التقط على الوجه الأول، ونيته فيما بينه وبين الله أن هذه العشرة الآلاف التي وجدها سيوصلها إلى صاحبها، فأخذها عنده، فضاعت، أو سرقت من دون تعد ولا تفريط، فلا ضمان عليه؛ لأنه ما تعدى ولا فرط، ويده يد أمانة، لكن لو أخذها من أجل أن ينفقها، ولم يفكر لا في تعريفها ولا في شيء، إنما قال: الحمد لله على هذا الرزق الذي جاءنا -والبعض يحمد الله حتى ولو كان المال من سرقة! - فأخذ هذا المال وفي نيته أن يصرفه، وقال: أريد الآن أن آخذه حتى أسدد ضائقة، أو أشتري شيئا، فلما أخذها ابتلاه الله في الليلة التي أخذها بأنه سرق منه أو ضاع منه، فلو عرف صاحبها، وجب أن يرد عليه المال، فهو في الأول أمين وفي الثاني غاصب، وهذه فائدة النية في الالتقاط.
فيفصل في الالتقاط بهذا: فإن التقطها بالوجه المعروف، كانت يده يد أمانة، ولا يضمن إلا إذا تعدى وفرط، أما إذا وجد شيئا وفي نيته أن يأخذه لحظه وأهله، دون قصد التعريف، فإنه في هذه الحالة يكون ضامنا، وحكمه حكم الغاصب.
وقوله: (إن أمن نفسه على ذلك) ، هذا شرط، وهو أن يأمن نفسه على المال الذي أخذه، قال: [وإلا فهوكغاصب] ، ومفهوم الشرط أنه إذا لم يأخذها على هذه النية، وأخذها من أجل أن ينفق على نفسه -ولذلك تجده يأخذها ولا يريد أحدا أن يشعر أنه أخذ هذا المال، ولا يريد أحدا أن ينتبه له؛ لأنه يريد أن يأخذه لنفسه- (وإلا فهو كغاصب) أي: فحكمه حكم الغاصب، كما تقدم.
حكم التقاط اللقطة
قال رحمه الله: [وله التقاط غير ذلك من حيوان وغيره، إن أمن نفسه على ذلك، وإلا فهو كغاصب] .
يقول المصنف رحمه الله: (وله) أي: للشخص الواجد للضائع (التقاط) أي: أخذ الشيء الضال أو الضائع من غير الذي ذكرناه وهي الأشياء اليسيرة التي ليس لها قيمة، ومن أهل العلم من قال: الأفضل والأكمل أن لا يلتقطها، ومن أهل العلم من قال: الأفضل والأكمل والأعظم أجرا أن يحتسب ويأخذه صيانة لمال أخيه المسلم، ومن أهل العلم من قال: إن المسألة على الإباحة، فلا نقول الأفضل الأخذ، أو الأفضل الترك إلا بالتفصيل، فإن كان الشخص يأمن على نفسه، فيعرف من نفسه أنها لا تتعلق بهذا الشيء، وأنه سوف يقوم بحقوق التعريف، وأن يده سوف تكون يد أمانة ومحافظة على الشيء، ويغلب على ظنه أنه سوف يوصل الشيء إلى صاحبه، أو أن صاحبه سوف يعود؛ فإنه يأخذه.
وألحق بهذه الأحوال حالة ذكرها بعض العلماء ونصوا فيها على وجوب الأخذ، وهي: أن يكون الموضع الذي وجد فيه المال فيه سراق أو فساق، أو أناس لا يحفظون حدود الله وحقوق المسلمين، بحيث يأخذونها وربما استغلوها في أشياء محرمة، فيجب على الإنسان أن يأخذها في هذه الحالة، بحيث يأمن على نفسه الفتنة، ويغلب على ظنه أن هذا المال لو ترك فيأخذه فاسق، وقد يستعين به على حرام، ويغلب على ظنه أنه قد يجد صاحبه، ففي هذه الأحوال يجب عليه أن يأخذه، فإن خاف، أو وجد غيره ممن يمكن أن يقوم بهذا الأمر، فغلب على ظنه أنه إن لم يأخذه فإنه سيأتي إنسان صالح، ويغلب على ظنه أنه سيقع في يد إنسان غيره ممن يقوم بحقوق التعريف، وهذا الغير أفضل منه؛ فالأفضل الترك، ويروى هذا عن عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر أنهم كانوا يكرهون أخذ اللقطة، ويكرهون التعرض لها؛ لما في ذلك الورع، وابتعاد الإنسان عن المسئولية، هذا إذا خاف على نفسه، وإذا وجد الغير ولم يأمن على نفسه الفتنة.
أما إذا وجد الغير وغلب على ظنه أنه لو أخذ هذا المال فإنه يفتن به، وربما لم يأمن نفسه عليه؛ لأن النفوس تختلف والأزمنة تختلف، وربما تأتي الضائقات والحاجة، فتضطر الإنسان إلى أخذ ما حرم الله عليه، ولذلك استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من غلبة الدين؛ لأن الإنسان إذا غلبه الدين كذب في قوله، وأخلف في وعده؛ لأنه يقهر على ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم استعاذ من غلبة الدين لهذا؛ وهو ذل بالنهار وهم بالليل، فالإنسان إذا غلب على ظنه أنه سيهتم بهذا الأمر، ويشغله عما هو أفضل، ويوجد غيره ممن يقومون به؛ فالأفضل أن يتركه إلى ذلك الغير، والأفضل له التورع وصيانة نفسه.
وفي حكم هذه المسألة أيضا إذا كان الموضع أهله أهل شر؛ بحيث لو أخذ هذا المال تسبب له بفتنة واتهم بالسرقة، وتعرض للضرر، فيكون تركه حينئذ مقدما على أخذه.
فيفصل في مسألة أخذ اللقطة أو تركها بهذا التفصيل: أن الأزمنة والأمكنة والأشخاص والأحوال مختلفة، والإنسان يتقي الله على قدر استطاعته، فما كان موافقا لشرع الله بحيث يتأكد الحكم بوجوب أخذ اللقطة فيه، أو ندبها واستحبابها، فإنه يحكم له بوجوب الأخذ واستحبابه، وما كان بالعكس فعلى العكس، وما انتفت فيه الموانع، وانتفت فيه الدوافع، فإنه يبقى على الأصل وهو الحل.
ولذلك قال المصنف: (وله) فنص على مرتبة الإباحة، أي: يجوز له أن يأخذها، وهذا على سبيل التخيير، ويبقى التفصيل، فتارة يجب، وتارة يسقط هذا الحل، لوجود العارض عند وجود الموانع.
حكم التقاط الشيء اليسير
وقوله: (فأما الرغيف) الفاء للتفريع، أي: إذا ثبت أن اللقطة مال ضائع عن صاحبه، وتتبعه همة مالكه، فإنه إذا كان رغيفا، أي: شيئا لا قيمة له، فإنه لا يعتبر لقطة، فهو أراد أن يفرع من التعريف السابق، بحيث يخرج ما ليس بلقطة من التعريف، فقال: (فأما الرغيف فلا تتبعه همة صاحبه) ، ولكن قد يكون -مثلا- مجمع من الناس في نزهة، والرغيف عندهم له قيمة، أو رفقة في سفر من الفقراء والضعفاء، فلا نستطيع أن نقول: إن من وجد الرغيف فهو له؛ لأن الرغيف هنا يختلف عن الوضع العام، والمؤلف يتكلم عن الغالب، وإلا فقد يكون الرغيف له شأن، خاصة في أيام المجاعة والشدة، فتتبعه همة صاحبه، فهذا التعبير إنما هو للغالب، والفقهاء يختارون أمثلة للغالب.
قال: (والسوط) وهو الذي يضرب به الناس ونحوه، والمراد: مما لا تتبعه همة الناس، ولا قيمة له ذات بال، فيملك بلا تعريف، أي أن صاحبه إذا فقده ووجدته، فإننا نحكم بانتقال ما في يده إليه، فتملكه بمجرد ما تأخذه بدون تعريف، كما يقول بعض العلماء: فهو لواجده، ومنهم من يقول: فهو لملتقطه، وهنا قال المصنف: (فيملك بلا تعريف) ، فأراد أن يبين أن الشيء التافه واليسير، كالسوط الذي لا تتبعه همة صاحبه، يملك بلا تعريف، لكن في بعض الأحيان إذا كنا نستطيع معرفة صاحب السوط فنرده إلى صاحبه، وليست المسألة هكذا مطلقة، ولكن المراد: الغالب، مثل: الرغيف، فإنه لا تتبعه همة صاحبه، ولكن إن كان في موضع وفي حال يمكن الحصول فيه على صاحبه، فيجب أن يرد إلى صاحبه؛ لأن أموال الناس مملوكة لأصحابها، ولا يحكم بالانتقال متى أمكن ردها إلى أهلها.
ما يحرم التقاطه وضابطه
قال رحمه الله: [وما امتنع من سبع صغير كثور وجمل ونحوهما، حرم أخذه] لما بين رحمه الله الشيء الصغير الذي لا قيمة له، ولا تتبعه همة صاحبه، شرع في ضده وعكسه، فقال: (وما امتنع من سبع صغير) .
ومن المعلوم أن الآيات والأحاديث إذا جاءت فإما أن تأتي نصا في شيء معين، فتختص بذلك المعين، وإما أن تأتي على سبيل التعبد، فلا يبحث في علتها، وإما أن تأتي على سبيل التعقل ومعرفة معناها حتى يقاس غيرها عليها وهي الأصول.
إذا: عندنا نصوص لا يمكن أبدا أن نجاوزها عن موضعها، كما لو جاءت في مخصوص خص به عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك} [الأحزاب:52] ، فهذا نص خاص به عليه الصلاة والسلام، ويحكم بالخصوص، فهو خاص أراد به الخصوص، وهناك خاص جاء على سبيل التعبد، فلا نستطيع أن نقدم أو نؤخر فيه، حيث جاء كوضوح الشمس أنه تعبد، كما جاء في فرضية صلاة الظهر بعد الزوال، فما نستطيع أن نحدث صلاة ثانية قياسا على صلاة الظهر، ولا نستطيع أن نحدث عبادة قياسا على هذه العبادة، ولكن هذا شيء تعبدي نقتصر فيه على هذا الوجه الذي جاء.
وأما ما أريد به العموم، فيكون قاعدة ينبني عليها غيرها، وأصلا يتفرع عليه ما لا يحصى من المسائل، وهذا هو منهج الشريعة في أكثر النصوص؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: (اليوم أكملت لكم دينكم [المائدة:3] ، فالكمال أن تكون نصوص الشريعة قواعد عامة، حتى تصلح لكل زمان ومكان، ومن أمثلة ذلك: مسألة اللقطة، عندما جاء الحديث في ضالة الإبل، قال عليه الصلاة والسلام: (مالك ولها معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء وتأكل الشعر حتى يلقاها صاحبها) هذا اللفظ من الحديث بين فيه النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يجوز أن يتعرض الإنسان لضالة الإبل، لكن هل المراد بذلك الإبل فقط، بحيث لا يقاس عليها غيرها، ونقول بأن غيرها يلتقط ويأخذ حكم اللقطة، أم أن المراد بذلك أن الإبل تمتنع وتدفع، ويقاس على الإبل غيرها مما يأخذ حكمها؟ لا شك أن الأمر هو الصحيح.
ولما جاء ذكر الغنم قال عليه الصلاة والسلام: (إنما هي لك أو لأخيك أو للذئب) فأسقط كلمة: (لك) فيبقى إما لأخيك أو للذئب، المالك هو أخوك المسلم، وقيل: لأخيك، أي: إذا ما أخذتها أنت فسيأتي شخص آخر ويأخذها، لكن على الأصل نقول: قوله: لأخيك من باب المقابلة، (إنما هي لك) فيقاس غيرك إذا كان مكانك، وهذا أنسب، بمعنى: إنما هي لك أو لأخيك مالكها إن وجدها، فهذا أفضل؛ لأنه لما قال: (لك) نزل غيرك من وجدها كما وجدتها، فإذا أسقطنا (لك) بقيت (لأخيك) أو للذئب، لأخيك إن وجدها، (أو للذئب) إن لم يجدها، فلما ذكر الذئب دل على أن في الحيوان الضال معنى، وهو كونه يدفع عن نفسه أو لا يدفع، فوجدنا أن الغنم لا يمكن أن تدفع عن نفسها صغار السباع، أما كبار السباع فلا يمكن لا للإبل ولا للغنم أن تدفعها.
فلما قرر عليه الصلاة والسلام أن الإبل تترك على حالها، فمعناه: أن هناك علة لهذا الترك، وهي قوله: (معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر) ، لكن الغنم يمكن أن تجد شيئا تستقي به، ويمكن أن تسير المسافات الشاسعة، لكن لا يمكن أن تدفع الذئب، فقوله: (أو للذئب) يدل على أن مسألة اعتداء السبع عليها مؤثرة في الحكم، وأن هذا الأمر الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم ينبه على العلة التي من أجلها شدد في الإبل، ويسر وخفف في الغنم، ومن هنا استنبط العلماء المعنى، فقالوا: لا يستطيع أن يدفع من صغار السبع، فمثلا: الناقة تستطيع أن تدفع لو جاءها صغير الذئب، أو جاءها صغير الأسد، أو السباع العادية؛ لأن الإبل شديد البطش، فيمكن أن يدفع، وعلى هذا قالوا: إن العلة هي كونه يدفع عن نفسه، وجعلوا الضابط صغار السبع؛ لأن كبار السباع تعتدي على الإبل ومع ذلك جعل الإبل سائدة هائمة حتى يلقاها ربها، فدل ذلك على أن العلة كونها لا تستطيع أن تدفع عن نفسها صغار السبع.
ما يلحق بالإبل في حرمة التقاطه
قال رحمه الله: [وما امتنع من سبع صغير] .
كالإبل كما ذكر عليه الصلاة السلام، ويقاس على ذلك الضباء، والوعول، وتيس الجبل، وبقر الوحش، فإذا وجدت ظبيا فإنه يجوز صيده، وهذا لا إشكال فيه؛ لأنه من المباحات، وقد أحله الله عز وجل لعباده، وكذلك الوعل وتيس الجبل، كلها أحلها الله عز وجل، فالمصنف لما قال: (وما امتنع من سبع صغير) مراده أن يكون هذا الظبي ملكا لشخص، فالظباء والوعول والريم والغزلان إذا كانت ملكا لأشخاص، وضلت وضاعت، فإنها تترك حتى يلقوها؛ لأنها تدفع عن نفسها صغار السباع، وكذلك يدخل في هذا ما يدفع عن نفسه من صغار السباع بالتوحش والفرار، حتى ولو كان من الطير، وبناء على هذا: فالحمام الذي يربى في البيت، لا يجوز لأحد أن يأخذه؛ لأنه يمتنع من نفسه، ويمكنه أن يدفع عن نفسه، حتى يرجع إلى ربه وصاحبه.
فهذه ينطبق عليها أنه لا يؤوي الضالة إلا ضال؛ إذ ما المعنى أن يأخذه إلا الاعتداء على مال أخيه المسلم، فيترك حتى يعود إلى صاحبه ومالكه، إلا إذا كان المتلفظ يعرف صاحبها، فأخذها على نية أن يعطيها لصاحبها، فلا إشكال، أما إذا لم يعرف صاحب هذه الحمام، وعرف أنه من النوع البيتي الذي يربى، فإنه يطرده عنه ولا يجوز أخذه، وهو في مثل هذا كالإبل التي تدفع عن نفسها، ويمكن للحمام أن يعيش حتى يرجع إلى صاحبه.
قال رحمه الله: [كثور وجمل] .
الثور والجمل يدفع، وكذلك البقر القوي، ومن أهل العلم من جعل البقر خارجا عن حكم الإبل، والصحيح أنه يأخذ حكمها؛ لأن جريرا رضي الله عنه وأرضاه أعطاه حكم الإبل، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يؤوي الضالة إلا ضال) ، والسبب في التفريق بين الإبل وبين والبقر: أن الإبل تصبر أكثر من البقر، والبقر إذا ضاع في الفيافي والصحراء فغالبا ما يهلك، بخلاف الإبل فإنها تصبر على الماء أكثر، والبقر أضعف في الصبر من هذا الوجه، وإلا فمن حيث القوة، ومن حيث الوصف، هناك شبه بين البقر وبين الإبل.
وبالمناسبة: بعض العلماء يلحق البقر بالإبل في أكثر المسائل الشرعية، يقولون: وجدنا الشريعة تجعل الإبل والبقر في حكم واحد، فمثلا: يضحى بالبقرة عن سبعة، ويضحى بالبدنة عن سبعة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ضحى عن نسائه بالبقر، فجعل البقر محلا للتشريك كالإبل، فأنزلها منزلة الإبل.
ومن هنا قالوا: إن البقر تنحر ولا تذبح، قياسا على الإبل، ومن أهل العلم من جعل البقر تارة تلتحق بالإبل وتارة لا تلتحق بالإبل، وتختلف أحكامه، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال في يوم الجمعة: (من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة) ، ففرق بين الإبل والبقر، وأجيب: بأن هذا من باب الفضل لا من جهة الحكم، وقد يتفق الاثنان حكما ويختلفان فضلا، فيكون أحدهما أفضل من الآخر، ولكن هذا لا يقتضي عدم تشريكهما في الحكم.
قال رحمه الله: [ونحوهما] ، أي: ما يكون قويا يستطيع الدفع عن نفسه، [حرم أخذه] أي: لا يدخل في جواز الالتقاط.
فأصبحت الأشياء والأموال منها ما يجوز أخذه، ومنها ما يحرم أخذه، ومنها ما يجب أخذه مما يكون الغالب فيه الضياع أو التلف، فيجب على الإنسان أن يأخذه، أو إذا كان يعرف صاحبه، فيجب عليه أن يأخذه حتى يعطيه إلى صاحبه.
أركان اللقطة
يقول المصنف رحمه الله: (باب اللقطة) أي: سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق باللقطة، ويشمل ذلك: (الركن الأول) : وهو الشيء الملتقط، و (الركن الثاني) وهو الشخص الملتقط، و (الركن الثالث) : وهو صفة الالتقاط، والأحكام المترتبة على هذه الأركان الثلاثة، فيبين لنا من هو الذي يجوز له الالتقاط، والذي لا يجوز له الالتقاط، وما الحكم إذا التقط غير الأهل، ومن يتولى عنه.
والركن الثاني: الشيء الملتقط، على التفصيل الذي ذكرناه فيما يجوز التقاطه وما لا يجوز التقاطه.
والركن الثالث: صفة الالتقاط، سواء من جهة كونه يلتقط بقصد الملكية، أو يلتقط بقصد التعريف، وتارة يكون في حكم الغاصب، وتارة يكون في حكم الملتقط، وأخذ بهذا يبين الأحكام المتعلقة بهذه الأركان الثلاثة.
تعريف اللقطة
قال رحمه الله تعالى: [وهي مال أو مختص ضل عن ربه، وتتبعه همة أوساط الناس، فأما الرغيف والسوط ونحوهما فيملك بلا تعريف] .
استفتح المصنف باب اللقطة ببيان حقيقة اللقطة؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، ومن عادة العلماء رحمهم الله أن يبدءوا أولا بالتعريف؛ لأنه عن طريق التعريف يمكن للإنسان أن يحكم على الشيء، قال رحمه الله: (وهي) أي: اللقطة، (مال) والمال: هو كل شيء له قيمة، وسمي بذلك لأن النفوس تميل إليه وتهواه، ويشمل ذلك الذهب والفضة وغيرهما، فاللقطة مال، سواء كانت من الذهب أو من الفضة، أو الأكسية، أو الأغطية، أو الأغذية، أو الأقلام أو الكتب، أو غير ذلك مما له قيمة.
وقوله رحمه الله: (وهي مال) ، هذا العموم له تخصيص، وسيأتي -إن شاء الله- أن اللقطة تختص بالذهب والفضة وما في حكمها، دون بهيمة الأنعام، فهذا النوع من الضائعات والضوال له حكم خاص.
وقوله: (وهي مال أو مختص) اختصاص الإنسان بالشيء تميزه به دون غيره، والخاص ضد العام، ومعنى ذلك: أنه شيء يثبت لك على سبيل الرخصة وعلى سبيل الخصوصية، وتكون مختصا به، ومن أمثلة ذلك: كلب الصيد، فلو قال المصنف: (اللقطة مال) وسكت، لم يشمل كلب الصيد؛ لأن ذلك كلب الصيد يمكن أن يضيع من صاحبه، ويأخذ حكم اللقطة، إذا كان قد اختص به الإنسان، حيث أذن له الشرع أن يصيد به، أو كلب حراسة أذن له أن يستخدمه في الحراسة، فمثل هذا لو ضاع فإنه يأخذ حكم اللقطة؛ من تعريفه ورده إلى صاحبه.
وقوله: (ضل عن ربه) ضل بمعنى: تاه، فإما أن يضل عن ربه، أو يسقط من صاحبه، كالنقود تكون في جيب الإنسان ثم تسقط، وهذا الوصف وهو قوله: (ضل) يخرج به المسروق والمغصوب، فلا يسمى لقطة؛ لأنه أخذ من صاحبه قهرا، والذي يؤخذ من صاحبه على سبيل الخفية، إما خلسة، أو غفلة، فهو سرقة، فلا يأخذ حكم اللقطة، واللقطة نعرف أنها ضلت عن صاحبها بأن نجدها ساقطة في الطرقات، أو نجدها -مثلا- في أماكن الجلوس، فمن عادة الناس أنهم إذا جلسوا أن يضعوا أمتعتهم بجوارهم، فإذا وجدنا الكيس من المال أو الحقيبة فيها المال أو الأغراض في نفس المكان أو بجوار المكان، فنعلم أن صاحبها قد نسيها، فلم تضل هي ولكن صاحبها غفل عنها حتى نسيها في المكان، والمراد من هذا: أن صاحبها افتقدها، سواء كان ذلك بإهمال منه، أو كان بأي سبب من الأسباب، فكل شيء ضاع من صاحبه، فإنه يحكم بكونه لقطة من حيث الجملة.
أقسام اللقطة من حيث القيمة
وقوله: (وتتبعه همة أوساط الناس) اللقطة تنقسم إلى قسمين: فإما أن تكون شيئا له قيمة، وإما أن تكون شيئا لا قيمة له، فلما قال المصنف رحمه الله: (مال) هذا عام، ولو نظرت إلى الشيء الغالي فهو مال، وإذا نظرت إلى الشيء التافه فهو مال، فالتمرة هي مال، والقلم يعتبر مالا، والدفتر يعتبر مالا؛ لأن له قيمة، وقد يكون شيئا نفيسا قيمته عشرات ومئات الألوف، فهو مال، إذا قوله رحمه الله: (وهي) أي: اللقطة، (مال) عام، والشريعة خصصت هذا العموم، وبينت أن اللقطة التي لا تتبعها همة صاحبها، وهي الشيء اليسير الذي لا قيمة له، أو له قيمة ليست بذات بال في أوساط الناس، مرخص فيها ومخفف في أمرها، والأصل في ذلك: أنه ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على تمرة، فقال عليه الصلاة والسلام: (لولا أني أخاف أن تكون من تمر الصدقة لأكلتها) ، فالتمرة مال، وقد كان الرجل ينزح الدلو الواحد بتمرة واحدة، فلها قيمة، ولربما كان طعام الرجل ليومه من تمرة واحدة، ومع ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: (لولا أني أخاف أن تكون من تمر الصدقة لأكلتها) ، وهذا الورع من أتم ما يكون، فقد تورع عليه الصلاة والسلام عنها، وقوله: (لأكلتها) يدل على أن يد صاحبها قد خلت عنها، وهذا يدل على أن الشيء الذي ليست له قيمة، ولا تتبعه همة صاحبه، بمعنى: أنه لا يطلبه، ولا يبحث عنه، كالتمرة إذا سقطت من الإنسان فإنه لا يبحث عنها غالبا، وهكذا الحفنة اليسيرة من الأرز في زماننا، والحفنة من البر والحفنة من التمر، يخفف في حكمها، ولا يجب تعريفها، ولا تأخذ أحكام اللقطة العامة.
ومن الأدلة أيضا حديث جابر رضي الله عنه أنه قال: (خفف علينا -وفي رواية: رخص لنا- في السوط والعصا يأخذه واجده) ، والسوط هو الذي تضرب به الدواب، فلو وجده الإنسان فإنه يأخذه مع أنه بحكم اللقطة، ولكن لما كان السوط لا تتبعه همة صاحبه، وكذلك العصا ونحوها لا تتبعها همة صاحبها؛ خفف فيها، ففي زماننا لو وجد قلما رخيصا فيأخذه واجده، وهكذا بالنسبة للثياب، إذا كان الملبوس لا قيمة له، وقيمته يسيرة ليست بذات بال، فيجوز للإنسان إذا أخذه أن يملكه مباشرة، ولا يحتاج إلى تعريف.
أقسام اللقطة
ومن أجمع الأحاديث التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان أحكام اللقطة: حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه وأرضاه، أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن لقطة الذهب والفضة، فقال عليه الصلاة والسلام: (اعرف عفاصها ووكاءها، ثم عرفها سنة، فإذا أتاك صاحبها فأعطها إليه، وإلا فشأنك بها، فإن جاء ربها يطلبها يوما من الدهر، فأعطها له.
ثم سأله عن ضالة الإبل، فقال عليه الصلاة والسلام: مالك ولها، معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر، حتى يلقاها ربها.
ثم سأله عن ضالة الغنم، فقال عليه الصلاة والسلام: إنما هي لك أو لأخيك أو للذئب) متفق عليه، هذا الحديث الشريف اشتمل على جملة من الأحكام، فبين مشروعية التقاط اللقطة، ما لم تكن من ضالة الإبل، حيث بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يجوز أخذ ضالة الإبل، فقال: (مالك ولها، معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر) ، فحرم أخذها، وحمل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يؤوي الضالة إلا ضال) ، وقد عمل بذلك جرير بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه، فإنه كان في سفر، وكان معه بهمه وبقره، فجاءت بقرة ودخلت بين البقر، فطردها رضي الله عنه، وأمر بطردها، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يؤوي الضالة إلا ضال) .
ففرق النبي صلى الله عليه وسلم بين هذين النوعين، وبين أن هناك شيئا يجوز التقاطه، وشيئا لا يجوز التقاطه.
فالشيء الذي يجوز التقاطه هو الذهب وسائر الأموال، ولما سئل عنها صلى الله عليه وسلم قال: (اعرف وكاءها وعفاصها) ، (والوكاء) : هو الخيط الذي يشد به القرطاس، ويشد به كيس المال، (والعفاص) : هو الوعاء، وقيل: الشيء الذي يوضع على فم القارورة أو الزجاجة، فالعفاص: المراد به الوعاء الذي تحفظ فيه اللقطة، وفي زماننا الحقائب والصناديق، والمعنى: اعرف الشيء الذي كانت اللقطة موجودة فيه، أي: نوع الحقيبة ولون الحقيبة، وكذلك أيضا اعرف وكاءها، وفي زماننا تعرف هل لها قفل أو ليس لها قفل؟ فكل الأوصاف التي يمكن عن طريقها أن يستدل بها على اللقطة يضبطها الواجد والملتقط ويحفظ ذلك، وإذا خاف النسيان كتبه.
ثم أمر عليه الصلاة والسلام أن يعرفها سنة، وسنبين كيفية التعريف، وحكم التعريف.
وقد اشتمل الحديث على أنه بعد مضي سنة كاملة إذا لم يأت صاحبها فإنه يملكها -أي: يملك اللقطة حكما- واجدها، ولذلك قال: (فهي وديعة عندك) ، فاعتبرها كالوديعة، بمعنى: أنه يملكها حكما، لكن ليست بالوديعة الاصطلاحية التي تقدمت معنا أحكامها، إنما أراد أن صاحبها كأنه وضعها عندك وديعة، أي: إذ أذن لك الشرع بأخذها والتصرف فيها، فإنما هو حكما لا حقيقة، بحيث لو جاء صاحبها فلا تقل له: ولقد عرفتها سنة ولم تأت، فأنا أملكها، إنما أراد أن يبين أنه بعد مضي سنة في حالة عدم إتيان صاحبها، فإن من حقك أن تتصرف فيها، وتكون كالمالك لها لكن حكما، بحيث لو جاء صاحبها لم ترتفع يده الحقيقية عن ذلك المال، قال: (فإن جاء صاحبها يطلبها يوما من الدهر) ، وهذا فيه دليل على أنه سواء طالت المدة أم قصرت، فيده لا زالت باقية على المال، وطول المدة -كما يسمى في عرفنا بالتقادم- لا يسقط الحقوق، وهذا يرد على ما تسير عليه بعض القوانين الوضعية من إسقاط الحقوق بالتقادم، سواء كان في عقود المنافع أو عقود المعاوضات الأخرى، فتجد -مثلا- من يغسل الثياب يقول: إذا لم تأت خلال ستة أشهر فلا تسأل عن مالك، وهذا ليس له من أصل، ولا يعتبر شرعا موجبا للحكم، فصاحب المال أحق بماله متى وجده ولو بعد دهر من الزمان، فالعبرة في رجوع الحق إلى صاحبه، بغض النظر عن المدة طالت أو قصرت.
فبين عليه الصلاة والسلام أنه مع كون الملتقط يتعب في السؤال عن صاحبه، ويتحمل مشقة التعريف، وعناءه، وعبء الحفظ للمال، ويطول الزمان، ويتصرف في المال، ويأخذه حكما، ومع ذلك لا يسقط ذلك حق صاحبه؛ لأن المال لصاحبه، فأموال المسلمين محرمة إلا إذا أذن بها صاحبها، أو أخذت باستحقاق أذن به الشرع.
ثم بين عليه الصلاة والسلام النوع الثاني من اللقطة وهو: ضالة الإبل، وسأله زيد رضي الله عنه عن ضالة الإبل فقال: (مالك ولها، معها حذاؤها وسقاؤها) ، أي: لا خوف عليها، فالإبل لا يضرها شيء، ولو مضت المدة طويلة؛ لأنها تصبر على الماء وترد على الشجر وتأكل، ويستطيع صاحبها بالتحري والسؤال أن يجدها، ثم إن الإبل من المعروف أنها تحن إلى مكانها ومرعاها، وربما باع الرجل إبله في مكان بعيد جدا قد يبلغ مئات الكيلو مترات، ثم يفاجأ يوما من الأيام وقد رجعت إليه الإبل، وهذا معروف، ومن ذلك القصة المعروفة للجرمي، لما أجلت خزاعة جرهما عن البيت، أي: أبعدتهم عن مكة، وابتعدوا أكثر من ثلاثمائة كيلو مترا، ثم حنت إبلهم، ونزحت إلى مكة، ودخلت حتى نحرت في مكة، وهي التي صارت فيها القضية المعروفة، وفيها الأبيات المشهورة: كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامر فأسباب هذه الأبيات: أن الإبل حنت إلى مرعاها بمكة، وقد كانوا على بعد أكثر من ثلاثمائة كيلو مترا، وهذا يكون حتى بين العشية والضحى، فالإبل ربما تجلس ثلاثة أيام وأربعة أيام في مكانها الجديد، ثم تحن إلى مرعاها القديم.
إذا: ضالة الإبل لها حكم خاص، وقد خصتها الشريعة بهذا الحكم، وهو أنه لا يتعرض لها الإنسان، فهي تدفع عن نفسها، فلو هجم عليها صغار (السباع) فهي تدفع عن نفسها، ولذلك لا يتعرض لها أبدا.
وأما النوع الثالث الذي اشتمل عليه الحديث فهو: ضالة الغنم، ولما سئل عنها عليه الصلاة والسلام خفف في حكمها وقال: (إنما هي لك أو لأخيك أو للذئب) ، فبين عليه الصلاة والسلام أن هذا النوع من الضوال -وهو الغنم- لا يستطيع أن يدافع عن نفسه، ولا يستطيع أن يبقى في المكان الذي هو فيه، فإذا ترك أكله الذئب، فلا يستطيع أن يدفع عن نفسه، أو يأتي صاحبها فيجدها، ولكننا إذا لم نجد صاحبها، ودلنا على هذا أنه لو كان موجودا لما أصبحت في العراء، فالاحتمال الثالث أن تأخذها.
وانظر إلى حكمة الشريعة كيف اشتمل هذا الحديث على الثلاثة أنواع: النوع الأول: الضعيف الذي لا يمكن أن يجد صاحبه، ولا يمكنه أن يدفع عن نفسه، وبقاؤه ضياع وتلف، وهو الغنم، فتملك بالأخذ، ثم النوع الثاني: وهو الذي تتبعه همة صاحبه، ويحصل عنه السؤال والبحث والتحري، وهي لقطة الذهب والفضة، والنوع الثالث: والذي هو أعلى، فيمكنه أن يدفع عن نفسه، ويمكنه أن يبقى في مكانه مدة طويلة، وهو ضالة الإبل، فأعطت الشريعة الإسلامية لكل نوع حكمه، وهذا يدل على كمال الشرع، وأنه تنزيل من حكيم حميد سبحانه وتعالى، الذي قص الحق وهو خير الفاصلين، قال تعالى: {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم} [الأنعام:115] .
فالشيء الذي يجوز التقاطه هو الذهب وسائر الأموال، ولما سئل عنها صلى الله عليه وسلم، قال: (اعرف وكاءها وعفاصها) ، (والوكاء) : هو الخيط الذي يشد به القرطاس، ويشد به كيس المال، (والعفاص) : هو الوعاء، وقيل: الشيء الذي يوضع على فم القارورة أو الزجاجة، (فالعفاص) : المراد به الوعاء الذي تحفظ به اللقطة، وفي زماننا الحقائب والصناديق، يعني: اعرف الشيء الذي كانت اللقطة موجودة فيه، يعني: نوع الحقيبة ولون الحقيبة، كذلك أيضا، اعرف وكاءها، وفي زماننا تعرف هل لها قفل أو ليس لها قفل.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 3 ( الأعضاء 0 والزوار 3)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 332.82 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 326.98 كيلو بايت... تم توفير 5.84 كيلو بايت...بمعدل (1.75%)]