تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير) - الصفحة 46 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         المبسوط فى الفقه الحنفى محمد بن أحمد السرخسي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 555 - عددالزوار : 23966 )           »          الإسلام في أفريقيا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 5406 )           »          حدث في الثامن من ذي القعدة 669 (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 37 )           »          كيف نحصن شبابنا من الآراء الشاذة؟؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 32 )           »          خلاف العلماء في حكم استقبال القبلة واستدبارها أثناء قضاء الحاجة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 43 )           »          من مائدة الفقه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12 - عددالزوار : 9639 )           »          الفرع الأول: أحكام اجتناب النجاسات، وحملها والاتصال بها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 29 )           »          من قام من نومه فوجد بللًا في ثوبه هل يجب عليه الغسل؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 33 )           »          الحديث الرابع والعشرون: حقيقة التوكل على الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 62 )           »          تفسير سورة الضحى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 63 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #451  
قديم 09-12-2025, 04:13 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 168,686
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)



تفسير القرآن العظيم
(تفسير ابن كثير)

إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي
الجزء
(12)
تفسير سورة فصلت
من صـ 226 الى صــ 240
الحلقة (451)





كافرون "أي لا نتبعكم وأنتم بشر مثلنا ."
فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون (15)
فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون
قال الله تعالى "فأما عاد فاستكبروا في الأرض" أي بغوا وعتوا وعصوا "وقالوا من أشد منا قوة" أي منوا بشدة تركيبهم وقواهم واعتقدوا أنهم يمتنعون بها من بأس الله "أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة" أي أفما يتفكرون فيمن يبارزون بالعداوة فإنه العظيم الذي خلق الأشياء وركب فيها قواها الحاملة لها وإن بطشه شديد كما قال عز وجل "والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون" فبارزوا الجبار بالعداوة وجحدوا بآياته وعصوا رسله .
فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون (16)
فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون
قال تعالى "فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا" قال بعضهم وهي الشديدة الهبوب وقيل الباردة وقيل هي التي لها صوت والحق أنها متصفة بجميع ذلك فإنها كانت ريحا شديدة قوية لتكون عقوبتهم من جنس ما اغتروا به من قواهم وكانت باردة شديدة البرد جدا كقوله تعالى "بريح صرصر عاتية" أي باردة شديدة وكانت ذات صوت مزعج ومنه سمي النهر المشهور ببلاد المشرق صرصرا لقوة صوت جريه .
وقوله تعالى "في أيام نحسات" أي متتابعات "سبع ليال وثمانية أيام حسوما" وكقوله "في يوم نحس مستمر" أي ابتدئوا بهذا العذاب في يوم نحس عليهم واستمر بهم هذا النحس "سبع ليال وثمانية أيام حسوما" حتى أبادهم عن آخرهم واتصل بهم خزي الدنيا بعذاب الآخرة ولهذا قال "لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى" أي أشد خزيا لهم "وهم لا ينصرون" أي في الأخرى كما لم ينصروا في الدنيا وما كان لهم من الله من واق يقيهم العذاب ويدرأ عنهم النكال .
وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون (17)
وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون
وقوله عز وجل "وأما ثمود فهديناهم" قال ابن عباس رضي الله عنهما وأبو العالية وسعيد بن جبير وقتادة والسدي وابن زيد : بينا لهم وقال الثوري دعوناهم "فاستحبوا العمى على الهدى" أي بصرناهم وبينا لهم ووضحنا لهم الحق على لسان نبيهم صالح عليه الصلاة والسلام فخالفوه وكذبوه وعقروا ناقة الله تعالى التي جعلها آية وعلامة على صدق نبيهم "فأخذتهم صاعقة العذاب الهون" أي بعث الله عليهم صيحة ورجفة وذلا وهوانا وعذابا ونكالا "بما كانوا يكسبون" أي من التكذيب والجحود .
ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون (18)
ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون
"ونجينا الذين آمنوا" أي من بين أظهرهم لم يمسهم سوء ولا نالهم من ذلك ضرر بل نجاهم الله تعالى مع نبيهم صالح عليه الصلاة والسلام بإيمانهم وبتقواهم لله عز وجل .

ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون (19)
ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون
يقول تعالى "يوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون" أي اذكر لهؤلاء المشركين يوم يحشرون إلى النار يوزعون أي تجمع الزبانية أولهم على آخرهم كما قال تبارك وتعالى "ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا" أي عطاشا .
حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون (20)
حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون
قوله عز وجل "حتى إذا ما جاءوها" أي وقفوا عليها "شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون" أي بأعمالهم مما قدموه وأخروه لا يكتم منه حرف .
وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون (21)
وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون
"وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا" أي لاموا أعضاءهم وجلودهم حين شهدوا عليهم فعند ذلك أجابتهم الأعضاء "قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة" أي فهو لا يخالف ولا يمانع وإليه ترجعون .
قال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا محمد بن عبد الرحيم حدثنا علي بن قادم حدثنا شريك عن عبيد المكتب عن الشعبي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وتبسم فقال صلى الله عليه وسلم "ألا تسألوني عن أي شيء ضحكت ؟" قالوا يا رسول الله من أي شيء ضحكت ؟ قال صلى الله عليه وسلم "عجبت من مجادلة العبد ربه يوم القيامة يقول أي ربي أليس وعدتني أن لا تظلمني ؟ قال بلى"

فيقول فإني لا أقبل علي شاهدا إلا من نفسي فيقول الله تبارك وتعالى أوليس كفى بي شهيدا وبالملائكة الكرام الكاتبين ؟ قال فيردد هذا الكلام مرارا قال فيختم على فيه وتتكلم أركانه بما كان يعمل فيقول بعدا لكم وسحقا عنكن كنت أجادل "ثم رواه هو وابن أبي حاتم من حديث أبي عامر الأسدي عن الثوري عن عبيد المكتب عن فضيل بن عمرو عن الشعبي ثم قال لا نعلم رواه عن أنس رضي الله عنه غير الشعبي وقد أخرجه مسلم والنسائي جميعا عن أبي بكر بن أبي النضر عن أبي النضر عن عبيد الله بن عبد الرحمن الأشجعي ."
عن الثوري به ثم قال النسائي لا أعلم أحدا رواه عن الثوري غير الأشجعي وليس كما قال كما رأيت والله أعلم .
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أحمد بن إبراهيم حدثنا إسماعيل بن علية عن يونس بن عبيد عن حميد بن هلال قال : قال أبو بردة قال أبو موسى : ويدعى الكافر والمنافق للحساب فيعرض عليه ربه عز وجل عمله فيجحد ويقول أي رب وعزتك لقد كتب علي هذا الملك ما لم أعمل فيقول له الملك أما عملت كذا في يوم كذا في مكان كذا ؟ فيقول لا وعزتك أي رب ما عملته قال فإذا فعل ذلك ختم على فيه قال الأشعري رضي الله عنه فإني لأحسب أول ما ينطق منه فخذه اليمنى .
وقال الحافظ أبو يعلى حدثنا زهير حدثنا حسن عن ابن لهيعة قال دراج عن أبي الليث عن أبى سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا كان يوم القيامة عرف الكافر بعمله فجحد وخاصم فيقول هؤلاء جيرانك يشهدون عليك فيقول كذبوا فيقول أهلك وعشيرتك فيقول كذبوا فيقول احلفوا فيحلفون ثم يصمتهم الله تعالى وتشهد عليهم ألسنتهم ويدخلهم النار" وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أحمد بن إبراهيم حدثنا عبد الصمد بن

عبد الوارث قال سمعت أبي يقول حدثنا علي بن زيد عن مسلم بن صبيح أبي الضحى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لابن الأزرق إن يوم القيامة يأتي على الناس منه حين لا ينطقون ولا يعتذرون ولا يتكلمون حتى يؤذن لهم ثم يؤذن لهم فيختصمون فيجحد الجاحد بشركه بالله تعالى فيحلفون له كما يحلفون لكم فيبعث الله تعالى عليهم حين يجحدون شهداء من أنفسهم جلودهم وأبصارهم وأيديهم وأرجلهم ويختم على أفواههم ثم يفتح لهم الأفواه فتخاصم الجوارح فتقول "أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون" فتقر الألسنة بعد الجحود .
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عبدة بن سليمان حدثنا ابن المبارك حدثنا صفوان بن عمرو عن عبد الرحمن بن جبير الحضرمي عن رافع أبي الحسن قال وصف رجلا جحد قال فيشير الله تعالى إلى لسانه فيربو في فمه حتى يملأه فلا يستطيع أن ينطق بكلمة ثم يقول لآرابه كلها تكلمي واشهدي عليه فيشهد عليه سمعه وبصره وجلده وفرجه ويداه ورجلاه صنعنا عملنا فعلنا وقد تقدم أحاديث كثيرة وآثار عند قوله تعالى في سورة يس "اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون" بما أغنى عن إعادته ههنا .
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا سويد بن سعيد حدثنا يحيى بن سليم الطائفي عن أبي خيثم عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال لما رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرة البحر قال "ألا تحدثون بأعاجيب ما رأيتم بأرض الحبشة ؟" فقال فتية منهم بلى يا رسول الله بينما نحن جلوس إذ مرت علينا عجوز من عجائز رهابينهم تحمل على رأسها قلة من ماء فمرت بفتى منهم فجعل إحدى يديه بين كتفيها ثم دفعها فخرت على ركبتيها فانكسرت قلتها فلما ارتفعت التفتت إليه فقالت سوف تعلم يا غدر إذا وضع الله الكرسي وجمع الأولين والآخرين وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون فسوف تعلم كيف أمري وأمرك عنده غدا ؟ قال يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "صدقت صدقت كيف يقدس الله قوما لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم" هذا حديث غريب من هذا الوجه ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب الأهوال حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا يحيى بن سليم به .

وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون (22)
وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون
وقوله تعالى "وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم" أي تقول لهم الأعضاء والجلود حين يلومونها على الشهادة عليهم ما كنتم تكتمون منا الذي كنتم تفعلونه بل كنتم تجاهرون الله بالكفر والمعاصي ولا تبالون منه في زعمكم لأنكم كنتم لا تعتقدون أنه يعلم جميع أفعالكم ولهذا قال تعالى "ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم" أي هذا الظن الفاسد وهو اعتقادكم أن الله تعالى لا يعلم كثيرا مما تعملون هو الذي أتلفكم وأرداكم عند ربكم "فأصبحتم من الخاسرين" أي في مواقف القيامة خسرتم أنفسكم وأهليكم.
قال الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن عمار عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله رضي الله عنه قال كنت مستترا بأستار الكعبة فجاء ثلاثة نفر قرشي وختناه ثقفيان - أو ثقفي وختناه قرشيان - كثير شحم بطونهم قليل فقه قلوبهم فتكلموا بكلام لم أسمعه فقال أحدهما أترون أن الله يسمع كلامنا هذا ؟ فقال الآخر إنا إذا رفعنا أصواتنا سمعه وإذا لم نرفعه لم يسمعه فقال الآخر إن سمع منه شيئا سمعه كله - قال - فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل "وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم - إلى قوله - من الخاسرين" وهكذا رواه الترمذي عن هناد عن أبي معاوية بإسناده نحوه وأخرجه أحمد ومسلم والترمذي أيضا من حديث سفيان الثوري عن الأعمش عن عمارة بن عمير عن وهب بن ربيعة عن عبد الله بن مسعود بنحوه

ورواه البخاري ومسلم أيضا من حديث السفيانين كلاهما عن منصور عن مجاهد عن أبي معمر عبد الله بن سخبرة عن ابن مسعود رضي الله عنه به وقال عبد الرزاق حدثنا معمر عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى "أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم" قال "إنكم تدعون يوم القيامة مفدما على أفواهكم بالفدام فأول شيء يبين عن أحدكم فخذه وكفه" .
وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين (23)
وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين
قال معمر : وتلا الحسن "وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم" ثم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قال الله تعالى أنا مع عبدي عند ظنه بي وأنا معه إذا دعاني" ثم أفتر الحسن ينظر في هذا فقال : ألا إنما عمل الناس على قدر ظنونهم بربهم فأما المؤمن فأحسن الظن بربه فأحسن العمل وأما الكافر والمنافق فأساءا الظن بالله فأساءا العمل ثم قال : قال الله تبارك وتعالى "وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم"

ولا أبصاركم - إلى قوله - وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم "الآية ."
وقال الإمام أحمد حدثنا النضر بن إسماعيل القاص وهو أبو المغيرة حدثنا ابن أبي ليلى عن ابن الزبير عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يموتن أحد منكم إلا وهو يحسن بالله الظن فإن قوما قد أرداهم سوء ظنهم بالله فقال الله تعالى" وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين "."
فإن يصبروا فالنار مثوى لهم وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين (24)
فإن يصبروا فالنار مثوى لهم وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين
أي سواء عليهم صبروا أم لم يصبروا هم في النار لا محيد لهم عنها ولا خروج لهم منها وإن طلبوا أن يستعتبوا ويبدوا أعذارا فما لهم أعذار ولا تقال لهم عثرات .
قال ابن جرير : ومعنى قوله تعالى "وإن يستعتبوا" أي يسألوا الرجعة إلى الدنيا فلا جواب لهم قال وهذا كقوله تعالى إخبارا عنهم "قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون قال اخسئوا فيها ولا تكلمون" .
وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين (25)
وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين

يذكر تعالى أنه هو الذي أضل المشركين وأن ذلك بمشيئته وكونه وقدرته وهو الحكيم في أفعاله بما قيض لهم من القرناء من شياطين الإنس والجن "فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم" أي حسنوا لهم أعمالهم في الماضي وبالنسبة إلى المستقبل فلم يروا أنفسهم إلا محسنين كما قال تعالى "ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون" .
وقوله تعالى "وحق عليهم القول" أي كلمة العذاب كما حق على أمم قد خلت من قبلهم ممن فعل كفعلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين أي استووا هم في الخسار والدمار.
وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون (26)
وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون
قوله تعالى "وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن" أي تواصوا فيما بينهم أن لا يطيعوا للقرآن ولا ينقادوا لأوامره "والغوا فيه" أي إذا تلي لا تسمعوا له كما قال مجاهد والغوا فيه يعني بالمكاء والصفير والتخليط في المنطق على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ القرآن قريش تفعله وقال الضحاك عن ابن عباس "والغوا فيه" عيبوه وقال قتادة اجحدوا به وأنكروه وعادوه "لعلكم تغلبون" هذا حال هؤلاء الجهلة من الكفار ومن سلك مسلكهم عند سماع القرآن وقد أمر الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بخلاف ذلك فقال تعالى "وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون" .
فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا ولنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون (27)
فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا ولنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون
ثم قال عز وجل منتصرا للقرآن ومنتقما ممن عاداه من أهل الكفران "فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا" أي في مقابلة ما اعتمدوه في القرآن وعند سماعه "ولنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون" أي بشر أعمالهم وسيئ أفعالهم .
ذلك جزاء أعداء الله النار لهم فيها دار الخلد جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون (28)
ذلك جزاء أعداء الله النار لهم فيها دار الخلد جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون
أي بشر أعمالهم وسيئ أفعالهم .
وقال الذين كفروا ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين (29)
وقال الذين كفروا ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين
قال سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل عن مالك بن الحصين الفزاري عن أبيه عن علي رضي الله عنه في قوله تعالى "اللذين أضلانا" قال إبليس وابن آدم الذي قتل أخاه

وهكذا روى العوفي عن علي رضي الله عنه مثل ذلك وقال السدي عن علي رضي الله عنه فإبليس يدعو به كل صاحب شرك وابن آدم يدعو به كل صاحب كبيرة فإبليس الداعي إلى كل شر من شرك فما دونه وابن آدم الأول كما ثبت في الحديث "ما قتلت نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل" .
وقولهم "نجعلهما تحت أقدامنا" أي أسفل منا في العذاب ليكونا أشد عذابا منا ولهذا قالوا "ليكونا من الأسفلين" أي في الدرك الأسفل من النار كما تقدم في الأعراف في سؤال الأتباع من الله تعالى أن يعذب قادتهم أضعاف عذابهم "قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون" أي أنه تعالى قد أعطى كلا منهم ما يستحقه من العذاب والنكال بحسب عمله وإفساده كما قال تعالى "الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون" .
إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون (30)
إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون
يقول تعالى "إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا" أي أخلصوا العمل لله وعملوا بطاعة الله تعالى على ما شرع الله لهم قال الحافظ أبو يعلى الموصلي حدثنا الجراح حدثنا سلم بن قتيبة أبو قتيبة الشعيري ثنا سهيل بن أبي حازم حدثنا ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية "إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا" قد قالها ناس ثم كفر أكثرهم فمن قالها حتى يموت فقد استقام عليها

وكذا رواه النسائي في تفسيره والبزار وابن جرير عن عمرو عن علي الفلاس عن سلم بن قتيبة به .
وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن الفلاس به ثم قال ابن جرير حدثنا ابن بشار حدثنا عبد الرحمن حدثنا سفيان عن أبي إسحاق عن عامر بن سعيد عن سعيد بن عمران قال : قرأت عند أبي بكر الصديق رضي الله عنه هذه الآية "إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا" قال هم الذين لم يشركوا بالله شيئا ثم روي من حديث الأسود بن هلال قال : قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه ما تقولون في هذه الآية "إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا" قال فقالوا "ربنا الله ثم استقاموا" من ذنب فقال لقد حملتموه على غير المحمل قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلم يلتفتوا إلى إله غيره .
وكذا قال مجاهد وعكرمة والسدي وغير واحد وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو عبد الله الظهراني أخبرنا حفص بن عمر العقدي عن الحكم بن أبان عن عكرمة قال سئل ابن عباس رضي الله عنهما أي آية في كتاب الله تبارك وتعالى أرخص ؟ قال قوله تعالى "إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا" على شهادة أن لا إله إلا الله وقال الزهري : تلا عمر رضي الله عنه هذه الآية على المنبر ثم قال استقاموا والله لله بطاعته ولم يروغوا روغان الثعالب وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما "قالوا ربنا الله ثم استقاموا" على أداء فرائضه وكذا قال قتادة قال وكان الحسن يقول اللهم أنت ربنا فارزقنا الاستقامة وقال أبو العالية "ثم استقاموا" أخلصوا له الدين والعمل .
وقال الإمام أحمد حدثنا هشيم حدثنا يعلى بن عطاء عن عبد الله بن سفيان

الثقفي عن أبيه أن رجلا قال يا رسول الله مرني بأمر في الإسلام لا أسأل عنه أحدا بعدك قال صلى الله عليه وسلم "قل آمنت بالله ثم استقم" قلت فما أتقي ؟ فأومأ إلى لسانه .
ورواه النسائي من حديث شعبة عن يعلى بن عطاء به .
ثم قال الإمام أحمد حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا إبراهيم بن سعد حدثني ابن شهاب عن عبد الرحمن بن ماعز الغامدي عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال : قلت يا رسول الله حدثني بأمر أعتصم به قال صلى الله عليه وسلم "قل ربي الله ثم استقم" قلت يا رسول الله ما أكثر ما تخاف علي ؟ فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بطرف لسان نفسه ثم قال "هذا" وهكذا رواه الترمذي وابن ماجه من حديث الزهري به وقال الترمذي حسن صحيح .
وقد أخرجه مسلم في صحيحه والنسائي من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك قال صلى الله عليه وسلم "قل آمنت بالله ثم استقم" وذكر تمام الحديث .
وقوله تعالى "تتنزل عليهم الملائكة" قال مجاهد والسدي وزيد بن أسلم وابنه يعني عند الموت قائلين "أن لا تخافوا" قال مجاهد وعكرمة وزيد بن أسلم أي مما تقدمون عليه من أمر الآخرة "ولا تحزنوا" على ما خلفتموه من أمر الدنيا من ولد وأهل ومال أو دين فإنا نخلفكم فيه "وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون" فيبشرونهم بذهاب الشر وحصول الخير وهذا كما جاء في حديث البراء رضي الله عنه قال "إن الملائكة تقول لروح المؤمن اخرجي أيتها الروح الطيبة في الجسد الطيب كنت تعمرينه اخرجي إلى روح وريحان ورب غير غضبان" وقيل إن الملائكة تتنزل عليهم يوم خروجهم من قبورهم حكاه ابن جرير عن ابن عباس والسدي.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة حدثنا عبد السلام بن مطهر حدثنا جعفر بن سليمان قال سمعت ثابتا قرأ سورة حم السجدة حتى بلغ "إن الذين قالوا ربنا"

الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة "فوقف فقال بلغنا أن العبد المؤمن حين يبعثه الله تعالى من قبره يتلقاه الملكان اللذان كانا معه في الدنيا فيقولان له لا تخف ولا تحزن" وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون "قال فيؤمن الله تعالى خوفه ويقر عينه فما عظيمة يخشى الناس يوم القيامة إلا هي للمؤمن قرة عين لما هداه الله تبارك وتعالى ولما كان يعمل له في الدنيا وقال زيد بن أسلم يبشرونه عند موته وفي قبره وحين يبعث رواه ابن أبي حاتم وهذا القول يجمع الأقوال كلها وهو حسن جدا وهو الواقع."
نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون (31)
نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون
قوله تبارك وتعالى "نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة" أي تقول الملائكة للمؤمنين عند الاحتضار نحن كنا أولياءكم أي قرناءكم في الحياة الدنيا نسددكم ونوفقكم ونحفظكم بأمر الله وكذلك نكون معكم في الآخرة نؤنس منكم الوحشة في القبور وعند النفخة في الصور ونؤمنكم يوم البعث والنشور ونجاوز بكم الصراط المستقيم ونوصلكم إلى جنات النعيم "ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم" أي في الجنة من جميع ما تختارون مما تشتهيه النفوس وتقر به العيون "ولكم فيها ما تدعون" أي مهما طلبتم وجدتم وحضر بين أيديكم كما اخترتم .
نزلا من غفور رحيم (32)
نزلا من غفور رحيم
أي ضيافة وعطاء وإنعاما من غفور لذنوبكم رحيم بكم رءوف حيث غفر وستر ورحم ولطف وقد ذكر ابن أبي حاتم ههنا حديث سوق الجنة عند قوله تعالى "ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم" فقال حدثنا أبي ثنا هشام بن عمار ثنا عبد الحميد بن حبيب بن أبي العشرين أبي سعيد حدثنا الأوزاعي حدثني حسان بن عطية عن سعيد بن المسيب أنه لقي أبا هريرة رضي الله عنه فقال أبو هريرة رضي الله عنه أسأل الله أن يجمع بيني وبينك في سوق الجنة فقال سعيد أوفيها سوق ؟ فقال نعم أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل الجنة إذا دخلوا فيها نزلوا بفضل أعمالهم فيؤذن لهم في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا فيزورون الله عز وجل ويبرز لهم عرشه ويتبدى لهم في روضة من رياض الجنة ويوضع لهم منابر من نور ومنابر من لؤلؤ ومنابر من ياقوت ومنابر من زبرجد ومنابر من ذهب ومنابر من

فضة ويجلس أدناهم وما فيهم دنيء على كثبان المسك والكافور ما يرون أن أصحاب الكراسي بأفضل منهم مجلسا قال أبو هريرة رضي الله عنه قلت يا رسول الله وهل نرى ربنا ؟ قال صلى الله عليه وسلم "نعم هل تتمارون في رؤية الشمس والقمر ليلة البدر ؟" قلنا لا : قال صلى الله عليه وسلم "فكذلك لا تتمارون في رؤية ربكم تعالى ولا يبقى في ذلك المجلس أحد إلا حاضره الله محاضرة حتى إنه ليقول للرجل منهم يا فلان بن فلان أتذكر يوم عملت كذا وكذا - يذكره ببعض غدراته في الدنيا - فيقول أي رب أفلم تغفر لي ؟ فيقول بلى فبسعة مغفرتي بلغت منزلتك هذه - قال - فبينما هم على ذلك غشيتهم سحابة من فوقهم فأمطرت عليهم طيبا لم يجدوا مثل ريحه شيئا قط - قال - ثم يقول ربنا عز وجل قوموا إلى ما أعددت لكم من الكرامة وخذوا ما اشتهيتم قال فنأتي سوقا قد حفت به الملائكة فيها ما لم تنظر العيون إلى مثله ولم تسمع الآذان ولم يخطر على القلوب قال فيحمل لنا ما اشتهينا ليس يباع فيه شيء ولا يشترى وفي ذلك السوق يلقى أهل الجنة بعضهم بعضا قال فيقبل الرجل ذو المنزلة الرفيعة فيلقى من هو دونه وما فيهم دنيء فيروعه ما يرى عليه من اللباس فما ينقضي آخر حديثه حتى يتمثل عليه أحسن منه وذلك لأنه لا ينبغي لأحد أن يحزن فيهل ثم ننصرف إلى منازلنا فيتلقانا أزواجنا فيقلن مرحبا وأهلا بحبيبنا لقد جئت وإن بك من"
الجمال والطيب أفضل مما فارقتنا عليه فيقول إنا جالسنا اليوم ربنا الجبار تبارك وتعالى وبحقنا أن ننقلب بمثل ما انقلبنا به "."
وقد رواه الترمذي في صفة الجنة من جامعه عن محمد بن إسماعيل عن هشام بن عمار ورواه ابن ماجه عن هشام بن عمار به نحوه ثم قال الترمذي هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه .
وقال الإمام أحمد حدثنا ابن أبي عدي عن حميد عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله"

لقاءه "قلنا يا رسول الله كلنا نكره الموت قال صلى الله عليه وسلم" ليس ذلك كراهية الموت ولكن المؤمن إذا حضر جاءه البشير من الله تعالى بما هو صائر إليه فليس شيء أحب إليه من أن يكون قد لقي الله تعالى فأحب الله لقاءه قال وإن الفاجر أو الكافر إذا حضر جاءه بما هو صائر إليه من الشر أو ما يلقى من الشر فكره لقاء الله فكره الله لقاءه "وهذا حديث صحيح وقد ورد في الصحيح من غير هذا الوجه"
ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين (33)
ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين
يقول عز وجل "ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله" أي دعا عباد الله إليه "وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين" أي وهو في نفسه مهتد بما يقوله فنفعه لنفسه ولغيره لازم ومتعد وليس هو من الذين يأمرون بالمعروف ولا يأتونه وينهون عن المنكر ويأتونه بل يأتمر بالخير ويترك الشر ويدعو الخلق إلى الخالق تبارك وتعالى وهذه عامة في كل من دعا إلى خير وهو في نفسه مهتد ورسول الله صلى الله عليه وسلم أولى الناس بذلك كما قال محمد بن سيرين والسدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وقيل المراد بها المؤذنون الصلحاء كما ثبت في صحيح مسلم "المؤذنون أطول الناس أعناقا يوم القيامة" وفي السنن مرفوعا "الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن فأرشد الله الأئمة وغفر للمؤذنين"




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #452  
قديم 09-12-2025, 04:20 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 168,686
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)



تفسير القرآن العظيم
(تفسير ابن كثير)

إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي
الجزء
(12)
.تفسير سورة الشورى
من صـ 241 الى صــ 255
الحلقة (452)






"وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا محمد بن عروة الهروي حدثنا غسان قاضي هراة وقال أبو زرعة حدثنا إبراهيم بن طهمان عن مطر عن الحسن عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال" سهام المؤذنين عند الله تعالى يوم القيامة كسهام المجاهدين وهو بين الأذان والإقامة كالمتشحط في سبيل الله تعالى في دمه .
قال : وقال ابن مسعود رضي الله عنه لو كنت مؤذنا ما باليت أن لا أحج ولا أعتمر ولا أجاهد قال وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لو كنت مؤذنا لكمل أمري وما باليت أن لا أنتصب لقيام الليل ولا لصيام النهار سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "اللهم اغفر للمؤذنين ثلاثا" قال : فقلت يا رسول الله تركتنا ونحن نجتلد على الأذان بالسيوف قال "كلا يا عمر إنه سيأتي على الناس زمان يتركون الأذان على ضعفائهم وتلك لحوم حرمها الله عز وجل على النار لحوم المؤذنين" قال : وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها ولهم هذه الآية "ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين" قالت فهو المؤذن إذا قال حي على الصلاة فقد دعا إلى الله وهكذا قال ابن عمر رضي الله عنهما وعكرمة إنها نزلت في المؤذنين وقد ذكر البغوي عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أنه قال في قوله عز وجل "وعمل صالحا" يعني صلاة ركعتين بين الأذان والإقامة ثم أورد البغوي حديث عبد الله بن المغفل رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "بين كل أذانين صلاة - ثم قال في الثالثة - لمن شاء" وقد أخرجه الجماعة في كتبهم من حديث عبد الله بن بريدة عنه وحديث الثوري عن زيد العمي عن أبي إياس معاوية بن قرة عن أنس بن

مالك رضي الله عنه قال الثوري لا أراه إلا قد رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم "الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة" ورواه أبو داود والترمذي والنسائي في اليوم والليلة كلهم من حديث الثوري به وقال الترمذي هذا حديث حسن ورواه النسائي أيضا من حديث سليمان التيمي عن قتادة عن أنس به والصحيح أن الآية عامة في المؤذنين وفي غيرهم فأما حال نزول هذه الآية فإنه لم يكن الأذان مشروعا بالكلية لأنها مكية والأذان إنما شرع بالمدينة بعد الهجرة حين أريه عبد الله بن عبد ربه الأنصاري رضي الله عنه .
في منامه فقصه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره أن يلقيه على بلال رضي الله عنه فإنه أندى صوتا كما هو مقرر في موضعه فالصحيح إذن أنها عامة كما قال عبد الرزاق عن معمر عن الحسن البصري أنه تلا هذه الآية "ومن أحسن قولا"

ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين "فقال هذا حبيب الله هذا ولي الله هذا صفوة الله هذا خيرة الله هذا أحب أهل الأرض إلى الله أجاب الله في دعوته ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته وعمل صالحا في إجابته وقال إنني من المسلمين هذا خليفة الله ."
ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم (34)
ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم
قوله تعالى "ولا تستوي الحسنة ولا السيئة" أي فرق عظيم بين هذه وهذه "ادفع بالتي هي أحسن" أي من أساء إليك فادفعه عنك بالإحسان إليه كما قال عمر رضي الله عنه : ما عاقبت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه .
وقوله عز وجل "فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم" وهو الصديق أي إذا أحسنت إلى من أساء إليك قادته تلك الحسنة إليه إلى مصافاتك ومحبتك والحنو عليك حتى يصير كأنه ولي لك حميم أي قريب إليك من الشفقة عليك والإحسان إليك .
وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم (35)
وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم
قال عز وجل "وما يلقاها إلا الذين صبروا" أي وما يقبل هذه الوصية ويعمل بها إلا من صبر على ذلك فإنه يشق على النفوس "وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم" أي ذو نصيب وافر من السعادة في الدنيا والآخرة قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير هذه الآية : أمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب والحلم عند الجهل والعفو عند الإساءة فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان وخضع لهم عدوهم كأنه ولي حميم.
وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم (36)
وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم
وقوله تعالى "وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله" أي إن شيطان الإنس ربما ينخدع بالإحسان إليه فأما شيطان الجن فإنه لا حيلة فيه إذا وسوس إلا الاستعاذة بخالقه الذي سلطه عليك فإذا استعذت بالله والتجأت إليه كفه عنك ورد كيده وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يقول "أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه"

"وقد قدمنا أن هذا المقام لا نظير له في القرآن إلا في سورة الأعراف عند قوله تعالى" خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم "وفي سورة المؤمنين عند قوله" ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون "."
ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون (37)
ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون
يقول تعالى منبها خلقه على قدرته العظيمة وأنه الذي لا نظير له وأنه على ما يشاء قادر "ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر" أي أنه خلق الليل بظلامه والنهار بضيائه وهما متعاقبان لا يفتران والشمس ونورها وإشراقها والقمر وضياؤه وتقدير منازله في فلكه واختلاف سيره في سمائه ليعرف باختلاف سيره وسير الشمس مقادير الليل والنهار والجمع والشهور والأعوام ويتبين بذلك حلول الحقوق وأوقات العبادات والمعاملات ثم لما كان الشمس والقمر أحسن الأجرام المشاهدة في العالم العلوي والسفلي نبه تعالى على أنهما مخلوقان عبدان من عبيده تحت قهره وتسخيره فقال "لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون" أي ولا تشركوا به فما تنفعكم عبادتكم له مع عبادتكم لغيره فإنه لا يغفر أن يشرك به .
فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون (38)
فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون
"فإن استكبروا" أي عن إفراد العبادة له وأبوا إلا أن يشركوا معه غيره "فالذين عند ربك" يعني الملائكة "يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون" كقوله عز وجل "فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين" وقال الحافظ أبو يعلى حدثنا سفيان يعني ابن وكيع حدثنا أبي عن ابن أبي

ليلى عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تسبوا الليل ولا النهار ولا الشمس ولا القمر ولا الرياح فإنها ترسل رحمة لقوم وعذابا لقوم" .
ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير (39)
ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير
"ومن آياته" أي على قدرته على إعادة الموتى "أنك ترى الأرض خاشعة" أي هامدة لا نبات فيها بل هي ميتة "فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت" أي أخرجت من جميع ألوان الزروع والثمار "إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير" .
إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير (40)
إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير
"إن الذين يلحدون في آياتنا" قال ابن عباس : الإلحاد وضع الكلام على غير مواضعه وقال قتادة وغيره هو الكفر والعناد .
وقوله عز وجل "لا يخفون علينا" فيه تهديد شديد ووعيد أكيد أي أنه تعالى عالم بمن يلحد في آياته وأسمائه وصفاته وسيجزيه على ذلك بالعقوبة والنكال ولهذا قال تعالى "أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة" أي أيستوي هذا وهذا ؟ لا يستويان.
ثم قال عز وجل تهديدا للكفرة "اعملوا ما شئتم" قال مجاهد والضحاك وعطاء الخراساني "اعملوا ما شئتم" وعيد : أي من خير أو شر إنه عليم بكم وبصير بأعمالكم ولهذا قال "إنه بما تعملون بصير" .
إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز (41)
إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز
"إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم" قال الضحاك والسدي وقتادة

وهو القرآن "وإنه لكتاب عزيز" أي منيع الجناب لا يرام أن يأتي أحد بمثله .
لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد (42)
لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد
"لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه" أي ليس للبطلان إليه سبيل لأنه منزل من رب العالمين ولهذا قال "تنزيل من حكيم حميد" أي حكيم في أقواله وأفعاله حميد بمعنى محمود أي في جميع ما يأمر به وينهى عنه الجميع محمودة عواقبه وغاياته .
ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم (43)
ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم
"ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك" قال قتادة والسدي وغيرهما ما يقال لك من التكذيب إلا كما قد قيل للرسل من قبلك فكما كذبت كذبوا وكما صبروا على أذى قومهم لهم فاصبر أنت على أذى قومك لك وهذا اختيار ابن جرير ولم يحك هو ولا ابن أبي حاتم غيره .
وقوله تعالى "إن ربك لذو مغفرة" أي لمن تاب إليه "وذو عقاب أليم" أي لمن استمر على كفره وطغيانه وعناده وشقاقه ومخالفته .
قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب قال نزلت هذه الآية "إن ربك لذو مغفرة" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ أحدا العيش ولولا وعيده وعقابه لاتكل كل أحد" .
ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد (44)
ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد
لما ذكر تعالى القرآن وفصاحته وبلاغته وإحكامه في لفظه ومعناه ومع هذا لم يؤمن به المشركون نبه على أن كفرهم به كفر عناد وتعنت كما قال عز وجل "ولو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين" كذلك لو أنزل القرآن كله بلغة العجم لقالوا على وجه التعنت والعناد "لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي" أي لقالوا هلا أنزل مفصلا بلغة العرب ولأنكروا ذلك فقالوا أأعجمي وعربي أي كيف ينزل كلام أعجمي

على مخاطب عربي لا يفهمه ؟ هكذا روي هذا المعنى عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والسدي وغيرهم وقيل المراد بقولهم "لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي" أي هل ينزل بعضها بالأعجمي وبعضها بالعربي ؟ هذا قول الحسن البصري وكان يقرؤها كذلك بلا استفهام في قوله أعجمي وهو رواية عن سعيد بن جبير وهو في التعنت والعناد أبلغ ثم قال عز وجل "قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء" أي قل يا محمد هذا القرآن لمن آمن به هدى لقلبه وشفاء لما في الصدور من الشكوك والريب "والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر" أي لا يفهمون ما فيه "وهو عليهم عمى" أي لا يهتدون إلى ما فيه من البيان كما قال سبحانه وتعالى "وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا" "أولئك ينادون من مكان بعيد" قال مجاهد يعني بعيد من قلوبهم قال ابن جرير معناه كأن من يخاطبهم يناديهم من مكان بعيد لا يفهمون ما يقول قلت وهذا كقوله تعالى "ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون" وقال الضحاك ينادون يوم القيامة بأشنع أسمائهم .
وقال السدي كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه جالسا عند رجل من المسلمين يقضي إذ قال يا لبيكاه فقال له عمر رضي الله عنه لم تلبي ؟ هل رأيت أحدا أو دعاك أحد ؟ فقال دعاني داع من وراء البحر فقال عمر رضي الله عنه أولئك ينادون من مكان بعيد رواه ابن أبي حاتم .
ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب (45)
ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب
"ولقد أتينا موسى الكتاب فاختلف فيه" أي كذب وأوذي "فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل" "ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى" بتأخير الحساب إلى يوم المعاد "لقضي بينهم" أي لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا "وإنهم لفي شك منه مريب" أي وما كان تكذيبهم له عن بصيرة منهم لما قالوا بل كانوا شاكين فيما قالوه غير محققين لشيء كانوا فيه .
هكذا وجهه ابن جرير وهو محتمل والله أعلم .
من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد (46)
من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد

"" من عمل صالحا فلنفسه "أي إنما يعود نفع ذلك على نفسه" ومن أساء فعليها "أي إنما يرجع وبال ذلك عليه" وما ربك بظلام للعبيد "أي لا يعاقب أحدا إلا بذنبه ولا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه وإرسال الرسول إليه ."
إليه يرد علم الساعة وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ويوم يناديهم أين شركائي قالوا آذناك ما منا من شهيد (47)
إليه يرد علم الساعة وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ويوم يناديهم أين شركائي قالوا آذناك ما منا من شهيد
"إليه يرد علم الساعة" أي لا يعلم ذلك أحد سواه كما قال محمد صلى الله عليه وسلم وهو سيد البشر لجبريل عليه الصلاة والسلام وهو من سادات الملائكة حين سأله عن الساعة فقال "ما المسئول عنها بأعلم من السائل" وكما قال عز وجل "إلى ربك منتهاها" وقال جل جلاله "لا يجليها لوقتها إلا هو" وقوله تبارك وتعالى "وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه" أي الجميع بعلمه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء وقد قال سبحانه وتعالى "وما تسقط من ورقة إلا يعلمها" وقال جلت عظمته "يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار" وقال تعالى "وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير" .
وقوله جل وعلا "ويوم يناديهم أين شركائي" أي يوم القيامة ينادي الله المشركين على رءوس الخلائق أين شركائي الذين عبدتموهم معي "قالوا آذناك" أي أعلمناك "ما منا من شهيد" أي ليس أحد منا يشهد اليوم أن معك شريكا .
وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل وظنوا ما لهم من محيص (48)
وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل وظنوا ما لهم من محيص
"وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل" أي ذهبوا فلم ينفعوهم "وظنوا ما لهم من محيص" أي وظن المشركون يوم القيامة وهذا بمعنى اليقين "ما لهم من محيص" أي لا محيد لهم عن عذاب الله كقوله تعالى "ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا" .
لا يسأم الإنسان من دعاء الخير وإن مسه الشر فيئوس قنوط (49)
لا يسأم الإنسان من دعاء الخير وإن مسه الشر فيئوس قنوط

"يقول تعالى لا يمل الإنسان من دعاء ربه بالخير وهو المال وصحة الجسم وغير ذلك وإن مسه الشر وهو البلاء أو الفقر" فيئوس قنوط "أي يقع في ذهنه أنه لا يتهيأ له بعد هذا خير."
ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ (50)
ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ
"ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي" أي إذا أصابه خير ورزق بعدما كان في شدة ليقولن هذا لي إني كنت أستحقه عند ربي "وما أظن الساعة قائمة" أي يكفر بقيام الساعة أي لأجل أنه خول نعمة يبطر ويفخر ويكفر كما قال تعالى "كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى" "ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى" أي ولئن كان ثم معاد فليحسنن إلي ربي كما أحسن إلي في هذه الدار يتمنى على الله عز وجل مع إساءته العمل وعدم اليقين قال الله تبارك وتعالى "فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ" يتهدد تعالى من كان هذا عمله واعتقاده بالعقاب والنكال.
وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض (51)
وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض
"وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه" أي أعرض عن الطاعة واستكبر عن الانقياد لأوامر الله عز وجل كقوله جل جلاله "فتولى بركنه" "وإذا مسه الشر" أي الشدة "فذو دعاء عريض" أي يطيل المسألة في الشيء الواحد فالكلام العريض ما طال لفظه وقل معناه والوجيز عكسه وهو ما قل ودل وقد قال تعالى "وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه" الآية .
قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد (52)
قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد

"قل" يا محمد لهؤلاء المشركين المكذبين بالقرآن "أرأيتم إن كان" هذا القرآن "من عند الله ثم كفرتم به" أي كيف ترون حالكم عند الذي أنزله على رسوله ؟ ولهذا قال عز وجل "من أضل ممن هو في شقاق بعيد" أي في كفر وعناد ومشاقة للحق ومسلك بعيد من الهدى .
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد (53)
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد
"سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم" أي سنظهر لهم دلالاتنا وحججنا على كون القرآن حقا منزلا من عند الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم بدلائل خارجية "في الآفاق" من الفتوحات وظهور الإسلام على الأقاليم وسائر الأديان قال مجاهد والحسن والسدي ودلائل في أنفسهم قالوا : وقعة بدر وفتح مكة ونحو ذلك من الوقائع التي حلت بهم نصر الله فيها محمدا صلى الله عليه وسلم وصحبه وخذل فيها الباطل وحزبه ويحتمل أن يكون المراد من ذلك ما الإنسان مركب منه وفيه وعليه من المواد والأخلاط والهيئات العجيبة كما هو مبسوط في علم التشريح الدال على حكمة الصانع تبارك وتعالى وكذلك ما هو مجبول عليه من الأخلاق المتباينة من حسن وقبح وغير ذلك وما هو متصرف فيه تحت الأقدار التي لا يقدر بحوله وقوته وحيله وحذره أن يجوزها ولا يتعداها كما أنشده ابن أبي الدنيا في كتابه التفكر والاعتبار عن شيخه أبي جعفر القرشي حيث قال وأحسن المقال
وإذا نظرت تريد معتبرا ... فانظر إليك ففيك معتبر
أنت الذي تمسي وتصبح في ... الدنيا وكل أموره عبر
أنت المصرف كان في صغر ... ثم استقل بشخصك الكبر
أنت الذي تنعاه خلقته ... ينعاه منه الشعر والبشر
أنت الذي تعطى وتسلب لا ... ينجيه من أن يسلب الحذر
أنت الذي لا شيء منه له ... وأحق منه بماله القدر

وقوله تعالى "حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد" أي كفى بالله شهيدا على أفعال عباده وأقوالهم وهو يشهد أن محمدا صلى الله عليه وسلم صادق فيما أخبر به عنه كما قال "لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه" الآية .
ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شيء محيط (54)
ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شيء محيط
وقوله تعالى "ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم" أي في شك من قيام الساعة ولهذا لا يتفكرون فيه ولا يعملون له ولا يحذرون منه بل هو عندهم هدر لا يعبئون به وهو كائن لا محالة وواقع لا ريب فيه قال ابن أبي الدنيا حدثنا أحمد بن إبراهيم حدثنا خلف بن تميم حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا سعيد الأنصاري قال : إن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد أيها الناس فإني لم أجمعكم لأمر أحدثه فيكم ولكن فكرت في هذا الأمر الذي أنتم إليه صائرون فعلمت أن المصدق بهذا الأمر أحمق والمكذب به هالك ثم نزل .
ومعنى قوله رضي الله عنه أن المصدق به أحمق أي لأنه لا يعمل له عمل مثله ولا يحذر منه ولا يخاف من هوله وهو مع ذلك مصدق به موقن بوقوعه وهو مع ذلك يتمادى في لعبه وغفلته وشهواته وذنوبه فهو أحمق بهذا الاعتبار والأحمق في اللغة ضعيف العقل وقوله والمكذب به هالك هذا واضح والله أعلم .
ثم قال تعالى مقررا أنه على كل شيء قدير وبكل شيء محيط وإقامة الساعة لديه يسير سهل عليه تبارك وتعالى "ألا إنه بكل شيء محيط" أي المخلوقات كلها تحت قهره وفي قبضته وتحت طي علمه وهو المتصرف فيها كلها بحكمه فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن لا إله إلا هو .
آخر تفسير سورة حم السجدة ولله الحمد والمنة
.تفسير سورة الشورى وهي مكية
بسم الله الرحمن الرحيم

حم (1)
حم
قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة وقد روى ابن جرير ههنا أثرا غريبا عجيبا منكرا فقال أخبرنا أحمد بن زهير حدثنا عبد الوهاب بن نجدة الحوطي حدثنا أبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج عن أرطاة بن المنذر قال : جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال له وعنده حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه أخبرني عن تفسير قول الله تعالى "حم عسق" قال فأطرق ثم أعرض عنه ثم كرر مقالته فأعرض عنه فلم يجبه بشيء وكره مقالته ثم كررها الثالثة فلم يحر إليه شيئا فقال له حذيفة رضي الله عنه أنا أنبئك بها قد عرفت لم كرهها نزلت في رجل من أهل بيته يقال له عبد الإله وعبد الله ينزل على نهر من أنهار المشرق تبنى عليه مدينتان يشق النهر بينهما شقا فإذا أذن الله تبارك وتعالى في زوال ملكهم وانقطاع دولتهم ومدتهم بعث الله عز وجل على إحداهما نارا ليلا فتصبح سوداء مظلمة وقد احترقت كأنها لم تكن مكانها وتصبح صاحبتها متعجبة كيف أفلتت ؟ فما هو إلا بياض يومها ذلك حتى يجتمع فيها كل

جبار عنيد منهم ثم يخسف الله بها وبهم جميعا فذلك قوله تعالى "حم عسق" يعني عزيمة من الله تعالى وفتنة وقضاء حم عين يعني عدلا منه سين يعني سيكون ق يعني واقع بهاتين المدينتين وأغرب منه ما رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي في الجزء الثاني من مسند ابن عباس رضي الله عنه عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ولكن إسناده ضعيف جدا ومنقطع فإنه قال حدثنا أبو طالب عبد الجبار بن عاصم حدثنا أبو عبد الله الحسن بن يحيى الخشني الدمشقي عن أبي معاوية قال : صعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه المنبر فقال : أيها الناس هل سمع منكم أحد رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسر "حم عسق" فوثب ابن عباس رضي الله عنه فقال أنا قال حم اسم من أسماء الله تعالى قال فعين ؟ قال عاين المولون عذاب يوم بدر قال فسين ؟ قال سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون قال فقاف ؟ فسكت فقام أبو ذر ففسر كما قال ابن عباس رضي الله عنهما وقال قاف قارعة من السماء تغشى الناس .
عسق (2)
عسق
قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة وقد روى ابن جرير ههنا أثرا غريبا عجيبا منكرا فقال أخبرنا أحمد بن زهير حدثنا عبد الوهاب بن نجدة الحوطي حدثنا أبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج عن أرطاة بن المنذر قال : جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال له وعنده حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه أخبرني عن تفسير قول الله تعالى "حم عسق" قال فأطرق ثم أعرض عنه ثم كرر مقالته فأعرض عنه فلم يجبه بشيء وكره مقالته ثم كررها الثالثة فلم يحر إليه شيئا فقال له حذيفة رضي الله عنه أنا أنبئك بها قد عرفت لم كرهها نزلت في رجل من أهل بيته يقال له عبد الإله وعبد الله ينزل على نهر من أنهار المشرق تبنى عليه مدينتان يشق النهر بينهما شقا فإذا أذن الله تبارك وتعالى في زوال ملكهم وانقطاع دولتهم ومدتهم بعث الله عز وجل على إحداهما نارا ليلا فتصبح سوداء مظلمة وقد احترقت كأنها لم تكن مكانها وتصبح صاحبتها متعجبة كيف أفلتت ؟ فما هو إلا بياض يومها ذلك حتى يجتمع فيها كل جبار عنيد منهم ثم يخسف الله بها وبهم جميعا فذلك قوله تعالى "حم عسق" يعني عزيمة من الله تعالى وفتنة وقضاء حم عين يعني عدلا منه سين يعني سيكون ق يعني واقع بهاتين المدينتين وأغرب منه ما رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي في الجزء الثاني من مسند ابن عباس رضي الله عنه عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ولكن إسناده ضعيف جدا ومنقطع فإنه قال حدثنا أبو طالب عبد الجبار بن عاصم حدثنا أبو عبد الله الحسن بن يحيى الخشني الدمشقي عن أبي معاوية قال : صعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه المنبر فقال : أيها الناس هل سمع منكم أحد رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسر "حم عسق" فوثب ابن عباس رضي الله عنه فقال أنا قال حم اسم من أسماء الله تعالى قال فعين ؟ قال عاين المولون عذاب يوم بدر قال فسين ؟ قال سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون قال فقاف ؟ فسكت فقام أبو ذر ففسر كما قال ابن عباس رضي الله عنهما وقال قاف قارعة من السماء تغشى الناس .
كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم (3)
كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم
قوله عز وجل "كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم" أي كما أنزل إليك هذا القرآن كذلك أنزل الكتب والصحف على الأنبياء قبلك .
وقوله تعالى "الله العزيز" أي في انتقامه "الحكيم" في أقواله وأفعاله .
قال الإمام مالك رحمه الله عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت إن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله كيف يأتيك الوحي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال وأحيانا يأتيني الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول" قالت عائشة رضي الله عنها فلقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه

وإن جبينه صلى الله عليه وسلم ليتفصد عرقا .
أخرجاه في الصحيحين ولفظه للبخاري .
وقد رواه الطبراني عن عبد الله بن الإمام أحمد عن أبيه عن عامر بن صالح عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها عن الحارث بن هشام أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف ينزل عليك الوحي ؟ فقال صلى الله عليه وسلم "في مثل صلصلة الجرس فيفصم عني وقد وعيت ما قال - وقال - وهو أشده علي قال وأحيانا يأتيني الملك فيتمثل لي فيكلمني فأعي ما يقول" .
وقال الإمام أحمد حدثنا قتيبة حدثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن عمرو بن الوليد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله هل تحس بالوحي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أسمع صلاصل ثم أسكت عند ذلك فما من مرة يوحى إلي إلا ظننت أن نفسي تقبض" تفرد به أحمد .
وقد ذكرنا كيفية إتيان الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول شرح البخاري بما أغنى عن إعادته ههنا ولله الحمد والمنة .
له ما في السماوات وما في الأرض وهو العلي العظيم (4)
له ما في السماوات وما في الأرض وهو العلي العظيم
أي الجميع عبيد له وملك له تحت قهره وتصريفه "وهو العلي العظيم" كقوله تعالى "وهو الكبير المتعال" "وهو العلي الكبير" والآيات في هذا كثيرة




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #453  
قديم 09-12-2025, 04:24 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 168,686
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)



تفسير القرآن العظيم
(تفسير ابن كثير)

إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي
الجزء
(12)
.تفسير سورة الشورى
من صـ 256 الى صــ 270
الحلقة (453)





تكاد السموات يتفطرن من فوقهن والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض ألا إن الله هو الغفور الرحيم (5)
تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض ألا إن الله هو الغفور الرحيم
قوله عز وجل "تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن" قال ابن عباس رضي الله عنهما والضحاك وقتادة والسدي وكعب الأحبار أي فرقا من العظمة "والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض" كقوله جل وعلا "الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما" وقوله جل جلاله "ألا إن الله هو الغفور الرحيم" إعلام بذلك وتنويه به .
والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل (6)
والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل
يعني المشركين "الله حفيظ عليهم" أي شهيد على أعمالهم يحصيها ويعدها عدا وسيجزيهم بها أوفر الجزاء "وما أنت عليهم بوكيل" أي إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل .
وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير (7)
وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير
يقول تعالى وكما أوحينا إلى الأنبياء قبلك "أوحينا إليك قرآنا عربيا" أي واضحا جليا بينا "لتنذر أم القرى" وهي مكة "ومن حولها" أي من سائر البلاد شرقا وغربا وسميت مكة أم القرى لأنها أشرف من سائر البلاد لأدلة كثيرة مذكورة في مواضعها ومن أوجز ذلك وأدله ما قال الإمام أحمد حدثنا أبو اليمان حدثنا شعيب عن الزهري حدثنا أبو سلمة بن عبد الرحمن قال : إن عبد الله بن عدي بن الحمراء الزهري أخبره أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو واقف

بالحزورة في سوق مكة "والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت" هكذا رواية الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث الزهري به وقال الترمذي حسن صحيح .
وقوله عز وجل "وتنذر يوم الجمع" وهو يوم القيامة يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد وقوله تعالى "لا ريب فيه" أي لا شك في وقوعه وأنه كائن لا محالة وقوله جل وعلا "فريق في الجنة وفريق في السعير" كقوله تعالى "يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن" أي يغبن أهل الجنة أهل النار وكقوله عز وجل "إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود وما نؤخره إلا لأجل معدود يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد" قال الإمام أحمد حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا ليث حدثني أبو قبيل

المعافري عن شفي الأصبحي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان فقال "أتدرون ما هذان الكتابان ؟" قلنا لا إلا أن تخبرنا يا رسول الله قال صلى الله عليه وسلم للذي في يمينه "هذا كتاب من رب العالمين بأسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم - ثم أجمل على آخرهم - لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا - ثم قال صلى الله عليه وسلم للذي في يساره - هذا كتاب أهل النار بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم - ثم أجمل على آخرهم - لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا" .
فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأي شيء نعمل إن كان هذا أمر قد فرغ منه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "سددوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل" ثم قال صلى الله عليه وسلم بيده فقبضها ثم قال "فرغ ربكم عز وجل من العباد - ثم قال باليمنى فنبذ بها فقال - فريق في الجنة - ونبذ باليسرى وقال - فريق في السعير" وهكذا رواه الترمذي والنسائي جميعا عن قتيبة عن الليث بن سعد وبكر بن مضر كلاهما عن أبي قبيل عن شفي بن ماتع الأصبحي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما به وقال الترمذي حسن صحيح غريب وساقه البغوي في تفسيره من طريق بشر بن بكر عن سعيد بن عثمان عن أبي الزاهرية عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره بنحوه وعنده زيادات منها - ثم فريق في الجنة وفريق في السعير عدل من الله عز وجل - ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن عبد الله بن صالح كاتب الليث عن الليث به ورواه ابن جرير عن يونس عن ابن وهب عن عمرو بنالحارث عن أبي قبيل عن شفي عن رجل من الصحابة رضي الله عنهم فذكره ثم روي عن يونس عن ابن وهب عن عمرو بن

الحارث وحيوة بن شريح عن يحيى بن أبي أسيد أن أبا فراس حدثه أنه سمع عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يقول : "إن الله تعالى لما خلق آدم نفضه نفض المرود وأخرج منه كل ذريته فخرج أمثال النغف فقبضهم قبضتين ثم قال شقي وسعيد ثم ألقاهما ثم قبضهما فقال فريق في الجنة وفريق في السعير" وهذا الموقوف أشبه بالصواب والله سبحانه وتعالى أعلم .
وقال الإمام أحمد حدثنا عبد الصمد حدثنا حماد يعني ابن سلمة أخبرنا الجريري عن أبي نضرة قال : إن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقال له أبو عبد الله دخل عليه أصحابه يعني يزورونه فوجدوه يبكي فقالوا له ما يبكيك ألم يقل لك رسول الله صلى الله عليه وسلم "خذ من شاربك ثم أقره حتى تلقاني" قال بلى ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إن الله تعالى قبض بيمينه قبضة وأخرى باليد الأخرى قال هذه لهذه وهذه لهذه ولا أبالي" فلا أدري في أي القبضتين أنا .
وأحاديث القدر في الصحاح والسنن والمسانيد كثيرة جدا منها حديث علي وابن مسعود وعائشة وجماعة جمة رضي الله عنهم أجمعين .
ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير (8)
ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير
وقوله تبارك وتعالى "ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة" أي إما على الهداية أو على الضلالة ولكنه تعالى فاوت بينهم فهدى من يشاء إلى الحق وأضل من يشاء عنه وله الحكمة والحجة البالغة ولهذا قال عز وجل "ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير" .
وقال ابن جرير حدثني يونس أخبرنا وهيب أخبرني الحارث عن عمرو بن أبي

سويد أنه حدثه عن ابن حجيرة أنه بلغه أن موسى عليه الصلاة والسلام قال : يا رب خلقك الذين خلقتهم جعلت منهم فريقا في الجنة وفريقا في النار لو ما أدخلتهم كلهم الجنة فقال يا موسى ارفع درعك فرفع قال قد رفعت قال ارفع فرفع فلم يترك شيئا قال يا رب قد رفعت قال ارفع قال قد رفعت إلا ما لا خير فيه قال كذلك أدخل خلقي كلهم الجنة إلا ما لا خير فيه .
أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي وهو يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير (9)
أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي وهو يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير
يقول تعالى منكرا على المشركين في اتخاذهم آلهة من دون الله ومخبرا أنه هو الولي الحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده فإنه هو القادر على إحياء الموتى وهو على كل شيء قدير .
وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب (10)
وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب
أي مهما اختلفتم فيه من الأمور وهذا عام في جميع الأشياء "فحكمه إلى الله" أي هو الحاكم فيه بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم كقوله جل وعلا "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول" "ذلكم الله ربي" أي الحاكم في كل شيء "عليه توكلت وإليه أنيب" أي أرجع في جميع الأمور .
فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير (11)
فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير
وقوله جل جلاله "فاطر السموات والأرض" أي خالقهما وما بينهما "جعل لكم من أنفسكم أزواجا" أي من جنسكم وشكلكم منة عليكم وتفضلا جعل من جنسكم ذكرا وأنثى "ومن الأنعام أزواجا" أي وخلق لكم من الأنعام ثمانية أزواج وقوله تبارك وتعالى "يذرؤكم فيه" أي يخلقكم فيه أي في ذلك الخلق على هذه الصفة لا

يزال يذرؤكم فيه ذكورا وإناثا خلقا من بعد خلق وجيلا بعد جيل ونسلا بعد نسل من الناس والأنعام وقال البغوي يذرؤكم فيه أي في الرحم وقيل في البطن وقيل في هذا الوجه من الخلقة .
قال مجاهد نسلا بعد نسل من الناس والأنعام وقيل في بمعنى الباء أي يذرؤكم به "ليس كمثله شيء" أي ليس كخالق الأزواج كلها شيء لأنه الفرد الصمد الذي لا نظير له "وهو السميع البصير" .
له مقاليد السماوات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيء عليم (12)
له مقاليد السماوات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيء عليم
وقوله عز وجل له مقاليد السماوات والأرض "قال مجاهد : المقاليد هي المفاتيح بالفارسية وكذا قال قتادة وابن زيد وسفيان بن عيينة وقال السدي" له مقاليد السماوات والأرض "أي خزائن السماوات والأرض والمعنى على كلا القولين أن أزمة الأمور بيده تبارك وتعالى له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير."
وحاصل ذلك أنه المتصرف الحاكم فيهما "يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر" أي يوسع على من يشاء ويضيق على من يشاء وله الحكمة والعدل التام "إنه بكل شيء عليم" .
شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب (13)
شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب
يقول تعالى لهذه الأمة "شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك" فذكر أول الرسل بعد آدم عليه السلام وهو نوح عليه السلام وآخرهم وهو محمد صلى الله عليه وسلم ثم ذكر من بين ذلك من أولي العزم وهو إبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وهذه الآية انتظمت ذكر الخمسة كما اشتملت آية الأحزاب عليهم في قوله تبارك وتعالى

"وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم" الآية والدين الذي جاءت به الرسل كلهم هو عبادة الله وحده لا شريك له كما قال عز وجل "وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون" .
وفي الحديث "نحن معشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد" أي القدر المشترك بينهم هو عبادة الله وحده لا شريك له وإن اختلفت شرائعهم ومناهجهم كقوله جل جلاله "لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا" ولهذا قال تعالى ههنا "أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه" أي أوصى الله تعالى جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالائتلاف والجماعة ونهاهم عن الافتراق والاختلاف .
وقوله عز وجل "كبر على المشركين ما تدعوهم إليه" أي شق عليهم وأنكروا ما تدعوهم إليه يا محمد من التوحيد .
ثم قال جل جلاله "الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب" أي هو الذي يقدر الهداية لمن يستحقها ويكتب الضلالة على من آثرها على طريق الرشد .
وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب (14)
وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب
قال تبارك وتعالى "وما اختلف إلا من بعد ما جاءهم العلم" أي إنما كان مخالفتهم للحق بعد بلوغه إليهم وقيام الحجة عليهم وما حملهم على ذلك إلا البغي والعناد والمشاقة ثم قال عز وجل "ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى" أي لولا الكلمة السابقة من الله تعالى بإنظار العباد بإقامة حسابهم إلى يوم المعاد لعجل عليهم العقوبة في الدنيا سريعا .
وقوله جلت عظمته "وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم" يعني الجيل المتأخر بعد القرن الأول المكذب للحق "لفي شك منه مريب" أي ليسوا على يقين من أمرهم وإيمانهم وإنما هم مقلدون لآبائهم وأسلافهم بلا دليل ولا برهان وهم في حيرة من أمرهم وشك مريب وشقاق بعيد .
فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير (15)
فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير
اشتملت هذه الآية الكريمة على عشر كلمات مستقلات كل منها منفصلة عن التي قبلها حكم برأسها قالوا ولا نظير لها سوى آية الكرسي فإنها أيضا عشر فصول كهذه .
وقوله "فلذلك فادع" أي فللذي أوحينا إليك من الدين الذي وصينا به جميع

المرسلين قبلك أصحاب الشرائع الكبار المتبعة كأولي العزم وغيرهم فادع الناس إليه .
وقوله عز وجل "واستقم كما أمرت" أي واستقم أنت ومن اتبعك على عبادة الله تعالى كما أمركم الله عز وجل وقوله تعالى "ولا تتبع أهواءهم" يعني المشركين فيما اختلفوا فيه وكذبوه وافتروه من عبادة الأوثان .
وقوله جل وعلا "وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب" أي صدقت بجميع الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء لا نفرق بين أحد منهم .
وقوله "وأمرت لأعدل بينكم" أي في الحكم كما أمرني الله وقوله جلت عظمته "الله ربنا وربكم" أي هو المعبود لا إله غيره فنحن نقر بذلك اختيارا وأنتم وإن لم تفعلوه اختيارا فله يسجد من في العالمين طوعا وإجبارا .
وقوله تبارك وتعالى "لنا أعمالنا ولكم أعمالكم" أي نحن برآء منكم كما قال سبحانه وتعالى "وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون" وقوله تعالى "لا حجة بيننا وبينكم" قال مجاهد أي لا خصومة قال السدي وذلك قبل نزول آية السيف وهذا متجه لأن هذه الآية مكية وآية السيف بعد الهجرة .
وقوله عز وجل "الله يجمع بيننا" أي يوم القيامة كقوله "قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم" وقوله جل وعلا "وإليه المصير" أي المرجع والمآب يوم الحساب .
والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد (16)
والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد
يقول تعالى متوعدا الذين يصدون عن سبيل الله من آمن به "والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له" أي يجادلون المؤمنين المستجيبين لله ولرسوله ليصدوهم عما سلكوه من طريق الهدى "حجتهم داحضة عند ربهم" أي باطلة عند الله "وعليهم"

غضب "أي منه" ولهم عذاب شديد "أي يوم القيامة قال ابن عباس رضي الله عنه ومجاهد جادلوا المؤمنين بعدما استجابوا لله ولرسوله ليصدوهم عن الهدى وطمعوا أن تعود الجاهلية وقال قتادة هم اليهود والنصارى قالوا لهم ديننا خير من دينكم ونبينا قبل نبيكم ونحن خير منكم وأولى بالله منكم وقد كذبوا في ذلك."
الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان وما يدريك لعل الساعة قريب (17)
الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان وما يدريك لعل الساعة قريب
يعني الكتب المنزلة من عنده على أنبيائه "والميزان" وهو العدل والإنصاف قاله مجاهد وقتادة وهذه كقوله تعالى "لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط" وقوله "والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان" .
وقوله تبارك وتعالى "وما يدريك لعل الساعة قريب" فيه ترغيب فيها وترهيب منها وتزهيد في الدنيا .
يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد (18)
يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد
أي يقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين وإنما يقولون ذلك تكذيبا واستبعادا وكفرا وعنادا "والذين آمنوا مشفقون منها" أي خائفون وجلون من وقوعها "ويعلمون أنها الحق" أي كائنة لا محالة فهم مستعدون لها عاملون من أجلها .
وقد روي من طرق تبلغ درجة التواتر في الصحاح والحسان والسنن والمسانيد وفي بعض ألفاظه أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوت جهوري وهو في بعض أسفاره فناداه فقال يا محمد فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوا من صوته "هاؤم" فقال له متى الساعة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ويحك إنها كائنة فما أعددت لها ؟" فقال حب الله ورسوله فقال صلى الله عليه وسلم "أنت مع من أحببت"

"فقوله في الحديث" المرء مع من أحب "هذا متواتر لا محالة والغرض أنه لم يجبه عن وقت الساعة بل أمره بالاستعداد لها ."
وقوله تعالى "ألا إن الذين يمارون في الساعة" أي يجادلون في وجودها ويدفعون وقوعها "لفي ضلال بعيد" أي في جهل بين لأن الذي خلق السموات والأرض قادر على إحياء الموتى بطريق الأولى والأحرى كما قال تعالى "وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه" .
الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوي العزيز (19)
الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوي العزيز
يقول تعالى مخبرا عن لطفه بخلقه في رزقه إياهم عن آخرهم لا ينسى أحدا منهم سواء في رزقه البر والفاجر كقوله عز وجل "وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين" ولها نظائر كثيرة وقوله جل وعلا "يرزق من يشاء" أي يوسع على من يشاء "وهو القوي العزيز" أي لا يعجزه شيء .
من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب (20)
من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب
قال عز وجل "من كان يريد حرث الآخرة" أي عمل الآخرة "نزد له في حرثه" أي نقويه ونعينه على ما هو بصدده ونكثر نماءه ونجزيه بالحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما يشاء الله "ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب" أي ومن كان إنما سعيه ليحصل له شيء من الدنيا وليس له إلى الآخرة هم البتة بالكلية حرمه الله الآخرة والدنيا إن شاء أعطاه منها وإن لم يشأ لم يحصل لا
هذه ولا هذه .
وفاز الساعي بهذه النية بالصفقة الخاسرة في الدنيا والآخرة والدليل على هذا أن هذه الآية ههنا مقيدة بالآية التي في سبحان وهي قوله تبارك وتعالى "من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا" .
وقال الثوري عن معمر عن أبي العالية عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة والنصر والتمكين في الأرض فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب "."
أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم (21)
أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم
قوله جل وعلا "أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله" أي هم لا يتبعون ما شرع الله لك من الدين القويم بل يتبعون ما شرع لهم شياطينهم من الجن والإنس من تحريم ما حرموا عليهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وتحليل أكل الميتة والدم والقمار إلى نحو ذلك من الضلالات والجهالة الباطلة التي كانوا قد اخترعوها في جاهليتهم من التحليل والتحريم والعبادات الباطلة والأموال الفاسدة .
وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "رأيت عمرو بن لحي بن قمعة يجر قصبه في النار" لأنه أول من سيب السوائب وكان هذا الرجل أحد

ملوك خزاعة وهو أول من فعل هذه الأشياء وهو الذي حمل قريشا على عبادة الأصنام لعنه الله وقبحه ولهذا قال تعالى "ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم" أي لعوجلوا بالعقوبة لولا ما تقدم من الإنظار إلى يوم المعاد "وإن الظالمين لهم عذاب أليم" أي شديد موجع في جهنم وبئس المصير.
ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير (22)
ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير
أي في عرصات القيامة "وهو واقع بهم" أي الذي يخافون منه واقع بهم لا محالة هذا حالهم يوم معادهم وهم في هذا الخوف والوجل "والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاءون عند ربهم" فأين هذا من هذا ؟ أي أين من هو في العرصات في الذل والهوان والخوف المحقق عليه بظلمه ممن هو في روضات الجنات فيما يشاء من مآكل ومشارب وملابس ومساكن ومناظر ومناكح وملاذ مما لا عين رأيت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
قال الحسن بن عرفة حدثنا عمرو بن عبد الرحمن الأبار حدثنا محمد بن سعد الأنصاري عن أبي طيبة قال إن الشرب من أهل الجنة لتظلهم السحابة فتقول ما أمطركم ؟ قال فما يدعو داع من القوم بشيء إلا أمطرتهم حتى إن القائل منهم ليقول أمطرينا كواعب أترابا .
ورواه ابن جرير عن الحسن بن عرفة به ولهذا قال تعالى "ذلك هو الفضل الكبير" أي الفوز العظيم والنعمة التامة السابغة الشاملة العامة .
ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إن الله غفور شكور (23)
ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إن الله غفور شكور
يقول تعالى لما ذكر روضات الجنات لعباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات "ذلك"

الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات "أي هذا حاصل لهم كائن لا محالة ببشارة الله تعالى لهم به ."
وقوله عز وجل "قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى" أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين من كفار قريش لا أسألكم على هذا البلاغ والنصح لكم مالا تعطونيه وإنما أطلب منكم أن تكفوا شركم عني وتذروني أبلغ رسالات ربي إن لم تنصروني فلا تؤذوني بما بيني وبينكم من القرابة .
قال البخاري حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عبد الملك بن ميسرة قال سمعت طاوسا يحدث عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن قوله تعالى "إلا المودة في القربى" فقال سعيد بن جبير قربى آل محمد فقال ابن عباس عجلت إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة فقال إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة وانفرد به البخاري ورواه الإمام أحمد عن يحيى القطان عن شعبة به وهكذا روى عامر الشعبي والضحاك وعلي بن أبي طلحة والعوفي ويوسف بن مهران وغير واحد عن ابن عباس رضي الله عنهما مثله وبه قال مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي وأبو مالك وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم.
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني حدثنا هاشم بن القاسم بن زيد الطبراني وجعفر القلانسي قالا حدثنا آدم بن أبي إياس حدثنا شريك عن خصيف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تودوني في نفسي لقرابتي منكم وتحفظوا القرابة بيني وبينكم"

وروى الإمام أحمد عن حسن بن موسى حدثنا قزعة يعني ابن سويد وابن أبي حاتم عن أبيه عن مسلم بن إبراهيم عن قزعة بن سويد عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا أسألكم على ما آتيتكم من البينات والهدى أجرا إلا أن توادوا الله تعالى وأن تقربوا إليه بطاعته" وهكذا روى قتادة عن الحسن البصري مثله وهذا كأنه تفسير بقول ثان كأنه يقول إلا المودة في القربى أي إلا أن تعملوا بالطاعة التي تقربكم عند الله زلفى .
وقول ثالث وهو ما حكاه البخاري وغيره رواية عن سعيد بن جبير ما معناه أنه قال معنى ذلك أن تودوني في قرابتي أي تحسنوا إليهم وتبروهم .
وقال السدي عن أبي الديلم قال : لما جيء بعلي بن الحسين رضي الله عنه أسيرا فأقيم على درج دمشق قام رجل من أهل الشام فقال الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم وقطع قرن الفتنة فقال له علي بن الحسين رضي الله عنه أقرأت القرآن ؟ قال نعم .
قال أقرأت آل حم ؟ قال قرأت القرآن ولم أقرأ آل حم قال ما قرأت "قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى" ؟ قال وإنكم لأنتم هم ؟ قال نعم وقال أبو إسحاق السبيعي سألت عمرو بن شعيب عن قوله تبارك وتعالى "قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى" فقال قربى النبي صلى الله عليه وسلم رواهما ابن جرير .
ثم قال ابن جرير حدثنا أبو كريب حدثنا مالك بن إسماعيل حدثنا عبد السلام

حدثني يزيد بن أبي زياد عن مقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قالت الأنصار فعلنا وفعلنا وكأنهم فخروا فقال ابن عباس أو العباس رضي الله عنهما - شك عبد السلام - لنا الفضل عليكم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاهم في مجالسهم فقال "يا معشر الأنصار ألم تكونوا أذلة فأعزكم الله بي ؟" قالوا بلى يا رسول الله قال صلى الله عليه وسلم ألم تكونوا ضلالا فهداكم الله بي ؟ "قالوا بلى يا رسول الله قال" أفلا تجيبوني "قالوا ما نقول يا رسول الله ؟ قال" ألا تقولون ألم يخرجك قومك فآويناك أولم يكذبوك فصدقناك أولم يخذلوك فنصرناك "قال فما زال صلى الله عليه وسلم يقول حتى جثوا على الركب وقالوا أموالنا في أيدينا لله ولرسوله قال فنزلت" قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى "وهكذا رواه ابن أبي حاتم عن علي بن الحسين عن عبد المؤمن بن علي عن عبد السلام عن يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف بإسناده مثله أو قريبا منه ."
وفي الصحيحين في قسم غنائم حنين قريب من هذا السياق ولكن ليس فيه ذكر نزول هذه الآية وذكر نزولها في المدينة فيه نظر لأن السورة مكية وليس يظهر بين هذه الآية وهذا السياق مناسبة والله أعلم .
وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا رجل سماه حدثنا حسين الأشقر عن قيس عن الأعمش عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنه قال : لما نزلت هذه



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #454  
قديم 09-12-2025, 04:29 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 168,686
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)



تفسير القرآن العظيم
(تفسير ابن كثير)

إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي
الجزء
(12)
.تفسير سورة الشورى
من صـ 271 الى صــ 285
الحلقة (454)






الآية "قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى" قالوا يا رسول الله من هؤلاء الذين أمر الله بمودتهم ؟ قال "فاطمة وولدها رضي الله عنهم" وهذا إسناد ضعيف فيه مبهم لا يعرف عن شيخ شيعي مخترق وهو حسين الأشقر ولا يقبل خبره في هذا المحل وذكر نزول الآية في المدينة بعيد فإنها مكية ولم يكن إذ ذاك لفاطمة رضي الله عنها أولاد بالكلية فإنها لم تتزوج بعلي رضي الله عنه إلا بعد بدر من السنة الثانية من الهجرة والحق تفسير هذه الآية بما فسرها به حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كما رواه عنه البخاري ولا ننكر الوصاة بأهل البيت والأمر بالإحسان إليهم واحترامهم وإكرامهم فإنهم من ذرية طاهرة من أشرف بيت وجد على وجه الأرض فخرا وحسبا ونسبا ولا سيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية الصحيحة الواضحة الجلية كما كان عليه سلفهم كالعباس وبنيه وعلي وأهل بيته وذريته رضي الله عنهم أجمعين .
وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته بغدير خم "إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي وإنهما لم يفترقا حتى يردا علي الحوض" وقال الإمام أحمد حدثنا يزيد بن هارون أنا إسماعيل بن أبي خالد عن يزيد

بن أبي زياد عن عبد الله بن الحارث عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله إن قريشا إذا لقي بعضهم بعضا لقوهم ببشر حسن وإذا لقونا لقونا بوجوه لا نعرفها قال فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا وقال "والذي نفسي بيده لا يدخل قلب الرجل الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله" ثم قال أحمد حدثنا جرير عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الله بن الحارث عن عبد المطلب بن ربيعة قال دخل العباس رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إنا لنخرج فنرى قريشا تحدث فإذا رأونا سكتوا فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ودر عرق بين عينيه ثم قال صلى الله عليه وسلم "والله لا يدخل قلب امرئ مسلم إيمان حتى يحبكم لله ولقرابتي" وقال البخاري حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب حدثنا خالد حدثنا شعبة عن واقد قال سمعت أبي يحدث عن ابن عمر رضي الله عنهما عن أبي بكر - هو الصديق - رضي الله عنه قال ارقبوا محمدا صلى الله عليه وسلم في أهل بيته .
وفي الصحيح أن الصديق رضي الله عنه قال لعلي رضي الله عنه : والله لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي وقال عمر بن الخطاب للعباس رضي الله تعالى عنهما والله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم لأن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب .
فحال الشيخين رضي الله عنهما هو الواجب على كل أحد أن يكون كذلك ولهذا كانا أفضل المؤمنين بعد النبيين والمرسلين رضي الله عنهما وعن سائر الصحابة أجمعين وقال الإمام أحمد رحمه الله حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أبي حيان التيمي حدثني يزيد بن حيان قال انطلقت أنا وحصين بن ميسرة وعمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم رضي الله عنه فلما جلسنا إليه قال حصين لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعت حديثه وغزوت معه وصليت معه لقد رأيت يا زيد خيرا كثيرا حدثنا

يا زيد ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا ابن أخي لقد كبر سني وقدم عهدي ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلى الله عليه وسلم فما حدثتكم فاقبلوه وما لا فلا تكلفونيه ثم قال رضي الله عنه : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما خطيبا فينا بماء يدعى خما بين مكة والمدينة فحمد الله تعالى وأثنى عليه وذكر ووعظ ثم قال صلى الله عليه وسلم "أما بعد أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب وإني تارك فيكم الثقلين أولهما كتاب الله تعالى فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به" فحث على كتاب الله ورغب فيه وقال صلى الله عليه وسلم "وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي" فقال له حصين ومن أهل بيته يا زيد ؟ أليس نساؤه من أهل بيته ؟ قال إن نساءه لسن من أهل بيته ولكن أهل بيته من حرم عليه الصدقة بعده قال ومن هم ؟ قال هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل العباس رضي الله عنهم قال أكل هؤلاء حرم عليه الصدقة ؟ قال نعم .
وهكذا رواه مسلم والنسائي من طرق يزيد بن حبان به وقال أبو عيسى الترمذي حدثنا علي بن المنذر الكوفي حدثنا محمد بن فضيل حدثنا الأعمش عن عطية عن أبي سعيد والأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أحدهما أعظم من الآخر : كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض والآخر عترتي أهل بيتي ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما" تفرد بروايته ثم قال هذا حديث حسن غريب وقال الترمذي أيضا حدثنا نصر بن عبد الرحمن الكوفي حدثنا زيد بن الحسن عن جعفر بن محمد بن الحسن عن أبيه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم

في حجته يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب فسمعته يقول "يا أيها الناس إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي" تفرد به الترمذي أيضا وقال حسن غريب.
وفي الباب عن أبي ذر وأبي سعيد وزيد بن أرقم وحذيفة بن أسيد رضي الله عنهم .
ثم قال الترمذي أيضا ثنا أبو داود سليمان الأشعث حدثنا يحيى بن معين حدثنا هشام بن يوسف عن عبد الله بن سليمان النوفلي عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن جده عبد الله بن عباس رضي الله عنهم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أحبوا الله تعالى لما يغذوكم من نعمه وأحبوني بحب الله وأحبوا أهل بيتي بحبي" ثم قال حسن غريب إنما نعرفه من هذا الوجه وقد أوردنا أحاديث أخر عند قوله تعالى "إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا" بما أغنى عن إعادتها ههنا ولله الحمد والمنة .
وقال الحافظ أبو يعلى حدثنا سويد بن سعيد حدثنا مفضل بن عبد الله عن أبي إسحاق عن حنش قال سمعت أبا ذر رضي الله عنه وهو آخذ بحلقة الباب يقول : يا أيها الناس من

عرفني فقد عرفني ومن أنكرني فأنا أبو ذر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إنما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح عليه الصلاة والسلام من دخلها نجا ."
ومن تخلف عنها هلك "هذا بهذا الإسناد ضعيف ."
وقوله عز وجل "ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا" أي ومن يعمل حسنة نزد له فيها حسنا أي أجرا وثوابا كقوله تعالى "إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما" وقال بعض السلف إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها ومن جزاء السيئة بعدها وقوله تعالى "إن الله غفور شكور" أي يغفر الكثير من السيئات ويكثر القليل من الحسنات فيستر ويغفر ويضاعف فيشكر.
أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشأ الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته إنه عليم بذات الصدور (24)
أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشأ الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته إنه عليم بذات الصدور
أي لو افتريت عليه كذبا كما يزعم هؤلاء الجاهلون "يختم على قلبك" أي يطبع على قلبك وسلبك ما كان آتاك من القرآن كقوله جل جلاله "ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين" أي لانتقمنا منه أشد الانتقام وما قدر أحد من الناس أن يحجز عنه .
وقوله جلت عظمته "ويمح الله الباطل" ليس معطوفا على قوله "يختم" فيكون مجزوما بل هو مرفوع على الابتداء .
قاله ابن جرير قال وحذفت من كتابته الواو في رسم مصحف الإمام كما حذفت في قوله "سندع الزبانية" وقوله تعالى "ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير" .
وقوله عز وجل "ويحق الحق بكلماته" معطوف على "ويمح الله الباطل ويحق الحق" أي يحققه ويثبته ويبينه ويوضحه بكلماته أي بحججه وبراهينه "إنه عليم بذات الصدور" أي بما تكنه الضمائر وتنطوي عليه السرائر .
وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون (25)
وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون

يقول تعالى ممتنا على عباده بقبول توبتهم إليه إذا تابوا ورجعوا إليه إنه من كرمه وحلمه أنه يعفو ويصفح ويستر ويغفر كقوله عز وجل "ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما" وقد ثبت في صحيح مسلم رحمة الله عليه حيث قال حدثنا محمد بن الصباح وزهير بن حرب قالا : حدثنا عمر بن يونس حدثنا عكرمة بن عمار حدثنا إسحاق بن أبي طلحة حدثني أنس بن مالك وهو عمه رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لله تعالى أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كانت راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح اللهم أنت عبدي وأنا ربك - أخطأ من شدة الفرح -" وقد ثبت أيضا في الصحيح من رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه نحوه وقال عبد الرزاق عن معمر عن الزهري في قوله تعالى "وهو الذي يقبل التوبة عن عباده" إن أبا هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته في المكان الذي يخاف أن يقتله فيه العطش" وقال همام بن الحارث سئل ابن مسعود رضي الله عنه عن الرجل يفجر بالمرأة ثم يتزوجها ؟ قال لا بأس به وقرأ "وهو الذي يقبل التوبة عن عباده" الآية .
رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث شريح القاضي عن إبراهيم بن مهاجر عن إبراهيم النخعي عن همام

فذكره وقوله عز وجل "ويعفو عن السيئات" أي يقبل التوبة في المستقبل ويعفو عن السيئات في الماضي "ويعلم ما تفعلون" أي هو عالم بجميع ما فعلتم وصنعتم وقلتم ومع هذا يتوب على من تاب إليه .
ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد (26)
ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد
قال السدي يعني يستجيب لهم وكذا قال ابن جرير معناه يستجيب لهم الدعاء لأنفسهم ولأصحابهم وإخوانهم وحكاه عن بعض النحاة وأنه جعلها كقوله عز وجل "فاستجاب لهم ربهم" ثم روى هو وابن أبي حاتم من حديث الأعمش عن شقيق بن سلمة عن سلمة بن سبرة قال خطبنا معاذ رضي الله عنه بالشام فقال أنتم المؤمنون وأنتم أهل الجنة والله إني لأرجو أن يدخل الله تعالى من تسبون من فارس والروم الجنة وذلك بأن أحدكم إذا عمل له يعني أحدهم عملا قال أحسنت رحمك الله أحسنت بارك الله فيك ثم قرأ "ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله" .
وحكى ابن جرير من بعض أهل العربية أنه جعل قوله "الذين يستمعون القول" أي هم الذين يستجيبون للحق ويتبعونه كقوله تبارك وتعالى "إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله" والمعنى الأول أظهر لقوله تعالى "ويزيدهم من فضله" أي يستجيب دعاءهم ويزيدهم فوق ذلك .
ولهذا قال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا محمد بن المصفى حدثنا بقية حدثنا إسماعيل بن عبد الله الكندي حدثنا الأعمش عن شقيق عن عبد الله رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى "ويزيدهم من فضله" قال "الشفاعة لمن وجبت له النار ممن صنع إليهم معروفا في الدنيا"

وقال قتادة عن إبراهيم النخعي في قوله عز وجل "ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات" قال يشفعون في إخوانهم "ويزيدهم من فضله" قال يشفعون في إخوان إخوانهم.
وقوله عز وجل "والكافرون لهم عذاب شديد" لما ذكر المؤمنين وما لهم من الثواب الجزيل ذكر الكافرين وما لهم عنده يوم القيامة من العذاب الشديد الموجع المؤلم يوم معادهم وحسابهم .
ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير (27)
ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير
أي لو أعطاهم فوق حاجتهم من الرزق لحملهم ذلك على البغي والطغيان من بعضهم على بعض أشرا وبطرا وقال قتادة كان يقال خير العيش ما لا يلهيك ولا يطغيك وذكر قتادة حديث "إنما أخاف عليكم ما يخرج الله تعالى من زهرة الحياة الدنيا" وسؤال السائل أيأتي الخير بالشر ؟ الحديث .
وقوله عز وجل "ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير" أي ولكن يرزقهم من الرزق ما يختاره مما فيه صلاحهم وهو أعلم بذلك فيغني من يستحق الغنى ويفقر من يستحق الفقر كما جاء في الحديث المروي "إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه"

وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد (28)
وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد
أي من بعد إياس الناس من نزول المطر ينزله عليهم في وقت حاجتهم وفقرهم إليه كقوله عز وجل "وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين" وقوله جل جلاله "وينشر رحمته" أي يعم بها الوجود على أهل ذلك القطر وتلك الناحية قال قتادة ذكر لنا أن رجلا قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه يا أمير المؤمنين قحط المطر وقنط الناس فقال عمر رضي الله عنه مطرتم ثم قرأ "وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد" أي هو المتصرف لخلقه بما ينفعهم في دنياهم وأخراهم وهو المحمود العاقبة في جميع ما يقدره ويفعله.
ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير (29)
ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير
يقول تعالى "ومن آياته" الدالة على عظمته وقدرته العظيمة وسلطانه القاهر "خلق السماوات والأرض وما بث فيهما" أي ذرأ فيهما أي في السماوات والأرض "من دابة" وهذا يشمل الملائكة والإنس والجن وسائر الحيوانات على اختلاف أشكالهم وألوانهم ولغاتهم وطباعهم وأجناسهم وأنواعهم وقد فرقهم في أرجاء أقطار السماوات والأرض "وهو" مع هذا كله "على جمعهم إذا يشاء قدير" أي يوم القيامة يجمع الأولين والآخرين وسائر الخلائق في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر فيحكم فيهم بحكمه العدل الحق .
وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير (30)
وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير
أي مهما أصابكم أيها الناس من المصائب فإنما هي عن سيئات تقدمت لكم "ويعفو عن كثير" أي من السيئات فلا يجازيكم عليها بل يعفو عنها "ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة" وفي الحديث الصحيح "والذي نفسي بيده لا يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن إلا كفر الله عنه بها من خطاياه حتى الشوكة يشاكها" وقال ابن جرير ثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا ابن علية حدثنا أيوب قال : قرأت في كتاب أبي قلابة قال نزلت "فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره" وأبو بكر رضي الله عنه يأكل فأمسك وقال : يا رسول الله إني أرى ما عملت من خير وشر ؟ فقال "أرأيت ما رأيت مما تكره ؟ فهو من مثاقيل ذر الشر وتدخل مثاقيل الخير حتى تعطاه يوم القيامة" قال : قال أبو إدريس فإني أرى مصداقها في كتاب الله تعالى "وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير" ثم رواه من وجه آخر عن أبي قلابة عن أنس رضي الله عنه قال والأول أصح

وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا محمد بن عيسى بن الطباع حدثنا مروان عن معاوية الفزاري حدثنا الأزهر بن راشد الكاهلي عن الخضر بن القواس البجلي عن أبي سخيلة عن علي رضي الله عنه قال : ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله عز وجل وحدثنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال "ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير" وسأفسرها لك يا علي : ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم والله تعالى أحلم من أن يثني عليه العقوبة في الآخرة وما عفا الله عنه في الدنيا فالله تعالى أكرم من أن يعود بعد عفوه "وكذا رواه الإمام أحمد عن مروان بن معاوية وعبدة عن أبي سخيلة قال : قال علي رضي الله عنه فذكر نحوه مرفوعا ."
ثم روى ابن أبي حاتم نحوه من وجه آخر موقوفا فقال : حدثنا أبي حدثنا منصور بن أبي مزاحم حدثنا أبو سعيد بن أبي الوضاح عن أبي الحسن عن أبي جحيفة قال دخلت على علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال : ألا أحدثكم بحديث ينبغي لكل مؤمن أن يعيه ؟ قال فسألناه فتلا هذه الآية "وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير" قال ما عاقب الله تعالى به في الدنيا فالله أحلم من أن يثني عليه العقوبة يوم القيامة وما عفا الله عنه في الدنيا فالله أكرم من أن يعود في عفوه يوم القيامة وقال الإمام أحمد حدثنا يعلى بن عبيد حدثنا طلحة يعني ابن يحيى عن أبي بردة عن معاوية هو ابن أبي سفيان رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله

صلى الله عليه وسلم يقول "ما من شيء يصيب المؤمن في جسده يؤذيه إلا كفر الله تعالى عنه به من سيئاته" وقال الإمام أحمد أيضا حدثنا حسن عن زائدة عن ليث عن مجاهد عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا كثرت ذنوب العبد ولم يكن له ما يكفرها ابتلاه الله تعالى بالحزن ليكفرها" .
وقال ابن أبي حاتم حدثنا عمرو بن عبد الله الأودي حدثنا أبو أسامة عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن هو البصري قال في قوله تبارك وتعالى "وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير" قال لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "والذي نفس محمد بيده ما من خدش عود ولا اختلاج عرق ولا عثرة قدم إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر" .
وقال أيضا حدثنا أبي حدثنا عمرو بن علي حدثنا هشيم عن منصور عن الحسن عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال : دخل عليه بعض أصحابه وقد كان ابتلي في جسده فقال له بعضهم إنا لنبأس لك لما نرى فيك قال فلا تبتئس بما

ترى فإن ما ترى بذنب وما يعفو الله عنه أكثر ثم تلا هذه الآية "وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير" .
وحدثنا أبي حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني حدثنا جرير عن أبي البلاد قال : قلت للعلاء بن بدر "وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم" وقد ذهب بصري وأنا غلام ؟ قال فبذنوب والديك .
وحدثنا أبي حدثنا علي بن محمد الطنافسي حدثنا وكيع عن عبد العزيز بن أبي داود عن الضحاك قال ما نعلم أحدا حفظ القرآن ثم نسيه إلا بذنب ثم قرأ الضحاك "وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير" ثم يقول الضحاك وأي مصيبة أعظم من نسيان القرآن .
وما أنتم بمعجزين في الأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير (31)
لا يوجد تفسير لهذه الأية
ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام (32)
ومن آياته الجواري في البحر كالأعلام
يقول تعالى ومن آياته الدالة على قدرته الباهرة وسلطانه تسخيره البحر لتجري فيه الفلك

بأمره وهي الجواري في البحر كالأعلام أي كالجبال قاله مجاهد والحسن والسدي والضحاك أي هذه في البحر كالجبال في البر .
إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور (33)
إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور
أي التي تسير في البحر بالسفن لو شاء لسكنها حتى لا تتحرك السفن بل تبقى راكدة لا تجيء ولا تذهب بل واقفة على ظهره أي على وجه الماء "إن في ذلك لآيات لكل صبار" أي في الشدائد "شكور" أي إن في تسخيره البحر وإجرائه في الهوى بقدر ما يحتاجون إليه لسيرهم لدلالات على نعمه تعالى على خلقه لكل صبار أي في الشدائد شكور في الرخاء .
أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير (34)
أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير
أي ولو شاء لأهلك السفن وغرقها بذنوب أهلها الذين هم راكبون فيها "ويعفوا عن كثير" أي من ذنوبهم ولو آخذهم بجميع ذنوبهم لأهلك كل من ركب البحر وقال بعض علماء التفسير معنى قوله تعالى "أو يوبقهن بما كسبوا" أي لو شاء لأرسل الريح قوية عاتية فأخذت السفن وأحالتها عن سيرها المستقيم فصرفتها ذات اليمين أو ذات الشمال آبقة لا تسير على طريق ولا إلى جهة مقصد وهذا القول هو يتضمن هلاكها وهو مناسب للأول وهو أنه تعالى لو شاء لسكن الريح فوقفت أو لقواه فشردت وأبقت وهلكت ولكن من لطفه ورحمته أنه يرسله بحسب الحاجة كما يرسل المطر بقدر الكفاية ولو أنزله كثيرا جدا لهدم البنيان أو قليلا لما أنبت الزرع والثمار حتى إنه يرسل إلى مثل بلاد مصر سيحا من أرض أخرى غيرها لأنهم لا يحتاجون إلى مطر ولو أنزل عليهم لهدم بنيانهم وأسقط جدرانهم .
ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص (35)
ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص
أي لا محيد لهم عن بأسنا ونقمتنا فإنهم مقهورون بقدرتنا .
فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون (36)
فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون

يقول تعالى محقرا لشأن الحياة الدنيا وزينتها وما فيها من الزهرة والنعيم الفاني بقوله تعالى "فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا" أي مهما حصلتم وجمعتم فلا تغتروا به فإنما هو متاع الحياة الدنيا وهي دار دنيئة فانية زائلة لا محالة "وما عند الله خير وأبقى" أي وثواب الله تعالى خير من الدنيا وهو باق سرمدي فلا تقدموا الفاني على الباقي ولهذا قال تعالى "للذين آمنوا" أي للذين صبروا على ترك الملاذ في الدنيا "وعلى ربهم يتوكلون" أي ليعينهم على الصبر في أداء الواجبات وترك المحرمات .
والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون (37)
والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون
قال الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن شقيق عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا أحد أغير من الله فلذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أحب إليه المدح من الله" أخرجاه في الصحيحين من حديث سليمان بن مهران الأعمش عن شقيق عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود.
"وإذا ما غضبوا هم يغفرون" أي سجيتهم تقتضي الصفح والعفو عن الناس ليس سجيتهم الانتقام من الناس وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما انتقم لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمات الله .
وفي حديث آخر كان يقول لأحدنا عند المعتبة "ما له تربت يمينه" وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان عن زائدة عن منصور عن إبراهيم قال : كان المؤمنون يكرهون أن يستذلوا وكانوا إذا قدروا عفوا .
والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون (38)
والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون
أي اتبعوا رسله وأطاعوا أمره واجتنبوا زجره "وأقاموا الصلاة" وهي أعظم العبادات لله عز وجل "وأمرهم شورى بينهم" أي لا يبرمون أمرا حتى يتشاوروا فيه ليتساعدوا بآرائهم في مثل الحروب وما جرى مجراها كما قال تبارك وتعالى "وشاورهم في الأمر" الآية ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يشاورهم في الحروب ونحوها ليطيب بذلك قلوبهم وهكذا لما حضرت عمر بن




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #455  
قديم 09-12-2025, 04:37 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 168,686
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)



تفسير القرآن العظيم
(تفسير ابن كثير)

إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي
الجزء
(12)
.تفسير سورة الشورى
من صـ 286 الى صــ 303
الحلقة (455)





الخطاب رضي الله عنه الوفاة حين طعن جعل الأمر بعده شورى في ستة نفر وهم عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم فاجتمع رأي الصحابة كلهم رضي الله عنهم على تقديم عثمان عليهم رضي الله عنهم "ومما رزقناهم ينفقون" وذلك بالإحسان إلى خلق الله الأقرب إليهم منهم فالأقرب .
والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون (39)
والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون
أي فيهم قوة الانتصار ممن ظلمهم واعتدى عليهم ليسوا بالعاجزين ولا الأذلين بل يقدرون على الانتقام ممن بغى عليهم وإن كانوا مع هذا إذا قدروا عفوا كما قال يوسف عليه الصلاة والسلام لإخوته "لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم" مع قدرته على مؤاخذتهم ومقابلتهم على صنيعهم إليه وكما عفا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولئك النفر الثمانين الذين قصدوه عام الحديبية ونزلوا من جبل التنعيم فلما قدر عليهم من عليهم مع قدرته على الانتقام وكذلك عفوه صلى الله عليه وسلم عن غورث بن الحارث الذي أراد الفتك به حين اخترط سيفه وهو نائم فاستيقظ صلى الله عليه وسلم وهو في يده مصلتا فانتهره فوضعه من يده وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف في يده ودعا أصحابه ثم أعلمهم بما كان من أمره وأمر هذا الرجل وعفا عنه وكذلك عفا صلى الله عليه وسلم عن لبيد بن الأعصم الذي سحره عليه السلام ومع هذا لم يعرض له ولا عاتبه مع قدرته عليه وكذلك عفوه صلى الله عليه وسلم عن المرأة اليهودية - وهي زينب أخت مرحب اليهودي الخيبري الذي قتله محمود بن سلمة - التي سمت الذراع يوم خيبر - فأخبره الذراع بذلك - فدعاها فاعترفت فقال صلى الله عليه وسلم "ما حملك على ذلك ؟" قالت أردت إن كنت نبيا لم يضرك وإن لم تكن نبيا استرحنا منك فأطلقها عليه الصلاة والسلام ولكن لما مات منه بشر بن البراء رضي الله عنه قتلها به والأحاديث والآثار في هذا كثيرة جدا والله سبحانه وتعالى أعلم .

وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين (40)
وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين
قوله تبارك وتعالى "وجزاء سيئة سيئة مثلها" كقوله تعالى "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم" وكقوله "وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به" الآية فشرع العدل وهو القصاص وندب إلى الفضل وهو العفو كقوله جل وعلا "والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له" ولهذا قال ههنا "فمن عفا وأصلح فأجره على الله" أي لا يضيع ذلك عند الله كما صح ذلك في الحديث "وما زاد الله تعالى عبدا بعفو إلا عزا" وقوله تعالى "إنه لا يحب الظالمين" أي المعتدين وهو المبتدئ بالسيئة.
ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل (41)
ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئ²? ما عليهم من سبيل
أي ليس عليهم جناح في الانتصار ممن ظلمهم قال ابن جرير حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع حدثنا معاذ بن معاذ حدثنا ابن

عون قال كنت أسأل عن الانتصار "ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل" فحدثني علي بن زيد بن جدعان عن أم محمد امرأة أبيه - قال ابن عون : زعموا أنها كانت تدخل على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها - قالت : قالت أم المؤمنين رضي الله عنها دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندنا زينب بنت جحش رضي الله عنها فجعل صلى الله عليه وسلم يصنع بيده شيئا فلم يفطن لها فقلت بيده حتى فطنته لها فأمسك وأقبلت زينب رضي الله عنها تقحم لعائشة رضي الله عنها فنهاها فأبت أن تنتهي فقال لعائشة رضي الله عنها "سبيها" فسبتها فغلبتها وانطلقت زينب رضي الله عنها فأتت عليا رضي الله عنه فقالت إن عائشة تقع بكم وتفعل بكم فجاءت فاطمة رضي الله عنها فقال صلى الله عليه وسلم لها "إنها حبة أبيك ورب الكعبة" فانصرفت وقالت لعلي رضي الله عنه إني قلت له صلى الله عليه وسلم كذا وكذا فقال لي كذا وكذا قال وجاء علي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكلمه في ذلك هكذا أورد هذا السياق وعلي بن زيد بن جدعان يأتي في رواياته بالمنكرات غالبا وهذا فيه نكارة والصحيح خلاف هذا السياق كما رواه النسائي وابن ماجه من حديث خالد بن سلمة الفأفاء عن عبد الله البهي عن عروة قال : قالت عائشة رضي الله عنها ما علمت حتى دخلت على زينب بغير إذن وهي غضبى ثم قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حسبك إذا قلبت لك ابنة أبي بكر درعها ثم أقبلت علي فأعرضت عنها حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم "دونك فانتصري" فأقبلت عليها حتى رأيت ريقها قد يبس في فمها ما ترد علي شيئا فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتهلل وجهه وهذا لفظ النسائي.
وقال البزار حدثنا يوسف بن موسى حدثنا أبو غسان حدثنا أبو الأحوص عن أبي حمزة عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من دعا على من ظلمه فقد انتصر" ورواه الترمذي من حديث أبي الأحوص عن أبي حمزة واسمه ميمون ثم قال لا نعرفه إلا من حديثه وقد تكلم فيه من قبل حفظه.
إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم (42)
إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم
قوله عز وجل "إنما السبيل" أي إنما الحرج والعنت "على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق" أي يبدءون الناس بالظلم كما جاء في الحديث الصحيح "المستبان ما قالا فعلى البادئ ما لم يعتد المظلوم" "أولئك لهم عذاب أليم" أي شديد موجع .
قال أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا الحسن بن موسى حدثنا سعيد بن زيد أخو حماد بن زيد حدثنا عثمان الشحام حدثنا محمد بن واسع قال قدمت مكة فإذا على الخندق قنطرة فأخذت فانطلق بي إلى مروان بن المهلب وهو أمير على البصرة فقال ما حاجتك يا أبا عبد الله ؟ قلت حاجتي إن استطعت أن تكون كما كان أخو بني عدي قال ومن أخو بني عدي ؟ قال العلاء بن زياد استعمل صديقا له مرة على عمل فكتب إليه أما بعد فإن استطعت أن لا تبيت إلا وظهرك خفيف وبطنك خميص وكفك نقية من دماء المسلمين وأموالهم فإنك إذا فعلت ذلك لم يكن عليك سبيل "إنما السبيل على الذين"

يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم "فقال مروان صدق والله ونصح ثم قال ما حاجتك يا أبا عبد الله ؟ قلت حاجتي أن تلحقني بأهلي قال نعم رواه ابن أبي حاتم ."
ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور (43)
ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور
إن الله تعالى لما ذم الظلم وأهله وشرع القصاص قال نادبا إلى العفو والصفح "ولمن صبر وغفر" أي صبر على الأذى وستر السيئة "إن ذلك لمن عزم الأمور" قال سعيد بن جبير يعني لمن حق الأمور التي أمر الله تعالى بها أي لمن الأمور المشكورة والأفعال الحميدة التي عليها ثواب جزيل وثناء جميل وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عمران بن موسى الطرسوسي حدثنا عبد الصمد بن يزيد خادم الفضيل بن عياض قال سمعت الفضيل بن عياض يقول إذا أتاك رجل يشكو إليك رجلا فقل يا أخي اعف عنه فإن العفو أقرب للتقوى فإن قال لا يحتمل قلبي العفو ولكن أنتصر كما أمرني الله عز وجل فقل له إن كنت تحسن أن تنتصر وإلا فارجع إلى باب العفو فإنه باب واسع فإنه من عفا وأصلح فأجره على الله وصاحب العفو ينام على فراشه بالليل وصاحب الانتصار يقلب الأمور .
وقال الإمام أحمد حدثنا يحيى يعني ابن سعيد القطان عن ابن عجلان حدثنا سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال إن رجلا شتم أبا بكر رضي الله عنه والنبي صلى الله عليه وسلم جالس فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعجب ويتبسم فلما أكثر رد عليه بعض قوله فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقام فلحقه أبو بكر رضي الله عنه فقال يا رسول الله إنه

كان يشتمني وأنت جالس فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت قال "إنه كان معك ملك يرد عنك فلما رددت عليه بعض قوله حضر الشيطان فلم أكن لأقعد مع الشيطان - ثم قال - يا أبا بكر ثلاث كلهن حق ما من عبد ظلم بمظلمة فيغضي عنها لله إلا أعزه الله تعالى بها ونصره وما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة إلا زاده الله بها كثرة وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة إلا زاده الله عز وجل بها قلة" كذا رواه أبو داود عن عبد الأعلى بن حماد عن سفيان بن عيينة قال ورواه صفوان بن عيسى كلاهما عن محمد بن عجلان ورواه من طريق الليث عن سعيد المقبري عن بشير بن المحرر عن سعيد بن المسيب مرسلا وهذا الحديث في غاية الحسن في المعنى وهو مناسب للصديق رضي الله عنه .
ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل (44)
ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل
يقول تعالى مخبرا عن نفسه الكريمة أنه ما شاء كان ولا راد له وما لم يشأ لم يكن فلا موجد له وأنه من هداه فلا مضل له ومن يضلل الله فلا هادي له كما قال عز وجل "ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا" ثم قال عز وجل مخبرا عن الظالمين وهم المشركون بالله "لما رأوا العذاب" أي يوم القيامة تمنوا الرجعة إلى الدنيا "يقولون هل إلى مرد من سبيل" كما قال جل وعلا "ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون" .
وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي وقال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا إن الظالمين في عذاب مقيم (45)
وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي وقال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا إن الظالمين في عذاب مقيم
قوله عز وجل "وتراهم يعرضون عليها" أي على النار "خاشعين من الذل" أي الذي

قد اعتراهم بما أسلفوا من عصيان الله تعالى "ينظرون من طرف خفي" قال مجاهد يعني ذليل أي ينظرون إليها مسارقة خوفا منها والذي يحذرون منه واقع بهم لا محالة وما هو أعظم مما في نفوسهم أجارنا الله من ذلك "وقال الذين آمنوا" أي يقولون يوم القيامة "إن الخاسرين" أي الخسار الأكبر "الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة" أي ذهب بهم إلى النار فعدموا لذتهم في دار الأبد وخسروا أنفسهم وفرق بينهم وبين أحبابهم وأصحابهم وأهاليهم وقراباتهم فخسروهم "ألا إن الظالمين في عذاب مقيم" أي دائم سرمدي أبدي لا خروج لهم منها ولا محيد لهم عنها .
وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله ومن يضلل الله فما له من سبيل (46)
وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله ومن يضلل الله فما له من سبيل
أي ينقذوهم مما هم فيه من العذاب والنكال "ومن يضلل الله فما له من سبيل" أي ليس له خلاص .
استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ما لكم من ملجأ يومئذ وما لكم من نكير (47)
استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ما لكم من ملجإ يومئذ وما لكم من نكير
لما ذكر تعالى ما يكون في يوم القيامة من الأهوال والأمور العظام الهائلة حذر منه وأمر بالاستعداد له فقال "استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله" أي إذا أمر بكونه فإنه كلمح البصر يكون وليس له دافع ولا مانع .
وقوله عز وجل "ما لكم من ملجأ يومئذ وما لكم من نكير" أي ليس لكم حصن تتحصنون فيه ولا مكان يستركم وتتنكرون فيه فتغيبون عن بصره تبارك وتعالى بل هو محيط بكم بعلمه وبصره وقدرته فلا ملجأ منه إلا إليه "يقول الإنسان يومئذ أين المفر كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر" .
فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور (48)
فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور
قوله تعالى "فإن أعرضوا" يعني المشركين "فما أرسلناك عليهم حفيظا" أي لست عليهم بمصيطر وقال عز وجل "ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء" وقال تعالى "فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب" وقال جل وعلا ههنا "إن عليك إلا البلاغ" أي

إنما كلفناك أن تبلغهم رسالة الله إليهم ثم قال تبارك وتعالى "وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها" أي إذا أصابه رخاء ونعمة فرح بذلك "وإن تصبهم" يعني الناس "سيئة" أي جدب ونقمة وبلاء وشدة "فإن الإنسان كفور" أي يجحد ما تقدم من النعم ولا يعرف إلا الساعة الراهنة فإن أصابته نعمة أشر وبطر وإن أصابته محنة يئس وقنط كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء "يا معشر النساء تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار" فقالت امرأة ولم يا رسول الله ؟ فقال صلى الله عليه وسلم "لأنكن تكثرن الشكاية وتكفرن العشير لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم تركت يوما قالت ما رأيت منك خيرا قط" وهذا حال أكثر النساء إلا من هداه الله تعالى وألهمه رشده وكان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات فالمؤمن كما قال صلى الله عليه وسلم "إن أصابته سراء فشكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن" .
لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور (49)
لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور
يخبر تعالى أنه خالق السماوات والأرض ومالكهما والمتصرف فيهما وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وأنه يعطي من يشاء ويمنع من يشاء ولا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع وأنه يخلق ما يشاء "يهب لمن يشاء إناثا" أي يرزقه البنات فقط قال البغوي ومنهم لوط عليه الصلاة والسلام "ويهب لمن يشاء الذكور" أي يرزقه البنين فقط قال البغوي كإبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام لم يولد له أنثى.
أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير (50)
أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير
أي ويعطي لمن يشاء من الناس الزوجين الذكر والأنثى أي من هذا وهذا قال البغوي كمحمد صلى الله عليه وسلم "ويجعل من يشاء عقيما" أي لا يولد له قال البغوي كيحيى وعيسى عليهما الصلاة والسلام فجعل الناس أربعة أقسام منهم من يعطيه البنات ومنهم من يعطيه البنين ومنهم من يعطيه من النوعين ذكورا وإناثا ومنهم من يمنعه هذا وهذا فيجعله عقيما لا نسل له ولا ولد له "إنه عليم" أي بمن يستحق كل قسم من هذه الأقسام "قدير" أي على من يشاء من

تفاوت الناس في ذلك وهذا المقام شبيه بقوله تبارك وتعالى عن عيسى عليه الصلاة والسلام "ولنجعله آية للناس" أي دلالة لهم على قدرته تعالى وتقدس حيث خلق الخلق على أربعة أقسام فآدم عليه الصلاة والسلام مخلوق من تراب لا من ذكر ولا أنثى وحواء عليها السلام مخلوقة من ذكر بلا أنثى وسائر الخلق سوى عيسى عليه السلام من ذكر وأنثى وعيسى عليه السلام من أنثى بلا ذكر فتمت الدلالة بخلق عيسى ابن مريم عليهما الصلاة والسلام ولهذا قال تعالى "ولنجعله آية للناس" فهذا المقام في الآباء والمقام الأول في الأبناء وكل منهما أربعة أقسام فسبحان العليم القدير .
وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم (51)
وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم
هذه مقامات الوحي بالنسبة إلى جناب الله عز وجل وهو أنه تبارك وتعالى تارة يقذف في روع النبي صلى الله عليه وسلم شيئا لا يتمارى فيه أنه من الله عز وجل كما جاء في صحيح ابن حبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب" .
وقوله تعالى "أو من وراء حجاب" كما كلم موسى عليه الصلاة والسلام فإنه سأل الرؤية بعد التكليم فحجب عنها وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجابر بن عبد الله رضي الله عنهما "ما كلم الله أحدا إلا من وراء حجاب وإنه كلم أباك كفاحا" كذا جاء الحديث وكان قد قتل يوم أحد ولكن هذا في عالم البرزخ والآية إنما هي في الدار الدنيا وقوله عز وجل "أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء" كما ينزل جبريل عليه الصلاة والسلام وغيره من الملائكة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام "إنه علي حكيم" فهو علي عليم خبير حكيم

وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم (52)
وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم
قوله عز وجل "وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا" يعني القرآن "ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان" أي على التفصيل الذي شرع لك في القرآن "ولكن جعلناه" أي القرآن "نورا نهدي به من نشاء من عبادنا" كقوله تعالى "قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى" الآية وقوله تعالى "وإنك" أي يا محمد "لتهدي إلى صراط مستقيم" وهو الخلق القويم .
صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور (53)
صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور
"صراط الله" أي شرعه الذي أمر به الله "الذي له ما في السماوات وما في الأرض" أي ربهما ومالكهما والمتصرف فيهما والحاكم الذي لا معقب لحكمه "ألا إلى الله تصير الأمور" أي ترجع الأمور فيفصلها ويحكم فيها سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا

آخر تفسير سورة " [ حم ] الشورى " والحمد لله رب العالمين .

تفسير سورة الزخرف وهي مكية .
بسم الله الرحمن الرحيم

حم (1)
حم
قد اختلف المفسرون في الحروف المقطعة التي في أوائل السور فمنهم من قال هي مما استأثر الله بعلمه فردوا علمها إلى الله ولم يفسرها حكاه القرطبي في تفسيره عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين وقاله عامر الشعبي وسفيان الثوري والربيع بن خيثم واختاره أبو حاتم بن حبان .
ومنهم من فسرها واختلف هؤلاء في معناها فقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم إنما هي أسماء السور .
قال العلامة أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري في تفسيره وعليه إطباق الأكثر ونقل عن سيبويه أنه نص عليه ويعتضد لهذا بما ورد في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة "الم" السجدة و "هل أتى على الإنسان" وقال سفيان الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال : الم وحم والمص وص .
فواتح افتتح الله بها القرآن .
والكتاب المبين (2)
والكتاب المبين
أي البين الواضح الجلي المعاني والألفاظ لأنه نزل بلغة العرب التي هي أفصح اللغات للتخاطب بين الناس .
إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون (3)
إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون
قال تعالى "إنا جعلناه" أي أنزلناه "قرآنا عربيا" أي بلغة العرب فصيحا واضحا "لعلكم تعقلون" أي تفهمونه وتتدبرونه كما قال عز وجل "بلسان عربي مبين" .
وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم (4)
وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم
قوله تعالى "وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم" بين شرفه في الملإ الأعلى ليشرفه ويعظمه ويطيعه أهل الأرض فقال تعالى "وإنه" أي القرآن "في أم الكتاب" أي اللوح المحفوظ قاله ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد "لدينا" أي عندنا قاله قتادة وغيره "لعلي" أي ذو مكانة عظيمة وشرف وفضل قاله قتادة "حكيم" أي محكم بريء من اللبس والزيغ وهذا كله تنبيه على شرفه وفضله كما قال تبارك وتعالى "إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون تنزيل من رب العالمين" وقال تعالى "كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة" ولهذا استنبط العلماء رضي الله عنهم من هاتين الآيتين أن المحدث لا يمس المصحف كما ورد به الحديث إن صح لأن الملائكة يعظمون المصاحف المشتملة على القرآن في الملإ الأعلى فأهل الأرض

بذلك أولى وأحرى لأنه نزل عليهم وخطابه متوجه إليهم فهم أحق أن يقابلوه بالإكرام والتعظيم والانقياد له بالقبول والتسليم لقوله تعالى "وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم" .
أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين (5)
أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين
اختلف المفسرون في معناها فقيل معناها أتحسبون أن نصفح عنكم فلا نعذبكم ولم تفعلوا ما أمرتم به قاله ابن عباس رضي الله عنهما وأبو صالح ومجاهد والسدي واختاره ابن جرير

وقال قتادة في قوله تعالى "أفنضرب عنكم الذكر صفحا" والله لو أن هذا القرآن رفع حين ردته أوائل هذه الأمة لهلكوا ولكن الله تعالى عاد بعائدته ورحمته فكرره عليهم ودعاهم إليه عشرين سنة أو ما شاء الله من ذلك وقول قتادة لطيف المعنى جدا وحاصله أنه يقول في معناه أنه تعالى من لطفه ورحمته بخلقه لا يترك دعاءهم إلى الخير وإلى الذكر الحكيم وهو القرآن وإن كانوا مسرفين معرضين عنه بل أمر به ليهتدي به من قدر هدايته وتقوم الحجة على من كتب شقاوته ثم قال جل وعلا مسليا لنبيه صلى الله عليه وسلم في تكذيب من كذبه من قومه وآمرا له بالصبر عليهم .
وكم أرسلنا من نبي في الأولين (6)
وكم أرسلنا من نبي في الأولين
أي في شيع الأولين .
وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون (7)
وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون
أي يكذبونه ويسخرون به .
فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الأولين (8)
فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الأولين
أي فأهلكنا المكذبين بالرسل وقد كانوا أشد بطشا من هؤلاء المكذبين لك يا محمد كقوله عز وجل "أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة" والآيات في ذلك كثيرة جدا .
وقوله جل جلاله "ومضى مثل الأولين" قال مجاهد : سنتهم وقال قتادة : عقوبتهم وقال غيرهما : عبرتهم أي جعلناهم عبرة لمن بعدهم من المكذبين أن يصيبهم ما أصابهم كقوله تعالى في آخر هذه السورة "فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين" وكقوله جلت عظمته "سنة الله التي قد خلت في عباده" وقال عز وجل "ولن تجد لسنة الله تبديلا" .
ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم (9)
ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم

يقول تعالى ولئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين بالله العابدين معه غيره "من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم" أي ليعترفن بأن الخالق لذلك هو الله وحده لا شريك له وهم مع هذا يعبدون معه غيره من الأصنام والأنداد .
الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون (10)
الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون
أي فراشا قرارا ثابتة تسيرون عليها وتقومون وتنامون وتنصرفون مع أنها مخلوقة على تيار الماء لكنه أرساها بالجبال لئلا تميد هكذا ولا هكذا "وجعل لكم فيها سبلا" أي طرقا بين الجبال والأودية "لعلكم تهتدون" أي في سيركم من بلد إلى بلد وقطر إلى قطر وإقليم إلى إقليم .
والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون (11)
والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون
أي بحسب الكفاية لزروعكم وثماركم وشربكم لأنفسكم ولأنعامكم وقوله تبارك وتعالى "فأنشرنا به بلدة ميتا" أي أرضا ميتة فلما جاءها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ثم نبه تعالى بإحياء الأرض على إحياء الأجساد يوم المعاد بعد موتها فقال "كذلك تخرجون" .
والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون (12)
والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون
أي مما تنبت الأرض من سائر الأصناف من نبات وزروع وثمار وأزاهير وغير ذلك ومن الحيوانات على اختلاف أجناسها وأصنافها "وجعل لكم من الفلك" أي السفن "والأنعام ما تركبون" أي ذللها لكم وسخرها ويسرها لأكلكم لحومها وشربكم ألبانها وركوبكم ظهورها .
لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين (13)
لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين
أي لتستووا متمكنين مرتفعين "على ظهوره" أي على ظهور هذا الجنس "ثم تذكروا نعمة ربكم" أي فيما سخر لكم "إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين" أي مقاومين ولولا تسخير الله لنا هذا ما قدرنا عليه قال ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة والسدي وابن زيد : مقرنين أي مطيقين .
وإنا إلى ربنا
لمنقلبون (14)
وإنا إلى ربنا لمنقلبون
أي لصائرون إليه بعد مماتنا وإليه سيرنا الأكبر وهذا من باب التنبيه بسير الدنيا على سير الآخرة كما نبه بالزاد الدنيوي على الزاد الأخروي في قوله تعالى "وتزودوا فإن خير الزاد التقوى" وباللباس الدنيوي على الأخروي في قوله تعالى "وريشا ولباس التقوى ذلك خير" .
"ذكر الأحاديث الواردة عند ركوب الدابة" "حديث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب" رضي الله عنه .
قال الإمام حدثنا يزيد حدثنا شريك بن عبد الله عن أبي إسحاق عن علي بن ربيعة قال رأيت عليا رضي الله عنه أتي بدابة فلما وضع رجله في الركاب قال : بسم الله فلما استوى عليها قال : الحمد لله "سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون" ثم حمد الله تعالى ثلاثا وكبر ثلاثا ثم قال سبحانك لا إله إلا أنت قد ظلمت نفسي فاغفر لي ثم ضحك فقلت له مم ضحكت يا أمير المؤمنين ؟ فقال رضي الله عنه رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل مثل ما فعلت ثم ضحك فقلت مم ضحكت يا رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم "يعجب الرب تبارك وتعالى من عبده إذا قال رب اغفر لي ويقول علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب غيري ."
"وهكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث أبي الأحوص زاد النسائي ومنصور عن أبي إسحاق السبيعي عن علي بن ربيعة الأسدي الوالبي به وقال الترمذي حسن صحيح وقد قال عبد الرحمن بن مهدي عن شعبة قلت لأبي إسحاق السبيعي ممن سمعت"
هذا الحديث ؟ قال من يونس بن خباب فلقيت يونس بن خباب فقلت ممن سمعته ؟ فقال من رجل سمعه من علي بن ربيعة ورواه بعضهم عن يونس بن خباب عن شقيق بن عقبة الأسدي عن علي بن ربيعة الوالبي به "حديث عبد الله بن عباس" رضي الله عنهما قال الإمام أحمد حدثنا أبو المغيرة حدثنا أبو بكر بن عبد الله عن علي بن أبي طلحة عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال .
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أردفه على دابته فلما استوى عليها كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا وحمد ثلاثا وسبح ثلاثا وهلل الله واحدة ثم استلقى عليه وضحك ثم أقبل عليه فقال "ما من امرئ مسلم يركب دابة فيصنع كما صنعت إلا أقبل الله عز وجل عليه فضحك إليه كما ضحكت إليك" تفرد به أحمد ""


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #456  
قديم 09-12-2025, 04:42 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 168,686
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)



تفسير القرآن العظيم
(تفسير ابن كثير)

إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي
الجزء
(12)
تفسير سورة الزخرف
من صـ 304 الى صــ 317
الحلقة (456)






حديث عبد الله بن عمر "رضي الله عنهما قال الإمام أحمد حدثنا أبو كامل حدثنا حماد بن سلمة عن أبي الزبير عن علي بن عبد الله البارقي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركب راحلته كبر ثلاثا ثم قال" سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون - ثم يقول - اللهم إني أسألك في سفري هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى اللهم هون علينا السفر واطو لنا البعيد اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل اللهم اصحبنا في سفرنا واخلفنا في أهلنا "وكان صلى الله عليه وسلم إذا رجع إلى أهله قال" آيبون تائبون إن شاء الله عابدون لربنا حامدون "وهكذا رواه مسلم وأبو داود والنسائي من حديث ابن جريج والترمذي من حديث حماد بن سلمة كلاهما عن أبي الزبير به" حديث آخر "قال الإمام أحمد حدثنا محمد بن عبيد حدثنا محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم عن عمرو بن الحكم بن ثوبان عن أبي لاس الخزاعي قال حملنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على إبل من إبل الصدقة إلى الحج فقلنا يا رسول الله ما نرى أن تحملنا هذه فقال صلى الله عليه وسلم" ما من بعير إلا في ذروته شيطان فاذكروا اسم الله عليها إذا ركبتموها كما آمركم ثم امتهنوها لأنفسكم فإنما يحمل الله عز وجل "أبو لاس اسمه محمد بن الأسود بن خلف"

"حديث آخر" في معناه قال أحمد حدثنا عتاب أخبرنا عبد الله ح وعلي بن إسحاق أخبرنا عبد الله يعني ابن المبارك أخبرنا أسامة بن زيد أخبرني محمد بن حمزة أنه سمع أباه يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "على ظهر كل بعير شيطان فإذا ركبتموها فسموا الله عز وجل ثم لا تقصروا عن حاجاتكم" .
وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين (15)
وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين
يقول تعالى مخبرا عن المشركين فيما افتروه وكذبوه في جعلهم بعض الأنعام لطواغيتهم وبعضها لله تعالى كما ذكر الله عز وجل عنهم في سورة الأنعام في قوله تبارك وتعالى "وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون" وكذلك جعلوا له من قسمة البنات والبنين أخسهما وأردأهما وهو البنات كما قال تعالى "ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى" وقال جل وعلا ههنا "وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين"

أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين (16)
أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين
وهذا إنكار عليهم غاية الإنكار .
وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم (17)
وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم
ثم ذكر تمام الإنكار فقال جلت عظمته "وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم" أي إذا بشر أحد هؤلاء بما جعلوه لله من البنات يأنف من ذلك غاية الأنفة وتعلوه كآبة من سوء ما بشر به ويتوارى من القوم من خجله من ذلك يقول تبارك وتعالى فكيف تأنفون أنتم من ذلك وتنسبونه إلى الله عز وجل .
أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين (18)
أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين
أي المرأة ناقصة يكمل نقصها بلبس الحلي منذ تكون طفلة وإذا خاصمت فلا عبارة لها بل هي عاجزة عيية أومن يكون هكذا ينسب إلى جناب الله العظيم ؟ فالأنثى ناقصة الظاهر والباطن في الصورة والمعنى فيكمل نقص ظاهرها وصورتها بلبس الحلي وما في معناه ليجبر ما فيها من نقص كما قال بعض شعراء العرب
وما الحلي إلا زينة من نقيصة ... يتمم من حسن إذا الحسن قصرا
وأما إذا كان الجمال موفرا ... كحسنك لم يحتج إلى أن يزورا
وأما نقص معناها فإنها ضعيفة عاجزة عن الانتصار عند الانتصار لا عبارة لها ولا همة كما قال بعض العرب وقد بشر ببنت ما هي بنعم الولد نصرها بكاء وبرها سرقة .
وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون (19)
وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون
أي اعتقدوا فيهم ذلك فأنكر عليهم تعالى قولهم ذلك فقال "أشهدوا خلقهم" أي شاهدوه وقد خلقهم الله إناثا "ستكتب شهادتهم" أي بذلك "ويسألون" عن ذلك يوم القيامة وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد .
وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون (20)
وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون
أي لو أراد الله لحال بيننا وبين عبادة الأصنام التي هي على صورة الملائكة التي هي بنات الله فإنه عالم بذلك وهو يقررنا عليه فجمعوا بين أنواع كثيرة من الخطأ "أحدها" جعلهم لله تعالى ولدا تعالى وتقدس وتنزه عن ذلك علوا كبيرا "الثاني" دعواهم أنه اصطفى البنات على البنين فجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا "الثالث" عبادتهم لهم مع ذلك كله بلا دليل ولا برهان ولا إذن من الله عز وجل بل

بمجرد الآراء والأهواء والتقليد للأسلاف والكبراء والآباء والخبط في الجاهلية الجهلاء "الرابع" احتجاجهم بتقديرهم على ذلك قدرا وقد جهلوا في هذا الاحتجاج جهلا كبيرا فإنه تعالى قد أنكر ذلك عليهم أشد الإنكار فإنه منذ بعث الرسل وأنزل الكتب يأمر بعبادته وحده لا شريك له وينهى عن عبادة ما سواه قال تعالى "ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين" وقال عز وجل "واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون" وقال جل وعلا في هذه الآية بعد أن ذكر حجتهم هذه "ما لهم بذلك من علم" أي بصحة ما قالوه واحتجوا به "إن هم إلا يخرصون" أي يكذبون ويتقولون وقال مجاهد في قوله تعالى "ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون" يعني ما يعلمون قدرة الله تبارك وتعالى على ذلك.
أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون (21)
أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون
يقول تعالى منكرا على المشركين في عبادتهم غير الله بلا برهان ولا دليل ولا حجة "أم آتيناهم كتابا من قبله" أي من قبل شركهم "فهم به مستمسكون" أي فيما هم فيه أي ليس الأمر كذلك كقوله عز وجل "أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به مشركون" أي لم يكن ذلك .
بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون (22)
بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون
أي ليس لهم مستند فيما هم فيه من الشرك سوى تقليد الآباء والأجداد بأنهم كانوا على أمة والمراد بها

الذين ههنا وفي قوله تبارك تعالى "إن هذه أمتكم أمة واحدة" وقولهم "وإنا على آثارهم" أي ورائهم "مهتدون" دعوى منهم بلا دليل ثم بين جل وعلا أن مقالة هؤلاء قد سبقهم إليها أشباههم ونظراؤهم من الأمم السالفة المكذبة للرسل تشابهت قلوبهم فقالوا مثل مقالتهم "كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون" .
وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون (23)
لا يوجد تفسير لهذه الأية
قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون (24)
قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون
قال عز وجل "قل" أي يا محمد لهؤلاء المشركين "أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون" أي ولو علموا وتيقنوا صحة ما جئتهم به لما انقادوا لذلك لسوء قصدهم ومكابرتهم للحق وأهله .
فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين (25)
فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين
قال تعالى "فانتقمنا منهم" أي من الأمم المكذبة بأنواع من العذاب كما فصله تبارك وتعالى في قصصهم "فانظر كيف كان عاقبة المكذبين" أي كيف بادوا وهلكوا وكيف نجى الله المؤمنين .
وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون (26)
وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون

يقول تعالى مخبرا عن عبده ورسوله وخليله إمام الحنفاء ووالد من بعث بعده من الأنبياء الذي تنتسب إليه قريش في نسبها ومذهبها أنه تبرأ من أبيه وقومه في عبادتهم الأوثان .
إلا الذي فطرني فإنه سيهدين (27)
لا يوجد تفسير لهذه الأية
وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون (28)
وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون
أي هذه الكلمة وهي عبادة الله وحده لا شريك له وخلع ما سواه من الأوثان وهي لا إله إلا الله أي جعلها دائمة في ذريته يقتدي به فيها من هداه الله تعالى من ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام .
"لعلهم يرجعون" أي إليها قال عكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة والسدي وغيرهم في قوله عز وجل "وجعلها كلمة باقية في عقبه" يعني لا إله إلا الله لا يزال في ذريته من يقولها وروي نحوه عن ابن عباس رضي الله عنهما وقال ابن زيد كلمة الإسلام وهو يرجع إلى ما قاله الجماعة.
بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين (29)
بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين
قال جل وعلا "بل متعت هؤلاء" يعني المشركين "وآباءهم" أي فتطاول عليهم العمر في ضلالهم "حتى جاءهم الحق ورسول مبين" أي بين الرسالة والنذارة .
ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون (30)
ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون
أي كابروه وعاندوه ودفعوا بالصدور والراح كفرا وحسدا وبغيا .
وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم (31)
وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم
"وقالوا" أي كالمعترضين على الذي أنزله تعالى وتقدس "لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم" أي هلا كان إنزال هذا القرآن على رجل عظيم كبير في أعينهم من القريتين ؟ يعنون مكة والطائف قاله ابن عباس رضي الله عنهما وعكرمة ومحمد بن كعب القرظي وقتادة والسدي وابن زيد وقد ذكر غير واحد منهم أنهم أرادوا بذلك الوليد بن المغيرة وعروة بن مسعود الثقفي وقال مالك عن زيد بن أسلم والضحاك والسدي يعنون الوليد بن المغيرة ومسعود بن عمرو الثقفي

وعن مجاهد يعنون عمير بن عمرو بن مسعود الثقفي وعنه أيضا أنهم يعنون عتبة بن ربيعة وعن ابن عباس رضي الله عنهما جبارا من جبابرة قريش وعنه رضي الله عنهما أنهم يعنون الوليد بن المغيرة وحبيب بن عمرو بن عمير الثقفي وعن مجاهد يعنون عتبة بن ربيعة بمكة وابن عبد ياليل بالطائف وقال السدي عنوا بذلك الوليد بن المغيرة وكنانة بن عمرو بن عمير الثقفي والظاهر أن مرادهم رجل كبير من أي البلدتين كان .
أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون (32)
أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون
"أهم يقسمون رحمة ربك" أي ليس الأمر مردودا إليهم بل إلى الله عز وجل والله أعلم حيث يجعل رسالاته فإنه لا ينزلها إلا على أزكى الخلق قلبا ونفسا وأشرفهم بيتا وأطهرهم أصلا ثم قال عز وجل مبينا أنه قد فاوت بين خلقه فيما أعطاهم من الأموال والأرزاق والعقول والفهوم وغير ذلك من القوى الظاهرة والباطنة فقال "نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا" الآية .
وقوله جلت عظمته "ليتخذ بعضهم بعضا سخريا" قيل معناه ليسخر بعضهم بعضا في الأعمال لاحتياج هذا إلى هذا وهذا إلى هذا قاله السدي وغيره وقال قتادة والضحاك ليملك بعضهم بعضا وهو راجع إلى الأول ثم قال عز وجل "ورحمة ربك خير مما يجمعون" أي رحمة الله بخلقه خير لهم مما بأيديهم من الأموال ومتاع الحياة الدنيا.
ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون (33)
ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون
أي لولا أن يعتقد كثير من الناس الجهلة أن إعطاءنا المال دليل على محبتنا لمن أعطيناه فيجتمعوا على الكفر لأجل المال هذا معنى قول ابن عباس والحسن وقتادة والسدي وغيرهم "لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج" أي سلالم ودرجا من فضة .
قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي وابن زيد وغيرهم "عليها يظهرون" أي يصعدون .
ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون (34)
ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون
أي أغلاقا على أبوابهم "وسررا عليها يتكئون" أي جميع ذلك يكون فضة .
وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين (35)
وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين
والآخرة عند ربك للمتقين "" وزخرفا "أي وذهبا قاله ابن عباس وقتادة والسدي وابن زيد"

ثم قال تبارك وتعالى "وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا" أي إنما ذلك من الدنيا الفانية الزائلة الحقيرة عند الله تعالى أي يعجل لهم بحسناتهم التي يعملونها في الدنيا مآكل ومشارب ليوافوا الآخرة وليس لهم عند الله تبارك وتعالى حسنة يجزيهم بها كما ورد به الحديث الصحيح وورد في حديث آخر "لو أن الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء" أسنده البغوي من رواية زكريا بن منظور عن أبى حازم عن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره ورواه الطبراني من طريق زمعة بن صالح عن أبي حازم عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم "لو عدلت الدنيا عند الله جناح بعوضة ما أعطى كافرا منها شيئا" ثم قال سبحانه وتعالى "والآخرة عند ربك للمتقين" أي هي لهم خاصة لا يشاركهم فيها أحد غيرهم لهذا لما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين صعد إليه في تلك المشربة لما آلى صلى الله عليه وسلم من نسائه فرآه على رمال حصير قد أثر بجنبه فابتدرت عيناه بالبكاء وقال يا رسول الله هذا كسرى وقيصر فيما هما فيه وأنت صفوة الله من خلقه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا فجلس وقال "أو في شك أنت يا ابن الخطاب ؟" ثم قال صلى الله عليه وسلم "أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا" وفي رواية "أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة ؟" وفي الصحيح أيضا وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ."
ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة "وإنما خولهم الله تعالى في الدنيا لحقارتها كما روى الترمذي وابن ماجه من"

طريق أبي حازم عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء أبدا" قال الترمذي حسن صحيح .
ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين (36)
ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين
أي يتعامى ويتغافل ويعرض "عن ذكر الرحمن" والعشا في العين ضعف بصرها والمراد ههنا عشا البصيرة "نقيض له شيطانا فهو له قرين" كقوله تعالى "ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى" الآية وكقوله "فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم" وكقوله جل جلاله "وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم" .
وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون (37)
وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون
أي هذا الذي تغافل عن الهدى نقيض له من الشياطين من يضله ويهديه إلى صراط الجحيم.
حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين (38)
حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس
أي إذا وافى الله عز وجل يوم القيامة يتبرم من الشيطان الذي وكل به وقرأ بعضهم "حتى إذا جاءانا" يعني القرين والمقارن

قال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن سعيد الجريري قال : بلغنا أن الكافر إذا بعث من قبره يوم القيامة شفع بيده شيطان فلم يفارقه حتى يصيرهما الله تبارك وتعالى إلى النار فذلك حين يقول "يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين" والمراد بالمشرقين ههنا هو ما بين المشرق والمغرب وإنما استعمل ههنا تغليبا كما يقال : القمران والعمران والأبوان قاله ابن جرير وغيره .
ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون (39)
ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون
أي لا يغني عنكم اجتماعكم في النار واشتراككم في العذاب الأليم .
أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين (40)
أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين
أي ليس ذلك إليك إنما عليك البلاغ وليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء وهو الحكم العدل في ذلك .
فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون (41)
فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون
أي لا بد أن ننتقم منهم ونعاقبهم ولو ذهبت أنت.
أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون (42)
أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون
أي نحن قادرون على هذا وعلى هذا ولم يقبض الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم حتى أقر عينه من أعدائه وحكمه في نواصيهم وملكه ما تضمنته صياصيهم هذا معنى قول السدي واختاره ابن جرير وقال ابن جرير حدثنا ابن عبد الأعلى حدثنا أبو ثور عن معمر قال تلا قتادة "فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون" فقال ذهب النبي صلى الله عليه وسلم وبقيت النقمة ولم ير الله تبارك وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم في أمته شيئا يكرهه حتى مضى ولم يكن نبي قط إلا وقد رأى العقوبة في أمته إلا نبيكم صلى الله عليه وسلم قال وذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أري ما يصيب أمته من بعده فما رئي ضاحكا منبسطا حتى قبضه الله عز وجل

وذكر من رواية سعيد بن أبي عروبة عن قتادة نحوه ثم روى ابن جرير عن الحسن نحو ذلك أيضا وفي الحديث النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون .
فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم (43)
فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم
أي خذ بالقرآن المنزل على قلبك فإنه هو الحق وما يهدي إليه هو الحق المفضي إلى صراط الله المستقيم الموصل إلى جنات النعيم والخير الدائم المقيم .
وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون (44)
وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون
قيل معناه لشرف لك ولقومك قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومجاهد وقتادة والسدي .
وابن زيد واختاره ابن جرير ولم يحك سواه وأورد الترمذي ههنا حديث الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم عن معاوية رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إن هذا الأمر في قريش لا ينازعهم فيه أحد إلا أكبه الله تعالى على وجهه ما أقاموا الدين" رواه البخاري ومعناه أنه شرف لهم من حيث إنه أنزل بلغتهم فهم أفهم الناس له فينبغي أن يكونوا أقوم الناس به وأعملهم بمقتضاه وهكذا كان خيارهم وصفوتهم من الخلص من المهاجرين والسابقين الأولين ومن شابههم وتابعهم وقيل معناه "وإنه لذكر لك ولقومك" أي لتذكير لك ولقومك وتخصيصهم بالذكر لا ينفي من سواهم كقوله تعالى "لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون" وكقوله تبارك وتعالى "وأنذر عشيرتك الأقربين" "وسوف تسألون" أي عن هذا القرآن وكيف كنتم في العمل به والاستجابة له .
واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون (45)
واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون
وقوله سبحانه وتعالى "واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون"

أي جميع الرسل دعوا إلى ما دعوت الناس إليه من عبادة الله وحده لا شريك له ونهوا عن عبادة الأصنام والأنداد كقوله جلت عظمته "ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت" قال مجاهد في قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه واسأل الذين أرسلنا إليهم قبلك رسلنا وهكذا حكاه قتادة والضحاك والسدي وابن مسعود رضي الله عنه وهذا كأنه تفسير لا تلاوة والله أعلم .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم واسألهم ليلة الإسراء فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام جمعوا له واختار ابن جرير الأول والله أعلم .
ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فقال إني رسول رب العالمين (46)
ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فقال إني رسول رب العالمين
يقول تعالى مخبرا عن عبده ورسوله موسى عليه الصلاة والسلام أنه ابتعثه إلى فرعون وملئه من الأمراء والوزراء والقادة والأتباع والرعايا من القبط وبني إسرائيل يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له وينهاهم عن عبادة ما سواه وأنه بعث معه آيات عظاما كيده وعصاه وما أرسل معه من الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ومن نقص الزروع والأنفس والثمرات.
فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون (47)
فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون
ومع هذا كله استكبروا عن اتباعها والانقياد لها وكذبوها وسخروا منها وضحكوا ممن جاءهم بها .
وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون (48)
وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون
أي ومع هذا ما رجعوا عن غيهم وضلالهم وجهلهم وخبالهم .
وقالوا يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون (49)
وقالوا يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا
أي كلما جاءتهم آية من هذه الآيات يضرعون إلى موسى عليه الصلاة والسلام ويتلطفون له في العبارة بقولهم "يا أيها الساحر" أي العالم قاله ابن جرير وكان علماء زمانهم هم السحرة ولم يكن السحر في زمانهم مذموما عندهم فليس هذا

منهم على سبيل الانتقاص منهم لأن الحال حال ضرورة منهم إليه لا تناسب ذلك وإنما هو تعظيم في زعمهم ففي كل مرة يعدون موسى عليه السلام إن كشف عنهم هذا أن يؤمنوا به ويرسلوا معه بني إسرائيل .
فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون (50)
فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون
أي في كل مرة ينكثون ما عاهدوا عليه وهذا كقوله تبارك وتعالى "فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون" .
ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون (51)
ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا
يقول تعالى مخبرا عن فرعون وتمرده وعتوه وكفره وعناده أنه جمع قومه فنادى فيهم متبجحا مفتخرا بملك مصر وتصرفه فيها "أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي" قال قتادة قد كانت لهم جنات وأنهار ماء "أفلا تبصرون" أي أفلا ترون ما أنا فيه من العظمة والملك يعني وموسى وأتباعه فقراء ضعفاء وهذا كقوله تعالى "فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى فأخذه الله نكال الآخرة والأولى" .
أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين (52)
أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين
قال السدي يقول بل أنا خير من هذا الذي هو مهين وهكذا قال بعض نحاة البصرة : إن أم ههنا بمعنى بل ويؤيد هذا ما حكاه الفراء عن بعض القراء أنه قرأها "أما أنا خير من هذا الذي هو مهين" قال ابن جرير ولو صحت هذه القراءة لكان معناها صحيحا واضحا ولكنها خلاف قراءة الأمصار فإنهم قرءوا "أم أنا خير من هذا الذي هو مهين" على الاستفهام "قلت" وعلى كل تقدير فإنما يعني فرعون لعنه الله بذلك أنه خير من موسى عليه الصلاة والسلام وقد كذب في قوله هذا كذبا بينا واضحا فعليه لعائن الله المتتابعة إلى يوم

القيامة ويعني بقوله مهين كما قال سفيان حقير وقال قتادة والسدي يعني ضعيف وقال ابن جرير يعني لا ملك له ولا سلطان ولا مال "ولا يكاد يبين" يعني لا يكاد يفصح عن كلامه فهو عيي حصر قال السدي "لا يكاد يبين" أي لا يكاد يفهم وقال قتادة والسدي وابن جرير يعني عيي اللسان وقال سفيان يعني في لسانه شيء من الجمرة حين وضعها في فمه وهو صغير وهذا قاله فرعون لعنه الله كذب واختلاق وإنما حمله على هذا الكفر والعناد وهو ينظر إلى موسى عليه الصلاة والسلام بعين كافرة شقية وقد كان موسى عليه السلام من الجلالة والعظمة والبهاء في صورة يبهر أبصار ذوي الألباب وقوله "مهين" كذب بل هو المهين الحقير خلقة وخلقا ودينا وموسى هو الشريف الرئيس الصادق البار الراشد وقوله "ولا يكاد يبين" افتراء أيضا فإنه وإن كان قد أصاب لسانه في حال صغره شيء من جهة تلك الجمرة فقد سأل الله عز وجل أن يحل عقدة من لسانه ليفقهوا قوله وقد استجاب الله تبارك وتعالى له ذلك في قوله "قد أوتيت سؤلك يا موسى" وبتقدير أن يكون قد بقي شيء لم يسأل إزالته كما قاله الحسن البصري وإنما سأل زوال ما يحصل معه الإبلاغ والإفهام فالأشياء الخلقية التي ليست من فعل العبد لا يعاب بها ولا يذم عليها وفرعون وإن كان يفهم وله عقل فهو يدري هذا وإنما أراد الترويج على رعيته فإنهم كانوا جهلة أغبياء.
فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين (53)
فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين
وهي ما يجعل في الأيدي من الحلي قاله ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة وغير واحد "أو جاء معه الملائكة مقترنين" أي يكنفونه خدمة له ويشهدون بتصديقه نظر إلى الشكل الظاهر ولم يفهم السر المعنوي الذي هو أظهر مما نظر إليه لو كان يفهم .
فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين (54)
فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين
أي استخف عقولهم فدعاهم إلى الضلالة فاستجابوا له .
فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين (55)
فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما آسفونا أسخطونا


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #457  
قديم 09-12-2025, 04:47 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 168,686
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)



تفسير القرآن العظيم
(تفسير ابن كثير)

إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي
الجزء
(12)
تفسير سورة الزخرف
من صـ 318 الى صــ 331
الحلقة (457)






وقال الضحاك عنه أغضبونا وهكذا قال ابن عباس أيضا ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب القرظي وقتادة والسدي وغيرهم من المفسرين وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عبيد الله بن أخي ابن وهب حدثنا عمي حدثنا ابن لهيعة عن عقبة بن مسلم التجيبي عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا رأيت الله تبارك وتعالى يعطي العبد ما يشاء وهو مقيم على معاصيه فإنما ذلك استدراج منه له" ثم تلا صلى الله عليه وسلم "فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين" وحدثنا أبي حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني حدثنا قيس بن الربيع عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال كنت عند عبد الله رضي الله عنه فذكر عنده موت الفجأة فقال تخفيف على المؤمن وحسرة على الكافر ثم قرأ رضي الله عنه "فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين" وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وجدت النقمة مع الغفلة يعني قوله تبارك وتعالى "فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين" .
فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين (56)
فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين
قال أبو مجلز سلفا لمثل من عمل بعملهم وقال هو ومجاهد ومثلا أي عبرة لمن بعدهم والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب .
ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون (57)
ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون

يقول تعالى مخبرا عن تعنت قريش في كفرهم وتعمدهم العناد والجدل "ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون" قال غير واحد عن ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وعكرمة والسدي والضحاك يضحكون أي أعجبوا بذلك وقال قتادة يجزعون ويضحكون وقال إبراهيم النخعي يعرضون وكأن السبب في ذلك ما ذكره محمد بن إسحاق في السيرة حيث قال : وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني يوما مع الوليد بن المغيرة في المسجد فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم وفي المجلس غير واحد من رجال قريش فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض له النضر بن الحارث فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه ثم تلا عليه وعليهم "إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون" الآيات .
ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل عبد الله بن الزبعرى التميمي حتى جلس فقال الوليد بن المغيرة له : والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب وما قعد وقد زعم محمد أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم فقال عبد الله بن الزبعرى أما والله لو وجدته لخصمته سلوا محمدا أكل ما يعبد من دون الله في جهنم مع من عبده ؟ فنحن نعبد الملائكة واليهود تعبد عزيرا والنصارى تعبد المسيح عيسى ابن مريم فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول عبد الله بن الزبعرى ورأوا أنه قد احتج وخاصم فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده فإنهم إنما يعبدون الشيطان ومن أمرهم بعبادته" فأنزل الله عز وجل "إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون" أي عيسى وعزير ومن عبد معهما من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله عز وجل فاتخذهم من بعدهم من أهل الضلالة أربابا من دون الله ونزل فيما يذكر من أنهم يعبدون الملائكة وأنهم بنات الله "وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون" الآيات ونزل فيما يذكر من

أمر عيسى عليه الصلاة والسلام وأنه يعبد من دون الله وعجب الوليد ومن حضر من حجته وخصومته "ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون" أي يصدون عن أمرك بذلك من قوله .
ثم ذكر عيسى عليه الصلاة والسلام فقال "إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون وإنه لعلم للساعة" أي ما وضع على يديه من الآيات من إحياء الموتى وإبراء الأسقام فكفى به دليلا على علم الساعة يقول "فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم" وذكر ابن جرير من رواية العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله "ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون" قال يعني قريشا لما قيل لهم "إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون" إلى آخر الآيات فقالت له قريش فما ابن مريم ؟ قال "ذاك عبد الله ورسوله" فقالوا والله ما يريد هذا إلا أن نتخذه ربا كما اتخذت النصارى عيسى ابن مريم ربا فقال الله عز وجل "ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون" .
وقال الإمام أحمد حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا شيبان عن عاصم بن أبي النجود عن أبي رزين عن أبي يحيى مولى ابن عقيل الأنصاري قال : قال ابن عباس رضي الله عنهما : لقد علمت آية من القرآن ما سألني عنها رجل قط ولا أدري أعلمها الناس فلم يسألوا عنها أم لم يفطنوا لها فيسألوا عنها قال ثم طفق يحدثنا فلما قام تلاومنا أن لا نكون سألناه عنها فقلت أنا لها إذا راح غدا فلما راح الغد قلت يا ابن عباس ذكرت أمس أن آية من القرآن لم يسألك عنها رجل قط فلا يدري أعلمها الناس أم لم يفطنوا لها فقلت أخبرني عنها وعن اللاتي قرئت قبلها قال رضي الله عنه نعم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال

لقريش "يا معشر قريش إنه ليس أحد يعبد من دون الله فيه خير" وقد علمت قريش أن النصارى تعبد عيسى ابن مريم عليهما الصلاة والسلام وما تقول في محمد صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد ألست تزعم أن عيسى عليه الصلاة والسلام كان نبيا وعبدا من عباد الله صالحا فإن كنت صادقا كان آلههم كما تقولون قال فأنزل الله عز وجل "ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون" قلت ما يصدون ؟ قال يضحكون "وإنه لعلم للساعة" قال هو خروج عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام قبل يوم القيامة وقال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن يعقوب الدمشقي حدثنا آدم حدثنا شيبان عن عاصم بن أبي النجود عن أبي أحمد مولى الأنصار عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا معشر قريش إنه ليس أحد يعبد من دون الله فيه خير" فقالوا له ألست تزعم أن عيسى كان نبيا وعبدا من عباد الله صالحا فقد كان يعبد من دون الله ؟ فأنزل الله عز وجل "ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون" وقال مجاهد في قوله تعالى "ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون" قالت قريش إنما يريد محمد أن نعبده كما عبد قوم عيسى عيسى عليه السلام ونحو هذا قال قتادة .
وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون (58)
وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون
قال قتادة يقولون آلهتنا خير منه وقال قتادة قرأ ابن مسعود رضي الله عنه وقولوا أآلهتنا خير أم هذا يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم .
وقوله تبارك وتعالى "ما ضربوه لك إلا جدلا" أي مراء وهم يعلمون أنه ليس بوارد على الآية لأنها لما لا يعقل وهي قوله تعالى "إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم" ثم هي خطاب لقريش وهم إنما كانوا يعبدون الأصنام والأنداد ولم يكونوا يعبدون المسيح حتى يوردوه فتعين أن مقالتهم إنما كانت جدلا منهم ليسوا يعتقدون صحتها وقد قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى حدثنا ابن نمير حدثنا حجاج بن دينار عن أبي غالب عن أبي أمامة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أورثوا الجدل" ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية "ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون"

وقد رواه الترمذي وابن ماجه وابن جرير من حديث حجاج بن دينار به ثم قال الترمذي حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديثه كذا قال وقد روي من وجه آخر عن أبي أمامة رضي الله عنه بزيادة فقال ابن أبي حاتم حدثنا حميد بن عياش الرملي حدثنا مؤمل حدثنا حماد أخبرنا ابن مخزوم عن القاسم بن أبي عبد الرحمن السامي عن أبي أمامة رضي الله عنه قال حماد لا أدري رفعه أم لا ؟ قال : ما ضلت أمة بعد نبيها إلا كان أول ضلالها التكذيب بالقدر وما ضلت أمة بعد نبيها إلا أعطوا الجدل ثم قرأ "ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون" وقال ابن جرير أيضا حدثنا أبو كريب حدثنا أحمد بن عبد الرحمن عن عبادة بن عباد عن جعفر عن القاسم عن أبي أمامة رضي الله عنه قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على الناس وهم يتنازعون في القرآن فغضب غضبا شديدا حتى كأنما صب على وجهه الخل ثم قال صلى الله عليه وسلم "لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض فإنه ما ضل قوم قط إلا أوتوا الجدل" ثم تلا صلى الله عليه وسلم "ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون" .
إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل (59)
إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل
قوله تعالى "إن هو إلا عبد أنعمنا عليه" يعني عيسى عليه الصلاة والسلام ما هو إلا عبد من عباد الله عز وجل أنعم الله عليه بالنبوة والرسالة "وجعلناه مثلا لبني إسرائيل" أي دلالة وحجة وبرهانا على قدرتنا على ما نشاء .
ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون (60)
ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون
وقوله عز وجل "ولو نشاء لجعلنا منكم" أي بدلكم "ملائكة في الأرض يخلفون" قال السدي يخلفونك فيها وقال ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة يخلف بعضهم بعضا كما يخلف بعضكم بعضا وهذا القول يستلزم الأول وقال مجاهد يعمرون الأرض بدلكم .

وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم (61)
وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم
قوله سبحانه وتعالى "وإنه لعلم للساعة" تقدم تفسير ابن إسحاق أن المراد من ذلك ما بعث به عيسى عليه الصلاة والسلام من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وغير ذلك من الأسقام وفي هذا نظر وأبعد منه ما حكاه قتادة عن الحسن البصري وسعيد بن جبير أن الضمير في وإنه عائد على القرآن بل الصحيح أنه عائد على عيسى عليه الصلاة والسلام فإن السياق في ذكره ثم المراد بذلك نزوله قبل يوم القيامة كما قال تبارك وتعالى "وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته" أي قبل موت عيسى عليه الصلاة والسلام "ثم يوم القيامة يكون عليهم شهيدا" ويؤيد هذا المعنى القراءة الأخرى "وإنه لعلم للساعة" أي أمارة ودليل على وقوع الساعة قال مجاهد "وإنه لعلم للساعة" أي آية للساعة خروج عيسى ابن مريم عليه السلام قبل يوم القيامة وهكذا روي عن أبي هريرة وابن عباس وأبي العالية وأبي مالك وعكرمة والحسن وقتادة والضحاك وغيرهم وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخبر بنزول عيسى عليه السلام قبل يوم القيامة إماما عادلا وحكما مقسطا .
وقوله تعالى "فلا تمترن بها" أي لا تشكوا فيها إنها واقعة وكائنة لا محالة "واتبعون" أي فيما أخبركم به .
ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين (62)
ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين
أي عن اتباع الحق .
ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون (63)
ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون
"ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة" أي بالنبوة "ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه" قال ابن جرير يعني من الأمور الدينية لا الدنيوية وهذا الذي قاله حسن جيد ثم رد قول من زعم أن بعض ههنا بمعنى كل واستشهد بقول لبيد الشاعر حيث قال :
تزال أمكنة إذا لم أرضها ... أو يتعلق بعض النفوس حمامها
وأولوه على أنه أراد جميع النفوس ; قال ابن جرير وإنما أراد نفسه فقط وعبر بالبعض عنها وهذا الذي قاله محتمل

وقوله عز وجل "فاتقوا الله" أي فيما أمركم به "وأطيعون" فيما جئتكم به .
إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم (64)
إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم
أي أنا وأنتم عبيد له فقراء إليه مشتركون في عبادته وحده لا شريك له "هذا صراط مستقيم" أي هذا الذي جئتكم به هو الصراط المستقيم وهو عبادة الرب جل وعلا وحده .
فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم (65)
فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم
أي اختلفت الفرق وصاروا شيعا فيه منهم من يقر بأنه عبد الله ورسوله وهو الحق ومنهم من يدعي أنه ولد الله ومنهم من يقول إنه الله تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا .
ولهذا قال تعالى "فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم" .
هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون (66)
هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون
يقول تعالى هل ينتظر هؤلاء المشركون المكذبون للرسل "إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون" أي فإنها كائنة لا محالة وواقعة وهؤلاء غافلون عنها غير مستعدين فإذا جاءت إنما تجيء وهم لا يشعرون بها فحينئذ يندمون كل الندم حيث لا ينفعهم ولا يدفع عنهم .
الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين (67)
الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين
أي كل صداقة وصحابة لغير الله فإنها تنقلب يوم القيامة عداوة إلا ما كان لله عز وجل فإنه دائم بدوامه وهذا كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام لقومه "إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين"

وقال عبد الرزاق أخبرنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه "الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين" قال خليلان مؤمنان وخليلان كافران فتوفي أحد المؤمنين وبشر بالجنة فذكر خليله فقال اللهم إن فلانا خليلي كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك ويأمرني بالخير وينهاني عن الشر وينبئني أني ملاقيك اللهم فلا تضله بعدي حتى تريه مثل ما أريتني وترضى عنه كما رضيت عني فيقال له اذهب فلو تعلم ما له عندي لضحكت كثيرا وبكيت قليلا قال ثم يموت الآخر فتجتمع أرواحهما فيقال ليثن أحدكما على صاحبه فيقول كل واحد منهما لصاحبه نعم الأخ ونعم الصاحب ونعم الخليل وإذا مات أحد الكافرين وبشر بالنار ذكر خليله فيقول اللهم إن خليلي فلانا كان يأمرني بمعصيتك ومعصية رسولك ويأمرني بالشر وينهاني عن الخير ويخبرني أني غير ملاقيك اللهم فلا تهده بعدي حتى تريه مثل ما أريتني وتسخط عليه كما سخطت علي قال فيموت الكافر الآخر فيجمع بين أرواحهما فيقال ليثن كل واحد منكما على صاحبه فيقول كل واحد منهما لصاحبه بئس الأخ وبئس الصاحب وبئس الخليل .
رواه ابن أبي حاتم وقال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وقتادة صارت كل خلة عداوة يوم القيامة إلا المتقين وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة هشام بن أحمد عن هشام بن عبد الله بن كثير حدثنا أبو جعفر محمد بن الخضر بالرقة عن معافى حدثنا حكيم بن نافع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لو أن رجلين تحابا في الله أحدهما بالمشرق والآخر بالمغرب لجمع الله تعالى بينهما يوم القيامة يقول هذا الذي أحببته في" .
يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون (68)
يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم
أي بشرهم .
الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين (69)
الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين
أي آمنت قلوبهم وبواطنهم وانقادت لشرع الله جوارحهم وظواهرهم قال المعتمر بن سليمان عن أبيه إذا كان يوم القيامة فإن الناس حين يبعثون لا يبقى أحد منهم

إلا فزع فنادى مناد "يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون" فيرجوها الناس كلهم قال فيتبعها "الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين" قال فييأس الناس منها غير المؤمنين.
ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون (70)
ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون
أي يقال لهم ادخلوا الجنة "أنتم وأزواجكم" أي نظراؤكم "تحبرون" أي تتنعمون وتسعدون قال يحيى بن أبي كثير يعني سماع الغناء .
والحبرة أعم من هذا كله قال العجاج : فالحمد لله الذي أعطى الحبر موالي الحق إن المولى شكر .
يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون (71)
يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون
أي زبادي آنية الطعام "وأكواب" وهي آنية الشراب أي من ذهب لا خراطيم لها ولا عرى "وفيها ما تشتهي الأنفس" وقرأ بعضهم تشتهيه الأنفس "وتلذ الأعين" أي طيب الطعم والريح وحسن المنظر قال عبد الرزاق أخبرنا معمر أخبرني إسماعيل بن أبي سعيد قال : إن عكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنهما أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن أدنى أهل الجنة منزلة وأسفلهم درجة لرجل لا يدخل الجنة بعده أحد يفسح له في بصره مسيرة مائة عام في قصور من ذهب وخيام من لؤلؤ ليس فيها موضع شبر إلا معمور يغدى عليه ويراح بسبعين ألف صحفة من ذهب ليس فيها صحفة إلا فيها لون ليس في الأخرى مثله شهوته في آخرها كشهوته في أولها لو نزل به جميع أهل الأرض لوسع عليهم مما أعطي لا ينقص ذلك مما أوتي شيئا" وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد حدثنا عمرو بن سواد السرحي حدثني عبد الله بن وهب عن ابن لهيعة عن عقيل بن خالد عن الحسن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أبا أمامة رضي الله عنه حدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثهم وذكر الجنة فقال "والذي نفس محمد بيده ليأخذن أحدكم اللقمة فيجعلها في فيه ثم يخطر على باله طعام آخر فيتحول الطعام الذي في فيه على الذي اشتهى" ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم "وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون" وقال الإمام أحمد حدثنا حسن هو ابن موسى حدثنا مسكين بن عبد العزيز حدثنا

أبو الأشعث الضرير عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أدنى أهل الجنة منزلة من له لسبع درجات وهو على السادسة وفوقه السابعة وإن له ثلثمائة خادم ويغدى عليه ويراح كل يوم بثلثمائة صحفة - ولا أعلمه إلا قال من ذهب - في كل صحفة لون ليس في الأخرى وإنه ليلذ أوله كما يلذ آخره ومن الأشربة ثلثمائة إناء في كل إناء لون ليس في الآخر وإنه ليلذ أوله كما يلذ آخره وإنه ليقول يا رب لو أذنت لي لأطعمت أهل الجنة وسقيتهم لم ينقص مما عندي شيء وإن له من الحور العين لاثنين وسبعين زوجة سوى أزواجه من الدنيا وإن الواحدة منهن لتأخذ مقعدها قدر ميل من الأرض" .
وقوله تعالى "وأنتم فيها" أي في الجنة "خالدون" أي لا تخرجون منها ولا تبغون عنها حولا .
وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون (72)
وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون
ثم قيل لهم على وجه التفضل والامتنان "وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون" أي أعمالكم الصالحة كانت سببا لشمول رحمة الله إياكم فإنه لا يدخل أحدا عمله الجنة ولكن برحمة الله وفضله وإنما الدرجات ينال تفاوتها بحسب الأعمال الصالحات قال ابن أبي حاتم حدثنا الفضل بن شاذان المقري حدثنا يوسف بن يعقوب يعني الصفار حدثنا أبو بكر بن عياش عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كل أهل النار يرى منزله من الجنة حسرة فيكون له فيقول" لو أن الله هداني لكنت من المتقين "وكل أهل الجنة يرى منزله من النار فيقول" وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله "فيكون له شكرا" قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار فالكافر يرث المؤمن منزله من النار والمؤمن يرث الكافر منزله من الجنة" وذلك قوله تعالى "وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون" .
لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون (73)
لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون
قوله تعالى "لكم فيها فاكهة كثيرة" أي من جميع الأنواع "منها تأكلون" أي

مهما اخترتم وأردتم ولما ذكر الطعام والشراب ذكر بعده الفاكهة لتتم النعمة والغبطة والله تعالى أعلم .
إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون (74)
إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون
لما ذكر تعالى حال السعداء ثنى بذكر الأشقياء فقال "إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون" .
لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون (75)
لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون
أي ساعة واحدة "وهم فيه مبلسون" أي آيسون من كل خير .
وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين (76)
وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين
أي بأعمالهم السيئة بعد قيام الحجة عليهم وإرسال الرسل إليهم فكذبوا وعصوا فجوزوا بذلك جزاء وفاقا وما ربك بظلام للعبيد .
ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون (77)
ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم
"ونادوا يا مالك" وهو خازن النار قال البخاري حدثنا حجاج بن منهال حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن عطاء عن صفوان بن يعلى عن أبيه رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ على المنبر "ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك" أي يقبض أرواحنا فيريحنا مما نحن فيه فإنهم كما قال تعالى "لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها" وقال عز وجل "ويتجنبها الأشقى الذي يصلى النار الكبرى ثم لا يموت فيها ولا يحيا" فلما سألوا أن يموتوا أجابهم مالك "قال إنكم ماكثون" قال ابن عباس مكث ألف سنة ثم قال إنكم ماكثون رواه ابن أبي حاتم أي لا خروج لكم منها ولا محيد لكم عنها ثم ذكر سبب شقوتهم وهو مخالفتهم للحق ومعاندتهم له .
لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون (78)
لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون
قال "لقد جئناكم بالحق" أي بيناه لكم ووضحناه وفسرناه "ولكن أكثركم للحق كارهون" أي ولكن كانت سجاياكم لا تقبله ولا تقبل عليه وإنما تنقاد للباطل وتعظمه وتصد عن الحق وتأباه وتبغض أهله فعودوا على أنفسكم بالملامة واندموا حيث لا تنفعكم الندامة .

أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون (79)
أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون
قال مجاهد أرادوا كيد شر فكدناهم وهذا الذي قاله مجاهد كما قال تعالى "ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون" وذلك لأن المشركين كانوا يتحيلون في رد الحق بالباطل بحيل ومكر يسلكونه فكادهم الله تعالى ورد وبال ذلك عليهم .
أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون (80)
أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون
قال "أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم" أي سرهم وعلانيتهم "بلى ورسلنا لديهم يكتبون" أي نحن نعلم ما هم عليه والملائكة أيضا يكتبون أعمالهم صغيرها وكبيرها .
قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين (81)
قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين
يقول تعالى "قل" يا محمد "إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين" أي لو فرض هذا لعبدته على ذلك لأني عبد من عبيده مطيع لجميع ما يأمرني به ليس عندي استكبار ولا إباء عن عبادته فلو فرض هذا لكان هذا ولكن هذا ممتنع في حقه تعالى والشرط لا يلزم منه الوقوع ولا الجواز أيضا كما قال عز وجل "لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار" وقال بعض المفسرين في قوله تعالى "فأنا أول العابدين" أي الآنفين ومنهم سفيان الثوري والبخاري حكاه فقال ويقال أول العابدين الجاحدين من عبد يعبد وذكر ابن جرير لهذا القول من الشواهد ما رواه عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب

حدثني ابن أبي ذئب عن أبي قسيط عن بعجة بن بدر الجهني أن امرأة منهم دخلت على زوجها وهو رجل منهم أيضا فولدت له في ستة أشهر فذكر ذلك زوجها لعثمان بن عفان رضي الله عنه فأمر بها أن ترجم فدخل عليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال إن الله تعالى يقول في كتابه "وحمله وفصاله ثلاثون شهرا" وقال عز وجل "وفصاله في عامين" قال فوالله ما عبد عثمان رضي الله عنه أن بعث إليها ترد قال يونس قال ابن وهب عبد استنكف وقال الشاعر :
متى ما يشأ ذو الود يصرم خليله ... ويعبد عليه لا محالة ظالما
وهذا القول فيه نظر لأنه كيف يلتئم مع الشرط فيكون تقديره إن كان هذا فأنا ممتنع منه ؟ هذا فيه نظر فليتأمل اللهم إلا أن يقال إن إن ليست شرطا وإنما هي نافية كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى "قل إن كان للرحمن ولد" يقول لم يكن للرحمن ولد فأنا أول الشاهدين وقال قتادة هي كلمة من كلام العرب "إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين" أي إن ذلك لم يكن فلا ينبغي وقال أبو صخر "قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين" أي فأنا أول من عبده بأن لا ولد له وأول من وحده وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وقال مجاهد "فأنا أول العابدين" أي أول من عبده ووحده وكذبكم وقال البخاري "فأنا أول العابدين" الآنفين وهما لغتان رجل عابد وعبد والأول أقرب على أنه شرط وجزاء ولكن هو ممتنع وقال السدي "قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين" يقول لو كان له ولد كنت أول من عبده بأن له ولد ولكن لا ولد له وهو اختيار ابن جرير ورد قول
من زعم أن إن نافية .
سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عما يصفون (82)
سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عما يصفون
أي تعالى وتقدس وتنزه خالق الأشياء عن أن يكون له ولد فإنه فرد أحد لا نظير له ولا كفء له فلا ولد له .
فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون (83)
فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون
"فذرهم يخوضوا" أي في جهلهم وضلالهم "ويلعبون" في دنياهم "حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون" وهو يوم القيامة أي فسوف يعلمون كيف يكون مصيرهم ومآلهم وحالهم في ذلك اليوم .
وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم (84)
وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم
أي هو إله من في السماء وإله من في الأرض يعبده أهلهما وكلهم خاضعون له أذلاء بين يديه "هو الحكيم العليم" وهذه الآية كقوله سبحانه وتعالى "وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون" أي هو المدعو الله في السموات والأرض .
وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون (85)
وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون
أي هو خالقهما ومالكهما والمتصرف فيهما بلا مدافعة ولا ممانعة فسبحانه وتعالى عن الولد وتبارك أي استقر له السلامة من العيوب والنقائص لأنه الرب العلي العظيم المالك للأشياء الذي بيده أزمة الأمور نقضا وإبراما "وعنده علم الساعة" أي لا يجليها لوقتها إلا هو "وإليه ترجعون" أي فيجازي كلا بعمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر .
ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون (86)
ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون
"ولا يملك الذين يدعون من دونه" أي من الأصنام والأوثان "الشفاعة" أي لا يقدرون على الشفاعة لهم "إلا من شهد بالحق وهم يعلمون" هذا استثناء منقطع أي لكن من شهد بالحق على بصيرة وعلم فإنه تنفع شفاعته عنده بإذنه له .
ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون (87)
ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون
أي ولئن سألت هؤلاء المشركين بالله العابدين معه غيره "من خلقهم ليقولن الله" أي هم يعترفون أنه الخالق للأشياء جميعها وحده لا شريك له في ذلك ومع هذا يعبدون معه غيره ممن لا يملك شيئا ولا يقدر على شيء فهم في ذلك في غاية الجهل والسفاهة وسخافة العقل ولهذا قال تعالى "فأنى يؤفكون" .
وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون (88)
وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا
أي وقال محمد صلى الله عليه وسلم قيله أي شكا إلى ربه شكواه من قومه الذين كذبوه فقال يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون كما أخبر تعالى في الآية الأخرى "وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا" وهذا الذي



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #458  
قديم 09-12-2025, 04:54 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 168,686
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)



تفسير القرآن العظيم
(تفسير ابن كثير)

إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي
الجزء
(12)
تفسير سورة الدخان
من صـ 332 الى صــ 345
الحلقة (458)





قلناه هو قول ابن مسعود رضي الله عنه ومجاهد وقتادة وعليه فسر ابن جرير قال البخاري وقرأ عبد الله يعني ابن مسعود رضي الله عنه "وقال الرسول يا رب" وقال مجاهد في قوله "وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون" قال يؤثر الله عز وجل قول محمد صلى الله عليه وسلم وقال قتادة هو قول نبيكم صلى الله عليه وسلم يشكو قومه إلى ربه عز وجل ثم حكى ابن جرير في قوله تعالى "وقيله يا رب" قراءتين إحداهما النصب ولها توجيهان أحدهما أنه معطوف على قوله تبارك وتعالى "نسمع سرهم ونجواهم" والثاني أن يقدر فعل وقال قيله والثانية الخفض وقيله عطفا على قوله "وعنده علم الساعة" وتقديره وعلم قيله .
فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون (89)
فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون
أي المشركين "وقل سلام" أي لا تجاوبهم بمثل ما يخاطبونك به من الكلام السيئ ولكن تألفهم واصفح عنهم فعلا وقولا "فسوف يعلمون" هذا تهديد من الله تعالى لهم ولهذا أحل بهم بأسه الذي لا يرد وأعلى دينه وكلمته وشرع بعد ذلك الجهاد والجلاد حتى دخل الناس في دين الله أفواجا وانتشر الإسلام في المشارق والمغارب والله أعلم .
آخر تفسير سورة الزخرف .
تفسير سورة الدخان وهي مكية
حم (1)
حم
سورة الدخان : قال الترمذي حدثنا سفيان بن وكيع حدثنا زيد بن الحباب عن عمرو بن أبي خثعم عن يحيى بن أبى كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من قرأ حم الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك" ثم قال غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وعمرو بن أبي خثعم يضعف قال البخاري منكر الحديث ثم قال حدثنا نصر بن عبد الرحمن الكوفي حدثنا زيد بن الحباب عن هشام أبي المقدام عن الحسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من قرأ حم الدخان في ليلة الجمعة غفر له" ثم قال غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وهشام أبو المقدام يضعف والحسن لم يسمع من أبي هريرة رضي الله عنه كذا قال أيوب ويونس بن عبيد وعلي بن زيد رحمة الله عليهم أجمعين : وفي مسند البزار من رواية أبي الطفيل عامر بن واثلة عن زيد بن حارثة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابن صياد "إني قد خبأت خبيئا فما هو" وخبأ له رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الدخان فقال هو الدخ فقال "اخسأ ما شاء الله" ثم انصرف .

بسم الله الرحمن الرحيم يقول تعالى مخبرا عن القرآن العظيم .
والكتاب المبين (2)
والكتاب المبين
يقول تعالى مخبرا عن القرآن العظيم .
إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين (3)
إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين
إنا أنزلناه في ليلة القدر وكان ذلك في شهر رمضان كما قال تبارك وتعالى "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن" وقد ذكرنا الأحاديث الواردة في ذلك في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته ومن قال إنها ليلة النصف من شعبان كما روي عن عكرمة فقد أبعد النجعة فإن نص القرآن أنها في رمضان.
والحديث الذي رواه عبد الله بن صالح عن الليث عن عقيل عن الزهري أخبرني عثمان بن محمد بن المغيرة بن الأخنس قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان حتى إن الرجل لينكح ويولد له وقد أخرج اسمه في الموتى" فهو حديث مرسل ومثله لا يعارض به النصوص .
وقوله عز وجل "إنا كنا منذرين" أي معلمين الناس ما ينفعهم ويضرهم شرعا لتقوم حجة الله على عباده .
فيها يفرق كل أمر حكيم (4)
فيها يفرق كل أمر حكيم
فيها يفرق كل أمر حكيم "أي في ليلة القدر يفصل من اللوح المحفوظ إلى الكتبة أمر السنة وما يكون فيها من الآجال والأرزاق وما يكون فيها إلى آخرها وهكذا"

روي عن ابن عمر ومجاهد وأبي مالك والضحاك وغير واحد من السلف .
وقوله جل وعلا "حكيم" أي محكم لا يبدل ولا يغير .
أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين (5)
أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين
"أمرا من عندنا" أي جميع ما يكون ويقدره الله تعالى وما يوحيه فبأمره وإذنه وعلمه "إنا كنا مرسلين" أي إلى الناس رسولا يتلو عليهم آيات الله مبينات فإن الحاجة كانت ماسة إليه .
رحمة من ربك إنه هو السميع العليم (6)
رحمة من ربك إنه هو السميع العليم
أي الذي أنزل القرآن هو رب السموات والأرض .
رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين (7)
رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين
رب السموات والأرض وما بينهما وخالقهما ومالكهما وما فيهما إن كنتم موقنين أي إن كنتم متحققين.
لا إله إلا هو يحيي ويميت ربكم ورب آبائكم الأولين (8)
لا إله إلا هو يحيي ويميت ربكم ورب آبائكم الأولين
قال تعالى "لا إله إلا هو يحيي ويميت ربكم ورب آبائكم الأولين" وهذه الآية كقوله تعالى "قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت" الآية .
بل هم في شك يلعبون (9)
بل هم في شك يلعبون
يقول تعالى بل هؤلاء المشركون في شك يلعبون أي قد جاءهم الحق اليقين وهم يشكون فيه ويمترون ولا يصدقون به .
فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين (10)
فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين
"فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين" قال سليمان بن مهران الأعمش عن أبي الضحى مسلم بن صبيح عن مسروق قال دخلنا المسجد يعني مسجد الكوفة عند أبواب كندة فإذا رجل يقص على أصحابه "يوم تأتي السماء بدخان مبين" تدرون ما ذلك الدخان ؟ ذلك دخان يأتي يوم القيامة فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم ويأخذ المؤمنين منه شبه الزكام قال فأتينا ابن مسعود رضي الله عنه فذكرنا ذلك له وكان مضطجعا ففزع فقعد وقال إن الله عز وجل قال لنبيكم صلى الله عليه وسلم "قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين" إن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم الله أعلم سأحدثكم عن ذلك إن قريشا لما أبطأت عن الإسلام

واستعصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بسنين كسني يوسف فأصابهم من الجهد والجوع حتى أكلوا العظام والميتة وجعلوا يرفعون أبصارهم إلى السماء فلا يرون إلا الدخان وفي رواية فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد قال الله تعالى "فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم" فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له يا رسول الله استسق الله لمضر فإنها قد هلكت فاستسقى صلى الله عليه وسلم لهم فسقوا فنزلت "إنا كاشفو العذاب قليلا إنكم عائدون" قال ابن مسعود رضي الله عنه فيكشف عنهم العذاب يوم القيامة فلما أصابهم الرفاهية عادوا إلى حالهم فأنزل الله عز وجل "يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون" قال يعني يوم بدر قال ابن مسعود رضي الله عنه فقد مضى خمسة : الدخان والروم والقمر والبطشة واللزام وهذا الحديث مخرج في الصحيحين ورواه الإمام أحمد في مسنده وهو عند الترمذي والنسائي في تفسيريهما وعند ابن جرير وابن أبي حاتم من طرق متعددة عن الأعمش به وقد وافق ابن مسعود رضي الله عنه على تفسير الآية بهذا وأن الدخان مضى جماعة من السلف : كمجاهد وأبي العالية وإبراهيم النخعي والضحاك وعطية العوفي وهو اختيار ابن جرير وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا جعفر بن مسافر حدثنا يحيى بن حسان حدثنا ابن لهيعة حدثنا عبد الرحمن الأعرج في قوله عز وجل "يوم تأتي السماء بدخان مبين" قال كان يوم فتح مكة وهذا القول غريب جدا بل منكر وقال آخرون لم يمض الدخان بعد بل هو من أمارات الساعة كما تقدم من حديث
أبي سريحة حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه قال أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من غرفة ونحن نتذاكر الساعة فقال صلى الله عليه وسلم "لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات : طلوع الشمس من مغربها والدخان والدابة وخروج يأجوج ومأجوج وخروج عيسى ابن مريم والدجال وثلاثة خسوف : خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس - أو تحشر الناس - تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا" تفرد بإخراجه مسلم في صحيحه وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابن صياد "إنى خبأت لك"

خبيئا "قال هو الدخ فقال صلى الله عليه وسلم له" اخسأ فلن تعدو قدرك "قال وخبأ له رسول الله صلى الله عليه وسلم" فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين "وهذا فيه إشعار بأنه من المنتظر المرتقب وابن صياد كاشف على طريقة الكهان بلسان الجان وهم يقرظون العبارة ولهذا قال هو الدخ يعني الدخان فعندها عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم مادته وأنها شيطانية فقال صلى الله عليه وسلم" اخسأ فلن تعدو قدرك "ثم قال ابن جرير وحدثني عصام بن رواد بن الجراح حدثنا أبي حدثنا سفيان بن أبي سعيد الثوري حدثنا منصور بن المعتمر عن ربعي بن حراش قال سمعت حذيفة بن اليمان رضي الله عنه يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" إن أول الآيات الدجال ونزول عيسى ابن مريم عليهما الصلاة والسلام ونار تخرج من قعر عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر تقيل معهم إذا قالوا والدخان - قال حذيفة رضي الله عنه يا رسول الله وما الدخان ؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية "فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم" - يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوما وليلة وأما المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكمة وأما الكافر فيكون بمنزلة السكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره "قال ابن جرير لو صح هذا الحديث لكان فاصلا وإنما لم أشهد له بالصحة لأن محمد بن خلف العسقلاني حدثني أنه سأل روادا عن هذا الحديث هل سمعه من سفيان ؟ فقال له لا قال أقرأته عليه ؟ قال لا قال : فقلت له أقرئ عليه وأنت حاضر فأقر به فقال لا فقلت له فمن أين جئت به فقال جاءني به قوم فعرضوه علي وقالوا لي سمعه منا فقرءوه علي ثم ذهبوا فحدثوا به عني أو كما"
قال وقد أجاد ابن جرير في هذا الحديث ههنا فإنه موضوع بهذا السند وقد أكثر ابن جرير من سياقه في أماكن من هذا التفسير وفيه منكرات كثيرة جدا ولا سيما في أول سورة بني إسرائيل في ذكر المسجد الأقصى والله أعلم
وقال ابن جرير أيضا حدثني محمد بن عوف حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش حدثني أبي حدثني ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن ربكم أنذركم ثلاثا الدخان يأخذ المؤمن كالزكمة ويأخذ الكافر فينتفخ حتى يخرج من كل مسمع منه والثانية الدابة والثالثة الدجال" ورواه الطبراني عن هاشم بن يزيد عن محمد بن إسماعيل بن عياش به وهذا إسناد جيد

وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة حدثنا صفوان حدثنا الوليد حدثنا خليل عن الحسن عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "يهيج الدخان بالناس فأما المؤمن فيأخذه كالزكمة وأما الكافر فينفخه حتى يخرج من كل مسمع منه" ورواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه موقوفا وروى سعيد بن عوف عن الحسن مثله .
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن صالح بن مسلم حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه قال : لم تمض آية الدخان بعد يأخذ المؤمن كهيئة الزكام وتنفخ الكافر حتى ينفذ .
وروى ابن جرير من حديث الوليد بن جميع عن عبد الملك بن المغيرة عن عبد الرحمن بن السليماني عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : يخرج الدخان فيأخذ المؤمن كهيئة الزكام ويدخل مسامع الكافر والمنافق حتى يكون كالرأس الحنيذ أي المشوي على الرضف ثم قال ابن جرير حدثني يعقوب حدثنا ابن علية عن ابن جريج عن عبد الله بن أبي مليكة قال غدوت على ابن عباس رضي الله عنهما ذات يوم فقال ما نمت الليلة حتى أصبحت قلت لم ؟ قال : قالوا طلع الكوكب ذو الذنب فخشيت أن يكون الدخان قد طرق فما نمت حتى أصبحت

وهكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن ابن عمر عن سفيان عن عبد الله بن أبي يزيد عن عبد الله بن أبي مليكة عن ابن عباس رضي الله عنهما فذكره وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس رضي الله عنهما حبر الأمة وترجمان القرآن وهكذا قول من وافقه من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين مع الأحاديث المرفوعة من الصحاح والحسان وغيرهما التي أوردوها مما فيه مقنع ودلالة ظاهرة على أن الدخان من الآيات المنتظرة مع أنه ظاهر القرآن قال الله تبارك وتعالى "فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين" أي بين واضح يراه كل أحد وعلى ما فسر به ابن مسعود رضي الله عنه إنما هو خيال رأوه في أعينهم من شدة الجوع والجهد .
يغشى الناس هذا عذاب أليم (11)
يغشى الناس هذا عذاب أليم
قوله تعالى "يغشى الناس" أي يتغشاهم ويعميهم ولو كان أمرا خياليا يخص أهل مكة المشركين لما قيل فيه "يغشى الناس" .
وقوله تعالى "هذا عذاب أليم" أي يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا كقوله عز وجل "يوم يدعون إلى نار جهنم دعا هذه النار التي كنتم بها تكذبون" أو يقول بعضهم لبعض ذلك .
ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون (12)
ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون
قوله سبحانه وتعالى "ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون" أي يقول الكافرون إذا عاينوا عذاب الله وعقابه سائلين رفعه وكشفه عنهم كقوله جلت عظمته "ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين" وكذا قوله جل وعلا "وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال" .
أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين (13)
أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين
قال جل وعلا ههنا "أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين" يقول كيف لهم بالتذكر وقد أرسلنا إليهم رسولا بين الرسالة والنذارة .
ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون (14)
ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون
"ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون" ومع هذا تولوا عنه وما وافقوه بل كذبوه وقالوا معلم مجنون وهذا كقوله جلت عظمته "يوم يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى" الآية وكقوله عز وجل "ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد" إلى آخر السورة .
إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون (15)
إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون
قوله تعالى "إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون" يحتمل معنيين "أحدهما" أنه يقول تعالى ولو كشفنا عنكم العذاب ورجعناكم إلى الدار الدنيا لعدتم إلى ما كنتم فيه من الكفر والتكذيب كقوله تعالى "ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون" وكقوله جلت عظمته "ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم"

لكاذبون "" والثاني "أن يكون المراد إنا مؤخرو العذاب عنكم قليلا بعد انعقاد أسبابه ووصوله إليكم وأنتم مستمرون فيما أنتم فيه من الطغيان والضلال ولا يلزم من الكشف عنهم أن يكون باشرهم كقوله تعالى" إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين "ولم يكن العذاب باشرهم واتصل بهم بل كان قد انعقد سببه عليهم ولا يلزم أيضا أن يكونوا قد أقلعوا عن كفرهم ثم عادوا إليه قال الله تعالى إخبارا عن شعيب عليه السلام أنه قال لقومه حين قالوا لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وشعيب عليه السلام لم يكن قط على ملتهم وطريقتهم وقال قتادة إنكم عائدون إلى عذاب الله ."
يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون (16)
يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون
فسر ذلك ابن مسعود رضي الله عنه بيوم بدر وهذا قول جماعة ممن وافق ابن مسعود رضي الله عنه على تفسيره الدخان بما تقدم وروي أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما من رواية العوفي عنه وعن أبي بن كعب رضي الله عنه وهو محتمل والظاهر أن ذلك يوم القيامة وإن كان يوم بدر يوم بطشة أيضا قال ابن جرير حدثني يعقوب حدثنا ابن علية حدثنا خالد الحذاء عن عكرمة قال : قال ابن عباس رضي الله عنهما قال ابن مسعود رضي الله عنه : البطشة الكبرى يوم بدر وأنا أقول هي يوم القيامة وهذا إسناد صحيح عنه وبه يقول الحسن البصري وعكرمة في أصح الروايتين عنه والله أعلم.
ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم (17)
ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم

يقول تعالى ولقد اختبرنا قبل هؤلاء المشركين قوم فرعون وهم قبط مصر "وجاءهم رسول كريم" يعني موسى كليمه عليه الصلاة والسلام .
أن أدوا إلي عباد الله إني لكم رسول أمين (18)
أن أدوا إلي عباد الله إني لكم رسول أمين
"أن أدوا إلي عباد الله" كقوله عز وجل "أن أرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى" وقوله جل وعلا "إني لكم رسول أمين" أي مأمون على ما أبلغكموه .
وأن لا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين (19)
وأن لا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين
قوله تعالى "وأن لا تعلوا على الله" أي لا تستكبروا عن اتباع آياته والانقياد لحججه والإيمان ببراهينه كقوله عز وجل "إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين" "إني آتيكم بسلطان مبين" أي بحجة ظاهرة واضحة وهي ما أرسله الله تعالى به من الآيات البينات والأدلة القاطعات.
وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون (20)
وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون
قال ابن عباس رضي الله عنهما وأبو صالح هو الرجم باللسان وهو الشتم وقال قتادة الرجم بالحجارة أي أعوذ بالله الذي خلقني وخلقكم من أن تصلوا إلي بسوء من قول أو فعل .
وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون (21)
وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون
أي فلا تتعرضوا لي ودعوا الأمر بيني وبينكم مسالمة إلى أن يقضي الله بيننا فلما طال مقامه صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم وأقام حجج الله تعالى عليهم كل ذلك وما زادهم ذلك إلا كفرا وعنادا دعا ربه عليهم دعوة نفذت فيهم كما قال تبارك وتعالى

"وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما" .
فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون (22)
فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون
هكذا قال ههنا "فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون" فعند ذلك أمره الله تعالى أن يخرج ببني إسرائيل من بين أظهرهم من غير أمر فرعون ومشاورته واستئذانه ولهذا قال جل جلاله .
فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون (23)
فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون
كما قال تعالى "ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى" .
واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون (24)
واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون
وذلك أن موسى عليه الصلاة والسلام لما جاوز هو وبنو إسرائيل البحر أراد موسى أن يضربه بعصاه حتى يعود كما كان ليصير حائلا بينهم وبين فرعون فلا يصل إليهم فأمره الله تعالى أن يتركه على حاله ساكنا وبشره بأنهم جند مغرقون فيه وأنه لا يخاف دركا ولا يخشى قال ابن عباس رضي الله عنهما واترك البحر رهوا كهيئه وامضه وقال مجاهد رهوا طريقا يبسا كهيئه يقول لا تأمره يرجع اتركه حتى يرجع آخرهم وكذا قال عكرمة والربيع بن أنس والضحاك وقتادة وابن زيد وكعب الأحبار وسماك بن حرب وغير واحد .
كم تركوا من جنات وعيون (25)
كم تركوا من جنات وعيون
وهي البساتين "وعيون وزروع" والمراد بها الأنهار والآبار .
وزروع ومقام كريم (26)
وزروع ومقام كريم
"ومقام كريم" وهي المساكن الأنيقة والأماكن الحسنة .
وقال مجاهد وسعيد بن جبير "ومقام كريم" المنابر وقال ابن لهيعة عن وهب بن عبد الله المعافري عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال نيل مصر سيد الأنهار سخر الله تعالى له كل نهر بين المشرق والمغرب وذلله له فإذا أراد الله عز وجل أن يجري نيل مصر أمر كل نهر أن يمده فأمدته الأنهار بمائها وفجر الله تبارك وتعالى له الأرض عيونا فإذا انتهى جريه إلى ما أراد الله جل وعلا أوحى الله تعالى إلى كل ماء أن يرجع إلى عنصره وقال في قول الله تعالى "فأخرجناهم من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين" قال كانت الجنان بحافتي نهر النيل من أوله إلى آخره في الشقين جميعا ما بين أسوان إلى رشيد وكان له تسع خليج : خليج الإسكندرية وخليج دمياط وخليج سردوس وخليج منف وخليج الفيوم وخليج المنتهى متصلة لا ينقطع منها شيء عن شيء وزرع ما بين الجبلين كله من أول مصر إلى آخر ما يبلغه الماء وكانت جميع أرض

مصر تروى من ستة عشر ذراعا لما قدروا ودبروا من قناطرها وجسورها وخلجها .
ونعمة كانوا فيها فاكهين (27)
ونعمة كانوا فيها فاكهين
"ونعمة كانوا فيها فاكهين" أي عيشة كانوا يتفكهون فيها فيأكلون ما شاءوا ويلبسون ما أحبوا مع الأموال أو الجاهات والحكم في البلاد فسلبوا ذلك جميعه في صبيحة واحدة وفارقوا الدنيا وصاروا إلى جهنم وبئس المصير واستولى على البلاد المصرية وتلك الحواصل الفرعونية والممالك القبطية بنو إسرائيل كما قال تبارك وتعالى "كذلك وأورثناها بني إسرائيل" وقال في الآية الأخرى "وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون" .
كذلك وأورثناها قوما آخرين (28)
كذلك وأورثناها قوما آخرين
قال عز وجل ههنا "كذلك وأورثناها قوما آخرين" وهم بنو إسرائيل كما تقدم .
فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين (29)
فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين
قوله سبحانه وتعالى "فما بكت عليهم السماء والأرض" أي لم تكن لهم أعمال صالحة تصعد في أبواب السماء فتبكي على فقدهم ولا لهم في الأرض بقاع عبدوا الله تعالى فيها فقدتهم فلهذا استحقوا أن لا ينظروا ولا يؤخروا لكفرهم وإجرامهم وعتوهم وعنادهم .
قال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده حدثنا أحمد بن إسحاق البصري حدثنا مكي بن إبراهيم حدثنا موسى بن عبيدة حدثني يزيد الرقاشي حدثني أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ما من عبد إلا وله في السماء بابان : باب يخرج منه رزقه وباب يدخل منه عمله وكلامه فإذا مات فقداه وبكيا عليه" وتلا هذه الآية "فما بكت عليهم السماء والأرض" وذكر أنهم لم يكونوا عملوا على الأرض عملا صالحا يبكي عليهم ولم يصعد لهم إلى السماء من كلامهم ولا من عملهم كلام طيب ولا عمل صالح فتفقدهم فتبكي عليهم ورواه ابن أبي حاتم من حديث موسى بن عبيدة وهو الربذي .
وقال ابن جرير حدثني يحيى بن طلحة حدثني عيسى بن يونس عن صفوان بن عمرو عن شريح بن عبيد الحضرمي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الإسلام بدأ"

غريبا وسيعود غريبا كما بدأ ألا لا غربة على مؤمن ما مات مؤمن في غربة غابت عنه فيها بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض - ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم - فما بكت عليهم السماء والأرض - ثم قال - إنهما لا يبكيان على الكافر "وقال ابن أبى حاتم حدثنا أحمد بن عصام حدثنا أبو أحمد يعني الزبيري حدثنا العلاء بن صالح عن المنهال بن عمرو عن عباد بن عبد الله قال سأل رجل عليا رضي الله عنه هل تبكي السماء والأرض على أحد ؟ فقال له لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك إنه ليس من عبد إلا له مصلى في الأرض مصعد عمله من السماء وإن آل فرعون لم يكن لهم عمل صالح في الأرض ولا عمل يصعد في السماء ثم قرأ علي رضي الله عنه" فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين "وقال ابن جرير حدثنا أبو كريب حدثنا طلق بن غنام عن زائدة عن منصور عن منهال عن سعيد بن جبير قال أتى ابن عباس رضي الله عنهما رجل فقال يا أبا العباس أرأيت قول الله تعالى" فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين "فهل تبكي السماء والأرض على أحد ؟ قال رضي الله عنه نعم إنه ليس أحد من الخلائق إلا وله باب في السماء منه ينزل رزقه وفيه يصعد عمله فإذا مات المؤمن فأغلق بابه من السماء الذي كان يصعد فيه عمله وينزل منه رزقه ففقده بكى عليه وإذا فقده مصلاه من الأرض التي كان يصلي فيها ويذكر الله عز وجل فيها بكت عليه وإن قوم فرعون لم تكن لهم في الأرض آثار صالحة ولم يكن يصعد إلى الله عز وجل منهم خير فلم تبك عليهم السماء والأرض وروى العوفي عن ابن عباس نحو هذا ."
وقال سفيان الثوري عن أبي يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان يقال تبكي الأرض على المؤمن أربعين صباحا وكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وغير واحد وقال مجاهد أيضا ما مات مؤمن إلا بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحا قال : فقلت له أتبكي الأرض ؟ فقال أتعجب ؟ وما للأرض لا تبكي على عبد كان يعمرها بالركوع والسجود ؟ وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتكبيره وتسبيحه فيها دوي كدوي النحل

وقال قتادة كانوا أهون على الله عز وجل من أن تبكي عليهم السماء والأرض وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا عبد السلام بن عاصم حدثنا إسحاق بن إسماعيل حدثنا المستورد بن سابق عن عبيد المكتب عن إبراهيم قال ما بكت السماء منذ كانت الدنيا إلا على اثنين قلت لعبيد أليس السماء والأرض تبكي على المؤمن ؟ قال ذاك مقامه حيث يصعد عمله قال وتدري ما بكاء السماء ؟ قلت لا قال تحمر وتصير وردة كالدهان : إن يحيى بن زكريا عليه الصلاة والسلام لما قتل احمرت السماء وقطرت دما وإن الحسين بن علي رضي الله عنهما لما قتل احمرت السماء .
وحدثنا علي بن الحسين حدثنا أبو غسان محمد بن عمرو زنيج حدثنا جرير عن يزيد بن أبي زياد قال لما قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما احمرت آفاق السماء أربعة أشهر قال يزيد واحمرارها بكاؤها وهكذا قال السدي في الكبير وقال عطاء الخراساني بكاؤها أن تحمر أطرافها وذكروا أيضا في مقتل الحسين رضي الله عنه أنه ما قلب حجر يومئذ إلا وجد تحته دم عبيط وأنه كسفت الشمس واحمر الأفق وسقطت حجارة وفي كل من ذلك نظر والظاهر أنه من سخف الشيعة وكذبهم ليعظموا الأمر ولا شك أنه عظيم ولكن لم يقع هذا الذي اختلقوه وكذبوه وقد وقع ما هو أعظم من قتل الحسين رضي الله عنه ولم يقع شيء مما ذكروه فإنه قد قتل أبوه علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو أفضل منه بالإجماع ولم يقع شيء من ذلك وعثمان بن عفان رضي الله عنه قتل محصورا مظلوما ولم يكن شيء من ذلك وعمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل في المحراب في صلاة الصبح وكأن المسلمين لم تطرقهم مصيبة قبل ذلك ولم يكن شيء من ذلك وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سيد البشر في الدنيا والآخرة يوم مات لم يكن شيء مما ذكروه ويوم مات إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم خسفت الشمس فقال الناس خسفت لموت إبراهيم فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الكسوف وخطبهم وبين لهم أن الشمس والقمر لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته .
ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين (30)
ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين
قوله تبارك وتعالى "ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين" يمتن عليهم تعالى بذلك حيث أنقذهم مما كانوا فيه من إهانة فرعون وإذلاله




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #459  
قديم 09-12-2025, 05:00 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 168,686
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)



تفسير القرآن العظيم
(تفسير ابن كثير)

إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي
الجزء
(12)
تفسير سورة الجاثية
من صـ 346 الى صــ 358
الحلقة (459)





لهم وتسخيره إياهم في الأعمال المهينة الشاقة .
من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين (31)
من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين
وقوله تعالى "من فرعون إنه كان عاليا" أي مستكبرا جبارا عنيدا كقوله عز وجل "إن فرعون علا في الأرض" وقوله جلت عظمته فاستكبروا وكانوا قوما عالين "من المسرفين أي مسرف في أمره سخيف الرأي على نفسه ."
ولقد اخترناهم على علم على العالمين (32)
ولقد اخترناهم على علم على العالمين
قال مجاهد "اخترناهم على علم على العالمين" على من هم بين ظهريه وقال قتادة اختيروا على أهل زمانهم ذلك وكان يقال إن لكل زمان عالما وهذا كقوله تعالى "قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس" أي أهل زمانه ذلك كقوله عز وجل لمريم عليها السلام "واصطفاك على نساء العالمين" أي في زمنها فإن خديجة رضي الله عنها إما أفضل منها أو مساوية لها في الفضل وكذا آسية بنت مزاحم امرأة فرعون وفضل عائشة رضي الله عنه على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام .
وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين (33)
وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين
قوله جل جلاله "وآتيناهم من الآيات" أي الحجج والبراهين وخوارق العادات "ما فيه بلاء مبين" أي اختبار ظاهر جلي لمن اهتدى به .
إن هؤلاء ليقولون (34)
إن هؤلاء ليقولون
يقول تعالى منكرا على المشركين في إنكارهم البعث والمعاد وأنه ما ثم إلا هذه الحياة الدنيا ولا حياة بعد الممات ولا بعث ولا نشور ويحتجون بآبائهم الماضين الذين ذهبوا فلم يرجعوا فإن كان البعث حقا "فأتوا بأبائنا إن كنتم صادقين" .
إن هي إلا موتتنا الأولى وما نحن بمنشرين (35)
إن هي إلا موتتنا الأولى وما نحن بمنشرين
يقول تعالى منكرا على المشركين في إنكارهم البعث والمعاد وأنه ما ثم إلا هذه الحياة الدنيا ولا حياة بعد الممات ولا بعث ولا نشور ويحتجون بآبائهم الماضين الذين ذهبوا فلم يرجعوا فإن كان البعث حقا "فأتوا بأبائنا إن كنتم صادقين" .
فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين (36)
فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين
وهذه حجة باطلة وشبهة فاسدة فإن المعاد إنما هو يوم القيامة لا في الدار الدنيا بل بعد انقضائها "وذهابها" وفراغها يعيد الله العالمين خلقا جديدا ويجعل الظالمين لنار جهنم وقودا يوم "تكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ."
أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين (37)
أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين
ثم قال تعالى متهددا لهم ومتوعدا ومنذرا لهم بأسه الذي لا يرد كما حل بأشباههم ونظرائهم من المشركين المنكرين للبعث كقوم تبع وهم سبأ حيث أهلكهم الله

عز وجل وخرب بلادهم وشردهم في البلاد وفرقهم شذر مذر كما تقدم ذلك في سورة سبأ وهي مصدرة بإنكار المشركين للمعاد وكذلك ههنا شبههم بأولئك وقد كانوا عربا من قحطان كما أن هؤلاء عرب من عدنان وقد كانت حمير وهم سبأ كلما ملك فيهم رجل سموه تبعا كما يقال كسرى لمن ملك الفرس وقيصر لمن ملك الروم وفرعون لمن ملك مصر كافرا والنجاشي لمن ملك الحبشة وغير ذلك من أعلام الأجناس ولكن اتفق أن بعض تبابعتهم خرج من اليمن وسار في البلاد حتى وصل إلى سمرقند واشتد ملكه وعظم سلطانه وجيشه واتسعت مملكته وبلاده وكثرت رعاياه وهو الذي مصر الحيرة فاتفق أنه مر بالمدينة النبوية وذلك في أيام الجاهلية فأراد قتال أهلها فمانعوه وقاتلوه بالنهار وجعلوا يقرونه الليل فاستحيا منهم وكف عنهم واستصحب معه حبرين من أحبار يهود كانا قد نصحاه وأخبراه أنه لا سبيل له على هذه البلدة فإنها مهاجر نبي يكون في آخر الزمان فرجع عنها وأخذهما معه إلى بلاد اليمن فلما اجتاز بمكة أراد هدم الكعبة فنهيناه عن ذلك أيضا وأخبراه بعظمة هذا البيت وأنه من بناء إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام وأنه سيكون له شأن عظيم على يدي ذلك النبي المبعوث في آخر الزمان فعظمها وطاف بها وكساها الملاء والوصائل والحبر ثم كر راجعا إلى اليمن ودعا أهلها إلى اليهود معه وكان إذ ذاك دين موسى عليه الصلاة والسلام فيه من يكون على الهداية قبل بعثة المسيح عليه الصلاة والسلام فتهود معه عامة أهل اليمن وقد ذكر القصة بطولها الإمام محمد بن إسحاق في كتابه السيرة وقد ترجمه الحافظ ابن عساكر في تاريخه ترجمة حافلة أورد فيها أشياء كثيرة مما ذكرنا ومما لم يذكر وذكر أنه ملك دمشق وأنه كان إذا استعرض الخيل صفت له من دمشق إلى اليمن ثم ساق من طريق عبد الرزاق عن معمر عن ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ما أدري الحدود طهارة لأهلها أم لا ؟ ولا أدري تبع لعينا كان أم لا ؟ ولا أدري ذو القرنين نبيا كان أم ملكا" وقال غيره "عزير أكان نبيا أم لا ؟" وهكذا رواه
ابن أبي حاتم عن محمد بن حماد الظهراني عن عبد الرزاق

قال الدارقطني تفرد به عبد الرزاق .
ثم روى ابن عساكر من طريق محمد بن كريب عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا "عزير لا أدري أنبيا كان أم لا ؟ ولا أدري ألعين تبع أم لا ؟" ثم أورد ما جاء في النهي عن سبه ولعنته كما سيأتي إن شاء الله تعالى وكأنه والله أعلم كان كافرا ثم أسلم وتابع دين الكليم على يدي من كان من أحبار اليهود في ذلك الزمان على الحق قبل بعثة المسيح عليه السلام وحج البيت في زمن الجرهميين وكساه الملاء والوصائل من الحرير والحبر ونحر عنده ستة آلاف بدنة وعظمه وأكرمه ثم عاد إلى اليمن وقد ساق قصته بطولها الحافظ ابن عساكر من طرق متعددة مطولة مبسوطة عن أبي بن كعب وعبد الله بن سلام وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم وكعب الأحبار وإليه المرجع في ذلك كله وإلى عبد الله بن سلام أيضا وهو أثبت وأكبر وأعلم وكذا روى قصته وهب بن منبه ومحمد بن إسحاق في السيرة كما هو مشهور فيها .
وقد اختلط على الحافظ ابن عساكر في بعض السياقات ترجمة تبع هذا بترجمة آخر متأخر عنه بدهر طويل فإن تبعا هذا المشار إليه في القرآن أسلم قومه على يديه ثم لما توفي عادوا بعده إلى عبادة النيران والأصنام فعاقبهم الله تعالى كما ذكره في سورة سبأ وقد بسطنا قصتهم هنالك ولله الحمد والمنة وقال سعيد بن جبير كسا تبع الكعبة وكان سعيد ينهى عن سبه وتبع هذا هو تبع الأوسط واسمه أسعد أبو كريب بن مليكرب اليماني ذكروا أنه ملك على قومه ثلاثمائة سنة وستا وعشرين سنة ولم يكن في حمير أطول مدة منه وتوفي قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو من سبعمائة سنة .
وذكروا أنه لما ذكر له الحبران من يهود المدينة أن هذه البلدة مهاجر نبي في آخر الزمان اسمه أحمد قال في ذلك شعرا واستودعه عند أهل المدينة فكانوا يتوارثونه ويروونه خلفا عن سلف وكان ممن يحفظه

أبو أيوب خالد بن زيد الذي نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في داره وهو :
شهدت على أحمد أنه ... رسول من الله باري النسم
فلو مد عمري إلى عمره ... لكنت وزيرا له وابن عم
وجاهدت بالسيف أعداءه ... وفرجت من صدره كل غم
وذكر ابن أبي الدنيا أنه حفر قبر بصنعاء في الإسلام فوجدوا فيه امرأتين صحيحتين وعند رءوسهما لوح من فضة مكتوب فيه بالذهب : هذا قبر حيي وتميس وروى حيي وتماضر ابنتي تبع ماتتا وهما تشهدان أن لا إله إلا الله ولا تشركان به شيئا وعلى ذلك مات الصالحون قبلهما وقد ذكرنا في سورة سبأ شعر سبأ في ذلك أيضا قال قتادة ذكر لنا أن كعبا كان يقول في تبع نعت الرجل الصالح ذم الله تعالى قومه ولم يذمه قال وكانت عائشة رضي الله عنها تقول : لا تسبوا تبعا فإنه قد كان رجلا صالحا .
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة حدثنا صفوان حدثنا الوليد حدثنا عبد الله بن لهيعة عن أبي زرعة - يعني عمرو بن جابر الحضرمي - قال سمعت سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تسبوا تبعا فإنه قد كان أسلم" ورواه الإمام أحمد في مسنده عن حسن بن موسى عن ابن لهيعة به .
وقال الطبراني حدثنا أحمد بن علي الأبار حدثنا أحمد بن محمد بن أبي برزة حدثنا مؤمل بن إسماعيل حدثنا سفيان عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لا تسبوا تبعا فإنه قد أسلم" وقال عبد الرزاق أيضا أخبرنا معمر عن ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما أدري تبع نبيا كان أم غير نبي" وتقدم بهذا السند من رواية ابن أبي حاتم كما أورده ابن عساكر "لا أدري تبع كان لعينا أم لا" فالله أعلم

ورواه ابن عساكر من طريق زكريا بن يحيى المدني عن عكرمة عن ابن عباس موقوفا وقال عبد الرزاق أخبرنا عمران أبو الهذيل أخبرني تميم بن عبد الرحمن قال : قال عطاء بن أبي رباح لا تسبوا تبعا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن سبه والله تعالى أعلم .
وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين (38)
وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين
يقول تعالى مخبرا عن عدله وتنزيهه نفسه عن اللعب والعبث والباطل كقوله جل وعلا "وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار" .
ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون (39)
ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون
قال تعالى "أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم" .
إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين (40)
إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين
قال تعالى "إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين" وهو يوم القيامة يفصل الله تعالى فيه بين الخلائق فيعذب الكافرين ويثيب المؤمنين وقوله عز وجل "ميقاتهم أجمعين" أي يجمعهم كلهم أولهم وآخرهم .
يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون (41)
يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون
"يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا" أي لا ينفع قريب قريبا كقوله سبحانه وتعالى "فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون" وكقوله جلت عظمته "ولا يسأل حميم حميما يبصرونهم" أي لا يسأل أخا له عن حاله وهو يراه عيانا .
وقوله جل وعلا "ولا هم ينصرون" أي لا ينصر القريب قريبه ولا يأتيه نصره من خارج .
إلا من رحم الله إنه هو العزيز الرحيم (42)
إلا من رحم الله إنه هو العزيز الرحيم
قال "إلا من رحم الله" أي لا ينفع يومئذ إلا رحمة الله عز وجل بخلقه "إنه هو العزيز الرحيم" أي هو عزيز ذو رحمة واسعة .
إن شجرة الزقوم (43)
إن شجرة الزقوم

يقول تعالى مخبرا عما يعذب به الكافرين الجاحدين للقائه "إن شجرة الزقوم طعام الأثيم" والأثيم أي في قوله وفعله وهو الكافر وذكر غير واحد أنه أبو جهل ولا شك في دخوله في هذه الآية ولكن ليست خاصة به قال ابن جرير حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الرحمن حدثنا سفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن همام بن الحارث أن أبا الدرداء كان يقرئ رجلا "إن شجرة الزقوم طعام الأثيم" فقال طعام اليتيم فقال أبو الدرداء رضي الله عنه قل إن شجرة الزقوم طعام الفاجر أي ليس له طعام من غيرها قال مجاهد ولو وقعت قطرة منها في الأرض لأفسدت على أهل الأرض معايشهم وقد تقدم نحوه مرفوعا .
طعام الأثيم (44)
طعام الأثيم
"طعام الأثيم" والأثيم أي في قوله وفعله وهو الكافر وذكر غير واحد أنه أبو جهل ولا شك في دخوله في هذه الآية ولكن ليست خاصة به قال ابن جرير حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الرحمن حدثنا سفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن همام بن الحارث أن أبا الدرداء كان يقرئ رجلا "إن شجرة الزقوم طعام الأثيم" فقال طعام اليتيم فقال أبو الدرداء رضي الله عنه قل إن شجرة الزقوم طعام الفاجر أي ليس له طعام من غيرها قال مجاهد ولو وقعت قطرة منها في الأرض لأفسدت على أهل الأرض معايشهم وقد تقدم نحوه مرفوعا.
كالمهل يغلي في البطون (45)
كالمهل يغلي في البطون
قوله "كالمهل" قالوا كعكر الزيت "يغلي في البطون" .
كغلي الحميم (46)
كغلي الحميم
"كغلي الحميم" أي من حرارتها ورداءتها .
خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم (47)
خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم
قوله "خذوه أي الكافر وقد ورد أنه تعالى إذا قال للزبانية خذوه ابتدره سبعون ألفا منهم وقوله" فاعتلوه "أي سوقوه سحبا ودفعا في ظهره قال مجاهد" خذوه فاعتلوه "أي خذوه فادفعوه ; وقال الفرزدق :"
ليس الكرام بناحليك أباهم ... حتى ترد إلى عطية تعتل
"إلى سواء الجحيم" أي وسطها .
ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم (48)
ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم
"ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم" كقوله عز وجل "يصب من فوق رءوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود" وقد تقدم أن الملك يضربه بمقمعة من حديد فتفتح دماغه ثم يصب الحميم على رأسه فينزل في بدنه

فيسلت ما في بطنه من أمعائه حتى تمرق من كعبيه - أعاذنا الله تعالى من ذلك .
ذق إنك أنت العزيز الكريم (49)
ذق إنك أنت العزيز الكريم
قوله تعالى "ذق إنك أنت العزيز الكريم" أي قولوا له ذلك على وجه التهكم والتوبيخ وقال الضحاك عن ابن عباس أي لست بعزيز ولا كريم .
وقد قال الأموي في مغازيه حدثنا أسباط بن محمد حدثنا أبو بكر الهذلي عن عكرمة قال لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا جهل لعنه الله فقال "إن الله تعالى أمرني أن أقول لك أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى" قال فنزع ثوبه من يده وقال ما تستطيع لي أنت ولا صاحبك من شيء ولقد علمت أني أمنع أهل البطحاء وأنا العزيز الكريم قال فقتله الله تعالى يوم بدر وأذله وعيره بكلمته وأنزل "ذق إنك أنت العزيز الكريم" .
إن هذا ما كنتم به تمترون (50)
إن هذا ما كنتم به تمترون
قوله عز وجل "إن هذا ما كنتم به تمترون" كقوله تعالى "يوم يدعون إلى نار جهنم دعا هذه النار التي كنتم بها تكذبون أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون" ولهذا قال تعالى ههنا "إن هذا ما كنتم به تمترون" .
إن المتقين في مقام أمين (51)
إن المتقين في مقام أمين
لما ذكر تعالى حال الأشقياء عطف بذكر السعداء ولهذا سمي القرآن مثاني فقال "إن المتقين" أي لله في الدنيا "في مقام أمين" أي في الآخرة وهو الجنة قد أمنوا فيها من الموت والخروج ومن كل هم وحزن وجزع وتعب ونصب ومن الشيطان وكيده وسائر الآفات والمصائب.
في جنات وعيون (52)
في جنات وعيون
"في جنات وعيون" وهذا في مقابلة ما أولئك فيه من شجرة الزقوم وشرب الحميم .

يلبسون من سندس وإستبرق متقابلين (53)
يلبسون من سندس وإستبرق متقابلين
قوله تعالى "يلبسون من سندس" وهو رفيع الحرير كالقمصان ونحوها "وإستبرق" وهو ما فيه بريق ولمعان وذلك كالرياش وما يلبس على أعالي القماش "متقابلين" أي على السرر لا يجلس أحد منهم وظهره إلى غيره.
كذلك وزوجناهم بحور عين (54)
كذلك وزوجناهم بحور عين
قوله تعالى كذلك "وزوجناهم بحور عين" أي هذا العطاء مع ما قد منحناهم من الزوجات الحسان الحور العين اللاتي "لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان" "كأنهن الياقوت والمرجان" "هل جزاء الإحسان إلا الإحسان" قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا نوح بن حبيب حدثنا نصر بن مزاحم العطار حدثنا عمر بن سعد عن رجل عن أنس رضي الله عنه رفعه نوح قال : لو أن حوراء بزقت في بحر لجي لعذب الماء لعذوبة ريقها .
يدعون فيها بكل فاكهة آمنين (55)
يدعون فيها بكل فاكهة آمنين
قوله عز وجل "يدعون فيها بكل فاكهة آمنين" أي مهما طلبوا من أنواع الثمار أحضر لهم وهم آمنون من انقطاعه وامتناعه بل يحضر إليهم كلما أرادوا .
لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم (56)
لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم
قوله "لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى" هذا استثناء يؤكد النفي فإنه استثناء منقطع ومعناه أنهم لا يذوقون فيها الموت أبدا كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "يؤتى بالموت في صورة كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار ثم يذبح ثم يقال يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت" وقد تقدم الحديث في سورة مريم عليها السلام .
وقال عبد الرزاق حدثنا سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن أبي مسلم الأغر عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يقال لأهل الجنة إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا وإن لكم أن تعيشوا فلا تموتوا أبدا وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا" رواه مسلم عن إسحاق بن راهويه وعبد بن حميد كلاهما عن عبد الرزاق به

هكذا يقول أبو إسحاق وأهل العراق أبو مسلم الأغر وأهل المدينة يقولون أبو عبد الله الأغر .
وقال أبو بكر بن أبي داود السجستاني حدثنا أحمد بن حفص عن أبيه عن إبراهيم بن طهمان عن الحجاج هو ابن حجاج عن عبادة عن عبد الله بن عمرو عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من اتقى الله دخل الجنة ينعم فيها ولا يبأس ويحيا فيها فلا يموت لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه" وقال أبو القاسم الطبراني حدثنا أحمد بن يحيى حدثنا عمرو بن محمد الناقد حدثنا سليم بن عبد الله الرقي حدثنا مصعب بن إبراهيم حدثنا عمران بن الربيع الكوفي عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن المنكدر عن جابر رضي الله عنه قال : سئل نبي الله صلى الله عليه وسلم أينام أهل الجنة ؟ فقال صلى الله عليه وسلم "النوم أخو الموت وأهل الجنة لا ينامون" وهكذا رواه أبو بكر بن مردويه في تفسيره حدثنا أحمد بن القاسم بن صدقة المصري حدثنا المقدام بن داود حدثنا عبد الله بن المغيرة حدثنا سفيان الثوري عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "النوم أخو الموت وأهل الجنة لا ينامون" .
وقال أبو بكر البزار في مسنده حدثنا الفضل بن يعقوب حدثنا محمد بن يوسف الفريابي عن سفيان عن محمد بن المنكدر عن جابر رضي الله عنه قال : قيل يا رسول الله هل ينام أهل الجنة ؟ قال صلى الله عليه وسلم "لا النوم أخو الموت" ثم قال لا نعلم أحدا أسنده عن ابن المنكدر عن جابر رضي الله عنه إلا الثوري ولا عن الثوري إلا الفريابي هكذا قال وقد تقدم خلاف ذلك والله أعلم

وقوله تعالى "ووقاهم عذاب الجحيم" أي مع هذا النعيم العظيم المقيم قد وقاهم وسلمهم ونجاهم وزحزحهم عن العذاب الأليم في دركات الجحيم فحصل لهم المطلوب ونجاهم من المرهوب .
فضلا من ربك ذلك هو الفوز العظيم (57)
فضلا من ربك ذلك هو الفوز العظيم
قال عز وجل "فضلا من ربك ذلك هو الفوز العظيم" أي إنما كان هذا بفضله عليهم وإحسانه إليهم كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "اعملوا وسددوا وقاربوا واعلموا أن أحدا لن يدخله عمله الجنة" قالوا ولا أنت يا رسول الله ؟ قال صلى الله عليه وسلم "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل."
فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون (58)
فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون
قوله تبارك وتعالى "فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون" أي إنما يسرنا هذا القرآن الذي أنزلناه سهلا واضحا بينا جليا بلسانك الذي هو أفصح اللغات وأجلاها وأحلاها وأعلاها "لعلهم يتذكرون" أي يتفهمون ويعلمون ثم لما كان مع هذا الوضوح والبيان من الناس من كفر وخالف وعاند قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم مسليا له وواعدا له بالنصر ومتوعدا لمن كذبه بالعطب والهلاك .
فارتقب إنهم مرتقبون (59)
فارتقب إنهم مرتقبون
"فارتقب" أي انتظر "إنهم مرتقبون" أي فسيعلمون لمن تكون النصرة والظفر وعلو الكلمة في الدنيا والآخرة فإنها لك يا محمد ولإخوانك من النبيين والمرسلين ومن اتبعكم من المؤمنين كما قال تعالى "كتب الله لأغلبن أنا ورسلي" الآية وقال تعالى "إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار" آخر تفسير سورة
الدخان ولله الحمد والمنة وبه التوفيق والعصمة .
تفسير سورة الجاثية وهي مكية .

بسم الله الرحمن الرحيم

حم (1)
حم
قد اختلف المفسرون في الحروف المقطعة التي في أوائل السور فمنهم من قال هي مما استأثر الله بعلمه فردوا علمها إلى الله ولم يفسرها حكاه القرطبي في تفسيره عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين وقاله عامر الشعبي وسفيان الثوري والربيع بن خيثم واختاره أبو حاتم بن حبان .
ومنهم من فسرها واختلف هؤلاء في معناها فقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم إنما هي أسماء السور .
قال العلامة أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري في تفسيره وعليه إطباق الأكثر ونقل عن سيبويه أنه نص عليه ويعتضد لهذا بما ورد في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة "الم" السجدة , و "هل أتى على الإنسان" وقال سفيان الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال : الم وحم والمص وص .
فواتح افتتح الله بها القرآن وكذا قال غيره عن مجاهد وقال مجاهد في رواية أبي حذيفة موسى بن مسعود عن شبل عن ابن أبي نجيح عنه أنه قال الم اسم من أسماء القرآن وهكذا وقال قتادة وزيد بن أسلم ولعل هذا يرجع إلى معنى قول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنه اسم من أسماء السور فإن كل سورة يطلق عليها اسم القرآن فإنه يبعد أن يكون المص اسما للقرآن كله لأن المتبادر إلى فهم سامع من يقول قرأت المص إنما ذلك عبارة عن سورة الأعراف لا لمجموع القرآن والله أعلم .
وقيل هي اسم من أسماء الله تعالى فقال عنها في فواتح السور من أسماء الله تعالى وكذلك قال سالم بن عبد الله وإسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير وقال شعبة عن السدي بلغني أن ابن عباس قال الم اسم من أسماء الله الأعظم .
هكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث شعبة ورواه ابن جرير عن بندار عن ابن مهدي عن شعبة قال سألت السدي عن حم وطس والم فقال قال ابن عباس هي اسم الله الأعظم .
تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم (2)
تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم
يخبر تعالى أنه أنزل الكتاب على عبده ورسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين ووصف نفسه بالعزة التي لا ترام والحكمة في الأقوال والأفعال.
إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين (3)
إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين
يرشد تعالى خلقه إلى التفكر في آلائه ونعمه وقدرته العظيمة التي خلق بهما السموات الأرض .
وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون (4)
وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون
وما فيهما من المخلوقات المختلفة الأجناس والأنواع من الملائكة والجن والإنس والدواب والطيور والوحوش والسباع والحشرات وما في البحر من الأصناف المتنوعة.
واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون (5)
واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون
واختلاف الليل والنهار في تعاقبهما دائبين لا يفتران هذا بظلامه وهذا بضيائه وما أنزل الله تبارك وتعالى من السحاب من المطر في وقت الحاجة إليه وسماه رزقا لأن به يحصل الرزق فأحيا به الأرض بعد موتها أي بعدما كانت هامدة لا نبات فيها ولا شيء .
وقوله عز وجل وتصريف الرياح أي جنوبا وشمالا ودبورا وصبا برية وبحرية ليلية ونهارية ومنها ما هو للمطر ومنها ما هو للقاح ومنها ما هو غذاء للأرواح ومنها ما هو عقيم لا ينتج وقال سبحانه وتعالى أولا لآيات للمؤمنين ثم يوقنون ثم يعقلون وهو ترق من حال شريف إلى ما هو أشرف منه وأعلى هذه الآيات شبيهة بآية البقرة وهي قوله تعالى إن في خلق السموات الأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون وقد أورد ابن أبي حاتم ههنا عن وهب بن منبه أثرا طويلا غريبا في خلق الإنسان من الأخلاط الأربعة والله أعلم .
تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون (6)
تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون

يقول تعالى تلك آيات الله يعني القرآن بما فيه من الحجج والبينات نتلوها عليك بالحق أي متضمنة الحق من الحق فإذا كانوا لا يؤمنون بها ولا ينقادون لها فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون .
ويل لكل أفاك أثيم (7)
ويل لكل أفاك أثيم
ثم قال تعالى ويل لكل أفاك أثيم أي أفاك في قوله كذاب حلاف مهين أثيم في فعله وقلبه كافر بآيات الله .
يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم (8)
يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم
ولهذا قال "يسمع آيات الله تتلى عليه" أي تقرأ عليه ثم يصر أي على كفره وجحوده استكبارا وعنادا كأن لم يسمعها أي كأنه ما سمعها فبشره بعذاب أليم أي فأخبره أن له عند الله تعالى يوم القيامة عذابا أليما موجعا .
وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين (9)
وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين
وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا أي إذا حفظ شيئا من القرآن كفر به واتخذه سخريا وهزوا أولئك لهم عذاب مهين أي في مقابلة ما استهان بالقرآن واستهزأ به ولهذا روى مسلم في صحيحه عن ابن عمر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو .
من ورائهم جهنم ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء ولهم عذاب عظيم (10)
من ورائهم جهنم ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء ولهم عذاب عظيم
ثم فسر العذاب الحاصل له يوم معاده فقال من ورائهم جهنم أي كل من اتصف بذلك سيصيرون إلى جهنم يوم القيامة ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا أي لا تنفعهم أموالهم ولا أولادهم ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء أي ولا تغني عنهم الآلهة التي عبدوها من دون الله شيئا ولهم عذاب عظيم .
هذا هدى والذين كفروا بآيات ربهم لهم عذاب من رجز أليم (11)
هذا هدى والذين كفروا بآيات ربهم لهم عذاب من رجز أليم
ثم قال تبارك وتعالى هذا هدى يعني القرآن والذين كفروا بآيات ربهم لهم عذاب من رجز أليم وهو المؤلم الموجع والله سبحانه وتعالى أعلم .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #460  
قديم 09-12-2025, 05:19 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 168,686
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)



تفسير القرآن العظيم
(تفسير ابن كثير)

إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي
الجزء
(12)
تفسير سورة الجاثية
من صـ 359 الى صــ 368
الحلقة (460)






الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون (12)
الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون
يذكر تعالى نعمه على عبيده فيما سخر لهم من البحر لتجري الفلك وهي السفن فيه بأمره تعالى فإنه هو الذي أمر البحر بحملها ولتبتغوا من فضله أي في المتاجر والمكاسب ولعلكم تشكرون أي على حصول المنافع المجلوبة إليكم من الأقاليم النائية والآفاق القاصية .
وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون (13)
وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون
وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض أي من الكواكب والجبال والبحار والأنهار وجميع ما تنتفعون به أي الجميع من فضله وإحسانه وامتنانه ولهذا قال جميعا منه أي من عنده وحده لا شريك له في ذلك كما قال تبارك وتعالى وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون وروى ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس ما في قوله تبارك وتعالى وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه كل شيء هو من الله .
وذلك الاسم فيه اسم من أسمائه فذلك جميعا منه ولا ينازعه فيه المنازعون واستيقن أنه كذلك وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا محمد بن خلف العسقلاني حدثنا الفريابي عن سفيان عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن أبي أراكة قال سأل رجل عبد الله بن عمر قال مم خلق الخلق ؟ قال من النور والنار والظلمة والثرى قال وائت ابن عباس فاسأله فأتاه فقال له مثل ذلك فقال ارجع إليه فسله مم خلق ذلك كله ؟ فرجع إليه فسأله فتلا وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه هذا أثر غريب وفيه نكارة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون.
قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزي قوما بما كانوا يكسبون (14)
قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزي قوما بما كانوا يكسبون
وقوله تعالى قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله أي ليصفحوا عنهم

ويتحملوا الأذى منهم وكان هذا في ابتداء الإسلام أمروا أن يصبروا على أذى المشركين وأهل الكتاب ليكون ذلك كالتأليف لهم ثم لما أصروا على العناد شرع الله للمؤمنين الجلاد والجهاد .
هكذا روي عن ابن عباس وقتادة وقال مجاهد لا يرجون أيام الله لا ينالون نعم الله تعالى وقوله تبارك وتعالى ليجزي قوما بما كانوا يكسبون أي إذا صفحوا عنهم في الدنيا فإن الله عز وجل مجازيهم بأعمالهم السيئة في الآخرة.
من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون (15)
من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون
ولهذا قال تعالى من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون أي تعودون إليه يوم القيامة فتعرضون بأعمالكم عليه فيجزيكم بأعمالكم خيرها وشرها والله سبحانه وتعالى أعلم .
ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين (16)
ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين
يذكر تعالى ما أنعم به على بني إسرائيل من إنزال الكتب عليهم وإرسال الرسل إليهم وجعله الملك فيه ولهذا قال تبارك وتعالى ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات أي من المآكل والمشارب وفضلناهم على العالمين أي في زمانهم .
وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون (17)
وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون
وآتيناهم بينات من الأمر أي حججا وبراهين وأدلة قاطعات فقامت عليهم الحجج ثم اختلفوا بعد ذلك من بعد قيام الحجة وإنما كان ذلك بغيا منهم على بعضهم بعضا إن ربك يا محمد يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون أي سيفصل

بينهم بحكمه العدل وهذا فيه تحذير لهذه الأمة أن تسلك مسلكهم وأن تقصد منهجهم .
ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون (18)
ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون
ولهذا قال جل وعلا ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون أي اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين .
إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين (19)
إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين
وقال جل جلاله ههنا إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض أي وماذا تغني عنهم ولايتهم لبعضهم بعضا فإنهم لا يزيدونهم إلا خسارا ودمارا وهلاكا والله ولي المتقين وهو تعالى يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات .
هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون (20)
هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون
ثم قال عز وجل هذا بصائر للناس يعني القرآن وهدى ورحمة لقوم يوقنون .
أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون (21)
أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون
يقول تعالى لا يستوي المؤمنون والكافرون كما قال عز وجل لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون وقال تبارك وتعالى أم حسب الذين اجترحوا السيئات أي عملوها وكسبوها أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم أي نساويهم بهم في الدنيا والآخرة ساء ما يحكمون أي ساء ما ظنوا بنا وبعدلنا أن نساوي بين الأبرار والفجار في الدار الآخرة وفي هذه الدار قال الحافظ أبو يعلى حدثنا مؤمل بن إهاب حدثنا بكير بن عثمان التنوخي حدثنا الوضين بن عطاء عن يزيد بن مرثد الباجي عن أبي ذر قال : إن الله تعالى بنى دينه على أربعة أركان فمن صبر عليهن ولم يعمل بهن لقي الله من الفاسقين قيل وما هن يا أبا ذر ؟ قال يسلم حلال الله لله وحرام الله لله وأمر الله لله ونهي

الله لله لا يؤتمن عليهن إلا الله قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم "كما أنه لا يجتنى من الشوك العنب كذلك لا ينال الفجار منازل الأبرار" هذا حديث غريب من هذا الوجه وقد ذكر محمد بن إسحاق في كتاب السرة أنهم وجدوا حجرا بمكة في أس الكعبة مكتوب عليه : تعملون السيئات وترجون الحسنات أجل كما يجنى من الشوك العنب .
وقد روى الطبراني من حديث شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي الضحى عن مسروق أن تميما الداري قام ليلة حتى أصبح يردد هذه الآية أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات ولهذا قال تعالى ساء ما يحكمون .
وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون (22)
وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون
وقال عز وجل وخلق الله السموات والأرض بالحق أي بالعدل ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون .
أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون (23)
أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون
ثم قال جل وعلا أفرأيت من اتخذ إلهه هواه أي إنما يأتمر بهواه فمهما رآه حسنا فعله ومهما رآه قبيحا تركه وهذا قد يستدل به على المعتزلة في قولهم بالتحسين والتقبيح العقليين وعن مالك فيما روي عنه من التفسير لا يهوى شيئا إلا عبده وقوله وأضله الله على علم محتمل قولين "أحدهما" وأضله الله لعلمه أنه يستحق ذلك "والآخر" وأضله الله بعد بلوغ العلم إليه وقيام الحجة عليه والثاني يستلزم الأول ولا ينعكس وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة أي فلا يسمع ما ينفعه ولا يعي شيئا يهتدي به ولا يرى حجة يستضيء بها ولهذا قال تعالى فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون كقوله تعالى من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون.
وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون (24)
وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون

يخبر تعالى عن قول الدهرية من الكفار ومن وافقهم من مشركي العرب في إنكار المعاد وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا أي ما ثم إلا هذه الدار يموت قوم ويعيش آخرون وما ثم معاد ولا قيامة وهذا يقوله مشركو العرب المنكرون المعاد وتقوله الفلاسفة الإلهيون منهم وهم ينكرون البداءة والرجعة وتقوله الفلاسفة الدهرية الدرية المنكرون للصانع المعتقدون أن في كل ستة وثلاثين ألف سنة يعود كل شيء إلى ما كان عليه وزعموا أن هذا قد تكرر مرات لا تتناهى فكابروا العقول وكذبوا المنقول ولهذا قالوا وما يهلكنا إلا الدهر قال الله تعالى وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون أي يتوهمون ويتخيلون .
فأما الحديث الذي أخرجه صاحبا الصحيح وأبو داود والنسائي من رواية سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يقول تعالى يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب ليله ونهاره" وفي رواية "لا تسبوا الدهر فإن الله تعالى هو الدهر" وقد أورده ابن جرير بسياق غريب جدا فقال : حدثنا أبو كريب حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "كان أهل الجاهلية يقولون إنما يهلكنا الليل والنهار وهو الذي يهلكنا يميتنا ويحينا فقال الله تعالى في كتابه وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر ويسبون الدهر فقال الله عز وجل : يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار" وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أحمد بن منصور عن شريح بن النعمان عن ابن عيينة مثله ثم روي عن يونس عن ابن وهب عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قال الله تعالى يسب ابن آدم الدهر"

وأنا الدهر بيدي الليل والنهار وأخرجه صاحبا الصحيح والنسائي من حديث يونس بن يزيد به وقال محمد بن إسحاق عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "يقول الله تعالى استقرضت عبدي فلم يعطني وسبني عبدي يقول وادهراه وأنا الدهر" قال الشافعي وأبو عبيدة وغيرهما من الأئمة في تفسير قوله صلى الله عليه وسلم "لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر" كانت العرب في جاهليتها إذا أصابهم شدة أو بلاء أو نكبة قالوا يا خيبة الدهر فيسندون تلك الأفعال إلى الدهر ويسبونه وإنما فاعلها هو الله تعالى فكأنهم إنما سبوا الله عز وجل لأنه فاعل ذلك في الحقيقة فلهذا نهى عن سب الدهر بهذا الاعتبار لأن الله تعالى هو الدهر الذي يعنونه ويسندون إليه تلك الأفعال وقد غلط ابن حزم ومن نحا نحوه من الظاهرية في عدهم الدهر من الأسماء الحسنى أخذا من هذا الحديث هذا أحسن ما قيل في تفسيره وهو المراد والله أعلم .
وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين (25)
وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين
وقوله تعالى وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات أي إذا استدل عليهم وبين لهم الحق وأن الله تعالى قادر على إعادة الأبدان بعد فنائها وتفرقها ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين أي أحيوهم إن كان ما تقولونه حقا .
قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ولكن أكثر الناس لا يعلمون (26)
قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ولكن أكثر الناس لا يعلمون
قال الله تعالى "قل الله يحييكم ثم يميتكم" أي كما تشاهدون ذلك يخرجكم من العدم إلى الوجود "كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم" أي الذي قدر على البداءة قادر على الإعادة بطريق الأولى والأحرى "وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه" "ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه" أي إنما يجمعكم إلى يوم القيامة لا يعيدكم في الدنيا حتى تقولوا "ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين" "يوم يجمعكم ليوم الجمع" "لأي يوم أجلت ليوم الفصل" "وما نؤخره إلا لأجل معدود" وقال ههنا "ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه" أي لا شك فيه "ولكن أكثر الناس لا يعلمون" أي فلهذا ينكرون المعاد وستبعدون قيام الأجساد قال الله تعالى "إنهم"

يرونه بعيدا ونراه قريبا "أي يرون وقوعه بعيدا والمؤمنون يرون ذلك سهلا قريبا ."
ولله ملك السماوات والأرض ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون (27)
ولله ملك السماوات والأرض ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون
يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض والحاكم فيهما في الدنيا والآخرة ولهذا قال عز وجل ويوم تقوم الساعة أي يوم القيامة يخسر المبطلون وهم الكافرون بالله الجاحدون بما أنزله على رسله من الآيات البينات والدلائل الواضحات .
وقال ابن أبي حاتم قدم سفيان الثوري المدينة فسمع المعافري يتكلم ببعض ما يضحك به الناس فقال له يا شيخ أما علمت أن لله تعالى يوما يخسر فيه المبطلون ؟ قال فما زالت تعرف في المعافري حتى لحق بالله تعالى.
وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون (28)
وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون
ذكره ابن أبي حاتم ثم قال تعالى وترى كل أمة جاثية أي على ركبها من الشدة والعظمة ويقال إن هذا إذا جيء بجهنم فإنها تزفر زفرة لا يبقى أحد إلا جثا لركبتيه حتى إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام ويقول نفسي نفسي نفسي لا أسألك اليوم إلا نفسي وحتى أن عيسى عليه الصلاة والسلام ليقول لا أسألك اليوم إلا نفسي لا أسألك مريم التي ولدتني.
وقال مجاهد وكعب الأحبار والحسن البصري كل أمة جاثية أي على الركب وقال عكرمة جاثية متميزة على ناحيتها وليس على الركب والأول أولى .
قال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو عن عبد الله بن باباه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "كأني أراكم جاثين بالكوم دون جهنم" .
وقال إسماعيل بن أبي رافع المدني عن محمد بن كعب عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا في حديث الصور فيتميز الناس وتجثو الأمم وهي التي يقول الله تعالى وترى كل

أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها وهذا فيه جمع بين القولين ولا منافاة والله أعلم .
وقوله عز وجل كل أمة تدعى إلى كتابها يعني كتاب أعمالها كقوله جل جلاله ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء ولهذا قال سبحانه وتعالى اليوم تجزون ما كنتم تعملون أي تجازون بأعمالكم خيرها وشرها كقوله عز وجل ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره .
هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون (29)
هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون
ولهذا قال جلت عظمته هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق أي يستحضر جميع أعمالكم من غير زيادة ولا نقص كقوله جل جلاله ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا وقوله عز وجل إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون أي إنا كنا نأمر الحفظة أن تكتب أعمالكم عليكم قال ابن عباس وغيره تكتب الملائكة أعمال العباد ثم تصعد بها إلى السماء فيقابلون الملائكة الذين في ديوان الأعمال على ما بأيدي الكتبة مما قد أبرز لهم من اللوح المحفوظ في كل ليلة قدر مما كتبه الله في القدم على العباد قبل أن يخلقهم فلا يزيد حرفا ولا ينقص حرفا ثم قرأ إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون .
فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته ذلك هو الفوز المبين (30)
فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته ذلك هو الفوز المبين
يخبر تعالى عن حكمه في خلقه يوم القيامة فقال تعالى فأما الذين آمنوا وعملوا


الصالحات أي آمنت قلوبهم وعملت جوارحهم الأعمال الصالحة وهي الخالصة الموافقة للشرع فيدخلهم ربهم في رحمته وهي الجنة كما ثبت في الصحيح أن الله تعالى قال للجنة أنت رحمتي أرحم بك من أشاء ذلك هو الفوز المبين أي البين الواضح .
وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين (31)
وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين
ثم قال تعالى وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم أي يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا أما قرئت عليكم آيات الله تعالى فاستكبرتم عن اتباعها وأعرضتم عن سماعها وكنتم قوما مجرمين في أفعالكم مع ما اشتملت عليه قلوبكم من التكذيب .
وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين (32)
وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين
وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها أي إذا قال لكم المؤمنون ذلك قلتم ما ندري ما الساعة أي لا نعرفها إن نظن إلا ظنا أي إن نتوهم وقوعها إلا توهما أي مرجوحا ولهذا قال وما نحن بمستيقنين أي بمتحققين .
وبدا لهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون (33)
وبدا لهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون
قال الله تعالى وبدا لهم سيئات ما عملوا أي وظهر لهم عقوبة أعمالهم السيئة وحاق بهم أي أحاط بهم ما كانوا به يستهزئون أي من العذاب والنكال .
وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين (34)
وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين
وقيل اليوم ننساكم أي نعاملكم معاملة الناسي لكم في نار جهنم كما نسيتم لقاء يومكم هذا أي فلم تعملوا له لأنكم لم تصدقوا به ومأواكم النار وما لكم من ناصرين وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى يقول لبعض العبيد يوم القيامة "ألم أزوجك ؟ ألم أكرمك ؟ ألم أسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع ؟ فيقول بلى يا رب فيقول أفظننت أنك ملاقي ؟ فيقول لا فيقول الله تعالى فاليوم أنساك كما نسيتني" .
ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا وغرتكم الحياة الدنيا فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون (35)
ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا وغرتكم الحياة الدنيا فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون
قال الله تعالى ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا أي إنما جازيناكم هذا الجزاء لأنكم اتخذتم حجج الله عليكم سخريا تسخرون وتستهزئون بها وغرتكم الحياة الدنيا أي خدعتكم فاطمأننتم إليها فأصبحتم من الخاسرين ولهذا قال عز وجل فاليوم لا يخرجون منها أي من النار ولا هم يستعتبون أي لا يطلب منهم العتبى بل

يعذبون بغير حساب ولا عتاب كما تدخل طائفة من المؤمنين الجنة بغير عذاب ولا حساب .
ثم لما ذكر تعالى حكمه في المؤمنين والكافرين قال فلله الحمد رب السموات ورب الأرض أي المالك لهما وما فيهما ولهذا قال رب العالمين .
وله الكبرياء في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم (37)
وله الكبرياء في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم
ثم قال جل وعلا وله الكبرياء في السموات والأرض قال مجاهد يعني السلطان أي هو العظيم الممجد الذي كل شيء خاضع لديه فقير إليه .
وقد ورد في الحديث الصحيح "يقول الله تعالى العظمة إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني واحدا منهما أسكنته ناري" رواه مسلم من حديث الأعمش عن أبي إسحاق عن الأغر أبي مسلم عن أبي هريرة وأبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه وقوله تعالى هو العزيز أي الذي لا يغالب ولا يمانع الحكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره تعالى وتقدس لا إله إلا هو

آخر تفسير سورة الجاثية ولله الحمد والمنة وبه التوفيق والعصمة







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 5 ( الأعضاء 0 والزوار 5)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 451.63 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 445.79 كيلو بايت... تم توفير 5.84 كيلو بايت...بمعدل (1.29%)]