سلسلة شرح حديث وجهت وجهى للذى فطر السماوات و الارض 00دعاء الاستفتاح رقم1 - الصفحة 4 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         سلسلة ‘أمراض على طريق الدعوة‘ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12 - عددالزوار : 4661 )           »          الإمام الدارقطني (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 44 )           »          الإمام الترمذي (صاحب السنن) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 41 )           »          الإمام النووي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          الدين الكامل حاجة الإنسان في كل زمان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 32 )           »          تصحيح شيخ الإسلام لبعض أخطاء الفقهاء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          تحقيق التوحيد في باب التوكل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          الكفاية في تلخيص أحكام صلاة المسافرين والجمع بين الصلاتين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          الخير مختبئ خلف كل ما لا نفهمه الآن (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 41 )           »          ما الفقر أخشى عليكم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 40 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث ملتقى يختص في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلوم الحديث وفقهه

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #31  
قديم 25-03-2010, 08:45 PM
شاجيزا شاجيزا غير متصل
عضو نشيط
 
تاريخ التسجيل: Nov 2009
مكان الإقامة: مصر اسكندريه
الجنس :
المشاركات: 118
الدولة : Egypt
افتراضي رد: سلسلة شرح حديث وجهت وجهى للذى فطر السماوات و الارض 00دعاء الاستفتاح رقم5

سلسلة رائعة جدا
رد مع اقتباس
  #32  
قديم 29-03-2010, 12:49 AM
الصورة الرمزية ام خديجه
ام خديجه ام خديجه غير متصل
قلم برونزي
 
تاريخ التسجيل: Nov 2009
مكان الإقامة: الاسكندريه مصر
الجنس :
المشاركات: 1,316
افتراضي سلسلة شرح حديث وجهت وجهى00 رقم 8

8- لبيك وسعديك
كتبه دكتور ياسر برهامي
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد،
قول النبي : )وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض، حنيفا مسلما، وما أنا من المشركين، إنصلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له، وبذلك أمرت وأناأول المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله لي إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك،ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعا، إنه لا يغفر الذنوب إلاأنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لايصرف سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك،أنا بك واليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، استغفركوأتوب إليك).

في قول النبي (لبيك وسعديك)، هذه التلبية من غير محرم ولا تختص بحال، فيمكن أن يقولوها الحلال،ولا تختص بزمن فكل يوم يمكن أن تقول هذه التلبية ليس فقط في زمن الحج أو أشهر الحج،ولا تختص بمكان كقرب الميقات أو عندما تكون في المواقيت، ولذلك كان الصحيح أن التلبية ذكر مشروع يمكن أن يقال من الحلال -بمعنى غير المحرم قال الإمام أحمد لا بأس بأن يلبي غير المحرم.
وهذه التلبية كنز عظيم يفجر في القلب ينابيع الحب والشوق إلى الله سبحانه، ويوقظ حاجة الإنسان إلى الشعور بأن الله سبحانه وتعالى يناديه ويريده هو، فإن الإنسان الصغير الضعيف الفقير المحتاج الذي لا يشغل من الزمان ولا من المكان شيئا يذكر بل وجوده كالهباء المنثور، فعمرهيمتد 60أو 70 سنة وما قبل ذلك ملايين السنين وما بعد ذلك من الخلود مالا نهاية له،ولو أراد أن يعرف حجمه في المكان فليخرج إلي البحر ليعرف حجم الإنسان في الأرض، وإذا اتسع نظره أكثر فليعرف حجم الأرض نفسها بالنسبة لما حولها من الأجرام السماوية الأخرى في المجموعة الشمسية، كم تبلغ الأرض؟،كم تبلغ المجموعة الشمسية في المجرة؟، وكم تبلغ المجرة بالنسبةلملايين المجرات؟، هذه المجرات كلها هي السماء الدنيا فما بالك بالسماوات الأعلى، فما بالك بالكرسي الذي وسع السماوات والأرض (وسع كرسيه السماوات والأرض)، فما بالك بالعرش الذي الكرسي بالنسبة له كحلقة في فلاة.
فإذا استشعر الإنسان أن الله سبحانه الخالق العلي الكبير العظيم الغني الأول الآخر الظاهر الباطن القوي العزيز يريده ويناديه على ألسنة رسله وفي كتبه المنزلة، فأنت تقول لبيك أي أنا أجيبك يا رب،فالله عز وجل يريد الإنسان لعبادته ومحبته، واصطفاه من بين خلقه لنوع خاص من العبودية،وأوجده في وسط المخالفات ليعرفه ويعبده، حينما نتدبر في ما حولنا من أنواع كثيرة من العبودية كعبودية السماوات والأرض مثلا فهي تعبد الله طائعة منقادة ولم تكلف (قالتا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) قال عز وجل (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ)الأحزاب72، فهذه الكائنات مسخرة تعبد الله عز وجل(وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ) فالكون هائل وواسع في السماوات والأرض، كلها تسبح الله وتعبده بدون أن تعترض ولو ذرة منها،ثم عبودية الملائكة عبودية بإرادة منها لا تتوجه إلا إلى الخير، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
لكن الإنسان وكذا المؤمن من الجن طـُلبت منهم عبودية خاصة، عبودية في وسط مخالفات، فهو موجود في بيئة بها شهوات ورغبات محرمة ونوازع داخلية تنازعه، فمخالفات شياطين الإنس والجن بأعمالهم ومكرهم وكيدهم تريد أن تصد الإنسان عن طاعة الله، وهو سبحانه اجتبى الإنسان وخصه بأعلى أنواع التكريم، وأمره ونهاه ودعاه إليه في دار السلام وهداه الصراط المستقيم،فأنت أيها المؤمن كنت مرادا حتى تكون مريدامـُخلـَصـَا، كنت مـُرادا من الله، (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي)طه41 كما قال لموسى عليه السلام، وكل المؤمنين اصطنعهم الله عز وجل لنفسه بدرجات مختلفة.
فالله أخلصك لعبادته حتى تخلـًُص له عبادتك، فأُخلصت من عند الله فأَخلصت لله، كنت قبل وجودك من أهل قبضة اليمين وعرفك الشيطان فاستثناك من الإغواء حين قال (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَإِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)ص83، أنت من المُخلَصين حتى تكون من المُخلِصين.
ربك يناديك فما أجمل وما أعظم وما أحلى أن تقول لبيك ربي أنا ذاهب إليك، مجيب لأمرك بقلبي وبدني، وقد قال إبراهيم عليه السلام (وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ)الصافات99.
وقد قال النبي : (المهاجر من هاجر ما نهى الله عنه) فهي هجرة بالقلب وسفر إلى الله عزوجل فهي إذن ليست فقط هجرة بالبدن بل بالقلب أولا، وفي قول النبي (عبادة في الهرج -أي الفتن- كهجرة إليَّ)توضيحلهذا المعنى، فلماذا كانت العبادة في الفتن تماثل ثواب الهجرة إليه ؟، لأنها هجرة بالقلب إلى سنته وطريقته في عبادة الله، فهل نلج وندخل باب هذا الفضل العظيم؟
فاتتنا الهجرة بالبدن إلى النبي عليه الصلاة والسلام، لكن يمكن أن نلحق بركب المهاجرين، تخيل أن تكون ضمن المهاجرين إلى رسول الله ، تأخذ ثواب المهاجرين الذين سبقوا الأنصار، نحن نضيق بالفتن مع أن الفرصة فيها عظيمة،فهل نغتنمها؟.
(لبيك وسعديك) ليست الإجابة لله سبحانه وتعالى مرة واحدة فحسب ثم تنقطع، بل هي إجابة بعد إجابة وإقامة بعد إقامة، وهناك تفسيران في معنى التلبية "لبيك" فالأول بمعنى إجابة مرة بعد مرة،وهذا هو المشهور، والمعنى الثاني من لبى بالمكان يعني أقام، وكلا المعنيين صحيح،فهي إجابة بعد إجابة فهي مستمرة وإقامة بعد إقامة على طاعته، ومساعدة بعد مساعدة لأمره والمقصود بالمساعدة في سعديك أي أنا مساعد في أمرك أي أكون في أمرك،والكون كله في أمر الله وخدمته، وهي ليست بمعنى المعاونة لله تعالى الله أو أنه يحتاج إلى معين -حاشا لله-، لكن سعديك تعني أنا في إسعاد أمرك، والإسعاد معناه أن يكون في الخدمة والطاعة وإن كان لفظ الخدمة -أن يـُخدم الله لم يرد في الكتاب والسنة فنختار عنه لفظ العبادة والطاعة والانقياد لأمره سبحانه مرة بعد مرة، أي أن المؤمن قد أعلن الإجابة وواظب عليها وأقر بالطاعة وامتثال الأمر وواظب على ذلك، قال آمنت بالله ثم استقام كما أخبر سبحانه عن عباده المؤمنين (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ)فصلت30، وكما قال النبي (قل آمنت بالله ثم استقم).
إن القضية قضية الالتزام المستمر وليست إعلان مبدأ ثم يظل الإنسان بعيدا عنه، بل لابد أن يظل مواظبا، والاستمرار في الطاعة أشق على أكثر النفوس من البداية، فالسير على طريق الله طول الحياة هو صفة أهل الإيمان،وهذه التلبية يحتاج إليها المؤمن دائما، ولذا شرعت في هذا الدعاء كما شرعت في الحج والعمرة، وهذا الحديث دليل على مشروعية ذلك وهي من الأذكار العظيمة التي تعرف العبد حقيقة السلعة التي معه.
أنت، ما سلعتك؟، سلعتك هي نفسك (إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ)، عندما تستشعر أن الله أرادك ويناديك، وأنت تقول له أنا أجيبك يا رب، تعرف حقيقة السلعة التي معك،فلتضنَّ بها ولتبخل أن تبيعها لغير الله بالثمن البخس.
شعور العبد بأن الله أراده يجعله يكاد يذوب حبا وشوقا لله سبحانه وانقيادا وذلا، يجعله مجيبا على الفاقة، أي مجيبا لأمره سبحانه مستشعرا شدة فقره وفاقته إلى هذه الإجابة، وليس معنى ذلك أنه يجيب رغما عنه فيرغم نفسه على أن يجيب ونفسه لا تطاوعه،بل هو يشعرأن نفسه هي التي تطلب الذهاب، إنها -إجابة الله- كطعامه وشرابه ونفسه بل أشد من ذلك، كما أنك تأخذ نفس الهواء، لماذا تأخذه؟ لأنك محتاج للهواء، لأنك إن لم تتنفستموت، لا تستطيع أن تتحمل،ولماذا نسرع مهرولين إلى الطعام وقت الإفطار،لأننا محتاجون للطعام ومحتاجونللشراب، كذلكالإنسان محتاج للقرب من الله، محتاج لأن يجيب أمر الله عز وجل، ولذلك أهل الجنة يتمتعون بالتسبيح،(يلهمون التسبيح كما تلهمون النفس)، ونذكر كلمة بعض التابعين يقول:"اللهم إن كنت تأذن لأحد أن يصلي في قبره فأذن لي أن أصلي في قبري فهو يدعو الله أن يصلي في قبره، والصحيح أن هناك صلاة في القبور فالرسول أخبر أنه رأى موسى يصلي في قبره، والصحيح أنها نوع من النعيم الذي يكون في القبر من نعيم القبر، وهي ليست على سبيل التكليف وإنما على سبيل التنعم، وما يقوله البعض أنه خاص بموسىفالصحيح أنه ليس خاصا، فإن الحديث الصحيح عند ابن حبان في صفة سؤال القبر أن المؤمن تمثل له الشمس قد أوشكت على الغروب، فيأتيه الملكان فيقعدانه ويسألانه، فيقول دعاني حتى أصلي، فيقال إنك ستفعل، ولكن أخبرنا عن هذا الرجل الذي بعث فيكم، فيقول: أمحمد؟، فيقولا: نعم، فيقول هو رسول الله ، جاءنا بالبينة والهدى، فالملائكة وعدته بأنه سيفعل، فهذا دليل على أن هناك من يصلي في قبره.
ففرق كبير بين إجابة تجرفيها نفسك خلفك،ولا تطاوعك نفسك للإجابة، وبين إجابة على الفاقة - على الحاجة إليها -.
ما معنى أن تستشعر أنك محتاج للإجابة؟،هو أن تستشعر أن ربنا يريدك أنت وأنت وحدك من وسط كل هذه الدنيا، وتستشعر أنك صغير جدا والخالق العلي الكبير يريدك أنت ويجعلك مخلـَصا له، فأي شرف للإنسان؟، هذا يجعله لابد وأنيسارع بهذه الإجابة محققا (إياك نعبد) بالإجابة (وإياك نستعين) بالفقر والفاقة إلى الله عز وجل، يستشعر إياك نعبد بأن يجيب أمر الله، وأنه في أثناء هذه الإجابة مستعين بالله محتاج إلى أن يعبد الله ويسأل الله أن يعيننه على ذلك.
(وإياك نستعين) بالفاقة والفقر إلى الله إلها معبودا في المقام الأول،أي لا تستعين به على قضاء حوائجك،وعلى دفع عدوك وعلى إزالة الضرر وعلى جلب المنافع وفقط، فالخلق كلهم مفتقرون إلى الله ربا خالقا رازقا، فهم يريدون أن يأكلوا ويشربوا ويكون عندهم أولاد وأموال، هم يريدون كل هذه الأشياء، والمؤمن معهم في هذا، والله الذي بيده الأمر كله، لكن المؤمن يستعين به في المقام الأول على عبادته، يستعين به ليكون إلههومعبوده،يحتاج لأن يركع له،يحتاج لأن يسجد له،يحتاج لأن يحبه ويرجوه ويخافه ويتوكل عليه، فأي منة أجل من هذا، وهل نستحق كل هذا العطاء أنما هو محض الجود والكرم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

صوت السلف
رد مع اقتباس
  #33  
قديم 29-03-2010, 12:51 AM
الصورة الرمزية ام خديجه
ام خديجه ام خديجه غير متصل
قلم برونزي
 
تاريخ التسجيل: Nov 2009
مكان الإقامة: الاسكندريه مصر
الجنس :
المشاركات: 1,316
افتراضي سلسلة شرح حديث وجهت وجهى 0رقم 9

9-أنس الطائعين ووحشة الغاوين
كتبه دكتورياسر برهامي
الحمد لله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أما بعد،
قول النبي : )وجهتوجهي للذي فطر السماوات والأرض، حنيفا مسلما، وما أنا من المشركين، إنصلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له، وبذلك أمرت وأناأول المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله لي إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك،ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعا، إنه لا يغفر الذنوب إلاأنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لايصرف سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك،أنا بك واليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، استغفركوأتوب إليك).

نتابع الكلام عن قوله (لبيك وسعديك)، فأذكر أبياتا رائعة لابن القيم رحمه الله في هذا المقام يقول:

فما كل عين بالحبيب قريرة
ولا كل من نودي يجيب المنادي
وقرة العين هنا كناية عن الراحة والسرور والطمأنينة التامة وعدم التطلع إلى ما سوى المحبوب، فليست كل العيون قريرة بالله سبحانه، بل إنه خص بذلك خواص خلقه الذين وجدوا حبه وقربه والطريق الموصل إليه حتى تكون نهاية هذا الطريق بالنظر إلى وجهه الكريم في الدار الآخرة، فمن قرت عينه بالله إذا وجده فليحمد الله على أجَّل نعمة، ومن أجاب داعي الله فليدرك قدر هذه المنة، فليس كل أحد يجيب المنادي والداعي إلى الله، وأنت أيها المؤمن أجبت ووجدت وتلذذت بالعبادة وذقت طعم الإيمان.
اللهم نسألك مزيد فضلك ورحمتك وحبك ورضوانك ولذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين
يقول ابن القيم:
ومن لم يجب داعي هداك فخلـِّه
يجب كل من أضحى إلى الغي داعيا
أي من لا يستجيب لداعي الهدى الذي أنت عليه أيها المؤمن المحب فاتركه ولا تنشغل به، فإنها نوعية من البشر لا تنصلح قال تعالى (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ)الذاريات54، فبعد تكرار البيان وتوضيح الدعوة إذا كان الإعراض وعدم الإجابة هو النتيجة فاعلم أن الله لا يريد به خيرا فاتركه وانشغل بغيره، لأن هذا الإنسان المريض الميت سوف يجيب كل داع إلى سبيل الغواية ويقبل الباطل ويحبه (أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ)العنكبوت67، وستجده يمشي خلف كل ضال (وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) نعوذ بالله.
يقول ابن القيم:
وقل للعيون الرُمَّدِ إياكِ أن ترِي
سنا الشمسِ فاستغشِ ظلام الليالي

قل للعيون الرَّمِدة التي لا ترى الحقائق العظيمة، حقائق الإيمان، إياكِ أن تري سنا الشمس إياكِ أن تبصري وتري، فالرامد عندما يفتح عينه في الشمس تؤلمه فيظل مغمضا عينيه والعياذ بالله، فهو يشبه الذي لم يرى الحق ولم يجد طعم الإيمان ولا يرى حقائق ما جاءت به الرسل. وقوله: فاستغشِ ظلام الليالي، أي ابقي في الظلام، فالذي لا يرى الحق الذي هو أوضح من نور الشمس وهو دين الله الذي بُعث به رسوله ، فعينه هي المريضة أي عين قلبه، فلا يبصر الحقيقة، فقل له على سبيل الاستخفاف به أنت لا تصلح لرؤية نور الشمس، نور الحق، إنما يناسبك الحجاب والغطاء والظلام مثل ظلمة الليالي (وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)يونس27
قال تعالى (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ)النور40 فإذا ركبت سفينة فاخرج بالليل وانظر في ظلمة البحر حتى تعرف هذا المثل، لتعرف كيف أن الكفار في ظلمة عجيبة جدا، والعياذ بالله، لأن البحر ظلمته أشد من ظلمة البر، وبعد ذلك تخيل أن باطن هذا البحر ليس موجا فحسب إنما هناك موج تحته موج آخر والكافر أسفل ذلك والعياذ بالله من ظلمة الكفر، فمعنى فاستغشِ أي تغطَ بظلمة الليل الذي أنت فيه، ليل الكفر والظلم والفسوق والعصيان والنفاق، وهذه درجات من الظلمات متفاوتة في الظلمة، كل معصية لها ظلمة، وكل نفاق له ظلمة، وكل كفر له ظلمة، درجات متفاوتة، فالنفاق الأكبر والكفر الأكبر والفسق الأكبر أشد الظلمات.
يقول ابن القيم:
وسامح نفوسا لم يهبها لحبهم
ودعها وما اختارت ولا تك جافيا

هذه النفوس لم يهبها ولم يهيئها الله عزوجل لحبه، والجمع للتعظيم، هذه النفوس قد تؤذيك وقد تضايقك أو تعتدي عليك فسامح هذه النفوس، قال الله تعالى (قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كَانُوا يَكْسِبُونَ)الجاثية14، المقصود والله أعلم لا تكن متمنيا لهم الضلال والهلاك وتحدث نفسك بالانتقام منهم لنفسك عقوبة لهم على ما ظلموك، يكفيهم عقوبة ما هم فيه من البعد عن الله، فهذه المسامحة والصفح والعفو في الدنيا وعدم الانتقام من أصحاب النفوس التي لم يهبها الله من فضله ولم يهيئها لحبه عز وجل مسامحة مأمور بها، فإنهم مساكين المسكنة المذمومة، هم في شقاء وعذاب، "فلا تك جافيا" أي غليظا عليهم فوق ما هم فيه من العذاب. وليس المقصود بعدم الغلظة في المعاملة، الغلظة التي أمر الله بها عند جهادهم (وَاغْلُظْ عَلَيْهِم)(وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَة)، بل هذه الغلظة عليهم رحمة بهم في الحقيقة، ونحن في الحقيقة نغلظ عليهم حتى يرجعوا، ونرحمهم لعلهم يرجعون.
يقول ابن القيم:
وقل للذي قد غاب يكفي عقوبة
مغيبك عن ذا الشأن لو كنت واعيا
فلو لم يكن من عقاب للكفرة والظلمة - الذين غابوا عن حب الله ومعرفته - وعبادته على شهواتهم الوقتية المملوءة بالتعب والنقص إلا عقوبة الغيابعن شأن الإجابة والتلبية والإقامة على طاعة الله والمحبة له لكفى بها عقوبة، وحجاب قلوبهم عن الله أقسى عذاب، كما أن حجابهم عن الله يوم القيامة أشد عذابهم قال عز وجل (كَلا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ)المطففين15 ولو كان هذا الغائب واعيا عاقلا لأدرك أنه في عقوبة ولكنه لا يدري ولا يعقل ولا يعي.
يقول ابن القيم:
ووالله لو أضحى نصيبك وافرا
رحمت عدوا حاسدا لك قاليا
إذا كان نصيبك كبير من الحب سترحم من يكرهك ومن يحسدك، لأنه يحسدك على الإيمان ويكرهك من أجل أنك ملتزم، ستقول يا له من مسكين.لو أصبح نصيبك أيها المؤمن من الإيمان والعبودية التي لله وافرا كبيرا لرحمت أعدائك الحاسدين القالين لك الكارهين اللذين يؤذونك ويحقدون عليك.
رحمة الأعداء المؤذين للمؤمنين، والشفقة عليهم لما هم فيه من الجهل سنة ماضية عن الأنبياء وأتباعهم، قال الخليل عليه السلام(فمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)إبراهيم36،وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال كأني أنظر إلى رسول الله يحكي نبيا من الأنبياء، ضربه قومه حتى أدموه وهو يمسح الدم عن وجهه، ويقول (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)، هذه رحمه فهو يرحمهم لأنهم لا يعلمون، وقال عز وجل عن مؤمن آل يس (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَبِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ)يس27، ماذا يتمنى لهم وهم قتلوهأشنع قتلة، قتلوه دهسا بالأقدام حتى خرجت أمعاؤه، قتلوه وهو يتمنى أنهم يعرفوا حتى يغفر الله لهم.
تظل هذه الرحمة موجودة والتمني أن يهديهم الله ما لم يموتوا على الكفر، أو يـُعلِم الله نبيه بالوحي أن هذا العدو يموت كافرا، قال تعالى (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ)التوبة114، وذلك حين مات كافرا، وقال موسى وهارون عليهما السلام في دعوتهما على فرعون وجنده(فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ)يونس88،فربنا أعلمهم بأن ليس هناك فائدة من هؤلاء وأنهم لن يؤمنوا فدعوا عليهم ،كما قال تعالى عن نوح عليه السلام(رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً)نوح26، فلا تعارض بحمد الله، فالأولى للمؤمن طالما بقي عدوه حيا أن لا يتمنى هلاكه على الكفر، وأن لا يدعو عليه بذلك، بل يرحمه لما هو فيه من العذاب، عذاب الحسد لأهل الإيمان، فإن الحسد قاتل لسعادة الإنسان
لله در الحسد ما أعدلهبدأ بصاحبه فقتله
فإن الحسد قاتل لسعادة الإنسان وحياة قلبه،ومانع من الإيمان.والكافر في عذاب الحسد وفي عذاب كراهية الحق الذي جاء به رسول الله .وعذاب حب الباطل،يؤدي به لكرهه لنفسه، فالإنسان عندما يكره الحق الذي بعث به النبي تكرهه نفسه ويكره نفسه، قال الله عز وجل(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ)غافر10،فهم من حين دعوا للإيمان فكفروا ونفوسهم تكرههم وهم يكرهون أنفسهم،ويبشرون بأن مقت الله لكم أشد من مقتكم لأنفسكم.
قال النبي :(إن الله إذا أبغض عبدا نادى جبريل: إني أبغض فلانا فأبغضه، فيبغضه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يبغض فلانا فأبغضوه، فيبغضه أهل السماء، ثم توضع له البغضاء في الأرض) وقال تعالى (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ)الدخان29، وقال النبي (أما الكافر فيستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب) فلو كان نصيبك أيها المؤمن من الإيمان وفيرا كبيرا لنظرت لمن آذاك في الله بعين الإشفاق، إذ هو المحروم من أعظم نعيم الدنيا والآخرة، شقي في الدارين، وأنت مـَّن الله عليك بأعظم عطاء، فارحم من حسدك،واعفو عن من ظلمك، وصل من قطعك، وأعط من حرمك، فإنك بذلك تأخذ أضعاف أضعاف ما أعطيت.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
رد مع اقتباس
  #34  
قديم 04-04-2010, 12:24 AM
الصورة الرمزية ام خديجه
ام خديجه ام خديجه غير متصل
قلم برونزي
 
تاريخ التسجيل: Nov 2009
مكان الإقامة: الاسكندريه مصر
الجنس :
المشاركات: 1,316
افتراضي رد: سلسلة شرح حديث وجهت وجهى للذى فطر السماوات و الارض 00دعاء الاستفتاح رقم1

7- واهدني لأحسن الأخلاق
كتبه ياسر برهامي
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أما بعد،
قول النبي : )وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض، حنيفا مسلما، وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله لي إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك،ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعا، إنه لا يغفر الذنوب إلاأنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لايصرف سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك،أنا بك واليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، استغفركوأتوب إليك).

نواصل الكلام عن قوله (واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت).
الأخلاق منها وهبي جبلي، يفطر عليه الإنسان حسب ما كان قبيحا أو حسنا، ومنها ما هو كسبي عملي يسعى الإنسان إليه بجهده ويتخلق به، وكلا النوعين بيد الله،وهما من عطائه ورزقه،ورزق الإنسان في الأخلاق أهم وأخطر بكثير من رزقه في الجاه الدنيوي، والنوع الأول الجبلي قابل للتأثير عليه والتغيير وإن كان الأثر فيما يخالف ما جُبل عليه الإنسان ليس كقوته فيما يوافق، فالإنسان المجبول على الكرم ستجد النفقة عليه سهلة جدا، أما المجبول على البخل، هل له أن يتغير؟ نعم، من الممكن أن يتغير وإن كان لن يصبح كالذي جُبل على الكرم لكن سيتغير، وإن العبد لن يجد وسيلة لتحسين خلقه أعظم ولا أهم ولا أكبر أثرا - بل في الحقيقة لا وسيلة غيرها - اللهم إلا اللجوء إلى الله، فتغيير الأخلاق أصعب شيء على الإنسان، وهنا يأتي الارتباط بين الجزء الأول من الدعاء الذي كله عن قضية التوحيد والإيمان، وبين قضية الخُلق، لأن الخُلق هو جزء من الإيمان في الحقيقة.
ولهذا كان هذا الدعاء العظيم (واهدني لأحسن الأخلاق...) و دعائه (اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها)، فتزكية العبد لنفسه لن تثمر ثمرتها إلا أن يُزكيه الله، والعبد مأمور أن يتزكى (قد أفلح من تزكى)، فتزكيته عز وجل خير تزكية، وتزكية المرء لنفسه ليس لها قيمة إذا لم يزكها الله عز وجل.
فصل مختصر في أحسن الأخلاق: أحسن الأخلاق هي أخلاق الرسل وهي صفات الرجولة (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم) فلم يقل "إلا ذكورا" بل قال رجالا، فالرجولة صفات، فنذكر بها أنفسنا باختصار.
بني هذا الأمر على الصدق مع الله والناس، وترك الكذب بالكلية والصبر واحتمال الأذى من الخلق، وعندما ننظر إلى صدق الأنبياء، نجد صدقا مع الله و مع الناس وفي العمل وهذا شيء أساسي، فمن المستحيل أن يُعرف عن نبي أنه كذب أبدا.
و أما صفة الصبر واحتمال الأذى، فتأمل صبر يوسف عليه السلام واحتمال الأذى الذي تعرض إليه من إخوته، الذين باعوه وفرقوا بينه وبين أبيه وهو يحتاج إلى أبيه أشد الحاجة، وهو كريم بن كريم بن كريم بن كريم،وفعلوا كل هذا فيه وظلوا حاقدين عليه إلى أن كبروا وكبر هو، ومع ذلك سامحهم سيدنا يوسف،فسبحان الله!، أرأيت إلى أي مدى يصل احتمال الأذى، فلنصبرولنحتمل الأذى من الناس نولنحلم عليهم، ولعلنا نتأمل ونأخذ القدوة من حلم يعقوب عليه السلام على أبنائه حين حرموه من ابنه قرة عينه.
إن من أحسن الأخلاق احتمال الأذى من الخلق وكظم الغيظ وكف الأذى عن الناس باللسان واليد والقلب وعدم الانتقام للنفس، إلا أن تنتهك حرمات الله عز وجل، فينتقم العبد لله عز وجل لا لنفسه.
ومن مكارم الأخلاق الأناة والتمهل والعفة عن المحارم وعما في أيدي الناس، فيتعفف العبد بأن يبتعد عما حرم الله ويبتعد عما في أيدي الناس وعن سؤالهم.
ومنها اجتناب القبائح والفواحش وهي الكلمات الظاهرة الفاحشة خاصة بما يتعلق بالعورات، فالإنسان الخلوق هو الذي يتجنب الفواحش في القول والعمل وفي الأموال والأعراض، كما قال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه في طوافه "اللهم قِني شُح نفسي" ويقول "إذا وقيت شح نفسي لم أسرق ولم أزني لأن كل ذلك من عدم العفة.
ومنها الحياء والكرم والجود والسخاء، والحياء أن يستحي من الله ومن الناس فهذا من حسن الخلق،وترك البخل والغيبة والنميمة وخيانة الأعين وهي تطلعها إلى ما لا يحل خلسة.
ومنها الشجاعة وعزة النفس، والبذل في الحق والقوة فيه، والتضحية، والاستعداد لبذل المحبوب الغالي على النفس وإخراجه ومفارقته عند أمر الله بذلك.
ومنها الوفاء بالعقود والوعود والأمانات، للأهل والأصدقاء والأقرباء، والبر، والصلة والإحسان إلى الخلق، والعدل والتوسط في شيم النفس، فالجود وسط بين التبذير والبخل، والشجاعة وسط بين الجبن والتهور، والحياء وسط بين الوقاحة والعجز والمهانة والخور، والحلم وسط بين الغضب وذل النفس وسقوطها، والتواضع والعزة المحمودة وسط بين الكبر والهوان، والقناعة وسط بين الحرص والتنافس على الدنيا، والصبر وسط بين الجزع والهلع وبين القسوة والغلظة وتحجر الطبع والفظاظة، والرحمة وسط بين القسوة والضعف. فاللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت.
ومن الأخلاق الحسنة الإيثار بالدنيا، كما وصف الله تعالى الأنصار: (ويؤثرون على أنفسهم ولوكان بهم خصاصة)، وهذا الإيثار بالدنيا من علامات غنى النفس بالله عز وجل، وإنما يؤثر الإنسان على نفسه لأجل أن ما عنده من الله يكفيه، ويحصل غنى القلب وغني النفس بالله سبحانه وتعالى والعبودية له، و كلما اكتملت العُبودية كلما اكتمل الغنى بالله عز وجل فلم يشعر الإنسان بالحاجة إلى الدنيا فعند ذلك يجود بها بل ويُؤثر بها، قال الله تعالى: (ويُطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا).
ومن الأخلاق الحسنة مقابلة الإساءة بالإحسان وسرعة العفو والصفح وقبول المعذرة، قال سبحانه وتعالى: (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن)، وقال أيضا (ادفع بالتي هي أحسن السيئة)، وقال عز وجل عن المؤمنين:(ويدرؤون بالحسنة السيئة)، فإن كان بينك وبين أحد خصومة، فأساء إليك، فانظر كيف تعامله إذا كنت تريد أن تعرف منزلتك من حسن الخُلق وهل هُديت إلى أحسن الأخلاق؟ ، فإذا قابلت الإساءة بالإحسان فأنه يدل على كمال حُسن الخُلق.
وكذا سرعة العفو والصفح وقبول المعذرة، هناك من تجده بطيء العفو وربما لا يعفو، و لا يسهل عليه أبدا أن يعفو ويصفح، وإذا جاءه أحد معتذراُ أذله وأهانه وأذاقه كأس الهوان الأمر الذي يمنع الناس من أن يعتذروا إليه، وتأمل كيف أن يوسف عليه السلام بادر إلى العفو والصفح وأحسن إلى من أساء إليه من إخوته.
وقد كان أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وهو ابن عم النبي من أشد الناس إيذاءا له عليه الصلاة والسلام، وكان يهجوه في أشعاره،وتأخر إسلامه إلى عام الفتح،حيث أسلم والنبي في طريقه إلى فتح مكة، فلما أتى مسلما تذكر النبي ما وقع منه فكان يُعرض عنه بعض الإعراض، فشكا أبو سفيان إلى علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ذلك، فقال له:ائته من قبل وجهه، وقل له تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين، فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن مردودا منه، فأتاه من قبل وجهه وقال: تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين، فالتفت إليه النبي وقال: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين،و كان بعد ذلك لا يحجبه وكان يقول: عسى أن يجعل الله منه خلفا لحمزة، وكان بالفعل من شُجعان الفرسان وممن ثبت مع النبي في غزوة حُنين.
ومن الأخلاق الحسنة المروءة في اللسان و المال و الجاه.
والمروءة في اللسان بحلاوة المنطقولينه،فليس من المروءة أنيتكلم الإنسان كلاماحسنا في حد ذاته ولكن بأسلوب غليظ،، فالكلام يكون بالرفق واللين في الطريقة ويكون نوع الكلام نفسه حلوا طيبا.
والمروءة في الخُلق بسعته وانشراح الصدر في معاملة الخلقَ، بمعنى: أن يكون الإنسان ذا صدر واسع يحتمل الناس، فتجد بعض الناس عنده ضيق، لا يحتمل أحدا؛ فبمجرد أن يكلمه أحد في شيء لا يعجبه يضيق به، فمن عنده مروءة في الخلق يكون عنده انشراح وسعة صدر في معاملة الناس ، وهذا إنما يحصل بانشراح الصدر بالإسلام وبالإيمان.
والمروءة في المال ببذله في المواقع المحمودة شرعا كصلة الرحم والإحسان إلى الجار والإحسان إلى الملهوف والصدقة والنفقة في سبيل الله فيُبادر بالنفقة ولا يكون بخيلا بالمال.
والمروءة في الجاه: ببذله للمحتاج إليه، فلو أنالإنسان عنده منزلة وكلمته مسموعة عند الناس وأتاه أحد الأشخاص يطلب وساطته، وهو محتاج لهذه الوساطة فيبذلها ويشفع شفاعة حسنة ويُعين بجاهه من يحتاج إليه من المسلمين.
ومن الأخلاق الحسنة القُرب من الخلق بحيثُ يجدونه في أزماتهم ومشاكلهم، كما قال النبي: (ألا أخبركم بأهل الجنة ؟ كل مؤمن هين لين قريب سهل) فالناس تشعر بأنه قريب منها وليس بعيد جدا لا يشعر بهم، لا يعنيه الشعور بآلام الناس ومشاكلهم وأزماتهم، فقد كانت الوليدة (الأمة أي الجارية) من ولائد المدينة لتأخذ بيد رسول الله فتنطلق به حيثُ شاءت، وكانت امرأة في عقلها شيء فخلا النبي بها في بعض الطرق فقضى حاجتها، فالقُرب من الخلق صفة مطلوبة للمسلم والمؤمن عموما وللداعية خصوصا،فيجده الناس في أزماتهم ومشاكلهم يحمل الكَل، ويُكسب المعدوم، ويُقري الضيف، كما استدلت خديجة رضي الله عنها: أن الله لا يُخزي محمدا بهذه الصفات، فمن كان كذلك لا يُخزيه الله كما قالت: "والله لا يُخزيك الله أبدا فإنك تحمل الكل وتُكسب المعدوم وتُقري الضيف وتعين على نوائب الحق".أي إذا أصابت الإنسان نائبة أومصيبة وجده معينا.
والرسول كان يحسن إلى الخادم والمملوك فضلا عن الأهل، فأنس رضي الله عنه كان خادم النبي عشر سنين ولم يقل له لشيء فعله، لم فعلته؟، ولا لشيء تركه، لم تركته؟، ويعتذر لأهله عما تركه أنس ويقول: دعوه فإنه إن قُدر شيءٌ كان، فالرسول لم يكن ينتقم لنفسه ولا ضرب خادما ولا مملوكا ولا أمة ولا امرأة إلا أن يُجاهد في سبيل الله.
و كان كل من يرى يوسف عليه السلام يقول له: إنا نراك من المُحسنين، وسيدنا يوسف دخل السجن ومع ذلك لم يكن مهموما مغموما ولم يقل "أدخلتموني السجن ظلما بل كان يعود المريض ويواسي المحزون ويُحسن إلى الناس في داخل السجن بالرغم من أنه لا يملك شيئا، فالإنسان ممكن ألا يسع الناس بماله بل بخُلقه والكلمة الطيبة، لذلك قال الصاحبان لسيدنا يوسف:(نبأنا بتأويله إنا نراك من المُحسنين)، فالإحسان أمر ظاهر، ففي السجن كان محسناُ وفي الملك كان محسنا، وقال إخوته: (يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين).
والرسول بلغ الكمال البشري في هذه الصفات، فكان يُجالس المساكين ويُجيب الدعوة ولو إلى شيءٍ يسير، فالنبي أجاب الدعوة إلى إهالة سنخة وهي دُهن متغير بدأ يكون فيه بعض النتن،لكنه لم يُنتن النتن الذي يضر، فكل من تشبه بالنبي يكون له نصيب من من هذا النور بقدر، فنريد أن يكون تشبهنا بالنبي ، ليس فقط في الهيئة الظاهرة ولكن أيضا في الصفات المذكورة. فالمسلم الصالح يمشي مع الأرملة واليتيم والمسكين ليقضي حوائجهم،ويبدأ بالسلام من لقيه فأبو بكر الصديق رضي الله عنه مشي مع بعض صغار الصحابة فكان إذا لقيه أحد بادره أبوبكر بالسلام من بعيد ولا ينتظر الناس أن تلقي عليه السلام حتى يرده. ولابد أن يكون العبد هينا لينا سهلا، فالهين عنده تواضع، لَيِّن في الكلام والمعاملة سهل في التعامل، فليس هناك صعوبة في الوصول إليه ولا أن تقضي حاجتك منه، ليس عنده حده في الطباع ولا شدة ولا غلظة.
و أيضا فالمسلم يعود المريض ويشهد الجنازة ويرد السلام ويشمت العاطس وينصح السائل ويعطي من حرمه ويصل من قطعه ويعفو عن من ظلمه.
فتعطي من حرمك والذي منع أن يعطيك وأنت محتاج فعندما يرزقك الله تعطيه، وتصل من قطعك و قد قال : (وليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل من إذا قطعوه وصلهم) وتعفو عمن ظلمك، فلا تتكبر ولا تحسد ولا تتعالى على الخلق ولا تبغي فتجاوز الحدود، ولا تفخر بأن تقول أنا فلان، أنت لا تعرف من أنا!.
و كذلك المسلم لا يغش الناس في بيع ولا شراء ولا معاملة، ولا يتبع المحرم من شهوات الجنس أو شهوة المال أو شهوة الطعام والشراب أو شهوات الرياسة والملك.
وكذلك لا يُخاصم لنفسه بل لله عز وجل ولا يعاتب أحدا في حقها، فلا يعاتب الناس كثيرا ويقول لهم أنت قصرت في حقي وفعلت كذا وأنت صدر منك كذا. لا... بل يتنازل عن حقه، وإنما يُخاصم لله عز وجل كما قال النبي : (اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت).
فهو يخاصم لله وبالله، ينتقم لله عز وجل، ويغضب من الناس لوأنهم قصروا في حق الله عز وجل، أما في حق نفسه فلا يُخاصم ولا يُعاتب ولا يُماري ولا يُجادل إلا بالتي هي أحسن.
فمثلا: بعض الناس يكون لها رأي في مسألة معينه فيأخذ الرأي المُخالف حتى يُخالف من أمامه ويجادله حتى يريه أنه يعرف المجادلة، ومهما يعطيه الآخر من الحجج والأدلة يظل على المذهب المخالف،وكل ذلك بسبب حب الجدل والمراء، وليس هذا من الجدال بالتي هي أحسن، والله عز وجل يقول: (ولا تُجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) فعندما تجد المناقشة قد دخلت في جدال ليس بالتي هي أحسن، و ليس الوصول إلى الحق هو الغاية المقصودة، اترك الجدال ولا تستقصي حقكوتمثل قول علي رضي الله عنه: " ما استقصى كريم حقه قط".
فالكريم لا يستقصي حقه، بل دائما ما يكون متسامحا، سمح إذا باع سمح إذا اشترى سمح إذا اقتضى، وعندما يأخذ حقه يتنازل عن شيء منهولا يستقصي حقه كاملا، ويغض الطرف عن عيوب من أساء إليه فضلا عمن سواه إلا لحق الله تعالى، فلا يشعر من أساء إليه بإسأته، ومن أحسن ذلك فعل يوسف عليه السلام لما ذكر أمر ما وقع من إخوته - بعد وعده لهم أنه لا تثريب عليهم - قال: (وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي)، ولم يقل: من بعد أن فعل إخوتي ما فعلوامن بيعهم لي أو حرماني من أبي أو حرمانه مني، وإنما نسب الفعل إلى الشيطان، بل وبدأ بنفسه فقال: بيني وبين إخوتي حتى لا يكون هناك تلميح ولو من بعيد بأن الشيطان أتى من ناحيتهم.
فالمسلم يتغافل عن عثرات الأهل والأصحاب والناس مع إشعارهم بأنه لا يعلم لهم عثرة، و مثال ذلك أن الأصم كان قاضيا حكيما فأتت إليه امرأة كانت عندها مشكلة، وعندما كانت تشكي له خرج منها صوت، فاستحيى ثم قال لها: أعيدي عليَّ المسألة فأنا لم أسمع، فاستراحت وشعرت أنه لم يسمع الصوت الذي صدر منها.
فلابد على الإنسان أن يتغاضى عن العثرات كلما وجد من أهله خطأ ما، فيستر الأشياء التي تتكرر رغم أنها عثرات، ويوقر الكبير ويرحم الصغير و يعامل الناس بأفضل ما يحب أن يعاملوه به، ويحسن عشرة كل من عاشره من أم وأب وبنت وأبن وأخت وأخ وقريب وجار وامرأة وصاحب ومملوك وغيرهم، فالله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله.
و هناك فائدة لطيفة جدا في السؤال لأحسن الأخلاق فلم يقل النبي : واهدني لحسن الأخلاق وإنما قال لأحسنها، وفي صرف السيئ لم يقل: واصرف عني أسوأها وإنما سيئها. فطلب صرف السيئ الذي يشمل صرف الأسوأ، وأما في الحسن فلم يطلبه فقط وإنما طلب الأحسن فاستعمل أفعل التفضيل في طلب الأحسن واستعمل الاسم المُجرد في صرف السيئ.

و نلحظ هنا مدى الارتباط بين حقائق التوحيد والإيمان وبين مبادئ الأخلاق والسلوك، فالدعاء بدأ بتقرير التوحيد والثناء على الله عز وجل بملكه وإلُهيته وربوبيته (اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك)، ثم باعتراف العبد بالعبودية، وهذا أفضل عمل يتوسل به مع اعترافه بذنبه (ظلمت نفسي واعترفت بذنبي) ثم يدعو بمغفرة الذنوب والهداية لأحسن الأخلاق وصرف سيئها.
ولو واظب كلٌ منا على هذا الدعاء يوميا مع استحضار معانيه في قلبه وافتقر إلى الله الافتقار التام كما يتضمنه هذا الدعاء لحلت مشكلة من أكبر مشاكل الالتزام الحقيقي، وهي مشكلة تخلف الأخلاق والسلوك عن الالتزام الظاهري في الهيئة، أو الاكتفاء بمجرد إعلان الالتزام دون أن يتحول هذا الإعلان إلى تفاصيل يعيش بها المرء في حياته بدلا من الأخلاق التي كان يعيش بها في جاهليته.
هناك الكثير من الناس من يعلن التزامه فيلتحي ويبدأ الذهاب إلى المساجد،ويمتنع عن سماع الأغاني والموسيقى، لكن تبقى أخلاقه كما هي لم تتغير، فليس هذا هو المطلوب، وإنما المطلوب أن يعيش حياة جديدة بأخلاق جديدة غير أخلاق الجاهلية التي كان يعيش بها، وهذه المسألة دالة بلا شك عند ورودها على نقص الإيمان، بأن يكون الأمر إعلانا ظاهريا أو التزاما في الخارج مع بقاء الأخلاق كما هي، فإن رسول الله قال: (أكمل المؤمنين إيمانا أحاسنهم أخلاقا).
إذا هناك ارتباط قوي بين الإيمان والخلق، فليس منهج أهل السنة مجرد قضايا فكرية يحسن الإنسان صياغتها والرد على المخالفين فيها، كما أن الالتزام بالسنة ليس مجرد شكل وهيئة يحافظ عليها الإنسان وفقط، بل الإيمان قول وعمل، عقيدة وسلوك، وقد أدرك علماء الأمة مدى أهمية هذا الارتباط بين الإيمان والأخلاق فوضعوا في مختصرات عقائدهم الأمر بمكارم الأخلاق والنهي عن مساوئها مع أصول الإيمان.
فتجد في العقيدة الواسطيةبعد ما ذكر ابن تيمية الإيمان بالأسماء والصفات والقضاء والقدر والإيمان والكفر،قوله: "وهم مع ذلك يأمرون بمكارم الأخلاق وينهون عن مساوئها".
والسؤال الآن: لماذا وضعوا مكارم الأخلاق في العقيدة؟؟!!لأن الإيمان قول وعمل و قضية الأخلاق جزء من معتقدنا وسلوكنا ومنهجنا.
فاللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لايهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف سيئها إلا أنت.
رد مع اقتباس
  #35  
قديم 04-04-2010, 12:25 AM
الصورة الرمزية ام خديجه
ام خديجه ام خديجه غير متصل
قلم برونزي
 
تاريخ التسجيل: Nov 2009
مكان الإقامة: الاسكندريه مصر
الجنس :
المشاركات: 1,316
افتراضي رد: سلسلة شرح حديث وجهت وجهى للذى فطر السماوات و الارض 00دعاء الاستفتاح رقم1

8- لبيك وسعديك
كتبه دكتور ياسر برهامي
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد،
قول النبي : )وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض، حنيفا مسلما، وما أنا من المشركين، إنصلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له، وبذلك أمرت وأناأول المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله لي إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك،ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعا، إنه لا يغفر الذنوب إلاأنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لايصرف سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك،أنا بك واليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، استغفركوأتوب إليك).

في قول النبي (لبيك وسعديك)، هذه التلبية من غير محرم ولا تختص بحال، فيمكن أن يقولوها الحلال،ولا تختص بزمن فكل يوم يمكن أن تقول هذه التلبية ليس فقط في زمن الحج أو أشهر الحج،ولا تختص بمكان كقرب الميقات أو عندما تكون في المواقيت، ولذلك كان الصحيح أن التلبية ذكر مشروع يمكن أن يقال من الحلال -بمعنى غير المحرم قال الإمام أحمد لا بأس بأن يلبي غير المحرم.
وهذه التلبية كنز عظيم يفجر في القلب ينابيع الحب والشوق إلى الله سبحانه، ويوقظ حاجة الإنسان إلى الشعور بأن الله سبحانه وتعالى يناديه ويريده هو، فإن الإنسان الصغير الضعيف الفقير المحتاج الذي لا يشغل من الزمان ولا من المكان شيئا يذكر بل وجوده كالهباء المنثور، فعمرهيمتد 60أو 70 سنة وما قبل ذلك ملايين السنين وما بعد ذلك من الخلود مالا نهاية له،ولو أراد أن يعرف حجمه في المكان فليخرج إلي البحر ليعرف حجم الإنسان في الأرض، وإذا اتسع نظره أكثر فليعرف حجم الأرض نفسها بالنسبة لما حولها من الأجرام السماوية الأخرى في المجموعة الشمسية، كم تبلغ الأرض؟،كم تبلغ المجموعة الشمسية في المجرة؟، وكم تبلغ المجرة بالنسبةلملايين المجرات؟، هذه المجرات كلها هي السماء الدنيا فما بالك بالسماوات الأعلى، فما بالك بالكرسي الذي وسع السماوات والأرض (وسع كرسيه السماوات والأرض)، فما بالك بالعرش الذي الكرسي بالنسبة له كحلقة في فلاة.
فإذا استشعر الإنسان أن الله سبحانه الخالق العلي الكبير العظيم الغني الأول الآخر الظاهر الباطن القوي العزيز يريده ويناديه على ألسنة رسله وفي كتبه المنزلة، فأنت تقول لبيك أي أنا أجيبك يا رب،فالله عز وجل يريد الإنسان لعبادته ومحبته، واصطفاه من بين خلقه لنوع خاص من العبودية،وأوجده في وسط المخالفات ليعرفه ويعبده، حينما نتدبر في ما حولنا من أنواع كثيرة من العبودية كعبودية السماوات والأرض مثلا فهي تعبد الله طائعة منقادة ولم تكلف (قالتا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) قال عز وجل (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ)الأحزاب72، فهذه الكائنات مسخرة تعبد الله عز وجل(وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ) فالكون هائل وواسع في السماوات والأرض، كلها تسبح الله وتعبده بدون أن تعترض ولو ذرة منها،ثم عبودية الملائكة عبودية بإرادة منها لا تتوجه إلا إلى الخير، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
لكن الإنسان وكذا المؤمن من الجن طـُلبت منهم عبودية خاصة، عبودية في وسط مخالفات، فهو موجود في بيئة بها شهوات ورغبات محرمة ونوازع داخلية تنازعه، فمخالفات شياطين الإنس والجن بأعمالهم ومكرهم وكيدهم تريد أن تصد الإنسان عن طاعة الله، وهو سبحانه اجتبى الإنسان وخصه بأعلى أنواع التكريم، وأمره ونهاه ودعاه إليه في دار السلام وهداه الصراط المستقيم،فأنت أيها المؤمن كنت مرادا حتى تكون مريدامـُخلـَصـَا، كنت مـُرادا من الله، (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي)طه41 كما قال لموسى عليه السلام، وكل المؤمنين اصطنعهم الله عز وجل لنفسه بدرجات مختلفة.
فالله أخلصك لعبادته حتى تخلـًُص له عبادتك، فأُخلصت من عند الله فأَخلصت لله، كنت قبل وجودك من أهل قبضة اليمين وعرفك الشيطان فاستثناك من الإغواء حين قال (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَإِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)ص83، أنت من المُخلَصين حتى تكون من المُخلِصين.
ربك يناديك فما أجمل وما أعظم وما أحلى أن تقول لبيك ربي أنا ذاهب إليك، مجيب لأمرك بقلبي وبدني، وقد قال إبراهيم عليه السلام (وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ)الصافات99.
وقد قال النبي : (المهاجر من هاجر ما نهى الله عنه) فهي هجرة بالقلب وسفر إلى الله عزوجل فهي إذن ليست فقط هجرة بالبدن بل بالقلب أولا، وفي قول النبي (عبادة في الهرج -أي الفتن- كهجرة إليَّ)توضيحلهذا المعنى، فلماذا كانت العبادة في الفتن تماثل ثواب الهجرة إليه ؟، لأنها هجرة بالقلب إلى سنته وطريقته في عبادة الله، فهل نلج وندخل باب هذا الفضل العظيم؟
فاتتنا الهجرة بالبدن إلى النبي عليه الصلاة والسلام، لكن يمكن أن نلحق بركب المهاجرين، تخيل أن تكون ضمن المهاجرين إلى رسول الله ، تأخذ ثواب المهاجرين الذين سبقوا الأنصار، نحن نضيق بالفتن مع أن الفرصة فيها عظيمة،فهل نغتنمها؟.
(لبيك وسعديك) ليست الإجابة لله سبحانه وتعالى مرة واحدة فحسب ثم تنقطع، بل هي إجابة بعد إجابة وإقامة بعد إقامة، وهناك تفسيران في معنى التلبية "لبيك" فالأول بمعنى إجابة مرة بعد مرة،وهذا هو المشهور، والمعنى الثاني من لبى بالمكان يعني أقام، وكلا المعنيين صحيح،فهي إجابة بعد إجابة فهي مستمرة وإقامة بعد إقامة على طاعته، ومساعدة بعد مساعدة لأمره والمقصود بالمساعدة في سعديك أي أنا مساعد في أمرك أي أكون في أمرك،والكون كله في أمر الله وخدمته، وهي ليست بمعنى المعاونة لله تعالى الله أو أنه يحتاج إلى معين -حاشا لله-، لكن سعديك تعني أنا في إسعاد أمرك، والإسعاد معناه أن يكون في الخدمة والطاعة وإن كان لفظ الخدمة -أن يـُخدم الله لم يرد في الكتاب والسنة فنختار عنه لفظ العبادة والطاعة والانقياد لأمره سبحانه مرة بعد مرة، أي أن المؤمن قد أعلن الإجابة وواظب عليها وأقر بالطاعة وامتثال الأمر وواظب على ذلك، قال آمنت بالله ثم استقام كما أخبر سبحانه عن عباده المؤمنين (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ)فصلت30، وكما قال النبي (قل آمنت بالله ثم استقم).
إن القضية قضية الالتزام المستمر وليست إعلان مبدأ ثم يظل الإنسان بعيدا عنه، بل لابد أن يظل مواظبا، والاستمرار في الطاعة أشق على أكثر النفوس من البداية، فالسير على طريق الله طول الحياة هو صفة أهل الإيمان،وهذه التلبية يحتاج إليها المؤمن دائما، ولذا شرعت في هذا الدعاء كما شرعت في الحج والعمرة، وهذا الحديث دليل على مشروعية ذلك وهي من الأذكار العظيمة التي تعرف العبد حقيقة السلعة التي معه.
أنت، ما سلعتك؟، سلعتك هي نفسك (إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ)، عندما تستشعر أن الله أرادك ويناديك، وأنت تقول له أنا أجيبك يا رب، تعرف حقيقة السلعة التي معك،فلتضنَّ بها ولتبخل أن تبيعها لغير الله بالثمن البخس.
شعور العبد بأن الله أراده يجعله يكاد يذوب حبا وشوقا لله سبحانه وانقيادا وذلا، يجعله مجيبا على الفاقة، أي مجيبا لأمره سبحانه مستشعرا شدة فقره وفاقته إلى هذه الإجابة، وليس معنى ذلك أنه يجيب رغما عنه فيرغم نفسه على أن يجيب ونفسه لا تطاوعه،بل هو يشعرأن نفسه هي التي تطلب الذهاب، إنها -إجابة الله- كطعامه وشرابه ونفسه بل أشد من ذلك، كما أنك تأخذ نفس الهواء، لماذا تأخذه؟ لأنك محتاج للهواء، لأنك إن لم تتنفستموت، لا تستطيع أن تتحمل،ولماذا نسرع مهرولين إلى الطعام وقت الإفطار،لأننا محتاجون للطعام ومحتاجونللشراب، كذلكالإنسان محتاج للقرب من الله، محتاج لأن يجيب أمر الله عز وجل، ولذلك أهل الجنة يتمتعون بالتسبيح،(يلهمون التسبيح كما تلهمون النفس)، ونذكر كلمة بعض التابعين يقول:"اللهم إن كنت تأذن لأحد أن يصلي في قبره فأذن لي أن أصلي في قبري فهو يدعو الله أن يصلي في قبره، والصحيح أن هناك صلاة في القبور فالرسول أخبر أنه رأى موسى يصلي في قبره، والصحيح أنها نوع من النعيم الذي يكون في القبر من نعيم القبر، وهي ليست على سبيل التكليف وإنما على سبيل التنعم، وما يقوله البعض أنه خاص بموسىفالصحيح أنه ليس خاصا، فإن الحديث الصحيح عند ابن حبان في صفة سؤال القبر أن المؤمن تمثل له الشمس قد أوشكت على الغروب، فيأتيه الملكان فيقعدانه ويسألانه، فيقول دعاني حتى أصلي، فيقال إنك ستفعل، ولكن أخبرنا عن هذا الرجل الذي بعث فيكم، فيقول: أمحمد؟، فيقولا: نعم، فيقول هو رسول الله ، جاءنا بالبينة والهدى، فالملائكة وعدته بأنه سيفعل، فهذا دليل على أن هناك من يصلي في قبره.
ففرق كبير بين إجابة تجرفيها نفسك خلفك،ولا تطاوعك نفسك للإجابة، وبين إجابة على الفاقة - على الحاجة إليها -.
ما معنى أن تستشعر أنك محتاج للإجابة؟،هو أن تستشعر أن ربنا يريدك أنت وأنت وحدك من وسط كل هذه الدنيا، وتستشعر أنك صغير جدا والخالق العلي الكبير يريدك أنت ويجعلك مخلـَصا له، فأي شرف للإنسان؟، هذا يجعله لابد وأنيسارع بهذه الإجابة محققا (إياك نعبد) بالإجابة (وإياك نستعين) بالفقر والفاقة إلى الله عز وجل، يستشعر إياك نعبد بأن يجيب أمر الله، وأنه في أثناء هذه الإجابة مستعين بالله محتاج إلى أن يعبد الله ويسأل الله أن يعيننه على ذلك.
(وإياك نستعين) بالفاقة والفقر إلى الله إلها معبودا في المقام الأول،أي لا تستعين به على قضاء حوائجك،وعلى دفع عدوك وعلى إزالة الضرر وعلى جلب المنافع وفقط، فالخلق كلهم مفتقرون إلى الله ربا خالقا رازقا، فهم يريدون أن يأكلوا ويشربوا ويكون عندهم أولاد وأموال، هم يريدون كل هذه الأشياء، والمؤمن معهم في هذا، والله الذي بيده الأمر كله، لكن المؤمن يستعين به في المقام الأول على عبادته، يستعين به ليكون إلههومعبوده،يحتاج لأن يركع له،يحتاج لأن يسجد له،يحتاج لأن يحبه ويرجوه ويخافه ويتوكل عليه، فأي منة أجل من هذا، وهل نستحق كل هذا العطاء أنما هو محض الجود والكرم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


رد مع اقتباس
  #36  
قديم 04-04-2010, 12:27 AM
الصورة الرمزية ام خديجه
ام خديجه ام خديجه غير متصل
قلم برونزي
 
تاريخ التسجيل: Nov 2009
مكان الإقامة: الاسكندريه مصر
الجنس :
المشاركات: 1,316
افتراضي رد: سلسلة شرح حديث وجهت وجهى للذى فطر السماوات و الارض 00دعاء الاستفتاح رقم1

9-أنس الطائعين ووحشة الغاوين

كتبه دكتورياسر برهامي
الحمد لله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أما بعد،
قول النبي : )وجهتوجهي للذي فطر السماوات والأرض، حنيفا مسلما، وما أنا من المشركين، إنصلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له، وبذلك أمرت وأناأول المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله لي إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك،ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعا، إنه لا يغفر الذنوب إلاأنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لايصرف سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك،أنا بك واليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، استغفركوأتوب إليك).

نتابع الكلام عن قوله (لبيك وسعديك)، فأذكر أبياتا رائعة لابن القيم رحمه الله في هذا المقام يقول:

فما كل عين بالحبيب قريرة
ولا كل من نودي يجيب المنادي
وقرة العين هنا كناية عن الراحة والسرور والطمأنينة التامة وعدم التطلع إلى ما سوى المحبوب، فليست كل العيون قريرة بالله سبحانه، بل إنه خص بذلك خواص خلقه الذين وجدوا حبه وقربه والطريق الموصل إليه حتى تكون نهاية هذا الطريق بالنظر إلى وجهه الكريم في الدار الآخرة، فمن قرت عينه بالله إذا وجده فليحمد الله على أجَّل نعمة، ومن أجاب داعي الله فليدرك قدر هذه المنة، فليس كل أحد يجيب المنادي والداعي إلى الله، وأنت أيها المؤمن أجبت ووجدت وتلذذت بالعبادة وذقت طعم الإيمان.
اللهم نسألك مزيد فضلك ورحمتك وحبك ورضوانك ولذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين
يقول ابن القيم:

ومن لم يجب داعي هداك فخلـِّه
يجب كل من أضحى إلى الغي داعيا
أي من لا يستجيب لداعي الهدى الذي أنت عليه أيها المؤمن المحب فاتركه ولا تنشغل به، فإنها نوعية من البشر لا تنصلح قال تعالى (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ)الذاريات54، فبعد تكرار البيان وتوضيح الدعوة إذا كان الإعراض وعدم الإجابة هو النتيجة فاعلم أن الله لا يريد به خيرا فاتركه وانشغل بغيره، لأن هذا الإنسان المريض الميت سوف يجيب كل داع إلى سبيل الغواية ويقبل الباطل ويحبه (أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ)العنكبوت67، وستجده يمشي خلف كل ضال (وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) نعوذ بالله.
يقول ابن القيم:

وقل للعيون الرُمَّدِ إياكِ أن ترِي
سنا الشمسِ فاستغشِ ظلام الليالي

قل للعيون الرَّمِدة التي لا ترى الحقائق العظيمة، حقائق الإيمان، إياكِ أن تري سنا الشمس إياكِ أن تبصري وتري، فالرامد عندما يفتح عينه في الشمس تؤلمه فيظل مغمضا عينيه والعياذ بالله، فهو يشبه الذي لم يرى الحق ولم يجد طعم الإيمان ولا يرى حقائق ما جاءت به الرسل. وقوله: فاستغشِ ظلام الليالي، أي ابقي في الظلام، فالذي لا يرى الحق الذي هو أوضح من نور الشمس وهو دين الله الذي بُعث به رسوله ، فعينه هي المريضة أي عين قلبه، فلا يبصر الحقيقة، فقل له على سبيل الاستخفاف به أنت لا تصلح لرؤية نور الشمس، نور الحق، إنما يناسبك الحجاب والغطاء والظلام مثل ظلمة الليالي (وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)يونس27
قال تعالى (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ)النور40 فإذا ركبت سفينة فاخرج بالليل وانظر في ظلمة البحر حتى تعرف هذا المثل، لتعرف كيف أن الكفار في ظلمة عجيبة جدا، والعياذ بالله، لأن البحر ظلمته أشد من ظلمة البر، وبعد ذلك تخيل أن باطن هذا البحر ليس موجا فحسب إنما هناك موج تحته موج آخر والكافر أسفل ذلك والعياذ بالله من ظلمة الكفر، فمعنى فاستغشِ أي تغطَ بظلمة الليل الذي أنت فيه، ليل الكفر والظلم والفسوق والعصيان والنفاق، وهذه درجات من الظلمات متفاوتة في الظلمة، كل معصية لها ظلمة، وكل نفاق له ظلمة، وكل كفر له ظلمة، درجات متفاوتة، فالنفاق الأكبر والكفر الأكبر والفسق الأكبر أشد الظلمات.
يقول ابن القيم:

وسامح نفوسا لم يهبها لحبهم
ودعها وما اختارت ولا تك جافيا

هذه النفوس لم يهبها ولم يهيئها الله عزوجل لحبه، والجمع للتعظيم، هذه النفوس قد تؤذيك وقد تضايقك أو تعتدي عليك فسامح هذه النفوس، قال الله تعالى (قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كَانُوا يَكْسِبُونَ)الجاثية14، المقصود والله أعلم لا تكن متمنيا لهم الضلال والهلاك وتحدث نفسك بالانتقام منهم لنفسك عقوبة لهم على ما ظلموك، يكفيهم عقوبة ما هم فيه من البعد عن الله، فهذه المسامحة والصفح والعفو في الدنيا وعدم الانتقام من أصحاب النفوس التي لم يهبها الله من فضله ولم يهيئها لحبه عز وجل مسامحة مأمور بها، فإنهم مساكين المسكنة المذمومة، هم في شقاء وعذاب، "فلا تك جافيا" أي غليظا عليهم فوق ما هم فيه من العذاب. وليس المقصود بعدم الغلظة في المعاملة، الغلظة التي أمر الله بها عند جهادهم (وَاغْلُظْ عَلَيْهِم)(وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَة)، بل هذه الغلظة عليهم رحمة بهم في الحقيقة، ونحن في الحقيقة نغلظ عليهم حتى يرجعوا، ونرحمهم لعلهم يرجعون.
يقول ابن القيم:

وقل للذي قد غاب يكفي عقوبة
مغيبك عن ذا الشأن لو كنت واعيا
فلو لم يكن من عقاب للكفرة والظلمة - الذين غابوا عن حب الله ومعرفته - وعبادته على شهواتهم الوقتية المملوءة بالتعب والنقص إلا عقوبة الغيابعن شأن الإجابة والتلبية والإقامة على طاعة الله والمحبة له لكفى بها عقوبة، وحجاب قلوبهم عن الله أقسى عذاب، كما أن حجابهم عن الله يوم القيامة أشد عذابهم قال عز وجل (كَلا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ)المطففين15 ولو كان هذا الغائب واعيا عاقلا لأدرك أنه في عقوبة ولكنه لا يدري ولا يعقل ولا يعي.
يقول ابن القيم:

ووالله لو أضحى نصيبك وافرا
رحمت عدوا حاسدا لك قاليا
إذا كان نصيبك كبير من الحب سترحم من يكرهك ومن يحسدك، لأنه يحسدك على الإيمان ويكرهك من أجل أنك ملتزم، ستقول يا له من مسكين.لو أصبح نصيبك أيها المؤمن من الإيمان والعبودية التي لله وافرا كبيرا لرحمت أعدائك الحاسدين القالين لك الكارهين اللذين يؤذونك ويحقدون عليك.
رحمة الأعداء المؤذين للمؤمنين، والشفقة عليهم لما هم فيه من الجهل سنة ماضية عن الأنبياء وأتباعهم، قال الخليل عليه السلام(فمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)إبراهيم36،وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال كأني أنظر إلى رسول الله يحكي نبيا من الأنبياء، ضربه قومه حتى أدموه وهو يمسح الدم عن وجهه، ويقول (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)، هذه رحمه فهو يرحمهم لأنهم لا يعلمون، وقال عز وجل عن مؤمن آل يس (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَبِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ)يس27، ماذا يتمنى لهم وهم قتلوهأشنع قتلة، قتلوه دهسا بالأقدام حتى خرجت أمعاؤه، قتلوه وهو يتمنى أنهم يعرفوا حتى يغفر الله لهم.
تظل هذه الرحمة موجودة والتمني أن يهديهم الله ما لم يموتوا على الكفر، أو يـُعلِم الله نبيه بالوحي أن هذا العدو يموت كافرا، قال تعالى (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ)التوبة114، وذلك حين مات كافرا، وقال موسى وهارون عليهما السلام في دعوتهما على فرعون وجنده(فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ)يونس88،فربنا أعلمهم بأن ليس هناك فائدة من هؤلاء وأنهم لن يؤمنوا فدعوا عليهم ،كما قال تعالى عن نوح عليه السلام(رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً)نوح26، فلا تعارض بحمد الله، فالأولى للمؤمن طالما بقي عدوه حيا أن لا يتمنى هلاكه على الكفر، وأن لا يدعو عليه بذلك، بل يرحمه لما هو فيه من العذاب، عذاب الحسد لأهل الإيمان، فإن الحسد قاتل لسعادة الإنسان

لله در الحسد ما أعدلهبدأ بصاحبه فقتله
فإن الحسد قاتل لسعادة الإنسان وحياة قلبه،ومانع من الإيمان.والكافر في عذاب الحسد وفي عذاب كراهية الحق الذي جاء به رسول الله .وعذاب حب الباطل،يؤدي به لكرهه لنفسه، فالإنسان عندما يكره الحق الذي بعث به النبي تكرهه نفسه ويكره نفسه، قال الله عز وجل(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ)غافر10،فهم من حين دعوا للإيمان فكفروا ونفوسهم تكرههم وهم يكرهون أنفسهم،ويبشرون بأن مقت الله لكم أشد من مقتكم لأنفسكم.
قال النبي :(إن الله إذا أبغض عبدا نادى جبريل: إني أبغض فلانا فأبغضه، فيبغضه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يبغض فلانا فأبغضوه، فيبغضه أهل السماء، ثم توضع له البغضاء في الأرض) وقال تعالى (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ)الدخان29، وقال النبي (أما الكافر فيستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب) فلو كان نصيبك أيها المؤمن من الإيمان وفيرا كبيرا لنظرت لمن آذاك في الله بعين الإشفاق، إذ هو المحروم من أعظم نعيم الدنيا والآخرة، شقي في الدارين، وأنت مـَّن الله عليك بأعظم عطاء، فارحم من حسدك،واعفو عن من ظلمك، وصل من قطعك، وأعط من حرمك، فإنك بذلك تأخذ أضعاف أضعاف ما أعطيت.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
رد مع اقتباس
  #37  
قديم 04-04-2010, 11:10 PM
الصورة الرمزية ام خديجه
ام خديجه ام خديجه غير متصل
قلم برونزي
 
تاريخ التسجيل: Nov 2009
مكان الإقامة: الاسكندريه مصر
الجنس :
المشاركات: 1,316
افتراضي رد: سلسلة شرح حديث وجهت وجهى للذى فطر السماوات و الارض 00دعاء الاستفتاح رقم1


10-أنس الطائعين ووحشة الغاوين..تتمة

كتبه دكتورياسر برهامي
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أما بعد،
قول النبي : )وجهتوجهي للذي فطر السماوات والأرض، حنيفا مسلما، وما أنا من المشركين، إنصلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له، وبذلك أمرت وأناأول المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله لي إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك،ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعا، إنه لا يغفر الذنوب إلاأنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لايصرف سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك،أنا بك واليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، استغفركوأتوب إليك).

في قوله عليه الصلاة والسلام (لبيك وسعديك) قلنا أن هذه التلبية فيها إجابة لأمر الله عز وجل، فيستشعر العبد أن الله عز وجل قد ناداه وأراده وأخلصه له، فهو يجيب ربه إجابة بعد إجابة وهو مقيم على طاعته مستمر في عبادته والخضوع له، وشرعنا في ذكر الأبيات الجميلة للإمام ابن القيم، قال:

فما كل عين بالحبيب قريرة
ولا كل من نودي يجيب المناديا
ومن لم يجب داعي هداك فخلـِّه
يجب كل من أضحى إلى الغي داعيا
وقل للعيون الرُمَّدِ إياكِ أن ترِي
سنا الشمسِ فاستغشِ ظلام اللياليا
وسامح نفوسا لم يهبها لحبهم
ودعها وما اختارت ولا تك جافيا
وقل للذي قد غاب يكفي عقوبة
مغيبك عن ذا الشأن لوكنت واعيا
ووالله لوأضحى نصيبك وافرا
رحمت عدوا حاسدا لك قاليا
ثم يقول ابن القيم:

ألم تر آثار القطيعة قد بدت
على حاله فارحمه إن كنت راثيا
ألا ترى آثار المعاصي والذنوب والكفر والنفاق، والانقطاع عن الله وعن أمره وعن العمل بشرعه،ألا تراها ظاهرة على وجوه الكفرة والظلمة والفسقة وعلى أحوالهم كلها، ألا ترى كيف يقضون أوقاتهم في النكد والعذاب، لا يجدون راحة إلا بغياب عقولهم بالسكر بالخمر والمخدرات، والسكربالشهوات حتى ينسوا ما هم فيه من البلاء. إن هذه القطيعة التي بينهم وبين الله عز وجل يظهر لها أثر يراه كل مؤمن في وجوههم،فإن للمعصية ظلمة في الوجه وضيقا في الرزق وبغضا في قلوب الخلق،فالمؤمن يرى آثار الظلمة كما أنه يرى آثار النور كما قال الله عز وجل(سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ) فالطاعات لها آثار في الوجوه والأحوال.
لذلك تجد عامة شعوب الأرض لا تستغني عن الخمر،ووقع في روسيا منذفترة أن الحكومة لم تجدما يكفى المرتبات للموظفين، فعرضت أن يأخذوا بقيمتهاعبوات من المناديل الورقية،فتظاهر الناس رافضين، فأعطتهم بقيمتها الفودكا وهى الخمر الروسية، وهذه هي التي أسكتت الناس لأنها لازمة لهم في الحانات وعلى موائدهم، والعياذ بالله.وفي المشارق والمغارب تجد المخدرات منتشرة في البيئات المليئة بالمنكر والفساد، فلو كانت حياة الفرد عندهم سعيدةفلماذا يريد أن يغيب عقله؟، لماذا يريد ألا يشعر بما هو فيه؟، لا رد، إلا أنه يريد الهروب من واقعه إلى الخيال بالخمر والمخدرات، أو أن يشاهد التلفزيون والأفلام وأوهامها الخيالية، والعياذ بالله، كل هذا من آثار القطيعة، ولوأنه أتصل بأمر الله لكان بينه وبين الله عز وجل صلة كصلاة وزكاة وصوم،ولما شعر بهذا الألم، فهؤلاء جديرون بالشفقة والرثاء.
ثم يقول ابن القيم:

خفافيش أعشاها النهار بضوئه
ولائمها قطع من الليل بادية
هؤلاء الظلمة وأهل البدع والضلال مثل الخفافيش التي يعميها ضوء النهار، فالخفاش عندما يظهر النور لا يتحمل ولابد أن يعيش في الظلام،فهم أعماهم ضوء النهار أي نور الوحي المنزل، إذا ظهر تألموا، فعندما وجدواالبشر قد ساروا على طريق العبوديةتألموا ومكروا ليبعدوا الناس عن دين الله عز وجل، هؤلاء -والله- منهم العلمانيون المنافقون الذين يكادون يموتون كمدا حين يرون ظهور الإسلام وعودة الناس إليه، ومنهم اليهود والنصارى والمشركون وأذنابهم من أعداء الدين،فلا يلائمهم ولا يناسبهم إلا فترات الظلام فترات غياب ظهور الشريعة عن الأرض، وهيهات لهم فلا يزال الله يظهر الحق ويعلي الدين(أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ)الأنبياء44.
ثم يقول ابن القيم:
فجالت وصالت فيه حتى إذا

النهار بدا استخفت وأعطت تواليا


هؤلاء المجرمون يجولون ويصولون ويمرحون بباطلهم في فترات انتصار الباطل المؤقت، والذي قدّره الله وليس من صنعهم هم،هم يعتقدون أنهم انتصروا لكن الحقيقة أن ربنا قدّر فترات الظلمة فكما أن هناك ليل ونهار، فهناك فترات ينتصر الباطل وينتشر ويأتي النهار بعد ذلك،وقدّر الله وجود الظلام وفترة انتصار الباطل امتحانا لعباده المؤمنين ليعبدوه في فترة الإحراق قبل أن تأتي مدة الإشراق، فكما أن الليل والنهار من خلق الله فالاستضعاف والتمكين ومداولة الأيام بين الناس هي من أفعاله سبحانه،وإنما يصول أهل الكفر والظلم في الظلام ويظنون أنهم هم الذين صنعوا الظلام ومنعوا ظهور الإسلام وليس ذلك – والله- في قدرتهم (يُرِيدُونَ أَن يطفئوا نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوكَرِهَ الْكَافِرُونَ )التوبة32 ، (هُوالَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوكَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)التوبة33، فسوف يطلع النهار وسوف يشرق النور، نور الدين الحق ولوكره الكافرون، وعند ذلك ستختفي الخفافيش وتتوارى.وإنما قدّر الله ذلك ليعلم من يجيبه في فترة الإظلام ويسير إليه سبحانه رغم الظلمة، وإلا فعند ظهور نور الشمس يستيقظ كل الناس، ولكن من الذي سبق؟، الذي سار بالدجى والتزم بطاعة الله في فترة الظلمة (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل)
ثم يقول ابن القيم:

فيا محنة الحسناء تهدى إلى امرئ
ضرير عنين من الوجد خاليا
إذا ظلمة الليل انجلت بضيائها
يعود لعينيه ظلاما كما هي
انظر إلى أحوال الكافر والمبتدع قد غرقفي شهوات نفسه البهيمية والإبليسية، شهوات بهيمية كالأكل والشرب والنكاح وشهوات إبليسية كشهوة الكبر والعجب والعلوفي الأرض والرياسة والملك والجاه وإذلال الناس،انظر إليه حين يشبههابن القيم رحمه الله إذا ألقيتَ عليه مسألة محبة الله عز وجل ومسألة الإجابة إلى أمر الله والقرب منه، فتجدهلا يفقه كثيرا مما تقول،كأهل مدين قوم سيدنا شعيب إذ يقول لهم (إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) فيردوا عليه(يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ)هود91.
فمسألة محبة الله عز وجل عندما تطرح على شخص مبتدع ضال أوشخص كافر أوغارق في الشهوات كحسناء وضيئة زفت إلى رجل أعمى وِعنـِّين، والعياذ بالله،فهو أعمى لا يرى حسنها وِعنـِّين لا قدرة له على أن يصل إلى جماعها ووطئها، فالحسناء ستكون محنتها صعبة جدا، فقد يمكن تجاوز ذلكلأن معشره يهون ما به، ولكنه فوق ذلك بلا حب وخالٍ من الود والوجد، وهو أمر غاية في السوء، وهو مـَثلدقيق للإنسان الذي لم يحب الله قط في عمره، ولا يفهم ولا يرى ولا قدرة له على أن يتعبد لله، لا يعيش إلا في الشهوات، لا يعيش إلا في الضلال، يشتم ويسب ويلعن، يشرب المخدرات، يظلم الناس ويسرق يعتدي، هذه هي حياته والعياذ بالله، وما أسوأ معاملته للحسناء لا يمكن أن يعاشرها ولا أن يرى جمالها، حتى وإن كان جمالها لـَيـُذهب ظلمة الليل فتنيره.
مسألة حب الله ككتاب الله لأنها منه (لا يمسه إلا المطهرون)والكتاب دل عليها، وهذا القرآن لا يمسه إلا المطهرون على أحد الوجوه في التفسير، أوهوإشارة إلى أن القرآن لا يفهم معناه ولا يمس قلبه إلا من كان متطهرا قلبه، فمن الذي يجد لذة القرآن كما قال عثمان رضي الله عنه:"لوطهرت قلوبكم لما شبعت من كلام الله فهذه المسألة لا يفهمها ولا يفهم معناها ولا يذوق لها حلاوة ولا يرى قبسها ونورها إلا من كان مطهرا.
فلوكلمت واحدا من هؤلاء عن العبودية والحب وعن لبيك وسعديك أعاد الضياء في عينيه ظلاما، وبقيت عينيه مظلمة كما هي من قبل عرض هذه المسألة عليه، فإذا كان الأمر كذلك فلا تعرضها عليه ولا تحاول معه طالما وجدت إعراضا فضن بها إن كنت تعرف قدرها، إلا أن ترى كفؤاً آتاك مواتيا، فابخل بهذا العلم عن غير أهله،ولا تضيع وقتك إن كنت تعرف قدره.
وليس معنى ذلك عدم عرضه على الخلق ابتداءا، بل لابد من البيان لكن إذا وجدت الإعراض والغفلة والعمى فابتعد عنهم حتى تجد من يصلح لهذا الشأن وعلمه هذا العلم وبينه له، فهوالذي يقبله، وهوكالكفء للحسناء آتاك موافقا على بذل مهر المحبة، وهوالتضحية والبذل للنفس والمال فما مهرها شيء سوى الروح.
فيا أيها الجبان تأخر، لست كفؤاً مساويا، إذا أردت أن تكون محبا محبوبا فإن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، فنفسك وروحك - إذا إن كنت قبلت البيع- ليست ملكا لك، فسلمها لمالكها يفعل بها ما يشاء، وهوقد وعدك أنه يحفظها عليك ويردها عليك أوفر مما كانت، أما من لا يريد البذل ولا التضحية ولا يريد أن يصاب في سبيل الله فهوالجبان عن البذل فليتأخر فليس أهلا للمحبة ولا صالحا لهذا البيع (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ)البقرة214
ثم يقول ابن القيم:

فكن أبدا حيث استقلت ركائب
المحبة في ظهر العزائم سارية
كن أيها المؤمن حيث أمرك الله شرعا أن تكون، وافعل ما يحبه الله وما يقتضيه حبه من اتباع رسوله ، فهذا الحب يحملك حملا إلى المنازل العالية في أسرع وقت وفي أهنأ سفر وأكثره راحة بلا عناء ولا تعب، وسر دائما بالعزيمة والإرادة الجازمة لوجه الله، فالإرادة الصادقة التي لا تنثني منك له سبحانه تسير على ظهرها إلى بلاد الأفراح.والحمد لله رب العالمين


صوت السلف
رد مع اقتباس
  #38  
قديم 04-04-2010, 11:11 PM
الصورة الرمزية ام خديجه
ام خديجه ام خديجه غير متصل
قلم برونزي
 
تاريخ التسجيل: Nov 2009
مكان الإقامة: الاسكندريه مصر
الجنس :
المشاركات: 1,316
افتراضي رد: سلسلة شرح حديث وجهت وجهى للذى فطر السماوات و الارض 00دعاء الاستفتاح رقم1

11- الخير كله في يديك والشر ليس إليك
كتبه دكتور ياسر برهامي


الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أما بعد،
قول النبي :(وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض، حنيفا مسلما، وما أنا من المشركين، إنصلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له، وبذلك أمرت وأناأول المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله لي إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك،ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعا، إنه لا يغفر الذنوب إلاأنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لايصرف سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك،أنا بك واليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، استغفركوأتوب إليك).


في قول النبي (الخير كله في يديك والشر ليس إليك) بعد (لبيك وسعديك) يستشعر المؤمن معاني عظيمة وهي أن إجابة العبد لربه وكونه في طاعته وخدمته تقرب العبد من ربه، وهو سبحانه وتعالى يتقرب إلى العبد أضعاف ما يتقرب العبد إليه، كما في الحديث القدسي (ومن تقرب إلي شبرا تقربت منه ذراعا، ومن تقرب إلي ذراعا تقربت منه باعا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة) فيحصل من هذا القرب المتزايد أن يحضر القلب بين يدي ربه، ففي (الخير كله في يدك) تناسب وارتباط رائع وعظيم وواضح مع (لبيك وسعديك)، عندما أجاب المرء اقترب؛ فتقرب الله إليه أكثر فقربه إليه أكثر، وهكذا حتى يحضر القلب بين يدي ربه، ويخرج من ضيق الدنيا ويشهد ملكوت السماء والأرض وملك الله عز وجل ويحضر قريبا من الله، هذا قرب حقيقي للروح، كما قال ربنا سبحانه وتعالى (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) (العلق : 19) وكما قال النبي (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)، و كل طاعة تسمى قربة كما قال عز وجل ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ) (المائدة : 35) فالقربة كل ما يقرب إلى الله ، فيقترب العبد إلى أن

يشهد الرب سبحانه وتعالى يدبر الأمر كما يريد، فيحضر القلب بين يدي ربه،

يشهد من صفات الكمال والجلال والعظمة ما لم يكن ليشهده ويستحضره قبل كذلك،

يشهد حكمة الله حين يدبر،

يشهد قهره للعباد،

يشهد أنه الأول والآخر يجمع بين الأزل والأبد،فيشعر بمدى صغر نفسه وصغر العالم حوله،

يشهد أنه هو الظاهر والباطن فيشهد أيضاً صغر المكان الذي هو فيه فالله محيط بخلقه،

يشهد أن الله عز وجل يفعل في خلقه ما يُحمد عليه عز وجل دائماً، فكل أفعاله خير وكل أسمائه وصفاته خير،

ما الذي أشهده ذلك؟، ما الذي أخرجه من ضيق الصراعات الدنيوية والشهوات الحقيرة والتنافسات والمشاكل والنكد اليومي الذي يعيش الناس فيه؟، الذي أخرجه من ذلك هو إعلانه (لبيك وسعديك) حتى اقترب من الله عز وجل فشهد عظمة جلاله وصفات كماله سبحانه وبحمده، ولا يزال العبد في مزيد من هذا الشهود المستلزم للحب العظيم طالما كان في مزيد من الإجابة والإسعاد بأمر الله سبحانه، ولا نهاية لهذا الأمر ولا في الآخرة.

هاهم أهل الجنة لا يزالون يقتربون من الله أكثر، ويشهدون عظمته أكثر ويزدادون له حباً وتعظيماً، ويزدادون بذلك سعادة، ولذلك لدي ربهم عز وجل مزيد لا ينقطع، ولا قدرة للعقل البشري على أن يحيط بكيفية ذلك، لكن أهل الجنة نعيمهم دائماً في مزيد، والمزيد أساسه النظر إلى وجه الله عز وجل والمعرفة به، إنهم إذا رأوا ربهم عز وجل عرفوا من كماله وجماله وجلاله ما لم يحيطوا به قبل ذلك، رأوه سبحانه وتعالى فيكون ذلك أعظم سعادة، كما أن المعرفة بكمال الرب سبحانه وتعالى في الدنيا هي أكمل سعادة في الدنيا وشهود الأسماء والصفات واستحضار معانيها وتعظيم الرب سبحانه وتعالى أعظم نعيم ممكن أن يناله الإنسان في الدنيا، فكذلك في الآخرة لا يزال في تقرب والله يقترب منه أكثر بلا نهاية.

(والخير كله في يديك) كان العبد قبل التلبية بعيداً فلم يكن يشهد أنواع الكمال والجمال والعظمة و الخير الذي في يديه سبحانه ، فإذا شهد ذلك قال: (والخير كله في يديك)، ليس في أفعال الله ولا في أسمائه وصفاته شر قط، ولا ذرة ولا أدنى من ذرة، وأما في مخلوقاته فليس فيها شر محض، فقد يخلق الله شراً، ولكن ليس شراً من كل جهة، بل ما خلقه الله من الشر يجعل فيه خيراً من وجه آخر، ربما لهذا المخلوق الذي اتصف بالشر أو قام به أو فعله إذا تاب ورجع وأناب إلى الله، كما تكلمنا عن حكمة الله عز وجل في تقدير الذنب على العبد وفرحه بتوبة عبده حين يتوب إليه وتنقلب هذه الذنوب حسنات لأنها سبب للتوبة التي قربته إلى الله سبحانه وتعالى.

ويمكن ألا يتوب هذا المخلوق ويظل على ذلك إلى أن يموت، فأين الخير؟ يجعل الله الخير لغيره من المخلوقين، الذين يحصل لهم من أنواع الخيرات - بسبب هذا الشر النسبي الذي وقع منه - ما لا يحصيه إلا الله، وذلك بمجاهدته ومخالفته وكراهيته فيأخذون ثواباً على ذلك، يجاهدون في سبيل الله ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويصبرون على ما يلقونه، ويلجئون إلى الله ويتحصنون به ويشهدون فضله عليهم ومنته التي لم يوفق غيرهم لها، ويقولون الحمد لله أن عافانا من هذا الشر، كما قال الله تعالى عن المؤمن أنه يقول لقرينه (قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) (الصافات : 56 , 57) فما الذي جعله يشهد نعمة ربه أكثر؟، أنه رآه في سواء الجحيم، فيعرف نعمة ربه. وغير ذلك كثير من أنواع العبودية والخيرات التي لا يحصيها إلا الله سبحانه والتي تترتب على تقدير وقوع الشر..

فكل ما يفعله الله يستحق عليه الحمد، ويوم القيامة كل الناس تشهد بذلك حتى الكفرة الذين دخلوا النار كما قال سبحانه وتعالى (وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الزمر : 75)، قال الحسن:"إن أهل النار دخلوا النار، وإن حمد الله لفي قلوبهم لا يملكون غير ذلك"، فرغم ألمهم وعذابهم وشقائهم لا يملكون أن ينسبوا إلى الله النقص أو الظلم فيزعمون أن هذا العذاب في غير موضعه، فما وقع يستحقونه بمقتضى العدل والحكمة، فلا يملكون إلا أن يقروا أنه الحميد سبحانه.

والمؤمن مع هذه الجملة العظيمة (والخير كله في يديك) ينظر فيما يفعله الله به وبغيره، ويشهد فضله عليه في المنحة والمحنة والعطاء والمنع، وعندما يمنعه يحمده ويشهد خيراً في هذا المنع، وعندما يمتحنه في محنة يشهد فيها من أنواع الفضل العظيم ما يحمد الله عليه، وربما تكون هذه المحنة بالنسبة له أكثر نعيما من فترات المنح والعطايا الدنيوية، وعندما يعطيه من الدنيا وعندما يرفع عنه المحنة يشهد الخير في ذلك، قال (عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له) فالله سبحانه يجعل في ما يصيب المؤمن من الآلام والمشاق من أنواع اللذات والنعم ما لا يحصل له إلا بالألم (فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيرا) النساء19، (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) البقرة216.

فإذا شهد المؤمن ذلك رضي بالله ربا مدبرا معينا وكيلا، يفوض إليه أمره كله، ويرضى عنه في كل ما يفعله من حيث فعله هو سبحانه، وإن كان لا يرضى بما لا يرضى به سبحانه من المخلوقات، فهناك نظرتان، نظرة المؤمن إلى أن ربنا هو الذي يفعل فيرضى عن فعل الله، ونظرة أخرى إلى المخلوق الشرير فلا يرضى به، لأن الله الذي خلقه لم يرض عنه، فربنا يكره الشر وإن كان خلْق الله للشر ليس بِشر، فخلق الله للشر وراءه من الحكم والمصالح والنفع والخير للمؤمن ما يجعله يقول (الخير كله في يديك، والشر ليس إليك) فالمؤمن تابع لأمر ربه الشرعي في محبته وكراهته ورضاه وسخطه، يرضيه ما يرضي ربه ويسخطه ما يسخطه، ويحب ما يحبه ويكره ما يكرهه، أما عن فعل ربه عز وجل وأسمائه وصفاته فهو دائما شاهد فيها الخير والكمال والفضل، راض به على الدوام.

إن هذه المسألة من أسباب السعادة المعجلة في الدنيا قبل الفوز الأبدي بها في جواره سبحانه وتعالى، والرضا عن الله الذي يؤدي إلى أن يرضى الله عنه (رضي الله عنهم ورضوا عنه) هذا الرضا راحة،ولا يوجد راحة في الدنيا إلا بالرضا، نسأله سبحانه أن يرزقنا رضاه وحبه والرضا به وعنه عز وجل.

وقوله (والشر ليس إليك) أي لا ينسب إلى الله عز وجل وصفا فليس من صفاته الشر، ولا ينسب له فعلا ولا اسما، كما لا يتقرب به إليه، ولا يلزم من ذلك أن يكون الشر خارجا عن مخلوقاته، بل هو من خلقه بلا شك قال تعالى (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) القمر49، وقال تعالى (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) الزمر62، يشمل ذلك الخير والشر، وقال إبراهيم عليه السلام (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) الصافات96، ولكن خلقه سبحانه للشر ليس بشر، فهناك فرق بين الخلق الذي هو فعله والمخلوق، فالعباد فاعلون حقيقة لأفعالهم، خيرها وشرها، والله خالقهم وخالق أفعالهم وإرادتهم وقدرتهم، وهو الذي جعلها سببا لوقوع أفعالهم، وقدَّر ذلك، ومن هنا كان وجوب الإيمان بالقدر خيره وشره، وشر القدر هو الشر المقدر، فربنا قدر وجود شر، وليس أن فعل الله شر، فعل الله خير وليس فيه شر، (والشر ليس إليك) فالشر الذي في القدر هو المقدر المخلوق، فالله قدر وجود الخير وقدر وجود الشر، فهذا معنى الإيمان بخير القدر وشره، فأما فعل الله عز وجل فكله خير لا شر فيه البتة والحمد لله رب العالمين.

فعندما يقول العبد (الخير كله في يديك والشر ليس إليك) يجد أحيانا من نفسه تعجباً لماذا يوجد هذا الشر ؟، ولماذا لا يريد أن ينتهي؟، وماذا سنفعل فيه؟، فعندما يستحضر أن الخير كله في يد الله، وأن الشر ليس إليه، وأن هذا الشر الذي وجد في النهاية من وراءه خير، يستريح رغم الألم الموجود، ويحصل له من العطية في الشر المقدر من عند الله عز وجل ما تقر به عينه إذا تقرب إلى الله عز وجل.

ولكن كيف يصل الإنسان لهذه المرتبة؟، (أنا بك وإليك) لن يصل بنفسه، بل بالله عز وجل، وكيف سيثبت؟، فالوصول شيء والثبات شيء آخر، فربما يصل ثم تأخذه الدنيا ثانية، نسأل الله العافية، فيقول (أنا بك وإليك) فيه تحقيق إياك نعبد وإياك نستعين، فقوله (أنا بك) معناه الافتقار التام إلى الله والاستعانة به، أنا بك يا رب أنت الذي خلقتني و أوجدتني، وحياتي وسمعي وبصري وقلبي بك يا رب، وكل قواي وإرادتي وبقائي ليس لي منه شيء، إنما كل ذلك بك يا رب، وعبادتي وذكري وتوجهي إليك، وركوعي وسجودي وصومي وصلاتي واهتدائي بك يا رب.

(وإليك) فيها معنيان، الأول: أنا مخلص إليك و الثاني: راجع إليك، ففي الأول تحقيق توحيد الألوهية، وفي الثاني تحقيق الإيمان باليوم الآخر، فالأول التوحيد والعبادة والثاني أنا معروض عليك، وأنا أتذكر الإيمان باليوم الآخر، قال تعالى (وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) البقرة281، وهذا من أعظم أسباب الإخلاص.

كيف يحقق الإنسان الإخلاص؟، يتذكر مرجعه إلى الله وموقفه بين يدي الله، ويتذكر أنه يريد أن يتوجه إلى الله، فكلما تذكر الإنسان نهايته وأنه موقوف بين يدي ربه فردا بلا حجاب ولا ترجمان، وأن من حوله من الناس من أهل وولد وأصحاب وغيرهم كلهم تاركه وحيدا فردا (إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً) مريم95، حينما يتذكر ذلك يصغر الناس في قلبه وتصغر الدنيا فلا يعمل لهم ولا لها، بل يجعل عمله لله وحده لا شريك له، فهناك ارتباط وثيق بين المعنيين: بين معنى توجهي إليك يا رب وبين مرجعي إليك يا رب. (أنا بك وإليك) فيها معاني الاستعانة والعبادة والإيمان باليوم الآخر وكلها مرتبطة ببعضها، (الخير كله في يديك والشر ليس إليك أنا بك وإليك) وأقسم بالله العظيم أن هذا دعاء عجيب الشأن، ووالله، فعلا، من جوامع الكلم ومعجزة.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العلمين .

صوت السلف
رد مع اقتباس
  #39  
قديم 04-04-2010, 11:14 PM
الصورة الرمزية ام خديجه
ام خديجه ام خديجه غير متصل
قلم برونزي
 
تاريخ التسجيل: Nov 2009
مكان الإقامة: الاسكندريه مصر
الجنس :
المشاركات: 1,316
افتراضي رد: سلسلة شرح حديث وجهت وجهى للذى فطر السماوات و الارض 00دعاء الاستفتاح رقم1

12- أنا بك وإليك
كتبه دكتور ياسر برهامي
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أما بعد،
قول النبي (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض، حنيفا مسلما، وما أنا من المشركين، إنصلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له، وبذلك أمرت وأناأول المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله لي إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك،ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعا، إنه لا يغفر الذنوب إلاأنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لايصرف سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك،أنا بك واليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، استغفركوأتوب إليك).

في قوله (لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك) فيه تحقيق الامتثال لأمر الله تعالى بالفرار إليه، قال عز وجل (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ) الذاريات 50، وهو مثل قول النبي (اللهم أنى أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك)، كذلك فإن العبد إنما يفر من قدر الله إلى قدر الله، ويدافع قدر الله المكروه بقدر الله المحبوب وذلك بالاستعانة بالله وبتوفيق الله عز وجل.
فينبغي أن يستحضر الإنسان أنه في خطر، وهذا الخطر بقدر الله عز وجل ولن ينجو منه إلا بالفرار من الله عز وجل إليه، وهو عز وجل الذي يقدر له الخير وينجيه من القدر المكروه، كما قال عمر:"نفر من قدر الله إلى قدر الله", أي نفر من قدر الله المكروه إلى قدر الله المحبوب.
وإن من دخل النار دخلها بقدر وبالحق الذي كتبه الله عليه والشقاء الذي كتب عليه, ومن دخل الجنة دخلها بقدر، بقدر التوفيق من الله عز وجل وقدر الهداية حتى يدخل الجنة.
فأنت تفر من النار إلى الجنة، تفر من غضب الله عز وجل وعقابه إلى مرضاته وطاعته ولن يكون ذلك إلا بالله، فلا ملجأ يتحصن العبد به مما يقدره الله عليه من المكروه والسوء إلا إلى الله سبحانه، ولا نجاة للعبد مما يخافه ويحذره مما أصابه ووقع به إلا بالله، فالعبد يفر من الله - أي مما يخافه من عقوبته وسخطه ومعاصيه التي هي أسباب العقوبة - إلى الله أي بالاستقامة على أمره والعمل بطاعته والإخلاص له فإنه بذلك ينجو من سخط الله تعالى وعذابه.
وهو يعوذ بالله منه، يعوذ بالله عز وجل من أن يُقَِدر الله عليه مكروها، إذ كل شيء ملك يده وكل شيء بقضائه وقدره فلا يملك العباد لأنفسهم ضراً ولا نفعا ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً, فكيف يملكون ذلك لغيرهم ؟!
وهذا الدعاء يتضمن عدم رجاء الناس ولا خوفهم، فالخلق لا يملكون له ضراً ولا يجلبون له نفعاً, فعلام يرجوهم أو يخافهم؟!
فإن ما أصابك بقدر الله ما كان ليخطأك، وما أخطأك مما لم يقدره الله لك لم يكن ليصيبك، ولو اجتمع الخلق على أن ينفعوك بشئ لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله، عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف.
وهذه الكلمة والتي قبلها(أنا بك وإليك)و(لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك)تجمعان بين الإيمان بالقدر الامتثال للشرع بأيسر عبارة وأوضح معنى مفهوم، وتحل المشكلة التي حيرت البشرية البعيدة عن الوحي منذ أزمنة متطاولة في كيفية الجمع بين الأمرين، بين الشرع وبين القدر، بين شهود أفعال يخلقها رب قادر وبين أن العباد لهم قدرة وإرادة وأفعال، فهذه المسألة لم تزل تحير البشر،
منهم من قال بالجبر ولم يرى قدرة الإنسان ولا إرادته،
ومنهم من قال بنفي القدر وقال لا توجد قدرة لله على أفعال العباد الاختيارية،
ومنهم من أنكر وجود الله بالكلية - كالماركسيين مثلا-، فسبب الإلحاد عند ماركس هو هذه القضية فقد أنكر وجود الله بالكلية لأنه لم يفهم هذه المسألة، بل مدار نفيه لوجود الله - عندما يبرره في فلسفته- هو أنه كيف نقول بوجود رب لابد أن يتصرف في أفعال عباده؟، ولو تصرف في أفعال العباد يبقى أنه لا معنى لأمرهم ونهيهم ولا لوجود تشريع أو دين وبالتالي نفى الدين ونفى وجود الله، والعياذ بالله.
لذا فهذه الجملة (لا منجا ولا ملجأ منك إلا إليك) والتي قبلها (أنا بك وإليك) تحل هذه المشكلة، فنحن نؤمن بالقدر ونستعين بالله شاهدين قوته وقدرته وحكمته وحكمه وعدله وفضله، ونشهد كذلك حكم الله الكوني فله الحكمة في كل ما يقدر، وهو العدل في كل ما يفعل، والأمر بيده عز وجل ومن ثم نعمل بالشرع نخضع له ونستسلم لأوامر الله الشرعية ونحن مستعينين بالله في ذلك راغبين في فضله راهبين من عقابه محبين له ولما يحبه ويرضاه.
ترى ذلك الأمر في الفاتحة حيث التأكيد على هذه القضية في (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) الفاتحة 5، ذلك أن هذه القضية عظيمة الأهمية فهي متكررة كثيرا جدا في مواطن مختلفة وكذلك هي موجودة في معظم أدعية النبي فقد تكرر كثيرا الجمع بين الإيمان بالقدر والإيمان بالشرع، تجد ذلك أيضا في سورة الحديد قال عز وجل (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا) الحديد 22 ثم قال بعدها (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) الحديد 25، فنحن نعمل بالشرع ونؤمن به، نؤمن أن المصائب كلها مقدرة قبل خلق العالم ونؤمن كذلك بأن الشرع نزل ليقوم الناس بالقسط -الكتاب والميزان -الذي توزن به الأعمال والأقوال القياس الصحيح.
وقوله (تباركت وتعاليت)
البركة الخير الكثير، فتبارك الله أي كَثُر خيره وعَظُمت صفاته وحَسُنت أسمائه سبحانه وبحمده.
إن هذا من أعظم رجاء يرجو به العبد الخير من ربه وهو أن يشهد الخير الكثير منه عز وجل وفي صفاته وفي أفعاله عز وجل، فمن هنا يرجو العبد أعظم الرجاء والله عز وجل لا يُعدم منه الخير أبدا، وفي الحديث (لن نعدم من ربِ يضحك خيراً)، فكذلك لن نعدم من ربِ تبارك خيراً، يقول الله عز وجل (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) الملك 1، (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ)الفرقان 1، فلا نزال نرجو الخير من الله تبارك وتعالى.
والتعالي من صفاته سبحانه وتعالى وهو بمعنى العلو،
علو الذات فهو فوق عرشه كيف شاء سبحانه وعرشه سقف لجميع مخلوقاته فهو عز وجل فوق خلقه جميعاً (يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) النحل 50، (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى) الأعلى1 ، (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) البقرة 255, هذا علو الذات.
وعلو الشأن فهو سبحانه وتعالى متعال في كل صفات كماله عما يضادها من النقص، فتعالى في وحدانيته وإلهيته عما يشركون، تعالى عن وجود الشريك وتعالى في كمال أسمائه وصفاته عما يصفه به المخالفون للرسل من صفات النقص كما يقولون (قَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً) البقرة 116 تعالى عما يصفون، تعالى عما يشركون، تعالى في كمال ربوبيته وقيومته عن الظهير والمعين، (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ)سبأ 22، ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له، وتعالى في كمال حياته عن السنة والنوم والموت (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) الفرقان 58، وقال تعالى (اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ) البقرة 255، وتعالى في كمال عدله عن الظلم ولو مثقال ذرة (إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) النساء 40، وتعالى في كمال حكمته عن العبث واللعب واللهو (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ) الأنبياء 16, وقال تعالى (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ) المؤمنون 115, 116 وقال (لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ) الأنبياء 17 أي ما كنا فعلين, إن هنا نافية.
وتعالى في كمال قدرته عن العجز والإعياء والتعب واللغوب (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً) فاطر 44 وقال تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى)الأحقاف 33، فهو لا يصيبه إعياء سبحانه وتعالى (بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الأحقاف 33، كذلك تعالى عن التعب واللغوب قال تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ ) ق 38، وتعالى عز وجل في كمال علمه عن الجهل والنسيان وغياب شيء عن علمه قال عز وجل عن موسى (لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى) طه 52، فهو لا يجهل ولا ينسى (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) سبأ 3، عالم الغيب والشهادة (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ)الأنعام 59، وتعالى سبحانه في كل صفات الكمال عن أي صفات نقص سبحانه وبحمده (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ )الشورى 11.
والمعنى الثالث علو القهر (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ) الأنعام 18, (وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) الرعد 16، قد قهر كل شيء وهو غالب على أمره لا يُنازع ولا يُغالب ولا يُمانع (وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ) الرعد 11، إذا أرد أمراً لا يمنعه منه أحد (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِّن دُونِنَا) الأنبياء 43، لا راد لأمره ولا معقب لحكمه، إذا أمر أمراً لا يُرد وإذا حكم بحكم لا يوجد تعقيب عليه لا شرعاً ولا قدراً، وهنا المقصود قدراً (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) يس 82، فكل من سوى الله مقهور تحت أمره سبحانه.
إذا استشعر العبد ذلك (تباركت وتعاليت)تصاغر الخلق في قلبه وفي عينيه وشعر بأن الأمر من فوق (تعاليت)، فيشعر بعلو الله والأوامر نازلة من عند الله لا من عند الناس ( يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) السجدة 5، يستشعر أن المَلك يُدبر، وأن المُلك يدبره مالكه الحق من فوق سبع سماوات وأن أعمال العباد -وهو منهم-معروضة عليه سبحانه، وهذا من أعظم أسباب الإخلاص والصدق مع الله سبحانه وتعالى، حين تعلم أن عملك معروض على الله صاعد إليه، وبالتالي فأنت تراقب الله عز وجل في عملك وتخلص له وتنسى الناس وتستصغرهم ولا تعمل من أجلهم، ولذلك هناك ارتباط عظيم بين قضية العلو وقضية الإخلاص والتوحيد والإلهية، فإذا قال العبد (تباركت وتعاليت) أثبت صفات الكمال لله وعلم علو الله عز وجل على خلقه فرجى الخير من الله وأخلص لله وحده لا شريك له.
هذا كله يحصل به أعظم أنواع العلم والخير للعبد إذا استحضر هذا الدعاء العظيم، لم يبق إذن إلا إزالة العوائق, العوائق هي الذنوب لذا كان ختم الدعاء بالاستغفار والتوبة إلى الله عز وجل.
ونستكمل هذا في مقالة تالية إن شاء الله
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله أنت أستغفرك وأتوب إليك

صوت السلف
رد مع اقتباس
  #40  
قديم 04-04-2010, 11:15 PM
الصورة الرمزية ام خديجه
ام خديجه ام خديجه غير متصل
قلم برونزي
 
تاريخ التسجيل: Nov 2009
مكان الإقامة: الاسكندريه مصر
الجنس :
المشاركات: 1,316
افتراضي رد: سلسلة شرح حديث وجهت وجهى للذى فطر السماوات و الارض 00دعاء الاستفتاح رقم1


تمت السلسلة بحمد الله

13- أستغفرك وأتوب إليك
كتبه دكتورياسر برهامي
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أما بعد،
قول النبي : (وجهتوجهي للذي فطر السماوات والأرض، حنيفا مسلما، وما أنا من المشركين، إنصلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له، وبذلك أمرت وأناأول المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله لي إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك،ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعا، إنه لا يغفر الذنوب إلاأنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لايصرف سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك،أنا بك واليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، استغفركوأتوب إليك).

قوله (استغفرك وأتوب إليك) ختم به هذا الدعاء العظيم الذي هو من معجزات النبي الباهرة، والذي بلا شك يعجز الناس أن يأتوا بمثله أبدا فكيف بالقرآن العظيم وهو أكثر إعجازا فهو كلام الله عز وجل، كما قال سبحانه وتعالى (فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) يونس38 (فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) البقرة24، ولا يستطيع أحد أن يأتي بمثل كلام الله أبدا، ولأجل أن دعاء النبي وكلماته تضمنت معاني القرآن صارت كذلك من أدلة نبوته عليه الصلاة والسلام، وصارت معجزة يعرف كل من يتأملها ويتدبرها أنها لا تصدر أبدا إلا من النبي عليه الصلاة والسلام.
قد تضمن هذا الدعاء أنواعا من الخير ومعاني الإيمان، وجدد الإيمان في القلب، ولم يبق إلا إزالة المعوقات ومحو العقبات ومباعدة الأسباب التي تحول بين القلب وبين الله وهي الذنوب والمعاصي، وذلك بطلب المغفرة وهي الستر مع الوقاية من أثر الذنب، يقال "مِغفر" لأنه يقي الوجه، و"غفر" بمعنى ستر ووقى الشر، فالمغفرة ستر الذنوب حتى لا يفضح بها العبد مع الوقاية من شرها بعدم العقوبة.
والتوبة هي الإنابة والرجوع إلى الله والعمل بطاعته والندم على معصيته، فالندم توبة كما قال النبي مع العزم على عدم العودة إلى المعصية والإقلاع عنها بالفعل وصحبة أهل الصلاح في طاعتهم بالقلب والبدن، وإن عجز بالبدن فبالقلب، فإن صحبة أهل الصلاح من علامات التوبة النصوح، ومن فقه أهل العلم والإيمان أن يأمروا التائب بذلك كما قال العالم الذي سأله الرجل الذي قتل مائة نفس (إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة، قال: نعم ومن يحول بينه وبين التوبة انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها قوما يعبدون الله فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء) فمن فقه أهل العلم والإيمان أن التائب إلى الله عز وجل لابد أن يبدل المجتمع والبيئة التي يعيش فيها، وأن يصحب أهل الصلاح في طاعتهم وذلك لأن الإنسان يتأثر بقربه من المطيعين العابدين إذا عبد الله معهم، ويكون ذلك معينا له على الطاعة، قال الله عز وجل لخير خلقه (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) الكهف28، فإذا كانت صحبة الصالحين الأدنى حالا احتاج إليها الإنسان الرسول ، وهو السبب في هدايتهم وفي معرفتهم بربهم وطلبهم لوجهه، ومع ذلك أُمر أن يصبر نفسه معهم لأن صحبة الصالحين سبب لزيادة الإيمان حتى ولو كانوا أقل حالا منك، وهذا نوح عليه السلام يأبى أن يطرد المستضعفين المؤمنين ويقول (وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ)هود30، ولذلك فإن من الضروري لك أيها التائب أن تبحث عن أصدقاء صالحين يعبدون الله فتعبد الله معهم، اقترب منهم ولا ترجع إلى أرض السوء التي كنت فيها، وإياك أن ترجع إلى أصدقاء السوء وأصحاب السوء وأماكن السوء التي كنت تعمل فيها بمعاصي الله، فإخوانك يعينونك على الطاعة ويذكرونك إذا نسيت وينصحونك إذا أخطأت فلابد أن تكون معهم فإذا قلت حينها استغفرك وأتوب إليك كنت صادقا في ذلك و تبدلت السيئات بالحسنات.
قد لا يجد الإنسان في محلته أهل صلاح، فليهاجر وليبحث عن قرية صالحة، وإن عجز أو حبس أو منع فلم يصل فالقلب يكفي إن عجز عن ذلك بالبدن، فصحبة الصالحين بالقلب لا تحتاج إلى زمان ولا إلى مكان، لذلك تستطيع أن تصحب الأنبياء بقلبك وتستطيع أن تصحب الصالحين وذلك إذا قرأت القرآن مع التدبر لسيرتهم ومعرفة صفاتهم، وكذلك دراسة سنة النبي فتكون صحبة بالقلب، فإن الأرواح جنود مجندة يقترب بعضها من بعض ويبتعد بعضها عن بعض عبر الزمان والمكان ودون حواجز الموت والحياة كما قال عز وجل عن إبراهيم ونوح قال عز وجل عن نوح (وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ) الصافات83، فمع أن بين نوح وإبراهيم مسافة - الله عز وجل أعلم بها- صار من شيعته أي من أهل طريقته ومنهجه وملته رغم تباعد الزمان، ولذلك فإن صحبة أهل الصلاح بالقلب و بالبدن ما استطعت لذلك سبيلا علامة توبة صادقة.
وفي قوله تبارك وتعالى (فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) الفرقان70، وجهان:
الأول أنهم يتركون العمل بالسيئات ويعملون بالحسنات،
والثاني أن تلك السيئات الماضية تنقلب بنفس التوبة النصوح حسنات، لأن كل سيئة تاب منها فقد محي الذنب وبقيت عبودية التوبة فصارت حسنة توضع في ميزانه، ثم الله يتكرم على من شاء فيجعل مكان كل كبيرة من الكبائر وكل صغيرة من الصغائر حسنات لمن أراد أن يغفر له تفضلا من عنده عز وجل، فاللهم اغفر لنا وتب علينا انك أنت التواب الرحيم.
إذا استحضر العبد هذه المعاني استعد قلبه أعظم استعداد للدخول في فاتحة الكتاب بعد الاستعاذة من الشيطان الرجيم فينهل من كنوزها ويناجي ربه بها، فهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيه النبي ، قال عز وجل (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) الحجر87، وقال عليه الصلاة والسلام لأبي سعيد بن المعلى عندما قال له (لأعلمنك أعظم سورة في كتاب الله فقال هي فاتحة الكتاب هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته).
و يكفي أن الفاتحة سميت القرآن العظيم لأن معاني القرآن موجودة في الفاتحة، لذلك فالفاتحة هي الكنز الأعظم ولذلك تكرارها في الصلاة في كل ركعة ضرورة من الضرورات وحاجة الإنسان إليها حاجة ماسة.
نسأل الله أن ينفعنا بالقرآن العظيم وبسنة رسوله الكريم ، وأن يجعل قرة عيوننا في الصلاة، وأن يرزقنا لذة النظر إلى وجهه، والشوق إلى لقاءه في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


صوت السلف
رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 262.56 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 256.84 كيلو بايت... تم توفير 5.72 كيلو بايت...بمعدل (2.18%)]