|
ملتقى الحوارات والنقاشات العامة قسم يتناول النقاشات العامة الهادفة والبناءة ويعالج المشاكل الشبابية الأسرية والزوجية |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#31
|
||||
|
||||
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (31) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ . فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) (البقرة:136-138). بعد أن بيَّن الله -تعالى- حقيقة الإيمان الواجب بجميع الرسل والأنبياء، وجميع الكتب المنزلة، وأنها جميعًا من عند الله لا تختلف في الملة والعقيدة والإيمان، وإن اختلفت الشرائع التي خُتمت بشريعة الإسلام التي نسخت كل ما يخالفها؛ بيَّن -عز وجل- وجوب الإيمان كإيمان الصحابة مع الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ إذ شهد لهم بالهداية، فقال: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا)، فالهداية في الإيمان مثل إيمانهم، والتصديق مثل تصديقهم، وأما مَن أعرض عن طريقتهم فهو مَن تولى عن الحق وضل عنه، وسيظل مُشَاققًا؛ أي: يكون في شق، والحق في شق آخر، يظل مفارقًا له، معاندًا محاربًا له، كما أنهم في أنفسهم في شقاق مع أنفسهم ومع بعضهم البعض، فلا يزالون مختلفين مقتتلين، (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) (البقرة:253)، فالله يكفي المؤمنين كيدهم وشقاقهم ومكرهم، ويحفظ نبيه -صلى الله عليه وسلم- وأولياءه المؤمنين. قال ابن كثير -رحمه الله-: "قوله -تعالى-: (فَإِنْ آمَنُوا) أي: الكفار مِن أهل الكتاب وغيرهم. (بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ): أيها المؤمنون، من الإيمان بجميع كتب الله ورسله، ولم يفرِّقوا بين أحدٍ منهم. (فَقَدِ اهْتَدَوا): فقد أصابوا الحق، وأُرشدوا إليه. (وَإِنْ تَوَلَّوْا) أي: عن الحق إلى الباطل بعد قيام الحجة عليهم، (فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ) أي: فسينصرك عليهم ويُظْفِرك بهم، (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ). روى ابن أبي حاتم عن نافع بن أبي نعيم، قال: أرسل إليَّ بعض الخلفاء مصحف عثمان بن عفان ليصلحه. قال زياد بن يونس: فقلت له: إن الناس يقولون: إن مصحفه كان في حجره حين قُتل، فوقع الدم على (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) فقال نافع: بصرت عيني بالدم على هذه الآية وقد قَدُم (أي: صار قديمًا). وقوله: (صِبْغَةَ اللَّهِ): قال الضحاك عن ابن عباس: دين الله. وكذا رُوي عن مجاهد، وأبي العالية، وعكرمة، وإبراهيم، والحسن، وقتادة، والضحاك، وعبد الله بن كثير، وعطية العوفي، والربيع بن أنس، والسدي نحو ذلك. وانتصاب (صِبْغَةَ)؛ إما على الإغراء كقوله: (فِطْرةَ اللهِ) أي: الزموا ذلك عليكموه. وقال بعضهم: بدل من قوله: (مِلَّةَ إِبْرَاهِيْمَ). وقال سيبويه: هو مصدر مؤكد انتصب عن قوله: (آمَنَّا بِاللَّهِ)؛ كقوله: (وَعْدَ اللهِ). وقد ورد في حديث رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن بني إسرائيل قالوا: يا موسى، هل يصبغ ربك؟ فقال: اتقوا الله. فناداه ربه: يا موسى، سألوك هل يصبغ ربك؟ فقل: نعم، أنا أصبغ الألوان: الأحمر والأبيض والأسود، والألوان كلها من صبغي. وأنزل الله على نبيه -صلى الله عليه وسلم-: (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً)". وهو في رواية ابن أبي حاتم موقوف، وهو أشبه -إن صح إسناده-" (انتهى من تفسير ابن كثير). قلتُ: وقول جماهير السلف في معنى الصبغة: أنه الدِّين، وهو الصواب بلا شك، كما يدل عليه السياق، وهو -عز وجل- مقلب القلوب، وهو -سبحانه وتعالى- يصرفها كيف يشاء -شقيها وسعيدها-، فليس الصبغ في الآية من الألوان، ولكن هو في أحوال القلوب، ولا يُنسَب إلى دين الله -عز وجل- إلا ما وافق الحق. وقال الطبري -رحمه الله- في تفسير قوله -تعالى-: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا): "يعني -تعالى ذكره- بقوله: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ) فإن صدّق اليهودُ والنصارى بالله، ومَا أنـزل إليكم، وما أنـزل إلى إبراهيمَ وإسماعيل وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباطِ، ومَا أوتي مُوسى وعيسى، وما أوتي النبيون من ربهم، وأقروا بذلك، مثلَ ما صدَّقتم أنتم به أيها المؤمنون وأقررتم؛ فقد وُفِّقوا ورَشِدوا، ولزموا طريق الحق، واهتدوا، وهم حينئذٍ منكم وأنتم منهم بدخولهم في ملتكم بإقرارهم بذلك؛ فدلَّ -تعالى ذكره- بهذه الآية على أنه لم يقبل من أحدٍ عملًا إلا بالإيمان بهذه المعاني التي عدَّها قبلها. عن ابن عباس قوله: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا) ونحو هذا، قال: أخبر الله -سبحانه- أنَّ الإيمان هو العروة الوثقى، وأنه لا يقبل عملًا إلا به، ولا تحرُم الجنة إلا على مَن تركه. ثم قال -رحمه الله- في تأويل قوله: (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ): يعنى -تعالى ذكره- بقوله: (وَإِنْ تَوَلَّوْا) وإن تولى هؤلاء الذين قالوا لمحمدٍ -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه: (كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى)، فأعرضوا فلم يؤمنوا بمثل إيمانكم أيّها المؤمنون بالله، وبما جاءت به الأنبياءُ، وابتُعِثت به الرسل، وفرَّقوا بين رُسُل الله وبين الله ورسله، فصدَّقوا ببعضٍ وكفروا ببعضٍ، فاعلموا أيها المؤمنون أنهم إنما هُمْ في عصيانٍ وفِرَاق، وحَربٍ لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- ولكم. وعن قتادة: (فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ) أي: في فراق. وعن الربيع: (فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ) يعني فراق. ابن زيد: (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ) قال: الشقاق: الفراقُ والمحاربة. إذا شَاقَّ فقد حارب، وإذا حَارب فقد شاقَّ، وهما واحدٌ في كلام العرب، وقرأ: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ). قال أبو جعفر: وأصل "الشقاق" عندنا -والله أعلم- مأخوذٌ من قول القائل: شَقَّ عليه هذا الأمر، إذا كرَبه وآذاه. ثم قيل: شاقَّ فلانٌ فلانًا، بمعنى: نال كلُّ واحد منهما مِن صاحبه ما كرَبه وآذاه، وأثقلته مَساءَته. ومنه قول الله -تعالى ذكره-: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا) يعنى: فراق بينهما. يعني -تعالى ذكره- بقوله: (فَسَيَكْفِيْكَهُمُ اللهُ) فسيكفيكَ الله يا محمد، هؤلاء الذين قالوا لك ولأصحابك: (كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا) من اليهود والنصارى؛ إنْ هم تولوْا عن أن يؤمنوا بمثل إيمان أصحابك بالله، وبما أُنـزل إليك، وما أُنـزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، وسائر الأنبياء غيرهم، وفرَّقوا بين الله ورُسُله -إما بقتل السيف (أي: يكفيكهم بأن تقتلهم)، وإما بجلاء عن جوارك، وغير ذلك من العقوبات؛ فإن الله هو (السَّمِيع) لما يقولون لك بألسنتهم، ويبدون لك بأفواههم من الجهل والدعاء إلى الكفر والملل الضَّالة، (العَلِيم) بما يُبطنون لك ولأصحابك المؤمنين في أنفسهم من الحَسد والبغضاء، ففعل الله بهم ذلك عاجلًا وأنجزَ وَعْده؛ فكفى نبيّه -صلى الله عليه وسلم- بتسليطه إيَّاه عليهم، حتى قتل بعضهم، وأجلَى بعضًا، وأذلَّ بعضًا وأخزاه بالجزية والصَّغار" (انتهى من تفسير ابن جرير). وتضمنت هذه الآية الكريمة تصويب طريقة الصحابة -رضي الله عنهم- في الإيمان، وأن ما خالفها ليس من الهدى وإنما مِن الشقاق؛ ففيها دليل على وجوب اتباع طريقة الصحابة -رضي الله عنهم- في العقيدة والعمل والسلوك دون ما اخترعه الناس بعد ذلك؛ كعلم الكلام الذي اختُرع بعد القرون الثلاثة الخيرية، بل أكثر من ذلك، وما تكلَّم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بحرفٍ مِن علم الكلام؛ لا بعرض ولا بجوهر، ولا بتعريفات المتكلمين، ولا تكلَّم الصحابة -رضي الله عنهم- بذلك، ولا التابعون ولا تابعوهم، ولا الأئمة الأربعة، ولا أهل الحديث، ولا أصحاب السنن، ما حدث ذلك إلا بعد اختراع علم الكلام. وكذا لم يكن من طريقة الصحابة -رضي الله عنهم-: التعصب المذهبي، أو الانتقاء بين الأقوال بالتشهي والاختيار وتتبع الرخص؛ ما كان أحد منهم يفعل ذلك، ولا فيمَن بعدهم مِن الأئمة، وإنما حدث ذلك بعد المائة الثالثة أو أكثر من ذلك. ولم يكن مِن هدي الصحابة أيضًا: ما ابتدعه المتصوفة من مقامات الفناء والدهش، والهيمان والسكر، والجمع والفرق، وغير ذلك مما جعلوه الغاية المقصودة؛ فضلًا عما وقعوا فيه من القول بوحدة الوجود والحلول، والكفر بدين الله ومساواة الأديان والملل؛ بزعم أن هذا السلوك يقربهم إلى الله -عز وجل-. ولا وُجد في حياة الصحابة -رضي الله عنهم- ولا التابعين ولا تابعيهم أحدٌ اتخذ قبر بعض الصالحين مسجدًا، وتقرَّب إلى الله بذلك، وذهب يدعوهم من دون الله، أو حتى وقف يدعو الله عند قبورهم؛ فإن ذلك ما وقع منه شيء قط، وقد علم الصحابة قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- وما فعلوا ما يفعله الناس اليوم حول قبور الصالحين؛ فدل ذلك على أن هذا من الشقاق. فعلم الكلام في الاعتقاد، والتقليد الأعمى والتعصب المذموم، والانتقاء بين المذاهب بالترخص دون دليل، والتصوف الفلسفي والتصوف الخرافي؛ كل ذلك من الشقاق؛ لأنهم تولوا عما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولم يؤمنوا بمثل ما آمن به الصحابة -رضي الله عنهم-، فارزقنا اللهم صحبتهم، وأن نكون معهم في الدار الآخرة. وللحديث بقية -إن شاء الله-.
__________________
|
#32
|
||||
|
||||
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (32) كتبه/ ياسر برهامي قوله -تعالى-: (قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ . أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ . تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (البقرة:139-141). لم تزل الخصومة والمجادلة -ولن تزال- بين أهل الملل الثلاثة: (الإسلام واليهودية والنصرانية) الباقية إلى قُرب يوم القيامة، إلى زمن نزول المسيح -صلى الله عليه وسلم-؛ ليبطل جميع الملل إلا ملة الإسلام. وتكون الملة على عهده واحدة، وأما قبل ذلك فلا تزال الخصومة والمحاججة كما أثبتها القرآن في هذه الآية الكريمة وفي غيرها؛ فمَن زعم مِن أهل زماننا مساواة هذه الملل الثلاثة، وأنها كلها حق، وأنها بمنزلة المذاهب داخل الدين الواحد؛ فقد خالف صريح القرآن، بل في الحقيقة نقض أصل الشهادتين عنده؛ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؛ لأن أهل الديانتين: اليهودية والنصرانية -بعد التحريف- يعبدون غير الله، ولا يتبرؤون من عبادة غير الله، قال الله -تعالى-: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ . اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ . يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ . هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة:30-33). فوصفهم الله -عز وجل- بأنهم يشركون، ووصفهم بالكافرين والمشركين، وأنهم عبدوا غير الله -سبحانه وتعالى-، كما أن الفريقين يكذِّبان محمدًا -صلى الله عليه وسلم- والقرآن العظيم، ومَن صدقه منهم فيقول: هو رسول إلى العرب فقط، ولا يلزمنا اتباعه! وهذا من أعظم التناقض؛ فلو كان رسولًا فقد صدق فيما قال عن رسالة ربه إليه، قال -عز وجل-: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (الأعراف:158)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ في قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً) (متفق عليه). فلم تزل الخصومة قائمة باختلاف هذه الملل عن بعضها البعض في الأصلين العظيمين -الإلهية والنبوة-؛ فكيف يزعم البعض أن لا خلاف، أو يزعم أن الخلاف بينها دينامكي وليس في الأصول؟! إلى الله المشتكى. وأما معنى قوله -تعالى-: (وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ) أي: أنه المستحِق للعبادة، والواجب علينا وعليكم الإيمان بربوبيته وحده، وعبادته وحده، لا أنهم يفعلون ذلك في حقيقة الأمر، كما سبق بيان الآية الكريمة (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) (التوبة:31). قال ابن كثير -رحمه الله-: "قوله -تعالى-: (قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ ... ) الآية. يقول الله -تعالى- مرشدًا نبيه -صلوات الله وسلامه عليه- إلى درء مجادلة المشركين: (قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ) أي: أتناظروننا في توحيد الله والإخلاص له والانقياد، واتباع أوامره وترك زواجره، (وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ) المتصرف فينا وفيكم، المستحق لإخلاص الإلهية له وحده لا شريك له! (وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ) أي: نحن برآء منكم ومما تعبدون، وأنتم برآء منا، كما قال في الآية الأخرى: (وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُم بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ) (يونس:41)، وقال -تعالى-: (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) (آل عمران:20)، وقال -تعالى- إخبارًا عن إبراهيم: (وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ ? قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ ... ) (الأنعام:80)، إلى آخر الآية. وقال -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ) (البقرة:258)، وقال في هذه الآية الكريمة: (وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) أي: نحن برآء منكم كما أنتم برآء منا، (وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) أي: في العبادة والتوجه" (انتهى من تفسير ابن كثير). وقوله -رحمه الله-: "درء مجادلة المشركين": يعني بذلك مشركي أهل الكتاب الذين وصف الله صفتهم، ومما يوضِّح ذلك: قول ابن جرير -رحمه الله- في تفسير هذه الآية. قال أبو جعفر -رحمه الله-: " يعني -تعالى ذكره- بقوله: (قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ) قل يا محمد لمعاشر اليهود والنصارى الذين قالوا لك ولأصحابك: كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا، وزعموا أن دينهم خيرٌ من دينكم، وكتابهم خير من كتابكم؛ لأنه كان قبل كتابكم، وزعموا أنهم من أجل ذلك أولى بالله منكم، (قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ) بيده الخيرات، وإليه الثواب والعقابُ، والجزاءُ على الأعمال؛ الحسنات منها والسيئات، فتزعمون أنكم بالله أولى منا من أجل أن نبيكم قبل نبينا، وكتابكم قبل كتابنا، وربكم وربنا واحدٌ، وأن لكلِّ فريق منا ما عمل واكتسب من صالح الأعمال وسيئها، يجازَى عليها فيُثَابُ أو يُعَاقَبُ؛ لا على الأنساب، وقِدمَ الدِّين والكتاب. ويعني بقوله: (قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا) قل أتخاصموننا وتجادلوننا؟ ونقل ذلك عن مجاهد وابن زيد وابن عباس. ثم قال: فأما قوله: (وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) فإنه يعني: ونحن لله مخلصو العبادةِ والطاعة، لا نشرك به شيئًا، ولا نعبد غيره أحدًا، كما عبد أهل الأوثان معه الأوثانَ، وأصحاب العِجل معه العجلَ. وهذا من الله -تعالى ذكره- توبيخٌ لليهود، واحتجاج لأهل الإيمان، بقوله -تعالى ذكره- للمؤمنين من أصحاب محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-: قولوا -أيها المؤمنون لليهود والنصارى الذين قالوا لكم: كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا -: (أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ)؟ يعني بقوله: (فِي اللَّهِ)، في دين الله الذي أمَرَنا أن نَدين به، وربنا وربكم واحدٌ عدلٌ لا يجور، وإنما يجازي العبادَ على ما اكتسبوا. وتزعمون أنّكم أولى بالله منا؛ لقدم دينكم وكتابكم ونبيكم، ونحنُ مُخلصون له العبادة، لم نشرك به شَيئًا، وقد أشركتم في عبادتكم إياه، فعبد بعضكم العجلَ، وبعضكم المسيحَ، فأنَّى تكونون خيرًا منا وأولى بالله؟! (انتهى من تفسير ابن جرير). قوله -تعالى-: (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (البقرة:140). تأكيدٌ على ما سبق بيانه من أن دين إبراهيم ويعقوب وإسحاق والأسباط كان هو الإسلام لا اليهودية ولا النصرانية، وأن الله هو الذي حكم بذلك؛ ولأن اليهودية والنصرانية كانت بعد نبوة هؤلاء ورسالتهم؛ فكيف يكونون هودًا أو نصارى؟! إنما كانوا يعبدون الله وحده لا شريك له، واليهود والنصارى عندهم من الأخبار عن الله -عز وجل- في كتبهم من أن هؤلاء الأنبياء كانوا قبل موسى وقبل عيسى؛ فلابد أن يشهدوا بأن دينهم هو الإسلام دون اليهودية والنصرانية. قال ابن كثير -رحمه الله- في الآية: "ثم أنكر -تعالى- عليهم في دعواهم أن إبراهيم ومَن ذُكر بعده من الأنبياء والأسباط كانوا على ملتهم، إما اليهودية وإما النصرانية فقال: (قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ) يعني: بل الله أعلم، وقد أخبر أنهم لم يكونوا هودًا ولا نصارى، كما قال -تعالى-: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ... ) (آل عمران:67)، الآية والتي بعدها. وقال -تعالى-: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ)، قال الحسن البصري: كانوا يقرؤون في كتاب الله الذي أتاهم: إن الدين الإسلام، وإن محمدًا رسول الله، وإن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا برآء من اليهودية والنصرانية، فشهدوا لله بذلك، وأقروا به على أنفسهم لله، فكتموا شهادة الله عندهم من ذلك. وقوله: (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) تهديد ووعيد شديد، أي: أن علمه محيط بعملكم، وسيجزيكم عليه. ثم قال -تعالى-: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ) أي: قد مضت، (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ) أي: لهم أعمالهم ولكم أعمالكم، (وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) وليس يغني عنكم انتسابكم إليهم، من غير متابعة منكم لهم، ولا تغتروا بمجرد النسبة إليهم؛ حتى تكونوا مثلهم منقادين لأوامر الله واتباع رسله؛ الذين بعثوا مبشرين ومنذرين، فإنه مَن كفر بنبي واحدٍ فقد كفر بسائر الرسل، ولا سيما بسيد الأنبياء، وخاتم المرسلين ورسول رب العالمين إلى جميع الإنس والجن من المكلفين، صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر أنبياء الله أجمعين" (انتهى من تفسير ابن كثير).
__________________
|
#33
|
||||
|
||||
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (33) كتبه/ ياسر برهامي فقوله -تعالى-: (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (البقرة:140). قال الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري -رحمه الله-: "في قراءة ذلك وجهان: أحدهما: (أَمْ تَقُولُونَ) بالتاء، فمَن قرأ كذلك فتأويله: قل يا محمد للقائلين لك من اليهود والنصارى (كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا): أتجادلوننا في الله، أم تقولون: إن إبراهيم ... ؟ فيكون ذلك معطوفًا على قوله: (أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ). والوجه الآخر منهما: (أَمْ يَقُولُونَ) بالياء، ومَن قرأ ذلك كذلك وجَّه قوله: (أَمْ يَقُولُونَ) إلى أنه استفهام مُستأنَف؛ كقوله: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ)، كما يقال: إنها لإبل أم شَاءٌ. وإنما جعله استفهامًا مستأنَفًا لمجيء خبر مستأنف. ثم رجَّح مَن قرأ بالتاء دون الياء. بمعنى: أيُّ هذين الأمرين تفعلون؟ أتجادلوننا في دين الله؛ فتزعمون أنكم أولى منا وأهدى منا سبيلًا، وأمْرُنا وأمركم ما وصفنا، على ما قد بيناه آنفًا؟! أمْ تزعمون أنَّ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوبَ، ومَن سَمَّى الله، كانوا هُودًا أو نصارَى على ملتكم؟! فيصحّ للناس بَهتكم وكذبكم؛ لأن اليهودية والنصرانية حدثت بعد هؤلاء الذين سمَّاهم الله مِن أنبيائه. وهذه الآية أيضًا احتجاجٌ مِن الله -تعالى ذكره- لنبيّه -صلى الله عليه وسلم- على اليهود والنصارى؛ الذين ذكر الله قَصَصهم. يقول الله لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-: قُلْ يا محمد -لهؤلاء اليهود والنصارى-: أتحاجُّوننا في الله، وتزعمون أن دينكم أفضلُ من ديننا، وأنكم على هدى ونحنُ على ضَلالة، ببرهان مِن الله -تعالى ذكره-، فتدعوننا إلى دينكم؟ فهاتوا برهانكم على ذلك فنتبعكم عليه، أم تقولون: إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوبَ والأسباط كانوا هودًا أو نَصَارَى على دينكم؟ فهاتُوا -على دعواكم ما ادّعيتم من ذلك- برهانًا فنصدِّقكم، فإن الله قد جَعلهم أئمة يُقتدى بهم. ثم قال -تعالى ذكره- لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: قُل لهم يا محمد -إن ادَّعوا أن إبراهيمَ وإسماعيل وإسحاق ويعقوبَ والأسباطَ كانوا هودًا أو نصَارَى-: أأنتم أعلم بهم وبما كانوا عليه من الأديان، أم الله؟ وقوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ): قال أبو جعفر: يعني: فإنْ زَعمتْ يا محمد اليهودُ والنصَارى -الذين قالوا لك ولأصحابك: كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى- أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودًا أو نصارى؛ فمن أظلمُ منهم؟ وأيُّ امرئ أظلم منهم، وقد كتموا شهادةً عندهم من الله؟ بأن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوبَ والأسباطَ كانوا مسلمين، فكتموا ذلك، ونحلُوهم اليهوديةَ والنصرانية. عن مجاهد في قوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ) قال: في قول يهود لإبراهيم وإسماعيل ومَن ذكر معهما: إنهم كانوا يهودَ أو نصارَى. فيقول الله: لا تكتموا منّي شهادةً إن كانت عندكم فيهم. وقد علم أنهم كاذبون. عن الحسن أنه تلا هذه الآية: (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ) إلى قوله: (قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ)، قال الحسن: والله لقد كان عند القوم من الله شهادةُ أنَّ أنبياءَه بُرَآء من اليهودية والنصرانية، كما أن عند القوم من الله شهادة أن أموالكم ودماءكم بينكم حرام؛ فبِمَ استحلُّوها؟! عن الربيع في قوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ)، أهلُ الكتاب كتموا الإسلام وهم يعلمون أنه دينُ الله، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل: أنّهم لم يكونوا يهودَ ولا نصارَى، وكانت اليهودية والنصرانية بعد هؤلاء بزمان. وإنما عنى -تعالى ذكره- بذلك أن اليهود والنصارَى إن ادَّعوْا أنَّ إبراهيم ومَن سمِّي مَعه في هذه الآية، كانوا هودًا أو نصارى؛ تبيَّن لأهل الشرك الذين هم نصراؤهم، كذبُهم وادّعاؤهم على أنبياء الله الباطلَ؛ لأن اليهودية والنصرانية حدثت بعدهم؛ وإن هم نَفوْا عنهم اليهودية والنصرانية، قيل لهم: فهلموا إلى ما كانوا عليه من الدِّين، فإنا وأنتم مقرُّون جميعًا بأنهم كانوا على حق، ونحن مختلفون فيما خالف الدّين الذي كانوا عليه. وقال آخرون: بل عَنى -تعالى ذكره- بقوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ) اليهودَ في كتمانهم أمرَ محمد -صلى الله عليه وسلم- ونبوَّتَه، وهم يعلمون ذلك ويجدونه في كتبهم. عن قتادة: (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى) أولئك أهل الكتاب، كتموا الإسلام وهم يعلمون أنه دينُ الله، واتخذوا اليهودية والنصرانيةَ، وكتموا محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، وهم يعلمون أنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل. عن قتادة قوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ) الشهادةُ: النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- مكتوبٌ عندهم، وهو الذي كتموا. قال ابن زيد في قوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ) قال: هم يهودُ، يُسألون عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وعن صفته في كتاب الله عندهم؛ فيكتمون الصفة". ثم ذكر ابن جرير -رحمه الله-: لماذا اختار ترجيح القول الذي رجَّحه من القولين في أن ذلك كتمان دين إبراهيم وإسماعيل ويعقوب الأسباط، أو كتمان نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم-، أنه رجح الأول، وإن كان المتأمل يجد القولين متلازمين؛ لأن مَن كتم نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- فقد كتم دين الأنبياء السابقين، وأنكر دين الإسلام الذي بعث به النبي -صلى الله عليه وسلم-. ثم قال -رحمه الله-: "فإن قال قائل: وأية شهادة عندَ اليهود والنصارى مِن الله في أمر إبراهيم وإسماعيل وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباط؟ قيل: الشهادةُ التي عندهم مِن الله في أمرهم، ما أنـزل الله إليهم في التوراة والإنجيل، وأمرهم فيها بالاستنان بسُنَّتهم واتباع ملتهم، وأنهم كانوا حُنفاء مسلمين. وهي الشهادةُ التي عندهم من الله التي كتموها، حين دعاهم نبي الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الإسلام، فقالوا له: (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى)، وقالوا له ولأصحابه: (كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا)، فأنـزلَ الله فيهم هذه الآيات في تكذيبهم وكتمانهم الحق، وافترائهم على أنبياء الله الباطلَ والزُّورَ" (انتهى من تفسير الطبري). وهذه المسألة في غاية الوضوح والبيان في نصوص القرآن والسنة، وباتفاق السلف الصالح -رضوان الله عليهم-. ودعوة الداعين في زماننا إلى ما سمَّوه بالدِّين الإبراهيمي؛ يدعون فيه إلى المساواة بين الأديان الثلاثة على ما هي عليه؛ دون أن يرجع أحدٌ عن عقيدته الباطلة، ويتبع محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، دعوة مِن أبطل الباطل، بل هي أبطل مما كان يدعيه اليهود والنصارى في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- من دعوة كل فريق منهم إلى يهوديته أو نصرانيته؛ فهذا القول الباطل -الذي لا يجوز لمسلم أن يعتقده، أو يظن أن هذا هو الدين الإبراهيمي- أن كل مَن انتسب إلى إبراهيم فهو على حق؛ لا بد من التحذير منه، والبراءة منه، وإبطاله عند الناس، فإنه في الحقيقة هدم لدين الإسلام. وأما قوله -تعالى-: (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) فهذا تهديد ووعيد من الله -عز وجل- لليهود والنصارى. قال ابن جرير -رحمه الله-: "يعني -تعالى ذكره- بذلك: وقل -لهؤلاء اليهود والنصارَى، الذين يحاجُّونك- يا محمد: وما اللهُ بغافل عما تعملون، مِن كتمانكم الحق فيما ألزَمكم في كتابه بيانَه للناس من أمر إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوبَ والأسباطِ في أمر الإسلام، وأنهم كانوا مسلمين، وأن الحنيفية المسلمة دينُ الله الذي على جميع الخلق الدينُونةُ به؛ دون اليهودية والنصرانية، وغيرهما من الملل، ولا هُو سَاهٍ عن عقابكم على فعلكم ذلك، بل هو مُحْصٍ عليكم حتى يُجازيكم به مِن الجزاء ما أنتم له أهلٌ في عاجل الدنيا، وآجل الآخرة. فجازاهم عاجلًا في الدنيا بقتل بعضهم، وإجلائه عن وطنه وداره، وهو مُجازيهم في الآخرة العذابَ المهين) (انتهى من تفسير الطبري).
__________________
|
#34
|
||||
|
||||
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (34) دعوة إبراهيم -عليه السلام- لمَلِك زمانه إلى التوحيد (1) كتبه/ ياسر برهامي الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛فقوله -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ? قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ? وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (البقرة:258). هذا الموضع الثاني في سورة البقرة في ذِكْر إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- بعد أن ذُكر اسمه مرات في قصة بناء الكعبة التي كانت مقدَّمة لفرض القِبْلة على المسلمين إليها، تضمنت قصة بناء الكعبة بناء ملته -صلى الله عليه وسلم-، وبراءته من الشرك والمشركين، واليهود والنصارى، وجميع أهل الملل، وإثبات صحة انتسابه إلى الإسلام لا غيره. وهذا الموضع الثاني يبيِّن دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- إلى توحيد الله والإقرار بربوبيته، ووجوب عبادته، ومحاجة الملك الكافر الظالم المجادل بالباطل المدعي الربوبية، ولقد حاجَّه إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-، فحاجه وغلبه وأذله في الحجة؛ حتى بُهت، وأظهر دين الإسلام القائم على توحيد الله -عز وجل-. والملاحظ: أن إبراهيم -عليه السلام- لم يقتصِر في دعوته إلى الله على أبيه وقومه والعامة فقط، وإنما دعا الملوك والكبراء والسادة، كما دعا أباه وقومه. والملاحظ أيضًا في هذه المحاجة: أن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لم يستعمل الحجج الكلامية، ولا الطرق الفلسفية، التي ظن الكثيرون عبر الزمان أنها معنى الحجة العقلية، مع أنها لا تشفي عليلًا ولا تروي غليلًا، وإنما تصرف الناس عن الحجج العقلية الحقيقية والنقلية الصحيحة؛ التي تضمنتها النصوص المنزلة في الوحي على أنبياء الله -عز وجل- ورسله. بل واضح جدًّا أن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- استعمل الحجة العقلية الصحيحة المبنية على إيقاظ الفطرة الإنسانية المستقرة في نفوس البشر؛ كل البشر في إثبات وجود الله -عز وجل- ووحدانيته، وإثبات صفات كماله؛ مِن مشاهدة آثار علمه وملكه، وقدرته وحكمته، وإتقانه وخبرته، وقهره وعزته، وسائر أسمائه وصفاته. فمشاهدة ملكوت السماوات والأرض -الذي لا يستطيع أحدٌ ادعاءه لنفسه ولا لغيره من المخلوقين- توصل العبد إلى حقيقة يقينية؛ أن هذا الملكوت ثابت لله، وهذا هو طريق اليقين، كما قال -تعالى-: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) (الأنعام:75)، وقال -تعالى- عن موسى -صلى الله عليه وسلم- في جوابه لفرعون لما سأله: (وَمَا رَبُّ العَالمَيْنَ) (الشعراء:23)، مستعملًا نفس الحجة التي استعملها إبراهيم، قال -تعالى-: (قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ . قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ . قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ . قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ . قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا ? إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ) (الشعراء:24-28)، وقال -تعالى- في كتابه العزيز مُخبرًا عما يفعله في دعوة مشركي قريش وغيرهم من إظهار الحجج والآيات: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (فصلت:53). فالآيات الأفقية والآيات النفسية هي الحجج العقلية التي لا يستطيع أحدٌ ردها دون المجادلة الكلامية والمنطقية الفلسفية، وفي الصحيح من حديث جبير بن مطعم -رضي الله عنه- قال: "سَمِعْتُ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقْرَأُ في المَغْرِبِ بالطُّورِ، فَلَمّا بَلَغَ هذِه الآيَةَ: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ . أَمْ خَلَقُوا السَّمَواتِ والْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ . أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) (الطور:?? - ??)، قالَ: "كادَ قَلْبِي أنْ يَطِيرَ" (متفق عليه)، أي: كاد أن يخرج من مكانه؛ لظهور الحجة العظيمة له التي تضمنتها هذه الآيات، وقد كان جبير -إذ ذاك- مشركًا، أتي في السنة الثانية بعد وقعة بدر ليكلِّم النبي -صلى الله عليه وسلم- في فداء أسرى بدر؛ لما عَلِم الناس قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَوْ كَانَ المُطْعَمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًا ثُمَّ كَلَمَنِي في هَؤُلَاءِ النَّتْنَي لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ) (رواه البخاري)، يعني: أسرى بدر، فأرسلت قريش ابنه جبير بن مطعم للرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو إذ ذاك مشرك، فسمع هذه الآيات التي كانت سببًا في إسلامه بعد ذلك. فليتأمل الداعون اليوم إلى إحياء علم الكلام والفلسفة بعد اندثاره مدة، وهم يزعمون أن مذاهب المتكلمين هي مذاهب أهل السنة والجماعة، وكذبوا في ذلك؛ فليتأملوا الحجج القرآنية والنبوية، وما احتج به الأنبياء قبل النبي -صلى الله عليه وسلم- على أقوامهم كهذه الآية التي نحن بصددها في محاجة النمرود لإبراهيم -عليه الصلاة والسلام- في ربِّه، وإجابة إبراهيم له، هل استعمل الأنبياء قط طريقة الفلسفة وعلم الكلام؟! وهل استعملوا المنطق اليوناني لإثبات وجود الله وخلقه للعالم؟! أو إثبات أسمائه الحسنى وصفاته العلى وأفعاله التي أخبر -سبحانه وتعالى- عنها أنه فعَّال لما يريد؟! هل استعملوا ذلك ولو مرة واحدة؟! يجزم كل عاقل وعالم بكلام الأنبياء والوحي المنزل عليهم أنه لم يستعملوه قط، بل استعملوا الحجج الفطرية التي هي الحجج العقلية الصحيحة؛ إضافة إلى الحجج النقلية التي قصَّها الله علينا عن الأمم السابقة وأحوالهم مع أنبيائهم، ومآلهم ومصيرهم لما كذبوهم. فهذه الحجج النقلية العقلية هي التي تؤدي إلى حصول اليقين دون علم المنطق اليوناني والفلسفة وعلم الكلام، وليعلم الذين يجادلون الملحدين في زماننا أنهم لا حاجة لهم للفلسفة، ولا لعلم الكلام، ولا لحجج المعتزلة ولا الأشاعرة، ولا غيرهم؛ لإثبات حقيقة الربوبية؛ بل إنما تتم الحجة بتأمل ما تضمنه القرآن من الحجج العقلية وأخبار الأنبياء التي تظهر الحقيقة الجلية كالشمس، في وحدانية الله -سبحانه وتعالى- وخلقه لهذا العالم، وصِدْق رسله الكرام -صلى الله عليهم وسلم أجمعين-. وهذه القصة العظيمة -قصة إبراهيم- مع هذا الملك المتجبر الذي لم يَرِد اسمه في القرآن ولا في السنة الصحيحة، ولكن نقل كثيرٌ من أهل العلم من المفسرين أن اسمه: "النمرود" -وكان ملك زمانه- = قصةٌ تبين لنا وجوب دعوة الكبار كما يُدعى الصغار، يُدعى الملأ والسادة والملوك والأمراء، كما يُدعى عامة الناس، لا نقتصر في الدعوة إلى الله على عوام الناس دون كبرائهم، والله -عز وجل- يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. وهذه القصة العظيمة ذكرها الله في كتابه؛ ليبين لنا وجوب الدعوة إليه، وليبين لنا طريقة الدعوة الصحيحة؛ حتى لا نبتعد عن طريقة الأنبياء ولا منهجهم في بيان الحق للناس، واستعمال الحجج الصحيحة في إثبات دعوة التوحيد. هذا وللحديث بقية -إن شاء الله-.
__________________
|
#35
|
||||
|
||||
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (35) دعوة إبراهيم -عليه السلام- لملك زمانه إلى التوحيد (2) كتبه/ ياسر برهامي قوله -عز وجل-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (البقرة:258). قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: "هذا الذي حاجَّ إبراهيم في ربه هو ملك بابل: نمرود بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح، ويقال: نمرود بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، والأول قول مجاهد وغيره -(قلتُ: وهذه السلسلة مِن النَّسَب مما لا يعلمه إلا الله، قال الله -سبحانه وتعالى-: (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ) (إبراهيم:9)؛ ولذلك كان هدي الأئمة -من أهل الحديث وغيرهم- الإعراض عن مثل هذه الروايات التي لا تفيد شيئًا)-. قال مجاهد: ومَلَك الدنيا مشارقها ومغاربها أربعةٌ: مؤمنان وكافران؛ فالمؤمنان: سليمان بن داود وذو القرنين، والكافران: نمرود وبُخْتَنصر. فالله أعلم -(قلتُ: وهذا مما لا دليل عليه إلا في ذي القرنين؛ لما قص الله -عز وجل- علينا في كتابه مِن أنه بلغ مغرب الشمس، أي: أقصى مكان جهة الغرب في زمانه، وبلغ مطلع الشمس، أي: بلغ أبعد مكان جهة الشرق في زمانه، وبلغ بين السدين، وأما غيره ممَّن ذُكر -حتى داود وسليمان- فلم يثبت أنهما مَلَكا جميع الأرض؛ بل ظل سليمان -عليه السلام- زمنًا لا يعرف بوجود مملكة سبأ، حتى أبلغه الهدهد بأحوالهم؛ فلذلك لا فائدة من هذا الكلام، ولا دليل عليه)-. ومعنى قوله: (أَلَمْ تَرَ) أي: بقلبك يا محمد إلى الذي حاجَّ إبراهيم في ربه، أي: في وجود ربه. وذلك أنه أنكر أن يكون ثَمَّ إلهٌ غيره، كما قال بعده فرعون لملئه: (مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي) (القصص:38)، وما حمله على هذا الطغيان والكفر الغليظ، والمعاندة الشديدة؛ إلا تجبُّره، وطول مدته في الملك؛ وذلك أنه يُقَال: إنه مكث أربعمائة سنة في ملكه -(قلتُ: هذه المجازفة في الأرقام لا يعلمها إلا الله، وقد تجنبت الروايات الصحيحة في السنة الثابتة مثل هذه المبالغات في عدد السنوات، وإن كان لا يُستبعد؛ فقد ذكر الله -سبحانه وتعالى- عن نوح أنه لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، لكن لا بد من دليل صحيح من الكتاب والسنة، وقد عُدم في مدة ملك النمرود، وكذا في مدة ملك فرعون، وغيرهما)-. ولهذا قال: (أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ)، وكان طلب مِن إبراهيم دليلًا على وجود الرب الذي يدعو إليه، فقال إبراهيم: (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ)، أي: الدليل على وجوده، حدوثُ هذه الأشياء المشاهَدَة بعد عدمها، وعدمها بعد وجودها. وهذا دليل على وجود الفاعل المختار ضرورةً؛ لأنها لم تحدث بنفسها، فلا بد لها من مُوجد أوجدها؛ وهو الربُّ الذي أدعو إلى عبادته وحده لا شريك له، فعند ذلك قال المُحاجُّ -وهو النمرود-: (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ). قال قتادة ومحمد بن إسحاق والسدي وغير واحد: وذلك أني أُوتي بالرجلين قد استحقَّا القتل؛ فآمر بقتل أحدهما فيُقتَل، وآمر بالعفو عن الآخر فلا يقتل؛ فذلك معنى الإحياء والإماتة. والظاهر -والله أعلم- أنه ما أراد هذا؛ لأنه ليس جوابًا لما قال إبراهيم ولا في معناه؛ لأنه غير مانع لوجود الصانع، وإنما أراد أن يدعي لنفسه هذا المقام عنادًا ومكابرةً، ويُوهم أنه الفاعل لذلك، وأنه هو الذي يحيي ويميت، كما اقتدى به فرعون في قوله: (مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي)؛ ولهذا قال له إبراهيم لما ادَّعى هذه المكابرة: (فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ)؛ أي: إذا كُنتَ كما تدعي من أنك تحيي وتميت فالذي يحيي ويميت هو الذي يتصرف في الوجود في خلق ذواته، وتسخير كواكبه وحركاته، فهذه الشمس تبدو كل يوم من المشرق؛ فإن كُنتَ إلهًا كما ادعيت تحيي وتميت؛ فأتِ بها من المغرب. فلما عَلِم عجزَه وانقطاعه، وأنه لا يقدر على المكابرة في هذا المقام بُهت؛ أي: أُخْرِس فلا يتكلم، وقامت عليه الحجة. قال الله -تعالى-: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)؛ أي: لا يلهمهم حجة ولا برهانًا؛ بل حجتهم داحضة عند ربهم، وعليهم غضب ولهم عذاب شديد. وهذا التنزيل على هذا المعنى أحسن مما ذكره كثير من المنطقيين: أن عدول إبراهيم عن المقام الأول إلى المقام الثاني انتقال من دليل إلى دليل أوضح منه، ومنهم مَن قد يُطلق عبارة رَدِيَّة (أي: قبيحة)، وليس كما قالوه؛ بل المقام الأول يكون كالمقدمة للثاني، ويبيِّن بطلان ما ادَّعاه نمرود في الأول والثاني، ولله الحمد والمنة. وقد ذكر السدي أن هذه المناظرة كانت بين إبراهيم ونمرود بعد خروج إبراهيم من النار، ولم يكن اجتمع بالملك إلا في ذلك اليوم، فجرت بينهما هذه المناظرة. وروى عبد الرزاق عن معمر عن زيد بن أسلم: أن النمرود كان عنده طعام، وكان الناس يغدون إليه للميرة، فوفد إبراهيم في جملة مَن وفد للميرة، فكان بينهما هذه المناظرة، ولم يُعطِ إبراهيمَ من الطعام كما أعطى الناس؛ بل خرج وليس معه شيء من الطعام، فلما قرب من أهله عمد إلى كثيب من التراب، فملأ منه عَدْلَيْه، وقال: أَشغل أهلي عني إذا قدمتُ عليهم، فلما قَدِم وضع رحاله وجاء فاتَّكأ فنام. فقامت امرأته سارة إلى العَدْلين فوجدتهما ملآنين طعامًا طيبًا فعملت منه طعامًا. فلما استيقظ إبراهيم وجد الذي قد أصلحوه، فقال: أنَّى لكم هذا؟ قالت: مِن الذي جئت به. فعلم أنه رزقٌ رزقهم الله -(قلتُ: هذه القصة لا تثبت، فهي موقوفة على زيد بن أسلم، فإما أن تكون مأخوذة عن أهل الكتاب ولا حجة في كلامهم، وإما أن تكون في معنى المرسل فهي ضعيفة. والظاهر: أنها من أخبار أهل الكتاب التي لا تُصَدَّق ولا تُكَذَّب)-. قال زيد بن أسلم: وبعث الله إلى ذلك الملك الجبار ملكًا يأمره بالإيمان بالله، فأبى عليه، ثم دعاه الثانية فأبى، ثم الثالثة فأبى، وقال: اجمع جموعك وأجمع جموعي. فجمع النمروذ جيشه وجنوده وقت طلوع الشمس، وأرسل الله عليهم بابًا من البعوض؛ بحيث لم يروا عين الشمس، وسلطها الله عليهم فأكلت لحومهم ودماءهم وتركتهم عظامًا بادية، ودخلت واحدة منها في منخري الملك فمكثت في منخري الملك أربعمائة سنة؛ عذبه الله بها، فكان يضرب رأسه بالمرازب في هذه المدة كلها؛ حتى أهلكه الله بها" (انتهى من تفسير ابن كثير). قلتُ: وهذه القصة أيضًا ليست ثابتة، وإنما هي مِن أخبار أهل الكتاب، ولم يَرِد في شيءٍ مِن الآيات والأحاديث أن هناك ملكًا مؤمنًا في ذلك الزمن؛ إلا ما زعمه البعض مِن أنه ذو القرنين؛ كان في زمن إبراهيم -عليه السلام-، ولا يثبت شيء من ذلك، وفي كتاب الله وفي سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ما يغنينا عن مثل هذه الأخبار. وللحديث بقية -إن شاء الله-.
__________________
|
#36
|
||||
|
||||
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (36) دعوة إبراهيم لملك زمانه إلى التوحيد (3) كتبه/ ياسر برهامي الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فقوله -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (البقرة:258). في هذه الآية من الفوائد: الأولى: أن دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لم تقتصِر على أبيه وقومه من العامة، بل دعا ملك زمانه إلى توحيد الله وعبادته، ومشاهدة آياته في الكون، فالدعوة إلى الله لا بد أن تشمل الجميع؛ لا تقتصر على دعوة العامة دون الملوك والكبراء، ولا على الكبراء دون العامة. الثانية: أن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لم يكن له من المُلك شيء يومئذٍ، ولم يكن على رأس الدولة، بل سنة الله في غالب أنبيائه ورسله أن يجعلهم من غير الملوك؛ امتحانًا وابتلاءً، وليقوموا بالحق في وجه كل أحد لا يخافون في الله لومة لائم. وهذا فيه من العظة والقدوة للدعاة في كل زمان أن لا يكون هدف دعوتهم الملك والسلطان، بل يدعون إلى الله -عز وجل- ليهتدي الخلق إلى ربهم، وليقيموا الحجة على مَن أبى، وقد يؤتي الله الملك للأنبياء بعد ذلك، كما فعل -سبحانه- مع داود -عليه السلام-؛ فبعد جهاده وكونه جنديًّا في جيش طالوت مكَّنه الله مِن قتل جالوت، وآتاه الله الملك والحكمة، فعند ذلك يكون الملك سببًا لمزيد من العبودية والدعوة والتمكين للدين، وليس للاستمتاع بزينة الحياة الدنيا وترفها، بل لإقامة الدِّين بالملك والسلطان بعد إقامته بالحجة والبيان. الثالثة: أن الملك يكون غالبًا سببًا -في أكثر الأحيان- إلى الكبر والجبروت والعدوان، كما قال الله -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ)، قال ابن جرير: "يعني -تعالى ذكره- في قوله: (أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ) يعني: حاجَّه فخاصمه في ربه؛ لأن الله آتاه الملك" (انتهى من تفسير ابن جرير). فقد ظن هذا الجاهل الضعيف أن الملك -الذي هو فيه- من عنده وبيده، وهو ليس كذلك، بل الله الذي آتاه إياه، وهو في يد الله -عز وجل-: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (آل عمران:26-27). ولو تأمل الملوك والأغنياء والملأ، والسادة والكبراء: أن ما هم فيه من الملك والغنى لم يصل إليهم إلا وقد زال عن غيرهم، ولن يكون معهم على الدوام؛ بل سيزول عنهم إلى غيرهم، كما حدث مع مَن قبلهم؛ لو تأملوا ذلك لما حصل لهم هذا الكبر الذي به هلاك الأمم والشعوب؛ فإن هلاك الأمم والشعوب بتجبر المترفين وإجرامهم وفسقهم وظلمهم، قال الله -تعالى-: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) (الإسراء:16)، وقال -تعالى-: (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ ? وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ) (هود:116). وعلى الدعاة إلى الله في دعوتهم الملوك والكبراء والأغنياء أن يستشعروا فقرهم وضعفهم؛ لا ملكهم وغناهم، وفي أثر وهب بن منبه -رحمه الله- قال الله -تعالى- لموسى -عليه السلام-: "انطلق برسالتي فإنك بعيني وسمعي، وإنك معك أيدي ونصري، وإني قد ألبستك جنة من سلطاني لتستكمل بها القوة في أمري، فأنت جند عظيم من جندي، بعثتك إلى خلق ضعيف من خلقي، بطر نعمتي، وأمن مكري، وغرته الدنيا عني، حتى جحد حقي، وأنكر ربوبيتي، وزعم أنه لا يعرفني، فإني أقسم بعزتي لولا القدر الذي وضعت بيني وبين خلقي، لبطشت به بطشة جبار، يغضب لغضبه السماوات والأرض، والجبال والبحار، فإن أمرت السماء حصبته، وإن أمرت الأرض ابتلعته، وإن أمرت الجبال دمرته، وإن أمرت البحار غرقته، ولكنه هان علي وسقط من عيني، ووسعه حلمي، واستغنيت بما عندي، وحقي إني أنا الغني لا غني غيري، فبلِّغه رسالتي، وادعه إلى عبادتي وتوحيدي وإخلاصي، وذكره أيامي، وحذره نقمتي وبأسي، وأخبره أنه لا يقوم شيء لغضبي، وقل له فيما بين ذلك قولًا لينًا لعله يتذكر أو يخشى، وأخبره أني إلى العفو والمغفرة أسرع مني إلى الغضب والعقوبة، ولا يروعنك ما ألبسته من لباس الدنيا، فإن ناصيته بيدي، ليس ينطق ولا يطرف، ولا يتنفس إلا بإذني، وقل له: أجب ربك فإنه واسع المغفرة، وقد أمهلك أربعمائة سنة، في كلها أنت مبارزه بالمحاربة، تسبه وتتمثل به وتصد عباده عن سبيله، وهو يمطر عليك السماء، وينبت لك الأرض، ولم تسقم ولم تهرم، ولم تفتقر ولم تغلب، ولو شاء الله أن يعجل لك العقوبة لفعل، ولكنه ذو أناة وحلم عظيم. وجاهده بنفسك وأخيك وأنتما تحتسبان بجهاده، فإني لو شئت أن آتيه بجنود لا قِبَل له بها لفعلت، ولكن ليعلم هذا العبد الضعيف الذي قد أعجبته نفسه وجموعه أن الفئة القليلة -ولا قليل مني- تغلب الفئة الكثيرة بإذني، ولا تعجبنكما زينته، ولا ما متع به، ولا تمدا إلى ذلك أعينكما، فإنها زهرة الحياة الدنيا، وزينة المترفين. ولو شئت أن أزينكما من الدنيا بزينة ليعلم فرعون حين ينظر إليها أن مقدرته تعجز عن مثل ما أوتيتما فعلت، ولكني أرغب بكما عن ذلك، وأزويه عنكما، وكذلك أفعل بأوليائي، وقديمًا ما جرت عادتي في ذلك، فإني لأذودهم عن نعيمها وزخارفها، كما يذود الراعي الشفيق إبله عن مبارك الغِرَّة، وما ذاك لهوانهم علي، ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي سالمًا موفرًا لم تكلمه الدنيا (أي: لم تجرحه وتنقصه الدنيا). واعلم أنه لا يتزين لي العباد بزينة هي أبلغ فيما عندي من الزهد في الدنيا، فإنها زينة المتقين، عليهم منها لباس يعرفون به من السكينة والخشوع، وسيماهم في وجوههم من أثر السجود، أولئك أوليائي حقًا حقًا، فإذا لقيتهم فاخفض لهم جناحك، وذلل قلبك ولسانك، واعلم أنه مَن أهان لي وليًّا أو أخافه، فقد بارزني بالمحاربة، وبادأني وعرض لي نفسه ودعاني إليها، وأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي، أفيظن الذي يحاربني أن يقوم لي؟! أم يظن الذي يعاديني أن يعجزني؟! أم يظن الذي يبارزني أن يسبقني أو يفوتني؟! وكيف وأنا الثائر لهم في الدنيا والآخرة؟ لا أَكِل نصرتهم إلى غيري" (رواه ابن أبي حاتم). فمَن ابتلاه الله بالملك والغنى والجاه؛ فليحذر على نفسه مِن الجبروت والكبر والطغيان؛ لأنه أسرع الأدواء والأمراض إليهم، لا ينجو منها إلا القليل، وَلْيُعْلَم أن مِن أعظم أسباب الجبروت قتل النفوس بغير حق، روى عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عكرمة قال: "لا يكون الرجل جبارًا حتى يقتل نَفْسين"، وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي عمران الجوني قال: "آية الجبابرة القتل بغير حق". وللحديث بقية -إن شاء الله-.
__________________
|
#37
|
||||
|
||||
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (37) دعوة إبراهيم لملك زمانه إلى التوحيد (4) كتبه/ ياسر برهامي فقوله -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (البقرة:258). الفائدة الرابعة: احتجاج إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) هو احتجاج على وجود فاعلٍ واحدٍ لما يُرى من مظاهر الموت والحياة بملايين المرات، بل ملايين الملايين كل يوم، بل كل ساعة، بل كل لحظة بنفس النظام الواحد مِن ولادة ملايين البشر والحيوانات، والحشرات والأسماك، والكائنات الدقيقة؛ التي تحيا أمامنا بلا فعل منا ولا من أنفسها، ولا من غيرها من الخلق؛ إلا الله وحده، ثم موت الملايين من كل نوع كل يوم، بل كل ساعة، بل كل دقيقة في أرجاء العالم، وما وراءه مما لا نعلمه ليس بإرادة هذه المخلوقات، بل بكراهيتها للموت ومقاومتها له، وأخذها بأسباب الحياة. وأعظمُهم أخذًا بها الإنسان: الذي أعطاه الله العقل الذي يحافِظ به على حياته، فوق الفطرة الطبيعية التي تستعملها الحيوانات الأخرى بالفرار من الضرر وطلب الخير، بل عقل الإنسان -الذي هو هبة من الله قطعًا- لم يهبه لنفسه، ولا وهبه له أبوه ولا أمه، ولا أحد مِن الناس، ولا أحد مِن الخلق؛ فضلًا عن الكائنات الأخرى؛ فضلًا عن الجمادات التي يسميها الكفار: "الطبيعة". هذا العقل به اخترع الإنسان طرق وقايته مِن الموت، وعلاج الأمراض، وبه صنع الأدوية والأدوات العلاجية المختلفة؛ فرارًا من الموت وحفظًا للحياة، ثم بعد ذلك يأتي الموت قهرًا عليه، وعلى أحبابه وعلى أقربائه في سلسلة عجيبة مستمرة من آلاف السنين، بل مئات الآلاف، بل أكثر من ذلك مما لا ندريه. وهذه السلسلة بين الحياة والموت -عند التأمل- هي سبب استمرار الحياة والمصلحة الكلية العامة للكائنات كلها، التي لا تتم إلا بها، ففاعلها على النمط الواحد من الانفلاق، (إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى) (الأنعام:95)، ثم اختلال نظام جسم الكائن الحي قبل الموت يدل على وحدانية الخالق، والمصالح المترتبة على هذه السلسلة تدل على حكمة فاعلها، والإتقان البالغ الذي تتم به الحياة ثم الموت، يدل على العلم والخبرة والقدرة، ووجود الأوامر بالموت والحياة دليل على الربوبية، وكل هذا دليل على الانفراد واستحقاق الإلهية، وحق العبودية على كل الخلق، (إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا . لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا . وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) (مريم:93-95)، (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) (الإسراء:44)، (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات:56). ووالله إن حجة إبراهيم -صلى الله عليه وآله وسلم- لَحُجة باهرة قاطعة لمَن تفكر فيها؛ ولكن الإعراض المتعمد عن الفهم، ثم عن الاستجابة بعد الفهم حتى يستحق صاحبه الطبع والختم على السمع والبصر والفؤاد -نسأل الله العافية-؛ هو الذي أدَّى بصاحبه إلى هذا المصير. الفائدة الخامسة: من أعجب المكابرة أن يحتج عاقلٌ على هذه الحجة الواضحة بأن الله يحيي ويميت؛ فيأتي بإنسان أو دابة أو أي شيء حي فيقتله ويترك غيره؛ فهو -أولًا- لم يهب الحياة لهذا الحي الذي تركه حيًّا، وزعم أنه أحياه، بل يقينًا لم يهب الحياة لنفسه، فكيف يقابل حجة إبراهيم (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) بأنه ترك هذا الإنسان حيًّا، وقتل الآخر؟! فلو سلمنا له أنه بذلك قد أحيا وأمات -وهو ليس كذلك-: هل يستطيع أن ينسب لنفسه الملايين من عمليات الإحياء وهبة الحياة لكل الكائنات الحية؟! بالقطع لا يستطيع أن ينسب هذا لنفسه. وكذلك في قوله عن نفسه: (وَأُمِيتُ) في مواجهة حجة إبراهيم أن ربَّه -رب العالمين- هو الذي يميت؛ فبالقطع لا ينسب لنفسه ملايين الملايين من عمليات الإماتة في هذا الكون وما وراءه مما لا نعلمه، فبالتأكيد والقطع واليقين كانت مجادلته مجرد مشاغبة، وانتقال عن موطن الاستدلال إلى التلاعب بالألفاظ، مما ينشغل به أكثر مَن حوله، بل كل مَن حوله إلا ثلاثة أنفس "إبراهيم وسارة ولوطًا"؛ ولذا آثر إبراهيم عدم الاستمرار في الدفاع عن حجته البيِّنة القاطعة إلى حجة أخرى لا يستطيع معها التلاعب بالألفاظ، وليس انقطاعًا عن الحجة الأولى، أو تسليمًا لصحة حجة مجادله التي لا يشك عاقلٌ في بطلانها. الفائدة السادسة: احتجاج إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ) انتقال من حجةٍ إلى حجةٍ أوضح وأبعد عن الجدال؛ فإن مجيء الشمس مِن المشرق كل يوم في هذا النظام المحكم المتقن غاية الإتقان، الذي إتقانه يفوق إدراك البشر، وبما يحقق المصلحة للكائنات بوجود الليل والنهار، اللذين بدونهما لا تستمر الحياة، وفي خلق هذه الأجرام التي هي أكبر أضعافًا مضاعفة من خلق الناس (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (غافر:57) - أعظم الدليل على وجود الفاعل المدبِّر، العليم الحكيم الخبير، القدير، الآمر الناهي المطاع؛ فهذه الأجرام تطيع أمر ربها -سبحانه وتعالى- دون اعتراضٍ ولو لحظة؛ (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) (الأحزاب:72). وقال -سبحانه وتعالى-: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ . وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ . ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) (فصلت:9-11). وهذا مِن أوضح الأدلة على وحدانيته في ربوبيته وألوهيته، وأمر إبراهيم للملِك أن يأتي بها من المغرب أمر تعجيز وإفحام وإرشاد لمَن يعقل أن التدبير للعالم ليس لأحدٍ مِن الخلق، لا مَلِك ولا مملوك، ولا غني ولا فقير، ولا قادر ولا عاجز إلا الله وحده، لا شريك له. وهذه هي نفس حجة موسى -صلى الله عليه وسلم- على فرعون؛ حين قال: (قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ . قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ . قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ . قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ . قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ) (الشعراء:24-28)، وهي حجة مسكتة مخرسة للخصم المجادل؛ ولذا ليس أمامه إلا أن يسكت ويبهت ويعجز. الفائدة السابعة: في قوله -تعالى- عن الملك الجبار المجادل: (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ): دليل على أنه استمر على كفره وعناده؛ رغم ظهور الحجة التي قامت عليه وبُهِت لها، فسبحان الله! كيف يستمر المجادل على عناده وكفره بعد أن بهت؟! لا سبب لذلك؛ إلا أن الله لم يهده، بل كتب عليه الضلال؛ بسبب ظلمه لنفسه الظلم الأكبر بالشرك، وادِّعاء الربوبية والإلهية، وظلمه لغيره بالعدوان والجبروت، والقتل، واغتصاب الحقوق. (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ): بعدله وحكمته -سبحانه-، فإنه لا يضع بذر الإيمان الطيب إلا في الأرض الطيبة والقلوب الطيبة، ولا يجعل بذر الكفر والظلم الخبيث إلا في الأرض الخبيثة والقلوب الخبيثة، وهو -سبحانه- أعلم بالشاكرين، وهو أعلم بالظالمين.
__________________
|
#38
|
||||
|
||||
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (38) دعوة إبراهيم لملك زمانه للتوحيد (5) كتبه/ ياسر برهامي قوله -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (البقرة:258). الفائدة الثامنة: قوله -تعالى-: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أوضح دليل على الإيمان بالقدر، وأن الهداية والإضلال بيد الله وحده، قال -تعالى-: (مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (الأنعام:39)، وقال الله -تعالى-: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) (الأنعام:125). هو -سبحانه- وحده الذي جعل (لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) (الأنعام:112). وهو -سبحانه- الذي جعل (لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا) (الفرقان:31). وهو الذي جعل إبراهيم -عليه السلام- مقيمًا للصلاة ومن ذريته، وتقبَّل دعاءه. وهو -سبحانه وتعالى- الذي وهب لإبراهيم إسحاق ويعقوب -عليهما السلام- نافلة، وجعلهم أئمة يهدون بأمره، كما قال: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) (الأنبياء:73). وقال -عز وجل- عن المشركين: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا ? وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) (الأنعام:107). وقال -تعالى-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) (الأنعام:123). وقال -سبحانه- آمرًا المؤمنين أن يقولوا في فاتحة الكتاب: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ . صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) (الفاتحة:6-7). وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَا مِنْ قَلْبٍ إلّا وهو بينَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أصابِعِ رَبِّ العالَمينَ، إنْ شاءَ أنْ يُقيمَه أقامَه، وإنْ شاءَ أنْ يُزيغَه أزاغَه، وكان يقولُ: يا مُقلِّبَ القُلوبِ ثبِّتْ قُلوبَنا على دِينِكَ) (رواه أحمد، وصححه الألباني). وقد بيَّن -سبحانه- في هذه الآية: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أن مَنْعَه الهداية عن القوم الظالمين المستلزم لإضلالهم وضلالهم، إنما يقع على مَن يناسبه، وبسببٍ منه وهو: "الظلم". وإن كان زيغ العباد بين إزاغتين من الله: إزاغة أولى: قدَّرها الله عليهم؛ لأنه أعلم بهم وبما يناسبهم، وقد وقعت من خلال إرادتهم وقدرتهم التي بها فعلوا أفعالهم الخبيثة، لم تقع إكراهًا عليهم، ولا وقعت أفعالًا اضطرارية: كخلقهم، وإحيائهم وإماتتهم، ومرضهم، ودق قلوبهم، بل هم قد عملوا أفعالهم الاختيارية بمشيئتهم وقدرتهم (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ) (فصلت:40)، وإن كان ذلك بمشيئة الله -عز وجل- وقدرته، وقضائه وقَدَره. وأما الإزاغة الثانية: فهي بسبب زيغهم الأول، قال -تعالى-: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (الصف:5)، فهذه الإزاغة الثانية عقوبة فسقهم وظلمهم الذي أصروا عليه بعد بلوغ الحجة الرسالية لهم؛ رغم ما أعطاهم الله -سبحانه- من العقول والأسماع والأبصار، قال -تعالى-: (فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) (الأحقاف:26). أما الإزاغة الأولى فهي بعلم الله بمَن يناسبه الشكر، وبمَن يناسبه الظلم، فهو أعلم بالشاكرين، وهو أعلم بالظالمين. فاحذر -أيها المؤمن- أن تقع فيما وقع فيه كثير مِن الناس مِن جعلهم إرادة الله تابعة لإرادة العباد، كمَن يقول: قد علم الله أنهم سيختارون أو سيريدون الكفر؛ فلذلك أراد لهم الكفر، وهذا خلاف نص القرآن، قال الله -تعالى-: (لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ . وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (التكوير: 28-29)، وقال -تعالى-: (فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ . وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) (المدثر:55-56). فالله هو الأول الذي ليس قبله شيء، كان الله ولم يكن شيء غيره، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو الخالق البارئ المصور؛ هو الذي قدَّر وجود المخلوقات قبل خلقها على الصورة التي يريد أن يخلقها عليها، ثم أوجدها من العدم إلى الوجود فهو بارئها، ثم أعطى كلَّ واحد منهم شكله وصورته فهو المصور، وقد دخل في المخلوقات التي كانت عدمًا أفعال العباد وقدراتهم وإراداتهم؛ فيستحيل شرعًا وعقلًا أن يكون الخالق تابعًا للمخلوق. وفي هذا الأمر يضل أقوامٌ وتزل أقدام؛ فبعضهم يتهم الله بالظلم، وكثيرًا ما يوسوس شياطين الإنس والجن بذلك، والمفزع دائمًا في رد الشبهة أن الله لم يظلمهم، كما قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) (النساء:40). وهو -عز وجل- مالك كل شيء، وهو لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون؛ لأنه يضع الأشياء في مواضعها، لا لأنه يتصرف خلاف الحكمة أو خلاف العدل؛ بل لأنه -سبحانه وتعالى- وضع كل شيء في موضعه، ولم تقع أفعالهم القبيحة إلا بإرادتهم وقدرتهم، وكونها مخلوقة لا يعني أنها عديمة الأثر؛ ولذا كان مذهب الأشاعرة في الكسب -مِن اقتران الإرادة الإنسانية الحادثة المخلوقة بالفعل البشري من غير أثر- من أكبر أسباب انتصار حجة الملاحدة عليهم، أو اللجوء إلى عقيدة نفي القدر، وكلاهما -والله- باطل شرعًا وعقلًا، وفطرة وضرورة. كما أن كسب الأشعري الذي رجع عنه -إن شاء الله- باطل حسًّا وعقلًا وشرعًا، فالفرق بين الأفعال الاختيارية الواقعة بالقدرة والإرادة أمر محسوس؛ فضلًا عن نصوص القرآن في إثباته، فقد ذكر الله عن العباد أنهم يفعلون ويعملون، ويكسبون ويصنعون، ونسبة أفعالهم إليهم أكثر من أن تحصر بيُسْر. وكما ذكرنا فالرد الواضح البيِّن أنه -سبحانه- هو أراد أن تكون أفعالهم بقدرة وإرادة منهم، ولو شاء لجعلهم كالسماوات والأرض والجبال؛ أرادت مرة واحدة ثم انقادت، ولو شاء لجعل كل أفعالهم اضطرارية: كوجودهم وموتهم، وحركة قلوبهم، وأجزاء أجسامهم، لكنه شاء أن تكون أفعالهم بمشيئتهم وقدرتهم، وعلى قدر ما أعطاهم من القدرة والإرادة، وسلامة الحواس وبلوغ دعوة الرسل يحاسبهم، كما جعل الله الأب والأم سببًا في وجود الولد، وهما لم يخلقانه قطعًا، لكنهما سبب وجوده؛ ولذا قَبِل كل العقلاء في العالم مسؤوليتهم عن طفلهم الذي أنجبوه ولم يخلقوه، وكذلك أفعالهم نتجت عن إرادتهم وقدراتهم وحواسهم، ولم تخلقها هذه الإرادات والحواس، بل الله خالق الأب والأم والولد منهما، وهو كذلك خالق القدرة الإنسانية والإرادة الإنسانية والفعل الإنساني منهما. ثم تأتي شبهة أخرى في هذا المقام للملاحدة والمبتدعين، وهي: فلماذا هدى الله فريقًا وأضل فريقًا؟ وهو طعن في الحكمة، واقتراح أن يكون العالم كله على نمطٍ واحدٍ. والجواب: أن هذا التنويع في الخلق مقتضى الربوبية، كما قال -تعالى-: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى . وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى . وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى . إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) (الليل:1-4). فورود الليل والنهار مختلفان وأحوالهما مختلفة من الغشي والتجلي، والذكر والأنثى مختلفان، وذلك كله من تمام الحكمة والمصلحة، والمقاصد المحمودة، وبدون هذا الاختلاف لا تستمر الحياة. فكذلك السعي الشتى والأعمال المختلفة، فإن مقتضى وجود الحياة البشرية هي الامتحان بالطاعة وسط الفساد في الأرض وسفك الدماء، وليس الطاعة وسط الطائعين كعالم الملائكة، أو دون إرادة كطاعة السماوات والأرض والجبال، أجابت طائعة مرة واحدة ثم هي مُسيَّرة بأمر الله وإرادته، قال الله: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَ?لِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ . وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ . ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ . فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ ... ) (فصلت:9-12). وقال: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا . لِّيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) (الأحزاب:72-73). ثم تأتي شبهة أخرى مردها أيضًا إلى الطعن في الحكمة، وهي: لماذا جعل الله المهتدي مهتديًا والضال ضالًّا، ولم يجعل أحدهما مكان الآخر، مثل قول كفار قريش: (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (الزخرف:31)، ومثل قولهم عن المؤمنين: (أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا) (الأنعام:53)، ومثل قولهم: (لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ) (الأحقاف:11)؟ فنقول: أولًا: هو لم يظلم الضال والظالم والكافر؛ لأنه أعطاه العقل والسمع والبصر، والقدرة والإرادة، وبلَّغه دعوة الرُّسُل -كما سبق أن بيِّنَّا-. ثم ثانيًا: هو وضع الأشياء في موضعها، وهذا هو العدل؛ فليس العدل المساواة بين المختلفات، ولا التفرقة بين المتساويات، بل العدل وضع كل شيء في موضعه، فلو أن رجلًا عنده أرض طيبة وأرض خبيثة، وعنده بذر طيب وبذر خبيث، أو زبالة وحشائش وفضلات تضر الزراعة، فلو وضع البذر الطيب في الأرض الطيبة، والبذر الخبيث أو الزبالة والفضلات الضارة في الأرض الخبيثة؛ كان حكيمًا عادلًا، يُثنَى عليه ويُمدَح تصرفه، ولو فعل العكس لكان طائشًا سفيهًا، فمَن طالبه بخلاف الحكمة أو استنكر خلاف العدل الحقيقي بزعم المساواة وأنه كان ينبغي أن يعطي كل أرض البذر الطيب، ويضع الفضلات الضارة والبذر الخبيث في كلا الأرضين؛ كان جوابه الانصراف عنه لجهله، وضعف عقله، بل انعدامه. ونسأل الله الهداية والتوفيق لذكره، وشكره، وحسن عبادته.
__________________
|
#39
|
||||
|
||||
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (39) قصة إحياء الطيور الأربعة (1) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة:260). هذه قصة عظيمة ذكرها الله -سبحانه وتعالى- عن إبراهيم -عليه السلام- لبيان عظيم قدرته -عز وجل-، فهي تدل على وحدانيته لا شريك له، وعلى إحياء الموتى؛ الذي هو أوضح دليل على البعث والقيامة، والجزاء والحساب. وهذه القصة وقعتْ من إبراهيم -عليه السلام- ليست على سبيل الشك بنصِّ قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (نَحْنُ أحقُّ بالشكِّ مِنْ إبراهيمَ إِذْ قَالَ: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)" (متفق عليه)؛ فهذا دليل على أنه لم يشك؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يشك، وإنما قال: (نَحْنُ أحقُّ بالشكِّ مِنْ إبراهيمَ) أي: فكما توقنون أني لا أشك، فكذلك أيقنوا أن إبراهيم لم يشك في قدرة الله -كما سيأتي بيانه-. قال ابن كثير -رحمه الله-: "ذكروا لسؤال إبراهيم -عليه السلام- أسبابًا؛ منها: أنه لما قال لنمرود: ربي الذي يحيي ويميت؛ أحبَّ أن يترقَّى من علم اليقين في ذلك إلى عين اليقين، وأن يرى ذلك مشاهدةً فقال: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)، ثم ذكر حديث أبي هريرة عن النبي -صلى لله عليه وسلم- (نَحْنُ أحقُّ بالشكِّ مِنْ إبراهيمَ)، ثم قال: فليس المراد ها هنا بالشك ما قد يفهمه مَن لا علم عنده بلا خلاف. وقد أجيب عن هذا الحديث بأجوبة، ثم لم يذكرها -رحمه الله-. قال أبو سليمان الخطابي: ليس في قوله: (نَحْنُ أحقُّ بالشكِّ مِنْ إبراهيمَ) اعتراف بالشك على نفسه، ولا على إبراهيم؛ لكن فيه نفي الشك عنهما، يقول: إذا لم أشك أنا في قدرة الله -تعالى- على إحياء الموتى، فإبراهيم أولى بأن لا يشك، وقال ذلك على سبيل التواضع والهضم من النفس، وكذلك قوله: (لَوْ لَبِثْتُ في السِّجْنِ ما لَبِثَ يُوسُفُ، ثُمَّ أتانِي الدّاعِي لَأَجَبْتُهُ) (متفق عليه) (قلتُ: أي داعي المَلِك؛ الذي قال: ائتوني به). وفيه الإعلام: أن المسألة مِن إبراهيم -عليه السلام- لم تعرض من جهة الشك؛ ولكن من قِبَل زيادة العلم بالعيان؛ فإن العيان يفيد من المعرفة والطمأنينة ما لا يفيده الاستدلال، وقيل: لما نزلت هذه الآية، قال قوم: شك إبراهيم، ولم يشك نبينا -صلى الله عليه وسلم-، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا القول تواضعًا منه وتقديمًا لإبراهيم على نفسه. انتهى كلام الخطابي. قال ابن كثير -رحمه الله-: وقوله: (قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ): اختلف المفسِّرون في هذه الأربعة: ما هي؟ وإن كان لا طائل تحت تعيينها؛ إذ لو كان في ذلك مهم لنصَّ عليه القرآن، فروي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: هي الغُرْنُوق، والطاوس، والديك، والحمامة. وعنه أيضًا: أنه أخذ وزًا، ورَأْلًا -وهو فرخ النعام- وديكًا، وطاوسًا. وقال مجاهد وعكرمة: كانت حمامة، وديكًا، وطاوسًا، وغرابًا. وقوله: (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) أي: قطعهن. قاله ابن عباس، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وأبو مالك، وأبو الأسود الدؤلي، ووهب بن منبه، والحسن، والسدي، وغيرهم. وقال العوفي، عن ابن عباس: (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ): أوثقهن، فلما أوثقهن ذبحهن، ثم جعل على كل جبل منهن جزءًا، فذكروا أنه عمد إلى أربعة من الطير فذبحهن، ثم قطعهن ونتف ريشهن، ومزقهن وخلط بعضهن في بعض، ثم جزأهن أجزاء، وجعل على كل جبل منهن جزءًا، قيل: أربعة أجبل. وقيل: سبعة. قال ابن عباس: وأخذ رؤوسهن بيده، ثم أمره الله -عز وجل- أن يدعوهن، فدعاهن كما أمره الله -عز وجل-، فجعل ينظر إلى الريش يطير إلى الريش، والدم إلى الدم، واللحم إلى اللحم، والأجزاء مِن كل طائر يتصل بعضها إلى بعض؛ حتى قام كل طائر على حدته، وأتينه يمشين سعيًا؛ ليكون أبلغ له في الرؤية التي سألها، وجعل كل طائر يجيء ليأخذ رأسه الذي في يد إبراهيم -عليه السلام-، فإذا قدَّم له غير رأسه يأباه، فإذا قدَّم إليه رأسه تركب مع بقية جسده بحول الله وقوته؛ ولهذا قال: (وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي: عزيز لا يغلبه شيء، ولا يمتنع مِن شيء، وما شاء كان بلا ممانع؛ لأنه القاهر لكل شيء، حكيم في أقواله وأفعاله، وشرعه وقدره. قال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن أيوب في قوله: (وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) قال ابن عباس: ما في القرآن آية أرجى عندي منها. وروى ابن جرير بسنده عن سعيد بن المسيب قال: اتفق عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص أن يجتمعا ونحن شبيبة، فقال أحدهما لصاحبه: أيُّ آية في كتاب الله أرجى لهذه الأمة؟ فقال عبد الله بن عمرو: قول الله -تعالى-: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزمر:53). فقال ابن عباس: أما إن كنت تقول هذا، فانا أقول: أرجى منها لهذه الأمة قول إبراهيم: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي). وروى ابن أبي حاتم بسنده عن ابن المنكدر أنه قال: التقى عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، فقال ابن عباس لابن عمرو بن العاص: أيُّ آية في القرآن أرجى عندك؟ فقال عبد الله بن عمرو: قول الله -عز وجل-: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)، فقال ابن عباس: لكني أنا أقول: قول الله: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) فرضي مِن إبراهيم قوله: (بَلَى)، قال: فهذا لما يعترض في النفوس ويوسوس به الشيطان. وهكذا رواه الحاكم في المستدرك، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه" (انتهى من تفسير ابن كثير). فهذه الآية جعلها ابن عباس -رضي الله عنهما- أرجي آية؛ لأن الله تجاوز بهذه الأمة عما حدَّثَت به أنفسها؛ ما لم تعمل به أو تكلَّم، كما أخبر بذلك النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقصة إبراهيم -عليه السلام- تؤكِّد هذا المعنى؛ فالله لا يؤاخذ بخواطر النفوس، ويرضى من عباده باليقين، ولا يقدح فيه الوساوس التي لم تصل إلى درجة الشك، فالله -سبحانه وتعالى- لا يؤاخذ العباد بوساوس النفوس، ولكن يؤاخذهم بالشك أو بالتكذيب، والشك هو استواء الطرفين، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، وأَنِّي رَسولُ اللهِ، لا يَلْقى اللَّهَ بهِمَا عَبْدٌ غيرَ شاكٍّ، فيُحْجَبَ عَنِ الجَنَّةِ) (رواه مسلم)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما مِن أحَدٍ يَشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ، صِدْقًا مِن قَلْبِهِ، إلّا حَرَّمَهُ اللَّهُ على النّارِ) (متفق عليه). وللحديث بقية -إن شاء الله-.
__________________
|
#40
|
||||
|
||||
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (40) قصة إحياء الطيور (2) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة:260). قال ابن جرير -رحمه الله-: "يعني -تعالى ذكره- بذلك: ألم تر إذ قال إبراهيم: (رَبِّ أَرِنِي)، وإنما صلح أن يعطف بقوله: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ) على قوله: (أَوْ كَالذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ) وقوله: (أَلَمْ تَرَ إِلى الذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ)؛ لأن قوله: (أَلَمْ تَرَ) ليس معناه: ألم تر بعينيك، وإنما معناه: ألم تر بقلبك، فمعناه: ألم تعلم فتَذكُر، فهو وإن كان لفظه لفظ الرؤية فيعطف عليه أحيانًا بما يوافق لفظه من الكلام، وأحيانًا بما يوافق معناه. واختلف أهل التأويل في سبب مسألة إبراهيم ربه أن يريه كيف يحيي الموت؛ فقال بعضهم: كانت مسألته ذلك ربه، أنه رأى دابة قد تقسَّمتها السباع والطير، فسأل ربه أن يريه كيفية إحيائه إياها مع تفرق لحومها في بطون طير الهواء وسباع الأرض ليرى ذلك عيانًا، فيزداد يقينًا برؤيته ذلك عيانًا إلى علمه به خبرًا، فأراه الله ذلك مثلًا بما أخبر أنه أمره به. عن قتادة: ذُكر لنا أن خليل الله إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- أتى على دابة توزعتها الدواب والسباع، فقال: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي). عن الضحاك قال: مرَّ إبراهيم على دابةٍ مَيْتٍ قد بلي وتقسمته الرياح والسباع، فقام ينظر، فقال: سبحان الله! كيف يحيي الله هذا؟ وقد علم أن الله قادر على ذلك، فذلك قوله: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى). عن ابن جريج: بلغني أن إبراهيم بيْنا هو يسير على الطريق، إذ هو بجيفة حمار، عليها السباع والطير قد تمزعت لحمها وبقي عظامها، فلما ذهبت السباع، وطارت الطير على الجبال والآكام، فوقف وتعجب ثم قال: ربِّ قد علمتُ لَتجمعنَّها من بطون هذه السباع والطير، (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)، ولكن ليس الخبر كالمعاينة. عن ابن زيد، قال: مرَّ إبراهيم بحوت نصفه في البر، ونصفه في البحر، فما كان منه في البحر فدواب البحر تأكله، وما كان منه في البر فالسباع ودواب البر تأكله، فقال له الخبيث: يا إبراهيم متى يجمع الله هذا من بطون هؤلاء؟ فقال: يا رب (أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)". (قلتُ: ورغم أن هذه الآثار لم تصح مرفوعة للنبي -صلى الله عليه وسلم-؛ إلا أن فيها فائدة عظيمة توافِق ما وَرَد في الكتاب والسنة مِن تأمُّل معنى الموت والحياة؛ لنتذكر كيف يجمع الله -عز وجل- الخلائق بعد تمزقهم، والتفكير في ذلك مما يزيد الإيمان، ويقوي العقيدة، ويشرح الصدر، ويهون على الإنسان مصائب الدنيا، فهذه هي الطريقة التي عليها الرُّسُل في التفكير فيما يرونه من أحداثٍ في الكون أمام أعينهم، وإرشاد عباد الله المؤمنين للتفكير الصحيح لمثل هذا المنظر العجيب، وليس مجرد التفكه بالغرائب والعجائب -كما هي عادة الغربيين في مثل هذه الأشياء-؛ بل المؤمنون يتفكرون في الموت والحياة، والقدرة على البعث، ويأخذون من ذلك الحذر من الجزاء والحساب يوم القيامة). قال ابن جرير -رحمه الله-: "وقال آخرون: بل كان سبب مسألته ربه ذلك، المناظرة والمحاجة التي جَرَت بينه وبين نمرود في ذلك. عن محمد بن إسحاق قال: لما جرى بين إبراهيم وبين قومه ما جرى مما قصَّه الله في سورة الأنبياء، قال نمرود -فيما يذكرون- لإبراهيم: أرأيت إلهك هذا الذي تعبد وتدعو إلى عبادته وتذكر من قدرته التي تعظمه بها على غيره ما هو؟ قال له إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت. قال نمرود: أنا أحيي وأميت. فقال له إبراهيم: كيف تحيي وتميت؟ ثم ذكر ما قصَّ الله من مُحاجته إياه. (أي: من إحضاره رجلين قتل أحدهما وأطلق الآخر!)، قال: فقال إبراهيم عند ذلك: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) من غير شكٍّ في الله -تعالى ذكره- ولا في قدرته، ولكنه أحب أن يعلم ذلك وتاق إليه قلبه، فقال: (لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)، أي: ما تاق إليه إذا هو علمه. وهذان القولان -أعني: الأول وهذا الآخر- متقاربا المعنى في أن مسألة إبراهيم ربه أن يريه كيف يحيي الموتى كانت ليرى عيانًا ما كان عنده مِن علم ذلك خبرًا. وقال آخرون: بل كانت مسألته ذلك ربه عند البشارة التي أتته من الله بأنه اتخذه خليلًا، فسأل ربه أن يريه عاجلًا من العلامة له على ذلك؛ ليطمئن قلبه بأنه قد اصطفاه لنفسه خليلًا، ويكون ذلك لما عنده من اليقين مؤيدًا. وعن السدي قال: لما اتخذ الله إبراهيم خليلًا سأل ملكُ الموت ربَّه أن يأذن له أن يبشِّر إبراهيم بذلك، فأذن له، فأتى إبراهيم وليس في البيت، فدخل داره، وكان إبراهيم أغير الناس إن خرج أغلق الباب؛ فلما جاء وجد في داره رجلًا، فثار إليه ليأخذه، قال: مَن أذن لك أن تدخل داري؟ قال ملك الموت: أذن لي رب هذه الدار، قال إبراهيم: صدقت! وعرف أنه ملك الموت، قال: من أنت؟ قال: أنا ملك الموت جئتك أبشرك بأن الله قد اتخذك خليلًا، فحمد الله، وقال: يا ملك الموت أرني الصورة التي تقبض فيها أنفاس الكفار، قال: يا إبراهيم لا تطيق ذلك. قال: بلى. قال: فأَعْرِضْ! فأَعْرَضَ إبراهيم ثم نظر إليه، فإذا هو برجل أسود تنال رأسه السماء يخرج من فيه لهب النار، ليس من شعرة في جسده إلا في صورة رجل أسود يخرج من فيه ومسامعه لهب النار؛ فغُشي على إبراهيم، ثم أفاق وقد تحول ملك الموت في الصورة الأولى، فقال: يا ملك الموت لو لم يلقَ الكافر عند الموت من البلاء والحزن إلا صورتك لكفاه، فأرني كيف تقبض أنفاس المؤمنين! قال: فأَعْرِضْ! فأَعْرَضَ إبراهيم ثم التفت، فإذا هو برجل شاب أحسن الناس وجهًا وأطيبه ريحًا، في ثياب بيض، فقال: يا ملك الموت لو لم يكن للمؤمن عند ربه من قرة العين والكرامة إلا صورتك هذه لكان يكفيه. فانطلق ملك الموت، وقام إبراهيم يدعو ربه يقول: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى) حتى أعلم أني خليلك، (قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن) بأني خليلك؟ يقول: تُصَدِّق، (قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) بِخُلُولتك. عن سعيد بن جبير: (وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) قال: بالخُلة". (قلتُ: هذا القول مِن الأخبار الإسرائيلية خلاف ظاهر القرآن، وظاهر ما صَحَّ في السُّنَّة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قوله: (نَحْنُ أحَقُّ بالشَّكِّ مِن إبْراهِيمَ) (متفق عليه)، فهو يدل على تفسير الآية على ظاهرها بأنه سؤال المعاينة ونفي الشك عنه، وليس أن ذلك في التصديق بالخُلة أو عدم التصديق بها، فإن هذا خلاف ظاهر الكتاب والسنة). قال ابن جرير -رحمه الله-: "وقال آخرون: قال ذلك لربه؛ لأنه شك في قدرة الله على إحياء الموتى. عن أيوب قال: قال ابن عباس: ما في القرآن آية أرجى عندي منها. عن سعيد بن المسيب، قال: اتَّعَدَ عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو أن يجتمعا، قال: ونحن يومئذٍ شبيبة، فقال أحدهما لصاحبه: أي آية في كتاب الله أرجى لهذه الأمة؟ فقال عبد الله بن عمرو: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ) (الزمر: 53)، حتى ختم الآية، فقال ابن عباس: أما إن كنت تقول إنها، وإن أرجى منها لهذه الأمة قول إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي). عن ابن جريج، قال: سألت عطاء بن أبي رباح، عن قوله: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) قال: دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس، فقال: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى) (البقرة:260)، (قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ) (البقرة:260)، لِيُرِيَهُ. وعن أبي هريرة: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (نَحْنُ أحَقُّ بالشَّكِّ مِن إبْراهِيمَ، إذْ قالَ: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)" (انتهى من تفسير ابن جرير الطبري). قلتُ: هذا الذي ذكر ابن جرير -رحمه الله- أنه قول لبعض السلف أنه سأل ربَّه شاكًا ليس في لفظ مَن نقل عنهم هذا على الإطلاق؛ فلم يقل أحدٌ منهم: إن إبراهيم شكَّ في قدرة الله على إحياء الموتى، وإنما الآثار التي ذكرها عمَّن ذكرها، إنما هي في وقوع شيء من الوسوسة والسؤال، وهذا ليس بشك؛ فالشك هو استواء الطرفين -كما تقدم-. وقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: "إنها أرجى آية" يدل على المعنى الذي ذكرنا؛ ليس أنه يشك، وإنما يقع في قلبه بعض الخواطر، وهذه الخواطر لا يؤاخَذ بها الناس؛ فكيف يذكر ابن جرير أن قول البعض: إن إبراهيم شك في قدرة الله؟! هذا قول باطل، وليس في كلام السلف أبدًا ما يدل على ذلك. والحديث الصحيح الصريح: "(نَحْنُ أحَقُّ بالشَّكِّ مِن إبْراهِيمَ، إذْ قالَ: (رَبِّ أرِنِي كيفَ تُحْيِي المَوْتى قالَ أوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى ولَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)" الذي ذكره، يدل على أنه لم يشك؛ إذ أنتم توقنون أني لم أشك فأيقنوا أن إبراهيم لم يشك؛ لأني أولى بالشك من إبراهيم لو حدث ذلك، وإنما هي خواطر؛ ولذلك قد قال الله -عز وجل-: (أوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى ولَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) والشك منافٍ للإيمان، أما الوسوسة والخواطر فإنها لا تنافي الإيمان الواجب، فضلًا عن أن تكون نقصًا؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد قال لمَن سألوه عن أشياء يجدونها في أنفسهم، فقالوا له: إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ -وفي رواية لأحمد وابن حبان: إِنَّا لَنَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا أَشْيَاءَ مَا نُحِبُّ أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَا، وَإِنَّ لَنَا مَا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ-، قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: (وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟) قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: (ذَاكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ) (رواه مسلم)، فكيف يُنسَب إلى إبراهيم -عليه السلام- الشك؟! هذا مما لا يجوز، ولا هو قول أحدٍ مِن السَّلَف -رضوان الله تعالى عليهم-، وإنما ذكروا الخواطر، والخواطر لا يُعصَم منها الأنبياء. وللحديث بقية -إن شاء الله-.
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |