معارك حربية مهمة فى التاريخ الاسلامى ...يوميا فى رمضان - الصفحة 4 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         دور السنة النبوية في وحدة الأمة وتماسكها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          الافتراء والبهتان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          الشهوات والملذات بين الثواب والحسرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          (المنافقون) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          التأثير المذهل للقرآن على الكفار (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          ما يلفظ من قول... إلا لديه رقيب عتيد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          نهاية الرحلة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          من غشنا فليس منا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          وقفات مع اسم الله العدل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          تبرؤ المتبوعين من أتباعهم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث > ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم قسم يختص بالمقاطعة والرد على اى شبهة موجهة الى الاسلام والمسلمين

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 03-04-2023, 11:43 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,827
الدولة : Egypt
افتراضي رد: معارك حربية مهمة فى التاريخ الاسلامى ...يوميا فى رمضان


الهجوم الشامل على المرتدين


تعددت وسائل وطرق التصدي والمواجهة للمرتدين، فكان للثابتين دور في مواجهة أقوامهم، فوقف بعض الثابتين في وجه أقوامهم واعظين لهم ومنبهين إلى خطورة ما هم مقدمون عليه من نقض ما يؤمنون به



خط سير خالد بن الوليد في حُرُوب الرِّدَّة.

تمهيد:
تعددت وسائل وطرق التصدي والمواجهة للمرتدين، فكان للثابتين دور في مواجهة أقوامهم، فوقف بعض الثابتين في وجه أقوامهم واعظين لهم ومنبهين إلى خطورة ما هم مقدمون عليه من نقض ما يؤمنون به، وكانت الخطوة الأولى بالكلمة، ولم تكن الكلمة في يوم من الأيام هي أضعف المواقف وإنما هي أقواها؛ لأنها تستتبع مواقف جادة لتحديد مصداقية الكلمة، وقد تؤدي الكلمة بصاحبها إلى الذبح من أجل الشهادة للكلمة التي قالها؛ ففي كل قبيلة حصلت فيها ردة كانت هناك بعض المواقف للذين انفعلت قلوبهم للحق وتغذت به وعاشت عليه، هي التي رأت باطل ما يفعل كل قوم، ولهذا وقفوا لهم بالمرصاد يحذرون أقوامهم من سوء المصير الذي ينتظرهم، فما كان من قومهم إلا أن وقفوا في وجوههم ساخرين مستهزئين، ثم تمادوا إلى مطاردتهم وإخراجهم؛ بل وقتلهم في بعض الأحيان، ونجح بعضهم بالكلمة كعدي بن حاتم مع قومه، والجارود مع أهل البحرين ، وستري تفاصيل ذلك بإذن الله.
وعندما فشل بعض المسلمين في وعظ أقوامهم تحولوا إلى تجمعات مسلمة ثابتة على إسلامها، واتخذت لها المواقف المناسبة ضد أقوامهم المرتدين، وكثير من المواقف بدأت بالكلمة ثم انتهت إلى العمل، كما حصل لمن ثبت من بني سليم؛ فقد حذرهم قومهم فانقسموا إلى قسمين ثابت ومرتد، فتجمع الثابتون وصاروا يجالدون قومهم المرتدين، وقام الأبناء في اليمن سرًا بتدبير قتل الأسود العنسي –كما سيأتي تفصيله- بعد أن كان موقفهم سلبيًّا في بطش الأسود العنسي، ووقف مسعود أو مسروق القيسي ابن عابس الكندي ينصح الأشعث بن قيس ويدعوه لعدم الردة، ودخل بينهما حوار طويل وتحد متبادل، وهكذا صارت بعض المواقف سببًا في إرجاع قومهم عن الردة، أو في تسهيل مهمة جيوش الدولة الإسلامية القادمة للقضاء على الردة.
لقد اعتمدت سياسة الصديق في القضاء على الردة على الله تعالى، ثم على ركائز قوية من القبائل والزعماء والأفراد الذين انبثوا في جميع أنحاء الجزيرة وثبتوا على إسلامهم، وقاموا بأدوار هامة ورئيسية في القضاء على فتنة الردة. ولقد أخطأ بعض الكتاب عندما تناول فتنة الردة بشيء من التعميم أو عدم الدقة أو عدم الموضوعية أو سوء الفرض أو النظرة الجزئية .
إن من الحقائق الأساسية حول هذه الفتنة أنها لم تكن شاملة لكل الناس كشمولها الجغرافي؛ بل إن هناك قادة وقبائل وأفرادًا وجماعات، وأفرادًا تمسكوا بدينهم في كل منطقة من المناطق التي ظهرت فيها الردة، ولقد قام الدكتور مهدي رزق الله أحمد بدراسة عميقة وأجاب عن سؤال طرحه وهو: هل كانت الردة في عهد الخليفة أبي بكر رضى الله عنه شاملة لكل القبائل العربية والأفراد والزعماء الذين كانوا مسلمين، أم أن هذه الفتنة قد وقعت فيها بعض القبائل وبعض الزعماء وبعض الأفراد في مناطق جغرافية مختلفة؟
وبعد البحث قال: إن أول حقيقة تستخلص من المصادر التي أشرتُ إليها سابقًا: هي أنني لم أجد ما يدل على أن القبائل والزعماء والأفراد قد ارتدوا جميعًا عن الإسلام كما ذكر أولئك النفر الذين جعلناهم مثالا، بل وجدت أن الدولة الإسلامية اعتمدت على قاعدة صلبة من الجماعات والقبائل والأفراد الذين ثبتوا على الإسلام، وانبثوا في جميع أنحاء الجزيرة، وكانوا سندًا قويًا للإسلام ودولته في قمع حركة المرتدين منهم .

المواجهة الرسمية على المرتدين




أولاً: المواجهة الرسمية من الدولة:

1- وسيلة الإحباط من الداخل:

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استعمل هذه الوسيلة، فقام بمراسلة وبعث الرسل إلى قبائل المتنبئين لتجميع الثابتين على الإسلام، وليشكل بهم جماعة تحارب الردة، وسار الصديق رضي الله عنه على نفس المنهج، وحاول أن يحجم ويقضي على ما يمكن القضاء عليه من بؤر المرتدين، وقام بالتوعية ضدها والتخذيل منها وتنفير الناس عنها، واستطاع أن يتصل بالثابتين على الإسلام وجعل منهم رصيدًا للجيوش المنظمة؛ فقد كان يعد الأمة لمواجهة منظمة مع المرتدين بعد عودة جيش أسامة؛ فقد راسل الصديق زعماء الردة والثابتين على الإسلام ليحقق بعض الأهداف؛ ككسب الوقت حتى يرجع جيش أسامة، فكتب إلى من كتب إليهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم باليمن وغيرها؛ ليبذلوا جهدهم لدعوة الثابتين إلى الإسلام، وطلب من الثابتين التجمع في مناطق حددها لهم حتى يأتيهم أمره، وكان هذا الترتيب بداية للخطة العسكرية القادمة، وقد حالف التوفيق بعض الثابتين بالوصول إلى المدينة ومعهم صدقاتهم؛ مثل عدي بن حاتم الطائي، والزبرقان بن بدر التميمي.

وتمكن الثابتون من إفشال حركة قيس بن مكشوح المرادي وبعض التجمعات القبلية في تهامة وبلاد السراة ونجران، وقد حققت هذه الوسيلة بعض النتائج، منها:
أ- نجحت خطة الصديق في تحقيق حملات التوعية والدعاية والتعضيد للمسلمين والتخذيل لقوى المرتدين؛ تمهيدًا لاتخاذ الوسيلة الأخرى حينما تتوافر لها الإمكانات، وهي أداة الجيوش المنظمة.
ب- أنها حققت أغراضها من حيث التربية وإعداد الثابتين على الإسلام ليكونوا قوادًا في حركة الفتوح الإسلامية فيما بعد؛ كعدي بن حاتم الطائي أحد قواد فتوح العراق.
ج- تكوين قوى مسلمة مرابطة في بعض المراكز التي حددها لهم الصديق لتنضم بعد ذلك إلى الجيوش القادمة.
د- القضاء على بعض مناطق الردة ولو بمحدودية ضيقة، مثلما حصل في جنوب الجزيرة العربية.
إرسال الجيوش المنظمة
وقد قسم أبو بكر الجيش الإسلامي إلى أحد عشر لواء وجعل على كل لواء أميرًا، وأمر كل أمير جند باستنفار من مر به من المسلمين التابعين من أهل القرى التي يمر بها وهم..

لما وصل جيش أسامة بعد شهرين -وقيل أربعين يومًا- من مسيرهم واستراحوا، خرج أبو بكر الصديق بالصحابة -رضي الله عنهم- إلى ذي القصة، وهي على مرحلة من المدينة؛ وذلك لقتال المرتدين والمتمردين، فعرض عليه الصحابة أن يبعث غيره على القيادة، وأن يرجع إلى المدينة ليتولى إدارة أمور الأمة، وألحوا عليه بذلك. ومما رُوي في هذا الموضوع ما قالته عائشة: خرج أبي شاهرًا سيفه راكبًا راحلته إلى وادي ذي القصة، فجاء علي بن أبي طالب رضى الله عنه فأخذ بزمام راحلته، فقال: إلى أين يا خليفة رسول الله؟ أقول لك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: شِمْ سيفك ولا تفجعنا بنفسك، فو الله لئن أصبنا بك لا يكون للإسلام بعدك نظام أبدًا، فرجع.
وقد قسم أبو بكر الجيش الإسلامي إلى أحد عشر لواء وجعل على كل لواء أميرًا، وأمر كل أمير جند باستنفار من مر به من المسلمين التابعين من أهل القرى التي يمر بها وهم:
1- جيش خالد بن الوليد إلى بني أسد، ثم إلى تميم، ثم إلى اليمامة.
2- جيش عكرمة بن أبي جهل إلى مسيلمة في بني حنيفة، ثم إلى عمان والمهرة، فحضرموت فاليمن.
3- جيش شُرَحْبيل بن حسنة إلى اليمامة في إثر عكرمة، ثم حضرموت.
4- جيش طُرَيْفة بن حاجر إلى بني سليم من هوازن.
5- جيش عمرو بن العاص إلى قضاعة.
6- جيش خالد بن سعيد بن العاص إلى مشارف الشام.
7- جيش العلاء بن الحضرمي إلى البحرين.
8- جيش حذيفة بن محصن الغلفائي إلى عمان.
9- جيش عرفجة بن هرثمة إلى مهرة.
10- جيش المهاجر بن أبي أمية إلى اليمن «صنعاء ثم حضرموت».
11- جيش سويد بن مقرن إلى تهامة اليمن.
وهكذا اتخذت قرية (ذي القَصَّة) مركز انطلاق أو قاعدة تحرك للجيوش المنظمة التي ستقوم بالتحرك إلى مواطن الردة للقضاة عليها. وتنبئ خطة الصديق -رضي الله عنه- عن عبقرية فذة وخبرة جغرافية دقيقة.
ومن خلال تقسيم الألوية وتحديد المواقع يتضح أن الصديق رضى الله عنه كان جغرافيًا دقيقًا خبيرًا بالتضاريس والتجمعات البشرية وخطوط مواصلات جزيرة العرب، فكأن الجزيرة العربية صورت مجسمًا واضحًا نصب عينيه في غرفة عمليات مجهزة بأحدث وسائل التقنية، فمن يتمعن تسيير الجيوش ووجهة كل منها واجتماعها بعد تفرقها وتفرقها لتجتمع ثانية، يرى تغطية سليمة رائعة صحيحة مثالية لجميع أرجاء الجزيرة مع دقة في الاتصال مع هذه الجيوش، فأبو بكر في كل ساعة يعلم أين مواقع الجيوش ويعلم دقائق أمورها وتحركاتها وما حققت، وما عليها في غد من واجبات.
والمراسلات دقيقة وسريعة تنقل أخبار الجبهات إلى مقر القيادة في المدينة حيث الصديق، وكان على صلة مستمرة مع جيوشه كلها، وبرز من المراسلين العسكريين ما بين الجبهات وبين مقر القيادة: أبو خيثمة النجاري الأنصاري، وسلمة بن سلامة، وأبو برزة الأسلمي، وسلمة بن وقش.
وكانت الجيوش التي بعثها الصديق متماسكة، وهي أحد إنجازات الدولة الهامة؛ إذ جمعت تلك الجيوش بين مهارات القيادة وبراعة التنظيم فضلاً عن الخبرة في القتال؛ صهرتها الأعمال العسكرية في حركة السرايا والغزوات التي تعدى بعضها شبه الجزيرة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان الجهاز العسكري لدى الصديق متفوقًا على كل القوى العسكرية في الجزيرة، وكان القائد العام لهذه الجيوش سيف الله المسلول خالد بن الوليد صاحب العبقرية الفذة في حروب الردة والفتوحات الإسلامية.
كان هذا التوزيع للجيوش وفق خطة استراتيجية هامة، مفادها أن المرتدين لا زالوا متفرقين، كل في بلده، ولم يحصل منهم تحزب ضد المسلمين بالنسبة للقبائل الكبيرة المتباعدة في الأماكن أولاً؛ لأن الوقت لم يكن كافيًا للقيام بعمل كهذا؛ حيث لم يمضِ على ارتدادهم إلا ما يقرب من ثلاثة شهور، وثانيًا لأنهم لم يدركوا خطر المسلمين عليهم وأنهم باستطاعتهم أن يكتسحوهم جميعا في شهور معدودة، ولذلك أراد الصديق أن يعاجلهم بضربات مفاجئة تقضي على شوكتهم وقوتهم قبل أن يجتمعوا في نصرة باطلهم، فعاجلهم قبل استفحال فتنتهم، ولم يترك لهم فرصة يطلون منها برؤوسهم ويمدون ألسنتهم يلذعون بها الجسم الإسلامي، وبذلك طبق الحكمة القائلة:
لا تقطعنْ ذَنَبَ الأفعى وترسلها *** إن كنت شهمًا فأتبع رأسها الذنب

فقد أدرك حجم الحدث وأبعاده ومدى خطورته، وعلم أنه إن لم يفعل كذلك فسيوشك الجمر أن ينتفض من تحت الرماد فيحرق الأخضر واليابس، كما قال الأول:
أرى تحت الرماد وميض نار *** ويوشك أن يكون لها ضرام
فقد كان رضى الله عنه السياسي الماهر والعسكري المحنك الذي يقدر الأمور، ويضع لها الخطط المباشرة.
انطلقت الألوية التي عقدها الصديق ترفرف عليها أعلام التوحيد، مصحوبة بدعوات خالصة من قلوب تعظم المولى عز وجل وتشربت معاني الإيمان، ومن حناجر لم تلهج إلا بذكر الله تعالى، فاستجاب الله -جل وعلا- هذه الدعوات النقية، فأنزل عليهم نصره وأعلى بهم كلمته، وحمى بهم دينه، حتى دانت جزيرة العرب للإسلام في شهور معدودة.
هذا وقد كتب أبو بكر الصديق كتابًا واحدًا إلى قبائل العرب من المرتدين والمتمردين فدعاهم للعودة إلى الإسلام وتطبيقه كاملاً كما جاء من عند الله تعالى، ثم حذرهم من سوء العاقبة فيما لو ظلوا على ما هم عليه في الدنيا والآخرة، وكان قويًا في إنذارهم، وهذا هو المناسب لشدة انحرافهم وقوة تصلبهم في التمسك بباطلهم، فكان لا بد من إنذار شديد يتبعه عمل جرئ قوي لإزالة الطغيان الذي عشش في أفكار زعماء تلك القبائل، والعصبية العمياء التي سيطرت على أفكار أتباعهم.

نص الخطاب الذي أرسله للمرتدين
بعد التنظيم الدقيق، وحسن الإعداد للجيوش الإسلامية التي عقد لها الصديق الألوية نجد الدعوة البيانية القولية تطل لتقوم بدورها وتدلي بدلوها
نص الخطاب الذي أرسله للمرتدين والعهد الذي كتبه للقادة:
بعد التنظيم الدقيق، وحسن الإعداد للجيوش الإسلامية التي عقد لها الصديق الألوية نجد الدعوة البيانية القولية تطل لتقوم بدورها وتدلي بدلوها؛ فقد حرر الصديق كتابًا عامًا ذا مضمون محدد سعى إلى نشره على أوسع نطاق ممكن في أوساط من ثبتوا على الإسلام ومن ارتدوا عنه جميعًا قبل تسيير قواته لمحاربة الردة، وبعث رجالاً إلى محل القبائل، وأمرهم بقراءة كتابه في كل مجتمع، وناشد من يصله مضمون الكتاب بتبليغه لمن لم يصل إليه، وحدد الجمهور المخاطب به بأنه: العامة والخاصة، من أقام على إسلامه أو رجع عنه.

وهذا نص الكتاب الذي بعثه الصديق:
بسم الله الرحمن الرحيم: من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من بلغه كتابي هذا من عامة وخاصة، أقام على إسلامه أو رجع عنه: سلام على من اتبع الهدى ولم يرجع بعد الهدى إلى الضلالة والعمى، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، نقر بما جاء به ونكفر من أبى ونجاهده، أما بعد: فإن الله تعالى أرسل محمدًا بالحق من عنده إلى خلقه بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا؛ لينذر من كان حيًا ويحق القول على الكافرين، فهدى الله بالحق من أجاب إليه وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بإذنه من أدبر عنه، حتى صار إلى الإسلام طوعًا وكرهًا، ثم توفى اللهُ رسولَه صلى الله عليه وسلم وقد نفذ لأمر الله ونصح لأمته وقضى الذي عليه، وكان الله قد بين له ذلك ولأهل الإسلام في الكتاب الذي أنزل، قال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} [الزمر: 30]، وقال للمؤمنين: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَّضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]، فمن كان إنما يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله وحده لا شريك له فإن الله له بالمرصاد، ولا تأخذه سنة ولا نوم، حافظ لأمره منتقم من عدوه بحزبه.
وإني أوصيكم بتقوى الله وحظكم ونصيبكم من الله، وما جاءكم به نبيكم صلى الله عليه وسلم، وأن تهتدوا بهداه وأن تعتصموا بدين الله، فإن كل من لم يهده الله ضال، وكل من لم يعافه ممُبتلى، وكل من لم يعنه الله مخذول، فمن هداه الله كان مهتديًا، ومن أضله كان ضالاً، قال الله تعالى: {مَن يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا} [الكهف: 17]، ولم يقبل منه في الدنيا عمل حتى يقر به، ولم يقبل منه في الآخرة صرف ولا عدل.
وقد بلغني رجوع من رجع منكم عن دينه بعد أن أقر بالإسلام وعمل به اغترارًا بالله وجهالة بأمره وإجابة للشيطان، قال الله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} [الكهف: 50]، وقال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6].
وإني بعثت إليكم فلانًا في جيش من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان، وأمرته ألا يقاتل أحدًا ولا يقتله حتى يدعوه إلى داعية الله، فمن استجاب له وأقر وكف وعمل صالحًا قبل منه وأعانه عليه، ومن أبى أمرت أن يقاتله على ذلك ثم لا يبقى على أحد منهم قدر عليه، وأن يحرقهم بالنار ويقتلهم كل قتلة، وأن يسبي النساء والذراري ولا يقبل من أحد إلا الإسلام، فمن تبعه فهو خير له ومن تركه فلن يعجز الله.
وقد أمرت رسولي أن يقرأ كتابي في كل مجمع لكم والداعية الأذان: فإذا أذن المسلمين فأذَّنوا كفوا عنهم، وإن لم يؤذنوا عاجلوهم، وإن أذنوا اسألوهم ما عليهم، فإن أبوا عاجلوهم، وإن أقروا قبل منهم وحملهم على ما ينبغي لهم.
ونلحظ من خطاب أبي بكر أنه كان يدور حول محورين:
أ- بيان أساس مطالبة المرتدين بالعودة إلى الإسلام.
ب- بيان عاقبة الإصرار على الردة.
وقد أكد الكتاب على عدة حقائق هي:
-أن الكتاب موجه إلى العامة والخاصة ليسمع الجميع دعوة الله.
-بيان أن الله بعث محمدًا بالحق، فمن أقر كان مؤمنًا، ومن أنكر كان كافرًا يجاهد ويقاتل.
-بيان أن محمدًا بشر قد حق عليه قول الله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ} وأن المؤمن لا يعبد محمدًا صلى الله عليه وسلم وإنما يعبد الله الحي الباقي الذي لا يموت أبدًا، ولذلك لا عذر لمرتد.
إن الرجوع عن الإسلام جهل بالحقيقة واستجابة لأمر الشيطان، وهذا يعني أن يتخذ العدو صديقًا، وهو ظلم عظيم للنفس السوية؛ إذ يقودها صاحبها بذلك إلى النار عن طواعية.
-إن الصفوة المختارة من المسلمين وهم المهاجرون والأنصار وتابعوهم، هم الذين ينهضون لقتال المرتدين غيرة منهم على دينهم وحفاظًا عليه من أن يهان.
-إن من رجع إلى الإسلام، وأقرَّ بضلاله، وكف عن قتال المسلمين، وعمل من الأعمال ما يتطلبه دين الله، فهو من مجتمع المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم.
-إن من يأبى الرجوع إلى صف المسلمين ويثبت على ردته، إنما هو محارب لا بد من شن الغارة عليه، تقتله أو تحرقه، وتسبي نساءه وذراريه، ولن يعجز الله بأية حال؛ لأنه أنى ذهب في ملكه.
إن الشارة التي ينجو بها المرتدون من غارة المسلمين أن يعلن فيهم الأذان وإلا فالمعالجة بالقتال هي البديل. وحتى لا يترك الخليفة الأمر للقادة والجند بغير انضباط كتب للقواد جميعًا كتابًا واحدًا يدعوهم فيه إلى الالتزام بمضمون كتابه السابق، هذا نصه:
هذا عهد من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم لفلان حين بعثه فيمن بعثه لقتال من رجع عن الإسلام، وعهد إليه أن يتقي الله ما استطاع في أمره كله، سره وعلانيته، وأمره بالجد في أمر الله ومجاهدة من تولى عنه ورجع عن الإسلام إلى أماني الشيطان، بعد أن يعذر إليهم فيدعوهم بداعية الإسلام، فإن أجابوه أمسك عنهم، وإن لم يجيبوه شنَّ غارته عليهم حتى يقروا له، ثم ينبئهم بالذي عليهم والذي لهم، فيأخذ ما عليهم ويعطيهم الذي لهم، لا وينظرهم ولا يرد المسلمين عن قتال عدوهم، فمن أجاب إلى أمر الله -عز وجل- وأقر له قبل ذلك منه وأعانه عليه بالمعروف، وإنما يتقبل من كفر بالله على الإقرار بما جاء من عند الله، فإذا أجاب الدعوة لم يكن عليه سبيل، وكان الله حسيبه بعد فيما استسر به، ومن لم يُجِب داعية الله قتل وقوتل حيث كان وحيث بلغ مراغَمه، لا يقبل من أحد شيئًا أعطاه إلا الإسلام، فمن أجابه وأقر قبل منه وعلمه ومن أبى قاتله، فإن أظهره الله عليه قتل منهم كل قتلة بالسلاح والنيران، ثم قسم ما أفاء الله عليهم إلا الخمس فإنه يبلغناه، وأن يمنع أصحابه العجلة والفساد وألا يدخل فيهم حشوًا حتى يعرفهم ويعلم ما هم لا يكونوا عيونًا, لئلا يؤتى المسلمين من قبلهم، وأن يقتصد بالمسلمين ويرفق بهم في السير والمنزل ويتفقدهم، ولا يعجل بعضهم عن بعض، ويستوصي بالمسلمين في حسن الصحبة ولين القول.
وفي العهد الذي ألزم به قواده يظهر حرص الصحابة على إلزام أمرائه في حرب الردة بتعليمات أساسية مكتوبة موحدة نصت بوضوح لا يحتمل اللبس على حظر القتال قبل الدعوة إلى الإسلام، والإمساك عن قتال من يجيب، والحرص على إصلاحهم، وحظر مواصلة القتال بعد أن يقروا بالإسلام والتحول عند هذه النقطة من القتال إلى تعليمهم أصول الإسلام وتبصيرهم بما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات، وحظر المهادنة أو رد الجيش عن محاربة المرتدين ما لم يفيئوا إلى أمر الله.
والتزم الجيش الإسلامي في التنفيذ مبدأ الدعوة قبل القتال والإمساك عن القتال بمجرد إجابة الدعوة؛ باعتبار أن الغاية الوحيدة هي عودة المرتدين إلى الذي خرجوا منه وتلمسًا لتحقيق أقصى درجة من التوافق في صفوف القوات الإسلامية التي نيط بها القضاء على ظاهرة الردة.
أمضى الصديق هذا العهد مع أمراء الجيوش الإسلامية، يطلب من الجيش أن يكون سلوكه ذاته خير دعوة للمهمة المستندة إليه، وأن يتطابق تمامًا مع هدف واحد هو الدفاع عن الإسلام.
إن اقتداء أبي بكر رضى الله عنه برسول الله صلى الله عليه وسلم علمه فن القيادة، ونجاح القائد في قيادته يتوقف على مدى نجاحه في جنديته. ولقد كان أبو بكر نعم الجندي في جيش المسلمين، مخلصًا في ولائه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يطبق ما يقوله بحذافيره، مضحيًا في سبيله، لم يفر عنه في معركة قط. ونستطيع أن ندرك دقة آرائه القيادية وبعد مرماها من وصاياه لقواده وخططه العامة التي رسمها لهم أثناء تحركهم لضرب قوات العدو.

لقد كانت أول وصية أوصاهم بها تتركز على النقاط التالية:
أن يلزموا أنفسهم تقوى الله عز وجل ومراقبته في السر والعلن، وهذا عين الصواب في هذه السياسة الرشيدة؛ لأن القائد إذا ألزم نفسه تقوى الله -عز وجل- كان معه: {إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُون} [النحل: 128].
الجد والاجتهاد وإخلاص النية لله سبحانه وتلك أخلاق المنصورين الفائزين {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
أن لا يقبل من المرتدين إلا الإسلام أو القتل؛ إذ لا مهادنة في أمر العقيدة.
تقسيم الغنائم بين الجند مع الاحتفاظ بحق بيت المال منها، وهو خمسها.
أن لا يتعجلوا في التصرف حيال القضايا التي تواجههم حتى لا تأتي حلولهم فجة.
أن يحذروا من أن يدخل بينهم غريب ليس منهم، كيلا يكون جاسوسًا عليهم.
أن يرفقوا بجندهم ويتفقدوهم في المسير والنزول، وأن لا ينفرط بعضهم عن بعض.
وأن يستوصوا بهؤلاء الجند خيرًا في الصحبة.
ويمكنا من خلال الدراسة أن نستخلص الخطة العامة بعد أن عقد الصديق الألوية لقادة الجيوش، والتي تتخلص في النقاط الآتية:
أ- ضمنت الخطة إحكام التعاون بين هذه الجيوش جميعها، بحيث لا تعمل كأنها منفصلة تحت قيادة مستقلة، وإنما هي رغم تباعد المكان جهاز واحد، وقد تتلقى -أو يلتقي بعضها ببعض- لتفترق، ثم تفترق لتلتقي، كان ذلك والخليفة بالمدينة يدبر حركة القتال ومعاركه.
ب- احتفظ الصديق بقوة تحمي المدينة –عاصمة الخلافة- واحتفظ بعدد من كبار الصحابة ليستشيرهم وليشاركوه في توجيه سياسة الدولة.
ج- أدرك الصديق أن هناك جيوشًا من المسلمين داخل المناطق التي شملتها حركة العصيان والردة، وقد حرص على هؤلاء المسلمين من أن يتعرضوا لنقمة المشركين، ولذلك فإنه أمر قادته باستنفار من يمرون بهم من أهل القوة من المسلمين من جهة، وبضرورة تخلف بعضهم لمنع بلادهم وحمايتها من جهة أخرى.
د- طبق الخليفة مبدأ الحرب خدعة مع المرتدين، حتى أظهر أن الجيوش تنوي شيئًا، وهي في حقيقة الأمر كانت تستهدف شيئًا آخر؛ زيادة في الحيطة والحذر من اكتشاف خطته، وهكذا تظهر الحنكة السياسية والتجربة العملية والعلم الراسخ والفتح الرباني في قيادة الصديق.

([1]) الأبعاد السياسية لمفهوم الأمن في الإسلام، مصطفى محمود منجود: ص 169.
منقول من (أبو بكر الصديق علي بن محمد الصلابي)


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 09-04-2023, 10:55 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,827
الدولة : Egypt
افتراضي رد: معارك حربية مهمة فى التاريخ الاسلامى ...يوميا فى رمضان



الفتح الإسلامي وملحمة تعريب المغرب


. أحمد الظرافي
(19)

خارطة تُبيِّنُ مسار الفُتوحات الإسلاميَّة لِبلاد المغرب.

يعتبر الفتح الإسلامي للمغرب من الأحداث الكبرى والخالدة في تاريخ الإسلام في الثلث الأخير من القرن الأول الهجري، لما ترتب عليه من نتائج حاسمة غيرت مجرى تاريخ هذه البلاد وحددت معالم هويتها إلى الأبد، ومنها انتشار الإسلام والتعريب، وبالتالي حدوث عملية الاختلاط الكبرى بين العرب والبربر في بوتقة الإسلام وتحول المغرب إلى جزءٍ عزيز من عالم الإسلام والعروبة.
أولاً: بدايات استقرار العرب بالمغرب:
جاءت عملية استقرار العرب في ربوع المغرب الكبير نتيجة حتمية للفتوحات الإسلامية في هذه الناحية من جهة، وكجزءٍ من رسالتهم السامية وهي تبليغ رسالة الإسلام إلى الناس أجمعين ومنهم البربر سكان هذه البلاد من جهةٍ أخرى، وليس لرغبتهم في الاستيطان فيها واستغلال خيراتها والتحكم في رقاب أهلها. ولولا عملية استقرار العرب المسلمين في هذه البلاد وما قدموه من تضحيات جبارة أثناء عملية الفتح والتي كانت هي الأطول والأصعب على الإطلاق في تاريخ الفتوحات الإسلامية كلها[1] لما تحررت من هيمنة البيزنطيين، ولما انتشر الإسلام في ربوعها، ولما شملها التعريب، وبالتالي لما اجتمع شمل أهلها واتحدت كلمتهم. وترجع البدايات الأولى لاستقرار العرب المسلمين في ربوع بلاد المغرب إلى بداية الفتوحات الإسلامية في هذه الناحية، وذلك بعد فتح مصر مباشرة بقيادة عمرو بن العاص، إذ قام هذا القائد بغزو إقليمي برقة وطرابلس سنة 23هـ لتأمين حدود مصر الغربية من خطر الروم البيزنطيين الذين كانوا يحكمون المغرب الأدنى، إذ كان يخشى أن يحاولوا استعادة مصر من هذا الطريق الغربي[2]. وقد تركز استقرار العرب في البداية في برقة والتي كانت جزءاً من مصر بحسب التقسيم الإداري البيزنطي[3] نظراً لقربها من الإسكندرية. وكذلك كان استقرارهم في طرابلس على ساحل البحر المتوسط وكانت طرابلس هي الأخرى تابعة إدارياً لمصر طبقاً لبعض الروايات. وظل الأمر على هذا النحو طوال العهد الراشدي فلما كانت الخلافة الأموية بقيت برقة تابعة إدارياً لمصر بينما أصبحت طرابلس من عمل إفريقية بعد أن أصبحت هذه الأخيرة ولاية مستقلة في عهد الوليد بن عبد الملك[4]. وكان استقرار العرب في هذه المدن على شكل حاميات عسكرية لمنع البيزنطيين الدخلاء من العودة إليها من جهة، ومن جهة أخرى لحماية الدعاة إلى الله الذين انتشروا بين أهلها لتعريفهم بمبادئ الإسلام وتعليمهم القرآن الكريم والحديث الشريف واللغة العربية. وقد أخذت أعداد العرب المستقرين في هذه المدن تزداد شيئاً فشيئاً مع توالي الحملات التي كانت تخرج من مصر لفتح إفريقية بمن كان يفد عليها من المجاهدين أحياناً من المدينة أولاً كحملة عبد الله بن أبي سرح سنة 27هـ، ثم من الشام ثانياً كحملة معاوية بن حديج الكندي سنة 45هـ. ولكن لم يبدأ العرب في الاستقرار المنظم في إفريقية التي تمثل اليوم تونس الحالية والتي تعتبر جزءاً من المغرب الكبير إلا عندما أنشأ عقبة بن نافع مدينة القيروان ومسجدها الجامع فيما بين سنتي 50 و55هـ[5]، أي خلال ولايته الأولى على إفريقية في خلافة معاوية: فبدأت منذ ذلك الحين أنظار العرب تتجه إلى إفريقية إذ أصبح لهم فيها عاصمة أو مركز يتبعه الإقليم المحيط به[6]، وتلك العاصمة بطبيعة الحال هي القيروان إحدى العواصم الإسلامية المشهورة في القرن الأول الهجري بعد المدينة ومكة والبصرة والكوفة ودمشق والفسطاط.
ثانياً: تأسيس القيروان:

جامع عقبة بن نافع في مدينة القيروان. من أكبر وأشهر وأقدم المساجد في المغرب وشمال أفريقيا.


يذكر ابن الأثير في «أسد الغابة» وفي «الكامل» أن عقبة بن نافع أدخل كثيراً من البربر في الإسلام واتسعت خطة المسلمين في عهده وقوي جَنَان من هناك من الجنود بمدينة القيروان وأمنوا واطمأنوا على المقام فثبت الإسلام بها[7]. ورُوي أيضاً أن عقبة بن نافع كان معه في عسكره 25 من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه جمع وجوه أصحابه وكبار العسكر فدار بهم حول القيروان وأقبل يدعو لها ويقول في دعائه: اللهم املأها علماً وفقهاً واعمرها بالمطيعين والعابدين واجعلها عزاً لدينك وذلاً على من كفر وأعز بها الإسلام وامنعها من جبابرة الأرض»[8]. وكان عقبة خلال إقامته الطويلة في تلك الأصقاع قد أدرك بنظره الثاقب أن أعمال الفتوح في شمال إفريقيا لابد أن تكون طويلة وشاقة ولا يجوز أن تظل معتمدة على قواعد بعيدة وصعبة الاتصال بالشام أو بمصر. لذا صمم على بناء مدينة جديدة في بلاد تونس تكون قاعدة لقوات المسلمين ومخزناً للمؤن والأغذية ومقراً لعمالهم وقادتهم ومركزاً للعلم والعلماء. وربما فوق ذلك تعمد بهذا أن يشير لأعدائه الروم إلى أن وجود المسلمين في هذه البلاد هو أمر دائم وثابت ولن يكون آنياً أو عابراً. ولمناعة المدينة التي صار اسمها «القيروان» اختار لها موقعاً يبعد عن السواحل حيث تتواجد القوى البيزنطية بما فيه الكفاية ويقتربون من تخوم الصحراء في الداخل بما يجعل المسلمين يرتاحون للإقامة فيها لوجودهم في بيئة جغرافية تقرب مما ألفوه في مواطنهم وبما يتيح لهم في الوقت نفسه القرب من البربر لمراقبتهم ورصد تحركاتهم[9].
ويبدأ عصر الولاة في إفريقية من إنشاء القيروان وبها قامت الولاية سنة 50هـ، أما بالنسبة للمغرب الأوسط فيبدأ من حوالي سنة 85هـ، وأما بالنسبة للمغرب الأقصى فيبدأ عصر الولاة حوالي سنة 90هـ وهي السنة التي أنشأ فيها موسى بن نصير ولايتي المغرب الأقصى والسوس أو سجلماسة[10].
والواقع أن القيروان سرعان ما اتخذت لنفسها مكانة بارزة بين مدائن دولة الإسلام فباتت في إفريقية مقراً للولاة والعمال، منها تخرج جيوش الفتوح وإليها تعود غنائمها، ومن مساجدها ومدارسها يخرج الرسل والعلماء والفقهاء ليدعموا وجود الإسلام في تلك الأصقاع بنشر مبادئ هذا الدين بين البربر وبتعريف هؤلاء القرآن وتعليمهم لغته. وبسرعة مدهشة عمرت بالدور والمنشآت العامة وأقبل كثيرون ممن أسلموا من البربر على الإقامة فيها يختلطون بالعرب ويتعايشون ويتآلفون معهم. وبذا يكون عقبة بن نافع قد نجح في أن يقيم في السهل التونسي قاعدة قوية للإسلام ينتشر منها في جموع البربر الضاربين حولها[11]. وبرغم سيطرة كسيلة عليها بعد استشهاد عقبة سنة 64هـ إلا إن سيطرته تلك: لم تكن قاضية على كل أثر للمسلمين في البلاد[12]. ثم إن المسلمين لم يلبثوا أن عادوا إليها بعد أربع سنوات فقط أي في ولاية زهير بن قيس البلوي وبعد مقتل كسيلة في معركة ممس سنة 69هـ.
ثالثاً: التقسيم الإداري لولاية المغرب:

تجدر الإشارة إلى أن إفريقية كانت في البداية تابعة إدارياً لوالي مصر حتى كانت خلافة الوليد بن عبد الملك الذي جعلها ولاية مستقلة سنة 86هـ، ومنح الولاة فيها من السلطات ما منح للولاة في العراق ومصر[13]. وقبل ذلك ومع تولي حسان بن النعمان الغساني (74- 85هـ) أمور إفريقية كان قد تم وضع أساس النظام الإداري لهذه الولاية الجديدة، وكانت حدودها الجغرافية والسياسية مطابقة لولاية إفريقية البيزنطية والتي كانت تشمل ولاية طرابلس مضافاً إليها إفريقية نفسها وتقابل على وجه التقريب جمهورية تونس الحالية ثم جزءاً مما عرف فيما بعد بإقليم الزاب عند الجغرافيين المسلمين[14]، وهو الإقليم الذي كان يشمل بلاداً واسعة، من مدنها بسكرة وقسنطينة وقفصة. فكان حسان هو الذي دون الدواوين (ديوان الجند وديوان الخراح وديوان الرسائل)، وجعل العربية لغة رسمية في البلاد وصالح على الخراج وقسّم البلاد خططاً: لكل قبيلة خطة، ثم أقام العمال على نواحي الإدارة من خراج وزكاة وجند[15].

ويتطرق المالكي إلى سياسة حسان مع البربر فيذكر أن «البربر استأمنوا إليه فلم يقبل أمانهم حتى أعطوه 12 ألف فارس يكونون مع العرب مجاهدين فأجابوه وأسلموا على يديه»، ولم يكتف بذلك بل «وأخرجهم مع العرب يفتحون إفريقية». «فمن ذلك صارت الخطط للبربر بإفريقية فكان يقسم الفيء بينهم والأرض. فدانت له إفريقية ودوّن الدواوين»[16]. وفي التقسيم الإداري تم اعتبار مجال كل قبيلة كبيرة قسماً إدارياً[17] وله مركز ينزله عامل من عرب إفريقية ويتولى إدارة منطقته بالتعاون مع زعماء القبيلة، وأرسل الخليفة قاضياً للقيروان أسوة بغيرها من العواصم الإسلامية الكبرى.. وبهذا تم فتح المغرب وتنظيمه[18].
وفي هذه الفترة حدثت عملية الاختلاط الكبرى بين العرب والبربر في بوتقة الإسلام. وكل ذلك بمعاونة عرب إفريقية أو العرب البلديين الذين كانوا قد اكتسبوا خبرة بطبيعة البلاد وخبروا أهلها وعقدوا الصلات معهم وتزوجوا من بناتهم وصار بعضهم موالي لهم، وذلك بحكم وجودهم المبكر في ولاية إفريقية. وكذلك أنشأ حسان مدينة تونس بين عامي (82 - 86هـ) لتكون قاعدة بحرية إسلامية في المغرب بدلاً من مدينة قرطاجة المهدمة القريبة منها كما أسكن فيها جالية من المسلمين لمقاومة الخطر البيزنطي، ومن هذا الميناء الكبير بدأ المسلمون غاراتهم الأولى على صقلية وجزيرة سردينية[19] في البحر المتوسط. وما لبثت المدن أن ازدهرت بمجملها مع استقرار الحال وساعد على ذلك تعاظم هجرات القبائل العربية التي تمركزت في البداية حول المدن ثم اندفعت لاحقاً في كل مكان ناشرة أينما ذهبت اللغة العربية والإسلام. وعندما تولى أمور إفريقية موسى بن نصير أكمل هو وأولاده فتح المغرب الأوسط والمغرب الأقصى وأنشأ موسى ثلاث ولايات جديدة، الأولى ولاية المغرب الأقصى وتشمل النصف الشمالي للملكة المغربية الحالية، والثانية ولاية سجلماسة وكانت تطلق على النصف الجنوبي من المملكة المغربية الحالية، أما الولاية الثالثة فهي تلك المساحة التي امتدت من الحدود الغربية لولاية إفريقية إلى حدود ولاية المغرب الأقصى وهي تشمل جزءاً كبيراً من أراضي جمهورية تونس الحالية[20].

رابعاً: انتشار الإسلام والتعريب:

أحداث فتح إفريقية والمغرب في عهد الخليفة الأُموي عبدُ الملك بن مروان.


وفي جميع هذه الولايات استقرت جاليات عربية ولعبت دوراً كبيراً في نشر الإسلام واللغة العربية فيها. ففي عاصمة كل ولاية منها أقيمت قاعدة عربية إسلامية على رأسها والٍ واستقرت جماعات من العرب فيها لتعلم أهل الناحية قواعد الإسلام، وفي الوقت نفسه أخذت العربية في الانتشار بين البربر[21]. وعلى هذا هدفت سياسة هؤلاء الولاة إلى تقوية الصلات مع البربر عن طريق نشر الإسلام بينهم على نطاق واسع وتعريبهم بإعطائهم لغة القرآن وعادات العرب وتقاليدهم وثقافتهم. فالولاة الأوائل كانوا أساساً بدرجة تقل أو تكثر دعاة للإسلام ومبشرين به وعاملين على رفع لواء لغة الضاد ومحاولين إحلالها مكان اللغات واللهجات المحلية. والواقع أن نجاح هؤلاء في هذه المجالات بين البربر كان عظيماً، إذ انتشر الإسلام سريعاً بينهم وظهرت طبقة من المسلمين الجدد لا تقل حماسة للإسلام والرغبة في العمل على إعلاء شأنه ونشر كلمته عن العرب. ويبدو أن انتشار اللغة العربية كان يسير بمحاذاة توسع الإسلام؛ ذلك أن معتنقي الدين الجديد من البربر كانوا بحاجة ماسة للعربية كونها لغة كتابهم القرآن ولسان سادتهم الجدد وحكامهم[22] (هكذا)[23]. ولم يكتمل القرن الأول الهجري حتى كان المغاربة قد صاروا جميعاً مسلمين صادقين في إسلامهم ومتحمسين لرفع راية النضال في سبيل عز عقيدتهم الجديدة.. بل وتعربوا وصاروا يتحدثون العربية ويكتبونها ويخطبون بها بفصاحة، واكتسبوا ما تفيده تلك اللغة من تفكير وتعبير فصارت لهم العقلية العربية نفسها وصار يوجد فيهم الفقهاء والشعراء والخطباء.. كذلك صارت حياتهم ومعاملاتهم قائمة على أساس الشريعة الإسلامية[24]. وبذلك أصبح المغرب جزءاً لا يتجزأ من عالم الإسلام والعروبة كما أن بعض هؤلاء العرب أنشأوا العديد من الحصون والمعاقل على شواطئ البحر المتوسط ورابطوا فيها للتصدي لأي هجوم على هذه السواحل من قبل البيزنطيين الذين كانوا يحنون للعودة إليها. ثم كان هؤلاء العرب الفاتحون لإفريقية والذين انتسبوا إليها فصار يطلق عليهم عرب إفريقية وهم الصخرة التي تكسرت عليها أمواج العاصفة العاتية الهوجاء التي أثارها الخوارج في المغرب سنة 123هـ أو بعبارة أدق كانوا من أهم العوامل التي ساعدت جيوش الخلافة في انتزاع الانتصار الحاسم على جيوش أولئك الخوارج في معركة الأصنام تحت قيادة حنظلة بن صفوان الكلبي، لكونهم قاموا بنصيب كبير من القتال في سبيل استخلاص إفريقية من الثائرين على الخلافة، ولولاهم لما استطاع جند الخلافة الوصول إلى هذا النصر الحاسم[25] الذي وضع حداً للخطر الداهم الذي كان يشكله الخوارج على الوجود الإسلامي في المغرب. ولولا الإسلام لما بقيت للعروبة بقية في هذه الربوع التي ظلت على مر العصور هدفاً للحملات الصليبية المتعاقبة وحسبك 130 عاماً استيطاناً مسعوراً وتغريباً مسموماً وفرنسة حاقدة[26]. ودخول العروبة إلى هذه الربوع في ظل الإسلام هو الذي ضمن لها المقومات الأساسية من لغة وحضارة وفكر وثقافة ودعم هذه المقومات بالروح والعقيدة.. ومن هذا المنطلق حفظ الإسلام للعروبة في شمال إفريقيا مواقف وبطولات على مر العصور وأنجب لها أبطالاً وقواداً وبناة حضارة[27].

خامساً: البيوتات العربية التي برزت في المغرب:

كان عرب إفريقية والمغرب الذين صارت لهم اليد الطولى في هذه البلاد بعد انحلال سيادة الروم الهشة عليها يتشكلون من بيوت كثيرة وينتمون إلى قبائل عربية عديدة وخاصة القبائل اليمنية والحجازية. وقد مضى نصف قرن قبل أن يظفر العرب بالسيادة على الساحل الشمالي الذي يمتد من مصر إلى المحيط الأطلسي ولم تكد قرطاجة تسقط سنة 698م حتى زال الحكم الروماني من إفريقية زوالاً لا رجعة له كما أن إخضاع البربر قد مكّن العرب من أن يصبحوا سادة هذه البلاد[28]. ولكن أبرز البيوتات وكذلك الشخصيات التي ظهرت فيما بعد في إفريقية وحظيت بالنفوذ والرياسة والتأييد فيها سياسياً واجتماعياً وثقافياً كانت غالباً من أبناء وأحفاد القادة الفاتحين لإفريقية. ذلك أن نفراً من كبار الفاتحين خلّفوا وراءهم في المغرب بيوتاً عديدة الأفراد كثيرة الأتباع كان لها دور كبير في تاريخ المغرب فيما بعد[29]. ويشير حسين مؤنس إلى أن عدداً عظيماً من فاتحي إفريقية أنشأوا فيها أسراً من أهلهم وذريتهم فأصبحت هذه الأسر مع الزمن ذات جاه وسلطان بفضل من التف حولها من العرب والموالي والأتباع وأصبحت لها رياسة على جماعات العرب والبربر في النواحي التي استقرت فيها. ومن بيوت هذه الأسر بيت عقبة بن نافع وكان أقواها وأعظمها، وبيت معاوية بن حديج الكندي، وبيت بني نصير، وبيت أبي المهاجر دينار[30]. وهذه البيوتات سيتجه كل منها اتجاهاً خاصاً به، فبيت عقبة بن نافع سيتجهون إلى السياسة، أما بيت أبي المهاجر دينار فسيتجهون إلى العلم، أما أبناء موسى بن نصير فكان اهتمامهم بشئون المال والتجارة[31]. وكان لهذه البيوت الثلاثة النصيب الأوفى من السلطان في إفريقية خلال العصر الأموي بل صارت الأمور أخيراً إلى بيت عقبة بن نافع ممثلاً في شخص عبد الرحمن بن حبيب [بن أبي عبيدة] بن عقبة[32]. هذا الأخير الذي كان محبباً في المغرب لما كان من آثار جده عقبة فغلَبَ عليه بعد وفاة الخليفة هشام وتضعضع مكانة الدولة الأموية في المشرق بعد أن تكالب الخارجون عليها. وكان هؤلاء العرب الأفارقة (البلديون) أي عند اندلاع فتنة الخوارج في المغرب سنة 123هـ مقيمين جماعات كل جماعة في ناحية عليهم رئيس منهم يقوم بشئون الإقليم لحساب عامل إفريقية في القيروان. وقد سجل المؤرخون لنا منهم جماعات قوية في طرابلس وسبرت (صبرة) وقابس والقيروان. ومن شخصيات هؤلاء العرب الإفريقيين في ذلك الحين حبيب بن ميمون (سبرت) وعبد الرحمن بن عقبة الغفاري ومسلمة بن سودة القرشي (القيروان)، وصفوان بن أبي مالك (طرابلس)، وسعيد بن بجرة الغساني (قابس)، وحبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع ويبدو أنه كان على رأس هؤلاء العرب الأفارقة جميعاً[33]. وكان هؤلاء من أبرز القادة الذين اعتمدت عليهم الخلافة الأموية في القضاء على فتنة البربر. وكانت جماعة من هؤلاء العرب الإفريقيين تقيم في تلمسان يرأسها موسى بن أبي خالد، أحد موالي معاوية بن حديج أحد كبار قادة العرب الذين ساهموا في فتح إفريقية بنصيب كبير وكان عامل تلمسان[34] أثناء اندلاع تلك الفتنة، والذي نكل به عبيدة بن الحبحاب أمير إفريقية وقتذاك لاتهامه بممالأة الخوارج وتسببه في مقتل ولده إسماعيل والذي كان أحد أعوانه في إدارة أمور المغرب.
[1] انظر عرض ابن خلدون لأسباب تلك المصاعب في المقدمة، دار الفكر- بيروت، د.ت ص164-165. وانظر أيضاً إبراهيم بيضون: الدولة العربية في إسبانيا، دار النهضة العربية - بيروت، ط2، 1406هـ/1986م، ص59.
[2] أحمد العبادي: في تاريخ المغرب والأندلس، دار النهضة العربية، بيروت، ص36.
[3] حسين مؤنس: أطلس تاريخ الإسلام، الزهراء للإعلام- القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، ص134.
[4] نجدة خماش: خلافة بني أمية في الميزان، دار طلاس- دمشق، ص139.
[5] محمد زينهم: مستند تاريخ مملكة الأغالبة لابن وردان دراسة وتقديم وتحقيق وتعليق، ملف PDF منشور على الرابط: (https://goo.gl/u1T6Td).
[6] خماش: المرجع السابق، ص141.
[7] مؤنس: فتح العرب للمغرب، مكتبة الآداب بالجماميز - مصر، ص283.
[8] المالكي: رياض النفوس (10/1) حققه بشير البكوش (دار الغرب الإسلامي- بيروت، ط1، 1403هـ/ 1983م، ط2 1414هـ/ 1994م).
[9] عبد المجيد نعنعي: تاريخ الدولة الأموية في الأندلس، دار النهضة العربية - بيروت، د.ت ص29-30.
[10] مؤنس: أطلس، ص 178.
[11] المرجع السابق، ص30.
[12] مؤنس: فجر الأندلس، الشركة العربية - القاهرة، ط1، 1959م، ص41.
[13] خماش: المرجع السابق، ص141.
[14] زينهم: المرجع السابق.
[15] مؤنس: فجر، ص45.
[16] المالكي: (56-57/1).
[17] زينهم: المرجع السابق.
[18] مؤنس: فجر، ص45.
[19] مؤنس: معالم تاريخ المغرب والأندلس، دار الرشاد، 2004م، ص53.
[20] زينهم: المرجع السابق.
[21] مؤنس: معالم، ص62.
[22] نعنعي: الدولة الأموية، ص76 .
[23] من أعظم المصائب التي أصابت أمتنا في الوقت الحاضر تصدي المؤرخين العلمانيين لكتابة تاريخها، كهذا المؤرخ الذي اضطررنا أن ننقل كلامه إلى آخره التزاماً بالأمانة العلمية برغم تعسفه في وصف العرب الفاتحين وما يحمله هذا الوصف من طعن في الفتوحات والنتائج التي ترتبت عليها.
[24] العبادي: مرجع سابق، ص47.
[25] المرجع السابق، ص76.
[26] صالح الخرفي: عروبة المغرب العربي، العربي، العدد 322 سبتمبر 1985م، ص48.
[27] المرجع السابق، ص49.
[28] أرنولد: الدعوة إلى الإسلام، ترجمة حسن الإبراهيم، مكتبة النهضة المصرية، ط1، 1947م، ص111.
[29] مؤنس: معالم، ص62.
[30] المرجع السابق، ص77.

[31] المرجع السابق، ص77-78.
[32] مؤنس: فتح العرب للمغرب، ص297.
[33] المرجع السابق، ص297.
[34] مؤنس: فجر، ص168
منقول بتصرف








__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 14-04-2023, 11:46 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,827
الدولة : Egypt
افتراضي رد: معارك حربية مهمة فى التاريخ الاسلامى ...يوميا فى رمضان




سقوط بغداد (5)
(656هـ 1258م)
أخر أيام بغداد

أ.د. راغب السرجاني
(24)

كانت بغداد من أشدِّ مدن الأرض حصانة؛ وأسوارها من أقوى الأسوار، لكن كانت الحصون تفتقد الرجال؛ وعن أوضاعها يكتب د. راغب السرجاني هذا المقال.



اجتمع هولاكو مع كبار مستشاريه في مجلس حرب يُعَدُّ من أهمِّ مجالس الحرب في تاريخ التتار، لقد أخذ القرار بغزو العاصمة بغداد ، وكان هولاكو قلقًا من أي مفاجآت؛ خاصَّة من الأمراء المسلمين الذين انضمُّوا إلى جيشه؛ ولذلك وضع على الفرق الإسلامية التي معه مراقبة شديدة، ولكن مخاوفه لم تمنعه من التقدُّم، كما أنها لم تكن حقيقية؛ لأن الأمراء المسلمين الذين انضمُّوا إليه لم يكن في نيتهم قطُّ الغدر «بهولاكو»، إنما كان العزم -كل العزم- أن يغدروا «ببغداد»!
كان مجلس الحرب معقودًا في مدينة «هَمَذَان» الفارسية (في إيران حاليًّا) وهي تقع على مسافة حوالي450 كيلو مترًا من بغداد إلى الشمال الشرقي؛ وقرَّر هولاكو في هذا المجلس أن يُقَسِّم جيشه إلى ثلاثة أقسام:
الجيش الأول:
هو القلب، وهو القسم الرئيسي من الجيش، وسيقوده هولاكو بنفسه، وستلحق به الإمدادات التي سيُرسلها «باتو» زعيم القبيلة الذهبية التترية، وكذلك ستلحق به الفرق المساعدة من مملكتي أرمينيا والكُرْج، وهذا القسم من الجيش سيخترق الجبال الواقعة في غرب فارس صوب بغداد مباشرة مرورًا بمدينة كَرْمَان شاه، وستكون مهمَّة هذا الجيش حصار بغداد من الجهة الشرقية.


الجيش الثاني:
هو الجناح الأيسر لجيش التتار، وهذا سيقوده «كتبغا» أفضل قوَّاد هولاكو، وسيتحرَّك هذا الجيش بمفرده في اتجاه بغداد أيضًا، ولكن إلى الجنوب من الجيش الأول، وقد تمَّ فصل الجيشين حتى لا تستطيع المخابرات الإسلامية -إن وُجدت- أن تُقَدِّر العدد الصحيح للجيش التتري، إضافة إلى أن الطرق لا تستوعب هذه الأعداد الهائلة من الجنود، فضلاً عن أن هذا الجيش ستكون له مهمَّة اختراق سهول العراق، والتوجُّه إلى بغداد من جهة الجنوب، وحصارها من جهتها الجنوبية الشرقية.


ومع أن المسافة تبلغ 450 كيلو مترًا؛ فإن هولاكو كان من الحذر الكافي بحيث استطاع أن يُخفي هذا الجيش عن عيون العباسيين -إن كانت هناك عيون- فلم يكتشف العباسيون الجيش إلاَّ وهو على بُعد كيلو مترات معدودة من بغداد!
أما الجيش الثالث:

فكان هو الجيش التتري الرابض على أطراف الأناضول (في شمال تركيا الآن)؛ الذي كان مكلَّفًا بفتح أوربا قبل ذلك، وعلى رأس هذا الجيش الزعيم التتري الكبير «بيجو»، وكان على هذا الجيش أن يأتي من هذه المناطق الشمالية في اتجاه الجنوب حتى يصل بغداد من شمالها، ثم يلتف حولها ليُحاصرها من جهة الغرب، وبذلك تحصر بغداد بين هولاكو شرقًا وكتبغا من الجنوب الشرقي وبيجو من الغرب[1].


لكنَّ هناك مشكلتين كبيرتين أمام هذا الجيش الثالث:
أما المشكلة الأولى:
فإن عليه أن يضبط توقيته؛ حتى يأتي بغداد في الوقت نفسه الذي يأتي فيه جيش هولاكو، وإلا وجد نفسه وحيدًا أمام العباسيين إن جاء مبكِّرًا، أو ترك هولاكو وحيدًا إن كان متأخِّرًا؛ فإذا أخذنا في الاعتبار أن هذه التحرُّكات تدور في زمان ليست فيه وسائل انتقال معلومة سرعة التحرُّك بدقَّة.. وليست فيه وسائل الاتصال إلاَّ عن طريق الخيول، وليست هناك طرق ممهَّدة؛ لعلمنا صعوبة هذه النقطة، ومع ذلك فقد وصل بيجو في التوقيت المناسب إلى بغداد؛ دلالة على دقَّة حساباته، ومهارته في التحرُّك بهذا الجيش الكبير.


المشكلة الثانية:

من المفروض أنها أكبر بكثير من المشكلة الأولى؛ وهي أن هذا الجيش الثالث -لكي يصل إلى بغداد- عليه أن يخترق مسافة خمسمائة كيلو متر في الأراضي التركية، ثم خمسمائة كيلو متر أخرى في الأراضي العراقية، وهذه كلها أراضٍ إسلامية! أي أنه يجب أن يسير مسافة ألف كيلو متر في أعماق العالم الإسلامي حتى يصل إلى بغداد؛ وتَذَكَّر أننا نتحدَّث عن زمن ليس فيه طائرات؛ أي أنه ليس هناك غطاء جوي يكفل له الحركة في أمان، أو يضمن له تدمير ما يُقابله من معوقات، لقد كانت أقلّ المخاطر التي تواجه هذا الجيش أن يُكتشف أمره، فيفقد -على الأقل- عنصر المباغتة، ويستعدّ له الجيش العباسي قبل وصوله، أمَّا المخاطر الكبرى التي كانت في انتظاره فهي أن يجد مقاومة شرسة في طريقه؛ المليء بالتجمُّعات السكنية الهائلة.. وكلها تجمُّعات إسلامية، أو أن تُنصب له الكمائن، وتُوضع له الشراك.. وتَذَكَّر أنه يخوض في أرض يدخلها للمرَّة الأولى في حياته، لكن -سبحان الله!- كل هذا لم يحدث.. لقد قطع «بيجو» بجيشه 95٪ من الطريق (أي حوالي 950 كيلو مترًا) دون أن تدري الخلافة العباسية عنه شيئًا! لقد باغت «بيجو» الخلافة العباسية على بُعد خمسين كيلو مترًا فقط شمال غرب بغداد! لقد اكتشف العباسيون جيش «بيجو» تمامًا كما اكتشفوا جيش هولاكو، عندما كان كلا الجيشين على مسيرة يوم واحد من بغداد!


وإن كنا نقول: إن جيش هولاكو كان يتخفَّى بالجبال، ويسير في أراضٍ غالبها تحت سيطرة التتار، فكيف نُفَسِّر مباغتة بيجو لبغداد بهذه الصورة؟!
إن تسويغ اختراق «بيجو» للأراضي الإسلامية يحمل معه مصيبتين عظيمتين:

أمَّا المصيبة الأولى:

فهي غياب المخابرات الإسلامية عن الساحة تمامًا، وواضح أن الجيش العباسي كان لا علم له ولا دراية بإدارة الحروب أو فنونها.
والمصيبة الثانية والأعظم:

فهي أن هناك خيانة كبرى من أمراء الأناضول والموصل المسلمين؛ هذه الخيانة فتحت الأبواب لجيش التتار، ولم يحدث أيُّ نوع من المقاومة، وسار الجيش التتري في هدوء وكأنه في نزهة، وبالطبع لم يرتكب في طريقه مذابح لكي لا يلفت أنظار الخلافة في بغداد، ورضي الناس منه بتجنُّب شرِّه، وخافوا أن يدلُّوا عليه لكي لا ينتقم منهم بعد ذلك.
خيانة عظمى من كيكاوس الثاني وقلج أرسلان الرابع أمراء الأناضول.
وخيانة أعظم من بدر الدين لؤلؤ أمير الموصل.
فبدر الدين لؤلؤ لم يكتفِ بتسهيل مهمَّة التتار، والسماح لهم باستخدام أراضيه للانتقال والعبور، بل أرسل مع التتار فرقة مساعدة تُعينهم على عملية «تحرير العراق» من حُكم الخلافة العباسية!
ومن الجدير بالذكر أن بدر الدين لؤلؤ قام بهذه الخيانة وهو يبلغ من العمر ثمانين عامًا! وقيل: مائة! وجدير بالذكر -أيضًا- أنه مات بعد هذه الخيانة بشهور معدودات!
ونسأل الله حسن الخاتمة.
كانت هذه هي تحرُّكات الجيش التتري.
كيف كان الوضع في بغداد؟
كانت بغداد في ذلك الوقت من أشدِّ مدن الأرض حصانة؛ وكانت أسوارها من أقوى الأسوار؛ فهي عاصمة الخلافة الإسلامية لأكثر من خمسة قرون، وأُنفق على تحصينها مبالغ طائلة وجهود هائلة؛ لكن وا أسفاه على المدينة الحصينة!



لقد كانت الحصون تحتاج إلى رجال؛ ولكن ندر الرجال في ذلك الزمن!
مَنْ على رأس الدولة في الخلافة العباسية؟
إنه الخليفة السابع والثلاثون والأخير من خلفاء بني العباس في بغداد.
إنه «المستعصم بالله».
اسم كبير «المستعصم بالله»، ولقب كبير أيضًا: «خليفة المسلمين»!
ولكن أين مقوِّمات الخلافة في «المستعصم بالله»؟!
عندما تقرأ عن صفات هذا الخليفة الذاتية في كتب السير؛ مثل: تاريخ الخلفاء للسيوطي، أو البداية والنهاية لابن كثير.. أو غيرها من الكتب تجد أمرًا عجبًا.
تجد أنهم يصفون رجلاً فاضلاً في حياته الشخصية وفي معاملاته مع الناس، (رجل يتميَّز بالطيبة.. مثلما يقولون).
يقول ابن كثير مثلاً: «كان حسن الصورة، جيد السريرة، صحيح العقيدة، مقتديًا بأبيه «المستنصر» في المَعْدَلة[2]، وكثرة الصدقات، وإكرام العلماء والعباد... وكان سُنِّيًّا على طريقة السلف واعتقاد الجماعة»[3].
ولا أدري في الحقيقة ماذا يقصد بأنه كان على طريقة السلف؟!
ألم يكن في مذهب السلف جهاد؟!
ألم يكن في مذهب السلف إعداد للقتال؟!
ألم يكن في مذهب السلف دراسة لأحوال الأرض ولموازين القوى؟!
ألم يكن في مذهب السلف حميَّة ونخوة لدماء المسلمين التي سالت على مقربة من العراق في فارس وأَذْرَبِيجَان وغيرها؟!
ألم يكن في مذهب السلف وَحْدَة وألفة وترابط؟!
لقد كان الخليفة المستعصم صالحًا في ذاته؛ كان رجلاً طيبًا؛ لكنه افتقر إلى أمور لا يصحُّ أن يفتقر إليها حاكم مسلم:
افتقر إلى القدرة على إدارة الأمور والأزمات.
افتقر إلى كفاءة القيادة.
افتقر إلى علو الهمَّة، والأمل في سيادة الأرض، والنصر على الأعداء، ونشر دين الله.
افتقر إلى الشجاعة؛ التي تُمَكِّنه من أخذ قرار الحرب في الوقت المناسب.



افتقر إلى القدرة على تجميع الصفوف، وتوحيد القلوب، ونبذ الفُرقة، ورفع راية الوَحْدَة الإسلامية.
افتقر إلى حُسن اختيار أعوانه، فتجمَّعَتْ من حوله بطانة السوء؛ الوزراء يسرقون، والشرطة يظلمون، وقوَّاد الجيش متخاذلون!
افتقر إلى محاربة الفساد، فعمَّ الفساد وطغى؛ وكثرت الاختلاسات من أموال الدولة، وعمَّت الرشاوى، وطغت الوساطة، وانتشرت أماكن اللهو والفساد والإباحية والمجون؛ بل وأُعلن عنها صراحة! ودُعِيَ إليها على رءوس الأشهاد! الراقصات الخليعات ما كُنَّ يختفين في هذا البلد الإسلامي بل يُعْلِنَّ عن أنفسهن صراحة!
نعم كان الخليفة محسنًا في أداء شعائر الدين من صلاة وصيام وزكاة؛ نعم كان لسانه نظيفًا، وكان محبًّا للفقراء والعلماء، وكل ذلك جميل في مسئوليته أمام نفسه، لكن أين مسئوليته أمام مجتمعه وأُمَّته؟
لقد ضعف الخليفة تمامًا عن حمل مسئولية الشعب.
لقد كان باستطاعة الخليفة أن يُدَبِّر من داخل العراق مائة وعشرين ألف فارس فضلاً عن المشاة والمتطوعين، وكان الجيش التتري المحاصِر لبغداد مائتي ألف مقاتل، وكان هناك أمل كبير في ردِّ الغزاة، لكنَّ الخليفة كان مهزومًا من داخله! وكان فاقدًا للرُّوح التي تُمَكِّنه من المقاومة، كما أنه لم يُرَبِّ شعبه على الجهاد، ولم يُعَلِّمْهم فنون القتال.
وإلاَّ.. فأين معسكرات التدريب التي تُعِدُّ شباب الأُمَّة ليوم كيوم التتار؟!
أين الاهتمام بالسباحة والرماية وركوب الخيل؟!
أين التجهيز المعنوي للأُمَّة لتعيش حياة الجدِّ والنضال؟!
أنا لست متحاملاً على الخليفة!
لقد حكم هذا الخليفة بلاده ما يقرب من ستة عشر عامًا.
إنه لم يُفاجأ بالحكم.. ولم يأته الأمر على عجل..
لقد رُبِّي ليكون خليفة، وتولَّى الحكم وهو في سنِّ الحادية والثلاثين، وكان شابًّا ناضجًا واعيًا، وأُعطي الفرصة كاملة لإدارة البلاد؛ وظلَّ في كرسي حكمه ستة عشر عامًا كاملة، فإن كان كَفِيًّا كان عليه أن يُعِدَّ العُدَّة، ويُقَوِّي من شأن البلاد، ويرفع من هيبتها، ويُعلي من شأنها، ويُجَهِّز جيشها، ويُعِزَّ رأيها، وإن كان غير ذلك فكان عليه -إن كان صادقا- أن يتنحَّى عن الحكم.. ويترك الأمر لمن يستطيع؛ فهذه ليست مسئولية أسرة أو قبيلة؛ إنما هي مسئولية أُمَّة.. وأمة عظيمة كبيرة جليلة، أمة هي خير أمة أخرجت للناس.
لكن الخليفة لم يفعل أيًّا من الأمرين.. لا هو قام بالإعداد، ولا هو قام بالتنحي.. فكان لا بُدَّ أن يدفع الثمن، وكان لا بُدَّ لشعبه الذي رضي به أن يدفع الثمن معه.



وعلى قدر عظم الأمانة التي ضاعت، سيكون الثمن الذي يدفعه الخليفة ومعه الشعب.. وسترون كيف كان ثمنًا باهظًا!
والبلاد لم يكن ينقصها المال اللازم لشراء السلاح أو تصنيعه، بل كانت خزائن الدولة ملأى بالسلاح، لكنه إما سلاح قديم بالٍ أكل عليه الدهر وشرب، وإما سلاح جديد عظيم لم يُستخدم من قبل.. ولكن -للأسف الشديد- لم يتدرَّب عليه أحد.
والنتيجة: جيش الخلافة العباسية جيش هزيل ضعيف، لا يصلح أن يكون جيشًا لإمارة صغيرة، فضلاً عن خلافة عظيمة.
كان هذا شأن الخليفة في بغداد! فماذا عن حكومته؟ كيف كان حالها؟!
حكومة بغداد:
كانت البطانة كالحاكم، وكان الحاكم كالبطانة.. كانت الحكومة -كالجيش- هزيلة ضعيفة مريضة، مكونة من «أشباح» وزراء! ليس من همهم إلا جمع المال والثروات، وتوسيع نطاق السلطة، والتحكم في رقاب العباد، والتنافس الشريف وغير الشريف فيما بينهم، والتصارع المرير من أجل دار أو منصب أو حتى جارية.! وكان على رأس هذه الوزارة الساقطة رئيس وزراء خائن باع البلاد والعباد، ووالى أعداء الأمة، وعادى أبناءها! لقد كانت تلك الوزارة سيفًا مسلطًا على رقاب وأموال المسلمين.. ولم تكن علاقاتهم بالمسلمين الذين يحمونهم علاقة الإخوة بإخوانهم.. وإنما كانت علاقة السادة بعبيدهم.


الشعب في بغداد:
كيف كانت طبيعته؟ وكيف كانت طموحاته؟!

لا تتوقَّعوا أنه شعب قد ظُلم بخليفة ضعيف أو هزيل.. فالحُكَّام إفراز طبيعي جدًّا جدًّا للشعوب.
«كما تكونوا يُوَلَّ عليكم»[4].



الشعب في بغداد آنذاك كان شعبًا كبيرًا ضخمًا.. كان يبلغ ثلاثة ملايين نسمة على الأقل، وبذلك تُعَدُّ بغداد أكثر مدن العالم ازدحامًا في ذلك الوقت، هذا إلى جانب السكان في المدن والقرى المحيطة.. فلم تكن تنقصهم الطاقة البشرية، ولكنهم كانوا شعبًا مترفًا.. ألِف حياة الدعة والهدوء والراحة.. الملتزم فيهم بدينه اكتفى بتحصيل العلم النظري، وحضور الصلوات في المساجد، وقراءة القرآن، ونسي الفريضة التي جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ذروة سنام الإسلام وهي فريضة الجهاد، وغير الملتزم منهم بدينه -وهم كثير- عاشوا لشهواتهم وملذَّاتهم، وتنافسوا في ألوان الطعام والثياب، وفي أعداد الجواري والغلمان، وفي أنواع الديار والحدائق والبساتين والدواب؛ ومنهم مَنِ التهى بسماع الأغاني والألحان عن سماع القرآن والحديث، ومنهم من شرب الخمر، ومنهم من سرق المال، ومنهم من ظلم العباد.. وفوق ذلك فإنهم ظلوا قرابة الأربعين سنة يسمعون عن المذابح البشعة التي تتمُّ في إخوانهم المسلمين في أفغانستان وأوزبكستان والتركمنستان وفارس وأَذْرَبِيجَان والشيشان..
سمعوا عن كل هذه المذابح ولم يتحرَّكوا..
وسمعوا عن سبي النساء المسلمات ولم يتحرَّكوا..
وسمعوا عن خطف الأطفال المسلمين ولم يتحركوا..
وسمعوا عن اغتصاب بنات المسلمين ولم يتحركوا..
وسمعوا عن سرقة الأموال، وتدمير الديار، وحرق المساجد، ولم يتحركوا..
بل سمعوا أن خليفتهم «الناصر لدين الله» جد «المستعصم بالله» كان يساعد التتار ضد المسلمين الخُوارِزمية ولم يتحرَّكوا!
سمعوا بكل ذلك وأضعافه ولم يتحركوا.
فلا بد أن يكون الجزاء من جنس العمل!
«كَمَا تَدِينُ تُدَانُ»[5].



سيأتي يوم يذوق فيه هذا الشعب كل ما كان يُفعل في الشعوب المسلمة الأخرى، ولن يتحرَّك له أحد من المسلمين، بل سيساعدون التتار عليهم كما ساعدوهم على إخوانهم من قبل.. وهكذا تدور الدوائر.
ولا يقولن قائل: إن الشعب مغلوب على أمره. فالشعوب التي تقبل بكل هذا الانحراف عن نهج الشريعة شعوب لا تستحق الحياة، الشعوب التي لا تثور إلا من أجل لقمة عيشها شعوب ليس لها أن ترفع رأسها.
ثم أين العلماء؟ وأين الرجال؟ وأين الشباب؟ وأين المجاهدون؟
أين الآمرون بالمعروف؟ وأين الناهون عن المنكر؟
أين الحركات الإصلاحية في هذا المجتمع الفاسد؟
أين الفهم الصحيح لمقاصد الشريعة، ولأصول الدين؟
أليس في بغداد رجل رشيد؟!
لقد كان هذا هو الوضع في بغداد.
أمَّا خارج بغداد فالوضع كما تعلمون.. فهناك جيوش التتار تتحرَّق شوقًا لتعذيب المسلمين، والمسلمون في استكانة ينتظرون التعذيب!
[1] ابن العبري: تاريخ الزمان ص307.
[2] المعدلة؛ أي العَدْل: وهو الحُكْم بالحقِّ.
[3] ابن كثير: البداية والنهاية 13/238.
[4] الطرطوشي المالكي: سراج الملوك ص116.
[5] سنن البيهقي 1/197.



منقول بتصرف


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 15-04-2023, 11:52 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,827
الدولة : Egypt
افتراضي رد: معارك حربية مهمة فى التاريخ الاسلامى ...يوميا فى رمضان




سقوط بغداد (6)
(656هـ 1258م)
بغداد تحت الحصار
أ.د. راغب السرجاني
(25)

وضعت بغداد بين فكي كماشة هولاكو من الشرق، وبيجو من الغرب، واستحكم الحصار حول عاصمة الخلافة، وعن تلك الأثناء يكتب د. راغب السرجاني هذا المقال


بينما المسلمون على حالتهم من ضعفٍ وهوان إذ ظهر فجأة جيش هولاكو قبالة الأسوار الشرقية للمدينة العظيمة بغداد، وكان ذلك في يوم 12 من المحرم من سنة 656 هجرية.. وبدأ هولاكو في نصب معدات الحصار الثقيلة حول المدينة، وجاء كذلك «كتبغا» بالجناح الأيسر من الجيش ليحيط بالمدينة من الناحية الجنوبية الشرقية[1].
وارتاع خليفة المسلمين.. وعقد اجتماعًا عاجلاً طارئًا، جمع فيه كبار مستشاريه، وعلى رأسهم بالطبع الوزير الخائن مؤيد الدين العلقمي!
ماذا نفعل في هذه المصيبة؟ كيف النجاة؟ أين المهرب؟
{فَنَادَوْا وَلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ}[ص: 3].
وبطبيعة الحال فإن مؤيد الدين العلقمي وبطانته كانوا يُؤيدون مهادنة التتار وإقامة «مباحثات سلام» معهم، ولا مانع من بعض التنازلات، أو كثير من التنازلات، وكان مؤيد الدين يوسع الفجوة جدًّا بين إمكانيات التتار وإمكانيات المسلمين، كي لا يبقى هناك أمل في المقاومة.
كان هذا هو الرأي السائد في الاجتماع.. السلام غير المشروط!
لكن الخير لا ينعدم في هذه الأمة.
لقد قام رجلان من الوزراء وأشارا على الخليفة بحتمية الجهاد؛ والجهاد كلمة جديدة على هذا الجيل من أجيال الدولة العباسية؛ لكن لا مانع من طرح كل الأفكار وإن كانت «غريبة»! قام «مجاهد الدين أيبك» و«سليمان شاه» يحضَّان على المقاومة، نعم جاءت الإشارة متأخِّرة، بل متأخرة جدًّا؛ لأن زمن الإعداد انتهى منذ فترة، وحان وقت الاختبار، ولكن لعلهما كانا يُشيران منذ زمن بأمر الجهاد ولا يسمع لهما أحد.. وذلك مع العلم أن العلاقات كانت متوترة جدًّا بين مؤيد الدين العلقمي ومجاهد الدين أيبك، وذلك منذ زمن طويل.. ولا بُدَّ للعلاقات بين رجل خائن ورجل أمين أن تتوتَّر.. لكن -للأسف- لطالما استمع الخليفة لكلام الخائنين!
واحتار الخليفة!


هواه مع كلام مؤيد الدين العلقمي.. فقلبه لا يقوى على الحروب.
وعقله مع كلام مجاهد الدين أيبك؛ لأن تاريخ التتار لا يشير بأي فرصة للسلام، كما أنه كان يسمع أن الحقوق لا «توهب» وإنما «تؤخذ».
احتار الخليفة، ثم استقرَّ أخيرًا.. لقد استمع -والحمد لله- إلى كلام العقل؛ لقد قرَّر أن يجاهد.. لكنه متردد.. ضعيف.. لين.. هين! والجهاد لا ينفع مع هذه الصفات.
الجهاد ليس قرارًا عشوائيًّا.. لا يوجد مجاهد «مصَادفَة»!
الجهاد إعداد.. وتربية.. وتضحية.. ومشوار طويل في طريق الإيمان.
الجهاد ارتقاء إلى أعلى.. إلى أعلى.. إلى أعلى.. إلى أن تصل إلى ذروة سنام الإسلام؛ ولكن على كل حال «فلنجاهد» (على سبيل التجربة!) وسمح الخليفة -للمرة الأولى تقريبًا في حياته- باستخدام الجيش!
وخرجت فرقة هزيلة من الجيش العباسي يقودها «مجاهد الدين أيبك» لتلاقي جيش هولاكو المهول، وبمجرد خروج الجيش العباسي واستعداده لملاقاة هولاكو جاءت الأخبار إلى «مجاهد الدين أيبك» أن هناك جيشًا تتريًّا آخر يأتي من جهة الشمال، وهو جيش «بيجو» القادم من أوربا عبر أراضي تركيا وشمال العراق، وكان ذلك الجيش قد عبر الأراضي العراقية شرق نهر دجلة، حتى إذا وصل إلى الموصل عبر نهر دجلة إلى الناحية الغربية منه، وسار في الأراضي المحصورة بين نهري دجلة والفرات حتى اقترب من بغداد، وأصبح على بعد خمسين كيلو مترًا فقط منها، وعند هذه المنطقة في شمال بغداد وصلت الأخبار إلى «مجاهد الدين أيبك».
أدرك «مجاهد الدين أيبك» أن هذا الجيش لو وصل إلى بغداد فسوف يُطَوِّقها من الناحية الشمالية والغربية، وبذلك سيطبق الحصار تمامًا على العاصمة الإسلامية، ومن هنا فكر «مجاهد الدين أيبك» بسرعة أن يتجه بجيشه شمالاً بين نهري دجلة والفرات لمقابلة جيش «بيجو»، والتقى فعلاً بجيش التتار عند منطقة «الأنبار»، وهي المنطقة التي شهدت انتصارًا خالدًا قبل ذلك بأكثر من ستمائة سنة على يد البطل الخالد «خالد بن الوليد» رضي الله عنه، ولكن في هذه المرَّة -للأسف- لم يكن الانتصار حليف المسلمين؛ لقد بدا «بيجو» وكأنه أعرف بالمنطقة من أهلها، فبدأ يُظهر الانسحاب، ويستدرج خلفه جيش المسلمين، حتى أتى به إلى منطقة مستنقعات قريبة من نهر الفرات، ثم أرسل المهندسين التتر لقطع السدود المقامة على نهر الفرات في هذه المنطقة؛ وذلك ليقطع خط الهروب على الجيش العباسي، ثم حاصر «بيجو» الجيش العراقي، وبدأ في عملية إبادة واسعة النطاق، واستطاع «مجاهد الدين أيبك» بفرقة صغيرة جدًّا من الجيش العباسي أن ينسحب بحذاء النهر جنوبًا حتى عاد إلى بغداد، ولكن -للأسف- هلك معظم الجيش العباسي في منطقة الأنبار[2]!

مُنمنمة تُصِّورُ حصار المغوللِبغداد قبل اقتحامها.
تمت هذه الموقعة الأليمة غير المتكافئة في التاسع عشر من المحرم، أي بعد أسبوع من ظهور هولاكو أمام الأسوار الشرقية لبغداد، وتقدم «بيجو» مباشرة ولم يُضَيِّع وقتًا؛ حتى وصل إلى بغداد من ناحيتها الشمالية في اليوم التالي مباشرة، ثم التفَّ حول بغداد ليضرب عليها الحصار من جهتها الغربية، وبذلك وضعت بغداد بين فكي كماشة: «هولاكو» من الشرق، و«بيجو» من الغرب.. وازدادت حراجة الموقف جدًّا، واستحكم الحصار حول عاصمة الخلافة!
والخليفة -ابن الخلفاء والسلاطين- ما تخيَّل أنه يُحصر هذا الحصار أبدًا.. وشُلَّ عقله تمامًا عن التفكير!
وجاء مؤيد الدين العلقمي ليستغل الفرصة..
أيها الخليفة.. لا بُدَّ أن نجلس مع التتار على «طاولة المفاوضات».
ولكن الخليفة يُدرك أنه إذا جلس قويٌّ شديدُ القوَّة مع ضعيف شديد الضعف فإن هذا لا يعني «مفاوضات» أبدًا، وإنما يعني «استسلامًا».. وفي الاستسلام عادة يقبل المهزوم بشروط المنتصر دون تعديل أو اعتراض.
ومع ذلك وافق الخليفة المسكين -وهو مطأطئ الرأس- على الاستسلام.. أقصد على «المفاوضات!».
وقرَّر أن يرسل رجلين ليقوما عنه بالمفاوضات.. فمن أرسل؟!
لقد أرسل «مؤيد الدين العلقمي الشيعي»، الذي يكن في قلبه كل الحقد للخلافة العباسية[3]!
وأرسل معه «ماكيكا..» البطريرك النصراني في بغداد[4]!
وهكذا؛ فالوفد الرسمي الممثل للخلافة «الإسلامية» العباسية العريقة في المفاوضات مع التتار لا يضمُّ إلا رجلين فقط:
أحدهما شيعي والآخر نصراني!
ولا تعليق!
ودارت المفاوضات السرية جدًّا بين هولاكو وبين ممثلي الخلافة العباسية، وأُعطيت الوعود الفخمة من هولاكو لكليهما إن ساعداه على إسقاط بغداد، وأهم هذه الوعود أنهما سيكونان أعضاء في «مجلس الحكم» الجديد، والذي سيحكم العراق بعد احتلالها من التتار.. أقصد بعد «تحريرها» من الخليفة!

وبالطبع كان ردُّ فعل ممثلي الخلافة العباسية معروفًا.

مُنمنمة لِجيش المغول بِقيادة هولاكو خان وقد ضرب الحصار على بغداد
إن كليهما يتحرَّق شوقًا لإسقاط الخلافة العباسية الإسلامية ولو دون ثمن، فما بالك لو كانت هناك وعود فخمة بمناصب وسيطرة وأموال.. ومَنِ الذي يَعِدُ؟ إنه «هولاكو» سيد الموقف في كل المنطقة.
وعاد المبعوثان الساميان من عند هولاكو إلى الخليفة يحملان له طلبًا عجيبًا من الزعيم التتري.. لقد سمع هولاكو بأمر المسلمين المتشددين «المتطرفين» في داخل بغداد، والذين ينادون بشيء خطير.. ينادون «بالجهاد».. هذه الدعوة إلى الجهاد ستنسف كل مباحثات «السلام».. فعلى خليفة المسلمين أن يسلم إلى هولاكو رءوس الحركة الإسلامية في بغداد.. وعليه أن يسلم - على وجه التحديد - «مجاهد الدين أيبك» و«سليمان شاه» اللذين كانا يتزعمان فكرة الجهاد والمقاومة[5].
وهنا تتضارب الروايات.. ولا ندري إن كان سلَّمهما فعلاً أم لم يسلمهما؛ لكن وضح للجميع الغرض التتري، ووضحت رغبة أعداء الإسلام دائمًا في قمع أي دعوة للمقاومة باسم الدين.
الموقف يزداد صعوبة.. والأزمة تزداد شدَّة.
والرسل لا تنقطع بين هولاكو والخليفة.
والرسل طبعًا هم أهل الثقة عند الخليفة: «مؤيد الدين العلقمي الشيعي»، والبطريرك النصراني «ماكيكا»!
وجاءت نتائج المفاوضات «مرضية جدًّا» كما صوَّر ابن العلقمي للخليفة؛ فلقد جاء ابن العلقمي ببعض الوعود من هولاكو، واعتبر هذه الوعود نصرًا سياسيًّا كبيرًا، وفي الوقت نفسه كانت هناك بعض الشروط «البسيطة» التي على الخليفة أن يُنَفِّذَها.
أما الوعود فكانت:


1- إنهاء حالة الحرب بين الدولتين وإقامة علاقة سلام دائم.
2- يتم الزواج بين ابنة هولاكو الزعيم التتري الذي سفك دماء مئات الآلاف من المسلمين بابن الخليفة المسلم «المستعصم بالله».
3- يبقى «المستعصم بالله» على كرسي الحكم.
4- يعطي الأمان لأهل بغداد جميعًا.
هذه هي الوعود، على أن تكون هذه الوعود في مقابل الشروط الآتية:
1- تدمير الحصون العراقية.
2- ردم الخنادق.
3- تسليم الأسلحة.
4- الموافقة على أن يكون حكم بغداد تحت رعاية أو مراقبة تترية[6].
وختم هولاكو مباحثاته مع المبعوثين الساميين بأنه ما جاء إلى هذه البلاد إلا لإرساء قواعد العدل والحرية والأمان.. وبمجرد أن تستقر هذه الأمور -وفق الرؤية التترية- فإنه سيعود إلى بلاده، ويترك العراقيين يضعون دستورهم، ويُديرون شئون بلادهم بأنفسهم!
وتجدَّدت الآمال في نفس الخليفة!
هل يصدق هولاكو في وعوده؟!
إن هناك شكًّا كبيرًا في قلبه.
ثم إن الشروط قاسية جدًّا، فهو سيتخلَّص تقريبًا من كل إمكانية للمقاومة؛ ولكنه -على الجانب الآخر- قد يظل حاكمًا للبلاد؛ نعم تحت رعاية تترية.. أو تحت قهر تتري.. لكنه -في النهاية- سيظل جالسًا على كرسي الحكم، هذا طبعًا إن صدق هولاكو السفاح!
ولكن هذا احتلال! أيقبل به؟
ولماذا لا يقبل به؟! إن مقربيه يقولون له: إن هذا في السياسة يسمونه: «واقعية»! وهو لو رفض التسليم، وفتحت أبواب بغداد بالقوَّة فإنه حتمًا سيموت؛ أما إذا سلم نفسه إلى هولاكو السفاح فهناك احتمال -ولو بسيط- للنجاة بالروح!
نعم سيعيش ذليلاً.. ولكنه في النهاية قد يعيش.
نعم سيعيش وضيعًا.. لكنه في النهاية قد يعيش.
نعم سيبيع كل شيء بثمن بخس.. لكنه في النهاية قد يعيش.
الخليفة ما زال متردِّدًا.


والشعب الضخم من ورائه يعيش التردُّد نفسه.
نداء الجهاد لا ينبعث إلا من بعض الأفواه القليلة جدًّا؛ أما عامَّة الناس فقد انخلعت قلوبهم لحصار التتار.
لقد عظمت الدنيا جدًّا في عيونهم فاستحال في تقديرهم أن يضحُّوا بها.
لقد كثر الخبث -فعلاً- في بغداد.. وإذا كثر الخبث فالهلكة قريبة جدًّا!
واحتاج الخليفة لبعض الوقت للتفكير.. فالقرار صعب جدًّا.. ويحتاج إلى الاستشارة وقد يستخير! لكن -على الناحية الأخرى- فإن هولاكو ليس عنده وقت يضيعه.. لأن الجيوش التترية الرابضة حول بغداد تتكلف كل يوم آلاف الدنانير، والحصار في شهر المحرم سنة 656 هجرية، وهذا يوافق شهر يناير من سنة 1258 ميلادية، والجو شديد البرودة، هذا فوق أنه يتشوق لرؤية بغداد الجميلة من الداخل!
فهل سينتظر رد الخليفة، هذا ما سنتعرف عليه في المقالة القادمة.

[1] قطب اليونيني: ذيل مرآة الزمان 1/88.
[2] ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة 7/49.
[3] المرجع السابق.
[4] بسام العسلي: المظفر قطز ومعركة عين جالوت ص105.
[5] ابن كثير: البداية والنهاية 13/ 234..
[6] قطب الونيني: ذيل مرآة الزمان 1/88.
منقول بتصرف





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 18-04-2023, 12:39 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,827
الدولة : Egypt
افتراضي رد: معارك حربية مهمة فى التاريخ الاسلامى ...يوميا فى رمضان




سقوط بغداد (8)
(656هـ 1258م)

تدمير الحضارة سنة الغزاة

أ.د. راغب السرجاني
(27)




بينما كان فريق من التتار يعمل على قتل مسلمي بغداد وسفك دمائهم اتجه فريق آخر من التتار لعمل إجرامي آخر.. عمل ليس له مسوغ إلا أن التتار قد أكل الحقد قلوبهم على كل ما هو حضاري في بلاد المسلمين.. لقد شعر التتار بالفجوة الحضارية الهائلة بينهم وبين المسلمين؛ فالمسلمون لهم تاريخ طويل في العلوم والدراسة والأخلاق.. عشرات الآلاف من العلماء الأجلاء في كافة فروع العلم.. الديني منها والدنيوي.
لقد أثرى هؤلاء العلماء الحضارة الإسلامية بملايين المصنفات.. بينما التتار لا حضارة لهم.. ولا أصل لهم.. إنهم أمة لقيطة.. نشأت في صحراء شمال الصين، واعتمدت على شريعة الغاب في نشأتها.. لقد قاتلت هذه الأمة كما تقاتل الحيوانات.. بل عاشت كما تعيش الحيوانات.. ولم ترغب مطلقًا في إعمار الأرض أو إصلاح الدنيا.. لقد عاشوا حياتهم فقط للتخريب والتدمير والإبادة.. شتان بين هذه الأمة وبين أمة الإسلام، بل شتان بين أي أمة من أمم الأرض وأمة الإسلام.. وهذا الانهيار الذي رأيناه في تاريخ بغداد من المستحيل أن يمحو التاريخ العظيم لهذه الأمة العظيمة.

ماذا فعل مجرمو التتار؟!
لقد اتجه فريق من أشقياء التتار لعمل إجرامي بشع، وهو تدمير
مكتبة بغداد العظيمة[1].. وهي أعظم مكتبة على وجه الأرض في ذلك الزمن.. وهي الدار التي كانت تحوي عصارة فكر المسلمين في أكثر من ستمائة عام.. جمعت فيها كل العلوم والآداب والفنون.. علوم شرعية كتفسير القرآن والحديث والفقه والعقيدة والأخلاق.. علوم حياتية كالطب والفلك والهندسة والكيمياء والفيزياء والجغرافيا وعلوم الأرض.. علوم إنسانية كالسياسة والاقتصاد والاجتماع والأدب والتاريخ والفلسفة وغير ذلك.. هذا كله بالإضافة إلى ملايين الأبيات من الشعر، وعشرات الآلاف من القصص والنثر.. فإن أضفت إلى كل ما سبق الترجمات المختلفة لكل العلوم، الأجنبية سواء اليونانية أو الفارسية أو الهندية أو غير ذلك علمت أنك تتحدث عن معجزة حقيقية من معجزات ذلك الزمان.


لقد كانت مكتبة بغداد مكتبة عظيمة بكل المقاييس.. ولم يقترب منها في العظمة إلا مكتبة قرطبة الإسلامية في الأندلس.. وسبحان الله! لقد مرت مكتبة قرطبة بالتجربة نفسها التي مرت بها مكتبة بغداد!
عندما سقطت قرطبة في يد نصارى الأندلس سنة 636 هجرية (قبل سقوط بغداد بعشرين سنة فقط!) قاموا بحرق مكتبة قرطبة تمامًا.. وقام بذلك أحد قساوسة النصارى.. وكان اسمه «كمبيس»، وحرق بنفسه كل ما وقعت عليه يده من كتب بذلت فيها آلاف الأعمار وآلاف الأوقات، وأنفق في سبيل كتابتها الكثير من المال والعرق والجهد.
لكن هذه سنتهم!
حروبهم هي حروب على الحضارة.. وحروب على المدنية.. وحروب على الإسلام.. بل هي حروب على الإنسانية كلها.
ولكن قبل أن نتحدث عن ماذا فعل التتار بمكتبة بغداد تعالوا نتحدث - ولو قليلًا - عن مكتبة بغداد.

مكتبة بغداد:
هي أعظم دور العلم في الأرض -بلا أدنى مبالغة- قرابة خمسة قرون متتالية.


أسسها الخليفة العباسي المسلم هارون الرشيد، والذي حكم الدولة الإسلامية من سنة 170 هجرية إلى سنة 193 هجرية، ثم ازدهرت المكتبة جدًّا في عهد المأمون خليفة المسلمين من سنة 198 هجرية إلى سنة 218 هجرية.. وما زال الخلفاء العباسيون بعدهم يضيفون إلى المكتبة الكتب والنفائس حتى صارت دارًا للعلم لا يُتخيل كمّ العلم بداخلها[2]!
نحن نتحدث عن دار للعلم حوت ملايين المجلدات في هذا الزمن السحيق!
ملايين الكتب في مكتبة واحدة في زمان ليس فيه طباعة!


وكان هذا هو الأمر المتكرر والطبيعي في معظم حواضر الإسلام.. ولا ندري بالتحديد كم عدد الكتب في هذه المكتبة الهائلة.. وإن كانت تقدر حقًّا بالملايين.. ويكفي أن مكتبة طَرَابُلُس بلبنان -والتي لم تكن تقارن قط بمكتبة بغداد- قد أحرق الصليبيون الأوروبيون فيها «ثلاثة ملايين» مجلد عندما وقعت في أيديهم! فتخيل كم كان عدد المجلدات في مكتبة بغداد!
كانت مكتبة بغداد تشتمل على عدد ضخم من الحجرات، وقد خصصت كل مجموعة من الحجرات لكل مادة من مواد العلم، فهناك حجرات معينة لكتب الفقه، وحجرات أخرى لكتب الطب، وهناك حجرات ثالثة لكتب الكيمياء ورابعة للبحوث السياسية وهكذا.
وكان في المكتبة المئات من الموظفين الذين يقومون على رعايتها، ويواظبون على استمرار تجديدها.. وكان هناك «النساخون» الذين ينسخون من كل كتاب أكثر من نسخة، وكان هناك «المناولون» الذين يناولون الناس الكتب من أماكنها المرتفعة، وكان هناك «المترجمون» الذين يترجمون الكتب الأجنبية، وكان هناك «الباحثون» الذين يبحثون لك عن نقطة معينة من نقاط العلم في هذه المكتبة الهائلة!
وكانت هناك غرف خاصة للمطالعة، وغرف خاصة للمدارسة وحلقات النقاش والندوات العلمية، وغرف خاصة للترفيه والأكل والشرب، بل وكانت هناك غرف لإقامة طلاب العلم الذين جاءوا من مسافات بعيدة!
نحن إذن نتحدث عن جامعة هائلة.. وليست مجرد مكتبة من المكتبات.
لقد حوت هذه المكتبة عصارة الفكر الإنساني في الدنيا بأسرها.


لقد كان المأمون يشترط على ملك الروم في معاهداته معه بعد انتصارات المأمون المشهورة عليه أن يسمح للمترجمين المسلمين بترجمة الكتب التي في مكتبة القسطنطينية.. وكان لخلفاء بني العباس موظفون يجوبون الأرض بحثًا عن الكتب العلمية بأي لغة لتترجم وتوضع في مكتبة بغداد بعد أن يتولاها علماء المسلمين المتخصصون بالنقد والتحليل.
لقد ترجمت في مكتبة بغداد الكتب المكتوبة باللغات اليونانية والسريانية والهندية والسنسكريتية والفارسية واللاتينية وغيرها.
هذه هي مكتبة بغداد!
المكتبة التي جمعت كل علوم الأرض في زمانها.
ماذا فعل التتار مع مكتبة بغداد الهائلة؟
لقد حمل التتار الكتب الثمينة.. ملايين الكتب الثمينة... وفي أَرْيَحيَّة شديدة -لا تخلو من حماقة وغباء- ألقوا بها جميعًا في نهر دجلة!
لقد كان الظن أن يحمل التتار هذه الكتب القيمة إلى «قراقورم» عاصمة المغول ليستفيدوا- وهم لا يزالون في مرحلة الطفولة الحضارية- من هذا العلم النفيس.. لكن التتار أمة همجية.. لا تقرأ ولا تريد أن تتعلم.. يعيشون للشهوات والملذات فقط.
لقد كان هدفهم في الدنيا هو تخريب الدنيا!
ألقى التتار بمجهود القرون الماضية في نهر دجلة.. حتى تحول لون مياه نهر دجلة إلى اللون الأسود من أثر مداد الكتب.. وحتى قيل أن الفارس التتري كان يعبر فوق المجلدات الضخمة من ضفة إلى ضفة أخرى!
هذه جريمة ليست في حق المسلمين فقط.. بل في حق الإنسانية كلها!
وهي جريمة متكررة في التاريخ.
لقد فعلها الصليبيون النصارى في الأندلس -كما ذكرنا- في مكتبة قرطبة الهائلة.
وفعلها الصليبيون النصارى في الأندلس مرة أخرى في مكتبة غرناطة عند سقوطها، فأحرقوا مليون كتاب في أحد الميادين العامة!
وفعلها الصليبيون النصارى في الأندلس مرة ثالثة ورابعة وخامسة وعاشرة في مكتبات طليطلة وأشبيلية وبلنسية وسرقسطة وغيرها.
وفعلها الصليبيون النصارى في الشام في مكتبة طَرَابُلُس اللبنانية فأحرقوا ثلاثة ملايين كتاب.
وفعلها الصليبيون النصارى في فلسطين في مكتبات غزة والقدس وعسقلان.


ثم فعلها بعد ذلك المحتلون الأوروبيون الجدد الذين نزلوا إلى بلاد العالم الإسلامي في القرن التاسع عشر، ولكن هؤلاء كانوا أكثر ذكاء؛ فإنهم سرقوا الكتب ولم يحرقوها، ولكن أخذوها إلى أوربا، وما زالت المكتبات الكبرى في أوربا تحوي مجموعة من أعظم كتب العلم في الأرض.. ألّفها المسلمون على مدار عدة قرون متتالية.. ولا يشك أحد في أن أعداد الكتب الأصلية الإسلامية في مكتبات أوربا تفوق كثيرًا أعداد هذه المراجع المهمَّة في بلاد المسلمين أنفسهم!
لقد كان من هم الغزاة على طول العصور أن يحرموا هذه الأمة من اتصالها بأي نوع من أنواع العلوم.. إما بحرق الكتب أو بإغراقها في الأنهار أو بسرقتها.. أو بتغيير مناهج التعليم -حاليًّا- حتى تفرغ من كل ما هو قيّم وثمين.. كل ذلك لأن الغزاة يعرفون جيدًا قيمة العلم في دين الإسلام.. ويعرفون كذلك قوَّة المسلمين إذا ارتبطوا بالعلم.
ونعود إلى التتار.. وإلى بغداد.
فبعد أن فرغ التتار من تدمير مكتبة بغداد انتقلوا إلى الديار الجميلة، وإلى المباني الأنيقة فتناولوا جلها بالتدمير والحرق.. وسرقوا المحتويات الثمينة فيها، أما ما عجزوا عن حمله من المسروقات فقد أحرقوه! وظلوا كذلك حتى تحولت معظم ديار المدينة إلى ركام، وإلى خراب تتصاعد منه ألسنة النار والدخان.
واستمر هذا الوضع الأليم أربعين يومًا كاملة.. وامتلأت شوارع بغداد بتلال الجثث المتعفنة، واكتست الشوارع باللون الأحمر، وعم السكون البلدة، فلا يسمع أحد إلا أصوات ضحكات التتار الماجنة.. أو أصوات بكاء النساء والأطفال بعد أن فقدوا كل شيء.
وإلى الله المشتكى.
[1] عبد الملك بن حسين المكي: سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي 3/519.
[2] مصطفى السباعي: من روائع حضارتنا ص123 بتصرف.
منقول بتصرف




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 175.87 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 172.28 كيلو بايت... تم توفير 3.59 كيلو بايت...بمعدل (2.04%)]