تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ - الصفحة 4 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4596 - عددالزوار : 1305611 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4142 - عددالزوار : 831834 )           »          سفينة الحياة.. والصبر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 261 )           »          تحت العشرين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 81 - عددالزوار : 23105 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 13219 - عددالزوار : 350878 )           »          {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ}ا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 257 - عددالزوار : 47626 )           »          قيمة إسلامية حثَّ عليها القرآن الكريم والسُنَّة النبوية – الجودة الشاملة في مؤسساتنا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 172 )           »          التداوي من السحر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 185 )           »          حكم المرابحة للآمر بالشراء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 180 )           »          الوجيز في أحكام التداولات المالية المعاصرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 2 - عددالزوار : 429 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #31  
قديم 21-08-2021, 11:12 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,403
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (27)

سورة آل عمران (5)

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة النساء


تنبيه

قال القرطبي في تفسير هذه الآية ما نصه : واتفق كل من يعاني العلوم على أن قوله تعالى : وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى ، ليس له مفهوم إذ قد أجمع المسلمون على أن من لم يخف القسط في اليتامى له أن ينكح أكثر من واحدة ، اثنتين ، أو ثلاثا ، أو أربعا ، كمن خاف فدل على أن الآية نزلت جوابا لمن خاف ذلك وأن حكمها أعم من ذلك . ا هـ منه بلفظه .

قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر في الآية على ما فسرتها به عائشة ، وارتضاه القرطبي ، وغير واحد من المحققين ودل عليه القرآن : أن لها مفهوما معتبرا ; لأن معناها : وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتيمات فانكحوا ما طاب لكم من سواهن ، ومفهومه أنهم إن لم يخافوا عدم القسط لم يؤمروا بمجاوزتهن إلى غيرهن ، بل يجوز لهم حينئذ الاقتصار عليهن وهو واضح كما ترى ، إلا أنه تعالى لما أمر بمجاوزتهن إلى غيرهن عند خوفهم أن لا يقسطوا فيهن ، أشار إلى القدر الجائز من تعدد الزوجات ، ولا إشكال في [ ص: 223 ] ذلك ، والله أعلم .

وقال بعض العلماء : معنى الآية وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى ، أي : إن خشيتم ذلك فتحرجتم من ظلم اليتامى ، فاخشوا أيضا وتحرجوا من ظلم النساء بعدم العدل بينهن ، وعدم القيام بحقوقهن ، فقللوا عدد المنكوحات ولا تزيدوا على أربع ، وإن خفتم عدم إمكان ذلك مع التعدد فاقتصروا على الواحدة ; لأن المرأة شبيهة باليتيم ، لضعف كل واحد منهما وعدم قدرته على المدافعة عن حقه فكما خشيتم من ظلمه فاخشوا من ظلمها .

وقال بعض العلماء : كانوا يتحرجون من ولاية اليتيم ولا يتحرجون من الزنى ، فقيل لهم في الآية : إن خفتم الذنب في مال اليتيم فخافوا ذنب الزنى ، فانكحوا ما طاب لكم من النساء ولا تقربوا الزنا . وهذا أبعد الأقوال فيما يظهر والله تعالى أعلم .

ويؤخذ من هذه الآية الكريمة أيضا : أن من كان في حجره يتيمة لا يجوز له نكاحها إلا بتوفيته حقوقها كاملة ، وأنه يجوز نكاح أربع ويحرم الزيادة عليها ، كما دل على ذلك أيضا إجماع المسلمين قبل ظهور المخالف الضال ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - لغيلان بن سلمة : " اختر منهن أربعا وفارق سائرهن " . وكذا قال للحارث بن قيس الأسدي وأنه مع خشية عدم العدل لا يجوز نكاح غير واحدة ، والخوف في الآية ، قال بعض العلماء : معناه الخشية ، وقال بعض العلماء : معناه العلم ، أي : وإن علمتم ألا تقسطوا الآية ، ومن إطلاق الخوف بمعنى العلم قول أبي محجن الثقفي : [ الطويل ]
إذا مت فادفني إلى جنب كرمة تروي عظامي في الممات عروقها ولا تدفنني بالفلاة فإنني
أخاف إذا ما مت ألا أذوقها


فقوله أخاف : يعني أعلم .

تنبيه

عبر تعالى عن النساء في هذه الآية بما التي هي لغير العاقل في قوله : فانكحوا ما طاب لكم [ 4 \ 3 ] ، ولم يقل من طاب ; لأنها هنا أريد بها الصفات لا الذوات . أي : ما طاب لكم من بكر أو ثيب ، أو ما طاب لكم لكونه حلالا ، وإذا كان المراد الوصف عبر عن العاقل بما كقولك ما زيد في الاستفهام تعني أفاضل ؟ .

[ ص: 224 ] وقال بعض العلماء : عبر عنهن بـ ( ما ) إشارة إلى نقصانهن وشبههن بما لا يعقل حيث يؤخذ بالعوض ، والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا ، لم يبين هنا قدر هذا النصيب الذي هو للرجال والنساء مما ترك الوالدان والأقربون ، ولكنه بينه في آيات المواريث كقوله : يوصيكم الله في أولادكم الآيتين [ 4 \ 11 ] ، وقوله في خاتمة هذه السورة الكريمة : يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة الآية [ 4 \ 176 ] .
قوله تعالى : يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ، لم يبين هنا حكمة تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث مع أنهما سواء في القرابة ، ولكنه أشار إلى ذلك في موضع آخر وهو قوله تعالى : الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم [ 4 ] ; لأن القائم على غيره المنفق ماله عليه مترقب للنقص دائما ، والمقوم عليه المنفق عليه المال مترقب للزيادة دائما ، والحكمة في إيثار مترقب النقص على مترقب الزيادة جبر لنقصة المترقبة ظاهرة جدا .

قوله تعالى : فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف الآية ، صرح تعالى في هذه الآية الكريمة بأن البنات إن كن ثلاثا فصاعدا ، فلهن الثلثان وقوله : فوق اثنتين يوهم أن الاثنتين ليستا كذلك ، وصرح بأن الواحدة لها النصف ، ويفهم منه أن الاثنتين ليستا كذلك أيضا ، وعليه ففي دلالة الآية على قدر ميراث البنتين إجمال .

وقد أشار تعالى في موضعين إلى أن هذا الظرف لا مفهوم مخالفة له ، وأن للبنتين الثلثين أيضا :

الأول قوله تعالى : للذكر مثل حظ الأنثيين ، إذ الذكر يرث مع الواحدة الثلثين بلا نزاع ، فلا بد أن يكون للبنتين الثلثان في صورة ، وإلا لم يكن للذكر مثل حظ الأنثيين ; لأن الثلثين ليسا بحظ لهما أصلا ، لكن تلك الصورة ليست صورة الاجتماع ، إذ ما من صورة يجتمع فيها الابنتان مع الذكر ويكون لهما الثلثان ، فتعين أن تكون صورة انفرادهما عن الذكر . واعتراض بعضهم هذا الاستدلال بلزوم الدور قائلا : إن معرفة أن للذكر الثلثين في الصورة المذكورة تتوقف على معرفة حظ الأنثيين ; لأنه ما علم من [ ص: 225 ] الآية إلا أن للذكر مثل حظ الأنثتين ، فلو كانت معرفة حظ الأنثيين مستخرجة من حظ الذكر لزم الدور ساقط ; لأن المستخرج هو الحظ المعين للأنثيين وهو الثلثان ، والذي يتوقف عليه معرفة حظ الذكر هو معرفة حظ الأنثيين مطلقا ، فلا دور لانفكاك الجهة ، واعترضه بعضهم أيضا بأن للابن مع البنتين النصف ، فيدل على أن فرضهما النصف ، ويؤيد الأول أن البنتين لما استحقتا مع الذكر النصف علم أنهما إن انفردتا عنه ، استحقتا أكثر من ذلك ; لأن الواحدة إذا انفردت أخذت النصف بعدما كانت معه تأخذ الثلث ، ويزيده إيضاحا أن البنت تأخذ مع الابن الذكر الثلث بلا نزاع ، فلأن تأخذه مع الابنة الأنثى أولى .

فبهذا يظهر أنه جل وعلا أشار إلى ميراث البنتين بقوله : للذكر مثل حظ الأنثيين ، كما بينا ، ثم ذكر حكم الجماعة من البنات ، وحكم الواحدة منهن بقوله : فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ، ومما يزيده إيضاحا ، أنه تعالى فرعه عليه بالفاء في قوله : فإن كن ، إذ لو لم يكن فيما قبله ما يدل على سهم الإناث لم تقع الفاء موقعها كما هو ظاهر .

الموضع الثاني : هو قوله تعالى في الأختين : فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك [ 4 \ 176 ] ; لأن البنت أمس رحما ، وأقوى سببا في الميراث من الأخت بلا نزاع .

فإذا صرح تعالى : بأن للأختين الثلثين ، علم أن البنتين كذلك من باب أولى ، وأكثر العلماء على أن فحوى الخطاب ، أعني : مفهوم الموافقة الذي المسكوت فيه أولى بالحكم من المنطوق ، من قبيل دلالة اللفظ لا من قبيل القياس ، خلافا للشافعي وقوم ، كما علم في الأصول فالله تبارك وتعالى لما بين أن للأختين الثلثين أفهم بذلك أن البنتين كذلك من باب أولى .

وكذلك لما صرح أن لما زاد على الاثنتين من البنات الثلثين فقط ، ولم يذكر حكم ما زاد على الاثنتين من الأخوات ، أفهم أيضا من باب أولى أنه ليس لما زاد من الأخوات غير الثلثين ; لأنه لما لم يعط للبنات علم أنه لا تستحقه الأخوات ، فالمسكوت عنه في الأمرين أولى بالحكم من المنطوق به ، وهو دليل على أنه قصد أخذه منه ، ويزيد ما ذكرنا إيضاحا ما أخرجه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه عن جابر - رضي الله [ ص: 226 ] عنه - قال : جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت : يا رسول الله ، هاتان ابنتا سعد قتل أبوهما يوم أحد ، وإن عمهما أخذ مالهما ، ولم يدع لهما مالا ، ولا ينكحان إلا ولهما مال فقال صلى الله عليه وسلم : " يقضي الله تعالى في ذلك " فنزلت آية الميراث فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عمهما ، فقال : " أعط ابنتي سعد الثلثين ، وأعط أمهما الثمن ، وما بقي فهو لك " .

وما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - من أنه قال : للبنتين النصف ; لأن الله تعالى قال : فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك ، فصرح بأن الثلثين إنما هما لما فوق الاثنتين فيه أمور :

الأول : أنه مردود بمثله ; لأن الله قال أيضا : وإن كانت واحدة فلها النصف ، فصرح بأن النصف للواحدة جاعلا كونها واحدة شرطا معلقا عليه فرض النصف .

وقد تقرر في الأصول أن المفاهيم إذا تعارضت قدم الأقوى منها ، ومعلوم أن مفهوم الشرط أقوى من مفهوم الظرف ; لأن مفهوم الشرط لم يقدم عليه من المفاهيم ، إلا ما قال فيه بعض العلماء : إنه منطوق لا مفهوم وهو النفي والإثبات ، وإنما من صيغ الحصر والغاية ، وغير هذا يقدم عليه مفهوم الشرط ، قال في " مراقي السعود " مبينا مراتب مفهوم المخالفة : [ الرجز ]
أعلاه لا يرشد إلا العلما فما لمنطوق بضعف انتمى فالشرط فالوصف الذي يناسب
فمطلق الوصف الذي يقارب فعدد ثمت تقديم يلي
وهو حجة على النهج الجلي


وقال صاحب " جمع الجوامع " ما نصه : مسألة الغاية قيل : منطوق والحق مفهوم يتلوه الشرط ، فالصفة المناسبة ، فمطلق الصفة غير العدد ، فالعدد ، فتقديم المعمول إلخ .

وبهذا تعلم أن مفهوم الشرط في قوله : وإن كانت واحدة فلها النصف أقوى من مفهوم الظرف في قوله : فإن كن نساء فوق اثنتين .

الثاني : دلالة الآيات المتقدمة على أن للبنتين الثلثين .

الثالث : تصريح النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك في حديث جابر المذكور آنفا .

[ ص: 227 ] الرابع : أنه روي عن ابن عباس الرجوع عن ذلك .

قال الألوسي في " تفسيره " ما نصه : وفي " شرح الينبوع " نقلا عن الشريف شمس الدين الأرموني أنه قال في " شرح فرائض الوسيط " : صح رجوع ابن عباس - رضي الله عنهما - عن ذلك فصار إجماعا . ا هـ منه بلفظه .
تنبيهان

الأول : ما ذكره بعض العلماء وجزم به الألوسي في " تفسيره " من أن المفهوم في قوله : وإن كانت واحدة فلها النصف مفهوم عدد غلط . والتحقيق هو ما ذكرنا من أنه مفهوم شرط ، وهو أقوى من مفهوم العدد بدرجات كما رأيت فيما تقدم .

قال في " نشر البنود على مراقي السعود " في شرح قوله :


وهو ظرف علة وعدد ومنه شرط غاية تعتمد


ما نصه : والمراد بمفهوم الشرط ما فهم من تعليق حكم على شيء بأداة شرط كإن وإذا ، وقال في شرح هذا البيت أيضا قبل هذا ما نصه : ومنها الشرط نحو : وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن [ 65 \ 6 ] ، مفهوم انتفاء المشروط عند انتفاء الشرط ، أي : فغير أولات حمل لا يجب الإنفاق عليهن ونحو : من تطهر صحت صلاته . اهـ منه بلفظه .

فكذلك قوله : وإن كانت واحدة فلها النصف ، علق فيه فرض النصف على شرط هو كون البنت واحدة ، ومفهومه أنه إن انتفى الشرط الذي هو كونها واحدة انتفى المشروط الذي هو فرض النصف كما هو ظاهر ، فإن قيل : كذلك المفهوم في قوله : فإن كن نساء فوق اثنتين ; لتعليقه بالشرط فالجواب من وجهين :

الأول : أن حقيقة الشرط كونهن نساء ، وقوله فوق اثنتين وصف زائد ، وكونها واحدة هو نفس الشرط لا وصف زائد ، وقد عرفت تقديم مفهوم الشرط على مفهوم الصفة ظرفا كانت أو غيره .

الثاني : أنا لو سلمنا جدليا أنه مفهوم شرط لتساقط المفهومان لاستوائهما ويطلب الدليل من خارج ، وقد ذكرنا الأدلة على كون البنتين ترثان الثلثين كما تقدم .

الثاني : إن قيل : فما الفائدة في لفظة فوق اثنتين إذا كانت الاثنتان كذلك ؟ [ ص: 228 ] فالجواب من وجهين :

الأول : هو ما ذكرنا من أن حكم الاثنتين أخذ من قوله قبله : للذكر مثل حظ الأنثيين ، كما تقدم وإذن قوله : فوق اثنتين تنصيص على حكم الثلاث فصاعدا كما تقدم .

الثاني : أن لفظة فوق ذكرت ; لإفادة أن البنات لا يزدن على الثلثين ولو بلغ عددهن ما بلغ .

وأما ادعاء أن لفظة فوق زائدة وادعاء أن فوق اثنتين معناه اثنتان فما فوقهما فكله ظاهر السقوط كما ترى ، والقرآن ينزه عن مثله وإن قال به جماعة من أهل العلم .


قوله تعالى وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث المراد في هذه الآية بالإخوة الذين يأخذ المنفرد منهم السدس وعند التعدد يشتركون في الثلث ذكرهم وأنثاهم ، سواء أخوة الأم بدليل بيانه تعالى أن الإخوة من الأب أشقاء أو لا ، يرث الواحد منهم كل المال ، وعند اجتماعهم يرثون المال كله للذكر مثل حظ الأنثيين .

وقال في المنفرد منهم وهو يرثها إن لم يكن لها ولد ، وقال في جماعتهم : وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين . وقد أجمع العلماء على أن هؤلاء الإخوة من الأب ، كانوا أشقاء أو لأب . كما أجمعوا أن قوله : وإن كان رجل يورث كلالة الآية ، أنها في إخوة الأم ، وقرأ سعد بن أبي وقاص وله أخ أو أخت من أم . والتحقيق أن المراد بالكلالة عدم الأصول والفروع ، كما قال الناظم : [ الرجز ]
ويسألونك عن الكلالة هي انقطاع النسل لا محالة لا والد يبقى ولا مولود
فانقطع الأبناء والجدود

وهذا قول أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وأكثر الصحابة وهو الحق إن شاء الله تعالى . واعلم أن الكلالة تطلق على القرابة من غير جهة الولد والوالد ، وعلى الميت الذي لم يخلف والدا ولا ولدا ، وعلى الوارث الذي ليس بوالد ولا ولد ، وعلى المال الموروث عمن ليس بوالد ولا ولد ; إلا أنه استعمال غير شائع واختلف في اشتقاق الكلالة .

واختار كثير من العلماء أن أصلها من تكلله إذا أحاط به ومنه الإكليل لإحاطته بالرأس ، والكل لإحاطته [ ص: 229 ] بالرأس ، والكل لإحاطته بالعدد ; لأن الورثة فيها محيطة بالميت من جوانبه لا من أصله ولا فرعه .

وقال بعض العلماء : أصلها من الكلال بمعنى الإعياء ; لأن الكلالة أضعف من قرابة الآباء والأبناء .

وقال بعض العلماء : أصلها من الكل بمعنى الظهر وعليه فهي ما تركه الميت وراء ظهره ، واختلف في إعراب قوله كلالة . فقال بعض العلماء : هي حال من نائب فاعل يورث على حذف مضاف ، أي : يورث في حال كونه ذا كلالة أي قرابة غير الآباء والأبناء ، واختاره الزجاج وهو الأظهر ، وقيل : هي مفعول له ، أي : يورث لأجل الكلالة أي القرابة ، وقيل : هي خبر كان ، ويورث صفة لرجل ، أي : كان رجل موروث ذا كلالة ليس بوالد ولا ولد ، وقيل غير ذلك ، والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا لم يبين هنا هل جعل لهن سبيلا أو لا ؟ ولكنه بين في مواضع أخر أنه جعل لهن السبيل بالحد كقوله في البكر : الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما الآية [ 24 \ 2 ] ، ، وقوله في الثيب : ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم ) ; لأن هذه الآية باقية الحكم كما صح عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وأرضاه وإن كانت منسوخة التلاوة .

وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن حكم الرجم مأخوذ أيضا من آية أخرى محكمة غير منسوخة التلاوة ، وهي قوله تعالى : ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون ، فإنها نزلت في اليهودي واليهودية اللذين زنيا وهما محصنان ورجمهما النبي - صلى الله عليه وسلم - فذمه تعالى في هذا الكتاب للمعرض عما في التوراة من رجم الزاني المحصن ، دليل قرآني واضح على بقاء حكم الرجم ، ويوضح ما ذكرنا من أنه تعالى جعل لهن السبيل بالحد ، قوله - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح : " خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلا " الحديث .
قوله تعالى : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء الآية نهى الله تعالى في هذه الآية الكريمة عن نكاح المرأة التي نكحها الأب ، ولم يبين ما المراد بنكاح الأب [ ص: 230 ] هل هو العقد أو الوطء ؟ ولكنه بين في موضع آخر أن اسم النكاح يطلق على العقد وحده ، وإن لم يحصل مسيس وذلك في قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن [ 33 \ 49 ] ، فصرح بأنه نكاح وأنه لا مسيس فيه .

وقد أجمع العلماء على أن من عقد عليها الأب حرمت على ابنه ، وإن لم يمسها الأب ، وكذلك عقد الابن محرم على الأب إجماعا ، وإن لم يمسها وقد أطلق تعالى النكاح في آية أخرى مريدا به الجماع بعد العقد ، وذلك في قوله : فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره [ 2 \ 230 ] ; لأن المراد بالنكاح هنا ليس مجرد العقد ، بل لا بد معه من الوطء ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - لامرأة رفاعة القرظي : " لا ، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك " يعني الجماع ولا عبرة بما يروى من المخالفة عن سعيد بن المسيب ; لوضوح النص الصريح الصحيح في عين المسألة .

ومن هنا قال بعض العلماء : لفظ النكاح مشترك بين العقد والجماع ، وقال بعضهم : هو حقيقة في الجماع مجاز في العقد ; لأنه سببه وقال بعضهم بالعكس .

تنبيه

قال بعض العلماء : إن لفظة ما من قوله : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم [ 4 \ 22 ] ، مصدرية وعليه فقوله من النساء متعلق بقوله : تنكحوا لا بقوله نكح ، وتقرير المعنى على هذا القول ولا تنكحوا من النساء نكاح آبائكم ، أي : لا تفعلوا ما كان يفعله آباؤكم من النكاح الفاسد ، وهذا القول هو اختيار ابن جرير ، والذي يظهر وجزم به غير واحد من المحققين أن ما موصولة واقعة على النساء التي نكحها الآباء ، كقوله تعالى : فانكحوا ما طاب لكم من النساء [ 4 \ 3 ] ، وقد قدمنا وجه ذلك ; لأنهم كانوا ينكحون نساء آبائهم كما يدل له سبب النزول ، فقد نقل ابن كثير عن أبي حاتم أن سبب نزولها أنه لما توفي أبو قيس بن الأسلت خطب ابنه امرأته ، فاستأذنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك فقال : " ارجعي إلى بيتك " ، فنزلت : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم الآية .
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #32  
قديم 21-08-2021, 11:14 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,403
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (28)

سورة النساء (2)


قال مقيده عفا الله عنه : نكاح زوجات الآباء كان معروفا عند العرب ، وممن فعل ذلك أبو قيس بن الأسلت المذكور ، فقد تزوج أم عبيد الله وكانت تحت الأسلت أبيه ، [ ص: 231 ] وتزوج الأسود بن خلف ابنة أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار وكانت تحت أبيه خلف ، وتزوج صفوان بن أمية فاختة ابنة الأسود بن المطلب بن أسد ، وكانت تحت أبيه أمية ، كما نقله ابن جرير عن عكرمة قائلا : إنه سبب نزول الآية ، وتزوج عمرو بن أمية زوجة أبيه بعده ، فولدت له مسافرا وأبا معيط ، وكان لها من أمية أبو العيص وغيره ، فكانوا إخوة مسافر وأبي معيط وأعمامهما ، وتزوج منظور بن زبان بن سيار الفزاري زوجة أبيه مليكة بنت خارجة ، كما نقله القرطبي وغيره ، ومليكة هذه هي التي قال فيها منظور المذكور بعد أن فسخ نكاحها منه عمر بن الخطاب رضي الله عنه :

[ الطويل ]
ألا لا أبالي اليوم ما فعل الدهر إذا منعت مني مليكة والخمر فإن تك قد أمست بعيدا مزارها
فحي ابنة المري ما طلع الفجر


وأشار إلى تزويج منظور هذا زوجة أبيه ناظم عمود النسب بقوله في ذكر مشاهير فزارة :

[ الرجز ]
منظور الناكح مقتا وحلف خمسين ما له على منع وقف


وقوله : وحلف إلخ .

قال شارحه : إن معناه أن عمر بن الخطاب حلفه خمسين يمينا بعد العصر في المسجد أنه لم يبلغه نسخ ما كان عليه أهل الجاهلية من نكاح أزواج الآباء ، وذكر السهيلي وغيره أن كنانة بن خزيمة تزوج زوجة أبيه خزيمة فولدت له النضر بن كنانة ، قال : وقد قال صلى الله عليه وسلم : " ولدت من نكاح لا من سفاح " فدل على أن ذلك كان سائغا لهم .

قال ابن كثير وفيما نقله السهيلي من قصة كنانة نظر ، وأشار إلى تضعيف ما ذكره السهيلي ناظم عمود النسب بقوله :

[ الرجز ]
وهند بنت مر أم حارثة شخيصة وأم عنز ثالثة
برة أختها عليها خلفا كنانة خزيمة وضعفا
أختهما عاتكة ونسلها عذرة التي الهوى يقتلها


وذكر شارحه أن الذي ضعف ذلك هو السهيلي نفسه ، خلافا لظاهر كلام ابن كثير ومعنى الأبيات أن هند بنت مر أخت تميم بن مر بن أدبن طابخة بن إلياس هي أم ثلاثة [ ص: 232 ] من أولاد وائل بن قاسط وهم الحارث وشخيص وعنز ، وأن أختها برة بنت مر كانت زوجة خزيمة بن مدركة ، فتزوجها بعد ابنه كنانة ، وأن ذلك مضعف ، وأن أختهما عاتكة بنت مر هي أم عذرة أبي القبيلة المشهورة بأن الهوى يقتلها ، وقد كان من مختلقات العرب في الجاهلية إرث الأقارب أزواج أقاربهم ، كان الرجل منهم إذا مات وألقى ابنه أو أخوه مثلا ثوبا على زوجته ورثها وصار أحق بها من نفسها ، إن شاء نكحها بلا مهر وإن شاء أنكحها غيره وأخذ مهرها ، وإن شاء عضلها حتى تفتدي منه ، إلى أن نهاهم الله عن ذلك بقوله : ياأيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها الآية [ 4 \ 19 ] ، وأشار إلى هذا ناظم عمود النسب بقوله :

[ الرجز ]
القول فيما اختلفوا واخترقوا ولم يقد إليه إلا النزق


ثم شرع يعدد مختلقاتهم ، إلى أن قال :

[ الرجز ]
وأن من ألقى على زوج أبيه ونحوه بعد التوى ثوبا يريه
أولى بها من نفسها إن شاء نكح أو أنكح أو أساء
بالعضل كي يرثها أو تفتدى ومهرها في النكحتين للردى


وأظهر الأقوال في قوله تعالى : إلا ما قد سلف [ 4 \ 23 ] ، أن الاستثناء منقطع ، أي لكن ما مضى من ارتكاب هذا الفعل قبل التحريم فهو معفو عنه كما تقدم ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم الآية يفهم منه أن حليلة دعيه الذي تبناه لا تحرم عليه ، وهذا المفهوم صرح به تعالى في قوله : فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا [ 33 \ 37 ] ، وقوله : وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم [ 33 \ 4 ] ، وقوله : ما كان محمد أبا أحد من رجالكم الآية [ 33 \ 40 ] .

أما تحريم منكوحة الابن من الرضاع فهو مأخوذ من دليل خارج وهو تصريحه - صلى الله عليه وسلم - بأنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم اعلم أولا أن لفظ المحصنات أطلق في القرآن ثلاثة إطلاقات :

[ ص: 233 ] الأول : المحصنات العفائف ، ومنه قوله تعالى : محصنات غير مسافحات [ 4 \ 25 ] أي : عفائف غير زانيات .

الثاني : المحصنات الحرائر ، ومنه قوله تعالى : فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ، أي : على الإماء نصف ما على الحرائر من الجلد .

الثالث : أن يراد بالإحصان التزوج ، ومنه على التحقيق قوله تعالى : فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة الآية ، أي : فإذا تزوجن . وقول من قال من العلماء : إن المراد بالإحصان في قوله : فإذا أحصن الإسلام خلاف الظاهر من سياق الآية ; لأن سياق الآية في الفتيات المؤمنات حيث قال : ومن لم يستطع منكم طولا الآية .

قال ابن كثير في تفسير هذه الآية ما نصه : والأظهر والله أعلم أن المراد بالإحصان هاهنا التزويج ; لأن سياق الآية يدل عليه حيث يقول سبحانه وتعالى : ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ، والله أعلم . والآية الكريمة سياقها في الفتيات المؤمنات ، فتعين أن المراد بقوله : فإذا أحصن أي : تزوجن كما فسره ابن عباس وغيره . اهـ محل الغرض منه بلفظه .

فإذا علمت ذلك فاعلم أن في قوله تعالى : والمحصنات من النساء الآية ، أوجه من التفسير هي أقوال للعلماء ، والقرآن يفهم منه ترجيح واحد معين منها .

قال بعض العلماء : المراد بالمحصنات هنا أعم من العفائف والحرائر والمتزوجات أي : حرمت عليكم جميع النساء إلا ما ملكت أيمانكم بعقد صحيح أو ملك شرعي بالرق ، فمعنى الآية على هذا القول تحريم النساء كلهن إلا بنكاح صحيح أو تسر شرعي ، وإلى هذا القول ذهب سعيد بن جبير ، وعطاء ، والسدي ، وحكي عن بعض الصحابة واختاره مالك في " الموطأ " .

وقال بعض العلماء : المراد بالمحصنات في الآية الحرائر ، وعليه فالمعنى وحرمت عليكم الحرائر غير الأربع ، وأحل لكم ما ملكت أيمانكم من الإماء ، وعليه فالاستثناء منقطع .

وقال بعض العلماء : المراد بالمحصنات : المتزوجات ، وعليه فمعنى الآية [ ص: 234 ] وحرمت عليكم المتزوجات ; لأن ذات الزوج لا تحل لغيره إلا ما ملكت أيمانكم بالسبي من الكفار ، فإن السبي يرفع حكم الزوجية الأولى في الكفر وهذا القول هو الصحيح ، وهو الذي يدل القرآن لصحته ; لأن القول الأول فيه حمل ملك اليمين على ما يشمل ملك النكاح ، وملك اليمين لم يرد في القرآن إلا بمعنى الملك بالرق ، كقوله : فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ، وقوله : وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك [ 33 \ 50 ] ، وقوله : والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم [ 4 \ 36 ] ، وقوله : والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم [ 23 \ 5 ، 6 ] ، في الموضعين ، فجعل ملك اليمين قسما آخر غير الزوجية . وقوله : والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم [ 24 \ 33 ] ، فهذه الآيات تدل على أن المراد بما ملكت أيمانكم الإماء دون المنكوحات كما هو ظاهر ، وكذلك الوجه الثاني غير ظاهر ; لأن المعنى عليه : وحرمت عليكم الحرائر إلا ما ملكت أيمانكم ، وهذا خلاف الظاهر من معنى لفظ الآية كما ترى .

وصرح ابن القيم بأن هذا القول مردود لفظا ومعنى ، فظهر أن سياق الآية يدل على المعنى الذي اخترنا ، كما دلت عليه الآيات الأخر التي ذكرنا ، ويؤيده سبب النزول ; لأن سبب نزولها كما أخرجه مسلم في " صحيحه " والإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه ، وعبد الرزاق عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : أصبنا سبيا من سبي أوطاس ولهن أزواج فكرهنا أن نقع عليهن ولهن أزواج ، فسألنا النبي - صلى الله عليه وسلم - فنزلت هذه الآية : والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم [ 4 \ 24 ] ، فاستحللنا فروجهن .

وروى الطبراني عن ابن عباس أنها نزلت في سبايا خيبر ، ونظير هذا التفسير الصحيح قول الفرزدق :

[ الطويل ]
وذات حليل أنكحتها رماحنا حلال لمن يبني بها لم تطلق

تنبيه

فإن قيل : عموم قوله تعالى : إلا ما ملكت أيمانكم ، لا يختص بالمسبيات ، بل ظاهر هذا العموم أن كل أمة متزوجة إذا ملكها رجل آخر فهي تحل له بملك اليمين ويرتفع حكم الزوجية بذلك الملك ، والآية وإن نزلت في خصوص المسبيات كما ذكرنا ، [ ص: 235 ] فالعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب ، فالجواب : أن جماعة من السلف قالوا بظاهر هذا العموم ، فحكموا بأن بيع الأمة مثلا يكون طلاقا لها من زوجها أخذا بعموم هذه الآية ، ويروى هذا القول عن ابن مسعود ، وابن عباس ، وأبي بن كعب ، وجابر بن عبد الله ، وسعيد بن المسيب ، والحسن ومعمر ، كما نقله عنهم ابن كثير وغيره ، ولكن التحقيق في هذه المسألة هو ما ذكرنا من اختصاص هذا الحكم بالمسبيات دون غيرها من المملوكات بسبب آخر غير السبي ، كالبيع مثلا وليس من تخصيص العام بصورة سببه . وأوضح دليل في ذلك قصة بريرة المشهورة مع زوجها مغيث .

قال ابن كثير في تفسير هذه الآية بعد ذكره أقوال الجماعة التي ذكرنا في أن البيع طلاق ، ما نصه : وقد خالفهم الجمهور قديما وحديثا ، فرأوا أن بيع الأمة ليس طلاقا لها ; لأن المشتري نائب عن البائع ، والبائع كان قد أخرج عن ملكه هذه المنفعة ، وباعها مسلوبة عنه ، واعتمدوا في ذلك على حديث بريرة المخرج في " الصحيحين " وغيرهما ، فإن عائشة أم المؤمنين اشترتها ، وأعتقتها ولم ينفسخ نكاحها من زوجها مغيث ، بل خيرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الفسخ والبقاء ، فاختارت الفسخ وقصتها مشهورة ، فلو كان بيع الأمة طلاقها كما قال هؤلاء ما خيرها النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما خيرها دل على بقاء النكاح ، وأن المراد من الآية المسبيات فقط ، والله أعلم . اهـ منه لفظه .

فإن قيل : إن كان المشتري امرأة لم ينفسخ النكاح ; لأنها لا تملك الاستمتاع ببضع الأمة ، بخلاف الرجل ، وملك اليمين أقوى من ملك النكاح ، كما قال بهذا جماعة ، ولا يرد على هذا القول حديث بريرة ، فالجواب هو ما حرره ابن القيم ، وهو أنها إن لم تملك الاستمتاع ببضع أمتها ، فهي تملك المعاوضة عليه وتزويجها وأخذ مهرها ، وذلك كملك الرجل وإن لم تستمتع بالبضع ، فإذا حققت ذلك علمت أن التحقيق في معنى الآية وحرمت عليكم المحصنات أي : المتزوجات ، إلا ما ملكت أيمانكم بالسبي من الكفار ، فلا منع في وطئهن بملك اليمين بعد الاستبراء ; لانهدام الزوجية الأولى بالسبي كما قررنا ، وكانت أم المؤمنين جويرية بنت الحارث - رضي الله عنها - متزوجة برجل اسمه مسافع ، فسبيت في غزوة بني المصطلق وقصتها معروفة . قال ناظم قرة الأبصار في جويرية رضي الله عنها :

[ الرجز ]
وقد سباها في غزاة المصطلق من بعلها مسافع بالمنزلق


ومراده بالمنزلق السيف ، ثم إن العلماء اختلفوا في السبي ، هل يبطل حكم الزوجية [ ص: 236 ] الأولى مطلقا ولو سبي الزوج معها ، وهو ظاهر الآية أو لا يبطله إلا إذا سبيت وحدها دونه ؟ فإن سبي معها فحكم الزوجية باق ، وهو قول أبي حنيفة وبعض أصحاب أحمد والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن الآية ، يعني : كما أنكم تستمتعون بالمنكوحات فأعطوهن مهورهن في مقابلة ذلك ، وهذا المعنى تدل له آيات من كتاب الله كقوله تعالى : وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض الآية [ 4 \ 21 ] ، فإفضاء بعضهم إلى بعض المصرح بأنه سبب لاستحقاق الصداق كاملا ، هو بعينه الاستمتاع المذكور هنا في قوله : فما استمتعتم به منهن الآية [ 4 \ 24 ] ، وقوله : وآتوا النساء صدقاتهن نحلة [ 4 \ 4 ] ، وقوله : ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا الآية [ 2 \ 229 ] . فالآية في عقد النكاح ، لا في نكاح المتعة كما قال به من لا يعلم معناها ، فإن قيل : التعبير بلفظ الأجور يدل على أن المقصود الأجرة في نكاح المتعة ; لأن الصداق لا يسمى أجرا ، فالجواب أن القرآن جاء في تسمية الصداق أجرا في موضع لا نزاع فيه ; لأن الصداق لما كان في مقابلة الاستمتاع بالزوجة كما صرح به تعالى في قوله : وكيف تأخذونه الآية ، صار له شبه قوي بأثمان المنافع فسمي أجرا ، وذلك الموضع هو قوله تعالى : فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن الآية [ 4 \ 25 ] ، أي : مهورهن بلا نزاع ، ومثله قوله تعالى : والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن الآية [ 5 \ 5 ] . أي : مهورهن فاتضح أن الآية في النكاح لا في نكاح المتعة ، فإن قيل : كان ابن عباس وأبي بن كعب ، وسعيد بن جبير ، والسدي يقرءون : فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى ، وهذا يدل على أن الآية في نكاح المتعة ، فالجواب من ثلاثة أوجه :

الأول : أن قولهم إلى أجل مسمى لم يثبت قرآنا ; لإجماع الصحابة على عدم كتبه في المصاحف العثمانية ، وأكثر الأصوليين على أن ما قرأه الصحابي على أنه قرآن ، ولم يثبت كونه قرآنا لا يستدل به على شيء ; لأنه باطل من أصله ; لأنه لما لم ينقله إلا على أنه قرآن فبطل كونه قرآنا ظهر بطلانه من أصله .

الثاني : أنا لو مشينا على أنه يحتج به كالاحتجاج بخبر الآحاد كما قال به قوم ، أو على أنه تفسير منهم للآية بذلك ، فهو معارض بأقوى منه ; لأن جمهور العلماء على [ ص: 237 ] خلافه ; ولأن الأحاديث الصحيحة الصريحة قاطعة بكثرة بتحريم نكاح المتعة ، وصرح - صلى الله عليه وسلم - بأن ذلك التحريم دائم إلى يوم القيامة ، كما ثبت في " صحيح مسلم " من حديث سبرة بن معبد الجهني - رضي الله عنه - أنه غزا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة . فقال : " يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع في النساء ، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة ، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله ، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا " .

وفي رواية لمسلم في حجة الوداع : ولا تعارض في ذلك ; لإمكان أنه - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك يوم فتح مكة ، وفي حجة الوداع أيضا والجمع واجب إذا أمكن ، كما تقرر في علم الأصول وعلوم الحديث .

الثالث : أنا لو سلمنا تسليما جدليا أن الآية تدل على إباحة نكاح المتعة فإن إباحتها منسوخة كما صح نسخ ذلك في الأحاديث المتفق عليها عنه - صلى الله عليه وسلم - وقد نسخ ذلك مرتين الأولى يوم خيبر كما ثبت في الصحيح ، والآخرة يوم فتح مكة ، كما ثبت في الصحيح أيضا .

وقال بعض العلماء : نسخت مرة واحدة يوم الفتح ، والذي وقع في خيبر تحريم لحوم الحمر الأهلية فقط ، فظن بعض الرواة أن يوم خيبر ظرف أيضا لتحريم المتعة .

واختار هذا القول ابن القيم ، ولكن بعض الروايات الصحيحة ، صريحة في تحريم المتعة يوم خيبر أيضا ، فالظاهر أنها حرمت مرتين كما جزم به غير واحد ، وصحت الرواية به . والله تعالى أعلم .

الرابع : أنه تعالى صرح بأنه يجب حفظ الفرج عن غير الزوجة والسرية في قوله تعالى : إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم [ 23 \ 6 ] ، في الموضعين ، ثم صرح بأن المبتغى وراء ذلك من العادين بقوله : فمن ابتغى وراء ذلك الآية [ 23 \ 7 ] .

ومعلوم أن المستمتع بها ليست مملوكة ولا زوجة ، فمبتغيها إذن من العادين بنص القرآن ، أما كونها غير مملوكة فواضح ، وأما كونها غير زوجة فلانتفاء لوازم الزوجية عنها كالميراث ، والعدة ، والطلاق ، والنفقة ، ولو كانت زوجة لورثت واعتدت ووقع عليها الطلاق ووجبت لها النفقة ، كما هو ظاهر ، فهذه الآية التي هي : والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون [ ص: 238 ] [ 23 \ 75 - 29 ، 31 ] ، صريحة في منع الاستمتاع بالنساء الذي نسخ . وسياق الآية التي نحن بصددها يدل دلالة واضحة على أن الآية في عقد النكاح كما بينا لا في نكاح المتعة ; لأنه تعالى ذكر المحرمات التي لا يجوز نكاحها بقوله تعالى : حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم [ 4 \ 23 ] الخ . . .

ثم بين أن غير تلك المحرمات حلال بالنكاح بقوله : وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين [ 4 \ 24 ] ، ثم بين أن من نكحتم منهن واستمتعتم بها يلزمكم أن تعطوها مهرها ، مرتبا لذلك بالفاء على النكاح بقوله : فما استمتعتم به منهن الآية [ 4 \ 24 ] ، كما بيناه واضحا ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ، ظاهر هذه الآية الكريمة أن الأمة لا يجوز نكاحها ، ولو عند الضرورة إلا إذا كانت مؤمنة بدليل قوله : من فتياتكم المؤمنات [ 4 \ 25 ] ، فمفهوم مخالفته أن غير المؤمنات من الإماء لا يجوز نكاحهن على كل حال ، وهذا المفهوم يفهم من مفهوم آية أخرى وهي قوله تعالى : والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب [ 5 \ 5 ] ، فإن المراد بالمحصنات فيها الحرائر على أحد الأقوال ، ويفهم منه أن الإماء الكوافر لا يحل نكاحهن ولو كن كتابيات ، وخالف الإمام أبو حنيفة - رحمه الله - فأجاز نكاح الأمة الكافرة ، وأجاز نكاح الإماء لمن عنده طول ينكح به الحرائر ; لأنه لا يعتبر مفهوم المخالفة كما عرف في أصوله رحمه الله .

أما وطء الأمة الكافرة بملك اليمين ، فإنها إن كانت كتابية فجمهور العلماء على إباحة وطئها بالملك ، لعموم قوله تعالى : إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم الآية [ 23 \ 6 ] ، ولجواز نكاح حرائرهم فيحل التسري بالإماء منهم . وأما إن كانت الأمة المملوكة له مجوسية أو عابدة وثن ممن لا يحل نكاح حرائرهم ; فجمهور العلماء على منع وطئها بملك اليمين .

قال ابن عبد البر : وعليه جماعة فقهاء الأمصار وجمهور العلماء ، وما خالفه فهو شذوذ لا يعد خلافا ، ولم يبلغنا إباحة ذلك إلا عن طاوس .

قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر من جهة الدليل والله تعالى أعلم جواز وطء الأمة بملك اليمين وإن كانت عابدة وثن أو مجوسية ; لأن أكثر السبايا في عصره - صلى الله عليه وسلم - من [ ص: 239 ] كفار العرب وهم عبدة أوثان ، ولم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه حرم وطأهن بالملك لكفرهن ولو كان حراما لبينه ، بل قال صلى الله عليه وسلم : " لا توطأ حامل حتى تضع ، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة " ، ولم يقل حتى يسلمن ولو كان ذلك شرطا لقاله وقد أخذ الصحابة سبايا فارس وهن مجوس ، ولم ينقل أنهم اجتنبوهن حتى أسلمن .

قال ابن القيم في " زاد المعاد " ما نصه : ودل هذا القضاء النبوي على جواز وطء الإماء الوثنيات بملك اليمين ، فإن سبايا أوطاس لم يكن كتابيات ، ولم يشترط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وطئهن إسلامهن ، ولم يجعل المانع منه إلا الاستبراء فقط ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع مع أنهم حديثو عهد بالإسلام ويخفى عليهم حكم هذه المسألة وحصول الإسلام من جميع السبايا ، وكن عدة آلاف بحيث لم يتخلف منهن عن الإسلام جارية واحدة مما يعلم أنه في غاية البعد ، فإنهن لم يكرهن على الإسلام ، ولم يكن لهن من البصيرة والرغبة والمحبة في الإسلام ما يقتضي مبادرتهن إليه جميعا ، فمقتضى السنة وعمل الصحابة في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعده جواز وطء المملوكات على أي دين كن ، وهذا مذهب طاوس وغيره ، وقواه صاحب " المغني " فيه ورجح أدلته ، وبالله التوفيق . ا هـ كلام ابن القيم بلفظه وهو واضح جدا .
قوله تعالى : فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ، لم يبين هنا هذا العذاب الذي على المحصنات وهن الحرائر الذي نصفه على الإماء ، ولكنه بين في موضع آخر أنه جلد مائة بقوله : الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة [ 24 \ 2 ] ، فيعلم منه أن على الأمة الزانية خمسين جلدة ويلحق بها العبد الزاني فيجلد خمسين ، فعموم الزانية مخصوص بنص قوله تعالى : فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب [ 4 \ 25 ] ، وعموم الزاني مخصوص بالقياس على المنصوص ; لأنه لا فارق البتة بين الحرة والأمة إلا الرق ، فعلم أنه سبب تشطير الجلد فأجرى في العبد لاتصافه بالرق الذي هو مناط تشطير الجلد ، وهذه الآية عند الأصوليين من أمثلة تخصيص عموم النص بالقياس ، بناء على أن نوع تنقيح المناط المعروف بإلغاء الفارق يسمى قياسا ، والخلاف في كونه قياسا معروف في الأصول . أما الرجم فمعلوم أنه لا يتشطر ، فلم يدخل في المراد بالآية .

تنبيه

قد علمت مما تقدم أن التحقيق في معنى أحصن أن المراد به تزوجن ، وذلك هو [ ص: 240 ] معناه على كلتا القراءتين قراءته بالبناة للفاعل والمفعول ، خلافا لما اختاره ابن جرير من أن معنى قراءة أحصن بفتح الهمزة والصاد مبنيا للفاعل أسلمن ، وأن معنى أحصن بضم الهمزة وكسر الصاد مبنيا للمفعول زوجن ، وعليه فيفهم من مفهوم الشرط في قوله : فإذا أحصن [ 4 \ 25 ] أن الأمة التي لم تتزوج لا حد عليها إذا زنت ; لأنه تعالى علق حدها في الآية بالإحصان ، وتمسك بمفهوم هذه الآية ابن عباس ، وطاوس ، وعطاء ، وابن جريج ، وسعيد بن جبير ، وأبو عبيد القاسم بن سلام ، وداود بن علي في رواية فقالوا : لا حد على مملوكة حتى تتزوج ، والجواب عن هذا - والله أعلم - أن مفهوم هذه الآية فيه إجمال وقد بينته السنة الصحيحة ، وإيضاحه أن تعليق جلد الخمسين المذكور في الآية على إحصان الأمة ، يفهم منه أن الأمة التي لم تحصن ليست كذلك فقط ، فيحتمل أنها لا تجلد ، ويحتمل أنها تجلد أكثر من ذلك أو أقل أو ترجم إلى غير ذلك من المحتملات ، ولكن السنة الصحيحة دلت على أن غير المحصنة من الإماء كذلك ، لا فرق بينها وبين المحصنة ، والحكمة في التعبير بخصوص المحصنة دفع توهم أنها ترجم كالحرة ، فقد أخرج الشيخان في " صحيحيهما " عن أبي هريرة ، وزيد بن خالد الجهني - رضي الله عنهما - قالا : سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الأمة إذا زنت ، ولم تحصن قال : " إن زنت فاجلدوها ، ثم إن زنت فاجلدوها ، ثم إن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو بضفير " .

قال ابن شهاب : لا أدري أبعد الثالثة ، أو الرابعة ، وحمل الجلد في الحديث على التأديب غير ظاهر ، لا سيما وفي بعض الروايات التصريح بالحد ، فمفهوم هذه الآية هو بعينه الذي سئل عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأجاب فيه بالأمر بالجلد في هذا الحديث المتفق عليه ، والظاهر أن السائل ما سأله إلا لأنه أشكل عليه مفهوم هذه الآية فالحديث نص في محل النزاع ، ولو كان جلد غير المحصنة أكثر أو أقل من جلد المحصنة لبينه صلى الله عليه وسلم .

وبهذا تعلم أن الأقوال المخالفة لهذا لا يعول عليها ، كقول ابن عباس ومن وافقه المتقدم آنفا ، وكالقول بأن غير المحصنة تجلد مائة ، وهو المشهور عن داود بن علي الظاهري ، ولا يخفى بعده وكالقول بأن الأمة المحصنة ترجم وغير المحصنة تجلد خمسين ، وهو قول أبي ثور ، ولا يخفى شدة بعده والعلم عند الله تعالى .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #33  
قديم 21-08-2021, 11:19 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,403
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (29)

سورة النساء (3)


قوله تعالى : واللاتي تخافون نشوزهن الآية ، ذكر في هذه الآية الكريمة أن النشوز قد يحصل من النساء ، ولم يبين هل يحصل من الرجال نشوز أو لا ؟ ولكنه بين في موضع آخر [ ص: 241 ] أن النشوز أيضا قد يحصل من الرجال ، وهو قوله تعالى : وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا الآية [ 4 \ 128 ] ، وأصل النشوز في اللغة الارتفاع ، فالمرأة الناشز كأنها ترتفع عن المكان الذي يضاجعها فيه زوجها ، وهو في اصطلاح الفقهاء الخروج عن طاعة الزوج ، وكأن نشوز الرجل ارتفاعه أيضا عن المحل الذي فيه الزوجة وتركه مضاجعتها ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وإن تك حسنة يضاعفها الآية ، لم يبين في هذه الآية الكريمة أقل ما تضاعف به الحسنة ولا أكثره ولكنه بين في موضع آخر أن أقل ما تضاعف به عشر أمثالها ، وهو قوله : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها [ 6 \ 160 ] .

وبين في موضع آخر أن المضاعفة ربما بلغت سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله ، وهو قوله : مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل الآية [ 2 \ 261 ] كما تقدم .
قوله تعالى : يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض الآية ، على القراءات الثلاث معناه أنهم يتمنون أن يستووا بالأرض ، فيكونوا ترابا مثلها على أظهر الأقوال ، ويوضح هذا المعنى قوله تعالى : يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر ياليتني كنت ترابا [ 78 \ 40 ] .

قوله تعالى : ولا يكتمون الله حديثا بين في موضع آخر أن عدم الكتم المذكور هنا ، إنما هو باعتبار إخبار أيديهم وأرجلهم بكل ما عملوا عند الختم على أفواههم إذا أنكروا شركهم ومعاصيهم وهو قوله تعالى : اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون [ 36 \ 65 ] ، فلا يتنافى قوله : ولا يكتمون الله حديثا [ 4 \ 42 ] ، مع قوله عنهم : والله ربنا ما كنا مشركين [ 6 \ 23 ] ، وقوله عنهم أيضا : ما كنا نعمل من سوء [ 16 \ 28 ] ، وقوله عنهم : بل لم نكن ندعو من قبل شيئا [ 40 ] ، للبيان الذي ذكرنا والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون بين تعالى في هذه الآية زوال السكر بأنه هو أن يثوب للسكران عقله ، حتى يعلم معنى الكلام الذي يصدر منه بقوله : حتى تعلموا ما تقولون [ 4 \ 43 ] .
[ ص: 242 ] قوله تعالى : ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل الآية . ذكر في هذه الآية الكريمة أن الذين أوتوا نصيبا من الكتاب مع اشترائهم الضلالة يريدون إضلال المسلمين أيضا .

وذكر في موضع آخر أنهم كثير ، وأنهم يتمنون ردة المسلمين ، وأن السبب الحامل لهم على ذلك إنما هو الحسد وأنهم ما صدر منهم ذلك إلا بعد معرفتهم الحق وهو قوله تعالى : ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين [ 2 \ 109 ] .

وذكر في موضع آخر أن هذا الإضلال الذي يتمنونه للمسلمين لا يقع من المسلمين ، وإنما يقع منهم أعني المتمنين الضلال للمسلمين وهو قوله : ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون [ 3 ] .
قوله تعالى : أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت ، لم يبين هنا كيفية لعنه لأصحاب السبت ، ولكنه بين في غير هذا الموضع أن لعنه لهم هو مسخهم قردة ومن مسخه الله قردا غضبا عليه ملعون بلا شك ، وذلك قوله تعالى : ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين [ 2 \ 65 ] ، وقوله : فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين [ 7 \ 166 ] ، والاستدلال على مغايرة اللعن للمسخ بعطفه عليه في قوله : قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير [ 5 \ 60 ] ، لا يفيد أكثر من مغايرته للمسخ في تلك الآية ، كما قاله الألوسي في " تفسيره " وهو ظاهر واللعنة في اللغة : الطرد والإبعاد ، والرجل الذي طرده قومه وأبعدوه لجناياته تقول له العرب رجل لعين ، ومنه قول الشاعر :

[ الوافر ]
ذعرت به القطا ونفيت عنه مقام الذئب كالرجل اللعين


وفي اصطلاح الشرع : اللعنة : الطرد والإبعاد عن رحمة الله ، ومعلوم أن المسخ من أكبر أنواع الطرد والإبعاد .
قوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما [ ص: 243 ] ذكر في هذه الآية الكريمة أنه تعالى لا يغفر الإشراك به وأنه يغفر غير ذلك لمن يشاء وأن من أشرك به فقد افترى إثما عظيما .

وذكر في مواضع أخر : أن محل كونه لا يغفر الإشراك به إذا لم يتب المشرك من ذلك ، فإن تاب غفر له كقوله : إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا الآية [ 25 \ 70 ] ، فإن الاستثناء راجع لقوله : والذين لا يدعون مع الله إلها آخر [ 25 \ 68 ] ، وما عطف عليه ; لأن معنى الكل جمع في قوله : ومن يفعل ذلك يلق أثاما الآية [ 25 \ 68 ] وقوله : قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف [ 8 \ 38 ] . وذكر في موضع آخر : أن من أشرك بالله قد ضل ضلالا بعيدا عن الحق ، وهو قوله في هذه السورة الكريمة أيضا : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا [ 4 \ 116 ] ، وصرح بأن من أشرك بالله فالجنة عليه حرام ومأواه النار بقوله : إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار [ 5 ] ، وقوله : ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين [ 7 \ 50 ] .

وذكر في موضع آخر أن المشرك لا يرجى له خلاص ، وهو قوله : ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق [ 22 \ 31 ] ، وصرح في موضع آخر : بأن الإشراك ظلم عظيم بقوله عن لقمان مقررا له : إن الشرك لظلم عظيم [ 31 \ 13 ] .

وذكر في موضع آخر أن الأمن التام والاهتداء ، إنما هما لمن لم يلبس إيمانه بشرك ، وهو قوله : الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون [ 6 \ 82 ] ، وقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أن معنى بظلم بشرك .
قوله تعالى : ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء الآية ، أنكر تعالى عليهم في هذه الآية تزكيتهم أنفسهم بقوله : ألم تر إلى الذين [ 4 \ 49 ] ، وبقوله : انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا [ 4 \ 50 ] ، وصرح بالنهي العام عن تزكية النفس وأحرى نفس الكافر التي هي أخس شيء وأنجسه بقوله : هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى [ 53 ] ، [ ص: 244 ] ولم يبين هنا كيفية تزكيتهم أنفسهم .

ولكنه بين ذلك في مواضع أخر ، كقوله عنهم : نحن أبناء الله وأحباؤه [ 5 \ 18 ] ، وقوله : وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى [ 2 \ 111 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : وندخلهم ظلا ظليلا ، وصف في هذه الآية الكريمة ظل الجنة بأنه ظليل ، ووصفه في آية أخرى بأنه دائم ، وهي قوله : أكلها دائم وظلها [ 13 \ 35 ] ، ووصفه في آية أخرى بأنه ممدود ، وهي قوله : وظل ممدود [ 56 ] ، وبين في موضع آخر أنها ظلال متعددة ، وهو قوله : إن المتقين في ظلال وعيون الآية [ 77 \ 41 ] .

وذكر في موضع آخر أنهم في تلك الظلال متكئون مع أزواجهم على الأرائك وهو قوله : هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون [ 36 \ 56 ] ، والأرائك : جمع أريكة وهي السرير في الحجلة ، والحجلة بيت يزين للعروس بجميع أنواع الزينة ، وبين أن ظل أهل النار ليس كذلك بقوله : انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب [ 77 29 ، 30 ] ، وقوله : وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال في سموم وحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم [ 56 \ 41 ، 44 ] .
قوله تعالى : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله الآية أمر الله في هذه الآية الكريمة بأن كل شيء تنازع فيه الناس من أصول الدين ، وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى كتاب الله ، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ; لأنه تعالى قال : من يطع الرسول فقد أطاع الله [ 4 \ 80 ] ، وأوضح هذا المأمور به هنا بقوله : وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله [ 42 \ 10 ] ، ويفهم من هذه الآية الكريمة أنه لا يجوز التحاكم إلى غير كتاب الله ، وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وقد أوضح تعالى هذا المفهوم موبخا للمتحاكمين إلى غير كتاب الله ، وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - مبينا أن الشيطان أضلهم ضلالا بعيدا عن الحق بقوله : ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا [ 4 \ 60 ] ، وأشار إلى أنه لا يؤمن أحد حتى يكفر بالطاغوت بقوله : فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى [ 2 \ 256 ] .

[ ص: 245 ] ومفهوم الشرط أن من لم يكفر بالطاغوت لم يستمسك بالعروة الوثقى وهو كذلك ، ومن لم يستمسك بالعروة الوثقى فهو بمعزل عن الإيمان ; لأن الإيمان بالله هو العروة الوثقى ، والإيمان بالطاغوت يستحيل اجتماعه مع الإيمان بالله ; لأن الكفر بالطاغوت شرط في الإيمان بالله أو ركن منه ، كما هو صريح قوله : فمن يكفر بالطاغوت الآية [ 2 \ 256 ] .

تنبيه

استدل منكرو القياس بهذه الآية الكريمة ، أعني قوله تعالى : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله الآية ، على بطلان القياس قالوا : لأنه تعالى أوجب الرد إلى خصوص الكتاب والسنة دون القياس ، وأجاب الجمهور بأنه لا دليل لهم في الآية ; لأن إلحاق غير المنصوص بالمنصوص لوجود معنى النص فيه لا يخرج عن الرد إلى الكتاب والسنة ، بل قال بعضهم : الآية متضمنة لجميع الأدلة الشرعية ، فالمراد بإطاعة الله العمل بالكتاب ، وبإطاعة الرسول العمل بالسنة ، وبالرد إليهما القياس ; لأن رد المختلف فيه غير المعلوم من النص إلى المنصوص عليه ، إنما يكون بالتمثيل والبناء عليه ، وليس القياس شيئا وراء ذلك .

وقد علم من قوله تعالى : فإن تنازعتم أنه عند عدم النزاع يعمل بالمتفق عليه ، وهو الإجماع قاله الألوسي في " تفسيره " .
قوله تعالى : وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا ، ذكر في هذه الآية الكريمة أن المنافقين إذا دعوا إلى ما أنزل الله ، وإلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - يصدون عن ذلك صدودا أي : يعرضون إعراضا .

وذكر في موضع آخر أنهم إذا دعوا إليه صلى الله عليه وسلم ; ليستغفر لهم لووا رءوسهم ، وصدوا واستكبروا ، وهو قوله : وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رءوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون [ 63 \ 5 ] .



قوله تعالى : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما أقسم تعالى في هذه الآية الكريمة بنفسه [ ص: 246 ] الكريمة المقدسة ، أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم رسوله - صلى الله عليه وسلم - في جميع الأمور ، ثم ينقاد لما حكم به ظاهرا وباطنا ويسلمه تسليما كليا من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة ، وبين في آية أخرى أن قول المؤمنين محصور في هذا التسليم الكلي ، والانقياد التام ظاهرا وباطنا لما حكم به صلى الله عليه وسلم ، وهي قوله تعالى : إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا الآية [ 24 \ 51 ] .
قوله تعالى : فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا ، ذكر في هذه الآية الكريمة أن المنافقين إذا سمعوا بأن المسلمين أصابتهم مصيبة أي : من قتل الأعداء لهم ، أو جراح أصابتهم ، أو نحو ذلك يقولون : إن عدم حضورهم معهم من نعم الله عليهم .

وذكر في مواضع أخر أنهم يفرحون بالسوء الذي أصاب المسلمين ، كقوله تعالى : وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها [ 3 \ 120 ] ، وقوله : وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون [ 9 \ 50 ] .
قوله تعالى : ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما ، ذكر في هذه الآية الكريمة ، أن المنافقين إذا سمعوا أن المسلمين أصابهم فضل من الله أي : نصر وظفر وغنيمة تمنوا أن يكونوا معهم ; ليفوزوا بسهامهم من الغنيمة .

وذكر في مواضع أخر أن ذلك الفضل الذي يصيب المؤمنين يسوءهم لشدة عداوتهم الباطنة لهم ، كقوله تعالى : إن تمسسكم حسنة تسؤهم [ 3 \ 120 ] ، وقوله : إن تصبك حسنة تسؤهم [ 9 \ 50 ] .
قوله تعالى : ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب الآية ، ذكر في هذه الآية الكريمة أنه سوف يؤتي المجاهد في سبيله أجرا عظيما سواء أقتل في سبيل الله ، أم غلب عدوه ، وظفر به .

وبين في موضع آخر أن كلتا الحالتين حسنى ، وهو قوله : قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين [ 9 \ 52 ] ، والحسنى صيغة تفضيل ; لأنها تأنيث الأحسن .
قوله تعالى : حرض المؤمنين الآية [ 4 \ 84 ] ، لم يصرح هنا بالذي يحرض عليه [ ص: 247 ] المؤمنين ما هو ، وصرح في موضع آخر بأنه القتال ، وهو قوله : حرض المؤمنين على القتال ، وأشار إلى ذلك هنا بقوله في أول الآية : فقاتل في سبيل الله ، وقوله في آخرها : عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا الآية .
قوله تعالى : أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا ، أنكر تعالى في هذه الآية الكريمة على من أراد أن يهدي من أضله الله وصرح فيها بأن من أضله الله لا يوجد سبيل إلى هداه ، وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله : ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم [ 5 \ 41 ] ، وقوله : من يضلل الله فلا هادي له [ 7 \ 186 ] ، ويؤخذ من هذه الآيات أن العبد ينبغي له كثرة التضرع والابتهال إلى الله تعالى أن يهديه ولا يضله ; فإن من هداه الله لا يضل ، ومن أضله لا هادي له ، ولذا ذكر عن الراسخين في العلم أنهم يقولون : ربنا لا تزغ قلوبنا الآية [ 3 \ 8 ] .
قوله تعالى : لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما ذكر في هذه الآية الكريمة أنه فضل المجاهدين في سبيل الله بأموالهم ، وأنفسهم على القاعدين درجة وأجرا عظيما ، ولم يتعرض لتفضيل بعض المجاهدين على بعض ، ولكنه بين ذلك في موضع آخر وهو قوله : لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى [ 57 \ 10 ] ، وقوله في هذه الآية الكريمة غير أولي الضرر ، يفهم من مفهوم مخالفته أن من خلفه العذر إذا كانت نيته صالحة يحصل ثواب المجاهد .

وهذا المفهوم صرح به النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس الثابت في الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن بالمدينة أقواما ما سرتم من مسير ، ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه " ، قالوا وهم بالمدينة يا رسول الله ؟ قال : " نعم حبسهم العذر " ، وفي هذا المعنى قال الشاعر :

[ البسيط ]
يا ظاعنين إلى البيت العتيق لقد سرتم جسوما وسرنا نحن أرواحا إنا أقمنا على عذر وعن قدر
ومن أقام على عذر فقد راحا


[ ص: 248 ] تنبيه

يؤخذ من قوله في هذه الآية الكريمة : وكلا وعد الله الحسنى ، أن الجهاد فرض كفاية لا فرض عين ; لأن القاعدين لو كانوا تاركين فرضا لما ناسب ذلك وعده لهم الصادق بالحسنى ; وهي الجنة والثواب الجزيل .
قوله تعالى : وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا

الآية .

قال بعض العلماء : المراد بالقصر في قوله : أن تقصروا في هذه الآية قصر كيفيتها لا كميتها ، ومعنى قصر كيفيتها أن يجوز فيها من الأمور ما لا يجوز في صلاة الأمن ، كأن يصلي بعضهم مع الإمام ركعة واحدة ، ويقف الإمام حتى يأتي البعض الآخر فيصلي معهم الركعة الأخرى ، وكصلاتهم إيماء رجالا وركبانا وغير متوجهين إلى القبلة ، فكل هذا من قصر كيفيتها ويدل على أن المراد هو هذا القصر من كيفيتها .

قوله تعالى بعده يليه مبينا له : وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم الآية [ 4 \ 102 ] ، وقوله تعالى : فإن خفتم فرجالا أو ركبانا [ 2 \ 239 ] ، ويزيده إيضاحا أنه قال هنا : فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة [ 4 ] ، وقال في آية البقرة : فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون [ 2 \ 239 ] ; لأن معناه فإذا أمنتم فأتموا كيفيتها بركوعها وسجودها وجميع ما يلزم فيها مما يتعذر وقت الخوف .

وعلى هذا التفسير الذي دل له القرآن فشرط الخوف في قوله : إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا [ 4 \ 101 ] ، معتبر أي : وإن لم تخافوا منهم أن يفتنوكم فلا تقصروا من كيفيتها ، بل صلوها على أكمل الهيئات ، كما صرح به في قوله : فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة [ 4 ] ، وصرح باشتراط الخوف أيضا لقصر كيفيتها بأن يصليها الماشي والراكب بقوله : فإن خفتم فرجالا أو ركبانا ، ثم قال : فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم الآية يعني : فإذا أمنتم فأقيموا صلاتكم كما أمرتكم بركوعها وسجودها ، وقيامها وقعودها على أكمل هيئة وأتمها ، وخير ما يبين القرآن القرآن ، [ ص: 249 ] ويدل على أن المراد بالقصر في هذه الآية القصر من كيفيتها كما ذكرنا ، أن البخاري صدر باب صلاة الخوف بقوله : باب صلاة الخوف ، وقول الله تعالى : وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا [ 4 \ 101 ، 102 ] ، وما ذكره ابن حجر وغيره من أن البخاري ساق الآيتين في الترجمة ; ليشير إلى خروج صلاة الخوف عن هيئة بقية الصلوات بالكتاب قولا ، وبالسنة فعلا ، لا ينافي ما أشرنا إليه من أنه ساق الآيتين في الترجمة لينبه على أن قصر الكيفية الوارد في أحاديث الباب هو المراد بقصر الصلاة في قوله : فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ، ويؤيده أيضا أن قصر عددها لا يشترط فيه الخوف ، وقد كان صلى الله عليه وسلم يقصر هو وأصحابه في السفر وهم في غاية الأمن ، كما وقع في حجة الوداع وغيرها ، وكما قال - صلى الله عليه وسلم - لأهل مكة : " أتموا فإنا قوم سفر " .

وممن قال بأن المراد بالقصر في هذه الآية قصر الكيفية لا الكمية : مجاهد ، والضحاك ، والسدي ، نقله عنهم ابن كثير وهو قول أبي بكر الرازي الحنفي . ونقل ابن جرير نحوه عن ابن عمر ولما نقل ابن كثير هذا القول عمن ذكرنا قال : واعتضدوا بما رواه الإمام مالك عن صالح بن كيسان ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت : " فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في السفر والحضر ، فأقرت صلاة السفر ، وزيد في صلاة الحضر " .

وقد روى هذا الحديث البخاري عن عبد الله بن يوسف التنيسي ، ومسلم عن يحيى بن يحيى ، وأبو داود عن القعنبي ، والنسائي عن قتيبة أربعتهم عن مالك به قالوا : " فإذا كان أصل الصلاة في السفر اثنتين فكيف يكون المراد بالقصر هنا قصر الكمية ؟ لأن ما هو الأصل لا يقال فيه : فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة .
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #34  
قديم 21-08-2021, 11:21 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,403
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (30)

سورة النساء (4)




وأصرح من ذلك دلالة على هذا ما رواه الإمام أحمد ، حدثنا وكيع ، وسفيان ، [ ص: 250 ] وعبد الرحمن عن زبيد اليامي ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن عمر - رضي الله عنه - قال : " صلاة السفر ركعتان ، وصلاة الأضحى ركعتان ، وصلاة الفطر ركعتان ، وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر ، على لسان محمد صلى الله عليه وسلم " .

وهكذا رواه النسائي ، وابن ماجه ، وابن حبان في " صحيحه " من طرق عن زبيد اليامي به ، وهذا إسناد على شرط مسلم ، وقد حكم مسلم في مقدمة كتابه بسماع ابن أبي ليلى عن عمر ، وقد جاء مصرحا به في هذا الحديث وغيره وهو الصواب إن شاء الله تعالى ، وإن كان يحيى بن معين ، وأبو حاتم ، والنسائي قد قالوا : إنه لم يسمع منه .

وعلى هذا أيضا فقال : فقد وقع في بعض طرق أبي يعلى الموصلي ، من طريق الثوري عن زبيد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن الثقة عن عمر فذكره ، وعند ابن ماجه من طريق يزيد بن زياد بن أبي الجعد عن زبيد ، عن عبد الرحمن ، عن كعب بن عجرة ، عن عمر فالله أعلم .

وقد روى مسلم في " صحيحه " ، وأبو داود والنسائي ، وابن ماجه من حديث أبي عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري زاد مسلم ، والنسائي ، وأيوب بن عائذ ، كلاهما عن بكير بن الأخنس عن مجاهد عن عبد الله بن عباس قال : " فرض الله الصلاة على لسان نبيكم محمد - صلى الله عليه وسلم - في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين ، وفي الخوف ركعة فكما يصلى في الحضر قبلها وبعدها فكذلك يصلى في السفر " .

ورواه ابن ماجه من حديث أسامة بن زيد عن طاوس نفسه فهذا ثابت عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ولا ينافي ما تقدم عن عائشة رضي الله عنها ; لأنها أخبرت " أن أصل الصلاة ركعتان ، ولكن زيد في صلاة الحضر فلما استقر ذلك صح أن يقال : إن فرض صلاة الحضر أربع " ، كما قاله ابن عباس ، والله أعلم .

ولكن اتفق حديث ابن عباس ، وعائشة على أن صلاة السفر ركعتان ، وأنها تامة غير مقصورة كما هو مصرح به في حديث عمر - رضي الله عنه - واعلم أن حديث عائشة المذكور تكلم فيه من ثمان جهات :

الأولى : أنه معارض بالإجماع . قال القاضي أبو بكر بن العربي المالكي في كتابه المسمى " بالقبس " . قال علماؤنا هذا الحديث مردود بالإجماع .

الثانية : أنها هي خالفته ، والراوي من أعلم الناس بما روى فهي رضي الله عنها [ ص: 251 ] كانت تتم في السفر ، قالوا : ومخالفتها لروايتها توهن الحديث .

الثالثة : إجماع فقهاء الأمصار على أنه ليس بأصل يعتبر في صلاة المسافر خلف المقيم .

الرابعة : أن غيرها من الصحابة خالفها ، كعمر ، وابن عباس ، وجبير بن مطعم ، فقالوا : " إن الصلاة فرضت في الحضر أربعا ، وفي السفر ركعتين ، وفي الخوف ركعة " ، وقد قدمنا رواية مسلم وغيره له عن ابن عباس .

الخامسة : دعوى أنه مضطرب ; لأنه رواه ابن عجلان ، عن صالح بن كيسان ، عن عروة ، عن عائشة ، قالت : " فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاة ركعتين " ، وقال فيه الأوزاعي ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة ، قالت : " فرض الله الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين ركعتين " الحديث . قالوا : فهذا اضطراب .

السادسة : أنه ليس على ظاهره ; لأن المغرب ، والصبح لم يزد فيهما ، ولم ينقص .

السابعة : أنه من قول عائشة لا مرفوع .

الثامنة : قول إمام الحرمين : لو صح لنقل متواترا .

قال مقيده - عفا الله عنه - : وهذه الاعتراضات الموردة على حديث عائشة المذكور كلها ساقطة ، أما معارضته بالإجماع فلا يخفى سقوطها ; لأنه لا يصح فيه إجماع وذكر ابن العربي نفسه الخلاف فيه .

وقال القرطبي بعد ذكر دعوى ابن العربي الإجماع المذكور قلت : وهذا لا يصح ، وقد ذكر هو وغيره الخلاف والنزاع فلم يصح ما ادعوه من الإجماع .

وأما معارضته بمخالفة عائشة له فهي أيضا ظاهرة السقوط ; لأن العبرة بروايتها لا برأيها كما هو التحقيق عند الجمهور ، وقد بيناه في سورة " البقرة " في الكلام على حديث طاوس المتقدم في الطلاق .

وأما معارضته بإجماع فقهاء الأمصار على أنه ليس بأصل يعتبر في صلاة المسافر خلف المقيم ، فجوابه أن فقهاء الأمصار لم يجمعوا على ذلك ، فقد ذهب جماعة من العلماء إلى أن المسافر لا يصح اقتداؤه بالمقيم لمخالفتهما في العدد ، والنية ، واحتجوا [ ص: 252 ] بحديث : " لا تختلفوا على إمامكم " وممن ذهب إلى ذلك الشعبي وطاوس وداود الظاهري وغيرهم .

وأما معارضته بمخالفة بعض الصحابة لها كابن عباس ، فجوابه ما قدمناه آنفا عن ابن كثير من أن صلاة الحضر لما زيد فيها واستقر ذلك صح أن يقال : إن فرض صلاة الحضر أربع كما قال ابن عباس .

وأما تضعيفه بالاضطراب فهو ظاهر السقوط ; لأنه ليس فيه اضطراب أصلا ، ومعنى فرض الله وفرض رسول الله واحد ; لأن الله هو الشارع والرسول هو المبين ، فإذا قيل فرض رسول الله كذا فالمراد أنه مبلغ ذلك عن الله فلا ينافي أن الله هو الذي فرض ذلك كما قال تعالى : من يطع الرسول فقد أطاع الله [ 4 \ 80 ] ، ونظيره حديث : " إن إبراهيم حرم مكة " مع حديث : " إن مكة حرمها الله " الحديث .

وأما رده بأن المغرب والصبح لم يزد فيهما فهو ظاهر السقوط أيضا ; لأن المراد بالحديث الصلوات التي تقصر خاصة كما هو ظاهر ، مع أن بعض الروايات عن عائشة عند ابن خزيمة ، وابن حبان ، والبيهقي . قالت : " فرضت صلاة السفر والحضر ركعتين ركعتين ، فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة واطمأن زيد في صلاة الحضر ركعتان ركعتان ، وتركت صلاة الفجر لطول القراءة وصلاة المغرب ; لأنها وتر النهار " وعند أحمد من طريق ابن كيسان في حديث عائشة المذكور " إلا المغرب فإنها كانت ثلاثا " .

وهذه الروايات تبين أن المراد خصوص الصلوات التي تقصر ، وأما رده بأنه غير مرفوع فهو ظاهر السقوط ; لأنه مما لا مجال فيه للرأي فله حكم المرفوع ، ولو سلمنا أن عائشة لم تحضر فرض الصلاة فإنها يمكن أن تكون سمعت ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم - في زمنها معه ، ولو فرضنا أنها لم تسمعه منه فهو مرسل صحابي ومراسيل الصحابة لها حكم الوصل .

وأما قول إمام الحرمين إنه لو ثبت لنقل متواترا فهو ظاهر السقوط ; لأن مثل هذا لا يرد بعدم التواتر ، فإذا عرفت مما تقدم أن صلاة السفر فرضت ركعتين كما صح به الحديث عن عائشة وابن عباس وعمر - رضي الله عنهم - فاعلم أن ابن كثير بعد أن ساق الحديث عن عمر ، وابن عباس ، وعائشة قال ما نصه :

وإذا كان كذلك فيكون المراد بقوله : فليس عليكم جناح [ 4 \ 101 ] ، أن [ ص: 253 ] تقصروا من الصلاة قصر الكيفية كما في صلاة الخوف ; ولهذا قال : إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا الآية . ولهذا قال بعدها : وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة الأية [ 4 \ 102 ] . فبين المقصود من القصر هاهنا ، وذكر صفته وكيفيته . اه محل الغرض منه بلفظه وهو واضح جدا فيما ذكرنا وهو اختيار ابن جرير .



وعلى هذا القول ، فالآية في صلاة الخوف وقصر الصلاة في السفر عليه مأخوذ من السنة لا من القرآن ، وفي معنى الآية الكريمة أقوال أخر :

أحدها : أن معنى أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا [ 4 \ 101 ] ، الاقتصار على ركعة واحدة في صلاة الخوف كما قدمنا آنفا من حديث ابن عباس عند مسلم ، والنسائي ، وأبي داود ، وابن ماجه ، وقدمنا أنه رواه ابن ماجه عن طاوس .

وقد روى نحوه أبو داود ، والنسائي من حديث حذيفة قال : " فصلى بهؤلاء ركعة ، وهؤلاء ركعة ولم يقضوا " ورواه النسائي أيضا من حديث زيد بن ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

وممن قال بالاقتصار في الخوف على ركعة واحدة ، الثوري وإسحاق ومن تبعهما . وروي عن أحمد بن حنبل وعطاء ، وجابر ، والحسن ، ومجاهد ، والحكم ، وقتادة ، وحماد ، والضحاك .

وقال بعضهم : يصلى الصبح في الخوف ركعة ، وإليه ذهب ابن حزم ، ويحكى عن محمد بن نصر المروزي وبالاقتصار على ركعة واحدة في الخوف .

قال أبو هريرة وأبو موسى الأشعري وغير واحد من التابعين ومنهم من قيده بشدة الخوف .

وعلى هذا القول ، فالقصر في قوله تعالى : أن تقصروا من الصلاة [ 4 \ 101 ] ، قصر كمية .

وقال جماعة : إن المراد بالقصر في قوله : أن تقصروا من الصلاة ، هو قصر الصلاة في السفر . قالوا : ولا مفهوم مخالفة للشرط الذي هو قوله : إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ; لأنه خرج مخرج الغالب حال نزول هذه الآية ، فإن في مبدأ [ ص: 254 ] الإسلام بعد الهجرة كان غالب أسفارهم مخوفة .

وقد تقرر في الأصول ، أن من الموانع لاعتبار مفهوم المخالفة خروج المنطوق مخرج الغالب ، ولذا لم يعتبر الجمهور مفهوم المخالفة في قوله : اللاتي في حجوركم [ 4 \ 23 ] ; لجريانه على الغالب .

قال في " مراقي السعود " : في ذكر موانع اعتبار مفهوم المخالفة : [ الرجز ]


أو جهل الحكم أو النطق انجلب للسؤل أو جرى على الذي غلب


واستدل من قال : إن المراد بالآية قصر الرباعية في السفر بما أخرجه مسلم في " صحيحه " ، والإمام أحمد ، وأصحاب السنن الأربعة ، عن يعلى بن أمية قال : قلت لعمر بن الخطاب : فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ، فقد أمن الناس ، قال : عجبت ما عجبت منه ، فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ، فقال : " صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " .

فهذا الحديث الثابت في " صحيح مسلم " ، وغيره يدل على أن يعلى بن أمية ، وعمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - كانا يعتقدان أن معنى الآية قصر الرباعية في السفر ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقر عمر على فهمه لذلك ، وهو دليل قوي ، ولكنه معارض بما تقدم عن عمر من أنه قال : " صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - " ويؤيده حديث عائشة ، وحديث ابن عباس المتقدمان .

وظاهر الآيات المتقدمة الدالة على أن المراد بقوله أن تقصروا من الصلاة قصر الكيفية في صلاة الخوف ، كما قدمنا ، والله تعالى أعلم ، وهيئات صلاة الخوف كثيرة ، فإن العدو تارة يكون إلى جهة القبلة ، وتارة إلى غيرها ، والصلاة قد تكون رباعية ، وقد تكون ثلاثية ، وقد تكون ثنائية ، ثم تارة يصلون جماعة ، وتارة يلتحم القتال ، فلا يقدرون على الجماعة بل يصلون فرادى رجالا ، وركبانا مستقبلي القبلة ، وغير مستقبليها ، وكل هيئات صلاة الخوف الواردة في الصحيح جائزة ، وهيئاتها ، وكيفياتها مفصلة في كتب الحديث والفروع ، وسنذكر ما ذهب إليه الأئمة الأربعة منها إن شاء الله .

أما مالك بن أنس ، فالصورة التي أخذ بها منها هي أن الطائفة الأولى تصلي مع الإمام ركعة في الثنائية ، وركعتين في الرباعية والثلاثية ، ثم تتم باقي الصلاة ، وهو اثنتان في الرباعية ، وواحدة في الثنائية والثلاثية ، ثم يسلمون ويقفون وجاه العدو ، وتأتي [ ص: 255 ] الطائفة الأخرى فيجدون الإمام قائما ينتظرهم ، وهو مخير في قيامه بين القراءة ، والدعاء ، والسكوت إن كانت ثنائية ، وبين الدعاء والسكوت إن كانت رباعية أو ثلاثية ، وقيل : ينتظرهم في الرباعية والثلاثية جالسا فيصلي بهم باقي الصلاة ، وهو ركعة في الثنائية ، والثلاثية ، وركعتان في الرباعية ، ثم يسلم ويقضون ما فاتهم بعد سلامه ، وهو ركعة في الثنائية ، وركعتان في الرباعية والثلاثية . فتحصل أن هذه الصورة ، أنه يصلي بالطائفة الأولى ركعة أو اثنتين ، ثم يتمون لأنفسهم ويسلمون ، ويقفون في وجه العدو ، ثم تأتي الأخرى فيصلي بهم الباقي ، ويسلم ويتمون لأنفسهم .

قال ابن يونس في هذه الصورة التي ذكرنا : وحديث القاسم أشبه بالقرآن ، وإلى الأخذ به رجع مالك . اهـ .

قال مقيده - عفا الله عنه - : مراد ابن يونس ، أن الحديث الذي رواه مالك في " الموطأ " ، عن يحيى بن سعيد ، عن القاسم بن محمد بن أبي بكر ، عن صالح بن خوات ، عن سهل بن أبي حثمة ، بالكيفية التي ذكرنا ، هو الذي رجع إليه مالك ، ورجحه أخيرا على ما رواه ، أعني مالكا ، عن يزيد بن رومان ، عن صالح بن خوات ، عمن صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم ذات الرقاع صلاة الخوف . الحديث ، والفرق بين رواية القاسم بن محمد ، وبين رواية يزيد بن رومان ، أن رواية يزيد بن رومان فيها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بالطائفة الأخرى الركعة التي بقيت من صلاته ، ثم ثبت جالسا وأتموا لأنفسهم ، ثم سلم بهم ، وقد عرفت أن رواية القاسم عند مالك في " الموطأ " ، أنه يصلي بالطائفة الأخرى الركعة الباقية ثم يسلم فيتمون بعد سلامه لأنفسهم .

قال ابن عبد البر مشيرا إلى الكيفية التي ذكرنا ، وهي رواية القاسم بن محمد ، عند مالك ، وهذا الذي رجع إليه مالك بعد أن قال بحديث يزيد بن رومان ، وإنما اختاره ورجع إليه للقياس على سائر الصلوات : إن الإمام لا ينتظر المأموم ، وإن المأموم إنما يقضي بعد سلام الإمام ، وحديث القاسم هذا الذي أخرجه مالك في ( الموطأ ) موقوف على سهل ، إلا أن له حكم الرفع ; لأنه لا مجال للرأي فيه والتحقيق أنه مرسل صحابي ; لأن سهلا كان صغيرا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجزم الطبري ، وابن حبان ، وابن السكن ، وغيرهم بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - توفي وسهل المذكور ابن ثمان سنين ، وزعم ابن حزم أنه لم يرد عن أحد من السلف القول بالكيفية التي ذكرنا أنها رجع إليها مالك ، ورواها في " موطئه " عن القاسم بن محمد ، هذا هو حاصل مذهب مالك في كيفية صلاة الخوف . [ ص: 256 ] قال أولا : بأن الإمام يصلي بالطائفة الأولى ، ثم تتم لأنفسها ، ثم تسلم ، ثم يصلي بقية الصلاة بالطائفة الأخرى وينتظرها حتى تتم ، ثم يسلم بها ورجع إلى أن الإمام يسلم إذا صلى بقية صلاته مع الطائفة الأخرى ، ولا ينتظرهم حتى يسلم بهم بل يتمون لأنفسهم بعد سلامه ، كما بينا .

والظاهر أن المبهم في رواية يزيد بن رومان في قول صالح بن خوات ، عمن صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديث ، أنه أبوه خوات بن جبير الصحابي ، رضي الله عنه ، لا سهل بن أبي حثمة ، كما قاله بعضهم .

قال الحافظ في " الفتح " : ولكن الراجح أنه أبوه خوات بن جبير ; لأن أبا أويس ، روى هذا الحديث ، عن يزيد بن رومان شيخ مالك فيه فقال : عن صالح بن خوات ، عن أبيه ، أخرجه ابن منده في " معرفة الصحابة " من طريقه ، وكذلك أخرجه البيهقي ، من طريق عبيد الله بن عمر ، عن القاسم بن محمد ، عن صالح بن خوات ، عن أبيه ، وجزم النووي في " تهذيبه " بأنه أبوه خوات ، وقال : إنه محقق من رواية مسلم وغيره ، قلت : وسبقه إلى ذلك الغزالي ، فقال إن صلاة ذات الرقاع في رواية خوات بن جبير . اه محل الغرض منه بلفظه .

ولم يفرق المالكية بين كون العدو إلى جهة القبلة وبين كونه إلى غيرها ، وأما إذا اشتد الخوف والتحم القتال ، ولم يمكن لأحد منهم ترك القتال فإنهم يصلونها رجالا وركبانا إيماء مستقبلي القبلة وغير مستقبليها ، كما نص عليه تعالى بقوله : فإن خفتم فرجالا أو ركبانا الآية [ 2 \ 239 ] .
وأما الشافعي رحمه الله فإنه اختار من هيئات صلاة الخوف أربعا :

إحداها : هي التي ذكرنا آنفا عند اشتداد الخوف والتحام القتال ، حتى لا يمكن لأحد منهم ترك القتال ، فإنهم يصلون كما ذكرنا رجالا وركبانا إلخ الهيئة .

الثانية : هي التي صلاها - صلى الله عليه وسلم - ببطن نخل ، وهي أن يصلي بالطائفة الأولى صلاتهم كاملة ثم يسلمون جميعهم : الإمام والمأمومون ثم تأتي الطائفة الأخرى التي كانت في وجه العدو فيصلي بهم مرة أخرى هي لهم فريضة وله نافلة ، وصلاة بطن نخل هذه رواها جابر وأبو بكرة ، فأما حديث جابر فرواه مسلم أنه صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف ، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإحدى الطائفتين ركعتين ثم صلى بالطائفة الأخرى ركعتين ، فصلى [ ص: 257 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربع ركعات وصلى بكل طائفة ركعتين .

وذكره البخاري مختصرا ورواه الشافعي والنسائي وابن خزيمة من طريق الحسن عن جابر وفيه أنه سلم من الركعتين أولا ثم صلى ركعتين بالطائفة الأخرى .

وأما حديث أبي بكرة فرواه أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم والدارقطني ، وفي رواية بعضهم أنها الظهر ، وفي رواية بعضهم أنها المغرب ، وإعلال ابن القطان لحديث أبي بكرة هذا بأنه أسلم بعد وقوع صلاة الخوف بمدة ، مردود بأنا لو سلمنا أنه لم يحضر صلاة الخوف فحديثه مرسل صحابي ومراسيل الصحابة لهم حكم الوصل كما هو معلوم ، واعلم أن حديث أبي بكرة ليس فيه أن ذلك كان ببطن نخل .

وقد استدل الشافعية بصلاة بطن نخل هذه على جواز صلاة المفترض خلف المتنفل .

واعلم أن هذه الكيفية التي ذكرنا أنها هي كيفية صلاة بطن نخل كما ذكره النووي وابن حجر وغيرهما ، قد دل بعض الروايات عند مسلم والبخاري وغيرهما ، على أنها هي صلاة ذات الرقاع ، وجزم ابن حجر بأنهما صلاتان ، والله تعالى أعلم .

وقد دل بعض الروايات على أن صلاة نخل هي صلاة عسفان ، والله تعالى أعلم .

الهيئة الثالثة : من الهيئات التي اختارها الشافعي : صلاة عسفان ، وكيفيتها كما قال جابر رضي الله عنه قال : " شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف ، فصفنا صفين ، صف خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والعدو بيننا وبين القبلة ، فكبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وكبرنا جميعا ثم ركع وركعنا جميعا ، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا ، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه ، وقام الصف المؤخر في نحر العدو ، فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - السجود وقام الصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا ، ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المتقدم ، ثم ركع النبي - صلى الله عليه وسلم - وركعنا جميعا ، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا ، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه الذي كان مؤخرا في الركعة الأولى ، وقام الصف المؤخر في نحور العدو فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - السجود والصف الذي يليه ، انحدر الصف المؤخر بالسجود فسجدوا ، ثم سلم النبي - صلى الله عليه وسلم - وسلمنا جميعا " ، هذا لفظ مسلم في " صحيحه " ، وأخرج النسائي والبيهقي من رواية ابن عباس ورواه أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم من رواية أبي عياش الزرقي واسمه زيد بن الصامت وهو صحابي . [ ص: 258 ] وقول ابن حجر في " التقريب " في الكنى : إنه تابعي ، الظاهر أنه سهو منه رحمه الله ، وإنما قلنا : إن هذه الكيفية من الكيفيات التي اختارها الشافعي مع أنها مخالفة للصورة التي صحت عنه في صلاة عسفان ; لأنه أوصى على العمل بالحديث إذا صح ، وأنه مذهبه ، والصورة التي صحت عن الشافعي رحمه الله في " مختصر المزني " " والأم " أنه قال : صلى بهم الإمام وركع وسجد بهم جميعا إلا صفا يليه أو بعض صف ينتظرون العدو ، فإذا قاموا بعد السجدتين سجد الصف الذي حرسهم ، فإذا ركع ركع بهم جميعا وإذا سجد سجد معه الذين حرسوا أولا إلا صفا أو بعض صف يحرسه منهم ، فإذا سجدوا سجدتين وجلسوا سجد الذين حرسوا ثم يتشهدون ثم سلم بهم جميعا معا ، وهذا نحو صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعسفان ، قال : ولو تأخر الصف الذي حرس إلى الصف الثاني وتقدم الثاني فحرس فلا بأس . انتهى بواسطة نقل النووي .

والظاهر أن الشافعي رحمه الله يرى أن الصورتين أعني : التي ذكرنا في حديث جابر وابن عباس وأبي عياش الزرقي والتي نقلناها عن الشافعي كلتاهما جائزة واتباع ما ثبت في الصحيح أحق من غيره ، وصلاة عسفان المذكورة صلاة العصر .

وقد جاء في بعض الروايات عند أبي داود وغيره أن مثل صلاة عسفان التي ذكرنا صلاها أيضا - صلى الله عليه وسلم - يوم بني سليم .

الرابعة : من الهيئات التي اختارها الشافعي - رحمه الله - هي : صلاة ذات الرقاع ، والكيفية التي اختارها الشافعي منها هي التي قدمنا رواية مالك لها عن يزيد بن رومان ، وهي أن يصلي بالطائفة الأولى ركعة ثم يفارقونه ويتمون لأنفسهم ويسلمون ، ويذهبون إلى وجوه العدو وهو قائم في الثانية يطيل القراءة حتى يأتي الآخرون فيصلي بهم الركعة الباقية ويجلس ينتظرهم حتى يصلوا ركعتهم الباقية ، ثم يسلم بهم ، وهذه الكيفية قد قدمنا أن مالكا رواها عن يزيد بن رومان عن صالح بن خوات بن جبير عمن صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف يوم ذات الرقاع ، وأخرجها الشيخان من طريقه ، فقد رواه البخاري عن قتيبة عن مالك ومسلم عن يحيى بن يحيى عن مالك نحو ما ذكرنا ، وقد قدمنا أن مالكا قال بهذه الكيفية أولا ثم رجع عنها إلى أن الإمام يسلم ولا ينتظر إتمام الطائفة الثانية صلاتهم حتى يسلم بهم . وصلاة ذات الرقاع لها كيفية أخرى غير هذه التي اختار الشافعي وهي ثابتة في " الصحيحين " من حديث ابن عمر قال : صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة ، والطائفة الأخرى مواجهة العدو ، [ ص: 259 ] ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم ، مقبلين على العدو ، وجاء أولئك ثم صلى بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ركعة ، ثم سلم النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #35  
قديم 21-08-2021, 11:23 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,403
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (31)

سورة النساء (5)



وهذا لفظ مسلم ولفظ البخاري بمعناه ، ولم تختلف الطرق عن ابن عمر في هذا ، وظاهره أنهم أتموا لأنفسهم في حالة واحدة ويحتمل أنهم أتموا على التعاقب ، وهو الراجح من حيث المعنى ; لأن إتمامهم في حالة واحدة يستلزم تضييع الحراسة المطلوبة وإفراد الإمام وحده ، ويرجحه ما رواه أبو داود من حديث ابن مسعود ولفظه : ثم سلم فقام هؤلاء أي : الطائفة الثانية فصلوا لأنفسهم ركعة ، ثم سلموا ثم ذهبوا ورجع أولئك إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا . وظاهره أن الطائفة الثانية والت بين ركعتيها ثم أتمت الطائفة الأولى بعدها ، واعلم أن ما ذكره الرافعي وغيره من كتب الفقه من أن في حديث ابن عمر هذا أن الطائفة الثانية تأخرت وجاءت الطائفة الأولى فأتموا ركعة ثم تأخروا وعادت الطائفة الثانية فأتموا - مخالف للروايات الثابتة في " الصحيحين " وغيرهما .

وقال ابن حجر في ( الفتح ) : إنه لم يقف عليه في شيء من الطرق ، وأما الإمام أحمد رحمه الله فإن جميع أنواع صلاة الخوف الثابتة عنه - صلى الله عليه وسلم - جائزة عنده ، والمختار منها عنده صلاة ذات الرقاع التي قدمنا اختيار الشافعي لها أيضا ، وهي أن يصلي الإمام بالطائفة الأولى ركعة ثم يتمون لأنفسهم ويسلمون ويذهبون إلى وجوه العدو ; ثم تأتي الطائفة الأخرى فيصلي بهم الركعة الأخرى ثم يصلون ركعة فإذا أتموها وتشهدوا سلم بهم .
وأما الإمام أبو حنيفة رحمه الله فالمختار منها عنده ، أن الإمام يصلي بالطائفة الأولى ركعة إن كان مسافرا ، أو كانت صبحا مثلا ، واثنتين إن كان مقيما ، ثم تذهب هذه الطائفة الأولى إلى وجوه العدو ، ثم تجيء الطائفة الأخرى ويصلي بهم ما بقي من الصلاة ويسلم ، وتذهب هذه الطائفة الأخيرة إلى وجوه العدو ، وتجيء الطائفة الأولى ، وتتم بقية صلاتها بلا قراءة ; لأنهم لاحقون ، ثم يذهبون إلى وجوه العدو ، وتجيء الطائفة الأخرى فيتمون بقية صلاتهم بقراءة ; لأنهم مسبوقون ، واحتجوا لهذه الكيفية بحديث ابن عمر المتقدم وقد قدمنا أن هذه الكيفية ليست في رواية " الصحيحين " وغيرهما لحديث ابن عمر .

وقد قدمنا أيضا من حديث ابن مسعود عند أبي داود أن الطائفة الأخرى لما صلوا [ ص: 260 ] مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الركعة الأخرى أتموا لأنفسهم فوالوا بين الركعتين ، ثم ذهبوا إلى وجوه العدو فجاءت الطائفة الأولى فصلوا ركعتهم الباقية ، هذا هو حاصل المذاهب الأربعة في صلاة الخوف .

وقال النووي في " شرح المهذب " صلاة ذات الرقاع أفضل من صلاة بطن نخل على أصح الوجهين ; لأنها أعدل بين الطائفتين ; ولأنها صحيحة بالإجماع وتلك صلاة مفترض خلف متنفل وفيها خلاف للعلماء . والثاني ، وهو قول أبي إسحاق صلاة بطن نخل أفضل لتحصل كل طائفة فضيلة جماعة تامة . واعلم أن الإمام في الحضرية يصلي بكل واحدة من الطائفتين ركعتين ، وفي السفرية ركعة ركعة ، ويصلي في المغرب بالأولى ركعتين عند الأكثر .

وقال بعضهم : يصلي بالأولى في المغرب ركعة ، واعلم أن التحقيق أن غزوة ذات الرقاع بعد خيبر ، وإن جزم جماعة كثيرة من المؤرخين بأن غزوة ذات الرقاع قبل خيبر ، والدليل على ذلك الحديث الصحيح أن قدوم أبي موسى الأشعري على النبي - صلى الله عليه وسلم - حين افتتح خيبر مع الحديث الصحيح أن أبا موسى شهد غزوة ذات الرقاع .

قال البخاري في " صحيحه " : حدثني محمد بن العلاء ، حدثنا أبو أسامة ، حدثنا بريد بن عبد الله عن أبي بردة ; عن أبي موسى رضي الله عنه قال : " بلغنا مخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن باليمن ، فخرجنا مهاجرين إليه أنا وأخوان لي أنا أصغرهم ، أحدهما أبو بردة ، والآخر أبو رهم ، إما قال في بضع ، وإما قال في ثلاثة وخمسين ، أو اثنين وخمسين رجلا من قومي ، فركبنا سفينة فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة ، فوافقنا جعفر بن أبي طالب فأقمنا معه حتى قدمنا جميعا ، فوافقنا النبي - صلى الله عليه وسلم - حين افتتح خيبر " الحديث . . . ، وفيه التصريح بأن قدوم أبي موسى حين افتتاح خيبر .

وقد قال البخاري أيضا : حدثنا محمد بن العلاء ، حدثنا أبو أسامة عن بريد بن أبي بردة عن أبي بريدة عن أبي موسى رضي الله عنه قال : " خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزاة ونحن في ستة نفر بيننا بعير نعتقبه فنقبت أقدامنا ونقبت قدماي وسقطت أظفاري ، وكنا نلف على أرجلنا الخرق فسميت غزوة ذات الرقاع " الحديث . فهذان الحديثان الصحيحان فيهما الدلالة الواضحة على تأخر ذات الرقاع عن خيبر ، وقد قال البخاري - رحمه الله : باب غزوة ذات الرقاع وهي غزوة محارب خصفة من بني ثعلبة من غطفان فنزل نخلا وهي بعد خيبر ; لأن أبا موسى جاء بعد خيبر الخ . وإنما بينا هذا ليعلم به أنه [ ص: 261 ] لا حجة في عدم صلاة الخوف في غزوة الخندق على أنها مشروعة في الحضر بدعوى أن ذات الرقاع قبل الخندق وأن صلاة الخوف كانت مشروعة قبل غزوة الأحزاب التي هي غزوة الخندق ، وأنه - صلى الله عليه وسلم - ما تركها مع أنهم شغلوه وأصحابه عن صلاة الظهر والعصر إلى الليل إلا لأنها لم تشرع في الحضر ، بل التحقيق أن صلاة الخوف ما شرعت إلا بعد الخندق وأشار أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه للمغازي إلى غزوة ذات الرقاع بقوله : [ الرجز ]


ثم إلى محارب وثعلبه ذات الرقاعناهزوا المضاربه ولم يكن حرب وغورث جرى
بها له الذي لدعثور جرى مع النبي وعلى المعتمد
جرت لواحد بلا تعدد


والناظم هذا يرى أنها قبل خيبر تبعا لابن سيد الناس ومن وافقه ، ومما اختلف فيه العلماء من كيفيات صلاة الخوف صلاة ذي قرد ، وهي أن تصلي كل واحدة مع الإمام ركعة واحدة وتقتصر عليها ، وقد قدمنا ذلك من حديث ابن عباس عند مسلم ، وأبي داود ، والنسائي ، وابن ماجه . ومن حديث حذيفة عند أبي داود ، والنسائي ، وهذه الكيفية هي التي صلاها حذيفة بن اليمان لما قال سعيد بن العاص بطبرستان : أيكم صلى صلاة الخوف مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال حذيفة : أنا ، وصلى بهم مثل ما ذكرنا كما أخرجه النسائي عنه ، وعن زيد بن ثابت ورواه أبو داود عن ثعلبة بن زهدم وهو الذي رواه من طريقه النسائي ، ولفظ أبي داود عن ثعلبة بن زهدم ، قال : كنا مع سعيد بن العاص بطبرستان فقام فقال : أيكم صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف ؟ فقال حذيفة : أنا . فصلى بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا .

قال أبو داود : وكذا رواه عبيد الله بن عبد الله ، ومجاهد عن ابن عباس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعبد الله بن شقيق ، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ويزيد الفقير ، وأبو موسى .

قال أبو داود : رجل من التابعين ليس بالأشعري جميعا عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد قال بعضهم عن شعبة في حديث يزيد الفقير إنهم قضوا ركعة أخرى ، وكذلك رواه سماك الحنفي عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكذلك رواه زيد بن ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : فكانت للقوم ركعة ركعة ، وللنبي - صلى الله عليه وسلم - ركعتين . اهـ منه بلفظه .

وقال القرطبي في " تفسيره " ما نصه : قال السدي إذا صليت في السفر ركعتين [ ص: 262 ] فهو تمام ، والقصر لا يحل إلا أن تخاف ، فهذه الآية مبيحة أن تصلي كل طائفة ركعة لا تزيد عليها شيئا ; ويكون للإمام ركعتان ، وروي نحوه عن ابن عمر وجابر بن عبد الله وكعب وفعله حذيفة بطبرستان ، وقد سأله الأمير سعيد بن العاص عن ذلك ، وروي عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى كذلك في غزوة ذي قرد ركعة لكل طائفة ولم يقضوا ، وروي عن جابر بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بأصحابه كذلك يوم غزوة محارب خصفة وبني ثعلبة ، وروى أبو هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى كذلك بين ضجنان وعسفان ، وبكون كل من الطائفتين تقتصر على ركعة واحدة .

قال أيضا إسحاق : وروي عن الإمام أحمد وجمهور العلماء على أن الاقتصار على ركعة واحدة في الخوف لا يجوز ، وأجابوا عن الأحاديث الواردة بذلك من وجهين :

الأول : أن المراد بقول الصحابة الذين رووا ذلك ولم يقضوا أنهم بعدما أمنوا وزال الخوف ، لم يقضوا تلك الصلاة التي صلوها في حالة الخوف وتكون فيه فائدة أن الخائف إذا أمن لا يقضي ما صلى على تلك الهيئة المخالفة لهيئة صلاة الأمن ولهذا القول له وجه من النظر .

الوجه الثاني : أن قولهم في الحديث ولم يقضوا ، أي في علم من روى ذلك ; لأنه قد روى أنهم قضوا ركعة في تلك الصلاة بعينها ، ورواية من زاد أولى قاله القرطبي وابن عبد البر ، ويدل له ما تقدم من رواية يزيد الفقير عن جابر من طريق شعبة عند أبي داود ، أنهم قضوا ركعة أخرى والمثبت مقدم على النافي ويؤيد هذه الرواية كثرة الروايات الصحيحة بعدم الاقتصار على واحدة في كيفيات صلاة الخوف ، والله تعالى أعلم .



وحاصل ما تقدم بيانه من كيفيات صلاة الخوف خمس ، وهي صلاة المسايفة الثابتة في صريح القرآن ، وصلاة بطن نخل ، وصلاة عسفان ، وصلاة ذات الرقاع ، وصلاة ذي قرد . وقد أشار الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه للمغازي إلى غزوة ذات قرد بقوله : [ الرجز ]


فغزوة الغابة وهي ذو قرد خرج في إثر لقاحه وجد

وناشها سلمة بن الأكوع
وهو يقول اليوم يوم الرضع وفرض الهادي له سهمين
لسبقه الخيل على الرجلين واستنقذوا من ابن حصن
عشرا وقسم النبي فيهم جزرا
[ ص: 263 ] وقد جزم البخاري في " صحيحه " بأن غزوة ذات قرد قبل خيبر بثلاثة ليال ، وأخرج نحو ذلك مسلم في " صحيحه " عن إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال : فرجعنا من الغزوة إلى المدينة ، فوالله ما لبثنا بالمدينة إلا ثلاث ليال حتى خرجنا إلى خيبر ، فما في الصحيح أثبت مما يذكره أهل السير مما يخالف ذلك ، كقول ابن سعد : إنها كانت في ربيع الأول سنة ست قبل الحديبية ، وكقول ابن إسحاق : إنها كانت في شعبان من سنة ست بعد غزوة لحيان بأيام .

ومال ابن حجر في " فتح الباري " إلى الجمع بين ما في الحديث الصحيح وبين ما ذكره أهل السير بتكرر الخروج إلى ذي قرد ، وقرد بفتحتين في رواية الحديث ، وأهل اللغة يذكرون أنه بضم ففتح أو بضمتين ، وقد وردت صلاة الخوف على كيفيات أخر غير ما ذكرنا .

قال ابن القصار المالكي : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاها في عشرة مواضع .

وقال ابن العربي المالكي : روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى صلاة الخوف أربعا وعشرين مرة .

قال مقيده - عفا الله عنه - : الذي يظهر والله تعالى أعلم ، إن أفضل الكيفيات الثابتة عنه - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الخوف ، ما كان أبلغ في الاحتياط للصلاة والتحفظ من العدو .
تنبيهان

الأول : آية صلاة الخوف هذه من أوضح الأدلة على وجوب الجماعة ; لأن الأمر بها في هذا الوقت الحرج دليل واضح على أنها أمر لازم ; إذ لو كانت غير لازمة لما أمر بها في وقت الخوف ; لأنه عذر ظاهر .

الثاني : لا تختص صلاة الخوف بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بل مشروعيتها باقية إلى يوم القيامة ، والاستدلال على خصوصها به - صلى الله عليه وسلم - بقوله تعالى : وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة الآية [ 4 \ 102 ] ، استدلال ساقط ، وقد أجمع الصحابة وجميع المسلمين على رد مثله في قوله : خذ من أموالهم صدقة تطهرهم الآية [ 9 \ 103 ] ، واشتراط كونه - صلى الله عليه وسلم - فيهم ، إنما ورد لبيان الحكم لا لوجوده ، والتقدير : بين لهم بفعلك لكونه أوضح من القول كما قاله ابن العربي وغيره ، وشذ عن الجمهور أبو يوسف والمزني وقال بقولهما الحسن بن زياد [ ص: 264 ] واللؤلؤي وإبراهيم بن علية فقالوا : إن صلاة الخوف لم تشرع بعده - صلى الله عليه وسلم - واحتجوا بمفهوم الشرط في قوله : وإذا كنت فيهم ، ورد عليهم بإجماع الصحابة عليها بعده - صلى الله عليه وسلم - وبقوله - صلى الله عليه وسلم - : " صلوا كما رأيتموني أصلي " ، وعموم منطوق هذا الحديث مقدم على ذلك المفهوم .
تنبيه

قد قررتم ترجيح أن آية : وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة [ 4 \ 110 ] في صلاة الخوف لا صلاة السفر ، وإذن فمفهوم الشرط في قوله : وإذا ضربتم في الأرض يفهم منه أن صلاة الخوف لا تشرع في الحضر .

فالجواب : أن هذا المفهوم قال به ابن الماجشون ، فمنع صلاة الخوف في الحضر ، واستدل بعضهم أيضا لمنعها فيه بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصلها يوم الخندق ، وفات عليه العصران وقضاهما بعد المغرب ، وبأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يصلها إلا في سفر ، وجمهور العلماء على أنها تصلى في الحضر أيضا ، وأجابوا بأن الشرط لا مفهوم مخالفة له أيضا لجريه على الغالب كما تقدم ، أو لأنه نزل في حادثة واقعة مبينا حكمها .

كما روي عن مجاهد قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بعسفان والمشركون بضجنان ، فتوافقوا ، فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه صلاة تامة بركوعها وسجودها ، فهم بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم وأثقالهم فنزلت ، وهذه الحادثة وقعت وهم مسافرون ضاربون في الأرض ، وقد تقرر في الأصول أن من موانع اعتبار مفهوم المخالفة كون المنطوق نازلا على حادثة واقعة ، ولذا لم يعتبر مفهوم المخالفة في قوله : إن أردن تحصنا [ 34 \ 33 ] ، ولا في قوله : لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين [ 3 \ 28 ] ; لأن كلا منهما نزل على حادثة واقعة :

فالأول : نزل في إكراه ابن أبي جواريه على الزنا ، وهن يردن التحصن من ذلك .

والثاني : نزل في قوم من الأنصار والوا اليهود من دون المؤمنين ، فنزل القرآن في كل منهما ناهيا عن الصورة الواقعة من غير إرادة التخصيص بها ، وأشار إليه في " المراقي " بقوله في تعداد موانع اعتبار مفهوم المخالفة : [ الرجز ]


أو امتنان أو وفاق الواقع والجهل والتأكيد عند السامع


[ ص: 265 ] وأجابوا عن كونه - صلى الله عليه وسلم - لم يصلها يوم الخندق بأن ذلك كان قبل نزول صلاة الخوف ، كما رواه النسائي وابن حبان والشافعي ، وبه تعلم عدم صحة قول من قال : إن غزوة ذات الرقاع التي صلى فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف كانت قبل الخندق ، وأجابوا عن كونه لم يصلها إلا في السفر بأن السفر بالنسبة إلى صلاة الخوف وصف طردي ، وعلتها هي الخوف لا السفر ، فمتى وجد الخوف وجد حكمها ، كما هو ظاهر .
نكتة

فإن قيل : لم لا تكون كل هيئة من هيئات صلاة الخوف ناسخة للتي قبلها ; لأنهم كانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث ، فالجواب من وجهين :

الأول : هو ما تقدم من أن العدو تارة يكونون إلى جهة القبلة وتارة إلى غير جهتها إلى آخر ما تقدم ، وكل حالة تفعل فيها الهيئة المناسبة لها كما هو ظاهر .

الثاني : هو ما حققه بعض الأصوليين كابن الحاجب والرهوني وغيرهما من أن الأفعال لا تعارض بينها أصلا ، إذ الفعل لا يقع في الخارج إلا شخصيا لا كليا حتى ينافي فعلا آخر ، فليس للفعل الواقع قدر مشترك بينه وبين غيره ، فيجوز أن يقع الفعل واجبا في وقت ، وفي وقت آخر بخلافه ، وإذن فلا مانع من جواز الفعلين المختلفين في الهيئة لعبادة واحدة وعقده في " مراقي السعود " بقوله :


ولم يكن تعارض الأفعال في كل حالة من الأحوال


وما ذكره المحلي من دلالة الفعل على الجواز المستمر دون القول بحث فيه صاحب ( نشر البنود ) في شرح البيت المتقدم آنفا ، والعلم عند الله تعالى .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : أن يفتنكم الذين كفروا معناه : ينالونكم بسوء . فروع تتعلق بهذه الآية الكريمة على القول بأنها في قصر الرباعية كما يفهم من حديث يعلى بن أمية عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عند مسلم وأحمد وأصحاب السنن كما تقدم .

الفرع الأول : أجمع العلماء على مشروعية قصر الرباعية في السفر خلافا لمن شذ وقال : لا قصر إلا في حج أو عمرة ، ومن قال : لا قصر إلا في خوف ، ومن قال : لا قصر إلا في سفر طاعة خاصة ، فإنها أقوال لا معول عليها عند أهل العلم ، واختلف [ ص: 266 ] العلماء في الإتمام في السفر ، هل يجوز أو لا ؟ فذهب بعض العلماء إلى أن القصر في السفر واجب .

وممن قال بهذا القول : أبو حنيفة رحمه الله وهو قول علي ، وعمر ، وابن عمر ، ويروى عن ابن عباس وجابر ، وبه قال الثوري وعزاه الخطابي في المعالم لأكثر علماء السلف وفقهاء الأمصار ، ونسبه إلى علي وعمر وابن عمر وابن عباس وعمر بن عبد العزيز وقتادة والحسن قال : وقال حماد بن أبي سليمان : يعيد من صلى في السفر أربعا . اهـ . منه بواسطة نقل الشوكاني رحمه الله وحجة هذا القول الذي هو وجوب القصر ما قدمنا من الأحاديث عن عائشة ، وابن عباس ، وعمر رضي الله عنهم بأن الصلاة فرضت ركعتين ، فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر ، ودليل هؤلاء واضح ، وذهب جماعة من أهل العلم إلى جواز الإتمام والقصر ، كما يجوز الصوم والإفطار ، إلا أنهم اختلفوا هل القصر أو الإتمام أفضل ؟ وبهذا قال عثمان بن عفان ، وسعد بن أبي وقاص ، وعائشة رضي الله عنهم .

قال النووي في " شرح المهذب " وحكاه العبدري عن هؤلاء يعني من ذكرنا وعن ابن مسعود وابن عمر وابن عباس والحسن البصري ومالك وأحمد وأبي ثور وداود ، وهو مذهب أكثر العلماء ، ورواه البيهقي عن سلمان الفارسي في اثني عشر من الصحابة . وعن أنس والمسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود وابن المسيب وأبي قلابة ، واحتج أهل هذا القول بأمور :

الأول : قوله تعالى : فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة الآية [ 4 \ 101 ] ; لأن التعبير برفع الجناح دليل لعدم اللزوم .

الأمر الثاني : هو ما قدمنا في حديث يعلى بن أمية عن عمر بن الخطاب من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في القصر في السفر : " صدقة تصدق الله بها عليكم " . الحديث ، فكونه صدقة وتخفيفا يدل على عدم اللزوم .

الأمر الثالث : هو ما رواه النسائي والبيهقي والدارقطني عن عائشة رضي الله عنها أنها اعتمرت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأفطر هو - صلى الله عليه وسلم - وقصر الصلاة وصامت هي وأتمت الصلاة ، فأخبرته بذلك ، فقال لها : " أحسنت " .

قال النووي في " شرح المهذب " : هذا الحديث رواه النسائي والدارقطني والبيهقي [ ص: 267 ] بإسناد حسن أو صحيح ، قال : وقال البيهقي في " السنن الكبرى " : قال الدارقطني إسناده حسن ، وقال في " معرفة السنن والآثار " : هو إسناد صحيح .

قال مقيده - عفا الله عنه - : الظاهر أن ما جاء في هذا الحديث من أن عمرة عائشة المذكورة في رمضان لا يصح ; لأن المحفوظ الثابت بالروايات الصحيحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعتمر في رمضان قط ; لأنه لم يعتمر إلا أربع عمر :

الأولى : عمرة الحديبية التي صده فيها المشركون عن البيت الحرام ، عام ست .

الثانية : عمرة القضاء التي وقع عليها عقد الصلح في الحديبية ، وهي عام سبع .

الثالثة : عمرة الجعرانة بعد فتح مكة ، عام ثمان وكل هذه العمر الثلاث في شهر ذي القعدة بالإجماع وبالروايات الصحيحة .

الرابعة : عمرته مع حجه في حجة الوداع ، ورواية النسائي ليس فيها أن العمرة المذكورة في رمضان ولفظه : أخبرني أحمد بن يحيى الصوفي ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا العلاء بن زهير الأزدي ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن الأسود عن عائشة : " أنها اعتمرت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت مكة قالت : يا رسول الله ، بأبي أنت وأمي قصرت وأتممت وأفطرت وصمت . قال : " أحسنت يا عائشة " ، وما عاب علي " . اهـ .

الأمر الرابع : ما روي عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقصر في السفر ويتم ، ويفطر ويصوم .

قال النووي في " شرح المهذب " : رواه الدارقطني ، والبيهقي وغيرهما .

قال البيهقي : قال الدارقطني إسناده صحيح وضبطه ابن حجر في " التلخيص " بلفظ يقصر بالياء ، وفاعله ضمير النبي - صلى الله عليه وسلم - وتتم بتائين وفاعله ضمير يعود إلى عائشة فيكون بمعنى الحديث الأول ، ولكن جاء في بعض روايات الحديث التصريح بإسناد الإتمام المذكور للنبي - صلى الله عليه وسلم - .

قال البيهقي : أخبرنا أبو بكر بن الحارث الفقيه ، أنبأنا علي بن عمر الحافظ ، حدثنا المحاملي ، حدثنا سعيد بن محمد بن ثواب ، حدثنا أبو عاصم ، حدثنا عمر بن سعيد وعن [ ص: 268 ] عطاء بن أبي رباح ، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقصر في الصلاة ويتم ويفطر ويصوم . قال علي : هذا إسناد صحيح . اهـ .

قال البيهقي : وله شاهد من حديث دلهم بن صالح ، والمغيرة بن زياد ، وطلحة بن عمرو وكلهم ضعيف .

الخامس : إجماع العلماء على أن المسافر إذا اقتدى بمقيم لزمه الإتمام ، ولو كان القصر واجبا حتما لما جاز صلاة أربع خلف الإمام .

وأجاب أهل هذا القول عن حديث عمر وعائشة وابن عباس بأن المراد بكون صلاة السفر ركعتين أي : لمن أراد ذلك ، وعن قول عمر في الحديث : تمام غير قصر بأن معناه أنها تامة في الأجر قاله النووي ، ولا يخلو من تعسف وأجاب أهل القول الأول عن حجج هؤلاء قالوا : إن قوله تعالى : فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة [ 4 \ 101 ] في صلاة الخوف كما قدمنا ، فلا دليل فيه لقصر الرباعية ، قالوا : ولو سلمنا أنه في قصر الرباعية فالتعبير بلفظ ولا جناح عليكم [ 4 \ 102 ] ، لا ينافي الوجوب كما اعترفتم بنظيره في قوله تعالى : إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما [ 2 \ 158 ] لأن السعي فرض عند الجمهور . وعن قوله في الحديث : " صدقة تصدق الله بها عليكم " بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بقبولها في قوله : " فاقبلوا صدقته " ، والأمر يقتضي الوجوب فليس لنا عدم قبولها مع قوله - صلى الله عليه وسلم - : " فاقبلوها " ، وأجابوا عن الثالث والرابع بأن حديثي عائشة المذكورين لا يصح واحد منها واستدلوا على عدم صحة ذلك بما ثبت في الصحيح عن عروة أنها تأولت في إتمامها ما تأول عثمان ، فلو كان عندها في ذلك رواية من النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل عنها عروة أنها تأولت .

وقال ابن القيم في " زاد المعاد " ما نصه : وسمعت ابن تيمية يقول : هذا الحديث كذب على عائشة ، ولم تكن عائشة لتصلي بخلاف صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وسائر الصحابة ، وهي تشاهدهم يقصرون ثم تتم هي وحدها بلا موجب ، كيف وهي القائلة : فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فزيد في صلاة الحضر ، وأقرت صلاة السفر فكيف يظن أنها تزيد على ما فرض الله وتخالف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه .

وقال الزهري لهشام بن عروة لما حدثه عن أبيه عنها بذلك ، فما شأنها كانت تتم [ ص: 269 ] الصلاة فقال : تأولت كما تأول عثمان فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد حسن فعلها وأقرها عليه ، فما للتأويل حينئذ وجه ، ولا يصح أن يضاف إتمامها إلى التأويل على هذا التقدير ، وقد أخبر ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يزيد في السفر على ركعتين ولا أبو بكر ولا عمر ، أفيظن بعائشة أم المؤمنين مخالفتهم وهي تراهم يقصرون . وأما بعد موته - صلى الله عليه وسلم - فإنها أتمت كما أتم عثمان ، وكلاهما تأول تأويلا . والحجة في روايتهم لا في تأويل الواحد منهم مع مخالفة غيره له ، والله أعلم . اهـ . محل الغرض منه بلفظه .

قال مقيده - عفا الله عنه - : أما استبعاد مخالفة عائشة رضي الله عنها للنبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته مع الاعتراف بمخالفتها له - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته ، فإنه يوهم أن مخالفته بعد وفاته سائغة ، ولا شك أن المنع من مخالفته في حياته باق بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - فلا يحل لأحد البتة مخالفة ما جاء به من الهدى إلى يوم القيامة : فعلا كان أو قولا أو تقريرا ، ولا يظهر كل الظهور أن عائشة تخالف هدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - باجتهاد ورواية من روى أنها تأولت تقتضي نفي روايتها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا في ذلك ، والحديث المذكور فيه إثبات أنها روت عنه ذلك ، والمثبت مقدم على النافي ، فبهذا يعتضد الحديث الذي صححه بعضهم وحسنه بعضهم كما تقدم .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #36  
قديم 21-08-2021, 11:28 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,403
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (32)

سورة النساء (6)



والتحقيق أن سند النسائي المتقدم الذي روى به هذا الحديث صحيح ، وإعلال ابن حبان له بأن فيه العلاء بن زهير الأزدي ، وقال فيه : إنه يروي عن الثقات ما لا يشبه حديث الإثبات فبطل الاحتجاج به ، مردود بأن العلاء المذكور ثقة كما قاله ابن حجر في " التقريب " وغيره وإعلال بعضهم له بأن عبد الرحمن بن الأسود لم يدرك عائشة مردود بأنه أدركها .

قال الدارقطني وعبد الرحمن أدرك عائشة فدخل عليها وهو مراهق وذكر الطحاوي عن عبد الرحمن أنه دخل على عائشة بالاستئذان بعد احتلامه ، وذكر صاحب " الكمال " أنه سمع منها ، وذكر البخاري في " تاريخه " وابن أبي شيبة ما يشهد لذلك ، قاله ابن حجر وإعلال الحديث المذكور بأنه مضطرب ; لأن بعض الرواة يقول عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه عن عائشة ، وبعضهم يقول عن عبد الرحمن عن عائشة مردود أيضا ، بأن رواية من قال عن أبيه خطأ والصواب عن عبد الرحمن بن الأسود عن عائشة .

قال البيهقي بعد أن ساق أسانيد الروايتين : قال أبو بكر النيسابوري : هكذا قال [ ص: 270 ] أبو نعيم عن عبد الرحمن عن عائشة ، ومن قال عن أبيه في هذا الحديث فقد أخطأ . اهـ .

فالظاهر ثبوت هذا الحديث وهو يقوي حجة من لم يمنع إتمام الرباعية في السفر وهم أكثر العلماء ، وذهب الإمام مالك بن أنس إلى أن قصر الرباعية في السفر سنة ، وأن من أتم أعاد في الوقت ; لأن الثابت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يواظب على القصر في أسفاره وكذلك أبو بكر وعمر وعثمان في غير أيام منى ولم يمنع مالك الإتمام ; للأدلة التي ذكرنا والعلم عند الله تعالى .
الفرع الثاني : اختلف العلماء في تحديد المسافة التي تقصر فيها الصلاة . فقال مالك والشافعي وأحمد : هي أربعة برد ، والبريد أربعة فراسخ ، والفرسخ ثلاثة أميال ، وتقريبه بالزمان مسيرة يومين سيرا معتدلا ، وعندهم اختلاف في قدر الميل معروف واستدل من قال بهذا القول بما رواه مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه أنه ركب إلى ريم فقصر الصلاة في مسيره ذلك .

قال مالك : وذلك نحو من أربعة برد ، وريم موضع . قال بعض شعراء المدينة : [ الوافر ]

فكم من حرة بين المنقى إلى أحد إلى جنبات ريم

وبما رواه مالك عن نافع عن سالم بن عبد الله ، أن عبد الله بن عمر ركب إلى ذات النصب فقصر الصلاة في مسيره ذلك .

قال مالك : وبين ذات النصب والمدينة أربعة برد ، وبما قال مالك : إنه بلغه أن عبد الله بن عباس كان يقصر الصلاة في مثل ما بين مكة والطائف ، وفي مثل ما بين مكة وعسفان ، وفي مثل ما بين مكة وجدة .

قال مالك : وذلك أربعة برد وذلك أحب ما تقصر فيه الصلاة إلي ، وبما رواه مالك عن نافع أنه كان يسافر مع ابن عمر البريد فلا يقصر الصلاة . كل هذه الآثار المذكورة في " الموطأ " ، وممن قال بهذا ابن عمر وابن عباس كما ذكرناه عنهما .

وقال البخاري رحمه الله في " صحيحه " : وكان ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم يقصران ويفطران في أربعة برد ، وهي ستة عشر فرسخا . اهـ . وبه قال الحسن البصري والزهري والليث بن سعد وإسحاق وأبو ثور ، نقله عنهم النووي ، وذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه لا يجوز القصر في أقل من مسافة ثلاثة أيام ، وممن قال به أبو [ ص: 271 ] حنيفة ، وهو قول عبد الله بن مسعود ، وسويد بن غفلة ، والشعبي ، والنخعي ، والحسن بن صالح ، والثوري ، وعن أبي حنيفة أيضا يومان وأكثر الثالث ، واحتج أهل هذا القول بحديث ابن عمر وحديث أبي سعيد الثابتين في الصحيح : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا ومعها ذو محرم " ، وبحديث : " مسح المسافر على الخف ثلاثة أيام ولياليهن " ، ووجه الاحتجاج بهذا الحديث الأخير أنه يقتضي أن كل مسافر يشرع له مسح ثلاثة أيام ولا يصح العموم في ذلك إلا إذا قدر أقل مدة السفر بثلاثة أيام ; لأنها لو قدرت بأقل من ذلك لا يمكنه استيفاء مدته ; لانتهاء سفره فاقتضى ذلك تقديره بالثلاثة وإلا لخرج بعض المسافرين عنه . اهـ .

والاستدلال بالحديثين غير ظاهر فيما يظهر لي ; لأن المراد بالحديث الأول : أن المرأة لا يحل لها سفر مسافة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم ، وهذا لا يدل على تحديد أقل ما يسمى سفرا ، ويدل له أنه ورد في بعض الروايات الصحيحة لا تسافر المرأة يومين إلا ومعها زوجها أو ذو محرم .

وفي بعض الروايات الصحيحة : " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها حرمة " وفي رواية لمسلم " مسيرة يوم " ، وفي رواية له " ليلة " ، وفي رواية أبي داود لا " تسافر بريدا " ، ورواه الحاكم ، وقال : صحيح الإسناد .

وقال البيهقي في " السنن الكبرى " : وهذه الرواية في الثلاثة واليومين واليوم صحيحة ، وكأن النبي - صلى الله عليه وسلم - : سئل عن المرأة تسافر ثلاثا من غير محرم ، فقال : " لا " ، وسئل عنها تسافر يومين من غير محرم ، فقال : " لا " ، ويوما فقال : " لا " فأدى كل واحد منهم ما حفظ ولا يكون عدد من هذه الأعداد حدا للسفر . اهـ منه بلفظه .

فظهر من هذا أن الاستدلال على أقل السفر بالحديث غير متجه كما ترى لا سيما أن ابن عمر راويه قد خالفه كما تقدم ، والقاعدة عند الحنفية أن العبرة بما رأى الصحابي لا بما روى .

وأما الاستدلال بحديث توقيت مسح المسافر بثلاثة أيام بلياليهن فهو أيضا غير متجه ، لأنه إذا انتهى سفره قبلها صار مقيما وزال عنه اسم السفر وليس في الحديث أنه لا بد من أن يسافر ثلاثة بل غاية ما يفيده الحديث أن المسافر له في المسح على الخف [ ص: 272 ] مدة ثلاثة أيام ، فإن مكثها مسافرا فذلك ، وإن أتم سفره قبلها صار غير مسافر ولا إشكال في ذلك ، وذهب جماعة من أهل العلم : إلى أن القصر يجوز في مسيرة يوم تام ، وممن قال به الأوزاعي وابن المنذر واحتجوا بما تقدم في بعض الروايات الصحيحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أطلق اسم السفر على مسافة يوم والسفر هو مناط القصر ، وبما رواه مالك في " الموطأ " عن ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله ، أن عبد الله بن عمر كان يقصر الصلاة في مسيرة اليوم التام ، وظاهر صنيع البخاري أنه يختار أنها يوم وليلة ; لأنه قال : " باب في كم يقصر الصلاة وسمى النبي - صلى الله عليه وسلم - يوما وليلة سفرا " ; لأن قوله : وسمى النبي الخ . . . بعد قوله : " في كم يقصر الصلاة " ، يدل على أن ذلك هو مناط القصر عنده كما هو ظاهر .

وذهب بعض العلماء إلى جواز القصر في قصير السفر وطويله ، وممن قال بهذا داود الظاهري ، قال عنه بعض أهل العلم : حتى إنه لو خرج إلى بستان خارج البلد قصر ، واحتج أهل هذا القول بإطلاق الكتاب والسنة جواز القصر بلا تقييد للمسافة ، وبما رواه مسلم في " صحيحه " عن يحيى بن يزيد الهنائي قال : سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة فقال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ - شعبة الشاك - صلى ركعتين " ، هذا لفظ مسلم وبما رواه مسلم أيضا في " الصحيح " عن جبير بن نفير قال : " خرجت مع شرحبيل بن السمط إلى قرية على رأس سبعة عشر أو ثمانية عشر ميلا فصلى ركعتين فقلت له . فقال : رأيت عمر صلى بذي الحليفة ركعتين فقلت له ، فقال : إنما أفعل كما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل " ، وأجيب من جهة الجمهور بأنه لا دليل في حديثي مسلم المذكورين ; لأنه ليس المراد بهما أن تلك المسافة المذكورة فيهما هي غاية السفر ، بل معناه أنه كان إذا سافر سفرا طويلا فتباعد ثلاثة أميال قصر ; لأن الظاهر أنه - صلى الله عليه وسلم - كان لا يسافر عند دخول وقت الصلاة إلا بعد أن يصليها فلا تدركه الصلاة الأخرى إلا وقد تباعد من المدينة ، وكذلك حديث شرحبيل المذكور . فقوله إن عمر رضي الله عنه صلى بذي الحليفة ركعتين محمول على ما ذكرناه في حديث أنس وهو أنه كان مسافرا إلى مكة أو غيرها فمر بذي الحليفة وأدركته الصلاة فصلى ركعتين لا أن ذا الحليفة غاية سفره ، قاله النووي وغيره ، وله وجه من النظر ولم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - القصر صريحا فيما دون مرحلتين كما جزم به النووي .

قال مقيده - عفا الله عنه - قال ابن حجر في " تلخيص الحبير " : وروى سعيد بن [ ص: 273 ] منصور عن أبي سعيد قال : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سافر فرسخا يقصر الصلاة وسكت عليه " ، فإن كان صحيحا فهو ظاهر في قصر الصلاة في المسافة القصيرة ظهورا أقوى من دلالة حديثي مسلم المتقدمين .

قال مقيده - عفا الله عنه - : هذا الذي ذكرنا هو حاصل كلام العلماء في تحديد مسافة القصر ، والظاهر أنه ليس في تحديدها نص صريح ، وقد اختلف فيها على نحو من عشرين قولا ، وما رواه البيهقي والدارقطني والطبراني عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " يا أهل مكة لا تقصروا في أقل من أربعة برد " ضعيف ; لأن في إسناده عبد الوهاب بن مجاهد وهو متروك ، وكذبه الثوري .

وقال الأزدي : لا تحل الرواية عنه وراويه عنه إسماعيل بن عياش ، وروايته عن غير الشاميين ضعيفة وعبد الوهاب المذكور حجازي لا شامي ، والصحيح في هذا الحديث أنه موقوف على ابن عباس رواه عنه الشافعي بإسناد صحيح ، ورواه عنه مالك في " الموطأ " بلاغا ، وقد قدمناه .

والظاهر أن الاختلاف في تحديد المسافة من نوع الاختلاف في تحقيق المناط ، فكل ما كان يطلق عليه اسم السفر في لغة العرب يجوز القصر فيه ; لأنه ظاهر النصوص ولم يصرف عنه صارف من نقل صحيح ومطلق الخروج من البلد لا يسمى سفرا ، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يذهب إلى قباء وإلى أحد ولم يقصر الصلاة ، والحديثان اللذان قدمنا عن مسلم محتملان وحديث سعيد بن منصور المتقدم لا نعلم أصحيح هو أم لا ؟ فإن كان صحيحا كان نصا قويا في قصر الصلاة في المسافة القصيرة والطويلة ، وقصر أهل مكة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع دليل عند بعض العلماء على القصر في المسافة غير الطويلة ، وبعضهم يقول : القصر في مزدلفة ، ومنى ، وعرفات ، من مناسك الحج ، والله تعالى أعلم .

قال مقيده - عفا الله عنه - : أقوى الأقوال فيما يظهر لي حجة ، هو قول من قال : إن كل ما يسمى سفرا ولو قصيرا تقصر فيه الصلاة ; لإطلاق السفر في النصوص ، ولحديثي مسلم المتقدمين ، وحديث سعيد بن منصور ، وروى ابن أبي شيبة ، عن وكيع ، عن مسعر ، عن محارب ، سمعت ابن عمر يقول : " إني لأسافر الساعة من النهار فأقصر " .

وقال الثوري : سمعت جبلة بن سحيم ، سمعت ابن عمر يقول : " لو خرجت [ ص: 274 ] ميلا قصرت الصلاة " .

قال ابن حجر في " الفتح " : إسناد كل منهما صحيح . اهـ والعلم عند الله تعالى .
الفرع الثالث : يبتدئ المسافر القصر ، إذا جاوز بيوت بلده بأن خرج من البلد كله ، ولا يقصر في بيته إذا نوى السفر ، ولا في وسط البلد ، وهذا قول جمهور العلماء منهم الأئمة الأربعة ، وأكثر فقهاء الأمصار ، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قصر بذي الحليفة ، وعن مالك أنه إذا كان في البلد بساتين مسكونة أن حكمها حكم البلد ، فلا يقصر حتى يجاوزها ، واستدل الجمهور ; على أنه لا يقصر إلا إذا خرج من البلد ، بأن القصر مشروط بالضرب في الأرض ، ومن لم يخرج من البلد لم يضرب في الأرض ، وذهب بعض أهل العلم إلى أنه إن أراد السفر قصر وهو في منزله ، وذكر ابن المنذر ، عن الحارث بن أبي ربيعة أنه أراد سفرا فصلى بهم ركعتين في منزله وفيهم الأسود بن يزيد ، وغير واحد من أصحاب ابن مسعود قال : وروينا معناه عن عطاء ، وسليمان بن موسى قال : وقال مجاهد : لا يقصر المسافر نهارا حتى يدخل الليل ، وإن خرج بالليل لم يقصر حتى يدخل النهار ، وعن عطاء ، أنه قال : إذا جاوز حيطان داره فله القصر .

قال النووي : فهذان المذهبان فاسدان فمذهب مجاهد منابذ للأحاديث الصحيحة في قصر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذي الحليفة ، حين خرج من المدينة ، ومذهب عطاء ، وموافقيه منابذ للسفر . اهـ . منه ، وهو ظاهر كما ترى .
الفرع الرابع : اختلف العلماء في قدر المدة التي إذا نوى المسافر إقامتها لزمه الإتمام ، فذهب مالك ، والشافعي ، وأبو ثور ، وأحمد في إحدى الروايتين إلى أنها أربعة أيام ، والشافعية يقولون : لا يحسب فيها يوم الدخول ، ولا يوم الخروج ، ومالك يقول : إذا نوى إقامة أربعة أيام صحاح أتم .

وقال ابن القاسم : في العتيبة يلغى يوم دخوله ولا يحسبه ، والرواية المشهورة عن أحمد ، أنها ما زاد على إحدى وعشرين صلاة .

وقال أبو حنيفة رحمه الله : هي نصف شهر ، واحتج من قال بأنها أربعة أيام ، بما ثبت في الصحيح من حديث العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " ثلاث ليال يمكثهن المهاجر بمكة بعد الصدر " ، هذا لفظ مسلم ، وفي رواية له عنه : " للمهاجر إقامة ثلاث ليال بعد الصدر بمكة " ، وفي رواية له عنه : " يقيم [ ص: 275 ] المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا " ، وأخرجه البخاري في المناقب ، عن العلاء بن الحضرمي أيضا بلفظ : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ثلاث للمهاجر بعد الصدر " اهـ . قالوا فأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - للمهاجرين في ثلاثة أيام يدل على أن من أقامها في حكم المسافر ، وأن ما زاد عليها يكون إقامة والمقيم عليه الإتمام ، وبما أخرجه مالك في " الموطأ " بسند صحيح ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أجلى اليهود من الحجاز ، ثم أذن لمن قدم منهم تاجرا أن يقيم ثلاثا " ، وأجيب عن هذا الدليل من جهة المخالف ، بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما رخص لهم في الثلاث ; لأنها مظنة قضاء حوائجهم ، وتهيئة أحوالهم للسفر ، وكذلك ترخيص عمر لليهود في إقامة ثلاثة أيام ، والاستدلال المذكور له وجه من النظر ; لأنه يعتضد بالقياس ; لأن القصر شرع لأجل تخفيف مشقة السفر ، ومن أقام أربعة أيام ، فإنها مظنة لإذهاب مشقة السفر عنه ، واحتج الإمام أحمد ، على أنها ما زاد على إحدى وعشرين صلاة بما ثبت في الصحيح من حديث جابر ، وابن عباس رضي الله عنهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " قدم مكة في حجة الوداع صبح رابعة ، فأقام النبي - صلى الله عليه وسلم - اليوم الرابع ، والخامس ، والسادس ، والسابع ، وصلى الفجر بالأبطح يوم الثامن ، فكان يقصر الصلاة في هذه الأيام ، وقد أجمع على إقامتها ، وهي إحدى وعشرون صلاة ; لأنها أربعة أيام كاملة ، وصلاة الصبح من الثامن " ، قال : فإذا أجمع أن يقيم ، كما أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - قصر ، وإذا أجمع على أكثر من ذلك أتم .

وروى الأثرم ، عن أحمد رحمه الله أن هذا الاحتجاج كلام ليس يفقهه كل الناس ، وحمل الإمام أحمد حديث أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقام بمكة في حجة الوداع عشرا يقصر الصلاة على هذا المعنى الذي ذكرنا عنه ، وأن أنسا أراد مدة إقامته بمكة ومنى ومزدلفة .

قال مقيده - عفا الله عنه - : وهذا لا ينبغي العدول عنه لظهور وجهه ، ووضوح أنه الحق .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #37  
قديم 21-08-2021, 11:30 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,403
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (33)

سورة النساء (7)



تنبيه

حديث أنس هذا الثابت في الصحيح ، لا يعارضه ما ثبت في الصحيح أيضا ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة تسعة عشر يقصر " ، فنحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا ، وإن زدنا أتممنا ; لأن حديث ابن عباس رضي الله عنهما في غزوة الفتح ، وحديث أنس ، في حجة الوداع ، وحديث ابن عباس ، محمول على [ ص: 276 ] أنه - صلى الله عليه وسلم - ، ما كان ناويا الإقامة ; والإقامة المجردة عن نية لا تقطع حكم السفر عند الجمهور ، والله تعالى أعلم .

واحتج أبو حنيفة رحمه الله لأنها نصف شهر ، بما روى أبو داود من طريق ابن إسحاق ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة عام الفتح خمسة عشر ، يقصر الصلاة " وضعف النووي في الخلاصة ، رواية خمسة عشر .

قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " : وليس بجيد ; لأن رواتها ثقات ، ولم ينفرد ابن إسحاق ، فقد أخرجها النسائي ، من رواية عراك بن مالك ، عن عبيد الله ، عن ابن عباس كذلك ، واختار أبو حنيفة رواية خمسة عشر ، عن رواية سبعة عشر ، ورواية ثمانية عشر ، ورواية تسعة عشر ; لأنها أقل ما ورد فيحمل غيرها على أنه وقع اتفاقا ، وأرجح الروايات ، وأكثرها ورودا في الروايات الصحيحة رواية تسعة عشر وبها أخذ إسحاق بن راهويه ، وجمع البيهقي بين الروايات ، بأن من قال : تسعة عشر ، عد يوم الدخول ، ويوم الخروج ، ومن قال : سبع عشرة حذفهما ، ومن قال : ثماني عشرة حذف أحدهما .

أما رواية خمسة عشر ، فالظاهر فيها أن الراوي ظن ، أن الأصل رواية سبعة عشر فحذف منها ، يوم الدخول ، ويوم الخروج ، فصار الباقي خمسة عشر ، واعلم أن الإقامة المجردة عن النية فيها أقوال للعلماء :

أحدها : أنه يتم بعد أربعة أيام .

والثاني : بعد سبعة عشر يوما .

والثالث : ثمانية عشر .

والرابع : تسعة عشر .

والخامس : عشرين يوما .

والسادس : يقصر أبدا حتى يجمع على الإقامة .

والسابع : للمحارب أن يقصر ، وليس لغيره القصر بعد إقامة أربعة أيام .

وأظهر هذه الأقوال أنه لا يقصر حتى ينوي الإقامة ولو طال مقامه من غير نية الإقامة ، ويدل له قصر النبي - صلى الله عليه وسلم - مدة إقامته في مكة عام الفتح ، كما ثبت في الصحيح ، وما رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن حبان والبيهقي عن جابر قال : " أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بتبوك عشرين يوما يقصر الصلاة " . وقد صحح هذا الحديث النووي وابن حزم ، وأعله [ ص: 277 ] الدارقطني في العلل بالإرسال والانقطاع ، وأن علي بن المبارك وغيره من الحفاظ رووه عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان مرسلا ، وأن الأوزاعي رواه عن يحيى عن أنس فقال : " بضع عشرة " وبهذا اللفظ أخرجه البيهقي وهو ضعيف .

قال البيهقي بعد إخراجه له : ولا أراه محفوظا ، وقد روي من وجه آخر عن جابر : " بضع عشرة " . اهـ . وقد اختلف فيه على الأوزاعي ذكره الدارقطني في العلل وقال : الصحيح عن الأوزاعي عن يحيى أن أنسا كان يفعله . قال ابن حجر : ويحيى لم يسمع من أنس .

وقال النووي في " شرح المهذب " : قلت ورواية المسند تفرد بها معمر بن راشد وهو إمام مجمع على جلالته وباقي الإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم ، فالحديث صحيح ; لأن الصحيح أنه إذا تعارض في الحديث إرسال وإسناد حكم بالمسند . اهـ . منه وعقده صاحب " المراقي " بقوله : [ الرجز ]

والرفع والوصول وزيد اللفظ مقبولة عند إمام الحفظ

الخ . . .
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #38  
قديم 21-08-2021, 11:31 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,403
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (34)

سورة النساء (7)




واستدل أيضا من قال بأن الإقامة المجردة عن النية لا تقطع حكم السفر بما أخرجه أبو داود والترمذي من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما قال : " غزوت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وشهدت معه الفتح فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين يقول : " يا أهل البلدة صلوا أربعا فإنا سفر " ، فقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث " فإنا سفر " مع إقامته ثماني عشرة يدل دلالة واضحة على أن المقيم من غير نية الإقامة يصدق عليه اسم المسافر ، ويؤيده حديث : " إنما الأعمال بالنيات " ، وهذا الحديث حسنه الترمذي ، وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف .

قال ابن حجر : وإنما حسن الترمذي حديثه لشواهده ولم يعتبر الاختلاف في المدة كما علم من عادة المحدثين من اعتبارهم الاتفاق على الأسانيد دون السياق . اهـ . وعلي بن زيد المذكور أخرج له مسلم مقرونا بغيره .

وقال الترمذي في حديثه في السفر : حسن صحيح ، وقال : صدوق ربما رفع الموقوف ووثقه يعقوب بن شيبة .

وقال بعض أهل العلم : اختلط في كبره ، وقد روى عنه شعبة ، والثوري ، [ ص: 278 ] وعبد الوارث ، وخلق .

وقال الدارقطني : إنما فيه لين ، والظاهر أن قول الدارقطني هذا أقرب للصواب فيه ، لكن يتقى منه ما كان بعد الاختلاط . اهـ . إلى غير ذلك من الأدلة على أن الإقامة دون نيتها لا تقطع حكم السفر ، " وقد أقام الصحابة برامهرمز تسعة أشهر يقصرون الصلاة " . رواه البيهقي بإسناد صحيح ، وتضعيفه بعكرمة بن عمار مردود بأن عكرمة المذكور من رجال مسلم في " صحيحه " .

وقد روى أحمد في " مسنده " عن ثمامة بن شراحيل عن ابن عمر أنه قال : " كنت بأذربيجان لا أدري قال : أربعة أشهر أو شهرين فرأيتهم يصلون ركعتين ركعتين " ، وأخرجه البيهقي .

وقال ابن حجر في " التلخيص " : إن إسناده صحيح . اهـ .

ومذهب مالك الفرق بين العسكر بدار الحرب فلا يقصر وبين غيره فيقصر بنية إقامة أربعة أيام صحاح .
الفرع الخامس : إذا تزوج المسافر ببلد أو مر على بلد فيه زوجته أتم الصلاة ; لأن الزوجة في حكم الوطن ، وهذا هو مذهب مالك ، وأبي حنيفة ، وأصحابهما ، وأحمد ، وبه قال ابن عباس : وروي عن عثمان بن عفان ، واحتج من قال بهذا القول بما رواه الإمام أحمد وعبد الله بن الزبير الحميدي في " مسنديهما " عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه صلى بأهل منى أربعا وقال : يا أيها الناس ، لما قدمت تأهلت بها وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إذا تأهل الرجل ببلد فإنه يصلي بها صلاة المقيم " .

قال ابن القيم في " زاد المعاد " ، بعد أن ساق هذا الحديث : وهذا أحسن ما اعتذر به عن عثمان ، يعني : في مخالفته النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر في قصر الصلاة في منى ، وأعل البيهقي حديث عثمان هذا بانقطاعه وأن في إسناده عكرمة بن إبراهيم ، وهو ضعيف .

قال ابن القيم : قال أبو البركات بن تيمية : ويمكن المطالبة بسبب الضعف ، فإن البخاري ذكره في " تاريخه " ولم يطعن فيه ، وعادته ذكر الجرح والمجروحين ، وقد نص أحمد وابن عباس قبله أن المسافر إذا تزوج لزمه الإتمام ، وهذا قول أبي حنيفة ، ومالك وأصحابهما . اهـ . منه بلفظه .

[ ص: 279 ] قال مقيده - عفا الله عنه - : الذي يظهر لي ، والله تعالى أعلم ، أن أحسن ما يعتذر به عن عثمان ، وعائشة في الإتمام في السفر أنهما فهما من بعض النصوص أن القصر في السفر رخصة ، كما ثبت في " صحيح مسلم " " أنه صدقة تصدق الله بها " . اهـ . وأنه لا بأس بالإتمام لمن لا يشق عليه ذلك كالصوم في السفر ويدل لذلك ما رواه هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة : " أنها كانت تصلي أربعا قال : فقلت لها : لو صليت ركعتين ، فقالت : يا ابن أختي إنه لا يشق علي " ، وهذا أصرح شيء عنها في تعيين ما تأولت به ، والله أعلم
الفرع السادس : لا يجوز للمسافر في معصية القصر ; لأن الترخيص له والتخفيف عليه إعانة له على معصيته ، ويستدل لهذا بقوله تعالى : فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم الآية [ 5 \ 3 ] ، فشرط في الترخيص بالاضطرار إلى أكل الميتة كونه غير متجانف لإثم ، ويفهم من مفهوم مخالفته أن المتجانف لإثم لا رخصة له والعاصي بسفره متجانف لإثم ، والضرورة أشد في اضطرار المخمصة منها في التخفيف بقصر الصلاة ومنع ما كانت الضرورة إليه ألجأ بالتجانف للإثم يدل على منعه به فيما دونه من باب أولى ، وهذا النوع من مفهوم المخالفة من دلالة اللفظ عند الجمهور لا من القياس خلافا للشافعي وقوم كما بيناه مرارا في هذا الكتاب وهو المعروف بإلغاء الفارق وتنقيح المناط ، ويسميه الشافعي القياس في معنى الأصل ، وبهذا قال مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وخالف في هذه المسألة أبو حنيفة رحمه الله فقال : يقصر العاصي بسفره كغيره لإطلاق النصوص ; ولأن السفر الذي هو مناط القصر ليس معصية بعينه ، وبه قال الثوري والأوزاعي ، والقول الأول أظهر عندي ، والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ذكر في هذه الآية الكريمة أن الصلاة كانت ولم تزل على المؤمنين كتابا ، أي : شيئا مكتوبا عليهم واجبا حتما موقوتا ، أي : له أوقات يجب بدخولها ولم يشر هنا إلى تلك الأوقات ، ولكنه أشار لها في مواضع أخر كقوله : أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا [ 17 \ 78 ] ، فأشار بقوله : لدلوك الشمس وهو زوالها عن كبد السماء على التحقيق إلى صلاة الظهر والعصر ; وأشار بقوله : إلى غسق الليل وهو ظلامه إلى صلاة المغرب والعشاء ; وأشار بقوله : [ ص: 280 ] وقرآن الفجر إلى صلاة الصبح ، وعبر عنها بالقرآن بمعنى القراءة ; لأنها ركن فيها من التعبير عن الشيء باسم بعضه .

وهذا البيان أوضحته السنة إيضاحا كليا ، ومن الآيات التي أشير فيها إلى أوقات الصلاة كما قاله جماعة من العلماء ، قوله تعالى : فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون [ 30 \ 17 ، 18 ] ، قالوا : المراد بالتسبيح في هذه الآية الصلاة ، وأشار بقوله : حين تمسون إلى صلاة المغرب والعشاء ، وبقوله : وحين تصبحون إلى صلاة الصبح ، وبقوله : وعشيا إلى صلاة العصر ، وبقوله : وحين تظهرون إلى صلاة الظهر . وقوله تعالى : وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل [ 11 \ 114 ] ، وأقرب الأقوال في الآية أنه أشار بطرفي النهار إلى صلاة الصبح أوله وصلاة الظهر والعصر آخره أي : في النصف الأخير منه وأشار بزلف من الليل إلى صلاة المغرب والعشاء .

وقال ابن كثير : يحتمل أن الآية نزلت قبل فرض الصلوات الخمس ، وكان الواجب قبلها صلاتان : صلاة قبل طلوع الشمس ، وصلاة قبل غروبها ، وقيام الليل ، ثم نسخ ذلك بالصلوات الخمس ، وعلى هذا فالمراد بطرفي النهار بالصلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ، والمراد بزلف من الليل قيام الليل .

قال مقيده - عفا الله عنه - : الظاهر أن هذا الاحتمال الذي ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - بعيد ; لأن الآية نزلت في أبي اليسر في المدينة بعد فرض الصلوات بزمن فهي على التحقيق مشيرة لأوقات الصلاة ، وهي آية مدنية في سورة مكية وهذه تفاصيل أوقات الصلاة بأدلتها المبينة لها من السنة ، ولا يخفى أن لكل وقت منها أولا وآخرا ، أما أول وقت الظهر فهو زوال الشمس عن كبد السماء بالكتاب والسنة والإجماع ، أما الكتاب فقوله تعالى : أقم الصلاة لدلوك الشمس ، فاللام للتوقيت ودلوك الشمس زوالها عن كبد السماء على التحقيق .

وأما السنة فمنها حديث أبي برزة الأسلمي عند الشيخين : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي الهجير التي تدعونها الأولى حين تدحض الشمس . . . الحديث ، ومعنى تدحض : تزول عن كبد السماء .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #39  
قديم 21-08-2021, 11:32 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,403
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (35)

سورة النساء (8)




وفي رواية لمسلم : حين تزول ، وفي " الصحيحين " عن جابر رضي الله عنه : كان [ ص: 281 ] النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي الظهر بالهاجرة ، وفي " الصحيحين " من حديث أنس رضي الله عنه أنه خرج حين زاغت الشمس فصلى الظهر ، وفي حديث ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " أمني جبريل عند باب البيت مرتين فصلى بي الظهر حين زالت الشمس " الحديث ، أخرجه الإمامان الشافعي وأحمد ، وأبو داود وابن خزيمة والدارقطني والحاكم في " المستدرك " ، وقال : حديث صحيح .

وقال الترمذي : حديث حسن ، فإن قيل في إسناده عبد الرحمن بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة ، وعبد الرحمن بن أبي الزناد ، وحكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف وكلهم مختلف فيهم ، فالجواب : أنهم توبعوا فيه فقد أخرجه عبد الرزاق عن العمري عن عمر بن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه عن ابن عباس نحوه .

قال ابن دقيق العيد : هي متابعة حسنة ، وصححه ابن العربي ، وابن عبد البر ، مع أن بعض رواياته ليس في إسنادها عبد الرحمن بن أبي الزناد بل سفيان ، عن عبد الرحمن بن الحارث المذكور ، عن حكيم بن حكيم المذكور ، فتسلم هذه الرواية من التضعيف بعبد الرحمن بن أبي الزناد ، ومن هذه الطريق أخرجه ابن عبد البر ، وقال : إن الكلام في إسناده لا وجه له ، وكذلك أخرجه من هذا الوجه أبو داود ، وابن خزيمة ، والبيهقي ، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " جاءه جبريل ، عليه السلام ، فقال له : " قم فصله " ، فصلى الظهر حين زالت الشمس " الحديث ، أخرجه الإمام أحمد ، والنسائي ، والترمذي ، وابن حبان ، والحاكم .

وقال الترمذي : قال محمد : يعني البخاري ، حديث جابر ، أصح شيء في المواقيت .

قال عبد الحق : يعني في إمامة جبريل ، وهو ظاهر ، وعن بريدة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " سأله رجل عن وقت الصلاة ، فقال : " صل معنا هذين اليومين " ، فلما زالت الشمس أمر بلالا رضي الله عنه فأذن ثم أمره فأقام الظهر " . الحديث أخرجه مسلم في " صحيحه " ، وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتاه سائل يسأله عن مواقيت الصلاة ، إلى أن قال : ثم أمره ، فأقام بالظهر حين زالت الشمس ، والقائل يقول : قد انتصف النهار ، وهو كان أعلم منهم " الحديث ، رواه مسلم أيضا ، والأحاديث في الباب كثيرة جدا .

وأما الإجماع ، فقد أجمع جميع المسلمين على أن أول وقت صلاة الظهر هو زوال [ ص: 282 ] الشمس عن كبد السماء ، كما هو ضروري من دين الإسلام .
وأما آخر وقت صلاة الظهر ، فالظاهر من أدلة السنة فيه ، أنه عندما يصير ظل كل شيء مثله من غير اعتبار ظل الزوال ، فإن في الأحاديث المشار إليها آنفا ، أنه في اليوم الأول صلى العصر عندما صار ظل كل شيء مثله في إمامة جبريل ، وذلك عند انتهاء وقت الظهر ، وأصرح شيء في ذلك ما أخرجه مسلم في " صحيحه " عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " وقت صلاة الظهر ما لم يحضر العصر " ، وهذا الحديث الصحيح يدل على أنه إذا جاء وقت العصر ، فقد ذهب وقت الظهر ، والرواية المشهورة عن مالك رحمه الله تعالى أن هذا الذي ذكرنا تحديده بالأدلة ، هو وقت الظهر الاختياري ، وأن وقتها الضروري يمتد بالاشتراك مع العصر إلى غروب الشمس .

وروي نحوه عن عطاء ، وطاوس ، والظاهر أن حجة أهل هذا القول الأدلة الدالة على اشتراك الظهر والعصر في الوقت ، فمن حديث ابن عباس المشار إليه سابقا " فصلى الظهر في اليوم الثاني في الوقت الذي صلى فيه العصر في الأول " ، وعن ابن عباس أيضا قال : " جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة من غير خوف ، ولا سفر " متفق عليه ، وفي رواية لمسلم : " من غير خوف ، ولا مطر " فاستدلوا بهذا على الاشتراك ، وقالوا أيضا : الصلوات زيد فيها على بيان جبريل في اليوم الثاني ، فينبغي أن يزاد في وقت الظهر .

قال مقيده - عفا الله عنه - : الظاهر سقوط هذا الاستدلال ، أما الاستدلال على الاشتراك بحديث ابن عباس " فصلى الظهر في اليوم الثاني في الوقت الذي صلى فيه العصر في اليوم الأول " فيجاب عنه بما أجاب به الشافعي رحمه الله وهو أن معنى صلاته للظهر في اليوم الثاني فراغه منها ، كما هو ظاهر اللفظ ، ومعنى صلاته للعصر في ذلك الوقت ، في اليوم الأول ابتداء الصلاة ، فيكون قد فرغ من صلاة الظهر في اليوم الثاني عند كون ظل الشخص مثله ، وابتدأ صلاة العصر في اليوم الأول عند كون ظل الشخص مثله أيضا ، فلا يلزم الاشتراك ، ولا إشكال في ذلك ; لأن آخر وقت الظهر ، هو أول وقت العصر ، ويدل لصحة هذا الذي قاله الشافعي ، ما رواه مسلم في " صحيحه " من حديث أبي موسى رضي الله عنه " وصلى الظهر قريبا من وقت العصر بالأمس " ، فهو دليل صحيح واضح في أنه ابتدأ صلاة الظهر في اليوم الثاني قريبا من وقت كون ظل الشخص مثله ، وأتمها عند كون ظله مثله كما هو ظاهر ، ونظير هذا التأويل الذي ذهب إليه الشافعي ، قوله تعالى : فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن [ 65 \ 2 ] ، وقوله تعالى : [ ص: 283 ] فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن [ 2 \ 232 ] ، فالمراد بالبلوغ الأول مقاربته ، وبالثاني حقيقة انقضاء الأجل .

وأما الاستدلال على الاشتراك بحديث ابن عباس ، المتفق عليه أنه - صلى الله عليه وسلم - " جمع بالمدينة من غير خوف ، ولا سفر " ، فيجاب عنه بأنه يتعين حمله على الجمع الصوري جمعا بين الأدلة ، وهو أنه صلى الظهر في آخر وقتها حين لم يبق من وقتها إلا قدر ما تصلى فيه ، وعند الفراغ منها دخل وقت العصر فصلاها في أوله ، ومن صلى الظهر في آخر وقتها ، والعصر في أول وقتها كانت صورة صلاته صورة الجمع ، وليس ثم جمع في الحقيقة ; لأنه أدى كلا من الصلاتين في وقتها المعين لها ، كما هو ظاهر ، وستأتي له زيادة إيضاح إن شاء الله .
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #40  
قديم 21-08-2021, 11:33 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,403
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (36)

سورة النساء (9)



وأما الاستدلال بأن الصلوات زيد فيها على بيان جبريل ، فهو ظاهر السقوط ; لأن توقيت العبادات توقيفي بلا نزاع ، والزيادة في الأوقات المذكورة ثبتت بالنصوص الشرعية .
وأما صلاة العصر ، فقد دلت نصوص السنة على أن لها وقتا اختياريا ، ووقتا ضروريا ، أما وقتها الاختياري فأوله عندما يكون ظل كل شيء مثله من غير اعتبار ظل الزوال ، ويدخل وقتها بانتهاء وقت الظهر المتقدم بيانه ، ففي حديث ابن عباس المتقدم : " فصلى العصر حين صار ظل كل شيء مثله " .

وفي حديث جابر المتقدم أيضا : " فصلى العصر حين صار ظل كل شيء مثله " ، وهذا هو التحقيق في أول وقت العصر ، كما صرحت به الأحاديث المذكورة وغيرها .

وقال الشافعي : أول وقت العصر إذا صار ظل كل شيء مثله ، وزاد أدنى زيادة .

قال مقيده - عفا الله عنه - : إن كان مراد الشافعي أن الزيادة لتحقيق بيان انتهاء الظل إلى المثل إذ لا يتيقن ذلك إلا بزيادة ما كما قال به بعض الشافعية فهو موافق لما عليه الجمهور لا مخالف له ، وإن كان مراده غير ذلك فهو مردود بالنصوص المصرحة بأن أول وقت العصر عندما يكون ظل الشيء مثله من غير حاجة إلى زيادة ، مع أن الظاهر إمكان تحقيق كون ظل الشيء مثله من غير احتياج إلى زيادة ما . وشذ أبو حنيفة رحمه الله من بين عامة العلماء فقال : يبقى وقت الظهر حتى يصير الظل مثلين ، فإذا زاد على ذلك يسيرا كان أول وقت العصر . [ ص: 284 ] ونقل النووي في " شرح المهذب " عن القاضي أبي الطيب أن ابن المنذر قال : لم يقل هذا أحد غير أبي حنيفة رحمه الله وحجته حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إنما بقاؤكم فيما سلف من الأمم قبلكم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس ، أوتي أهل التوراة التوراة فعملوا حتى إذا انتصف النهار عجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا ، ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيل ، فعملوا إلى صلاة العصر فعجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا ، ثم أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس فأعطينا قيراطين قيراطين . فقال أهل الكتاب : أي ربنا ، أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين وأعطيتنا قيراطا قيراطا ونحن أكثر عملا ؟ قال الله تعالى : ( هل ظلمتكم من أجركم من شيء ، قالوا لا قال فهو فضلي أوتيه من أشاء ) متفق عليه . قال : فهذا دليل على أن وقت العصر أقصر من وقت الظهر ومن حين يصير ظل الشيء مثله إلى غروب الشمس هو ربع النهار ، وليس بأقل من وقت الظهر ، بل هو مثله .

وأجيب عن هذا الاستدلال بأن المقصود من هذا الحديث ضرب المثل لا بيان تحديد أوقات الصلاة ، والمقصود من الأحاديث الدالة على انتهاء وقت الظهر عندما يصير ظل الشيء مثله هو تحديد أوقات الصلاة ، وقد تقرر في الأصول أن أخذ الأحكام من مظانها أولى من أخذها لا من مظانها مع أن الحديث ليس فيه تصريح بأن أحد الزمنين أكثر من الآخر وإنما فيه أن عملهم أكثر ، وكثرة العمل لا تستلزم كثرة الزمن لجواز أن يعمل بعض الناس عملا كثيرا في زمن قليل ، ويدل لهذا أن هذه الأمة وضعت عنها الآصار والأغلال التي كانت عليهم .

قال ابن عبد البر : خالف أبو حنيفة في قوله هذا الآثار والناس ، وخالفه أصحابه ، فإذا تحققت أن الحق كون أول وقت العصر عندما يكون ظل كل شيء مثله ، من غير اعتبار ظل الزوال فاعلم أن آخر وقت العصر جاء في بعض الأحاديث تحديده بأن يصير ظل كل شيء مثليه ، وجاء في بعضها تحديده بما قبل اصفرار الشمس ، وجاء في بعضها امتداده إلى غروب الشمس ، ففي حديث جابر وابن عباس المتقدمين في إمامة جبريل في بيانه لآخر وقت العصر في اليوم الثاني ، ثم صلى العصر حين كان ظل كل شيء مثليه ، وفي حديث عبد الله بن عمر وعند مسلم وأحمد ، ووقت صلاة العصر ما لم تصفر الشمس ، وفي حديث أبي موسى عند أحمد ومسلم وأبي داود والنسائي ، ثم أخر العصر فانصرف [ ص: 285 ] منها ، والقائل يقول : احمرت الشمس ، وروى الإمام أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربع نحوه من حديث بريدة الأسلمي ، وفي حديث عبد الله بن عمر ، وعند مسلم ووقت صلاة العصر ما لم تصفر الشمس ويسقط قرنها الأول .

وفي حديث أبي هريرة المتفق عليه : ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر .

والظاهر في وجه الجمع بين هذه الروايات في تحديد آخر وقت العصر أن مصير ظل الشيء مثليه ، هو وقت تغيير الشمس من البياض والنقاء إلى الصفرة ، فيؤول معنى الروايتين إلى شيء واحد ، كما قاله بعض المالكية .

وقال ابن قدامة في " المغني " : أجمع العلماء على أن من صلى العصر والشمس بيضاء نقية ، فقد صلاها في وقتها ، وفي هذا دليل على أن مراعاة المثلين عندهم استحباب ولعلهما متقاربان يوجد أحدهما قريبا من الآخر . اهـ . منه بلفظه . وهذا هو انتهاء وقتها الاختياري .

وأما الروايات الدالة على امتداد وقتها إلى الغروب ، فهي في حق أهل الأعذار كحائض تطهر ، وكافر يسلم ، وصبي يبلغ ، ومجنون يفيق ، ونائم يستيقظ ، ومريض يبرأ ، ويدل لهذا الجمع ما رواه الإمام أحمد ومسلم ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي من حديث أنس قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " تلك صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقرها أربعا لا يذكر الله إلا قليلا " . ففي الحديث دليل على عدم جواز تأخير صلاة العصر إلى الاصفرار فما بعده بلا عذر .
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع



مجموعة الشفاء على واتساب


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 330.66 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 324.82 كيلو بايت... تم توفير 5.84 كيلو بايت...بمعدل (1.77%)]