|
|||||||
| ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم |
![]() |
|
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#371
|
||||
|
||||
![]() تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير) إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي الجزء (10) تفسير سورة النور من صـ 248 الى صــ 262 الحلقة (371) وروى مسلم بسنده عن أبي حميد أو أبي أسيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا دخل أحدكم المسجد فليقل : اللهم افتح لي أبواب رحمتك ." وإذا خرج فليقل : اللهم افتح لي أبواب فضلك "ورواه النسائي عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل : اللهم افتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل : اللهم اعصمني من الشيطان الرجيم "ورواه ابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما وقال الإمام أحمد حدثنا إسماعيل بن إبراهيم حدثنا ليث بن أبي سليم عن عبد الله بن حسين عن أمه فاطمة بنت حسين عن جدتها فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم ثم قال" اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك "وإذا خرج صلى على محمد وسلم ثم قال" اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك "ورواه الترمذي وابن ماجه وقال الترمذي هذا حديث حسن وإسناده ليس بمتصل لأن فاطمة بنت حسين الصغرى لم تدرك فاطمة الكبرى فهذا الذي ذكرناه مع ما تركناه من الأحاديث الواردة في ذلك كله محاذرة الطول" داخل في قوله تعالى "في بيوت أذن الله أن ترفع" وقوله "ويذكر فيها اسمه" أي اسم الله كقوله "يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد" وقوله "وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين" وقوله "وأن المساجد لله" الآية . وقوله تعالى "ويذكر فيها اسمه" قال ابن عباس يعني يتلى كتابه وقوله تعالى "يسبح له فيها بالغدو والآصال" أي في البكرات والعشيات . والآصال جمع أصيل وهو آخر النهار . وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس : كل تسبيح في القرآن هو الصلاة وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : يعني بالغدو صلاة الغداة ويعني بالآصال صلاة العصر وهما أول ما افترض الله من الصلاة فأحب أن يذكرهما وأن يذكر بهما عباده. وكذا قال الحسن والضحاك "يسبح له فيها بالغدو والآصال" يعني الصلاة ومن قرأ من القراء "يسبح له فيها بالغدو والآصال" فتح الباء من "يسبح" على أنه مبني لما لم يسم فاعله وقف على قوله "والآصال" وقفا تاما . رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار (37) رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار وابتدأ بقوله "رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله" وكأنه مفسر للفاعل المحذوف كما قال الشاعر : ليبك يزيد ضارع لخصومة ... ومختبط مما تطيح الطوائح كأنه قال : من يبكيه قال هذا يبكيه وكأنه قيل من يسبح له فيها ؟ قال رجال . وأما على قراءة من قرأ "يسبح" بكسر الباء فجعله فعلا وفاعله "رجال" فلا يحسن الوقف إلا على الفاعل لأنه تمام الكلام فقوله تعالى "رجال" فيه إشعار بهممهم السامية ونياتهم وعزائمهم العالية التي بها صاروا عمارا للمساجد التي هي بيوت الله في أرضه ومواطن عبادته وشكره وتوحيده وتنزيهه كما قال تعالى : "من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه" الآية وأما النساء فصلاتهن في بيوتهن أفضل لهن لما رواه أبو داود عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها" . وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن غيلان حدثنا رشدين حدثني عمرو عن أبي السمح عن السائب مولى أم سلمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "خير مساجد النساء قعر بيوتهن" وقال أحمد أيضا : حدثنا هارون أخبرني عبد الله بن وهب حدثنا داود بن قيس عن عبد الله بن سويد الأنصاري عن عمته أم حميد امرأة أبي حميد الساعدي أنها جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إني أحب الصلاة معك . قال : "قد علمت أنك تحبين الصلاة معي وصلاتك في بيتك خير من صلاتك في حجرتك وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي" قال فأمر فبني لها مسجد في أقصى بيت من بيوتها فكانت والله تصلي فيه حتى لقيت الله تعالى لم يخرجوه . هذا ويجوز لها شهود جماعة الرجال بشرط أن لا تؤذي أحدا من الرجال بظهور زينة ولا ريح طيب كما ثبت في الصحيح عن عبد الله بن عمر أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله" رواه البخاري ومسلم ولأحمد وأبي داود "وبيوتهن خير لهن" وفي رواية "وليخرجن وهن تفلات" أي لا ريح لهن . وقد ثبت في صحيح مسلم عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت : قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيبا" وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : كان نساء المؤمنين يشهدن الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يرجعن متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس وفي الصحيحين عنها أيضا أنها قالت : لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن من المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل. وقوله تعالى "رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله" كقوله تعالى "يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله" الآية وقوله تعالى "يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع" الآية يقول تعالى لا تشغلهم الدنيا وزخرفها وزينتها وملاذ بيعها وربحها عن ذكر ربهم الذي هو خالقهم ورازقهم والذين يعلمون أن الذي عنده هو خير لهم وأنفع مما بأيديهم لأن ما عندهم ينفد وما عند الله باق ولهذا قال تعالى "لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة" أي : يقدمون طاعته ومراده ومحبته على مرادهم ومحبتهم قال هشيم عن شيبان قال حدثت عن ابن مسعود أنه رأى قوما من أهل السوق حيث نودي للصلاة المكتوبة تركوا بياعتهم ونهضوا إلى الصلاة فقال عبد الله بن مسعود هؤلاء من الذين ذكر الله في كتابه "رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله" الآية وهكذا روى عمرو بن دينار القهرماني عن سالم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه كان في السوق فأقيمت الصلاة فأغلقوا حوانيتهم ودخلوا المسجد فقال ابن عمر فيهم نزلت "رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله" رواه ابن أبي حاتم وابن جرير . وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا محمد بن عبد الله بن بكير الصنعاني حدثنا أبو سعيد مولى بن هاشم حدثنا عبد الله بن بجير حدثنا أبو عبد ربه قال : قال أبو الدرداء رضي الله عنه إني قمت على هذا الدرج أبايع عليه أربح كل يوم ثلثمائة دينار أشهد الصلاة في كل يوم في المسجد أما إني لا أقول إن ذلك ليس بحلال ولكني أحب أن أكون من الذين قال الله فيهم "رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله" . وقال عمرو بن دينار الأعور كنت مع سالم بن عبد الله ونحن نريد المسجد فمررنا بسوق المدينة وقد قاموا إلى الصلاة وخمروا متاعهم فنظر سالم إلى أمتعتهم ليس معها أحد فتلا سالم هذه الآية "رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله" ثم قال هم هؤلاء وكذا قال سعيد بن أبي الحسن والضحاك لا تلهيهم التجارة والبيع أن يأتوا الصلاة في وقتها . وقال مطر الوراق كانوا يبيعون ويشترون ولكن كان أحدهم إذا سمع النداء وميزانه في يده خفضه وأقبل إلى الصلاة وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله" يقول عن الصلاة المكتوبة وكذا قال مقاتل بن حيان والربيع بن أنس وقال السدي عن الصلاة في جماعة . وقال مقاتل بن حيان لا يلهيهم ذلك عن حضور الصلاة وأن يقيموها كما أمرهم الله وأن يحافظوا على مواقيتها وما استحفظهم الله فيها . وقوله تعالى "يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار" أي يوم القيامة الذي تتقلب فيه القلوب والأبصار أي من شدة الفزع وعظمة الأهوال كقوله "وأنذرهم يوم الآزفة" الآية وقوله "إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار" وقال تعالى "ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا" . ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب (38) ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب أي هؤلاء من الذين يتقبل حسناتهم ويتجاوز عن سيئاتهم وقوله "ويزيدهم من فضله" أي يتقبل منهم الحسن ويضاعفه لهم كما قال تعالى "إن الله لا يظلم مثقال ذرة" الآية وقال تعالى "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها" الآية وقال "من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا" الآية وقال "والله يضاعف لمن يشاء" وقال ههنا "والله يرزق من يشاء بغير حساب" وعن ابن مسعود أنه جيء بلبن فعرضه على جلسائه واحدا واحدا فكلهم لم يشربه لأنه كان صائما فتناوله ابن مسعود فشربه لأنه كان مفطرا ثم تلا قوله "يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار" رواه النسائي وابن أبي حاتم من حديث الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عنه . وقال أيضا حدثنا أبي حدثنا سويد بن سعيد حدثنا علي بن مسهر عن عبد الرحمن بن إسحاق عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة جاء مناد فنادى بصوت يسمع الخلائق سيعلم أهل الجمع من أولى بالكرم ليقم الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله فيقومون وهم قليل ثم يحاسب سائر الخلائق" وروى الطبراني من حديث بقية عن إسماعيل بن عبد الله الكندي عن الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله "ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله" قال أجورهم يدخلهم الجنة ويزيدهم من فضله الشفاعة لمن وجبت له الشفاعة لمن صنع لهم المعروف في الدنيا . والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب (39) والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب هذان مثلان ضربهما الله تعالى لنوعي الكفار كما ضرب للمنافقين في أول البقرة مثلين ناريا ومائيا وكما ضرب لما يقر في القلوب من الهدى والعلم في سورة الرعد مثلين مائيا وناريا وقد تكلمنا على كل منهما في موضعه بما أغنى عن إعادته ولله الحمد والمنة . فأما الأول من هذين المثلين فهو للكفار الدعاة إلى كفرهم الذين يحسبون أنهم على شيء من الأعمال والاعتقادات وليسوا في نفس الأمر على شيء فمثلهم في ذلك كالسراب الذي يرى في القيعان من الأرض عن بعد كأنه بحر طام والقيعة جمع قاع كجار وجيرة والقاع أيضا واحد القيعان كما يقال جار وجيران وهي الأرض المستوية المتسعة المنبسطة وفيه يكون السراب وإنما يكون ذلك بعد نصف النهار وأما الآل فإنما يكون أول النهار يرى كأنه ماء بين السماء والأرض فإذا رأى السراب من هو محتاج إلى الماء يحسبه ماء قصده ليشرب منه فلما انتهى إليه "لم يجده شيئا" فكذلك الكافر يحسب أنه قد عمل عملا وأنه قد حصل شيئا فإذا وافى الله يوم القيامة وحاسبه عليها ونوقش على أفعاله لم يجد له شيئا بالكلية قد قبل إما لعدم الإخلاص أو لعدم سلوك الشرع كما قال تعالى : "وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا" وقال ههنا "ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب" وهكذا روي عن أبي بن كعب وابن عباس ومجاهد وقتادة وغير واحد . وفي الصحيحين أنه يقال يوم القيامة لليهود ما كنتم تعبدون ؟ فيقولون كنا نعبد عزير ابن الله . فيقال كذبتم ما اتخذ الله من ولد ماذا تبغون ؟ فيقولون يا رب عطشنا فاسقنا فيقال ألا ترون ؟ فتمثل لهم النار كأنها سرب يحطم بعضها بعضا فينطلقون فيتهافتون فيها وهذا المثال مثال لذوي الجهل المركب فأما أصحاب الجهل البسيط وهم الطماطم الأغشام المقلدون لأئمة الكفر الصم البكم الذي لا يعقلون فمثلهم . أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور (40) أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور قال قتادة : "لجي" هو العميق "يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها" أي لم يقارب رؤيتها من شدة الظلام فهذا مثل قلب الكافر الجاهل البسيط المقلد الذي لا يعرف حال من يقوده ولا يدري أين يذهب بل كما يقال في المثل للجاهل أين تذهب ؟ قال معهم قيل : فإلى أين يذهبون ؟ قال : لا أدري ؟ وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنه "يغشاه موج" الآية يعني بذلك الغشاوة التي على القلب والسمع والبصر وهي كقوله "ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم" الآية وكقوله "" أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة "الآية وقال أبي بن كعب في قوله تعالى" ظلمات بعضها فوق بعض "فهو يتقلب في خمسة من الظلم فكلامه ظلمة وعمله ظلمة ومدخله ظلمة ومخرجه ظلمة ومصيره يوم القيامة إلى الظلمات إلى النار وقال السدي والربيع بن أنس نحو ذلك أيضا وقوله تعالى" ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور "أي من لم يهده الله فهو هالك جاهل حائر بائر كافر كقوله" من يضلل الله فلا هادي له "وهذا في مقابلة ما قال في مثل المؤمنين" يهدي الله لنوره من يشاء "فنسأل الله العظيم أن يجعل في قلوبنا نورا وعن أيماننا نورا وعن شمائلنا نورا وأن يعظم لنا نورا ." ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون (41) ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون يخبر تعالى أنه يسبح له من في السموات والأرض أي من الملائكة والأناسي والجان والحيوان حتى الجماد كما قال تعالى "تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن" الآية وقوله تعالى "والطير صافات" أي في حال طيرانها تسبح ربها وتعبده بتسبيح ألهمها وأرشدها إليه وهو يعلم ما هي فاعلة ولهذا قال تعالى "كل قد علم صلاته وتسبيحه" أي كل قد أرشده إلى طريقته ومسلكه في عبادة الله عز وجل . ثم أخبر أنه عالم بجميع ذلك لا يخفى عليه من ذلك شيء ولهذا قال تعالى "والله عليم بما يفعلون" "ثم أخبر تعالى أن له ملك السموات والأرض فهو الحاكم المتصرف الإله المعبود الذي لا تنبغي العبادة إلا له ولا معقب لحكمه ." ولله ملك السماوات والأرض وإلى الله المصير (42) ولله ملك السماوات والأرض وإلى الله المصير "وإلى الله المصير" أي يوم القيامة فيحكم فيه بما يشاء "ليجزي الذين أساءوا بما عملوا" الآية فهو الخالق المالك الإله الحكم في الدنيا والأخرى وله الحمد في الأولى والآخرة . ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار (43) ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار يذكر تعالى أنه يسوق السحاب بقدرته أول ما ينشئها وهي ضعيفة وهو الإزجاء "ثم يؤلف بينه" أي يجمعه بعد تفرقه "ثم يجعله ركاما" أي متراكما أي يركب بعضه بعضا "فترى الودق" أي المطر "يخرج من خلاله" أي من خلله وكذا قرأها ابن عباس والضحاك قال عبيد بن عمير الليثي يبعث الله المثيرة فتقم الأرض قما ثم يبعث الله الناشئة فتنشئ السحاب ثم يبعث الله المؤلفة فتؤلف بينه ثم يبعث الله اللواقح فتلقح السحاب رواه ابن أبي حاتم وابن جرير رحمهما الله وقوله "وينزل من السماء من جبال فيها من برد" قال بعض النحاة "من" الأولى لابتداء الغاية والثانية للتبعيض والثالثة لبيان الجنس وهذا إنما يجيء على قول من ذهب من المفسرين إلى أن قوله "من جبال فيها من برد" معناه أن في السماء جبال برد ينزل الله منها البرد وأما من جعل الجبال ههنا كناية عن السحاب فإن من الثانية عند هذا لابتداء الغاية أيضا لكنها بدل من الأولى والله أعلم وقوله تعالى "فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء" يحتمل أن يكون المراد بقوله "فيصيب به" أي بما ينزل من السماء من نوعي المطر والرد فيكون قوله "فيصيب به من يشاء" رحمة لهم "ويصرفه عمن يشاء" أي يؤخر عنهم الغيث ويحتمل أن يكون المراد بقوله "فيصيب به" أي بالبرد نقمة على من يشاء لما فيه من نثر ثمارهم وإتلاف زروعهم وأشجارهم ويصرفه عمن يشاء رحمة بهم وقوله "يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار" أي يكاد ضوء برقه من شدته يخطف الأبصار إذا اتبعته وتراءته. يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار (44) يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار أي يتصرف فيهما فيأخذ من طول هذا في قصر هذا حتى يعتدلا ثم يأخذ من هذا في هذا فيطول الذي كان قصيرا ويقصر الذي كان طويلا والله هو المتصرف في ذلك بأمره وقهره وعزته وعلمه "إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار" أي لدليلا على عظمته تعالى كما قال تعالى "إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب" وما بعدها من الآيات الكريمات. والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير (45) والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير يذكر تعالى قدرته التامة وسلطانه العظيم في خلقه أنواع المخلوقات على اختلاف أشكالها وألوانها وحركاتها وسكناتها من ماء واحد "فمنهم من يمشي على بطنه" كالحية وما شاكلها "ومنهم من يمشي على رجلين" كالإنسان والطير "ومنهم من يمشي على أربع" كالأنعام وسائر الحيوانات ولهذا قال "يخلق الله ما يشاء" أي بقدرته لأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ولهذا قال "إن الله على كل شيء قدير" . لقد أنزلنا آيات مبينات والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم (46) لقد أنزلنا آيات مبينات والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم يقرر تعالى أنه أنزل في هذا القرآن من الحكم والحكم والأمثال البينة المحكمة كثيرا جدا وأنه يرشد إلى تفهمها وتعقلها أولي الألباب والبصائر والنهى ولهذا قال "والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم" . ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين (47) ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين يخبر تعالى عن صفات المنافقين الذين يظهرون خلاف ما يبطنون يقولون قولا بألسنتهم "آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك" أي يخالفون أقوالهم بأعمالهم فيقولون ما لا يفعلون ولهذا قال تعالى : "وما أولئك بالمؤمنين" . وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون (48) وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون أي إذا طلبوا إلى اتباع الهدى فيما أنزل الله على رسوله أعرضوا عنه واستكبروا في أنفسهم عن اتباعه وهذه كقوله تعالى "ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك - إلى قوله - رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا" وفي الطبراني من حديث روح بن عطاء عن أبي ميمونة عن أبيه عن الحسن عن سمرة مرفوعا "من دعي إلى سلطان فلم يجب فهو ظالم لا حق له" . وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين (49) وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين أي وإذا كانت الحكومة لهم لا عليهم جاءوا سامعين مطيعين وهو معنى قوله "مذعنين" وإذا كانت الحكومة عليه أعرض ودعا إلى غير الحق وأحب أن يتحاكم إلى غير النبي صلى الله عليه وسلم ليروج باطله ثم فإذعانه أولا لم يكن عن اعتقاد منه أن ذلك هو الحق بل لأنه موافق لهواه ولهذا لما خالف الحق قصده عدل عنه إلى غيره . أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون (50) أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون يعني لا يخرج أمرهم عن أن يكون في القلوب مرض لازم لها أوقد لها شك في الدين أو يخافون أن يجور الله ورسوله عليهم في الحكم وأيا ما كان فهو كفر محض والله عليم بكل منهم وما هو منطو عليه من هذه الصفات وقوله تعالى "بل أولئك هم الظالمون" أي بل هم الظالمون الفاجرون والله ورسوله مبرآن مما يظنون ومتوهمون من الحيف والجور تعالى الله ورسوله عن ذلك قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا مبارك حدثنا الحسن قال : كان الرجل إذا كان بينه وبين الرجل منازعة فدعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو محق أذعن وعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سيقضي له بالحق وإذا أراد أن يظلم فدعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أعرض وقال أنطلق إلى فلان فأنزل الله هذه الآية فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "من كان بينه وبين أخيه شيء فدعي إلى حكم من أحكام المسلمين فأبى أن يجيب فهو ظالم لا حق له" وهذا حديث غريب وهو مرسل ثم أخبر تعالى عن صفة المؤمنين المستجيبين لله ولرسوله الذين لا يبغون دينا سوى كتاب الله وسنة رسوله. إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون (51) إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون أي سمعا وطاعة ولهذا وصفهم تعالى بالفلاح وهو نيل المطلوب والسلامة من المرهوب فقال تعالى "وأولئك هم المفلحون" وقال قتادة في هذه الآية "أن يقولوا سمعنا وأطعنا" ذكر لنا أن عبادة بن الصامت وكان عقبيا بدريا أحد نقباء الأنصار أنه لما حضره الموت قال لابن أخيه جنادة بن أبي أمية : ألا أنبئك بماذا عليك وبماذا لك ؟ قال : بلى قال : فإن عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك وعليك أن تقيم لسانك بالعدل وأن لا تنازع الأمر أهله إلا أن يأمروك بمعصية الله بواحا فما أمرت به من شيء يخالف كتاب الله فاتبع كتاب الله. وقال قتادة : ذكر لنا أن أبا الدرداء قال : لا إسلام إلا بطاعة الله ولا خير إلا في جماعة والنصيحة لله ولرسوله وللخليفة وللمؤمنين عامة قال وقد ذكر لنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول : عروة الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والطاعة لمن ولاه الله أمر المسلمين . رواه ابن أبي حاتم والأحاديث والآثار في وجوب الطاعة لكتاب الله وسنة رسوله وللخلفاء الراشدين والأئمة إذا أمروا بطاعة الله أكثر من أن تحصر في هذا المكان. ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون (52) ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون قال قتادة : يطع الله ورسوله فيما أمراه به وترك ما نهياه عنه ويخش الله فيما مضى من ذنوبه ويتقه فيما يستقبل وقوله "فأولئك هم الفائزون" يعني الذين فازوا بكل خير وأمنوا من كل شر في الدنيا والآخرة . وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة إن الله خبير بما تعملون (53) وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة إن الله خبير بما تعملون يقول تعالى مخبرا عن أهل النفاق الذين كانوا يحلفون للرسول صلى الله عليه وسلم لئن أمرتهم بالخروج في الغزو ليخرجن قال الله تعالى : "قل لا تقسموا" أي لا تحلفوا وقوله : "طاعة معروفة" قيل : معناه طاعتكم طاعة معروفة أي قد علم طاعتكم إنما هي قول لا فعل معه وكلما حلفتم كذبتم كما قال تعالى : "يحلفون لكم لترضوا عنهم" الآية وقال تعالى : "اتخذوا أيمانهم جنة" الآية فهم من سجيتهم الكذب حتى فيما يختارونه كما قال تعالى "ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين" كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون "وقيل المعنى في قوله" طاعة معروفة "أي ليكن أمركم طاعة معروفة أي بالمعروف من غير حلف ولا إقسام كما يطيع الله ورسوله المؤمنون بغير حلف ولا إقسام فكونوا أنتم مثلهم" إن الله خبير بما تعملون "أي هو خبير بكم وبمن يطيع ممن يعصي فالحلف وإظهار الطاعة والباطن بخلافه وإن راج على المخلوق فالخالق تعالى يعلم السر وأخفى لا يروج عليه شيء من التدليس بل هو خبير بضمائر عباده وإن أظهروا خلافها ." قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين (54) قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين أي اتبعوا كتاب الله وسنة رسوله وقوله تعالى : "فإن تولوا" أي تتولوا عنه وتتركوا ما جاءكم به "فإنما عليه ما حمل" أي إبلاغ الرسالة وأداء الأمانة "وعليكم ما حملتم" أي بقبول ذلك وتعظيمه والقيام بمقتضاه "وإن تطيعوه تهتدوا" وذلك لأنه يدعو إلى صراط مستقيم "صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض" الآية وقوله تعالى : "وما على الرسول إلا البلاغ المبين" كقوله تعالى : "فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب" وقوله : "فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر" قال وهب بن منبه أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له شعياء أن قم في بني إسرائيل فإني سأطلق لسانك بوحي فقام فقال : يا سماء اسمعي ويا أرض انصتي فإن الله يريد أن يقضي شأنا ويدبر أمرا هو منفذه إنه يريد أن يحول الريف إلى الفلاة والآجام في الغيطان والأنهار في الصحاري والنعمة في الفقراء والملك في الرعاة ويريد أن يبعث أميا من الأميين ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق لو يمر على السراج لم يطفئه من سكينته ولو يمشي على القصب واليابس لم يسمع من تحت قدميه أبعثه بشيرا ونذيرا لا يقول الخنى أفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا وأسدده بكل أمر جميل وأهب له كل خلق كريم وأجعل السكينة ![]()
__________________
|
|
#372
|
||||
|
||||
![]() تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير) إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي الجزء (10) تفسير سورة النور من صـ 263 الى صــ 277 الحلقة (372) لباسه والبر شعاره والتقوى ضميره والحكمة منطقه والصدق والوفاء طبيعته والعفو والمعروف خلقه والحق شريعته والعدل سيرته والهدى إمامه والإسلام ملته وأحمد اسمه أهدي به بعد الضلالة وأعلم به من الجهالة وأرفع به بعد الخمالة وأعرف به بعد النكرة وأكثر به بعد القلة وأغني به بعد العيلة وأجمع به بعد الفرقة وأؤلف به بين أمم متفرقة وقلوب مختلفة وأهواء مشتتة وأستنفذ به فئاما من الناس عظيما من الهلكة وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر موحدين مؤمنين مخلصين مصدقين بما جاءت به الرسل رواه ابن أبي حاتم. وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون (55) وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون هذا وعد من الله تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض أي أئمة الناس والولاة عليهم وبهم تصلح البلاد وتخضع لهم العباد وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا وحكما فيهم وقد فعله تبارك وتعالى وله الحمد والمنة : فإنه صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين وسائر جزيرة العرب وأرض اليمن بكمالها وأخذ الجزية من مجوس هجر ومن بعض أطراف الشام وهاداه هرقل ملك الروم وصاحب مصر وإسكندرية وهو المقوقس وملوك عمان والنجاشي ملك الحبشة الذي تملك بعد أصحمة رحمه الله وأكرمه ثم لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم واختار الله له ما عنده من الكرامة قام بالأمر بعده خليفته أبو بكر الصديق فلم شعث ما وهى بعد موته صلى الله عليه وسلم وأخذ جزيرة العرب ومهدها وبعث جيوش الإسلام إلى بلاد فارس صحبة خالد بن الوليد رضي الله عنه ففتحوا طرفا منها وقتلوا خلقا من أهلها وجيشا آخر صحبة أبي عبيدة رضي الله عنه ومن أتبعه من الأمراء إلى أرض الشام وثالثا صحبة عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى بلاد مصر ففتح الله للجيش الشامي في أيامه بصرى ودمشق ومخاليفهما من بلاد حوران وما والاها وتوفاه الله عز وجل واختار له ما عنده من الكرامة ومن على أهل الإسلام بأن ألهم الصديق أن يستخلف عمر الفاروق فقام بالأمر بعده قياما تاما لم يدر الفلك بعد الأنبياء على مثله في قوة سيرته وكمال عدله وتم في أيامه فتح البلاد الشامية بكمالها وديار مصر إلى آخرها وأكثر إقليم فارس وكسر كسرى وأهانه غاية الهوان وتقهقر إلى أقصى مملكته وقصر قيصر وانتزع يده عن بلاد الشام وانحدر إلى القسطنطينية وأنفق أموالهما في سبيل الله كما أخبر بذلك ووعد به رسول الله ; عليه من ربه أتم سلام وأزكى صلاة ; ثم لما كانت الدولة العثمانية امتدت الممالك الإسلامية إلى أقصى مشارق الأرض ومغاربها ; ففتحت بلاد المغرب إلى أقصى ما هنالك الأندلس وقبرص ; وبلاد القيروان وبلاد سبتة مما يلي البحر المحيط ومن ناحية المشرق إلى أقصى بلاد الصين ; وقتل كسرى وباد ملكه بالكلية ; وفتحت مدائن العراق وخراسان والأهواز وقتل المسلمون من الترك مقتلة عظيمة جدا ; وخذل الله ملكهم الأعظم خاقان وجبي الخراج من المشارق والمغارب إلى حضرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه وذلك ببركة تلاوته ودراسته وجمعه الأمة على حفظ القرآن ولهذا ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها" فها نحن نتقلب فيما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله فنسأل الله الإيمان به وبرسوله والقيام بشكره على الوجه الذي يرضيه عنا . قال الإمام مسلم بن الحجاج في صحيحه : حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان عن عبد الملك بن عمير عن جابر بن سمرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر رجلا" ثم تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة خفيت عني فسألت أبي ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال قال : "كلهم من قريش" ورواه البخاري من حديث شعبة عن عبد الملك بن عمير به وفي رواية لمسلم أنه قال ذلك عشية رجم ماعز بن مالك وذكر معه أحاديث أخر وفي هذا الحديث دلالة على أنه لا بد من وجود اثني عشر خليفة عادل وليسوا هم بأئمة الشيعة الاثني عشر فإن كثيرا من أولئك لم يكن لهم من الأمر شيء فأما هؤلاء فإنهم يكونون من قريش يلون فيعدلون وقد وقعت البشارة بهم في الكتب المتقدمة ثم لا يشترط أن يكون متتابعين بل يكون وجودهم في الأمة متتابعا ومتفرقا وقد وجد منهم أربعة على الولاء وهم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم ثم كانت بعدهم فترة ثم وجد منهم من شاء الله ثم قد يوجد منهم من بقي في الوقت الذي يعلمه الله تعالى ومنهم المهدي الذي اسمه يطابق اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنيته كنيته يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما وقد روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث سعيد بن جهمان عن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكا عضوضا" "وقال الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله" وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذين ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا "الآية قال كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة نحوا من عشر سنين يدعون إلى الله وحده وإلى عبادته وحده لا شريك له سرا وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال حتى أمروا بالهجرة إلى المدينة فقدموها فأمرهم الله بالقتال فكانوا بها خائفين يمسون في السلاح ويصبحون في السلاح فصبروا على ذلك ما شاء الله ثم إن رجلا من الصحابة قال يا رسول الله : أبد الدهر نحن خائفون هكذا ؟ أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا السلاح ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لن تصبروا إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملإ العظيم محتبيا ليست فيه حديدة "وأنزل الله هذه الآية فأظهر الله نبيه على جزيرة العرب فآمنوا ووضعوا السلاح ثم إن الله تعالى قبض نبيه صلى الله عليه وسلم فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان حتى وقعوا فيما وقعوا فيه فأدخل عليهم الخوف فاتخذوا الحجزة والشرط وغيروا فغير بهم وقال بعض السلف : خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنه حق في كتاب الله ثم تلا هذه الآية وقال البراء بن عازب نزلت هذه الآية ونحن في خوف شديد وهذه الآية الكريمة كقوله تعالى" واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض - إلى قوله - لعلكم تشكرون "وقوله تعالى :" كما استخلف الذين من قبلهم "كما قال تعالى عن موسى عليه السلام إنه قال لقومه :" عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض "الآية وقال تعالى" ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض "الآيتين" وقوله : "وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم" الآية كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم حين وفد عليه "أتعرف الحيرة ؟ قال : لم أعرفها ولكن قد سمعت بها قال : فوالذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت في غير جوار أحد ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز قلت : كسرى بن هرمز ؟ قال : نعم كسرى بن هرمز وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد" . قال عدي بن حاتم : فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت في غير جوار أحد ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها . وقال الإمام أحمد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا سفيان عن أبي سلمة عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بشر هذه الأمة بالسنا والرفعة والدين والنصر والتمكين في الأرض فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب" وقوله تعالى : "يعبدونني لا يشركون بي شيئا" قال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا همام حدثنا قتادة عن أنس أن معاذ بن جبل حدثه قال : بينا أنا رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار ليس بيني وبينه إلا آخرة الرحل قال : "يا معاذ قلت لبيك يا رسول الله وسعديك قال : ثم سار ساعة ثم قال : يا معاذ بن جبل قلت : لبيك يا رسول الله وسعديك ثم سار ساعة ثم قال : يا معاذ بن جبل قلت : لبيك يا رسول الله وسعديك قال : هل تدري ما حق الله على" العباد ؟ قلت الله ورسوله أعلم قال : حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا قال ثم سار ساعة ثم قال : يا معاذ بن جبل قلت : لبيك يا رسول الله وسعديك قال : فهل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك ؟ قال قلت : الله ورسوله أعلم قال : فإن حق العباد على الله أن لا يعذبهم "." أخرجاه في الصحيحين من حديث قتادة . وقوله تعالى : "ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون" أي فمن خرج عن طاعتي بعد ذلك فقد خرج عن أمر ربه وكفى بذلك ذنبا عظيما فالصحابة رضي الله عنهم لما كانوا أقوم الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم بأوامر الله عز وجل وأطوعهم لله كان نصرهم بحسبهم أظهروا كلمة الله في المشارق والمغارب وأيدهم تأييدا عظيما وحكموا في سائر العباد والبلاد ; ولما قصر الناس بعدهم في بعض الأوامر نقص ظهورهم بحسبهم ولكن قد ثبت في الصحيحين من غير وجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى يوم القيامة - وفي رواية - حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك - وفي رواية - حتى يقاتلون الدجال - وفي رواية - حتى ينزل عيسى ابن مريم وهم ظاهرون" . وكل هذه الروايات صحيحة ولا تعارض بينها . وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون (56) وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين بإقامة الصلاة وهي عبادة الله وحده لا شريك له وإيتاء الزكاة وهي الإحسان إلى المخلوقين ضعفائهم وفقرائهم وأن يكونوا في ذلك مطيعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي سالكين وراءه فيما به أمرهم وترك ما عنه زجرهم لعل الله يرحمهم بذلك ولا شك أن من فعل هذا أن الله سيرحمه كما قال تعالى في الآية الأخرى "أولئك سيرحمهم الله" . لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ومأواهم النار ولبئس المصير (57) لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ومأواهم النار ولبئس المصير "لا تحسبن" أي : لا تظن يا محمد أن "الذين كفروا" "أي خالفوك وكذبوك" معجزين في الأرض "أي لا يعجزون الله بل الله قادر عليها وسيعذبهم على ذلك أشد العذاب ولهذا قال تعالى :" ومأواهم "أي في الدار الآخرة" النار ولبئس المصير "أي بئس المآل مآل الكافرين وبئس القرار وبئس المهاد ." يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم (58) يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم هذه الآيات الكريمة اشتملت على استئذان الأقارب بعضهم على بعض وما تقدم في أول السورة فهو استئذان الأجانب بعضهما على بعض فأمر الله تعالى المؤمنين أن يستأذنهم خدمهم مما ملكت أيمانهم وأطفالهم الذين لم يبلغوا الحلم منهم في ثلاثة أحوال "الأول" من قبل صلاة الغداة لأن الناس إذ ذاك يكونون نياما في فرشهم "وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة" أي في وقت القيلولة لأن الإنسان قد يضع ثيابه في تلك الحال مع أهله "ومن بعد صلاة العشاء" لأنه وقت النوم فيؤمر الخدم والأطفال أن لا يهجموا على أهل البيت في هذه الأحوال لما يخشى أن يكون الرجل على أهله أو نحو ذلك من الأعمال ولهذا قال "ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن" أي إذا دخلوا في حال غير هذه الأحوال فلا جناح عليكم في تمكينكم إياهم ولا عليهم إن رأوا شيئا من غير تلك الأحوال لأنه قد أذن لهم في الهجوم ولأنهم طوافون عليكم أي في الخدمة وغير ذلك . ويغتفر في الطوافين ما لا يغتفر في غيرهم ولهذا روى الإمام مالك وأحمد بن حنبل وأهل السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الهرة : "إنها ليست بنجسة إنها من الطوافين عليكم أو والطوافات" ولما كانت هذه الآية محكمة ولم تنسخ بشيء وكان عمل الناس بها قليلا جدا أنكر عبد الله بن عباس ذلك على الناس كما قال ابن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير حدثني عبد الله بن لهيعة حدثني عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير قال : قال ابن عباس ترك الناس ثلاث آيات فلم يعملوا بهن "يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم" إلى آخر الآية والآية التي في سورة النساء "وإذا حضر القسمة أولوا القربى" الآية والآية التي في الحجرات "إن أكرمكم عند الله أتقاكم" وفي لفظ له أيضا من حديث إسماعيل بن مسلم وهو ضعيف عن عمرو بن دينار عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال : غلب الشيطان الناس على ثلاث آيات فلم يعملوا بهن "يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم" إلى آخر الآية وروى أبو داود حدثنا ابن الصباح وابن سفيان وابن عبدة وهذا حديثه أخبرنا سفيان عن عبيد الله بن أبي يزيد سمع ابن عباس يقول : لم يؤمن بها أكثر الناس : آية الإذن وإني لآمر جاريتي هذه تستأذن علي قال أبو داود وكذلك رواه عطاء عن ابن عباس يأمر به وقال الثوري عن موسى بن أبي عائشة سألت الشعبي "ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم" قال : لم تنسخ قلت فإن الناس لا يعملون بها فقال : الله المستعان وقال ابن أبي حاتم حدثنا الربيع بن سليمان حدثنا ابن وهب أخبرنا سليمان بن بلال عن عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس أن رجلين سألاه عن الاستئذان في الثلاث عورات التي أمر الله بها في القرآن فقال ابن عباس : "إن الله ستير يحب الستر كان الناس ليس لهم سطور على أبوابهم ولا حجال في بيوتهم فربما فاجأ الرجل خادمه أو ولده أو يتيمه في حجره وهو على أهله فأمرهم الله أن يستأذنوا في تلك العورات التي سمى الله ثم جاء الله بعد بالستور فبسط الله عليهم الرزق فاتخذوا الستور واتخذوا الحجال فرأى الناس أن ذلك قد كفاهم من الاستئذان الذي أمروا به" وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس ورواه أبو داود عن القعنبي عن الدراوردي عن عمرو بن أبي عمرو به : وقال السدي كان أناس من الصحابة رضي الله عنهم يحبون أن يواقعوا نساءهم في هذه الساعات ليغتسلوا ثم يخرجوا إلى الصلاة فأمرهم الله أن يأمروا المملوكين والغلمان أن لا يدخلوا عليهم في تلك الساعات إلا بإذن وقال مقاتل بن حيان : بلغنا والله أعلم أن رجلا من الأنصار وامرأته أسماء بنت مرثد صنعا للنبي صلى الله عليه وسلم طعاما فجعل الناس يدخلون بغير إذن : فقالت أسماء يا رسول الله ما أقبح هذا إنه ليدخل على المرأة وزوجها وهما في ثوب واحد غلامهما بغير إذن فأنزل الله في ذلك "يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم" إلى آخرها ومما يدل على أنها محكمة لم تنسخ قوله "كذلك يبين الله لكم الآيات والله حكيم عليم" . وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم (59) وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم يعني إذا بلغ الأطفال منكم الحلم الذين إنما كانوا يستأذنون في العورات الثلاث إذا بلغوا الحلم وجب عليهم أن يستأذنوا على كل حال يعني بالنسبة إلى أجانبهم وإلى الأحوال التي يكون الرجل على امرأته وإن لم يكن في الأحوال الثلاث . قال الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير إذا كان الغلام رباعيا فإنه يستأذن في العورات الثلاث على أبويه فإذا بلغ الحلم فليستأذن على كل حال وهكذا قال سعيد بن جبير وقال في قوله "كما استأذن الذين من قبلهم" يعني كما استأذن الكبار من ولد الرجل وأقاربه . والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم (60) والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم قال سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان والضحاك وقتادة : هن اللواتي انقطع عنهن الحيض ويئسن من الولد "اللاتي لا يرجون نكاحا" أي لم يبق لهن تشوف إلى التزوج "فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة" أي ليس عليهم من الحجر في التستر كما على غيرهن من النساء قال أبو داود حدثنا أحمد بن محمد المروزي حدثني علي بن الحسين بن واقد عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس "وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن" الآية فنسخ من ذلك واستثنى من ذلك "القواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا" الآية قال ابن مسعود في قوله "فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن" قال : الجلباب أو الرداء وكذلك روي عن ابن عباس وابن عمر ومجاهد وسعيد بن جبير وأبي الشعثاء وإبراهيم النخعي والحسن وقتادة والزهري والأوزاعي وغيرهم وقال أبو صالح : تضع الجلباب وتقوم بين يدي الرجل في الدرع والخمار وقال سعيد بن جبير وغيره في قراءة عبد الله بن مسعود "أن يضعن من ثيابهن" وهو الجلباب من فوق الخمار فلا بأس أن يضعن عند غريب أو غيره بعد أن يكون عليها خمار صفيق وقال سعيد بن جبير في الآية "غير متبرجات بزينة" يقول : لا يتبرجن بوضع الجلباب ليرى ما عليهن من الزينة وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا هشام بن عبد الله حدثنا ابن المبارك حدثني سوار بن ميمون حدثنا طلحة بن عاصم عن أم المصاعن أنها قالت دخلت على عائشة رضي الله عنها فقلت يا أم المؤمنين ما تقولين في الخضاب والنفاض والصباغ والقرطين والخلخال وخاتم الذهب وثياب الرقاق فقالت : يا معشر النساء قصتكن كلها واحدة أحل الله لكن الزينة غير متبرجات أي لا يحل لكن أن يروا منكن محرما وقال السدي كان شريك لي يقال له مسلم وكان مولى لامرأة حذيفة بن اليمان فجاء يوما إلى السوق وأثر الحناء في يده فسألته عن ذلك فأخبرني أنه خضب رأس مولاته وهي امرأة حذيفة فأنكرت ذلك فقال إن شئت أدخلتك عليها فعلت نعم فأدخلني عليها فإذا هي امرأة جليلة فقلت لها إن مسلما حدثني أنه خضب رأسك فقالت نعم يا بني إني من القواعد اللاتي لا يرجون نكاحا وقد قال الله تعالى في ذلك ما سمعت وقوله "وأن يستعففن خير لهن" أي وترك وضعهن لثيابهن وإن كان جائزا خير وأفضل لهن والله سميع عليم . ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون (61) ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون "اختلف المفسرون رحمهم الله في المعنى الذي رفع لأجله الحرج عن" الأعمى والأعرج والمريض ههنا فقال عطاء الخراساني وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم يقال إنها نزلت في الجهاد وجعلوا هذه الآية ههنا كالتي في سورة الفتح وتلك في الجهاد لا محالة أي أنهم لا إثم عليهم في ترك الجهاد لضعفهم وعجزهم وكما قال تعالى في سورة براءة ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه - إلى قوله - أن لا يجدوا ما ينفقون "وقيل المراد ههنا أنهم كانوا يتحرجون من الأكل مع الأعمى لأنه لا يرى الطعام وما فيه من الطيبات فربما سبقه غيره إلى ذلك ولا مع الأعرج لأنه لا يتمكن من الجلوس فيقتات عليه جليسه والمريض لا يستوفي من الطعام كغيره فكرهوا أن يؤاكلوهم لئلا يظلموهم فأنزل الله هذه الآية رخصة في ذلك وهذا قول سعيد بن جبير ومقسم وقال الضحاك : كانوا قبل البعثة يتحرجون من الأكل مع هؤلاء تقذرا وتعززا ولئلا يتفضلوا عليهم فأنزل الله هذه الآية وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى" ليس على الأعمى حرج "الآية قال : كان الرجل يذهب بالأعمى أو بالأعرج أو بالمريض إلى بيت أبيه أو أخيه أو بيت أخته أو بيت عمته أو بيت خالته فكان الزمنى يتحرجون من ذلك يقولون إنما يذهبون بنا إلى بيوت عشيرتهم فنزلت هذه الآية رخصة لهم وقال السدي : كان الرجل يدخل بيت أبيه أو أخيه أو ابنه فتتحفه المرأة بشيء من الطعام فلا يأكل من أجل أن رب البيت ليس ثم فقال الله تعالى" ليس على الأعمى حرج "الآية" وقوله تعالى "ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم" إنما ذكر هذا وهو معلوم ليعطف عليه غيره في اللفظ وليساوي به ما بعده في الحكم وتضمن هذا بيوت الأبناء لأنه لم ينص عليهم ولهذا استدل بهذا من ذهب إلى أن مال الولد بمنزله مال أبيه وقد جاء في المسند والسنن من غير وجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "أنت ومالك لأبيك" وقوله : "أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم - إلى قوله - أو ما ملكتم مفاتحه" هذا ظاهر وقد يستدل به من يوجب نفقة الأقارب بعضهم على بعض كما هو مذهب أبي حنيفة والإمام أحمد بن حنبل في المشهور عنهما وأما قوله "أو ما ملكتم مفاتحه" فقال سعيد بن جبير والسدي : هو خادم الرجل من عبد وقهرمان فلا بأس أن يأكل مما استودعه من الطعام بالمعروف وقال الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان المسلمون يذهبون في النفير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيدفعون مفاتحهم إلى ضمنائهم ويقولون قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما احتجتم إليه فكانوا يقولون إنه لا يحل لنا أن نأكل إنهم أذنوا لنا عن غير طيب أنفسهم وإنما نحن أمناء فأنزل الله "أو ما ملكتم مفاتحه" وقوله "أو صديقكم" أي بيوت أصدقائكم وأصحابكم فلا جناح عليكم في الأكل منها إذا علمتم أن ذلك لا يشق عليهم ولا يكرهون ذلك وقال قتادة إذا دخلت بيت صديقك فلا بأس أن تأكل بغير إذنه وقوله "ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا" قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية وذلك لما أنزل الله "يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل" قال المسلمون إن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل والطعام من أفضل الأموال فلا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد فكف الناس عن ذلك فأنزل الله "ليس على الأعمى حرج - إلى قوله - أو صديقكم" وكانوا أيضا يأنفون ويتحرجون أن يأكل الرجل الطعام وحده حتى يكون معه غيره فرخص الله لهم في ذلك فقال : "ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا" وقال قتادة : كان هذا الحي من بني كنانة يرى أحدهم أن مخزاة عليه أن يأكل وحده في الجاهلية حتى إن كان الرجل ليسوق الذود الحفل وهو جائع حتى يجد من يؤاكله ويشاربه فأنزل الله "ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا" فهذه رخصة من الله تعالى في أن يأكل الرجل وحده ومع الجماعة وإن كان الأكل مع الجماعة أبرك وأفضل كما رواه الإمام أحمد حدثنا يزيد بن عبد ربه حدثنا الوليد بن مسلم عن وحشي بن حرب عن أبيه عن جده أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم إنا نأكل ولا نشبع قال : "لعلكم تأكلون متفرقين اجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله يبارك لكم فيه" ورواه أبو داود وابن ماجه من حديث الوليد بن مسلم به وقد روى ابن ماجه أيضا من حديث عمرو بن دينار القهرماني عن سالم عن أبيه عن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "كلوا جميعا ولا تفرقوا فإن البركة مع الجماعة" وقوله : "فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم" قال سعيد بن جبير والحسن البصري وقتادة والزهري : يعني فليسلم بعضكم على بعض وقال ابن جريج أخبرني أبو الزبير سمعت جابر بن عبد الله يقول : إذا دخلت على أهلك فسلم عليهم تحية من عند الله مباركة طيبة قال ما رأيته إلا يوجبه قال ابن جريج وأخبرني زياد عن ابن طاوس أنه كان يقول : إذا دخل أحدكم بيته فليسلم قال ابن جريج قلت لعطاء أواجب إذا خرجت ثم دخلت أن أسلم عليهم ؟ قال لا ولا أوثر وجوبه عن أحد ولكن هو أحب إلي وما أدعه إلا ناسيا وقال مجاهد : إذا دخلت المسجد فقل السلام على رسول الله وإذا دخلت على أهلك فسلم عليهم وإذا دخلت بيتا ليس فيه أحد فقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين وروى الثوري عن عبد الكريم الجزري عن مجاهد إذا دخلت بيتا ليس فيه أحد فقل بسم الله والحمد لله السلام علينا من ربنا السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ; وقال قتادة : إذا دخلت على أهلك فسلم عليهم وإذا دخلت بيتا ليس فيه أحد فقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فإنه كان يؤمر بذلك وحدثنا أن الملائكة ترد عليه وقال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عويد بن أبي عمران الجوني عن أبيه عن أنس قال : أوصاني النبي صلى الله عليه وسلم بخمس خصال قال : "يا أنس أسبغ الوضوء يزد في عمرك وسلم على من لقيك من أمتي تكثر حسناتك وإذا دخلت - يعني بيتك - فسلم على أهلك يكثر خير بيتك وصل صلاة الضحى فإنها صلاة الأوابين قبلك يا أنس ارحم الصغير ووقر الكبير تكن من رفقائي يوم القيامة" ![]()
__________________
|
|
#373
|
||||
|
||||
![]() تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير) إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي الجزء (10) تفسير سورة النور من صـ 278 الى صــ 292 الحلقة (373) وقوله "تحية من عند الله مباركة طيبة" قال محمد بن إسحاق حدثني داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أنه كان يقول : ما أخذت التشهد إلا من كتاب الله سمعت الله يقول "فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة" فالتشهد في الصلاة : التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ثم يدعو لنفسه ويسلم "وهكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث ابن إسحاق والذي في صحيح مسلم عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخالف هذا والله أعلم ." وقوله "كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون" لما ذكر تعالى ما في السورة الكريمة من الأحكام المحكمة والشرائع المتقنة المبرمة نبه تعالى عباده على أنه يبين لعباده الآيات بيانا شافيا ليتدبروها ويتعقلوها لعلهم يعقلون . إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم (62) إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم وهذا أيضا أدب أرشد الله عباده المؤمنين إليه فكما أمرهم بالاستئذان عند الدخول كذلك أمرهم بالاستئذان عند الانصراف لا سيما إذا كانوا في أمر جامع مع الرسول صلوات الله وسلامه عليه من صلاة جمعة أو عيد جماعة أو اجتماع في مشورة ونحو ذلك أمرهم الله تعالى أن لا يتفرقوا عنه والحالة هذه إلا بعد استئذانه ومشاورته وأن من يفعل ذلك فإنه من المؤمنين الكاملين ثم أمر رسوله صلوات الله وسلامه عليه إذا استأذنه أحد منهم في ذلك أن يأذن له إن شاء ولهذا قال "فائذن لمن شئت منهم واستغفر لهم" الآية وقد قال أبو داود حدثنا أحمد بن حنبل ومسدد قالا حدثنا بشر هو ابن المفضل عن ابن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم فإذا أراد أن يقوم فليسلم فليست الأولى بأحق من الآخرة" وهكذا رواه الترمذي والنسائي من حديث محمد بن عجلان به وقال الترمذي : حديث حسن . لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم (63) لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم قال الضحاك عن ابن عباس : كانوا يقولون يا محمد يا أبا القاسم فنهاهم الله عز وجل عن ذلك إعظاما لنبيه صلى الله عليه وسلم قال : فقولوا يا نبي الله يا رسول الله وهكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وقال قتادة : أمر الله أن يهاب نبيه صلى الله عليه وسلم وأن يبجل وأن يعظم وأن يسود وقال مقاتل في قوله "لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا" يقول لا تسموه إذا دعوتموه يا محمد ولا تقولوا يا ابن عبد الله ولكن شرفوه فقولوا يا نبي الله يا رسول الله وقال مالك عن زيد بن أسلم في قوله "لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء" بعضكم بعضا "قال : أمرهم الله أن يشرفوه هذا قول وهو الظاهر من السياق كقوله تعالى" يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا "إلى آخر الآية وقوله" يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون - إلى قوله - إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم "الآية فهذا كله من باب الأدب في مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم والكلام معه وعنده كما أمروا بتقديم الصدقة قبل مناجاته والقول الثاني في ذلك أن المعنى في" لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا "أي لا تعتقدوا أن دعاءه على غيره كدعاء غيره فإن دعاءه مستجاب فاحذروا أن يدعو عليكم فتهلكوا حكاه ابن أبي حاتم عن ابن عباس والحسن البصري وعطية العوفي والله أعلم وقوله :" قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا "قال مقاتل بن حيان هم المنافقون كان يثقل عليهم الحديث في يوم الجمعة ويعني بالحديث الخطبة فيلوذون ببعض أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حتى يخرجوا من المسجد وكان لا يصح للرجل أن يخرج من المسجد إلا بإذن من النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة بعدما يأخذ في الخطبة وكان إذا أراد أحدهم الخروج أشار بأصبعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيأذن له من غير أن يتكلم الرجل لأن الرجل منهم كان إذا تكلم والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب بطلت جمعته وقال السدي : كانوا إذا كانوا معه في جماعة لاذ بعضهم ببعض حتى يتغيبوا عنه فلا يراهم وقال قتادة في قوله" قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا "يعني لواذا عن نبي الله وعن كتابه" وقال سفيان "قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا" قال من الصف وقال مجاهد في الآية "لواذا" خلافا وقوله "فليحذر الذين يخالفون عن أمره" أي عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سبيله ومنهاجه وطريقته وسنته وشريعته فتوزن الأقوال والأعمال بأقواله وأعماله فما وافق ذلك قبل وما خالفه فهو مردود على قائله وفاعله كائنا من كان كما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" أي فليحذر وليخش من خالف شريعة الرسول باطنا وظاهرا "أن تصيبهم فتنة" أي في قلوبهم من كفر أو نفاق أو بدعة "أو يصيبهم عذاب أليم" أي في الدنيا بقتل أو حد أو حبس أو نحو ذلك كما روى الإمام أحمد حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام بن منبه قال هذا ما حدثنا عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب اللائي يقعن في النار يقعن فيها وجعل يحجزهن ويغلبنه فيتقحمن فيها - قال - فذلك مثلي ومثلكم أنا آخذ بحجزكم عن النار هلم عن النار فتغلبوني وتقتحمون فيها" . أخرجاه من حديث عبد الرزاق . ألا إن لله ما في السماوات والأرض قد يعلم ما أنتم عليه ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل شيء عليم (64) ألا إن لله ما في السماوات والأرض قد يعلم ما أنتم عليه ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل شيء عليم يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض وأنه عالم الغيب والشهادة وهو عالم بما العباد عاملون في سرهم وجهرهم فقال "قد يعلم ما أنتم عليه" وقد للتحقيق كما قال قبلها "قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا" وقال تعالى : "قد يعلم الله المعوقين منكم" الآية وقال تعالى : "قد سمع الله قول التي تجادلك" الآية وقال : "قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون" وقال : "قد نرى تقلب وجهك في السماء" الآية فكل هذه الآيات فيها تحقيق الفعل بقد كقول المؤذن تحقيقا وثبوتا : قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة فقوله تعالى : "قد يعلم ما أنتم عليه" أي هو عالم به مشاهد له لا يعزب عنه مثقال ذرة كما قال تعالى : "وتوكل على العزيز الرحيم - إلى قوله - إنه هو السميع العليم" وقوله "وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين" وقال تعالى : "أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت" أي هو شهيد على عباده بما هم فاعلون من خير وشر وقال تعالى : "ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون" وقال تعالى : "سواء منكم من أسر القول ومن جهر به" الآية وقال تعالى : "وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين" وقال : "وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين" والآيات والأحاديث في هذا كثيرة جدا وقوله "ويوم يرجعون إليه" أي ويوم يرجع الخلائق إلى الله وهو يوم القيامة "فينبئهم بما عملوا" أي يخبرهم بما فعلوا في الدنيا من جليل وحقير وصغير وكبير كما قال تعالى "ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر" وقال : "ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا" ولهذا قال ههنا "ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل شيء عليم" . والحمد لله رب العالمين ونسأله التمام آخر تفسير سورة النور ولله الحمد والمنة . تفسير سورة الفرقان وهي مكية بسم الله الرحمن الرحيم تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا (1) تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا يقول تعالى حامدا لنفسه الكريمة على ما نزله على رسوله الكريم من القرآن العظيم كما قال تعالى "الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات" الآية وقال ههنا "تبارك" وهو تفاعل من البركة المستقرة الثابتة الدائمة "الذي نزل الفرقان" نزل فعل من التكرر والتكثر كقوله "والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل" لأن الكتب المتقدمة كانت تنزل جملة واحدة والقرآن نزل منجما مفرقا مفصلا آيات بعد آيات وأحكاما بعد أحكام وسورا بعد سور وهذا أشد وأبلغ وأشد اعتناء بمن أنزل عليه كما قال في أثناء هذه السورة "وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا" ولهذا سماه ههنا الفرقان لأنه يفرق بين الحق والباطل والهدى والضلال والغي والرشاد والحلال والحرام وقوله "على عبده" هذه صفة مدح وثناء لأنه أضافه إلى عبوديته كما وصفه بها في أشرف أحواله وهي ليلة الإسراء فقال "سبحان الذي أسرى بعبده ليلا" وكما وصفه بذلك في مقام الدعوة إليه "وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا" وكذلك وصفه عند إنزال الكتاب عليه ونزول الملك إليه "تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا" وقوله "ليكون للعالمين نذيرا" أي إنما خصه بهذا الكتاب المفصل العظيم المبين المحكم الذي "لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد" الذي جعله فرقانا عظيما ليخصه بالرسالة إلى من يستظل بالخضراء ويستقل على الغبراء كما قال صلى الله عليه وسلم "بعثت إلى الأحمر والأسود" وقال "إني أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي" فذكر منهن "أنه كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة" كما قال تعالى "قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا" الآية أي الذي أرسلني هو مالك السموات والأرض الذي يقول للشيء كن فيكون وهو الذي يحيي ويميت . الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا (2) الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا وهكذا قال ههنا "الذي له ملك السموات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك" ونزه نفسه عن الولد وعن الشريك ثم أخبر أنه "خلق كل شيء فقدره تقديرا" أي كل شيء مما سواه مخلوق مربوب وهو خالق كل شيء وربه ومليكه وإلهه وكل شيء تحت قهره وتدبيره وتسخيره وتقديره . واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا (3) واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا يخبر تعالى عن جهل المشركين في اتخاذهم آلهة من دون الله الخالق لكل شيء المالك لأزمة الأمور الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ومع هذا عبدوا معه من الأصنام ما لم يقدر على خلق جناح بعوضة بل هم مخلوقون لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا فكيف يملكون لعابديهم ؟ "ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا" أي ليس لهم من ذلك شيء بل ذلك كله مرجعه إلى الله عز وجل الذي يحيي ويميت وهو الذي يعيد الخلائق يوم القيامة أولهم وآخرهم "ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة" كقوله "وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر" وقوله "فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة" "فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون - إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون" فهو الله الذي لا إله غيره ولا رب سواه ولا تنبغي العبادة إلا له لأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وهو الذي لا ولد له ولا والد ولا عديل ولا بديل ولا وزير ولا نظير بل هو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد . وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا (4) وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا يقول تعالى مخبرا عن سخافة عقول الجهلة من الكفار في قولهم عن القرآن "إن هذا إلا إفك" أي كذب "افتراه" يعنون النبي صلى الله عليه وسلم "وأعانه عليه قوم آخرون" أي واستعان على جمعه بقوم آخرين فقال الله تعالى "فقد جاءوا ظلما وزورا" أي فقد افتروا هم قولا باطلا وهم يعلمون أنه باطل ويعرفون كذب أنفسهم فيما زعموه . وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا (5) وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا "وقالوا أساطير الأولين اكتتبها" يعنون كتب الأوائل أي استنسخها "فهي تملى عليه" أي تقرأ عليه "بكرة وأصيلا" أي في أول النهار وآخره وهذا الكلام لسخافته وكذبه وبهته منهم يعلم كل أحد بطلانه فإنه قد علم بالتواتر وبالضرورة أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يعاني شيئا من الكتابة لا في أول عمره ولا في آخره وقد نشأ بين أظهرهم من أول مولده إلى أن بعثه الله نحوا من أربعين سنة وهم يعرفون مدخله ومخرجه وصدقه ونزاهته وبره وأمانته وبعده عن الكذب والفجور وسائر الأخلاق الرذيلة حتى إنهم كانوا يسمونه في صغره وإلى أن بعث الأمين ; لما يعلمون من صدقه وبره فلما أكرمه الله بما أكرمه به نصبوا له العداوة ورموه بهذه الأقوال التي يعلم كل عاقل براءته منها وحاروا فيما يقذفونه به فتارة من إفكهم يقولون ساحر وتارة يقولون شاعر وتارة يقولون مجنون وتارة يقولون كذاب وقال الله تعالى "انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون" سبيلا "" قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما (6) قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما وقال تعالى في جواب ما عاندوا ههنا وافتروا "قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض" الآية أي أنزل القرآن المشتمل على أخبار الأولين والآخرين إخبارا حقا صدقا مطابقا للواقع في الخارج ماضيا ومستقبلا "الذي يعلم السر" أي الله الذي يعلم غيب السموات والأرض ويعلم السرائر كعلمه بالظواهر وقوله تعالى "إنه كان غفورا رحيما" دعاء لهم إلى التوبة والإنابة وإخبار لهم بأن رحمته واسعة وأن حلمه عظيم مع أن من تاب إليه تاب عليه فهؤلاء مع كذبهم وافترائهم وفجورهم وبهتانهم وكفرهم وعنادهم وقولهم عن الرسول والقرآن ما قالوا يدعوهم إلى التوبة والإقلاع عما هم فيه إلى الإسلام والهدى كما قال تعالى "لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم" وقال تعالى "إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق" قال الحسن البصري : انظروا إلى هذا الكرم والجود قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والرحمة . وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا (7) وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا يخبر تعالى عن تعنت الكفار وعنادهم وتكذيبهم للحق بلا حجة ولا دليل منهم وإنما تعللوا بقولهم "ما لهذا الرسول يأكل الطعام" يعنون كما نأكله ويحتاج إليه كما نحتاج "ويمشي في الأسواق" أي يتردد فيها وإليها طلبا للتكسب والتجارة "لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا" يقولون هلا أنزل إليه ملك من عند الله فيكون شاهدا على صدق ما يدعيه . أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا (8) أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا وهذا كما قال فرعون "فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين" وكذلك قال هؤلاء على السواء تشابهت قلوبهم ولهذا قالوا "أو يلقى إليه كنز" أي علم كنز ينفق منه "أو تكون له جنة يأكل منها" أي تسير معه حيث سار وهذا كله سهل يسير على الله ولكن له الحكمة في ترك ذلك وله الحجة البالغة "وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا" . انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا (9) انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا قال الله تعالى "انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا" أي جاءوا بما يقذفونك به ويكذبون به عليك من قولهم ساحر مسحور مجنون كذاب شاعر وكلها أقوال باطلة كل أحد ممن له أدنى فهم وعقل يعرف كذبهم وافتراءهم في ذلك ولهذا قال "فضلوا" عن طريق الهدى "فلا يستطيعون سبيلا" وذلك أن كل من خرج عن الحق وطريق الهدى فإنه ضال حيثما توجه لأن الحق واحد ومنهجه متحد يصدق بعضه بعضا . تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا (10) تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا ثم قال تعالى مخبرا نبيه أنه إن شاء لأتاه خيرا مما يقولون في الدنيا وأفضل وأحسن فقال "تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك" الآية . قال مجاهد يعني في الدنيا قال وقريش يسمون كل بيت من حجارة قصرا كبيرا كان أو صغيرا قال سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن خيثمة قيل للنبي صلى الله عليه وسلم إن شئت أن نعطيك خزائن الأرض ومفاتيحها ما لم نعطه نبيا قبلك ولا نعطي أحدا من بعدك ولا ينقص ذلك مما لك عند الله فقال "اجمعوها لي في الآخرة" فأنزل الله عز وجل في ذلك "تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك" الآية . بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا (11) بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا وقوله "بل كذبوا بالساعة" أي إنما يقول هؤلاء هكذا تكذيبا وعنادا لا أنهم يطلبون ذلك تبصرا واسترشادا بل تكذيبهم بيوم القيامة يحملهم على قول ما يقولونه من هذه الأقوال "وأعتدنا" أي أرصدنا "لمن كذب بالساعة سعيرا" أي عذابا أليما حارا لا يطاق في نار جهنم قال الثوري عن سلمة بن كهيل عن سعيد بن جبير "السعير" واد من قيح جهنم . إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا (12) إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا وقوله "إذا رأتهم" أي جهنم "من مكان بعيد" يعني في مقام المحشر قال السدي من مسيرة مائة عام "سمعوا لها تغيظا وزفيرا" أي حنقا عليهم كما قال تعالى "إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور تكاد تميز من الغيظ" أي يكاد ينفصل بعضها من بعض من شدة غيظها على من كفر بالله وروى ابن أبي حاتم حدثنا إدريس بن حاتم بن الأخنف الواسطي أنه سمع محمد بن الحسن الواسطي عن أصبغ بن زيد عن خالد بن كثير عن خالد بن دريك بإسناده عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من يقل علي ما لم أقل أو ادعى إلى غير والديه أو انتمى إلى غير مواليه فليتبوأ مقعده من النار - وفي رواية - فليتبوأ بين عيني جهنم مقعدا" قيل يا رسول الله وهل لها من عينين ؟. قال أما سمعتم الله يقول "إذا رأتهم من مكان بعيد" الآية ورواه ابن جرير عن محمد بن خداش عن محمد بن يزيد الواسطي به وقال أيضا حدثنا أبي حدثنا علي بن محمد الطنافسي حدثنا أبو بكر بن عياش عن عيسى بن سليم عن أبي وائل قال خرجنا مع عبد الله يعني ابن مسعود ومعنا الربيع بن خيثم فمروا على حداد فقام عبد الله ينظر إلى حديدة في النار ونظر الربيع بن خيثم إليها فتمايل الربيع ليسقط فمر عبد الله على أتون على شاطئ الفرات فلما رآه عبد الله والنار تلتهب في جوفه قرأ هذه الآية "إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا" فصعق يعني الربيع وحملوه إلى أهل بيته فرابطه عبد الله إلى الظهر فلم يفق رضي الله عنه وحدثنا أبي حدثنا عبد الله بن رجاء حدثنا إسرائيل عن أبي يحيى عن مجاهد عن ابن عباس قال : إن العبد ليجر إلى النار فتشهق إليه شهقة البغلة إلى الشعير ثم تزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف هكذا رواه ابن أبي حاتم بإسناده مختصرا وقد رواه الإمام أبو جعفر بن جرير حدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي حدثنا عبيد الله بن موسى أخبرنا إسرائيل عن أبي يحيى عن مجاهد بإسناده إلى ابن عباس قال : إن الرجل ليجر إلى النار فتنزوي وتنقبض بعضها إلى بعض فيقول لها الرحمن ما لك ؟ قالت إنه يستجير مني فيقول أرسلوا عبدي وإن الرجل ليجر إلى النار فيقول يا رب ما كان هذا الظن بك فيقول فما كان ظنك ؟ فيقول أن تسعني رحمتك فيقول أرسلوا عبدي وإن الرجل ليجر إلى النار فتشهق إليه النار شهقة البغلة إلى الشعير وتزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف وهذا إسناد صحيح وقال عبد الرزاق أخبر معمر عن منصور عن مجاهد عن عبيد بن عمير في قوله "سمعوا لها تغيظا وزفيرا" قال إن جهنم لتزفر زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا خر لوجهه ترتعد فرائصه حتى إن إبراهيم عليه السلام ليجثو على ركبتيه ويقول : رب لا أسألك اليوم إلا نفسي . وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا (13) وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا وقوله "وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين" قال قتادة عن أبي أيوب عن عبد الله بن عمرو قال : مثل الزج في الرمح أي من ضيقه. وقال عبد الله بن وهب أخبرني نافع بن يزيد عن يحيى بن أبي أسيد يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله "وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين" قال "والذي نفسي بيده إنهم ليستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط" وقوله "مقرنين" قال أبو صالح يعني مكتفين "دعوا هنالك ثبورا" أي بالويل والحسرة والخيبة . لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا (14) لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا "لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا" الآية روى الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن يزيد عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "أول من يكسى حلة من النار إبليس فيضعها على حاجبيه ويسحبها من خلفه وذريته من بعده وهو ينادي يا ثبوراه وينادون يا ثبورهم حتى يقفوا على النار فيقول يا ثبوراه ويقولون يا ثبورهم فيقال لهم" لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا " لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة ورواه ابن أبي حاتم عن أحمد بن سنان عن عفان به ورواه ابن جرير من حديث حماد بن سلمة به وقال العوفي عن ابن عباس في قوله "لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا" الآية أي لا تدعوا اليوم ويلا واحدا وادعوا ويلا كثيرا وقال الضحاك الثبور الهلاك والأظهر أن الثبور يجمع الهلاك والويل والخسار والدمار كما قال موسى لفرعون " وإني لأظنك يا فرعون مثبورا "أي هالكا قال عبيد الله بن الزبعرى :" إذ أباري الشيطان في سنن الغ ... ي ومن مال ميله مثبور قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاء ومصيرا (15) قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاء ومصيرا يقول تعالى : يا محمد هذا الذي وصفناه لك من حال الأشقياء الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم فتلقاهم بوجه عبوس وتغيظ وزفير ويلقون في أماكنها الضيق مقرنين لا يستطيعون حراكا ولا استنصارا ولا فكاكا مما هم فيه أهذا خير أم جنة الخلد التي وعدها الله المتقين من عباده التي أعدها لهم وجعلها لهم جزاء ومصيرا على ما أطاعوه في الدنيا وجعل مآلهم إليها . لهم فيها ما يشاءون خالدين كان على ربك وعدا مسئولا (16) لهم فيها ما يشاءون خالدين كان على ربك وعدا مسئولا "لهم فيها ما يشاءون" من الملاذ من مآكل ومشارب وملابس ومساكن ومراكب ومناظر وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب أحد وهم في ذلك خالدون أبدا دائما سرمدا بلا انقطاع ولا زوال ولا انقضاء ولا يبغون عنها حولا وهذا من وعد الله الذي تفضل به عليهم وأحسن به إليهم ولهذا قال "كان على ربك وعدا مسئولا" أي لا بد أن يقع وأن يكون كما حكاه أبو جعفر بن جرير عن بعض علماء العربية أن معنى قوله "وعدا مسئولا" أي وعدا واجبا وقال ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس "كان على ربك وعدا مسئولا" يقول فسألوا الذي وعدهم وتنجزوه وقال محمد بن كعب القرظي في قوله "كان على ربك وعدا مسئولا" إن الملائكة تسأل لهم ذلك "ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم" وقال أبو حازم إذا كان يوم القيامة قال المؤمنون ربنا عملنا لك بالذي أمرتنا فأنجز لنا ما وعدتنا فذلك قوله "وعدا مسئولا" وهذا المقام في هذه السورة من ذكر النار ثم التنبيه على حال أهل الجنة كما ذكر تعالى في سورة الصافات حال أهل الجنة وما فيها من النضرة والحبور ثم قال "أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم إنا جعلناها فتنة للظالمين إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم طلعها كأنه رءوس الشياطين فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم إنهم ألفوا آباءهم ضالين فهم على آثارهم يهرعون" . ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل (17) ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل يقول تعالى مخبرا عما يقع يوم القيامة من تقريع الكفار في عبادتهم من عبدوا من دون الله من الملائكة وغيرهم فقال "ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله" قال مجاهد هو عيسى والعزير والملائكة "فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء" الآية أي فيقول تبارك وتعالى للمعبودين أأنتم دعوتم هؤلاء إلى عبادتكم من دوني أم هم عبدوكم من تلقاء أنفسهم من غير دعوة منكم لهم كما قال الله تعالى "وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ما قلت لهم إلا ما أمرتني به" الآية . قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا (18) قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا ولهذا قال تعالى مخبرا عما يجيب به المعبودون يوم القيامة "قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء" قرأ الأكثرون بفتح النون من قوله "نتخذ من دونك من أولياء" أي ليس للخلائق كلهم أن يعبدوا أحدا سواك لا نحن ولا هم فنحن ما دعوناهم إلى ذلك بل هم فعلوا ذلك من تلقاء أنفسهم من غير أمرنا ولا رضانا ونحن برآء منهم ومن عبادتهم كما قال تعالى "ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك" الآية وقرأ آخرون "ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء" أي ما ينبغي لأحد أن يعبدنا فإنا عبيد لك فقراء إليك وهي قريبة المعنى من الأولى "ولكن متعتهم وآباءهم" أي طال عليهم العمر حتى نسوا الذكر أي نسوا ما أنزلته إليهم على ألسنة رسلك من الدعوة إلى عبادتك وحدك لا شريك لك "وكانوا قوما بورا" قال ابن عباس أي هلكى وقال الحسن البصري ومالك عن الزهري أي لا خير فيهم وقال ابن الزبعرى حين أسلم : يا رسول المليك إن لساني ... راتق ما فتقت إذ أنا بور إذ أباري الشيطان في سنن ال ... غي ومن مال ميله مثبور فقد كذبوكم بما تقولون فما تستطيعون صرفا ولا نصرا ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا (19) فقد كذبوكم بما تقولون فما تستطيعون صرفا ولا نصرا ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا قال الله تعالى "فقد كذبوكم بما تقولون" أي فقد كذبكم الذين عبدتم من دون الله فيما زعمتم أنهم لكم أولياء وأنهم يقربونكم إلى الله زلفى كقوله تعالى "ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين" وقوله "فما تستطيعون صرفا ولا نصرا" أي لا يقدرون على صرف العذاب عنهم ولا الانتصار لأنفسهم "ومن" ![]()
__________________
|
|
#374
|
||||
|
||||
![]() تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير) إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي الجزء (10) تفسير سورة الفرقان من صـ 293 الى صــ 305 الحلقة (374) يظلم منكم "أي يشرك بالله" نذقه عذابا كبيرا "." وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا (20) وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا يقول تعالى مخبرا عن جميع من بعثه من الرسل المتقدمين أنهم كانوا يأكلون الطعام ويحتاجون إلى التغذي به ويمشون في الأسواق للتكسب والتجارة وليس ذلك بمناف لحالهم ومنصبهم فإن الله تعالى جعل لهم من السمات الحسنة والصفات الجميلة والأقوال الفاضلة والأعمال الكاملة والخوارق الباهرة والأدلة الظاهرة ما يستدل به كل ذي لب سليم وبصيرة مستقيمة على صدق ما جاءوا به من الله ونظير هذه الآية الكريمة قوله تعالى "وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى" وقوله : "وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام" الآية وقوله تعالى : "وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون" أي اختبرنا بعضكم ببعض وبلونا بعضكم ببعض لنعلم من يطيع ممن يعصي ولهذا قال "أتصبرون وكان ربك بصيرا" أي بمن يستحق أن يوحى إليه كما قال تعالى : "الله أعلم حيث يجعل رسالته" ومن يستحق أن يهديه الله لما أرسلهم به ومن لا يستحق ذلك وقال محمد بن إسحاق في قوله : "وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون" قال : يقول الله لو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي فلا يخالفون لفعلت ولكني قد أردت أن أبتلي العباد بهم وأبتليكم بهم وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "يقول الله تعالى إني مبتليك ومبتلي بك" وفي المسند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة" وفي الصحيح أنه عليه أفضل الصلاة والسلام خير بين أن يكون نبيا ملكا أو عبدا رسولا فاختار أن يكون عبدا رسولا . وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا (21) وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا يقول تعالى مخبرا عن تعنت الكفار في كفرهم وعنادهم في قولهم : "لولا أنزل علينا الملائكة" أي بالرسالة كما تنزل على الأنبياء كما أخبر الله عنهم في الآية الأخرى "قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله" ويحتمل أن يكون مرادهم ههنا "لولا أنزل علينا الملائكة" فنراهم عيانا فيخبرونا أن محمدا رسول الله كقولهم "حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا" وقد تقدم تفسيرها في سورة سبحان ولهذا قالوا : "أو نرى ربنا" ولهذا قال الله تعالى "لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا" وقد قال تعالى : "ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى" الآية . يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا (22) يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا وقوله تعالى : "يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا" أي هم لا يرون الملائكة في يوم خير لهم بل يوم يرونهم لا بشرى يومئذ لهم وذلك يصدق على وقت الاحتضار حين تبشرهم الملائكة بالنار والغضب من الجبار فتقول الملائكة للكافر عند خروج روحه : اخرجي أيتها النفس الخبيثة في الجسد الخبيث اخرجي إلى سموم وحميم وظل من يحموم فتأبى الخروج وتتفرق في البدن فيضربونه كما قال الله تعالى "ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم" الآية وقال تعالى : "ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم" أي بالضرب "أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون" ولهذا قال في هذه الآية الكريمة "يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين" وهذا بخلاف حال المؤمنين حال احتضارهم فإنهم يبشرون بالخيرات وحصول المسرات قال الله تعالى : "إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم" وفي الحديث الصحيح عن البراء بن عازب : أن الملائكة تقول لروح المؤمن اخرجي أيتها النفس الطيبة في الجسد الطيب كنت تعمرينه اخرجي إلى روح وريحان ورب غير غضبان وقد تقدم الحديث في سورة إبراهيم عند قوله تعالى : "يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء" وقال آخرون : بل المراد بقوله : "يوم يرون الملائكة لا بشرى" يعني يوم القيامة . قاله مجاهد والضحاك وغيرهما ولا منافاة بين هذا وما تقدم فإن الملائكة في هذين اليومين يوم الممات ويوم المعاد تتجلى للمؤمنين وللكافرين فتبشر المؤمنين بالرحمة والرضوان وتخبر الكافرين بالخيبة والخسران فلا بشرى يومئذ للمجرمين "ويقولون حجرا محجورا" أي وتقول الملائكة للكافرين حرام محرم عليكم الفلاح اليوم وأصل الحجر المنع ومنه يقال حجر القاضي على فلان إذا منعه التصرف إما لفلس أو سفه أو صغر أو نحو ذلك ومنه سمي الحجر عند البيت الحرام لأنه يمنع الطواف أن يطوفوا فيه وإنما يطاف من ورائه ومنه يقال للعقل حجر لأنه يمنع صاحبه عن تعاطي ما لا يليق والغرض أن الضمير في قوله : "ويقولون" عائد على الملائكة هذا قول مجاهد وعكرمة والحسن والضحاك وقتادة وعطية العوفي وعطاء الخراساني وخصيف وغير واحد واختاره ابن جرير . وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو نعيم حدثنا موسى يعني ابن قيس عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري في الآية "ويقولون حجرا محجورا" قال حراما محرما أن يبشر بما يبشر به المتقون وقد حكى ابن جرير عن ابن جريج أنه قال ذلك من كلام المشركين "يوم يرون الملائكة" أي يتعوذون من الملائكة وذلك أن العرب كانوا إذا نزل بأحدهم نازلة أو شدة يقول "حجرا محجورا" وهذا القول وإن كان له مأخذ ووجه ولكنه بالنسبة إلى السياق بعيد لا سيما وقد نص الجمهور على خلافه ولكن قد روى ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال في قوله : "حجرا محجورا" أي عوذا معاذا فيحتمل أنه أراد ما ذكره ابن جريج ولكن في رواية ابن أبي حاتم عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال "حجرا محجورا" عوذا معاذا الملائكة تقول ذلك فالله أعلم . وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا (23) وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا وقوله تعالى : "وقدمنا إلى ما عملوا من عمل" الآية هذا يوم القيامة حين يحاسب الله العباد على ما عملوه من الخير والشر فأخبر أنه لا يحصل لهؤلاء المشركين من الأعمال التي ظنوا أنها منجاة لهم شيء وذلك لأنها فقدت الشرط الشرعي إما الإخلاص فيها وإما المتابعة لشرع الله فكل عمل لا يكون خالصا وعلى الشريعة المرضية فهو باطل فأعمال الكفار لا تخلو من واحد من هذين وقد تجمعهما معا فتكون أبعد من القبول حينئذ ولهذا قال تعالى : "وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا" قال مجاهد والثوري "وقدمنا" أي عمدنا وكذا قال السدي وبعضهم يقول أتينا عليه وقوله تعالى : "فجعلناه هباء منثورا" قال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه في قوله : "هباء منثورا" قال شعاع الشمس إذا دخل الكوة وكذا روي من غير هذا الوجه عن علي وروي مثله عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والسدي والضحاك وغيرهم وكذا قال الحسن البصري هو الشعاع في كوة أحدكم ولو ذهب يقبض عليه لم يستطع . وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "هباء منثورا" قال هو الماء المهراق وقال أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي "هباء منثورا" قال الهباء وهج الدواب وروي مثله عن ابن عباس أيضا والضحاك وقاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وقال قتادة في قوله : "هباء منثورا" قال أما رأيت يبس الشجر إذا ذرته الريح ؟ فهو ذلك الورق وقال عبد الله بن وهب أخبرني عاصم بن حكيم عن أبي سريع الطائي عن عبيد بن يعلى قال وإن الهباء الرماد إذا ذرته الريح وحاصل هذه الأقوال التنبيه على مضمون الآية وذلك أنهم عملوا أعمالا اعتقدوا أنها على شيء فلما عرضت على الملك الحكم العدل الذي لا يجور ولا يظلم أحدا إذا إنها لا شيء بالكلية وشبهت في ذلك بالشيء التافه الحقير المتفرق الذي لا يقدر صاحبه منه على شيء بالكلية كما قال تعالى : "مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح" الآية وقال تعالى : "يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى - إلى قوله تعالى - لا يقدرون على شيء مما كسبوا" وقال تعالى : "والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا" وتقدم الكلام على تفسير ذلك ولله الحمد والمنة. أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا (24) أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا وقوله تعالى : "أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا" أي يوم القيامة "لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون" وذلك أن أهل الجنة يصيرون إلى الدرجات العاليات والغرفات الآمنات فهم في مقام أمين حسن المنظر طيب المقام "خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما" وأهل النار يصيرون إلى الدركات السافلات والحسرات المتتابعات وأنواع العذاب والعقوبات "إنها ساءت مستقرا ومقاما" أي بئس المنزل منظرا وبئس المقيل مقاما ولهذا قال تعالى : "أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا" أي بما عملوه من الأعمال المتقبلة نالوا ما نالوا وصاروا إلى ما صاروا إليه بخلاف أهل النار فإنهم ليس لهم عمل واحد يقتضي دخول الجنة لهم والنجاة من النار فنبه تعالى بحال السعداء على حال الأشقياء وأنه لا خير عندهم بالكلية فقال تعالى : "أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا" قال الضحاك عن ابن عباس : إنما هي ساعة فيقيل أولياء الله على الأسرة مع الحور العين ويقيل أعداء الله مع الشياطين مقرنين وقال سعيد بن جبير : يفرغ الله من الحساب نصف النهار فيقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار قال الله تعالى : "أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا" وقال عكرمة : إني لأعرف الساعة التي يدخل فيها أهل الجنة الجنة وأهل النار النار وهي الساعة التي تكون في الدنيا عند ارتفاع الضحى الأكبر إذا انقلب الناس إلى أهليهم للقيلولة فينصرف أهل النار إلى النار وأما أهل الجنة فينطلق بهم إلى الجنة فكانت قيلولتهم في الجنة وأطعموا كبد حوت فأشبعهم كلهم وذلك قوله : "أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا" وقال سفيان عن ميسرة عن المنهال عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال : لا ينتصف النهار حتى يقبل هؤلاء وهؤلاء ثم قرأ "أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا" وقرأ "ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم" وقال العوفي عن ابن عباس في قوله "أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا" قال قالوا في الغرف من الجنة وكان حسابهم إذ عرضوا على ربهم عرضة واحدة وذلك الحساب اليسير وهو مثل قوله تعالى : "فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا" وقال قتادة "خير مستقرا وأحسن مقيلا" مأوى ومنزلا وقال قتادة وحدث صفوان بن محرز أنه قال : يجاء برجلين يوم القيامة أحدهما كان ملكا في الدنيا إلى الحمرة والبياض فيحاسب فإذا عبد لم يعمل خيرا قط فيؤمر به إلى النار والآخر كان صاحب كساء في الدنيا فيحاسب فيقول يا رب ما أعطيتني من شيء فتحاسبني به فيقول الله : صدق عبدي فأرسلوه فيؤمر به إلى الجنة ثم يتركان ما شاء الله ثم يدعى صاحب النار فإذا هو مثل الحممة السوداء فيقال له كيف وجدت ؟ فيقول شر مقيل فيقال له عد ثم يدعى بصاحب الجنة فإذا هو مثل القمر ليلة البدر فيقال له كيف وجدت ؟ فيقول رب خير مقيل فيقال له عد . رواها ابن أبي حاتم كلها وقال ابن جرير : حدثني يونس أنبأنا ابن وهب أنبأنا عمرو بن الحارث أن سعيدا الصواف حدثه أنه بلغه أن يوم القيامة يقصر على المؤمن حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس وأنهم يتقلبون في رياض الجنة حتى يفرغ من الناس وذلك قوله تعالى : "أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا" . ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا (25) ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا يخبر تعالى عن هول يوم القيامة وما يكون فيه من الأمور العظيمة فمنها انشقاق السماء وتفطرها وانفراجها بالغمام وهو ظلل النور العظيم الذي يبهر الأبصار ونزول ملائكة السموات يومئذ فيحيطون بالخلائق في مقام المحشر ثم يجيء الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء . قال مجاهد وهذا كما قال تعالى : "هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة" الآية قال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن عمار بن الحارث حدثنا مؤمل حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس أنه قرأ هذه الآية "ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا" قال ابن عباس رضي الله عنهما يجمع الله تعالى الخلق يوم القيامة في صعيد واحد الجن والإنس والبهائم والسباع والطير وجميع الخلق فتنشق السماء الدنيا فينزل أهلها وهم أكثر من الجن والإنس ومن جميع الخلق فيحيطون بالجن والإنس وبجميع الخلق ثم تنشق السماء الثانية فينزل أهلها فيحيطون بالملائكة الذين نزلوا قبلهم وبالجن والإنس وجميع الخلق وهم أكثر من أهل السماء الدنيا ومن جميع الخلق ثم تنشق السماء الثالثة فينزل أهلها وهم أكثر من أهل السماء الثانية والسماء الدنيا ومن جميع الخلق فيحيطون بالملائكة الذين نزلوا قبلهم وبالجن والإنس وجميع الخلق ثم كذلك كل سماء على ذلك التضعيف حتى تنشق السماء السابعة فينزل أهلها وهم أكثر ممن نزل قبلهم من أهل السموات ومن الجن والإنس ومن جميع الخلق فيحيطون بالملائكة الذين نزلوا قبلهم من أهل السموات وبالجن والإنس وجميع الخلق كلهم وينزل ربنا عز وجل في ظلل من الغمام وحوله الكروبيون وهم أكثر من أهل السموات السبع ومن الجن والإنس وجميع الخلق لهم قرون كأكعب القنا وهم تحت العرش لهم زجل بالتسبيح والتهليل والتقديس لله عز وجل ما بين أخمص قدم أحدهم إلى كعبه مسيرة خمسمائة عام وما بين كعبه إلى ركبتيه مسيرة خمسمائة عام ما بين ركبته إلى حجزته مسيرة خمسمائة عام وما بين حجزته إلى ترقوته مسيرة خمسمائة عام وما بين ترقوته إلى موضع القرط مسيرة خمسمائة عام وما فوق ذلك مسيرة خمسمائة عام وجهنم محسة هكذا رواه ابن أبي حاتم بهذا السياق وقال ابن جرير حدثنا القاسم حدثنا الحسين حدثني الحجاج عن مبارك بن فضالة عن علي بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران أنه سمع ابن عباس يقول : إن هذه السماء إذا انشقت ينزل منها من الملائكة أكثر من الإنس والجن وهو يوم التلاق يوم يلتقي أهل السماء وأهل الأرض فيقول أهل الأرض جاء ربنا ؟ فيقولون لم يجئ وهو آت ثم تنشق السماء الثانية ثم سماء سماء على قدر ذلك من التضعيف إلى السماء السابعة فينزل منها من الملائكة أكثر من جميع من نزل من السموات ومن الجن والإنس قال فتنزل الملائكة الكروبيون ثم يأتي ربنا في حملة العرش الثمانية بين كعب كل ملك وركبته مسيرة سبعين سنة وبين فخذه ومنكبه مسيرة سبعين سنة قال وكل ملك منهم لم يتأمل وجه صاحبه وكل ملك منهم واضع رأسه بين ثدييه يقول سبحان الملك القدوس وعلى رءوسهم شيء مبسوط كأنه القنا والعرش فوق ذلك ثم وقف فمداره على علي بن زيد بن جدعان وفيه ضعف في سياقاته غالبا وفيها نكارة شديدة وقد ورد في حديث الصور المشهور قريب من هذا والله أعلم وقد قال الله تعالى : "فيومئذ وقعت الواقعة وانشقت السماء فهي يومئذ واهية والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية" قال شهر بن حوشب حملة العرش ثمانية أربعة منهم يقولون : سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك وأربعة يقولون : سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك رواه ابن جرير عنه وقال أبو بكر بن عبد الله إذا نظر أهل الأرض إلى العرش يهبط عليهم من فوقهم شخصت إليه أبصارهم ورجفت كلاهم في أجوافهم وطارت قلوبهم من مقرها من صدورهم إلى حناجرهم قال ابن جرير حدثنا القاسم حدثنا الحسين حدثنا المعتمر بن سليمان عن عبد الجليل عن أبي حازم عن عبد الله بن عمرو قال : يهبط الله عز وجل حين يهبط وبينه وبين خلقه سبعون ألف حجاب منها النور والظلمة فيضرب الماء في تلك الظلمة صوتا تنخلع له القلوب وهذا موقوف على عبد الله بن عمرو من كلامه ولعله من الزاملتين والله أعلم. الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا (26) الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا وقوله تعالى : "الملك يومئذ الحق للرحمن" الآية كما قال تعالى : "لمن الملك اليوم لله الواحد القهار" وفي الصحيح أن الله تعالى يطوي السموات بيمينه ويأخذ الأرضين بيده الأخرى ثم يقول : أنا الملك أنا الديان أين ملوك الأرض ؟ أين الجبارون ؟ أين المتكبرون ؟ وقوله : "وكان يوما على الكافرين عسيرا" أي شديدا صعبا لأنه يوم عدل وقضاء فصل كما قال تعالى : "فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير" فهذا حال الكافرين في هذا اليوم وأما المؤمنون فكما قال تعالى : "لا يحزنهم الفزع الأكبر" الآية . وروى الإمام أحمد حدثنا حسين بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري قال : قيل يا رسول الله يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ما أطول هذا اليوم ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "والذي نفسي بيده إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا" . ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا (27) ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول وقوله تعالى : "ويوم يعض الظالم على يديه" الآية يخبر تعالى عن ندم الظالم الذي فارق طريق الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله من الحق المبين الذي لا مرية فيه وسلك طريقا أخرى غير سبيل الرسول فإذا كان يوم القيامة ندم حيث لا ينفعه الندم وعض على يديه حسرة وأسفا وسواء كان سبب نزولها في عقبة بن أبي معيط أو غيره من الأشقياء فإنها عامة في كل ظالم كما قال تعالى : "يوم تقلب وجوههم في النار" الآيتين فكل ظالم يندم يوم القيامة غاية الندم . يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلانا خليلا (28) يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا ويعض على يديه قائلا : "يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلانا خليلا" يعني من صرفه عن الهدى وعدل به إلى طريق الضلال من دعاة الضلالة وسواء في ذلك أمية بن خلف أو أخوه أبي بن خلف أو غيرهما . لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا (29) لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا "لقد أضلني عن الذكر" وهو القرآن "بعد إذ جاءني" أي بعد بلوغه إلي قال الله تعالى "وكان الشيطان للإنسان خذولا" أي يخذله عن الحق ويصرفه عنه ويستعمله في الباطل ويدعوه إليه . وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا (30) وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن يقول تعالى مخبرا عن رسوله ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال : "يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا" وذلك أن المشركين كانوا لا يصغون للقرآن ولا يستمعونه كما قال تعالى : "وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه" الآية فكانوا إذا تلي عليهم القرآن أكثروا اللغط والكلام في غيره حتى لا يسمعونه فهذا من هجرانه وترك الإيمان به وترك تصديقه من هجرانه وترك تدبره وتفهمه من هجرانه وترك العمل به وامتثال أوامره واجتناب زواجره من هجرانه والعدول عنه إلى غيره من شعر أو قول أو غناء أو لهو أو كلام أو طريقة مأخوذة من غيره من هجرانه فنسأل الله الكريم المنان القادر على ما يشاء أن يخلصنا مما يسخطه ; ويستعملنا فيما يرضيه من حفظ كتابه وفهمه والقيام بمقتضاه آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يحبه ويرضاه إنه كريم وهاب وقوله تعالى : "وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين" أي كما حصل لك يا محمد في قومك من الذين هجروا القرآن كذلك كان في الأمم الماضين لأن الله جعل لكل نبي عدوا من المجرمين يدعون الناس إلى ضلالهم وكفرهم . وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا (31) وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا كما قال تعالى : "وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن" الآيتين ولهذا قال تعالى ههنا "وكفى بربك هاديا ونصيرا" أي لمن اتبع رسوله وآمن بكتابه وصدقه واتبعه فإن الله هاديه وناصره في الدنيا والآخرة وإنما قال "هاديا ونصيرا" لأن المشركين كانوا يصدون الناس عن اتباع القرآن لئلا يهتدي أحد به ولتغلب طريقتهم طريقة القرآن فلهذا قال : "وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين" الآية . وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا (32) وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا يقول تعالى مخبرا عن كثرة اعتراض الكفار وتعنتهم وكلامهم فيما لا يعنيهم حيث قالوا : "لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة" أي هلا أنزل عليه هذا الكتاب الذي أوحي إليه جملة واحدة كما نزلت الكتب قبله جملة واحدة كالتوراة والإنجيل والزبور وغيرها من الكتب الإلهية فأجابهم الله تعالى عن ذلك بأنه إنما نزل منجما في ثلاث وعشرين سنة بحسب الوقائع والحوادث وما يحتاج إليه من الأحكام ليثبت قلوب المؤمنين به كقوله : "وقرآنا فرقناه" الآية ولهذا قال "لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا" قال قتادة بيناه تبيينا وقال ابن زيد وفسرناه تفسيرا . ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا (33) ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا "ولا يأتونك بمثل" أي بحجة وشبهة "إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا" أي ولا يقولون قولا يعارضون به الحق إلا أجبناهم بما هو الحق في نفس الأمر وأبين وأوضح وأفصح من مقالتهم قال سعيد بن جبير عن ابن عباس "ولا يأتونك بمثل" أي بما يلتمسون به عيب القرآن والرسول "إلا جئناك بالحق" الآية أي إلا نزل جبريل من الله تعالى بجوابهم وما هذا إلا اعتناء وكبير شرف للرسول صلى الله عليه وسلم حيث كان يأتيه الوحي من الله عز وجل بالقرآن صباحا ومساء وليلا ونهارا سفرا وحضرا وكل مرة كان يأتيه الملك بالقرآن لا كإنزال الكتاب مما قبله من الكتب المتقدمة فهذا المقام أعلى وأجل وأعظم مكانة من سائر إخوانه الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فالقرآن أشرف كتاب أنزله الله ومحمد صلى الله عليه وسلم أعظم نبي أرسله الله تعالى وقد جمع الله للقرآن الصفتين معا ففي الملأ الأعلى أنزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا ثم أنزل بعد ذلك إلى الأرض منجما بحسب الوقائع والحوادث وروى النسائي بإسناده عن ابن عباس قال : أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا في ليلة القدر ثم نزل بعد ذلك في عشرين سنة قال الله تعالى : "ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا" وقال تعالى : "وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا" . الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا (34) الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا ثم قال تعالى مخبرا عن سوء حال الكفار في معادهم يوم القيامة وحشرهم إلى جهنم في أسوأ الحالات وأقبح الصفات . "الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا" وفي الصحيح عن أنس أن رجلا قال يا رسول الله كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة فقال "إن الذي أمشاه على رجليه قادر أن يمشيه على وجهه يوم القيامة" وهكذا قال مجاهد والحسن وقتادة وغير واحد من المفسرين . ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا (35) ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا يقول تعالى متوعدا من كذب رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم من مشركي قومه ومن خالفه ومحذرهم من عقابه وأليم عذابه مما أحله بالأمم الماضية المكذبين لرسله فبدأ بذكر موسى وأنه بعثه وجعل معه أخاه هارون وزيرا أي نبيا موازرا ومؤيدا وناصرا فكذبهما فرعون وجنوده . فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا (36) فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا "فدمر الله عليهم وللكافرين أمثالها" وكذلك فعل بقوم نوح حين كذبوا رسوله نوحا عليه السلام ومن كذب برسول فقد كذب ![]()
__________________
|
|
#375
|
||||
|
||||
![]() تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير) إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي الجزء (10) تفسير سورة الفرقان من صـ 306 الى صــ 320 الحلقة (375) بجميع الرسل إذ لا فرق بين رسول ورسول ولو فرض أن الله تعالى بعث إليهم كل رسول فإنهم كانوا يكذبون . وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية وأعتدنا للظالمين عذابا أليما (37) وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية وأعتدنا للظالمين عذابا أليما ولهذا قال تعالى : "وقوم نوح لما كذبوا الرسل" ولم يبعث إليهم إلا نوح فقط وقد لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله عز وجل ويحذرهم نقمه "فما آمن معه إلا قليل" ولهذا أغرقهم الله جميعا ولم يبق منهم أحدا ولم يترك من بني آدم على وجه الأرض سوى أصحاب السفينة فقط "وجعلناهم للناس آية" أي عبرة يعتبرون بها كما قال تعالى : "إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية" أي وأبقينا لكم من السفن ما تركبون في لجج البحار لتذكروا نعمة الله عليكم من إنجائكم من الغرق وجعلكم من ذرية من آمن به وصدق أمره . وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا (38) وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا وقوله تعالى : "وعادا وثمود وأصحاب الرس" قد تقدم الكلام على قصتيهما في غير ما سورة كسورة الأعراف بما أغنى عن الإعادة وأما أصحاب الرس فقال ابن جريج عن ابن عباس هم أهل قرية من قرى ثمود وقال ابن جريج : قال عكرمة أصحاب الرس بفلج وهم أصحاب يس وقال قتادة فلج من قرى اليمامة وقال ابن أبي حاتم بسنده عن ابن عباس قوله : "وأصحاب الرس" قال بئر بأذربيجان : وقال الثوري عن أبي بكر عن عكرمة : الرس بئر رسوا فيها نبيهم أي دفنوه فيها وقال ابن إسحاق عن محمد بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أول الناس يدخل الجنة يوم القيامة العبد الأسود وذلك أن الله تعالى بعث نبيا إلى أهل قرية فلم يؤمن به من أهلها إلا ذلك العبد الأسود ثم" إن أهل القرية عدوا على النبي فحفروا له بئرا فألقوه فيها ثم أطبقوا عليه بحجر أصم قال فكان ذلك العبد يذهب فيحتطب على ظهره ثم يأتي بحطبه فيبيعه ويشتري به طعاما وشرابا ثم يأتي به إلى تلك البئر فيرفع تلك الصخرة ويعينه الله تعالى عليها فيدلي إليه طعامه وشرابه ثم يردها كما كانت قال فكان ذلك ما شاء الله أن يكون ثم إنه ذهب يوما يحتطب كما كان يصنع فجمع حطبه وحزم حزمته وفرغ منها فلما أراد أن يحتملها وجد سنة فاضطجع فنام فضرب الله على أذنه سبع سنين ثم إنه هب فتمطى فتحول لشقه الآخر فاضطجع فضرب الله على أذنه سبع سنين أخرى ثم إنه هب واحتمل حزمته ولا يحسب إلا أنه نام ساعة من نهار فجاء إلى القرية فباع حزمته ثم اشترى طعاما وشرابا كما كان يصنع ثم إنه ذهب إلى الحفيرة موضعها الذي كانت فيه فالتمسه فلم يجده وكان قد بدا لقومه فيه بداء فاستخرجوه وآمنوا به وصدقوه قال فكان نبيهم يسألهم عن ذلك الأسود ما فعل فيقولون له لا ندري حتى قبض الله النبي وهب الأسود من نومته بعد ذلك "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم" إن ذلك الأسود لأول من يدخل الجنة "وهكذا رواه ابن جرير عن ابن حميد عن سلمة عن محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب مرسلا وفيه غرابة ونكارة ولعل فيه إدراجا والله أعلم وقال ابن جرير : لا يجوز أن يحمل هؤلاء على أنهم أصحاب الرس الذين ذكروا في القرآن لأن الله أخبر عنهم أنه أهلكهم وهؤلاء آمنوا بنبيهم إلا أن يكون حدث لهم أحداث آمنوا بالنبي بعد هلاك آبائهم والله" أعلم واختار ابن جرير أن المراد بأصحاب الرس هم أصحاب الأخدود الذين ذكروا في سورة البروج فالله أعلم وقوله تعالى : "وقرونا بين ذلك كثيرا" أي وأمما أضعاف من ذكر أهلكناهم كثيرة . وكلا ضربنا له الأمثال وكلا تبرنا تتبيرا (39) وكلا ضربنا له الأمثال وكلا تبرنا تتبيرا ولهذا قال "وكلا ضربنا له الأمثال" أي بينا لهم الحجج ووضحنا لهم الأدلة كما قال قتادة وأزحنا الأعذار عنهم "وكلا تبرنا تتبيرا" أي أهلكنا إهلاكا كقوله تعالى : "وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح" والقرن هو الأمة من الناس كقوله : "ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين" وعده بعضهم بمائة وعشرين سنة وقيل بمائة وقيل بثمانين وقيل أربعين وقيل غير ذلك والأظهر أن القرن هو الأمة المتعاصرون في الزمن الواحد وإذا ذهبوا وخلفهم جيل فهو قرن آخر كما ثبت في الصحيحين "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" الحديث . ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون نشورا (40) ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون نشورا "ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء" يعني قرية قوم لوط وهي سدوم التي أهلكها الله بالقلب وبالمطر من الحجارة التي من سجيل كما قال تعالى : "وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين" وقال : "وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون" وقال تعالى "وإنها لبسبيل مقيم" وقال : "وإنهما لبإمام مبين" ولهذا قال "أفلم يكونوا يرونها" أي فيعتبروا بما حل بأهلها من العذاب والنكال بسبب تكذيبهم بالرسول وبمخالفتهم أوامر الله "بل كانوا لا يرجون نشورا" يعني المارين بها من الكفار لا يعتبرون لأنهم لا يرجون نشورا أي معادا يوم القيامة . وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا (41) وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا يخبر تعالى عن استهزاء المشركين بالرسول صلى الله عليه وسلم إذ رأوه كما قال تعالى : "وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا" الآية يعنون بالعيب والنقص وقال ههنا : "وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا" أي على سبيل التنقص والازدراء فقبحهم الله كما قال "ولقد استهزئ برسل من قبلك" الآية . إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا (42) إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا وقوله تعالى : "إن كاد ليضلنا عن آلهتنا" يعنون أنه كاد يثنيهم عن عبادة الأصنام لولا أن صبروا وتجلدوا واستمروا عليها قال الله تعالى متوعدا لهم ومتهددا "وسوف يعلمون حين يرون العذاب" الآية ثم قال تعالى لنبيه منبها أن من كتب الله عليه الشقاوة والضلال فإنه لا يهديه أحد إلا الله عز وجل . أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا (43) أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا "أرأيت من اتخذ إلهه هواه" أي مهما استحسن من شيء ورآه حسنا في هوى نفسه كان دينه ومذهبه كما قال تعالى : "أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء" الآية ولهذا قال ههنا "أفأنت تكون عليه وكيلا" قال ابن عباس كان الرجل في الجاهلية يعبد الحجر الأبيض زمانا فإذا رأى غيره أحسن منه عبد الثاني وترك الأول. أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا (44) أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا ثم قال تعالى : "أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون" الآية أي هم أسوأ حالا من الأنعام السارحة فإن تلك تفعل ما خلقت له وهؤلاء خلقوا لعبادة الله وحده لا شريك له فلم يفعلوا وهم يعبدون غيره ويشركون به مع قيام الحجة عليهم وإرسال الرسل إليهم . ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا (45) ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا "" من ههنا شرع سبحانه وتعالى في بيان الأدلة الدالة على وجوده وقدرته التامة على خلق الأشياء المختلفة والمتضادة فقال تعالى : "ألم تر إلى ربك كيف مد الظل" ؟ قال ابن عباس وابن عمر وأبو العالية وأبو مالك ومسروق ومجاهد وسعيد بن جبير والنخعي والضحاك والحسن وقتادة : هو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس "ولو شاء لجعله ساكنا" أي دائما لا يزول كما قال تعالى : "قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا" الآيات وقوله تعالى : "ثم جعلنا الشمس عليه دليلا" أي لولا أن الشمس تطلع عليه لما عرف فإن الضد لا يعرف إلا بضده . وقال قتادة والسدي دليلا تتلوه وتتبعه حتى تأتي عليه كله . ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا (46) ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا وقوله تعالى : "ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا" أي الظل وقيل الشمس "يسيرا" أي سهلا قال ابن عباس سريعا وقال مجاهد خفيا وقال السدي قبضا خفيا حتى لا يبقى في الأرض ظل إلا تحت سقف أو تحت شجرة وقد أظلت الشمس ما فوقه وقال أيوب بن موسى في الآية "قبضا يسيرا" قليلا قليلا . وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا (47) وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا وقوله : "وهو الذي جعل لكم الليل لباسا" أي يلبس الوجود ويغشاه كما قال تعالى : "والليل إذا يغشى" "والنوم سباتا" أي قاطعا للحركة لراحة الأبدان فإن الأعضاء والجوارح تكل من كثرة الحركة في الانتشار بالنهار في المعاش فإذا جاء الليل وسكن سكنت الحركات فاستراحت فحصل النوم الذي فيه راحة البدن والروح معا "وجعل النهار نشورا" أي ينتشر الناس فيه لمعايشهم ومكاسبهم وأسبابهم كما قال تعالى : "ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله" الآية . وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهورا (48) وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهورا وهذا أيضا من قدرته التامة وسلطانه العظيم وهو أنه تعالى يرسل الرياح مبشرات أي بمجيء السحاب بعدها والرياح أنواع في صفات كثيرة من التسخير فمنها ما يثير السحاب ومنها ما يحمله ومنها ما يسوقه ومنها ما يكون بين يدي السحاب مبشرا ومنها ما يكون قبل ذلك تقم الأرض ومنها ما يلقح السحاب ليمطر ولهذا قال تعالى : "وأنزلنا من السماء ماء طهورا" أي آلة يتطهر بها كالسحور والوجور وما جرى مجراهما فهذا أصح ما يقال في ذلك وأما من قال إنه فعول بمعنى فاعل أو أنه مبني للمبالغة والتعدي فعلى كل منهما إشكالات من حيث اللغة والحكم ليس هذا موضع بسطها والله أعلم وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي بإسناده إلى حميد الطويل عن ثابت البناني قال دخلت مع أبي العالية في يوم مطير وطرق البصرة قذرة فصلى فقلت له فقال : "وأنزلنا من السماء ماء طهورا" قال طهره ماء السماء وقال أيضا حدثنا أبي حدثنا أبو سلمة حدثنا وهيب عن داود عن سعيد بن المسيب في هذه الآية قال : أنزله الله طهورا لا ينجسه شيء وعن أبي سعيد قال : قيل يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة وهي بئر يلقى فيها النتن ولحوم الكلاب ؟ فقال : "إن الماء طهور لا ينجسه شيء" رواه الشافعي وأحمد وصححه أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وروى ابن أبي حاتم بإسناده حدثنا أبي حدثنا أبو الأشعث حدثنا معتمر سمعت أبي يحدث عن سيار عن خالد بن يزيد قال : كنا عند عبد الملك بن مروان فذكروا الماء فقال خالد بن يزيد : منه ماء من السماء ومنه ماء يسقيه الغيم من البحر فيذبه الرعد والبرق فأما ما كان من البحر فلا يكون منه نبات فأما النبات فمما كان من السماء وروي عن عكرمة قال : ما أنزل الله من السماء قطرة إلا أنبت بها في الأرض عشبة أو في البحر لؤلؤة وقال غيره : في البر بر وفي البحر در . لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا (49) لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا وقوله تعالى : "لنحيي به بلدة ميتا" أي أرضا قد طال انتظارها للغيث فهي هامدة لا نبات فيها ولا شيء فلما جاءها الحياء عاشت واكتست رباها أنواع الأزاهير والألوان كما قال تعالى : "فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت" الآية : "ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا" أي وليشرب منه الحيوان من أنعام وأناسي محتاجين إليه غاية الحاجة لشربهم وزروعهم وثمارهم كما قال تعالى : "وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا" الآية وقال تعالى : "فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها" الآية . ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا (50) ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا وقوله تعالى : "ولقد صرفناه بينهم ليذكروا" أي أمطرنا هذه الأرض دون هذه وسقنا السحاب يمر على الأرض ويتعداها ويتجاوزها إلى الأرض الأخرى فيمطرها ويكفيها ويجعلها غدقا والتي وراءها لم ينزل فيها قطرة من ماء وله في ذلك الحجة البالغة والحكمة القاطعة قال ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم ليس عام بأكثر مطرا من عام ولكن الله يصرفه كيف يشاء ثم قرأ هذه الآية "ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا" أي ليذكروا بإحياء الله الأرض الميتة أنه قادر على إحياء الأموات والعظام الرفات أو ليذكر من منع المطر إنما أصابه ذلك بذنب أصابه فيقلع عما هو فيه وقال عمر مولى عقبة : كان جبريل عليه السلام في موضع الجنائز فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "يا جبريل إني أحب أن أعلم أمر السحاب" قال فقال له جبريل يا نبي الله هذا ملك السحاب فسله فقال تأتينا صكاك مختمة : اسق بلاد كذا وكذا كذا وكذا قطرة رواه ابن أبي حاتم وهو حديث مرسل وقوله تعالى : "فأبى أكثر الناس إلا كفورا" قال عكرمة يعني الذين يقولون مطرنا بنوء كذا وكذا وهذا الذي قاله عكرمة كما صح في الحديث المخرج في صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه يوما على أثر سماء أصابتهم من الليل "أتدرون ماذا قال ربكم ؟" قالوا الله ورسوله أعلم قال "قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذاك مؤمن بي كافر بالكوكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب" . ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا (51) ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا يقول تعالى : "ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا" يدعوهم إلى الله عز وجل ولكنا خصصناك يا محمد بالبعثة إلى جميع أهل الأرض وأمرناك أن تبلغهم هذا القرآن "" لأنذركم به ومن بلغ "" ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده "" لتنذر أم القرى ومن حولها "" قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا "وفي الصحيحين" بعثت إلى الأحمر والأسود "وفيهما" وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة "." فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا (52) فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا ولهذا قال تعالى : "فلا تطع الكافرين وجاهدهم به" يعني بالقرآن قاله ابن عباس : "جهادا كبيرا" . كما قال تعالى : "يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين" الآية . وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا (53) وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا وقوله تعالى "وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج" أي خلق الماءين الحلو والملح فالحلو كالأنهار والعيون والآبار وهذا هو البحر الحلو العذب الفرات الزلال قاله ابن جريج واختاره ابن جرير وهذا المعنى لا شك فيه فإنه ليس في الوجود بحر ساكن وهو عذب فرات ; والله سبحانه وتعالى إنما أخبر بالواقع لينبه العباد على نعمة عليهم ليشكروه فالبحر العذب هو هذا السارح بين الناس فرقه الله تعالى بين خلقه لاحتياجهم إليه أنهارا وعيونا في كل أرض بحسب حاجتهم وكفايتهم لأنفسهم وأراضيهم وقوله تعالى : "وهذا ملح أجاج" أي مالح مر زعاق لا يستساغ وذلك كالبحار المعروفة في المشارق والمغارب : البحر المحيط وما يتصل به من الزقاق وبحر القلزم وبحر اليمن وبحر البصرة وبحر فارس وبحر الصين والهند وبحر الروم وبحر الخزر وما شاكلها وشابهها من البحار الساكنة التي لا تجري ولكن تموج وتضطرب وتلتطم في زمن الشتاء وشدة الرياح ومنها ما فيه مد وجزر ففي أول كل شهر يحصل منها مد وفيض فإذا شرع الشهر في النقصان جزرت حتى ترجع إلى غايتها الأولى فإذا استهل الهلال من الشهر الآخر شرعت في المد إلى الليلة الرابعة عشرة ثم تشرع في النقص فأجرى الله سبحانه وتعالى - وهو ذو القدرة التامة - العادة بذلك فكل هذه البحار الساكنة خلقها الله سبحانه وتعالى مالحة لئلا يحصل بسببها نتن الهواء فيفسد الوجود بذلك ولئلا تجوى الأرض بما يموت فيها من الحيوان ولما كان ماؤها ملحا كان هواؤها صحيحا وميتتها طيبة ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن ماء البحر أنتوضأ به ؟ فقال : "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" رواه الأئمة مالك والشافعي وأحمد وأهل السنن بإسناد جيد وقوله تعالى : "وجعل بينهما برزخا وحجرا" أي بين العذب والمالح "برزخا" أي حاجزا وهو اليبس من الأرض "وحجرا محجورا" أي مانعا من أن يصل أحدهما إلى الآخر كقوله "مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان فبأي آلاء ربكما تكذبان" وقوله تعالى : "أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون" . وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا (54) وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا وقوله تعالى : "وهو الذي خلق من الماء بشرا" الآية أي خلق الإنسان من نطفة ضعيفة فسواه وعدله وجعله كامل الخلقة ذكرا وأنثى كما يشاء "فجعله نسبا وصهرا" فهو في ابتداء أمره ولد نسيب ثم يتزوج فيصير صهرا يصير له أصهار وأختان وقرابات وكل ذلك من ماء مهين ولهذا قال تعالى : "وكان ربك قديرا" . ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا (55) ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا يخبر تعالى عن جهل المشركين في عبادتهم غير الله من الأصنام التي لا تملك له ضرا ولا نفعا بلا دليل قادهم إلى ذلك ولا حجة أدتهم إليه بل بمجرد الآراء والتشهي والأهواء فهم يوالونهم ويقاتلون في سبيلهم ويعادون الله ورسوله والمؤمنين فيهم ولهذا قال تعالى : "وكان الكافر على ربه ظهيرا" أي عونا في سبيل الشيطان على حزب الله وحزب الله هم الغالبون كما قال تعالى "واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون" أي آلهتهم التي اتخذوها من دون الله لا تملك لهم نصرا وهؤلاء الجهلة للأصنام جند محضرون يقاتلون عنهم ويذبون عن حوزتهم ولكن العاقبة والنصرة لله ولرسوله وللمؤمنين في الدنيا والآخرة قال مجاهد "وكان الكافر على ربه ظهيرا" قال يظاهر الشيطان على معصية الله ويعينه وقال سعيد بن جبير "وكان الكافر على ربه ظهيرا" يقول عونا للشيطان على ربه بالعداوة والشرك وقال زيد بن أسلم "وكان الكافر على ربه ظهيرا" قال مواليا . وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا (56) وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا ثم قال تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه "وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا" أي بشيرا للمؤمنين ونذيرا للكافرين مبشرا بالجنة لمن أطاع الله ونذيرا بين يدي عذاب شديد لمن خالف أمر الله . قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا (57) قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا "قل ما أسألكم عليه من أجر" أي عن هذا البلاغ وهذا الإنذار من أجرة أطلبها من أموالكم وإنما أفعل ذلك ابتغاء وجه الله تعالى : "لمن شاء منكم أن يستقيم" "إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا" أي طريقا ومسلكا ومنهجا يقتدي فيها بما جئت به . وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا (58) وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا ثم قال تعالى "وتوكل على الحي الذي لا يموت" أي في أمورك كلها كن متوكلا على الله الحي الذي لا يموت أبدا الذي هو "الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم" الدائم الباقي السرمدي الأبدي الحي القيوم رب كل شيء ومليكه اجعله ذخرك وملجأك وهو الذي يتوكل عليه ويفزع إليه فإنه كافيك وناصرك ومؤيدك ومظفرك كما قال تعالى : "يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس" وروى ابن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة حدثنا عبد الله بن محمد بن علي بن نفيل قال قرأت على معقل يعني ابن عبيد الله عن عبد الله بن أبي حسين عن شهر بن حوشب قال : لقي سلمان النبي صلى الله عليه وسلم في بعض فجاج المدينة فسجد له فقال : "لا تسجد لي يا سلمان واسجد للحي الذي لا يموت" وهذا مرسل حسن وقوله تعالى : "وسبح بحمده" أي اقرن بين حمده وتسبيحه ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك" أي أخلص له العبادة والتوكل كما قال تعالى : "رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا" وقال تعالى "فاعبده وتوكل عليه" وقال تعالى : "قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا" وقوله تعالى : "وكفى به بذنوب عباده خبيرا" أي بعلمه التام الذي لا يخفى عليه خافية ولا يعزب عنه مثقال ذرة . الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا (59) الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا وقوله تعالى : "الذي خلق السموات والأرض" الآية أي هو الحي الذي لا يموت وهو خالق كل شيء وربه ومليكه الذي خلق بقدرته وسلطانه السموات السبع في ارتفاعها واتساعها والأرضين السبع في سفولها وكثافتها "في ستة أيام ثم استوى على العرش" أي يدبر الأمر ويقضي الحق وهو خير الفاصلين وقوله : "ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا" أي استعلم عنه من هو خبير به عالم به فاتبعه واقتد به وقد علم أنه لا أحد أعلم بالله ولا أخبر به من عبده ورسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه سيد ولد آدم على الإطلاق في الدنيا والآخرة الذي لا ينطق عن الهوى "إن هو إلا وحي يوحى" فما قاله فهو الحق وما أخبره به فهو الصدق وهو الإمام المحكم الذي إذا تنازع الناس في شيء وجب رد نزاعهم إليه فما وافق أقواله وأفعاله فهو الحق وما خالفها فهو مردود على قائله وفاعله كائنا من كان قال الله تعالى "فإن تنازعتم في شيء" الآية وقال تعالى "وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله" وقال تعالى : "وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا" أي صدقا في الإخبار وعدلا في الأوامر والنواهي ولهذا قال تعالى "فاسأل به خبيرا" قال مجاهد في قوله : "فاسأل به خبيرا" قال ما أخبرتك من شيء فهو كما أخبرتك وكذا قال ابن جريج وقال شمر بن عطية في قوله : "فاسأل به خبيرا" هذا القرآن خبير به . وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا (60) وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا ثم قال تعالى منكرا على المشركين الذين يسجدون لغير الله من الأصنام والأنداد "وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن" أي لا نعرف الرحمن وكانوا ينكرون أن يسمى الله باسمه الرحمن كما أنكروا ذلك يوم الحديبية حين قال النبي صلى الله عليه وسلم للكاتب "اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم" فقالوا لا نعرف الرحمن ولا الرحيم ولكن اكتب كما كنت تكتب : باسمك اللهم ولهذا أنزل الله تعالى "قل ادعوا الله أو" ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى "أي هو الله وهو الرحمن وقال في هذه الآية" وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن "أي لا نعرفه ولا نقر به" أنسجد لما تأمرنا "أي لمجرد قولك" وزادهم نفورا "فأما المؤمنون فإنهم يعبدون الله الذي هو الرحمن الرحيم ويفردونه بالإلهية ويسجدون له وقد اتفق العلماء - رحمهم الله - على أن هذه السجدة التي في الفرقان مشروع السجود عندها لقارئها ومستمعها كما هو مقرر في موضعه والله سبحانه وتعالى أعلم ." تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا (61) تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا يقول تعالى ممجدا نفسه ومعظما على جميل ما خلق في السموات من البروج وهي الكواكب العظام في قول مجاهد وسعيد بن جبير وأبي صالح والحسن وقتادة وقيل هي قصور في السماء للحرس يروى هذا عن علي وابن عباس ومحمد بن كعب وإبراهيم النخعي وسليمان بن مهران الأعمش وهو رواية عن أبي صالح أيضا والقول الأول أظهر اللهم إلا أن يكون الكواكب العظام هي قصور للحرس فيجتمع القولان كما قال تعالى "ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح" الآية ولهذا قال تعالى "تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا" وهي الشمس المنيرة التي هي كالسراج في الوجود كما قال تعالى "وجعلنا سراجا وهاجا" "وقمرا منيرا" أي مشرقا مضيئا بنور آخر من غير نور الشمس كما قال تعالى "وهو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا" وقال مخبرا عن نوح عليه السلام أنه قال لقومه "ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقا وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا" . وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا (62) وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا ثم قال تعالى "وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة" أي يخلف كل واحد منهما صاحبه يتعاقبان لا يفتران إذا ذهب هذا جاء هذا وإذا جاء هذا ذهب ذاك كما قال تعالى "وسخر لكم الشمس والقمر دائبين" الآية وقال "يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا" الآية وقال "لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر" الآية وقوله تعالى "لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا" أي جعلهما يتعاقبان توقيتا لعبادة عباده له عز وجل فمن فاته عمل في الليل استدركه في النهار ومن فاته عمل في النهار استدركه في الليل وقد جاء في الحديث الصحيح "إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل" وقال أبو داود الطيالسي حدثنا أبو حمزة عن الحسن أن عمر بن الخطاب أطال صلاة الضحى فقيل له صنعت اليوم شيئا لم تكن تصنعه فقال : إنه بقي علي من وردي شيء فأحببت أن أتمه أو قال أقضيه وتلا هذه الآية "وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا" وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية يقول من فاته شيء من الليل أن يعمله أدركه بالنهار أو من النهار أدركه بالليل وكذا قال عكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقال مجاهد وقتادة خلفة أي مختلفين أي هذا بسواده وهذا بضيائه . وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما (63) وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما هذه صفات عباد الله المؤمنين "الذين يمشون على الأرض هونا" أي بسكينة ووقار من غير جبرية ولا استكبار كقوله تعالى "ولا تمش في الأرض مرحا" الآية فأما هؤلاء فإنهم يمشون من غير استكبار ولا مرح ولا أشر ولا بطر وليس المراد أنهم يمشون كالمرضى تصنعا ورياء فقد كان سيد ولد ![]()
__________________
|
|
#376
|
||||
|
||||
![]() تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير) إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي الجزء (10) تفسير سورة الفرقان من صـ 3321 الى صــ 335 الحلقة (376) آدم صلى الله عليه وسلم إذا مشى كأنما ينحط من صبب وكأنما الأرض تطوى له وقد كره بعض السلف المشي بتضعف وتصنع حتى روي عن عمر أنه رأى شابا يمشي رويدا فقال ما بالك أأنت مريض ؟ قال لا يا أمير المؤمنين فعلاه بالدرة وأمره أن يمشي بقوة وإنما المراد بالهون هنا السكينة والوقار كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وعليكم السكينة فما أدركتم منها فصلوا وما فاتكم فأتموا" وقال عبد الله بن المبارك عن معمر عن عمر بن المختار عن الحسن البصري في قوله "وعباد الرحمن" الآية قال : إن المؤمنين قوم ذلل ذلت منهم - والله - الأسماع والأبصار والجوارح حتى يحسبهم الجاهل مرضى وما بالقوم من مرض وإنهم - والله - لأصحاء ولكنهم دخلهم من الخوف ما لم يدخل غيرهم ومنعهم من الدنيا علمهم بالآخرة فقالوا : الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن أما والله ما أحزنهم ما أحزن الناس ولا تعاظم في نفوسهم شيء طلبوا به الجنة ولكن أبكاهم الخوف من النار إنه من لم يتعز بعزاء الله تقطع نفسه على الدنيا حسرات ومن لم ير لله نعمة إلا في مطعم أو مشرب فقد قل علمه وحضر عذابه وقوله تعالى "وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما" أي إذا سفه عليهم الجاهل بالقول السيئ لم يقابلوهم عليه بمثله بل يعفون ويصفحون ولا يقولون إلا خيرا كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزيده شدة الجاهل عليه إلا حلما وكما قال تعالى "وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه" الآية وروى الإمام أحمد حدثنا أسود بن عامر حدثنا أبو بكر عن الأعمش عن أبي خالد الوالبي عن النعمان بن مقرن المزني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وسب رجل رجلا عنده فجعل المسبوب يقول : عليك السلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أما إن ملكا بينكما يذب عنك كلما شتمك هذا قال له بل أنت وأنت أحق به وإذا قلت له وعليك السلام قال لا بل عليك وأنت" أحق به "إسناده حسن ولم يخرجوه وقال" مجاهد "قالوا سلاما" يعني قالوا سدادا وقال سعيد بن جبير ردوا معروفا من القول وقال الحسن البصري قالوا سلام عليكم إن جهل عليهم حلموا يصاحبون عباد الله نهارهم بما يسمعون . والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما (64) والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما ثم ذكر أن ليلهم خير ليل فقال تعالى "والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما" أي في طاعته وعبادته كما قال تعالى "كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون" وقوله "تتجافى جنوبهم عن المضاجع" الآية . وقال تعالى "أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه" الآية . والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما (65) والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما ولهذا قال تعالى "والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما" أي ملازما دائما كما قال الشاعر : إن يعذب يكن غراما وإن يعط ... جزلا فإنه لا يبالي ولهذا قال الحسن في قوله "إن عذابها كان غراما" كل شيء يصيب ابن آدم ويزول عنه فليس بغرام وإنما الغرام اللازم ما دامت السموات والأرض وكذا قال سليمان التيمي وقال محمد بن كعب "إن عذابها كان غراما" يعني ما نعموا في الدنيا إن الله تعالى سأل الكفار عن النعمة فلم يردوها إليه فأغرمهم فأدخلهم النار "إنها ساءت مستقرا ومقاما" أي بئس المنزل منظرا وبئس المقيل مقاما. إنها ساءت مستقرا ومقاما (66) إنها ساءت مستقرا ومقاما وقال ابن أبي حاتم عند قوله "إنها ساءت مستقرا ومقاما" حدثنا أبي حدثنا الحسن بن الربيع حدثنا أبو الأحوص عن الأعمش عن مالك بن الحارث قال : قال إذا طرح الرجل في النار هوى فيها إذا انتهى إلى بعض أبوابها قيل له مكانك حتى تتحف قال فيسقى كأسا من سم الأساود والعقارب قال فيتميز الجلد على حدة والشعر على حدة والعصب على حدة والعروق على حدة وقال أيضا حدثنا أبي حدثنا الحسن بن الربيع حدثنا أبو الأحوص عن الأعمش عن مجاهد عن عبيد بن عمير قال إن في النار لجبابا فيها حيات أمثال البخت وعقارب أمثال البغال الدهم فإذا قذف بهم في النار خرجت إليهم من أوطانها فأخذت بشفاههم وأبشارهم وأشعارهم فكشطت لحومهم إلى أقدامهم فإذا وجدت حر النار رجعت . وقال الإمام أحمد حدثنا الحسن بن موسى حدثنا سلام يعني ابن مسكين عن أبي طلال عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إن عبدا في جهنم لينادي ألف سنة يا حنان يا منان فيقول الله عز وجل لجبريل اذهب فأتني بعبدي هذا فينطلق جبريل فيجد أهل النار مكبين يبكون فيرجع إلى ربه عز وجل فيخبره فيقول الله عز وجل ائتني به فإنه في مكان كذا وكذا فيجيء به فيوقفه على ربه عز وجل فيقول له يا عبدي كيف وجدت مكانك ومقيلك ؟ فيقول يا رب شر مكان وشر مقيل فيقول الله عز وجل ردوا عبدي فيقول يا رب ما كنت أرجو إذ أخرجتني منها أن تردني فيها فيقول الله عز وجل دعوا عبدي" . والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما (67) والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما وقوله تعالى "والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا" الآية أي ليسوا بمبذرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة ولا بخلاء على أهليهم فيقصرون في حقهم فلا يكفونهم بل عدلا خيارا وخير الأمور أوسطها لا هذا ولا هذا "وكان بين ذلك قواما" كما قال تعالى "ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط" "الآية وقال الإمام أحمد حدثنا عصام بن خالد حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي تميم الغساني عن ضمرة عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال" من فقه الرجل قصده في معيشته "ولم يخرجوه وقال الإمام أحمد أيضا حدثنا أبو عبيدة الحداد حدثنا مسكين بن عبد العزيز العبدي حدثنا إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" ما عال من اقتصد "لم يخرجوه وقال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا أحمد بن يحيى حدثنا إبراهيم بن محمد بن ميمون حدثنا سعد بن حكيم عن مسلم بن حبيب عن بلال يعني العبسي - عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" ما أحسن القصد في الغنى وما أحسن القصد في الفقر وما أحسن القصد في العبادة "ثم قال لا نعرفه يروى إلا من حديث حذيفة رضي الله عنه وقال الحسن البصري ليس في النفقة في سبيل الله سرف وقال إياس بن معاوية : ما جاوزت به أمر الله تعالى فهو سرف وقال غيره السرف النفقة في معصية الله عز وجل ." والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما (68) والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما قال الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن شقيق عن عبد الله هو ابن مسعود قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أكبر ؟ قال "أن تجعل لله ندا وهو خلقك" قال ثم أي ؟ قال "أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك" قال ثم أي ؟ قال "أن تزاني حليلة جارك" قال عبد الله وأنزل الله تصديق ذلك "والذين لا يدعون مع الله إلها آخر" الآية وهكذا رواه النسائي عن هناد بن السري عن أبي معاوية به وقد أخرجه البخاري ومسلم من حديث الأعمش ومنصور زاد البخاري وواصل ثلاثتهم عن أبي وائل شقيق بن سلمة عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل عن ابن مسعود به فالله أعلم ولفظهما عن ابن مسعود قال : قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم الحديث طريق غريب وقال ابن جرير حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي حدثنا عامر بن مدرك حدثنا السري يعني إسماعيل حدثنا الشعبي عن مسروق قال : قال عبد الله خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فاتبعته فجلس على نشز من الأرض وقعدت أسفل منه ووجهي حيال ركبتيه واغتنمت خلوته وقلت بأبي أنت وأمي يا رسول الله أي الذنب أكبر ؟ قال "أن تدعو لله ندا وهو خلقك - قلت ثم مه ؟ قال" أن تقتل ولدك كراهية أن يطعم معك "قلت ثم مه ؟ قال" أن تزاني حليلة جارك "ثم قرأ" والذين لا يدعون مع الله "الآية وقال النسائي حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا جرير عن منصور عن هلال بن" يساف عن سلمة بن قيس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع "ألا إنما هي أربع" فما أنا بأشح عليهن منذ سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم ; لا تشركوا بالله شيئا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تزنوا ولا تسرقوا "وقال الإمام أحمد حدثنا علي بن المديني رحمه الله حدثنا محمد بن فضيل بن غزوان حدثنا محمد بن سعيد الأنصاري سمعت أبا طيبة الكلاعي سمعت المقداد بن الأسود رضي الله عنه يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه" ما تقولون في الزنا ؟ "قالوا حرمه الله ورسوله فهو حرام إلى يوم القيامة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه" لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره "قال :" فما تقولون في السرقة ؟ "قالوا حرمها الله ورسوله فهي حرام قال" لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من بيت جاره "وقال أبو بكر بن أبي" الدنيا حدثنا عمار بن نصر حدثنا بقية عن أبي بكر بن أبي مريم عن الهيثم بن مالك الطائي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله من نطفة وضعها رجل في رحم لا يحل له" وقال ابن جريج أخبرني يعلى عن سعيد بن جبير أنه سمع ابن عباس يحدث أن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا ثم أتوا محمدا صلى الله عليه وسلم فقالوا إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة فنزلت "والذين لا يدعون مع الله إلها آخر" الآية ونزلت "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم" الآية وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان عن عمرو عن أبي فاختة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل "إن الله ينهاك أن تعبد المخلوق وتدع الخالق وينهاك أن تقتل ولدك وتغذو كلبك وينهاك أن تزني بحليلة" جارك "قال سفيان وهو قوله" والذين لا يدعون مع الله إلها آخر "الآية وقوله تعالى" ومن يفعل ذلك يلق أثاما "روي عن عبد الله بن عمرو أنه قال : أثاما : واد في جهنم وقال عكرمة" يلق أثاما "أودية في جهنم يعذب فيها الزناة وكذا روي عن سعيد بن جبير ومجاهد وقال قتادة" يلق أثاما "نكالا : كنا نحدث أنه واد في جهنم ." وقد ذكر لنا أن لقمان كان يقول : يا بني ; إياك والزنا فإن أوله مخافة وآخره ندامة . وقد ورد في الحديث الذي رواه ابن جرير وغيره عن ابن أمامة الباهلي موقوفا ومرفوعا أن غيا وأثاما بئران في قعر جهنم . أجارنا الله منهما بمنه وكرمه وقال السدي "يلق أثاما" جزاء وهذا أشبه بظاهر الآية وبهذا فسره بما بعده مبدلا منه . يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا (69) يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا وهو قوله تعالى "يضاعف له العذاب يوم القيامة" أي يكرر عليه ويغلظ "ويخلد فيه مهانا" أي حقيرا ذليلا . إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما (70) إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما وقوله تعالى "إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا" أي جزاؤه على ما فعل من هذه الصفات القبيحة ما ذكر "إلا من تاب" أي في الدنيا إلى الله عز وجل من جميع ذلك فإن الله يتوب عليه وفي ذلك دلالة على صحة توبة القاتل ولا تعارض بين هذه وبين آية النساء "ومن يقتل مؤمنا متعمدا" الآية فإن هذه وإن كانت مدنية إلا أنها مطلقة فتحمل على من لم يتب لأن هذه مقيدة بالتوبة ثم قد قال تعالى "إن الله لا يغفر أن يشرك به" الآية قد ثبتت السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصحة توبة القاتل كما ذكر مقررا من قصة الذي قتل مائة رجل ثم تاب فقبل الله توبته وغير ذلك من الأحاديث وقوله تعالى "فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما" في معنى قوله "يبدل الله سيئاتهم حسنات" قولان أحدهما أنهم بدلوا مكان عمل السيئات بعمل الحسنات قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية قال هم المؤمنون كانوا من قبل إيمانهم على السيئات فرغب الله بهم عن السيئات فحولهم إلى الحسنات فأبدلهم مكان السيئات الحسنات وروي عن مجاهد عن ابن عباس أنه كان ينشد عند هذه الآية : بدلن بعد حره خريفا ... وبعد طول النفس الوجيفا يعني تغيرت تلك الأحوال إلى غيرها وقال عطاء بن أبي رباح هذا في الدنيا يكون الرجل على صفة قبيحة ثم يبدله الله بها خيرا وقال سعيد بن جبير أبدلهم الله بعبادة الأوثان عبادة الرحمن وأبدلهم بقتال المسلمين قتال المشركين وأبدلهم بنكاح المشركات نكاح المؤمنات وقال الحسن البصري أبدلهم الله بالعمل السيئ العمل الصالح وأبدلهم بالشرك إخلاصا وأبدلهم بالفجور إحصانا وبالكفر إسلاما وهذا قول أبي العالية وقتادة وجماعة آخرين "والقول الثاني" أن تلك السيئات الماضية تنقلب بنفس التوبة النصوح حسنات وما ذاك إلا لأنه كلما تذكر ما مضى ندم واسترجع واستغفر فينقلب الذنب طاعة بهذا الاعتبار فيوم القيامة وإن وجده مكتوبا عليه فإنه لا يضره وينقلب حسنة في صحيفته كما ثبتت السنة بذلك وصحت به الآثار المروية عن السلف رضي الله عنهم فعن أبي ذر رضي الله عنهم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إني لأعرف آخر أهل النار خروجا من النار وآخر أهل الجنة دخولا إلى الجنة ; يؤتى برجل فيقول نحوا عنه كبار ذنوبه وسلوه عن صغارها قال فيقال له عملت يوم كذا : كذا وكذا وعملت يوم كذا : كذا وكذا فيقول نعم لا يستطيع أن ينكر من ذلك شيئا فيقال : فإن لك بكل سيئة حسنة فيقول يا رب عملت أشياء لا أراها ههنا" قال فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ; انفرد بإخراجه مسلم وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني حدثنا هاشم بن يزيد حدثنا محمد بن إسماعيل حدثني أبي حدثني ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا نام ابن آدم قال الملك للشيطان أعطني صحيفتك فيعطيه إياها فما وجد في صحيفة من حسنة محا بها عشر سيئات من صحيفة الشيطان وكتبهن حسنات فإذا أراد أحدكم أن ينام فليكبر ثلاثا وثلاثين تكبيرة ويحمد أربعا وثلاثين تحميدة ويسبح ثلاثا وثلاثين تسبيحة فتلك مائة" وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو سلمة وعارم قالا حدثنا ثابت يعني ابن يزيد أبو زيد حدثنا عاصم عن أبي عثمان عن سلمان قال يعطى الرجل يوم القيامة صحيفته فيقرأ أعلاها فإذا سيئاته فإذا كاد يسوء ظنه نظر في أسفلها فإذا حسناته ثم ينظر في أعلاها فإذا هي قد بدلت حسنات وقال أيضا حدثنا أبي حدثنا هشام بن عمار حدثنا سلمان بن موسى الزهري أبو داود حدثنا أبو العنبس عن أبيه عن أبي هريرة قال : ليأتين الله عز وجل بأناس يوم القيامة رأوا أنهم قد استكثروا من السيئات قيل من هم يا أبا هريرة ؟ قال الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات وقال أيضا حدثنا أبي حدثنا عبد الله ابن أبي زياد حدثنا سيار حدثنا جعفر حدثنا أبو حمزة عن أبي الصيف - قلت وكان من أصحاب معاذ بن جبل - قال : يدخل أهل الجنة الجنة على أربعة أصناف المتقين ثم الشاكرين ثم الخائفين ثم أصحاب اليمين قلت لم سموا أصحاب اليمين ؟ قال لأنهم قد عملوا بالسيئات والحسنات فأعطوا كتبهم بأيمانهم فقرءوا سيئاتهم حرفا حرفا وقالوا يا ربنا هذه سيئاتنا فأين حسناتنا ؟ فعند ذلك محا الله السيئات وجعلها حسنات فعند ذلك قالوا "هاؤم اقرءوا كتابيه" فهم أكثر أهل الجنة وقال علي بن الحسين زين العابدين "يبدل الله سيئاتهم حسنات" قال في الآخرة وقال مكحول يغفرها لهم فيجعلها حسنات رواهما ابن أبي حاتم وروى ابن جرير عن سعيد بن المسيب مثله قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا محمد بن الوزير الدمشقي حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا أبو جابر أنه سمع مكحولا يحدث قال : جاء شيخ كبير هرم قد سقط حاجباه على عينيه فقال يا رسول الله رجل غدر وفجر ولم يدع حاجة ولا داجة إلا اقتطفها بيمينه لو قسمت خطيئته بين أهل الأرض لأوبقتهم فهل له من توبة ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم "أأسلمت ؟" فقال أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله فقال النبي صلى الله عليه وسلم "فإن الله غافر لك ما كنت كذلك ومبدل سيئاتك حسنات" فقال يا رسول الله وغدراتي وفجراتي ؟ فقال "وغدراتك وفجراتك" فولى الرجل يكبر ويهلل وروى الطبراني من حديث أبي المغيرة عن صفوان بن عمر عن عبد الرحمن بن جبير عن أبي فروة أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أرأيت رجلا عمل الذنوب كلها ولم يترك حاجة ولا داجة فهل له من توبة ؟ فقال "أسلمت ؟" فقال نعم . قال "فافعل الخيرات واترك السيئات فيجعلها الله لك خيرات كلها" قال وغدراتي وفجراتي ؟ قال "نعم" فما زال يكبر حتى توارى ورواه الطبراني من طريق أبي فروة الرهاوي عن ياسين الزيات عن أبي سلمة الحمصي عن يحيى بن جابر عن سلمة بن نفيل مرفوعا وقال أيضا حدثنا أبو زرعة حدثنا إبراهيم ابن المنذر حدثنا عيسى بن شعيب بن ثوبان عن فليح بن عبيد بن أبي عبيد الشماس عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : جاءتني امرأة فقالت هل لي من توبة ؟ إني زنيت وولدت وقتلته فقلت لا ولا نعمت العين ولا كرامة فقامت وهي تدعو بالحسرة ثم صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الصبح فقصصت عليه ما قالت المرأة وما قلت لها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "بئسما قلت أما كنت تقرأ هذه الآية ؟" "والذين لا يدعون مع الله إلها آخر - إلى قوله -" إلا من تاب "الآية فقرأتها عليها فخرت ساجدة وقالت الحمد لله الذي جعل لي مخرجا هذا حديث غريب من هذا الوجه وفي رجاله من لا يعرف والله أعلم ." وقد رواه ابن جرير من حديث إبراهيم بن المنذر الحزامي بسنده بنحوه وعنده فخرجت تدعو بالحسرة وتقول يا حسرتا أخلق هذا الحسن للنار ؟ وعنده أنه لما رجع من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلبها في جميع دور المدينة فلم يجدها فلما كان من الليلة المقبلة جاءته فأخبرها بما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرت ساجدة وقالت الحمد لله الذي جعل لي مخرجا وتوبة مما عملت وأعتقت جارية كانت معها وابنتها وتابت إلى الله عز وجل ثم قال تعالى مخبرا عن عموم رحمته بعباده وأنه من تاب إليه منهم تاب عليه من أي ذنب كان جليلا أو حقيرا كبيرا أو صغيرا . ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا (71) ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا فقال تعالى "ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا" أي فإن الله يقبل توبته كما قال تعالى "ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه" الآية وقال تعالى "ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده" الآية وقال تعالى "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله" الآية أي لمن تاب إليه . والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما (72) والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما وهذه أيضا من صفات عباد الرحمن أنهم لا يشهدون الزور قيل هو الشرك وعبادة الأصنام وقيل الكذب والفسق والكفر واللغو والباطل وقال محمد بن الحنفية هو اللغو والغناء وقال أبو العالية وطاوس وابن سيرين والضحاك والربيع بن أنس وغيرهم هو أعياد المشركين وقال عمرو بن قيس هي مجالس السوء والخنا وقال مالك عن الزهري : شرب الخمر لا يحضرونه ولا يرغبون فيه كما جاء في الحديث "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر" وقيل المراد بقوله تعالى "لا يشهدون الزور" أي شهادة الزور وهي الكذب متعمدا على غيره كما في الصحيحين عن أبي بكرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟" ثلاثا - قلنا بلى يا رسول الله قال "الشرك بالله وعقوق الوالدين" وكان متكئا فجلس فقال "ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور" فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت والأظهر من السياق أن المراد لا يشهدون الزور أي لا يحضرونه ولهذا قال تعالى "وإذا مروا باللغو مروا كراما" أي لا يحضرون الزور وإذا اتفق مرورهم به مروا ولم يتدنسوا منه بشيء ولهذا قال "مروا كراما" وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو الحسن العجلي عن محمد بن مسلم أخبرني إبراهيم بن ميسرة أن ابن مسعود مر بلهو فلم يقف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لقد أصبح ابن مسعود وأمسى كريما" "وحدثنا الحسين بن محمد بن سلمة النحوي ثنا حبان أنا عبد الله أنا محمد بن مسلم أخبرني ميسرة قال بلغني أن ابن مسعود مر بلهو معرضا فلم يقف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم" لقد أصبح ابن مسعود وأمسى كريما "ثم تلا إبراهيم بن ميسرة" وإذا مروا باللغو مروا كراما "." والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا (73) والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا وقوله تعالى "والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا" وهذه أيضا من صفات المؤمنين "الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون" بخلاف الكافر فإنه إذا سمع كلام الله لا يؤثر فيه ولا يتغير عما كان عليه بل يبقى مستمرا على كفره وطغيانه وجهله وضلاله كما قال تعالى "وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم" فقوله "لم يخروا عليها صما وعميانا" أي بخلاف الكافر الذي إذا سمع آيات الله فلا تؤثر فيه فيستمر على حاله كأن لم يسمعها أصم أعمى قال مجاهد قوله "لم يخروا عليها صما وعميانا" قال لم يسمعوا ولم يبصروا ولم يفقهوا شيئا وقال الحسن البصري رضي الله عنه : كم من رجل يقرؤها ويخر عليها أصم أعمى وقال قتادة قوله تعالى "والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا" يقول لم يصموا عن الحق ولم يعموا فيه فهم والله قوم عقلوا عن الحق وانتفعوا بما سمعوا من كتابه وقال ابن أبي حاتم حدثنا أسيد بن عاصم حدثنا عبد الله بن حمران ثنا ابن عون قال سألت الشعبي قلت الرجل يرى القوم سجودا ولم يسمع ما سجدوا أيسجد معهم ؟ قال فتلا هذه الآية : يعني أنه لا يسجد معهم لأنه لم يتدبر أمر السجود ولا ينبغي للمؤمن أن يكون إمعة بل يكون على بصيرة في أمره ويقين واضح بين وقوله تعالى "والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين" يعني الذين يسألون الله أن يخرج من أصلابهم من ذرياتهم من يطيعه ويعبده وحده لا شريك له قال ابن عباس يعنون من يعمل بطاعة الله فتقر به أعينهم في الدنيا والآخرة قال عكرمة : لم يريدوا بذلك صباحة ولا جمالا ولكن أرادوا أن يكونوا مطيعين وسئل الحسن البصري عن هذه الآية فقال أن يرى الله العبد المسلم من زوجته ومن أخيه ومن حميمه طاعة الله لا والله لا شيء أقر لعين المسلم من أن يرى ولدا أو ولد ولد أو أخا وحميما مطيعا لله عز وجل قال ابن جريج في قوله "هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين" قال يعبدونك فيحسنون عبادتك ولا يجرون علينا الجرائر وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : يعني يسألون الله تعالى لأزواجهم وذرياتهم أن يهديهم للإسلام وقال الإمام أحمد حدثنا معمر بن بشر حدثنا عبد الله بن المبارك أخبرنا صفوان بن عمرو حدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه قال : جلسنا إلى المقداد بن الأسود يوما فمر به رجل فقال طوبى لهاتين العينين اللتين رأيا رسول الله صلى الله عليه وسلم لوددنا أنا رأينا ما رأيت وشهدنا ما شهدت فاستغضب المقداد فجعلت أعجب لأنه ما قال إلا خيرا ثم أقبل إليه فقال ما يحمل الرجل على أن يتمنى محضرا غيبه الله عنه لا يدري لو شهده كيف يكون فيه والله لقد حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم أقواما أكبهم الله على مناخرهم في جهنم لم يجيبوه ولم يصدقوه أولا تحمدون الله إذ أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعرفون إلا ربكم مصدقين بما جاء به نبيكم قد كفيتم البلاء بغيركم ؟ لقد بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم على أشر حال بعث عليها نبيا من الأنبياء في فترة جاهلية ما يرون أن دينا أفضل من عبادة الأوثان فجاء بفرقان فرق به بين الحق والباطل وفرق بين الوالد وولده إن كان الرجل ليرى والده وولده وأخاه كافرا وقد فتح الله قفل قلبه للإيمان يعلم أنه إن هلك دخل النار فلا تقر عينه وهو يعلم أن حبيبه في النار . والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما (74) والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما وأنها التي قال الله تعالى "والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين" وهذا إسناد صحيح ولم يخرجوه وقوله تعالى "واجعلنا للمتقين إماما" قال ابن عباس والحسن والسدي وقتادة والربيع بن أنس أئمة يقتدى بنا في الخير . وقال غيرهم هداة مهتدين دعاة إلى الخير فأحبوا أن تكون عبادتهم متصلة بعبادة أولادهم وذرياتهم وأن يكون هداهم متعديا إلى غيرهم بالنفع وذلك أكثر ثوابا وأحسن مآبا ولهذا ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : ولد صالح يدعو له أو علم ينتفع به من بعده أو صدقة جارية" . أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما (75) أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما لما ذكر تعالى من أوصاف عباده المؤمنين ما ذكر من الصفات الجميلة والأقوال والأفعال الجليلة قال بعد ذلك كله "أولئك" أي المتصفون بهذه "يجزون" يوم القيامة "الغرفة" وهي الجنة قال أبو جعفر الباقر وسعيد بن جبير والضحاك والسدي سميت بذلك لارتفاعها "بما صبروا" أي على القيام بذلك "ويلقون فيها" أي في الجنة "تحية وسلاما" أي يبتدرون فيها بالتحية والإكرام ويلقون التوقير والاحترام فلهم السلام وعليهم السلام فإن الملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار . خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما (76) خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما وقوله تعالى "خالدين فيها" أي مقيمين لا يظعنون ولا يحولون ولا يموتون ولا يزولون عنها ولا يبغون عنها حولا كما قال تعالى "وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض" الآية وقوله تعالى "حسنت مستقرا ومقاما" أي حسنت منظرا وطابت مقيلا ومنزلا . قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما (77) قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما ثم قال تعالى "قل ما يعبأ بكم ربي" أي لا يبالي ولا يكترث بكم إذا لم تعبدوه فإنه إنما خلق الخلق ليعبدوه ويوحدوه ويسبحوه بكرة وأصيلا قال مجاهد وعمرو بن شعيب "ما يعبأ بكم ربي" يقول ما يفعل بكم ربي وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله "قال ما يعبأ بكم ربي" الآية يقول لولا إيمانكم وأخبر تعالى الكفار أنه لا حاجة له بهم إذ لم يخلقهم مؤمنين ولو كان له بهم حاجة لحبب إليهم الإيمان كما حببه إلى المؤمنين وقوله تعالى "فقد كذبتم" أيها الكافرون "فسوف يكون لزاما" أي فسوف يكون تكذيبكم لزاما لكم يعني مقتضيا لعذابكم وهلاككم ودماركم في الدنيا والآخرة ويدخل في ذلك يوم بدر كما فسره بذلك عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب ومحمد بن كعب القرظي ومجاهد والضحاك وقتادة والسدي وغيرهم وقال الحسن البصري "فسوف يكون لزاما" أي يوم القيامة ولا منافاة بينهما . آخر تفسير سورة الفرقان ولله الحمد والمنة. ![]()
__________________
|
|
#377
|
||||
|
||||
![]() تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير) إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي الجزء (10) تفسير سورة الفرقان من صـ 336 الى صــ 342 الحلقة (377) بسم الله الرحمن الرحيم سورة الشعراء وهي مكية . طسم (1) طسم سورة الشعراء : "ووقع في تفسير مالك المروي عنه تسميتها سورة الجامعة" قد اختلف المفسرون في الحروف المقطعة التي في أوائل السور فمنهم من قال هي مما استأثر الله بعلمه فردوا علمها إلى الله ولم يفسرها حكاه القرطبي في تفسيره عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين وقاله عامر الشعبي وسفيان الثوري والربيع بن خيثم واختاره أبو حاتم بن حبان . ومنهم من فسرها واختلف هؤلاء في معناها فقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم إنما هي أسماء السور . قال العلامة أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري في تفسيره وعليه إطباق الأكثر ونقل عن سيبويه أنه نص عليه ويعتضد لهذا بما ورد في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة "الم" السجدة و "هل أتى على الإنسان" وقال سفيان الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال : الم و "حم" و "المص" و "ص" فواتح افتتح الله بها القرآن وكذا قال غيره عن مجاهد وقال مجاهد في رواية أبي حذيفة موسى بن مسعود عن شبل عن ابن أبي نجيح عنه أنه قال الم اسم من أسماء القرآن وهكذا قال قتادة وزيد بن أسلم ولعل هذا يرجع إلى معنى قول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم إنه اسم من أسماء السور فإن كل سورة يطلق عليها اسم القرآن فإنه يبعد أن يكون المص اسما للقرآن كله لأن المتبادر إلى فهم سامع من يقول قرأت المص إنما ذلك عبارة عن سورة الأعراف لا لمجموع القرآن والله أعلم . وقيل هي اسم من أسماء الله تعالى فقال عنها في فواتح السور من أسماء الله تعالى وكذلك قال سالم بن عبد الله وإسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير وقال شعبة عن السدي بلغني أن ابن عباس قال الم اسم من أسماء الله الأعظم . هكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث شعبة ورواه ابن جرير عن بندار عن ابن مهدي عن شعبة قال سألت السدي عن حم و "طس" و "الم" فقال قال ابن عباس : هي اسم الله الأعظم وقال ابن جرير وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا أبو النعمان حدثنا شعبة عن إسماعيل السدي عن مرة الهمداني قال : قال عبد الله فذكر نحوه. وحكي مثله عن علي وابن عباس وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس هو قسم أقسم الله به وهو من أسماء الله تعالى وروى ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث ابن علية عن خالد الحذاء عن عكرمة أنه قال الم قسم . وروينا أيضا من حديث شريك بن عبد الله بن عطاء بن السائب عن أبي الضحى عن ابن عباس : الم قال أنا الله أعلم وكذا قال سعيد بن جبير وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الم قال أما الم فهي حروف استفتحت من حروف هجاء أسماء الله تعالى . قال وأبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى الم قال هذه الأحرف الثلاثة من التسعة والعشرين حرفا دارت فيها الألسن كلها ليس منها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه وليس منها حرف إلا وهو من آلائه وبلألائه ليس منها حرف إلا وهو في مدة أقوام وآجالهم . قال عيسى ابن مريم عليه السلام وعجب : فقال أعجب أنهم يظنون بأسمائه ويعيشون في رزقه فكيف يكفرون به فالألف مفتاح الله واللام مفتاح اسمه لطيف والميم مفتاح اسمه مجيد فالألف آلاء الله واللام لطف الله والميم مجد الله والألف سنة واللام ثلاثون سنة والميم أربعون سنة . هذا لفظ ابن أبي حاتم ونحوه رواه ابن جرير ثم شرع يوجه كل واحد من هذه الأقوال ويوفق بينها وأنه لا منافاة بين كل واحد منها وبين الآخر وأن الجمع ممكن فهي أسماء للسور ومن أسماء الله تعالى يفتتح بها السور فكل حرف منها دل على اسم من أسمائه وصفة من صفاته كما افتتح سورا كثيرة بتحميده وتسبيحه وتعظيمه قال ولا مانع من دلالة الحرف منها على اسم من أسماء الله وعلى صفة من صفاته وعلى مدة وغير ذلك كما ذكره الربيع بن أنس عن أبي العالية لأن الكلمة الواحدة تطلق على معان كثيرة كلفظة الأمة فإنها تطلق ويراد به الدين كقوله تعالى "إنا وجدنا آباءنا على أمة" وتطلق ويراد بها الرجل المطيع لله كقوله تعالى "إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين" وتطلق ويراد بها الجماعة كقوله تعالى "وجد عليه أمة من الناس يسقون" وقوله تعالى "ولقد بعثنا في كل أمة رسولا" وتطلق ويراد بها الحين من الدهر كقوله تعالى "وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة" أي بعد حين على أصح القولين قال فكذلك هذا . هذا حاصل كلامه موجها ولكن هذا ليس كما ذكره أبو العالية فإن أبا العالية زعم أن الحرف دل على هذا وعلى هذا وعلى هذا معا ولفظة الأمة وما أشبهها من الألفاظ المشتركة في الاصطلاح إنما دل في القرآن في كل موطن على معنى واحد دل عليه سياق الكلام فأما حمله على مجموع محامله إذا أمكن فمسألة مختلف فيها بين علماء الأصول ليس هذا موضع البحث فيها والله أعلم . ثم إن لفظة الأمة تدل على كل من معانيها في سياق الكلام بدلالة الوضع فأما دلالة الحرف الواحد على اسم يمكن أن يدل على اسم آخر من غير أن يكون أحدهما أولى من الآخر في التقدير أو الإضمار بوضع ولا بغيره فهذا مما لا يفهم إلا بتوقيف والمسألة مختلف فيها وليس فيها إجماع حتى يحكم به وما أنشدوه من الشواهد على صحة إطلاق الحرف الواحد على بقية الكلمة فإن في السياق ما يدل على ما حذف بخلاف هذا كما قال الشاعر : قلنا قفي لنا فقالت قاف ... لا تحسبي أنا نسينا الإيجاف تعني وقفت . وقال الآخر : ما للظليم عال كيف لا ي ... ينقد عنه جلده إذا ي فقال ابن جرير كأنه أراد أن يقول إذا يفعل كذا وكذا فاكتفى بالياء من يفعل وقال الآخر : بالخير خيرات وإن شرا فا ... ولا أريد الشر إلا أن ت يقول وإن شرا فشرا ولا أريد الشر إلا أن تشاء فاكتفى بالفاء والتاء من الكلمتين عن بقيتهما ولكن هذا ظاهر من سياق الكلام والله أعلم . قال القرطبي وفي الحديث "من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة" الحديث قال سفيان هو أن يقول في اقتل "اق" وقال خصيف عن مجاهد أنه قال فواتح السور كلها "ق" و "ص" و "حم" و "طسم" و "الر" وغير ذلك هجاء موضوع وقال بعض أهل العربية هي حروف من حروف المعجم استغني بذكر ما ذكر منها في أوائل السور عن ذكر بواقيها التي هي تتمة الثمانية والعشرين حرفا كما يقول القائل ابني يكتب في - ا ب ت ث - أي في حروف المعجم الثمانية والعشرين فيستغني بذكر بعضها عن مجموعها حكاه ابن جرير . قلت مجموع الحروف المذكورة في أوائل السور بحذف المكرر منها أربعة عشر حرفا وهي - ال م ص ر ك ه ي ع ط س ح ق ن - يجمعها قولك : نص حكيم قاطع له سر . وهي نصف الحروف عددا والمذكور منها أشرف من المتروك , وبيان ذلك من صناعة التصريف. قال الزمخشري وهذه الحروف الأربعة عشر مشتملة على أصناف أجناس الحروف يعني من المهموسة والمجهورة ومن الرخوة والشديدة ومن المطبقة والمفتوحة ومن المستعلية والمنخفضة ومن حروف القلقلة. وقد سردها مفصلة ثم قال : فسبحان الذي دقت في كل شيء حكمته . وهذه الأجناس المعدودة مكثورة بالمذكورة منها وقد علمت أن معظم الشيء وجله ينزل منزلة كله وههنا ههنا لخص بعضهم في هذا المقام كلاما فقال : لا شك أن هذه الحروف لم ينزلها سبحانه وتعالى عبثا ولا سدى ومن قال من الجهلة إن في القرآن ما هو تعبد لا معنى له بالكلمة فقد أخطأ خطأ كبيرا فتعين أن لها معنى في نفس الأمر فإن صح لنا فيها عن المعصوم شيء قلنا به وإلا وقفنا حيث وقفنا وقلنا "آمنا به كل من عند ربنا" ولم يجمع العلماء فيها على شيء معين وإنما اختلفوا فمن ظهر له بعض الأقوال بدليل فعليه اتباعه وإلا فالوقف حتى يتبين هذا المقام . المقام الآخر في الحكمة التي اقتضت إيراد هذه الحروف في أوائل السور ما هي مع قطع النظر عن معانيها في أنفسها فقال بعضهم إنما ذكرت ليعرف بها أوائل السور حكاه ابن جرير وهذا ضعيف لأن الفصل حاصل بدونها فيما لم تذكر فيه وفيما ذكرت فيه البسملة تلاوة وكتابة وقال آخرون بل ابتدئ بها لتفتح لاستماعها أسماع المشركين إذ تواصوا بالإعراض عن القرآن حتى إذا استمعوا له تلا عليهم المؤلف منه حكاه ابن جرير أيضا وهو ضعيف أيضا لأنه لو كان كذلك لكان ذلك في جميع السور لا يكون في بعضها بل غالبها ليس كذلك ولو كان كذلك أيضا لانبغى الابتداء بها في أوائل الكلام معهم سواء كان افتتاح سورة أو غير ذلك ثم إن هذه السورة والتي تليها أعني البقرة وآل عمران مدنيتان ليستا خطابا للمشركين فانتقض ما ذكروه بهذه الوجوه . وقال آخرون بل إنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السور التي ذكرت فيها بيانا لإعجاز القرآن وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله هذا مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها وقد حكى هذا المذهب الرازي في تفسيره عن المبرد وجمع من المحققين وحكى القرطبي عن الفراء وقطرب نحو هذا وقرره الزمخشري في كشافه ونصره أتم نصر وإليه ذهب الشيخ الإمام العلامة أبو العباس ابن تيمية وشيخنا الحافظ المجتهد أبو الحجاج المزي وحكاه لي عن ابن تيمية . قال الزمخشري ولم ترد كلها مجموعة في أول القرآن وإنما كررت ليكون أبلغ في التحدي والتبكيت كما كررت قصص كثيرة وكرر التحدي بالصريح في أماكن قال وجاء منها على حرف واحد كقوله - ص ن ق - وحرفين مثل "حم" وثلاثة مثل "الم" وأربعة مثل "المر" و "المص" وخمسة مثل "كهيعص - و - حم عسق" لأن أساليب كلامهم على هذا من الكلمات ما هو على حرف وعلى حرفين وعلى ثلاثة وعلى أربعة وعلى خمسة لا أكثر من ذلك "قلت" ولهذا كل سورة افتتحت بالحروف فلا بد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن وبيان إعجازه وعظمته وهذا معلوم بالاستقراء وهو الواقع في تسع وعشرين سورة ولهذا يقول تعالى "الم ذلك الكتاب لا ريب فيه" "الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه" "المص كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه" "الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم" "الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين" "حم تنزيل من الرحمن الرحيم" "حم عسق كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم" وغير ذلك من الآيات الدالة على صحة ما ذهب إليه هؤلاء لمن أمعن النظر والله أعلم . وأما من زعم أنها دالة على معرفة المدد وأنه يستخرج من ذلك أوقات الحوادث والفتن والملاحم فقد ادعى ما ليس له وطار في غير مطاره وقد ورد في ذلك حديث ضعيف وهو مع ذلك أدل على بطلان هذا المسلك من التمسك به على صحته وهو ما رواه محمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي حدثني الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس عن جابر بن عبد الله بن رباب قال مر أبو ياسر بن أخطب في رجال من يهود برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو فاتحة سورة البقرة "الم ذلك الكتاب لا ريب فيه" فأتى أخاه حيي بن أخطب في رجال من اليهود فقال تعلمون والله لقد سمعت محمدا يتلو فيما أنزل الله تعالى عليه "الم ذلك الكتاب لا ريب فيه" فقال أنت سمعته قال نعم قال فمشى حيي بن أخطب في أولئك النفر من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد ألم يذكر أنك تتلو فيما أنزل الله عليك "الم ذلك الكتاب" ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "بلى" فقالوا جاءك بهذا جبريل من عند الله ؟ فقال "نعم" قالوا لقد بعث الله قبلك أنبياء ما نعلمه بين لنبي منهم ما مدة ملكه وما أجل أمته غيرك. فقام حيي بن أخطب وأقبل على من كان معه فقال لهم الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون فهذه إحدى وسبعون سنة أفتدخلون في دين نبي إنما مدة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة ؟ ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد هل مع هذا غيره فقال "نعم" قال ما ذاك ؟ قال "المص" قال هذا أثقل وأطول الألف واحد واللام ثلاثون والميم أربعون والصاد تسعون فهذه إحدى وثلاثون ومائة سنة . هل مع هذا يا محمد غيره ؟ قال "نعم" قال ما ذاك ؟ قال "الر" قال هذا أثقل وأطول الألف واحدة واللام ثلاثون والراء مائتان فهذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة. فهل مع هذا يا محمد غيره ؟ قال "نعم" قال ماذا قال "المر" قال هذه أثقل وأطول الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون والراء مائتان فهذه إحدى وسبعون ومائتان ثم قال : لقد لبس علينا أمرك يا محمد حتى ما ندري أقليلا أعطيت أم كثيرا. ثم قال قوموا عنه ثم قال أبو ياسر لأخيه حيي بن أخطب ولمن معه من الأحبار ما يدريكم لعله قد جمع هذا لمحمد كله إحدى وسبعون وإحدى وثلاثون ومائة وإحدى وثلاثون ومائتان وإحدى وسبعون ومائتان فذلك سبعمائة وأربع سنين ؟ فقالوا لقد تشابه علينا أمره فيزعمون أن هؤلاء الآيات نزلت فيهم "هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات" فهذا الحديث مداره على محمد بن السائب الكلبي وهو ممن لا يحتج بما انفرد به ثم كان مقتضى هذا المسلك إن كان صحيحا أن يحسب ما لكل حرف من الحروف الأربعة عشر التي ذكرناها وذلك يبلغ منه جملة كثيرة وإن حسبت مع التكرر فأطم وأعظم والله أعلم . تلك آيات الكتاب المبين (2) تلك آيات الكتاب المبين وقوله تعالى "تلك آيات الكتاب المبين" أي هذه آيات القرآن المبين أي البين الواضح الجلي الذي يفصل بين الحق والباطل والغي والرشاد . لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين (3) لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين وقوله تعالى "لعلك باخع" أي مهلك "نفسك" أي مما تحرص وتحزن عليهم "أن لا يكونوا مؤمنين" وهذه تسلية من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في عدم إيمان من لم يؤمن به من الكفار كما قال تعالى "فلا تذهب نفسك عليهم حسرات" كقوله "فلعلك باخع نفسك على آثارهم" الآية قال مجاهد وعكرمة وقتادة وعطية والضحاك والحسن وغيرهم "لعلك باخع نفسك" أي قاتل نفسك قال الشاعر : ألا أيهذا الباخع الحزن نفسه ... لشيء نحته عن يديه المقادر إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين (4) إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين ثم قال تعالى "إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين" أي لو نشاء لأنزلنا آية تضطرهم إلى الإيمان قهرا ولكن لا نفعل ذلك لأنا لا نريد من أحد إلا الإيمان الاختياري وقال تعالى "ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين" وقال تعالى "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة" الآية فنفذ قدره ومضت حكمته وقامت حجته البالغة على خلقه بإرسال الرسل إليهم وإنزال الكتب عليهم . وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين (5) وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين ثم قال تعالى "وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين" أي كلما جاءهم كتاب من السماء أعرض عنه أكثر الناس كما قال تعالى "وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين" وقال تعالى "يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون" وقال تعالى "ثم أرسلنا رسلنا تترى كلما جاء أمة رسولها كذبوه" الآية . فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون (6) فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون ولهذا قال تعالى ههنا "فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون" أي فقد كذبوا بما جاءهم من الحق فسيعلمون نبأ هذا التكذيب بعد حين . أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم (7) أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم "وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون" ثم نبه تعالى على عظمة سلطانه وجلالة قدره وشأنه الذي اجترءوا على مخالفة رسوله وتكذيب كتابه وهو القاهر العظيم القادر الذي خلق الأرض وأنبت فيها من كل زوج كريم من زروع وثمار وحيوان قال سفيان الثوري عن رجل عن الشعبي : الناس من نبات الأرض فمن دخل الجنة فهو كريم ومن دخل النار فهو لئيم . إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين (8) إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين "إن في ذلك لآية" أي دلالة على قدرة الخالق للأشياء الذي بسط الأرض ورفع بناء السماء ومع هذا ما آمن أكثر الناس بل كذبوا به وبرسله وكتبه وخالفوا أمره وارتكبوا نهيه . وإن ربك لهو العزيز الرحيم (9) وإن ربك لهو العزيز الرحيم وقوله "وإن ربك لهو العزيز" أي الذي عز كل شيء وقهره وغلبه "الرحيم" أي بخلقه فلا يعجل على من عصاه بل يؤجله وينظره ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر قال أبو العالية وقتادة والربيع بن أنس وابن إسحاق : العزيز في نقمته وانتصاره ممن خالف أمره وعبد غيره وقال سعيد بن جبير : الرحيم بمن تاب إليه وأناب . وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين (10) وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين يخبر تعالى عما أمر به عبده ورسوله وكليمه موسى بن عمران عليه السلام "حين ناداه من جانب الطور الأيمن وكلمه وناجاه وأرسله واصطفاه وأمره بالذهاب إلى فرعون وملئه ولهذا قال تعالى" أن ائت القوم الظالمين "." قوم فرعون ألا يتقون (11) قوم فرعون ألا يتقون قوم فرعون ألا يتقون قال رب إني أخاف أن يكذبون ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون "هذه أعذار سأل من الله إزاحتها عنه كما قال في سورة طه" قال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري - إلى قوله - قد أوتيت سؤلك يا موسى "." قال رب إني أخاف أن يكذبون (12) قال رب إني أخاف أن يكذبون قوم فرعون ألا يتقون قال رب إني أخاف أن يكذبون ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون "هذه أعذار سأل من الله إزاحتها عنه كما قال في سورة طه" قال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري - إلى قوله - قد أوتيت سؤلك يا موسى "." ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون (13) ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون قوم فرعون ألا يتقون قال رب إني أخاف أن يكذبون ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون "هذه أعذار سأل من الله إزاحتها عنه كما قال في سورة طه" قال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري - إلى قوله - قد أوتيت سؤلك يا موسى "." ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون (14) ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون وقوله تعالى "ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون" أي بسبب قتل القبطي الذي كان سبب خروجه من بلاد مصر . قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون (15) قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون "قال كلا" أي قال الله له لا تخف من شيء من ذلك كقوله "سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا - أي برهانا - فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون" "فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون" كقوله "إنني معكما أسمع وأرى" أي إنني معكما بحفظي وكلاءتي ونصري وتأييدي. فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين (16) فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين كقوله في الآية الأخرى "إنا رسولا ربك" أي كل منا أرسل إليك . أن أرسل معنا بني إسرائيل (17) أن أرسل معنا بني إسرائيل "أن أرسل معنا بني إسرائيل" أي أطلقهم من أسرك وقبضتك وقهرك وتعذيبك فإنهم عباد الله المؤمنون وحزبه المخلصون وهم معك في العذاب المهين ; فلما قال له موسى ذلك أعرض فرعون هنالك بالكلية ونظر إليه بعين الازدراء والغمص . قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين (18) قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين فقال "ألم نربك فينا وليدا" الآية أي أما أنت الذي ربيناه فينا وفي بيتنا وعلى فراشنا وأنعمنا عليه مدة من السنين ثم بعد هذا قابلت ذلك الإحسان بتلك الفعلة أن قتلت منا رجلا وجحدت نعمتنا عليك . وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين (19) وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين ولهذا قال "وأنت من الكافرين" أي الجاحدين قاله ابن عباس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم واختاره ابن جرير . قال فعلتها إذا وأنا من الضالين (20) قال فعلتها إذا وأنا من الضالين "قال فعلتها إذا" أي في تلك الحال "وأنا من الضالين" أي قبل أن يوحى إلي وينعم الله علي بالرسالة والنبوة قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وقتادة والضحاك وغيرهم "وأنا من الضالين" أي الجاهلين قال ابن جريج وهو كذلك في قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه . ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين (21) ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين "ففررت منكم لما خفتكم" . الآية أي انفصل الحال الأول وجاء أمر آخر فقد أرسلني الله إليك فإن أطعته سلمت وإن خالفته عطبت . وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل (22) وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل ثم قال موسى "وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل" أي وما أحسنت إلي وربيتني مقابل ما أسأت إلى بني إسرائيل فجعلتهم عبيدا وخدما تصرفهم في أعمالك ومشاق رعيتك أفيفي إحسانك إلى رجل واحد منهم بما أسأت إلى مجموعهم أي ليس ما ذكرته شيئا بالنسبة إلى ما فعلت بهم . قال فرعون وما رب العالمين (23) قال فرعون وما رب العالمين يقول تعالى مخبرا عن كفر فرعون وتمرده وطغيانه وجحوده في قوله "وما رب" العالمين "وذلك أنه كان يقول لقومه" ما علمت لكم من إله غيري "" فاستخف قومه فأطاعوه "وكانوا يجحدون الصانع جل وعلا ويعتقدون أنه لا رب لهم سوى فرعون فلما قال له موسى إني رسول رب العالمين قال له فرعون ومن هذا الذي تزعم أنه رب العالمين غيري ؟ هكذا فسره علماء السلف وأئمة الخلف حتى قال السدي هذه الآية كقوله تعالى" قال فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى "ومن زعم من أهل المنطق وغيرهم أن هذا سؤال عن الماهية فقد غلط فإنه لم يكن مقرا بالصانع حتى يسأل عن الماهية بل كان جاحدا له بالكلية فيما يظهر وإن كانت الحجج والبراهين قد قامت عليه فعند ذلك قال موسى لما سأله عن رب العالمين." قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين (24) قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين "قال رب السموات والأرض وما بينهما" أي خالق جميع ذلك ومالكه والمتصرف فيه وإلهه لا شريك له هو الله الذي خلق الأشياء كلها العالم العلوي وما فيه من الكواكب الثوابت والسيارات النيرات والعالم السفلي وما فيه من بحار وقفار وجبال وأشجار وحيوانات ونبات وثمار وما بين ذلك من الهواء والطير وما يحتوي عليه الجو الجميع عبيد له خاضعون ذليلون "إن كنتم موقنين" أي إن كانت لكم قلوب موقنة وأبصار نافذة ; فعند ذلك التفت فرعون إلى من حوله من ملئه ورؤساء دولته قائلا لهم على سبيل التهكم والاستهزاء والتكذيب لموسى . قال لمن حوله ألا تستمعون (25) قال لمن حوله ألا تستمعون فيما قاله "ألا تستمعون" أي ألا تعجبون من هذا في زعمه أن لكم إلها غيري ؟ . قال ربكم ورب آبائكم الأولين (26) قال ربكم ورب آبائكم الأولين فقال لهم موسى "ربكم ورب آبائكم الأولين" أي خالقكم وخالق آبائكم الأولين الذي كانوا قبل فرعون وزمانه . قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون (27) قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون إليكم لمجنون "أي ليس له عقل في دعواه أن ثم ربا غيري" قال "أي موسى لأولئك الذين أوعز إليهم فرعون ما أوعز من الشبهة ." قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون (28) قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون فأجاب موسى بقوله "رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون" أي هو الذي جعل المشرق مشرقا تطلع منه الكواكب والمغرب مغربا تغرب فيه الكواكب ثوابتها وسياراتها مع هذا النظام الذي سخرها فيه وقدرها فإن كان هذا الذي يزعم أنه ربكم وإلهكم صادقا فليعكس الأمر وليجعل المشرق مغربا والمغرب مشرقا كما قال تعالى عن "الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي" وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب "الآية ولهذا لما غلب فرعون وانقطعت حجته عدل إلى استعمال جاهه وقوته وسلطانه واعتقد أن ذلك نافع له ونافذ في موسى عليه السلام فقال ما أخبر الله تعالى عنه ." قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين (29) قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين لما قامت الحجة على فرعون بالبيان والعقل عدل إلى أن يقهر موسى بيده وسلطانه فظن أنه ليس وراء هذا المقام مقال فقال "لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين" . قال أولو جئتك بشيء مبين (30) قال أولو جئتك بشيء مبين فعند ذلك قال موسى "أولو جئتك بشيء مبين" أي ببرهان قاطع واضح. قال فأت به إن كنت من الصادقين (31) قال فأت به إن كنت من الصادقين "قال فأت به إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين" أي ظاهر واضح في غاية الجلاء والوضوح والعظمة ذات قوائم وفم كبير وشكل هائل مزعج . فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين (32) فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين "قال فأت به إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين" أي ظاهر واضح في غاية الجلاء والوضوح والعظمة ذات قوائم وفم كبير وشكل هائل مزعج . ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين (33) ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين "ونزع يده" أي من جيبه "فإذا هي بيضاء للناظرين" أي تتلألأ كقطعة من القمر فبادر فرعون بشقاوته إلى التكذيب والعناد . قال للملإ حوله إن هذا لساحر عليم (34) قال للملإ حوله إن هذا لساحر عليم فقال للملإ حوله "إن هذا لساحر عليم" أي فاضل بارع في السحر فروج عليهم فرعون أن هذا من قبيل السحر لا من قبيل المعجزة ثم هيجهم وحرضهم على مخالفته والكفر به . يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون (35) يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون فقال "يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره" الآية أي أراد أن يذهب بقلوب الناس معه بسبب هذا فيكثر أعوانه وأنصاره وأتباعه ويغلبكم على دولتكم فيأخذ البلاد منكم فأشيروا علي فيه ماذا أصنع به ؟ . قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين (36) قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين "قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل سحار عليم" أي أخره وأخاه حتى تجمع له من مدائن مملكتك وأقاليم دولتك . يأتوك بكل سحار عليم (37) يأتوك بكل سحار عليم كل سحار ![]()
__________________
|
|
#378
|
||||
|
||||
![]() تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير) إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي الجزء (10) تفسير سورة الشعراء من صـ 343 الى صــ 352 الحلقة (378) عليم يقابلونه ويأتون بنظير ما جاء به فتغلبه أنت وتكون لك النصرة والتأييد فأجابهم إلى ذلك وكان هذا من تسخير الله تعالى لهم في ذلك ليجتمع الناس في صعيد واحد وتظهر آيات الله وحججه وبراهينه على الناس في النهار جهرة . فجمع السحرة لميقات يوم معلوم (38) فجمع السحرة لميقات يوم معلوم ذكر الله تعالى هذه المناظر الفعلية بين موسى عليه السلام والقبط في سورة الأعراف وفي سورة طه وفي هذه السورة : وذلك أن القبط أرادوا أن يطفئوا نور الله بأفواههم فأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون وهذا شأن الكفر والإيمان ما تواجها وتقابلا إلا غلبه الإيمان "بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون" "وقل جاء الحق وزهق الباطل" الآية . وقيل للناس هل أنتم مجتمعون (39) وقيل للناس هل أنتم مجتمعون ولهذا لما جاء السحرة وقد جمعوهم من أقاليم بلاد مصر وكانوا إذ ذاك أسحر الناس وأصنعهم وأشدهم تخييلا في ذلك وكان السحرة جمعا كثيرا وجما غفيرا قيل كانوا اثني عشر ألفا وقيل خمسة عشر ألفا وقيل سبعة عشر ألفا وقيل تسعة عشر ألفا وقيل بضعة وثلاثين ألفا وقيل ثمانين ألفا وقيل غير ذلك والله أعلم بعدتهم قال ابن إسحاق : وكان أمرهم راجعا إلى أربعة منهم وهم رؤساؤهم وهم : سابور وعاذور وحطحط ومصفى واجتهد الناس في الاجتماع ذلك اليوم . لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين (40) لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين وقال قائلهم "لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين" ولم يقولوا نتبع الحق سواء كان من السحرة أو من موسى بل الرعية على دين ملكهم. فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين (41) فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين "فلما جاء السحرة" أي إلى مجلس فرعون وقد ضربوا له وطاقا وجمع خدمه وحشمه ووزراءه ورؤساء دولته وجنود مملكته فقام السحرة بين يدي فرعون يطلبون منه الإحسان إليهم والتقرب إليه إن غلبوا أي هذا الذي جمعتنا من أجله . قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين (42) قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين فقالوا "أإن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين" أي وأخص مما تطلبون أجعلكم من المقربين عندي وجلسائي . قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون (43) قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون فعادوا إلى مقام المناظرة "قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى قال بل ألقوا" وقد اختصر هذا ههنا فقال لهم موسى . فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون (44) فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون وهذا كما تقول الجهلة من العوام إذا فعلوا شيئا هذا بثواب فلان وقد ذكر الله تعالى في سورة الأعراف أنهم سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم وقال في سورة طه "فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى - إلى قوله - ولا يفلح الساحر حيث أتى" . فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون (45) فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون وقال ههنا "فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون" أي تخطفه وتجمعه من كل بقعة وتبتلعه فلم تدع منه شيئا . فألقي السحرة ساجدين (46) فألقي السحرة ساجدين قال الله تعالى "فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون" - إلى قوله - "رب موسى وهارون" فكان هذا أمرا عظيما جدا وبرهانا قاطعا للعذر وحجة دامغة وذلك أن الذين استنصر بهم وطلب منهم أن يغلبوا غلبوا وخضعوا وآمنوا بموسى في الساعة الراهنة وسجدوا لله رب العالمين الذي أرسل موسى وهارون بالحق وبالمعجزة الباهرة فغلب فرعون غلبا لم يشاهد العالم مثله وكان وقحا جريئا عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين فعدل إلى المكابرة والعناد ودعوى الباطل فشرع يتهددهم ويتوعدهم ويقول "إنه لكبيركم الذي علمكم السحر" وقال "إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة" الآية . قالوا آمنا برب العالمين (47) قالوا آمنا برب العالمين قال الله تعالى "فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون" - إلى قوله - "رب موسى وهارون" فكان هذا أمرا عظيما جدا وبرهانا قاطعا للعذر وحجة دامغة وذلك أن الذين استنصر بهم وطلب منهم أن يغلبوا غلبوا وخضعوا وآمنوا بموسى في الساعة الراهنة وسجدوا لله رب العالمين الذي أرسل موسى وهارون بالحق وبالمعجزة الباهرة فغلب فرعون غلبا لم يشاهد العالم مثله وكان وقحا جريئا عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين فعدل إلى المكابرة والعناد ودعوى الباطل فشرع يتهددهم ويتوعدهم ويقول "إنه لكبيركم الذي علمكم السحر" وقال "إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة" الآية . رب موسى وهارون (48) رب موسى وهارون قال الله تعالى "فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون" - إلى قوله - "رب موسى وهارون" فكان هذا أمرا عظيما جدا وبرهانا قاطعا للعذر وحجة دامغة وذلك أن الذين استنصر بهم وطلب منهم أن يغلبوا غلبوا وخضعوا وآمنوا بموسى في الساعة الراهنة وسجدوا لله رب العالمين الذي أرسل موسى وهارون بالحق وبالمعجزة الباهرة فغلب فرعون غلبا لم يشاهد العالم مثله وكان وقحا جريئا عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين فعدل إلى المكابرة والعناد ودعوى الباطل فشرع يتهددهم ويتوعدهم ويقول "إنه لكبيركم الذي علمكم السحر" وقال "إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة" الآية . قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين (49) قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين تهددهم فلم ينفع ذلك فيهم وتوعدهم فما زادهم إلا إيمانا وتسليما وذلك أنه قد كشف عن قلوبهم حجاب الكفر وظهر لهم الحق بعلمهم ما جهل قومهم من أن هذا الذي جاء به موسى لا يصدر عن بشر إلا أن يكون الله قد أيده به وجعله له حجة ودلالة على صدق ما جاء به من ربه ولهذا لما قال لهم فرعون "آمنتم له قبل أن آذن لكم" أي كان ينبغي أن تستأذنوني فيما فعلتم ولا تفتئتوا علي في ذلك فإن أذنت لكم فعلتم وإن منعتكم امتنعتم فإني أنا الحاكم المطاع "إنه لكبيركم الذي علمكم السحر" وهذه مكابرة يعلم كل أحد بطلانها فإنهم لم يجتمعوا بموسى قبل ذلك اليوم فكيف يكون كبيرهم الذي أفادهم صناعة السحر ؟ هذا لا يقوله عاقل ثم توعدهم فرعون بقطع الأيدي والأرجل والصلب . قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون (50) قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون فقالوا "لا ضير" أي لا حرج ولا يضرنا ذلك ولا نبالي به "إنا إلى ربنا منقلبون" أي المرجع إلى الله عز وجل وهو لا يضيع أجر من أحسن عملا ولا يخفى عليه ما فعلت بنا وسيجزينا على ذلك أتم الجزاء . إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين (51) إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين ولهذا قالوا "إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا" أي ما قارفناه من الذنوب وما أكرهتنا عليه من السحر "أن كنا أول المؤمنين" أي بسبب أنا بادرنا قومنا من القبط إلى الإيمان فقتلهم كلهم . وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون (52) وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون لما طال مقام موسى عليه السلام ببلاد مصر وأقام بها حجج الله وبراهينه على فرعون وملئه وهم مع ذلك يكابرون ويعاندون لم يبق لهم إلا العذاب والنكال فأمر الله تعالى موسى عليه السلام أن يخرج ببني إسرائيل ليلا من مصر وأن يمضي بهم حيث يؤمر ففعل موسى عليه السلام ما أمره ربه عز وجل خرج بهم بعدما استعاروا من قوم فرعون حليا كثيرا وكان خروجه بهم فيما ذكره غير واحد من المفسرين وقت طلوع القمر وذكر مجاهد رحمه الله أنه كسف القمر تلك الليلة فالله أعلم وأن موسى عليه السلام سأل عن قبر يوسف عليه السلام فدلته امرأة عجوز من بني إسرائيل عليه فاحتمل تابوته معهم ويقال إنه هو الذي حمله بنفسه عليهما السلام وكان يوسف عليه السلام قد أوصى بذلك إذا خرج بنو إسرائيل أن يحتملوه معهم وقد ورد في ذلك حديث رواه ابن أبي حاتم رحمه الله فقال : حدثنا علي بن الحسين حدثنا عبد الله بن عمر بن أبان بن صالح حدثنا ابن فضيل عن يونس بن أبي إسحاق عن ابن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى قال : نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعرابي فأكرمه فقال له رسول الله "تعاهدنا" فأتاه الأعرابي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما حاجتك ؟" قال ناقة برحلها وعنز يحتلبها أهلي فقال "أعجزت أن تكون مثل عجوز بني إسرائيل ؟" فقال له أصحابه وما عجوز بني إسرائيل يا رسول الله ؟ قال "إن موسى عليه السلام لما أراد أن يسير ببني إسرائيل أضل الطريق فقال لبني إسرائيل ما هذا ؟ فقال له علماء بني إسرائيل نحن نحدثك أن يوسف عليه السلام لما حضرته الوفاة أخذ علينا موثقا من الله أن لا نخرج من مصر حتى ننقل تابوته معنا فقال لهم موسى فأيكم يدري أين قبر يوسف ؟ قالوا ما يعلمه إلا عجوز من بني إسرائيل فأرسل إليها فقال لها دليني على قبر يوسف فقالت والله لا أفعل حتى تعطيني حكمي فقال لها وما حكمك ؟ قالت حكمي أن أكون معك في الجنة ; فكأنه ثقل عليه ذلك فقيل له أعطها حكمها قال فانطلقت معهم إلى بحيرة - مستنقع ماء - فقالت لهم انضبوا هذا الماء فلما أنضبوه قالت احفروا فلما حفروا استخرجوا قبر يوسف فلما احتملوه إذا الطريق مثل ضوء النهار" ; وهذا حديث غريب جدا والأقرب أنه موقوف والله أعلم : . فأرسل فرعون في المدائن حاشرين (53) فأرسل فرعون في المدائن حاشرين فلما أصبحوا وليس في ناديهم داع ولا مجيب غاظ ذلك فرعون واشتد غضبه على بني إسرائيل لما يريد الله به من الدمار فأرسل سريعا في بلاده حاشرين أي من يحشر الجند ويجمعه كالنقباء والحجاب ونادى فيهم . إن هؤلاء لشرذمة قليلون (54) إن هؤلاء لشرذمة قليلون "إن هؤلاء" يعني بني إسرائيل "لشرذمة قليلون" أي لطائفة قليلة. وإنهم لنا لغائظون (55) وإنهم لنا لغائظون "وإنهم لنا لغائظون" أي كل وقت يصل منهم إلينا ما يغيظنا . وإنا لجميع حاذرون (56) وإنا لجميع حاذرون "وإنا لجميع حاذرون" أي نحن كل وقت نحذر من غائلتهم : وقرأ طائفة من السلف "وإنا لجميع حاذرون" أي مستعدون بالسلاح وإني أريد أن أستأصل شأفتهم وأبيد خضراءهم فجوزي في نفسه وجنده بما أراد لهم . فأخرجناهم من جنات وعيون (57) فأخرجناهم من جنات وعيون قال الله تعالى "فأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم" أي فخرجوا من هذا النعيم إلى الجحيم وتركوا تلك المنازل العالية والبساتين والأنهار والأموال والأرزاق والملك والجاه الوافر في الدنيا . وكنوز ومقام كريم (58) وكنوز ومقام كريم قال الله تعالى "فأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم" أي فخرجوا من هذا النعيم إلى الجحيم وتركوا تلك المنازل العالية والبساتين والأنهار والأموال والأرزاق والملك والجاه الوافر في الدنيا . كذلك وأورثناها بني إسرائيل (59) كذلك وأورثناها بني إسرائيل "كذلك وأورثناها بني إسرائيل" كما قال تعالى "وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها" الآية وقال تعالى "ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين" الآيتين . فأتبعوهم مشرقين (60) فأتبعوهم مشرقين ذكر غير واحد من المفسرين أن فرعون خرج في محفل عظيم وجمع كبير هو عبارة عن مملكة الديار المصرية في زمانه أولي الحل والعقد والدول من الأمراء والوزراء والكبراء والرؤساء والجنود فأما ما ذكره غير واحد من الإسرائيليات من أنه خرج في ألف ألف وستمائة ألف فارس منها مائة ألف على خيل دهم ففيه نظر : وقال كعب الأحبار فيهم ثمانمائة ألف حصان أدهم وفي ذلك نظر والظاهر أن ذلك من مجازفات بني إسرائيل والله سبحانه وتعالى أعلم . والذي أخبر به القرآن هو النافع ولم يعين عدتهم إذ لا فائدة تحته لأنهم خرجوا بأجمعهم "فأتبعوهم مشرقين" أي وصلوا إليهم عند شروق الشمس وهو طلوعها. فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون (61) فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون "فلما تراءى الجمعان" أي رأى كل من الفريقين صاحبه فعند ذلك "قال أصحاب موسى إنا لمدركون" وذلك أنهم انتهى بهم السير إلى سيف البحر وهو بحر القلزم فصار أمامهم البحر وقد أدركهم فرعون بجنوده . قال كلا إن معي ربي سيهدين (62) قال كلا إن معي ربي سيهدين لهذا قالوا "إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين" أي لا يصل إليكم شيء مما تحذرون فإن الله سبحانه هو الذي أمرني أن أسير ههنا بكم وهو سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد وكان هارون عليه السلام في المقدمة ومعه يوشع بن نون ومؤمن آل فرعون وموسى عليه السلام في الساقة وقد ذكر غير واحد من المفسرين أنهم وقفوا لا يدرون ما يصنعون وجعل يوشع بن نون أو مؤمن آل فرعون يقول لموسى عليه السلام يا نبي الله ههنا أمرك ربك أن تسير ؟ فيقول نعم فاقترب فرعون وجنوده ولم يبق إلا القليل فعند ذلك أمر الله نبييه موسى عليه السلام أن يضرب بعصاه البحر فضربه وقال انفلق بإذن الله وروى ابن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة حدثنا صفوان بن صالح حدثنا الوليد حدثنا محمد بن حمزة بن يوسف عن عبد الله بن سلام أن موسى عليه السلام لما انتهى إلى البحر قال : يا من كان قبل كل شيء والمكون لكل شيء والكائن بعد كل شيء اجعل لنا مخرجا . فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم (63) فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم فأوحى الله إليه "أن اضرب بعصاك البحر" وقال قتادة أوحى الله تلك الليلة إلى البحر أن إذا ضربك موسى بعصاه فاسمع له وأطع فبات البحر تلك الليلة وله اضطراب ولا يدري من أي جانب يضربه موسى فلما انتهى إليه موسى قال له فتاه يوشع بن نون يا نبي الله أين أمرك ربك عز وجل ؟ قال أمرني أن أضرب البحر قال فاضربه وقال محمد ابن إسحاق أوحى الله - فيما ذكر لي - إلى البحر أن إذا ضربك موسى بعصاه فانفلق له قال فبات البحر يضطرب ويضرب بعضه بعضا فرقا من الله تعالى وانتظارا لما أمره الله وأوحى الله إلى موسى "أن اضرب بعصاك البحر" فضربه بها ففيها سلطان الله الذي أعطاه فانفلق وذكر واحد أنه جاءه فكناه فقال : انفلق علي أبا خالد بإذن الله قال الله تعالى "فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم" أي كالجبل الكبير قاله ابن مسعود وابن عباس ومحمد ابن كعب والضحاك وقتادة وغيرهم وقال عطاء الخراساني هو الفج بين الجبلين وقال ابن عباس صار البحر اثني عشر طريقا لكل سبط طريق وزاد السدي وصار فيه طاقات ينظر بعضهم إلى بعض وقام الماء على حياله كالحيطان وبعث الله الريح إلى قعر البحر فلفحته فصار يبسا كوجه الأرض قال الله تعالى "فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى" . وأزلفنا ثم الآخرين (64) وأزلفنا ثم الآخرين وقال في هذه القصة "وأزلفنا ثم الآخرين" أي هنالك قال ابن عباس وعطاء الخراساني وقتادة والسدي "وأزلفنا" أي قربنا من البحر فرعون وجنوده وأدنيناهم إليه . وأنجينا موسى ومن معه أجمعين (65) وأنجينا موسى ومن معه أجمعين "وأنجينا موسى ومن معه أجمعين" أي أنجينا موسى وبني إسرائيل ومن اتبعهم على دينهم فلم يهلك منهم أحد . ثم أغرقنا الآخرين (66) ثم أغرقنا الآخرين "ثم أغرقنا الآخرين" وأغرق فرعون وجنوده فلم يبق منهم رجل إلا هلك ; وروى ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة حدثنا شبابة حدثنا يونس بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عبد الله هو ابن مسعود أن موسى عليه السلام حين أسرى ببني إسرائيل بلغ فرعون ذلك فأمر بشاة فذبحت وقال لا والله لا يفرغ من سلخها حتى يجتمع إلي ستمائة ألف من القبط فانطلق موسى حتى انتهى إلى البحر فقال له انفرق : فقال له البحر قد استكبرت يا موسى وهل انفرقت لأحد من ولد آدم فأنفرق لك ؟ قال ومع موسى رجل على حصان له فقال له ذلك الرجل أين أمرت يا نبي الله ؟ قال : ما أمرت إلا بهذا الوجه يعني البحر فأقحم فرسه فسبح به فخرج فقال أين أمرت يا نبي الله قال ما أمرت إلا بهذا الوجه قال والله ما كذب ولا كذبت ثم اقتحم الثانية سبح ثم خرج فقال أين أمرت يا نبي الله ؟ قال ما أمرت إلا بهذا الوجه قال والله ما كذب ولا كذبت قال فأوحى الله إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فضربه موسى بعصاه فانفلق فكان فيه اثنا عشر سبطا لكل سبط طريق يتراءون فلما خرج أصحاب موسى وتتام أصحاب فرعون التقى البحر عليهم فأغرقهم وفي رواية إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عبد الله قال : فلما خرج آخر أصحاب موسى وتكامل أصحاب فرعون انطم عليهم البحر فما رئي سواد أكثر من يومئذ وغرق فرعون لعنه الله . إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين (67) ثم قال تعالى "إن في ذلك لآية" أي في هذه القصة وما فيها من العجائب والنصر والتأييد لعباد الله المؤمنين لدلالة وحجة قاطعة وحكمة بالغة "وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم" تقدم تفسيره . وإن ربك لهو العزيز الرحيم (68) ثم قال تعالى "إن في ذلك لآية" أي في هذه القصة وما فيها من العجائب والنصر والتأييد لعباد الله المؤمنين لدلالة وحجة قاطعة وحكمة بالغة "وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم" تقدم تفسيره. واتل عليهم نبأ إبراهيم (69) هذا إخبار من الله تعالى عن عبده ورسوله وخليله إبراهيم عليه السلام إمام الحنفاء أمر الله تعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أن يتلوه على أمته ليقتدوا به في الإخلاص والتوكل وعبادة الله وحده لا شريك له والتبري من الشرك وأهله . إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون (70) فإن الله تعالى آتى إبراهيم رشده من قبل أي من صغره إلى كبره فإنه من وقت نشأ وشب أنكر على قومه عبادة الأصنام مع الله عز وجل فقال لأبيه وقومه ماذا تعبدون أي ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ؟ . قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين (71) "قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين" أي مقيمين على عبادتها ودعائها . قال هل يسمعونكم إذ تدعون (72) "قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون" يعني اعترفوا بأن أصنامهم لا تفعل شيئا من ذلك وإنما رأوا آباءهم كذلك يفعلون فهم على آثارهم يهرعون فعند ذلك قال لهم إبراهيم . أو ينفعونكم أو يضرون (73) "قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون" يعني اعترفوا بأن أصنامهم لا تفعل شيئا من ذلك وإنما رأوا آباءهم كذلك يفعلون فهم على آثارهم يهرعون فعند ذلك قال لهم إبراهيم . قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون (74) "قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون" يعني اعترفوا بأن أصنامهم لا تفعل شيئا من ذلك وإنما رأوا آباءهم كذلك يفعلون فهم على آثارهم يهرعون فعند ذلك قال لهم إبراهيم . قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون (75) "أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين" أي إن كانت هذه الأصنام شيئا ولها تأثير وتقدر فلتخلص إلي بالمساءة فإني عدو لها لا أبالي بها ولا أفكر فيها وهذا كما قال تعالى مخبرا عن نوح عليه السلام "فأجمعوا أمركم وشركاءكم" الآية وقال هود عليه السلام "إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم" وهكذا تبرأ إبراهيم من آلهتهم فقال "وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله" الآية وقال تعالى : "قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم" - إلى قوله - "حتى تؤمنوا بالله وحده" وقال تعالى : "وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وجعلها كلمة" يعني لا إله إلا الله . أنتم وآباؤكم الأقدمون (76) أنتم وآباؤكم الأقدمون "أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين" أي إن كانت هذه الأصنام شيئا ولها تأثير وتقدر فلتخلص إلي بالمساءة فإني عدو لها لا أبالي بها ولا أفكر فيها وهذا كما قال تعالى مخبرا عن نوح عليه السلام "فأجمعوا أمركم وشركاءكم" الآية وقال هود عليه السلام "إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم" وهكذا تبرأ إبراهيم من آلهتهم فقال "وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله" الآية وقال تعالى : "قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم" - إلى قوله - "حتى تؤمنوا بالله وحده" وقال تعالى : "وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وجعلها كلمة" يعني لا إله إلا الله . فإنهم عدو لي إلا رب العالمين (77) فإنهم عدو لي إلا رب العالمين "أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين" أي إن كانت هذه الأصنام شيئا ولها تأثير وتقدر فلتخلص إلي بالمساءة فإني عدو لها لا أبالي بها ولا أفكر فيها وهذا كما قال تعالى مخبرا عن نوح عليه السلام "فأجمعوا أمركم وشركاءكم" الآية وقال هود عليه السلام "إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم" وهكذا تبرأ إبراهيم من آلهتهم فقال "وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله" الآية وقال تعالى : "قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم" - إلى قوله - "حتى تؤمنوا بالله وحده" وقال تعالى : "وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وجعلها كلمة" يعني لا إله إلا الله . الذي خلقني فهو يهدين (78) الذي خلقني فهو يهدين يعني لا أعبد إلا الذي يفعل هذه الأشياء "الذي خلقني فهو يهدين" أي هو الخالق الذي قدر قدرا وهدى الخلائق إليه فكل يجري على ما قدر له وهو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء . والذي هو يطعمني ويسقين (79) والذي هو يطعمني ويسقين ويسقين "أي هو خالقي ورازقي بما سخر ويسر من الأسباب السماوية والأرضية فساق المزن وأنزل الماء وأحيا به الأرض وأخرج به من كل الثمرات رزقا للعباد وأنزل الماء عذبا زلالا يسقيه مما خلق أنعاما وأناسي كثيرا ." وإذا مرضت فهو يشفين (80) وإذا مرضت فهو يشفين وقوله : "وإذا مرضت فهو يشفين" أسند المرض إلى نفسه وإن كان عن قدر الله وقضائه وخلقه ولكن أضافه إلى نفسه أدبا كما قال تعالى آمرا المصلي أن يقول "اهدنا الصراط المستقيم" إلى آخر السورة فأسند الإنعام والهداية إلى الله تعالى والغضب حذف فاعله أدبا وأسند الضلال إلى العبيد كما قالت الجن "وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا" وكذا قال إبراهيم "وإذا مرضت فهو يشفين" أي إذا وقعت في مرض فإنه لا يقدر على شفائي أحد غيره بما يقدر من الأسباب الموصلة إليه . والذي يميتني ثم يحيين (81) والذي يميتني ثم يحيين "والذي يميتني ثم يحيين" أي هو الذي يحيي ويميت لا يقدر على ذلك أحد سواه فإنه هو الذي يبدئ ويعيد . والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين (82) والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين "والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين" أي لا يقدر على غفران الذنوب في الدنيا والآخرة إلا هو ومن يغفر الذنوب إلا الله وهو الفعال لما يشاء . رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين (83) رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين وهذا سؤال من إبراهيم عليه السلام أن يؤتيه ربه حكما قال ابن عباس وهو العلم وقال عكرمة هو اللب وقال مجاهد هو القرآن وقال السدي هو النبوة وقوله : "وألحقني بالصالحين" أي اجعلني مع الصالحين في الدنيا والآخرة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عند الاحتضار "اللهم في الرفيق الأعلى" قالها ثلاثا وفي الحديث في الدعاء "اللهم أحينا مسلمين وأمتنا مسلمين وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مبدلين" ![]()
__________________
|
|
#379
|
||||
|
||||
![]() تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير) إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي الجزء (10) تفسير سورة الشعراء من صـ 353 الى صــ 361 الحلقة (379) واجعل لي لسان صدق في الآخرين (84) واجعل لي لسان صدق في الآخرين وقوله : "واجعل لي لسان صدق في الآخرين" أي واجعل لي ذكرا جميلا بعدي أذكر به ويقتدى بي في الخير كما قال تعالى : "وتركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم كذلك نجزي المحسنين" قال مجاهد وقتادة "واجعل لي لسان صدق في الآخرين" يعني الثناء الحسن قال مجاهد كقوله تعالى : "وآتيناه في الدنيا حسنة" الآية كقوله : "وآتيناه أجره في الدنيا" الآية قال ليث بن أبي سليم كل ملة تحبه وتتولاه وكذا قال عكرمة . واجعلني من ورثة جنة النعيم (85) واجعلني من ورثة جنة النعيم وقوله تعالى : "واجعلني من ورثة جنة النعيم" أي أنعم علي في الدنيا ببقاء الذكر الجميل بعدي وفي الآخرة بأن تجعلني من ورثة جنة النعيم . واغفر لأبي إنه كان من الضالين (86) واغفر لأبي إنه كان من الضالين وقوله : "واغفر لأبي" الآية كقوله : "ربنا اغفر لي ولوالدي" وهذا مما رجع عنه إبراهيم عليه السلام كما قال تعالى : "وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه - إلى قوله - إن إبراهيم لأواه حليم" وقد قطع تعالى الإلحاق في استغفاره لأبيه فقال تعالى : "قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه - إلى قوله - وما أملك لك من الله من شيء" . ولا تخزني يوم يبعثون (87) ولا تخزني يوم يبعثون وقوله : "ولا تخزني يوم يبعثون" أي أجرني من الخزي يوم القيامة ويوم يبعث الخلائق أولهم وآخرهم وقال البخاري عند هذه الآية قال إبراهيم بن طهمان عن ابن أبي ذئب عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "يلقى إبراهيم يوم القيامة أباه عليه الغبرة والقترة" وفي رواية أخرى حدثنا إسماعيل حدثنا أخي عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "يلقى إبراهيم أباه فيقول يا رب إنك وعدتني" أن لا تخزني يوم يبعثون فيقول الله تعالى إني حرمت الجنة على الكافرين "هكذا رواه عند هذه الآية وفي أحاديث الأنبياء بهذا الإسناد بعينه منفردا به ولفظه" يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة فيقول له إبراهيم ألم أقل لك لا تعصني فيقول أبوه فاليوم لا أعصيك فيقول إبراهيم يا رب إنك وعدتني أن لا تخزني يوم يبعثون فأي خزي أخزى من أبي الأبعد ؟ فيقول الله تعالى إني حرمت الجنة على الكافرين ثم يقول يا إبراهيم انظر تحت رجلك فينظر فإذا هو بذيخ ملتطخ فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار "ورواه عبد الرحمن النسائي في التفسير من سننه الكبير وقوله :" ولا تخزني يوم يبعثون "أخبرنا أحمد بن حفص بن عبد الله حدثني أبي حدثني إبراهيم بن طهمان عن محمد بن عبد الرحمن عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" إن إبراهيم رأى أباه يوم القيامة عليه الغبرة والقترة وقال له قد نهيتك عن هذا فعصيتني قال لكني اليوم لا أعصيك واحدة قال يا رب وعدتني أن لا تخزني يوم يبعثون فإن أخزيت أباه فقد أخزيت الأبعد قال يا إبراهيم إني حرمتها على الكافرين فأخذ منه قال يا إبراهيم أين أبوك ؟ قال أنت أخذته مني قال انظر أسفل منك فنظر فإذا ذيخ يتمرغ في نتنه فأخذ بقوائمه فألقي في النار "وهذا إسناد غريب وفيه نكارة والذيخ هو الذكر من الضباع كأنه حول آزر إلى صورة ذيخ متلطخ بعذرته فيلقى في النار كذلك وقد رواه البزار بإسناده من حديث حماد بن سلمة عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه غرابة ورواه أيضا من حديث قتادة عن جعفر بن عبد الغافر عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه ." يوم لا ينفع مال ولا بنون (88) يوم لا ينفع مال ولا بنون وقوله : "يوم لا ينفع مال ولا بنون" أي لا يقي المرء من عذاب الله ماله ولو افتدى بملء الأرض ذهبا "ولا بنون" أي ولو افتدى بمن على الأرض جميعا ولا ينفع يومئذ إلا الإيمان بالله وإخلاص الدين له والتبري من الشرك وأهله . إلا من أتى الله بقلب سليم (89) إلا من أتى الله بقلب سليم ولهذا قال : "إلا من أتى الله بقلب سليم" أي سالم من الدنس والشرك قال ابن سيرين القلب السليم أن يعلم أن الله حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور . وقال ابن عباس "إلا من أتى الله بقلب سليم" القلب السليم أن يشهد أن لا إله إلا الله وقال مجاهد والحسن وغيرهما "بقلب سليم" يعني من الشرك وقال سعيد بن المسيب القلب السليم هو القلب الصحيح وهو قلب المؤمن لأن قلب الكافر والمنافق مريض قال الله تعالى : "في قلوبهم مرض" قال أبو عثمان النيسابوري هو القلب السالم من البدعة المطمئن إلى السنة . وأزلفت الجنة للمتقين (90) وأزلفت الجنة للمتقين "وأزلفت الجنة" أي قربت وأدنيت من أهلها مزخرفة مزينة لناظريها وهم المتقون الذين رغبوا فيها على ما في الدنيا وعملوا لها في الدنيا . وبرزت الجحيم للغاوين (91) وبرزت الجحيم للغاوين "وبرزت الجحيم للغاوين" أي أظهرت وكشف عنها وبدت منها عنق فزفرت زفرة بلغت منها القلوب الحناجر وقيل لأهلها تقريعا وتوبيخا . وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون (92) وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون "أين ما كنتم تعبدون من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون" أي ليست الآلهة التي عبدتموها من دون الله من تلك الأصنام والأنداد تغني عنكم اليوم شيئا ولا تدفع عن أنفسها فإنكم وإياها اليوم حصب جهنم أنتم لها واردون . من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون (93) من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون "أين ما كنتم تعبدون من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون" أي ليست الآلهة التي عبدتموها من دون الله من تلك الأصنام والأنداد تغني عنكم اليوم شيئا ولا تدفع عن أنفسها فإنكم وإياها اليوم حصب جهنم أنتم لها واردون . فكبكبوا فيها هم والغاوون (94) فكبكبوا فيها هم والغاوون وقوله : "فكبكبوا فيها هم والغاوون" قال مجاهد يعني فدهوروا فيها وقال غيره كبوا فيها والكاف مكررة كما يقال صرصر والمراد أنه ألقي بعضهم على بعض من الكفار وقادتهم الذين دعوهم إلى الشرك . وجنود إبليس أجمعون (95) وجنود إبليس أجمعون "وجنود إبليس أجمعون" أي ألقوا فيها عن آخرهم . قالوا وهم فيها يختصمون (96) قالوا وهم فيها يختصمون "قالوا وهم فيها يختصمون تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين" أي يقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار ويقولون وقد عادوا على أنفسهم بالملامة. تالله إن كنا لفي ضلال مبين (97) لا يوجد تفسير لهذه الأية إذ نسويكم برب العالمين (98) إذ نسويكم برب العالمين "تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين" أي نجعل أمركم مطاعا كما يطاع أمر رب العالمين وعبدناكم مع رب العالمين . وما أضلنا إلا المجرمون (99) وما أضلنا إلا المجرمون "وما أضلنا إلا المجرمون" أي ما دعانا إلى ذلك إلا المجرمون. فما لنا من شافعين (100) فما لنا من شافعين "فما لنا من شافعين" قال بعضهم يعني من الملائكة كما يقولون "فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل" وكذا قالوا : "فما لنا من شافعين" . ولا صديق حميم (101) ولا صديق حميم "ولا صديق حميم" أي قريب ; قال قتادة يعلمون والله أن الصديق إذا كان صالحا نفع وأن الحميم إذا كان صالحا شفع . فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين (102) فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين "فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين" وذلك أنهم يتمنون أن يردوا إلى دار الدنيا ليعملوا بطاعة ربهم فيما يزعمون والله تعالى يعلم أنهم لو ردوا إلى دار الدنيا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون ; وقد أخبر الله تعالى عن تخاصم أهل النار في سورة ص ثم قال تعالى : "إن ذلك لحق تخاصم أهل النار" . إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين (103) إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين ثم قال تعالى "إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين" أي أن في محاجة إبراهيم لقومه وإقامة الحجج عليهم في التوحيد لآية أي لدلالة واضحة جلية على أن لا إله إلا الله "وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم" . وإن ربك لهو العزيز الرحيم (104) لا يوجد تفسير لهذه الأية كذبت قوم نوح المرسلين (105) كذبت قوم نوح المرسلين هذا إخبار من الله عز وجل عن عبده ورسوله نوح عليه السلام وهو أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض بعدما عبدت الأصنام والأنداد فبعثه الله ناهيا عن ذلك ومحذرا من وبيل عقابه فكذبه قومه فاستمروا على ما هم عليه من الفعال الخبيثة في عبادتهم أصنامهم مع الله تعالى ونزل الله تعالى تكذيبهم له منزلة تكذيبهم جميع الرسل فلهذا قال تعالى : "كذبت قوم نوح المرسلين ." إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون (106) إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون "أي ألا تخافون الله في عبادتكم غيره ." إني لكم رسول أمين (107) إني لكم رسول أمين "إني لكم رسول أمين" أي إني رسول من الله إليكم أمين فيما بعثني الله به أبلغكم رسالات ربي ولا أزيد فيها ولا أنقص منها . فاتقوا الله وأطيعون (108) لا يوجد تفسير لهذه الأية وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين (109) وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين "فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر" الآية أي لا أطلب منكم جزاء على نصحي لكم بل أدخر ثواب ذلك عند الله . فاتقوا الله وأطيعون (110) فاتقوا الله وأطيعون "فاتقوا الله وأطيعون" فقد وضح لكم وبان صدقي ونصحي وأمانتي فيما بعثني الله به وائتمنني عليه . قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون (111) قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون يقولون لا نؤمن لك ولا نتبعك ونتأسى في ذلك بهؤلاء الأرذلين الذين اتبعوك وصدقوك وهم أراذلنا ولهذا "قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون قال وما علمي بما كانوا يعملون" أي وأي شيء يلزمني من اتباع هؤلاء لي ولو كانوا على أي شيء كانوا عليه لا يلزمني التنقيب عنهم والبحث والفحص إنما علي أن أقبل منهم تصديقهم إياي وأكل سرائرهم إلى الله عز وجل . قال وما علمي بما كانوا يعملون (112) قال وما علمي بما كانوا يعملون يقولون لا نؤمن لك ولا نتبعك ونتأسى في ذلك بهؤلاء الأرذلين الذين اتبعوك وصدقوك وهم أراذلنا ولهذا "قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون قال وما علمي بما كانوا يعملون" أي وأي شيء يلزمني من اتباع هؤلاء لي ولو كانوا على أي شيء كانوا عليه لا يلزمني التنقيب عنهم والبحث والفحص إنما علي أن أقبل منهم تصديقهم إياي وأكل سرائرهم إلى الله عز وجل . إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون (113) إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون "إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون وما أنا بطارد المؤمنين" كأنهم سألوا منه أن يبعدهم عنه ويتابعوه فأبى عليهم ذلك . وما أنا بطارد المؤمنين (114) وما أنا بطارد المؤمنين "إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون وما أنا بطارد المؤمنين" كأنهم سألوا منه أن يبعدهم عنه ويتابعوه فأبى عليهم ذلك . إن أنا إلا نذير مبين (115) إن أنا إلا نذير مبين وقال : "وما أنا بطارد المؤمنين إن أنا إلا نذير مبين" أي إنما بعثت نذيرا فمن أطاعني واتبعني وصدقني كان مني وأنا منه سواء كان شريفا أو وضيعا جليلا أو حقيرا. قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين (116) قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من لما طال مقام نبي الله بين أظهرهم يدعوهم إلى الله تعالى ليلا ونهارا وسرا وجهارا وكلما كرر عليهم الدعوة صمموا على الكفر الغليظ والامتناع الشديد وقالوا في الآخر "لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين" أي لئن لم تنته عن دعوتك إيانا إلى دينك "لتكونن من المرجومين" أي لأرجمنك فعند ذلك دعا عليهم دعوة استجاب الله منه. قال رب إن قومي كذبون (117) قال رب إن قومي كذبون فقال "رب إن قومي كذبون فافتح بيني وبينهم فتحا" الآية كما قال في الآية الأخرى "فدعا ربه أني مغلوب فانتصر" إلى آخر الآية . فافتح بيني وبينهم فتحا ونجني ومن معي من المؤمنين (118) فافتح بيني وبينهم فتحا ونجني ومن معي من المؤمنين رب إن قومي كذبون فافتح بيني وبينهم فتحا "الآية كما قال في الآية الأخرى" فدعا ربه أني مغلوب فانتصر "إلى آخر الآية ." فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون (119) فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون وقال ههنا "فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون" والمشحون هو المملوء بالأمتعة والأزواج التي حمل فيها من كل زوجين اثنين أي أنجينا نوحا ومن اتبعه كلهم . ثم أغرقنا بعد الباقين (120) ثم أغرقنا بعد الباقين "ثم أغرقنا بعد الباقين" وأغرقنا من كفر به وخالف أمره كلهم أجمعين "إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم" . إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين (121) إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين "ثم أغرقنا بعد الباقين" وأغرقنا من كفر به وخالف أمره كلهم أجمعين "إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم" . وإن ربك لهو العزيز الرحيم (122) لا يوجد تفسير لهذه الأية كذبت عاد المرسلين (123) كذبت عاد المرسلين وهذا إخبار من الله تعالى عن عبده ورسوله هود عليه السلام أنه دعا قومه عادا وكان قومه يسكنون الأحقاف وهي جبال الرمل قريبا من حضرموت متاخمة بلاد اليمن وكان زمانهم بعد قوم نوح كما قال في سورة الأعراف "واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة" وذلك أنهم كانوا في غاية من قوة التركيب والقوة والبطش الشديد والطول المديد والأرزاق الدارة والأموال والجنات والأنهار والأبناء والزروع والثمار وكانوا مع ذلك يعبدون غير الله معه . إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون (124) إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون فبعث الله هودا إليهم رجلا منهم رسولا وبشيرا ونذيرا فدعاهم إلى الله وحده وحذرهم نقمته وعذابه في مخالفته وبطشه فقال لهم كما قال نوح لقومه . إني لكم رسول أمين (125) إني لكم رسول أمين فبعث الله هودا إليهم رجلا منهم رسولا وبشيرا ونذيرا فدعاهم إلى الله وحده وحذرهم نقمته وعذابه في مخالفته وبطشه فقال لهم كما قال نوح لقومه . فاتقوا الله وأطيعون (126) فاتقوا الله وأطيعون فبعث الله هودا إليهم رجلا منهم رسولا وبشيرا ونذيرا فدعاهم إلى الله وحده وحذرهم نقمته وعذابه في مخالفته وبطشه فقال لهم كما قال نوح لقومه . وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين (127) وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين فبعث الله هودا إليهم رجلا منهم رسولا وبشيرا ونذيرا فدعاهم إلى الله وحده وحذرهم نقمته وعذابه في مخالفته وبطشه فقال لهم كما قال نوح لقومه . أتبنون بكل ريع آية تعبثون (128) أتبنون بكل ريع آية تعبثون إلى أن قال : "أتبنون بكل ريع آية تعبثون" "اختلف المفسرون في الريع بما حاصله أنه المكان المرتفع عند جواد الطرق المشهورة يبنون هناك بنيانا محكما هائلا باهرا ولهذا قال :" أتبنون بكل ريع آية "أي معلما بناء مشهورا" تعبثون "أي وإنما تفعلون ذلك عبثا لا للاحتياج إليه بل لمجرد اللعب واللهو وإظهار القوة ولهذا أنكر عليهم نبيهم عليه السلام ذلك لأنه تضييع للزمان وإتعاب للأبدان في غير فائدة واشتغال بما لا يجدي في الدنيا ولا في الآخرة ." وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون (129) وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون ولهذا قال : "وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون" قال مجاهد والمصانع البروج المشيدة والبنيان المخلد وفي رواية عنه بروج الحمام وقال قتادة هي مأخذ الماء قال قتادة وقرأ بعض الكوفيين "وتتخذون مصانع كأنكم خالدون" وفي القراءة المشهورة "وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون" أي لكي تقيموا فيها أبدا وذلك ليس بحاصل لكم بل زائل عنكم كما زال عمن كان قبلكم وروى ابن أبي حاتم رحمه الله حدثنا أبي حدثنا الحكم بن موسى حدثنا الوليد حدثنا ابن عجلان حدثني عون بن عبد الله بن عتبة أن أبا الدرداء رضي الله عنه لما رأى ما أحدث المسلمون في الغوطة من البنيان ونصب الشجر قام في مسجدهم فنادى يا أهل دمشق فاجتمعوا إليه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال ألا تستحيون ألا تستحيون تجمعون ما لا تأكلون وتبنون ما لا تسكنون وتأملون ما لا تدركون إنه قد كانت قبلكم قرون يجمعون فيوعون ويبنون فيوثقون ويأملون فيطيلون فأصبح أملهم غرورا وأصبح جمعهم بورا وأصبحت مساكنهم قبورا ألا إن عادا ملكت ما بين عدن وعمان خيلا وركابا فمن يشتري مني ميراث عاد بدرهمين ؟ . وإذا بطشتم بطشتم جبارين (130) وإذا بطشتم بطشتم جبارين وقوله : "وإذا بطشتم بطشتم جبارين" أي يصفهم بالقوة والغلظة والجبروت . فاتقوا الله وأطيعون (131) فاتقوا الله وأطيعون "فاتقوا الله وأطيعون" أي اعبدوا ربكم وأطيعوا رسولكم ثم شرع يذكرهم نعم الله عليهم . واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون (132) واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون فقال : "واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم" أي إن كذبتم وخالفتم فدعاهم إلى الله بالترغيب والترهيب فما نفع فيهم . أمدكم بأنعام وبنين (133) أمدكم بأنعام وبنين فقال : "واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم" أي إن كذبتم وخالفتم فدعاهم إلى الله بالترغيب والترهيب فما نفع فيهم . وجنات وعيون (134) وجنات وعيون فقال : "واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم" أي إن كذبتم وخالفتم فدعاهم إلى الله بالترغيب والترهيب فما نفع فيهم . إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم (135) إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم فقال : "واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم" أي إن كذبتم وخالفتم فدعاهم إلى الله بالترغيب والترهيب فما نفع فيهم . قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين (136) قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين يقول تعالى مخبرا عن جواب قوم هود له بعدما حذرهم وأنذرهم ورغبهم ورهبهم وبين لهم الحق ووضحه "قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين" أي لا نرجع عما نحن عليه "وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين" وهكذا الأمر فإن الله تعالى قال : "إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون" وقال تعالى : "إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون" الآية . إن هذا إلا خلق الأولين (137) إن هذا إلا خلق الأولين وقولهم "إن هذا إلا خلق الأولين" قرأ بعضهم "إن هذا إلا خلق الأولين" بفتح الخاء وتسكين اللام قال ابن مسعود والعوفي عن عبد الله بن عباس وعلقمة ومجاهد يعنون ما هذا الذي جئتنا به إلا أخلاق الأولين كما قال المشركون من قريش "وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا" وقال : "وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا وقالوا أساطير الأولين" وقال : "وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين" وقرأ آخرون "إن هذا إلا خلق الأولين" بضم الخاء واللام يعنون دينهم وما هم عليه من الأمر هو دين الأولين من الآباء والأجداد ونحن تابعون لهم سالكون وراءهم نعيش كما عاشوا ونموت كما ماتوا ولا بعث ولا معاد . وما نحن بمعذبين (138) وما نحن بمعذبين ولهذا قالوا : "وما نحن بمعذبين" قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "إن هذا إلا خلق الأولين" يقول دين الأولين وقاله عكرمة وعطاء الخراساني وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم واختاره ابن جرير . فكذبوه فأهلكناهم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين (139) فكذبوه فأهلكناهم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وقوله تعالى : "فكذبوه فأهلكناهم" أي استمروا على تكذيب نبي الله هود ومخالفته وعناده فأهلكهم الله وقد بين سبب إهلاكه إياهم في غير موضع من القرآن بأنه أرسل عليهم ريحا صرصرا عاتية أي ريحا شديدة الهبوب ذات برد شديد جدا فكان سبب إهلاكهم من جنسهم فإنهم كانوا أعتى شيء وأجبره فسلط الله عليهم ما هو أعتى منهم وأشد قوة كما قال تعالى : "ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد" وهم عاد الأولى كما قال تعالى : "وأنه أهلك عادا الأولى" وهم من نسل إرم بن سام بن نوح "ذات العماد" الذين كانوا يسكنون العمد ومن زعم أن إرم مدينة فإنما أخذ ذلك من الإسرائيليات من كلام كعب ووهب وليس لذلك أصل أصيل ولهذا قال "التي لم يخلق مثلها في البلاد" أي لم يخلق مثل هذه القبيلة في قوتهم وشدتهم وجبروتهم ولو كان المراد بذلك مدينة لقال التي لم يبن مثلها في البلاد وقال تعالى : "فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة ؟ أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون" وقد قدمنا أن الله تعالى لم يرسل عليهم من الريح إلا مقدار أنف الثور عتت على الخزنة فأذن الله لها في ذلك فسلكت فحصبت بلادهم فحصبت كل شيء لهم كما قال تعالى : "تدمر كل شيء بأمر ربها" الآية وقال تعالى : "وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية" - إلى قوله "حسوما" - أي كاملة - "فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية" أي بقوا أبدانا بلا رءوس وذلك أن الريح كانت تأتي الرجل منهم فتقتلعه وترفعه في الهواء ثم تنكسه على أم رأسه فتشدخ دماغه وتكسر رأسه وتلقيه كأنهم أعجاز نخل منقعر وقد كانوا تحصنوا في الجبال والكهوف والمغارات وحفروا لهم في الأرض إلى أنصافهم فلم يغن عنهم ذلك من أمر الله شيئا "إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر" ولهذا قال تعالى : "فكذبوه فأهلكناهم" الآية. وإن ربك لهو العزيز الرحيم (140) لا يوجد تفسير لهذه الأية كذبت ثمود المرسلين (141) كذبت ثمود المرسلين هذا إخبار من الله عز وجل عن عبده ورسوله صالح عليه السلام أنه بعثه إلى قومه ثمود وكانوا عربا يسكنون مدينة الحجر التي بين وادي القرى وبلاد الشام ومساكنهم معروفة مشهورة وقد قدمنا في سورة الأعراف الأحاديث المروية في مرور رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم حين أراد غزو الشام فوصل إلى تبوك ثم عاد إلى المدينة ليتأهب لذلك وكانوا بعد عاد وقبل الخليل عليه السلام فدعاهم نبيهم صالح إلى الله عز وجل أن يعبدوه وحده لا شريك له وأن يطيعوه فيما بلغهم من الرسالة فأبوا عليه وكذبوه وخالفوه وأخبرهم أنه لا يبتغي بدعوتهم أجرا منهم وإنما يطلب ثواب ذلك من الله عز وجل ثم ذكرهم آلاء الله عليهم فقال . إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون (142) إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون فدعاهم نبيهم صالح إلى الله عز وجل أن يعبدوه وحده لا شريك له وأن يطيعوه فيما بلغهم من الرسالة فأبوا عليه وكذبوه وخالفوه وأخبرهم أنه لا يبتغي بدعوتهم أجرا منهم وإنما يطلب ثواب ذلك من الله عز وجل ثم ذكرهم آلاء الله عليهم. إني لكم رسول أمين (143) إني لكم رسول أمين فدعاهم نبيهم صالح إلى الله عز وجل أن يعبدوه وحده لا شريك له وأن يطيعوه فيما بلغهم من الرسالة فأبوا عليه وكذبوه وخالفوه وأخبرهم أنه لا يبتغي بدعوتهم أجرا منهم وإنما يطلب ثواب ذلك من الله عز وجل ثم ذكرهم آلاء الله عليهم . فاتقوا الله وأطيعون (144) فاتقوا الله وأطيعون فدعاهم نبيهم صالح إلى الله عز وجل أن يعبدوه وحده لا شريك له وأن يطيعوه فيما بلغهم من الرسالة فأبوا عليه وكذبوه وخالفوه وأخبرهم أنه لا يبتغي بدعوتهم أجرا منهم وإنما يطلب ثواب ذلك من الله عز وجل ثم ذكرهم آلاء الله عليهم .
__________________
|
|
#380
|
||||
|
||||
![]() تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير) إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي الجزء (10) تفسير سورة الشعراء من صـ 362 الى صــ 371 الحلقة (380) وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين (145) وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين فدعاهم نبيهم صالح إلى الله عز وجل أن يعبدوه وحده لا شريك له وأن يطيعوه فيما بلغهم من الرسالة فأبوا عليه وكذبوه وخالفوه وأخبرهم أنه لا يبتغي بدعوتهم أجرا منهم وإنما يطلب ثواب ذلك من الله عز وجل ثم ذكرهم آلاء الله عليهم . أتتركون في ما هاهنا آمنين (146) أتتركون في ما ها هنا يقول لهم واعظا لهم ومحذرهم نقم الله أن تحل بهم ومذكرا بأنعم الله عليهم فيما رزقهم من الأرزاق الدارة وجعلهم في أمن من المحذورات . في جنات وعيون (147) في جنات وعيون وأنبت لهم من الجنات وفجر لهم من العيون الجاريات وأخرج لهم من الزروع والثمرات . وزروع ونخل طلعها هضيم (148) وزروع ونخل طلعها هضيم ولهذا قال "ونخل طلعها هضيم" قال العوفي عن ابن عباس أينع وبلغ فهو هضيم وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "ونخل طلعها هضيم" يقول معشبة وقال إسماعيل بن أبي خالد عن عمرو بن أبي عمرو - وقد أدرك الصحابة - عن ابن عباس في قوله "ونخل طلعها هضيم" قال إذا رطب واسترخى رواه ابن أبي حاتم ثم قال : وروي عن أبي صالح نحو هذا وقال أبو إسحاق عن أبي العلاء "ونخل طلعها هضيم" قال هو المذنب من الرطب وقال مجاهد : هو الذي إذا يبس تهشم وتفتت وتناثر وقال ابن جريج سمعت عبد الكريم أنبأنا أمية سمعت مجاهدا يقول : "ونخل طلعها" هضيم "قال : حين يطلع تقبض عليه فتهضمه فهو من الرطب الهضيم ومن اليابس الهشيم تقبض عليه فتهشمه وقال عكرمة وقتادة : الهضيم الرطب اللين وقال الضحاك : إذا كثر حمل الثمرة وركب بعضها بعضا فهو هضيم وقال مرة : هو الطلع حين يتفرق ويخضر وقال الحسن البصري هو الذي لا نوى له وقال أبو صخر : ما رأيت الطلع حين ينشق عنه الكم فترى الطلع قد لصق بعضه ببعض فهو الهضيم ." وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين (149) وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين وقوله "وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين" قال ابن عباس وغير واحد يعني حاذقين وفي رواية عنه شرهين أشرين وهو اختيار مجاهد وجماعة ولا منافاة بينهما فإنهم كانوا يتخذون تلك البيوت المنحوتة في الجبال أشرا وبطرا وعبثا من غير حاجة إلى سكناها وكانوا حاذقين متقنين لنحتها ونقشها كما هو المشاهد من حالهم لمن رأى منازلهم . فاتقوا الله وأطيعون (150) فاتقوا الله وأطيعون ولهذا قال "فاتقوا الله وأطيعون" أي أقبلوا على ما يعود نفعه عليكم في الدنيا والآخرة من عبادة ربكم الذي خلقكم ورزقكم لتعبدوه وتوحدوه وتسبحوه بكرة وأصيلا. ولا تطيعوا أمر المسرفين (151) ولا تطيعوا أمر المسرفين "ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون" يعني رؤساءهم وكبراءهم الدعاة لهم إلى الشرك والكفر ومخالفة الحق . الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون (152) الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون "ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون" يعني رؤساءهم وكبراءهم الدعاة لهم إلى الشرك والكفر ومخالفة الحق . قالوا إنما أنت من المسحرين (153) قالوا إنما أنت من المسحرين يقول تعالى مخبرا عن ثمود في جوابهم لنبيهم صالح عليه السلام حين دعاهم إلى عبادة ربهم عز وجل أنهم "قالوا إنما أنت من المسحرين" قال مجاهد وقتادة يعنون من المسحورين وروى أبو صالح عن ابن عباس "من المسحرين" يعني من المخلوقين واستشهد بعضهم على هذا بقول الشاعر : فإن تسألينا فيم نحن فإننا ... عصافير من هذا الأنام المسحر يعني الذين لهم سحر والسحر هو الرئة والأظهر في هذا قول مجاهد وقتادة أنهم يقولون إنما أنت في قولك هذا مسحور لا عقل لك . ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بآية إن كنت من الصادقين (154) ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بآية إن كنت من الصادقين ثم قالوا "ما أنت إلا بشر مثلنا" يعني فكيف أوحي إليك دوننا كما قالوا في الآية الأخرى "أأنزل عليه الذكر من بيننا بل هو كذاب أشر سيعلمون غدا من الكذاب الأشر" ثم إنهم اقترحوا عليه آية يأتيهم بها ليعلموا صدقه بما جاءهم به من ربهم وقد اجتمع ملؤهم وطلبوا منه أن يخرج لهم الآن من هذه الصخرة ناقة عشراء - وأشاروا إلى صخرة عندهم - من صفتها كذا وكذا فعند ذلك أخذ عليهم نبي الله صالح العهود والمواثيق لئن أجابهم إلى ما سألوا ليؤمنن به وليتبعنه فأعطوه ذلك فقام نبي الله صالح عليه السلام فصلى ثم دعا الله عز وجل أن يجيبهم إلى سؤالهم فانفطرت تلك الصخرة التي أشاروا إليها عن ناقة عشراء على الصفة التي وصفوها فآمن بعضهم وكفر أكثرهم . قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم (155) قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم يعني ترد ماءكم يوما ويوما تردونه أنتم . ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم (156) ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم "ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم" فحذرهم نقمة الله إن أصابوها بسوء فمكثت الناقة بين أظهرهم حينا من الدهر ترد الماء وتأكل الورق والمرعى وينتفعون بلبنها يحلبون منها ما يكفيهم شربا وريا فلما طال عليهم الأمد وحضر أشقاهم تمالئوا على قتلها وعقرها . فعقروها فأصبحوا نادمين (157) فعقروها فأصبحوا نادمين "فعقروها فأصبحوا نادمين فأخذهم العذاب" وهو أن أرضهم زلزلت زلزالا شديدا وجاءتهم صيحة عظيمة اقتلعت القلوب من محالها وأتاهم من الأمر ما لم يكونوا يحتسبون وأصبحوا في ديارهم جاثمين "إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم" . فأخذهم العذاب إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين (158) فأخذهم العذاب إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين "فعقروها فأصبحوا نادمين فأخذهم العذاب" وهو أن أرضهم زلزلت زلزالا شديدا وجاءتهم صيحة عظيمة اقتلعت القلوب من محالها وأتاهم من الأمر ما لم يكونوا يحتسبون وأصبحوا في ديارهم جاثمين "إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم" . وإن ربك لهو العزيز الرحيم (159) لا يوجد تفسير لهذه الأية كذبت قوم لوط المرسلين (160) كذبت قوم لوط المرسلين يقول تعالى مخبرا عن عبده ورسوله لوط عليه السلام وهو لوط بن هاران بن آزار وهو ابن أخي إبراهيم الخليل عليه السلام وكان الله تعالى قد بعثه إلى أمة عظيمة في حياة إبراهيم عليهما السلام وكانوا يسكنون سدوم وأعمالها التي أهلكها الله بها وجعل مكانها بحيرة منتنة خبيثة وهي مشهورة ببلاد الغور بناحية متاخمة لجبال البيت المقدس بينها وبين بلاد الكرك والشوبك فدعاهم إلى الله عز وجل أن يعبدوه وحده لا شريك له وأن يطيعوا رسولهم الذي بعثه الله إليهم ونهاهم عن معصية الله وارتكاب ما كانوا قد ابتدعوه في العالم مما لم يسبقهم أحد من الخلائق إلى فعله من إتيان الذكور دون الإناث . إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون (161) إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون يقول تعالى مخبرا عن عبده ورسوله لوط عليه السلام وهو لوط بن هاران بن آزار وهو ابن أخي إبراهيم الخليل عليه السلام وكان الله تعالى قد بعثه إلى أمة عظيمة في حياة إبراهيم عليهما السلام وكانوا يسكنون سدوم وأعمالها التي أهلكها الله بها وجعل مكانها بحيرة منتنة خبيثة وهي مشهورة ببلاد الغور بناحية متاخمة لجبال البيت المقدس بينها وبين بلاد الكرك والشوبك فدعاهم إلى الله عز وجل أن يعبدوه وحده لا شريك له وأن يطيعوا رسولهم الذي بعثه الله إليهم ونهاهم عن معصية الله وارتكاب ما كانوا قد ابتدعوه في العالم مما لم يسبقهم أحد من الخلائق إلى فعله من إتيان الذكور دون الإناث. إني لكم رسول أمين (162) إني لكم رسول أمين يقول تعالى مخبرا عن عبده ورسوله لوط عليه السلام وهو لوط بن هاران بن آزار وهو ابن أخي إبراهيم الخليل عليه السلام وكان الله تعالى قد بعثه إلى أمة عظيمة في حياة إبراهيم عليهما السلام وكانوا يسكنون سدوم وأعمالها التي أهلكها الله بها وجعل مكانها بحيرة منتنة خبيثة وهي مشهورة ببلاد الغور بناحية متاخمة لجبال البيت المقدس بينها وبين بلاد الكرك والشوبك فدعاهم إلى الله عز وجل أن يعبدوه وحده لا شريك له وأن يطيعوا رسولهم الذي بعثه الله إليهم ونهاهم عن معصية الله وارتكاب ما كانوا قد ابتدعوه في العالم مما لم يسبقهم أحد من الخلائق إلى فعله من إتيان الذكور دون الإناث . فاتقوا الله وأطيعون (163) فاتقوا الله وأطيعون يقول تعالى مخبرا عن عبده ورسوله لوط عليه السلام وهو لوط بن هاران بن آزار وهو ابن أخي إبراهيم الخليل عليه السلام وكان الله تعالى قد بعثه إلى أمة عظيمة في حياة إبراهيم عليهما السلام وكانوا يسكنون سدوم وأعمالها التي أهلكها الله بها وجعل مكانها بحيرة منتنة خبيثة وهي مشهورة ببلاد الغور بناحية متاخمة لجبال البيت المقدس بينها وبين بلاد الكرك والشوبك فدعاهم إلى الله عز وجل أن يعبدوه وحده لا شريك له وأن يطيعوا رسولهم الذي بعثه الله إليهم ونهاهم عن معصية الله وارتكاب ما كانوا قد ابتدعوه في العالم مما لم يسبقهم أحد من الخلائق إلى فعله من إتيان الذكور دون الإناث . وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين (164) لا يوجد تفسير لهذه الأية أتأتون الذكران من العالمين (165) أتأتون الذكران من العالمين لما نهاهم نبي الله عن ارتكاب الفواحش وغشيانهم الذكور وأرشدهم إلى إتيان نسائهم اللاتي خلقهن الله لهم ما كان جوابهم له . وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون (166) وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون لما نهاهم نبي الله عن ارتكاب الفواحش وغشيانهم الذكور وأرشدهم إلى إتيان نسائهم اللاتي خلقهن الله لهم ما كان جوابهم له . قالوا لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين (167) قالوا لئن لم تنته يا لوط لتكونن من إلا أن قالوا "لئن لم تنته يا لوط" أي عما جئتنا به "لتكونن من المخرجين" أي ننفيك من بين أظهرنا كما قال تعالى "فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون" فلما رأى أنهم لا يرتدعون عما هم فيه وأنهم مستمرون على ضلالتهم تبرأ منهم . قال إني لعملكم من القالين (168) قال إني لعملكم من القالين وقال "إني لعملكم من القالين" أي المبغضين لا أحبه ولا أرضى به وإني بريء منكم ثم دعا الله عليهم . رب نجني وأهلي مما يعملون (169) رب نجني وأهلي مما يعملون فقال "رب نجني وأهلي مما يعملون" قال الله تعالى "فنجيناه وأهله أجمعين" أي كلهم . فنجيناه وأهله أجمعين (170) فنجيناه وأهله أجمعين فقال "رب نجني وأهلي مما يعملون" قال الله تعالى "فنجيناه وأهله أجمعين" أي كلهم . إلا عجوزا في الغابرين (171) إلا عجوزا في الغابرين "إلا عجوزا في الغابرين" وهي امرأته وكانت عجوز سوء بقيت فهلكت مع من بقي من قومها وذلك كما أخبر الله تعالى عنهم في سورة الأعراف وهود وكذا في الحجر حين أمره الله أن يسري بأهله إلا امرأته وأنهم لا يلتفتوا إذا سمعوا الصيحة حين تنزل على قومه فصبروا لأمر الله واستمروا . ثم دمرنا الآخرين (172) ثم دمرنا الآخرين وأنزل الله على أولئك العذاب الذي عم جميعهم وأمطر عليهم حجارة من سجيل منضود . ولهذا قال تعالى "ثم دمرنا الآخرين وأمطرنا عليهم مطرا" - إلى قوله - "وإن ربك لهو العزيز الرحيم" . وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين (173) وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين وأنزل الله على أولئك العذاب الذي عم جميعهم وأمطر عليهم حجارة من سجيل منضود . ولهذا قال تعالى "ثم دمرنا الآخرين وأمطرنا عليهم مطرا" - إلى قوله - "وإن ربك لهو العزيز الرحيم" . إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين (174) لا يوجد تفسير لهذه الأية وإن ربك لهو العزيز الرحيم (175) لا يوجد تفسير لهذه الأية كذب أصحاب الأيكة المرسلين (176) كذب أصحاب الأيكة المرسلين هؤلاء - يعني أصحاب الأيكة - هم أهل مدين على الصحيح وكان نبي الله شعيب من أنفسهم وإنما لم يقل ههنا أخوهم شعيب لأنهم نسبوا إلى عبادة الأيكة وهي شجرة وقيل شجر ملتف كالغيضة كانوا يعبدونها فلهذا لما قال : كذب أصحاب الأيكة المرسلين لم يقل : إذ قال لهم أخوهم شعيب . إذ قال لهم شعيب ألا تتقون (177) إذ قال لهم شعيب ألا تتقون إنما قال "إذ قال لهم شعيب" فقطع نسب الأخوة بينهم للمعنى الذي نسبوا إليه وإن كان أخاهم نسبا ومن الناس من لم يفطن لهذه النكتة فظن أن أصحاب الأيكة غير أهل مدين فزعم أن شعيبا عليه السلام بعثه الله إلى أمتين ومنهم من قال ثلاث أمم وقد روى إسحاق بن بشر الكاهلي - وهو ضعيف - حدثني ابن السدي عن أبيه وزكريا بن عمرو عن خصيف عن عكرمة قالا : ما بعث الله نبيا مرتين إلا شعيبا مرة إلى مدين فأخذهم الله بالصيحة ومرة إلى أصحاب الأيكة فأخذهم الله تعالى بعذاب يوم الظلة وروى أبو القاسم البغوي عن هدبة عن همام عن قتادة في قوله تعالى "وأصحاب الرس" قوم شعيب وقوله "وأصحاب الأيكة" قوم شعيب وقاله إسحاق بن بشر وقال غير جويبر أصحاب الأيكة ومدين هما واحد والله أعلم وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة شعيب من طريق محمد بن عثمان بن أبي شيبة عن أبيه عن معاوية بن هشام عن هشام بن سعيد عن سعيد بن أبي هلال عن ربيعة بن يوسف عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن قوم مدين وأصحاب الأيكة أمتان بعث الله إليهما شعيبا النبي عليه السلام" وهذا غريب وفي رفعه نظر والأشبه أن يكون موقوفا والصحيح أنهم أمة واحدة وصفوا في كل مقام بشيء ولهذا وعظ هؤلاء وأمرهم بوفاء المكيال والميزان كما في قصة مدين سواء بسواء فدل ذلك على أنهما أمة واحدة . إني لكم رسول أمين (178) لا يوجد تفسير لهذه الأية فاتقوا الله وأطيعون (179) لا يوجد تفسير لهذه الأية وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين (180) لا يوجد تفسير لهذه الأية أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين (181) أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين يأمرهم عليه السلام بإيفاء المكيال والميزان وينهاهم عن التطفيف فيهما فقال "أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين" أي إذا دفعتم للناس فكملوا الكيل لهم ولا تبخسوا الكيل فتعطوه ناقصا وتأخذوه إذا كان لكم تاما وافيا ولكن خذوا كما تعطون وأعطوا كما تأخذون . وزنوا بالقسطاس المستقيم (182) وزنوا بالقسطاس المستقيم "وزنوا بالقسطاس المستقيم" والقسطاس هو الميزان وقيل هو القبان قال بعضهم هو معرب من الرومية قال مجاهد القسطاس المستقيم هو العدل بالرومية وقال قتادة القسطاس العدل . ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين (183) ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين وقوله "ولا تبخسوا الناس أشياءهم" أي لا تنقصوهم أموالهم "ولا تعثوا في الأرض مفسدين" يعني قطع الطريق كما قال في الآية الأخرى "ولا تقعدوا بكل صراط توعدون" . واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين (184) واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين وقوله "واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين" يخوفهم بأس الله الذي خلقهم وخلق آباءهم الأوائل كما قال موسى عليه السلام "ربكم ورب آبائكم الأولين" قال ابن عباس ومجاهد والسدي وسفيان بن عيينة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم "والجبلة الأولين" يقول خلق الأولين وقرأ ابن زيد "ولقد أضل منكم جبلا كثيرا" . قالوا إنما أنت من المسحرين (185) قالوا إنما أنت من المسحرين يخبر تعالى عن جواب قومه له بمثل ما أجابت به ثمود لرسولها تشابهت قلوبهم حيث قالوا "إنما أنت من المسحرين" يعنون من المسحورين كما تقدم . وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين (186) وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين "وما أنت إلا بشر مثلنا له إن نظنك لمن الكاذبين" أي تتعمد الكذب فيما تقوله لا أن الله أرسلك إلينا . فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين (187) فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين "فأسقط علينا كسفا من السماء" قال الضحاك : جانبا من السماء . وقال قتادة قطعا من السماء وقال السدي عذابا من السماء وهذا شبيه بما قالت قريش فيما أخبر الله عنهم في قوله تعالى "وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا" - إلى أن قالوا - "أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا" وقوله "وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء" الآية وهكذا قال هؤلاء الكفار الجهلة "فأسقط علينا كسفا من السماء" الآية . قال ربي أعلم بما تعملون (188) قال ربي أعلم بما تعملون "قال ربي أعلم بما تعملون" يقول الله أعلم بكم فإن كنتم تستحقون ذلك جازاكم به وهو غير ظالم لكم وهكذا وقع بهم جزاء كما سألوا جزاء وفاقا . فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم (189) فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم ولهذا قال تعالى "فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم" وهذا من جنس ما سألوه من إسقاط الكسف عليهم فإن الله سبحانه وتعالى جعل عقوبتهم أن أصابهم حر عظيم مدة سبعة أيام لا يكنهم منه شيء ثم أقبلت إليهم سحابة أظلتهم فجعلوا ينطلقون إليها يستظلون بظلها من الحر فلما اجتمعوا كلهم تحتها أرسل الله تعالى عليهم منها شررا من نار ولهبا ووهجا عظيما ورجفت بهم الأرض وجاءتهم صيحة عظيمة أزهقت أرواحهم ولهذا قال تعالى "إنه كان عذاب يوم عظيم" وقد ذكر الله تعالى صفة إهلاكهم في ثلاثة مواطن كل موطن بصفة تناسب ذلك السياق ففي الأعراف ذكر أنهم أخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين وذلك لأنهم قالوا "لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا" فأرجفوا نبي الله ومن اتبعه فأخذتهم الرجفة وفي سورة هود قال "فأخذتهم الصيحة" وذلك لأنهم استهزءوا بنبي الله في قولهم "أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد" آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد "قالوا ذلك على سبيل التهكم والازدراء فناسب أن تأتيهم صيحة تسكتهم فقال" فأخذتهم الصيحة "الآية وههنا قالوا" فأسقط علينا كسفا من السماء "الآية على وجه التعنت والعناد فناسب أن يحقق عليهم ما استبعدوا وقوعه" فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم "قال قتادة : قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه : إن الله سلط عليهم الحر سبعة أيام حتى ما يظلهم منه شيء ثم إن الله أنشأ لهم سحابة فانطلق إليها أحدهم فاستظل بها فأصاب تحتها بردا وراحة فأعلم بذلك قومه فأتوها جميعا فاستظلوا تحتها فأججت عليهم نارا وهكذا روي عن عكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة وغيرهم وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم بعث الله إليهم الظلة حتى إذا اجتمعوا كلهم كشف الله عنهم الظلة وأحمى عليهم الشمس فاحترقوا كما يحترق الجراد في المقلى وقال محمد بن كعب القرظي : إن أهل مدين عذبوا بثلاثة أصناف من العذاب : أخذتهم الرجفة في دارهم حتى خرجوا منها فلما خرجوا منها أصابهم فزع شديد ففرقوا أن يدخلوا إلى البيوت فتسقط عليهم فأرسل الله عليهم الظلة فدخل تحتها رجل فقال ما رأيت كاليوم ظلا أطيب ولا أبرد من هذا هلموا أيها الناس فدخلوا جميعا تحت الظلة فصاح بهم" صيحة واحدة فماتوا جميعا ثم تلا محمد بن كعب "فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم" وقال محمد بن جرير حدثني الحارث حدثني الحسن حدثني سعيد بن زيد أخو حماد بن زيد حدثنا حاتم بن أبي صغيرة حدثني يزيد الباهلي سألت ابن عباس عن هذه الآية "فأخذهم عذاب يوم الظلة" الآية قال بعث الله عليهم رعدا وحرا شديدا فأخذ بأنفاسهم فخرجوا من البيوت هربا إلى البرية فبعث الله عليهم سحابة فأظلتهم من الشمس فوجدوا لها بردا ولذة فنادى بعضهم بعضا حتى إذا اجتمعوا تحتها أرسل الله عليهم نارا قال ابن عباس فذلك عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم . إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين (190) "إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم" أي العزيز في انتقامه من الكافرين الرحيم بعباده المؤمنين . وإن ربك لهو العزيز الرحيم (191) "إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم" أي العزيز في انتقامه من الكافرين الرحيم بعباده المؤمنين . وإنه لتنزيل رب العالمين (192) يقول تعالى مخبرا عن الكتاب الذي أنزله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم "وإنه" أي القرآن الذي تقدم ذكره في أول السورة في قوله "وما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث" الآية "لتنزيل رب العالمين" أي أنزله الله عليك وأوحاه إليك . نزل به الروح الأمين (193) "نزل به الروح الأمين" وهو جبريل عليه السلام قاله غير واحد من السلف : ابن عباس ومحمد بن كعب وقتادة وعطية العوفي والسدي والضحاك والزهري وابن جريج وهذا مما لا نزاع فيه قال الزهري وهذه كقوله "قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه" وقال مجاهد : من كلمه الروح الأمين لا تأكله الأرض . على قلبك لتكون من المنذرين (194) "على قلبك لتكون من المنذرين" أي نزل به ملك كريم أمين ذو مكانة عند الله مطاع في الملأ الأعلى "على قلبك" يا محمد سالما من الدنس والزيادة والنقص "لتكون من المنذرين" أي لتنذر به بأس الله ونقمته على من خالفه وكذبه وتبشر به المؤمنين المتبعين له . بلسان عربي مبين (195) وقوله تعالى : "بلسان عربي مبين" أي هذا القرآن الذي أنزلناه إليك أنزلناه باللسان العربي الفصيح الكامل الشامل ليكون بينا واضحا ظاهرا قاطعا للعذر مقيما للحجة دليلا إلى المحجة قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن أبي بكر العتكي حدثنا عباد بن عباد المهلبي عن موسى بن محمد عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في يوم دجن إذ قال لهم "كيف ترون بواسقها ؟" قالوا ما أحسنها وأشد تراكمها قال : "فكيف ترون قواعدها ؟" قالوا ما أحسنها وأشد تمكنها قال "فكيف ترون جريها" ؟ قالوا ما أحسنه وأشد سواده قال "فكيف ترون رحاها استدارت ؟" قالوا ما أحسنها وأشد استدارتها قال : "فكيف ترون برقها أوميض أم خفق أم يشق شقا ؟" قالوا بل يشق شقا ؟ قال : "الحياء الحياء إن شاء الله" قال فقال رجل يا رسول الله بأبي وأمي ما أفصحك ما رأيت الذي هو أعرب منك قال فقال : حق لي وإنما أنزل القرآن بلساني والله يقول : "بلسان عربي مبين" وقال سفيان الثوري لم ينزل وحي إلا بالعربية ثم ترجم كل نبي لقومه واللسان يوم القيامة بالسريانية فمن دخل الجنة تكلم بالعربية رواه ابن أبي حاتم . وإنه لفي زبر الأولين (196) وإنه لفي زبر الأولين يقول تعالى : وإن ذكر هذا القرآن والتنويه به لموجود في كتب الأولين المأثورة عن أنبيائهم الذين بشروا به في قديم الدهر وحديثه كما أخذ الله عليهم الميثاق بذلك حتى قام آخرهم خطيبا في ملئه بالبشارة بأحمد "وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد" والزبر ههنا هي الكتب جمع زبرة وكذلك الزبور وهو كتاب داود وقال الله تعالى "وكل شيء فعلوه في الزبر" أي مكتوب عليهم في صحف الملائكة . أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل (197) أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل ثم قال تعالى "أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل" أي أوليس يكفيهم من الشاهد الصادق على ذلك أن العلماء من بني إسرائيل يجدون ذكر هذا القرآن في كتبهم التي يدرسونها والمراد العدول منهم الذين يعترفون بما في أيديهم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ومبعثه وأمته كما أخبر بذلك من آمن منهم كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي عمن أدركه منهم ومن شاكلهم قال الله تعالى "الذين يتبعون الرسول النبي الأمي" الآية ثم قال تعالى مخبرا عن شدة كفر قريش وعنادهم لهذا القرآن أنه لو نزل على رجل من الأعاجم ممن لا يدري من العربية كلمة وأنزل عليه هذا الكتاب ببيانه وفصاحته لا يؤمنون به. ولو نزلناه على بعض الأعجمين (198) ولو نزلناه على بعض الأعجمين ولهذا قال "ولو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين" كما أخبر عنهم في الآية الأخرى "ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا" الآية وقال تعالى "ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى" الآية وقال تعالى : "إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون" الآية . فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين (199) فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين ولهذا قال "ولو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين" كما أخبر عنهم في الآية الأخرى "ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا" الآية وقال تعالى "ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى" الآية وقال تعالى : "إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون" الآية . ![]()
__________________
|
![]() |
| الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 13 ( الأعضاء 0 والزوار 13) | |
|
|
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |