تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد - الصفحة 36 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         ماذا أفعل لغزة ؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          لَفِي خُسْرٍ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          أحكام خطبة الجمعة وآدابها***متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 103 - عددالزوار : 96697 )           »          (حلف الدم) الخيانة الدرزية في فلسطين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          من لا تَجِبُ عليهم الجُمُعةُ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4962 - عددالزوار : 2067181 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4538 - عددالزوار : 1336138 )           »          في آخر الزمان تصبح السنة بدعة والبدعة سنة (اخر مشاركة : عبد العليم عثماني - عددالردود : 0 - عددالزوار : 42 )           »          شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 606 - عددالزوار : 339565 )           »          فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 379 - عددالزوار : 156488 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير > هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن
التسجيل التعليمـــات التقويم

هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 24-10-2022, 10:08 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,007
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الخامس

سُورَةُ
الْإِسْرَاءِ
الحلقة (354)
صــ 83 إلى صــ 90





قوله تعالى: " وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " في المخاطبين بهذا قولان:

أحدهما: أنهم اليهود، قاله الأكثرون . [ ص: 83 ]

والثاني: أنهم جميع الخلق، علمهم قليل بالإضافة إلى علم الله عز وجل، ذكره الماوردي .

فإن قيل: كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى: ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا [ البقرة: 269 ] ؟

فالجواب: أن ما أوتيه الناس من العلم، وإن كان كثيرا، فهو بالإضافة إلى علم الله قليل .
ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيرا .

قوله تعالى: " ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك " قال الزجاج: المعنى: لو شئنا لمحوناه من القلوب والكتب، حتى لا يوجد له أثر، " ثم لا تجد لك به علينا وكيلا " ; أي: لا تجد من يتوكل [ علينا ] في رد شيء منه، " إلا رحمة من ربك " هذا استثناء ليس من الأول، والمعنى: لكن الله رحمك فأثبت ذلك في قلبك وقلوب المؤمنين . وقال ابن الأنباري: المعنى: لكن رحمة من ربك تمنع من أن تسلب القرآن، وكان المشركون قد خاطبوا نساءهم من المسلمين في الرجوع إلى دين آبائهم، فهددهم الله عز وجل بسلب النعمة، فكان ظاهر الخطاب للرسول، ومعنى التهدد للأمة . وقال أبو سليمان: " ثم لا تجد لك به " ; أي: بما نفعله بك من إذهاب ما عندك، " وكيلا " يدفعنا عما نريده بك . وروي [ عن ] عبد الله بن مسعود أنه قال: يسرى على القرآن في ليلة واحدة، فيجيء جبريل من جوف الليل، فيذهب به من صدورهم ومن بيوتهم، فيصبحون لا يقرؤون آية [ ص: 84 ] ولا يحسونها . ورد أبو سليمان الدمشقي صحة هذا الحديث بقوله عليه الصلاة والسلام: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعا " ، وحديث ابن مسعود مروي من طرق حسان، فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أراد بالعلم ما سوى القرآن، فإن العلم ما يزال ينقرض حتى يكون رفع القرآن آخر الأمر .
قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا .

قوله تعالى: " قل لئن اجتمعت الإنس والجن " قال المفسرون: هذا تكذيب للنضر بن الحارث حين قال: لو شئنا لقلنا مثل هذا، والمثل الذي طلب منهم: كلام له نظم كنظم القرآن في أعلى طبقات البلاغة . والظهير: المعين . [ ص: 85 ]
ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنـزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا .

قوله تعالى: " ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن " قد فسرناه في هذه السورة [ الإسراء: 41 ]، والمعنى: من كل مثل من الأمثال التي يكون بها الاعتبار، " فأبى أكثر الناس " يعني: أهل مكة " إلا كفورا " ; أي: جحودا للحق وإنكارا .

قوله تعالى: " وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا " سبب نزول هذه الآية وما يتبعها، أن رؤساء قريش كعتبة، وشيبة، وأبي جهل، وعبد الله بن أبي أمية، والنضر بن الحارث في آخرين، اجتمعوا عند الكعبة، فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه، فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا ليكلموك، فجاءهم سريعا، وكان حريصا على رشدهم، فقالوا: يا محمد ; إنا والله لا نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء وعبت الدين، وسفهت الأحلام وفرقت الجماعة، فإن كنت إنما جئت بهذا لتطلب مالا، جعلنا لك من أموالنا ما تكون به أكثرنا مالا، وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا سودناك علينا، وإن كان هذا الرئي الذي يأتيك قد غلب عليك، بذلنا أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه أو نعذر فيك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن تقبلوا [ ص: 86 ] مني [ ما جئتكم به ]، فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم " . قالوا: يا محمد ; فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا، فقد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلادا ولا أشد عيشا منا، سل لنا ربك يسير لنا هذه الجبال التي ضيقت علينا، ويجري لنا أنهارا، ويبعث من مضى من آبائنا، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب، فإنه كان شيخا صدوقا، فنسألهم عما تقول أحق هو ؟ فإن فعلت صدقناك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما بهذا بعثت، وقد أبلغتكم ما أرسلت به " . قالوا: فسل ربك أن يبعث ملكا يصدقك، وسله أن يجعل لك جنانا وكنوزا، وقصورا من ذهب وفضة تغنيك، قال: " ما أنا بالذي يسأل ربه هذا " ، قالوا: فأسقط السماء [ علينا ] كما زعمت بأن ربك إن شاء فعل، فقال: " ذلك إلى الله عز وجل " ، فقال قائل منهم: لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا، وقال عبد الله بن أبي أمية: لا أؤمن لك حتى تتخذ إلى [ السماء ] سلما، وترقى فيه وأنا أنظر، وتأتي بنسخة منشورة معك، ونفر من الملائكة يشهدون لك، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حزينا لما رأى من مباعدتهم إياه، فأنزل الله تعالى: " وقالوا لن نؤمن لك . . . " الآيات، رواه عكرمة عن ابن عباس .

قوله تعالى: " حتى تفجر " قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وابن عامر: ( حتى تفجر ) بضم التاء، وفتح الفاء، وتشديد الجيم مع الكسرة . وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: ( حتى تفجر ) بفتح التاء، وتسكين الفاء، وضم الجيم مع التخفيف . فمن ثقل أراد: كثرة الانفجار من الينبوع، ومن خفف فلأن [ ص: 87 ] الينبوع واحد . فأما الينبوع: فهو عين ينبع الماء منها . قال أبو عبيدة: هو يفعول، من نبع الماء ; أي: ظهر وفار .

قوله تعالى: " أو تكون لك جنة " ; أي: بستان " فتفجر الأنهار " ; أي: تفتحها وتجريها " خلالها " ; أي: وسط تلك الجنة .

قوله تعالى: " أو تسقط السماء " وقرأ مجاهد، وأبو مجلز، وأبو رجاء، وحميد، والجحدري: ( أو تسقط ) بفتح التاء ورفع القاف، " السماء " بالرفع .

قوله تعالى: " كسفا " قرأ ابن كثير، وأبو عمرو ، وحمزة، والكسائي: ( كسفا ) بتسكين السين في جميع القرآن، إلا في ( الروم: 48 )، فإنهم حركوا السين . وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم بتحريك السين في الموضعين، وفي باقي القرآن بالتسكين . وقرأ ابن عامر هاهنا بفتح السين، وفي باقي القرآن بتسكينها . قال الزجاج: من قرأ ( كسفا ) بفتح السين، جعلها جمع كسفة، وهي: القطعة، ومن قرأ ( كسفا ) بتسكين السين، فكأنهم قالوا: أسقطها طبقا علينا، واشتقاقه من كسفت الشيء: إذا غطيته، يعنون: أسقطها علينا قطعة واحدة . وقال ابن الأنباري: من سكن قال: تأويله: سترا وتغطية، من قولهم: قد انكسفت الشمس: إذا غطاها ما يحول بين الناظرين إليها وبين أنوارها .

قوله تعالى: " أو تأتي بالله والملائكة قبيلا " فيه ثلاثة أقوال:

أحدها: عيانا، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال قتادة، وابن جريج، ومقاتل . وقال أبو عبيدة: معناه: مقابلة ; أي: معاينة، وأنشد للأعشى:


نصالحكم حتى تبوؤوا بمثلها كصرخة حبلى يسرتها قبيلها
[ ص: 88 ]

أي: قابلتها . ويروى: وجهتها، [ يعني: بدل يسرتها ] .

والثاني: كفيلا أنك رسول الله، قاله أبو صالح عن ابن عباس، واختاره الفراء، قال: القبيل، والكفيل، والزعيم، سواء ; تقول: قبلت، وكفلت، وزعمت .

والثالث: قبيلة قبيلة، كل قبيلة على حدتها، قاله الحسن ومجاهد . فأما الزخرف فالمراد به: الذهب . وقد شرحنا أصل هذه الكلمة في ( يونس: 24 )، و " ترقى " بمعنى تصعد، يقال: رقيت أرقى رقيا .

قوله تعالى: " حتى تنزل علينا كتابا " قال ابن عباس: كتابا من رب العالمين إلى فلان بن فلان يصبح عند كل واحد منا يقرؤه .

قوله تعالى: " قل سبحان ربي " قرأ نافع، وعاصم، وأبو عمرو ، وحمزة، والكسائي: ( قل ) . وقرأ ابن كثير وابن عامر: ( قال )، وكذلك هي في مصاحف أهل مكة والشام . " هل كنت إلا بشرا رسولا " ; أي: أن هذه الأشياء ليست في قوى البشر .

فإن قيل: لم اقتصر على حكاية ( قالوا ) من غير إيضاح الرد ؟

فالجواب: أنه لما خصهم بقوله تعالى: " قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن " ، فلم يكن في وسعهم، عجزهم، فكأنه يقول: قد أوضحت لكم بما سبق من الآيات ما يدل على نبوتي، ومن ذلك التحدي بمثل هذا القرآن، فأما عنتكم فليس في وسعي، ولأنهم الحوا عليه في هذه الأشياء، ولم يسألوه أن يسأل ربه، فرد قولهم بكونه بشرا، فكفى ذلك في الرد .
وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون [ ص: 89 ] مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم إنه كان بعباده خبيرا بصيرا .

قوله تعالى: " وما منع الناس أن يؤمنوا " قال ابن عباس: يريد: أهل مكة . قال المفسرون: ومعنى الآية: وما منعهم من الإيمان " إذ جاءهم الهدى " وهو البيان والإرشاد في القرآن، " إلا أن قالوا " ; [ أي: إلا ] قولهم في التعجب والإنكار: " أبعث الله بشرا رسولا " ؟ وفي الآية اختصار، تقديره: هلا بعث الله ملكا رسولا، فأجيبوا على ذلك بقوله تعالى: " قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين " ; أي: مستوطنين الأرض . ومعنى الطمأنينة: السكون، والمراد من الكلام: أن رسول كل جنس ينبغي أن يكون منهم .

قوله تعالى: " قل كفى بالله شهيدا " قد فسرناه في ( الرعد: 43 ) . " إنه كان بعباده خبيرا بصيرا " قال مقاتل: حين اختص الله محمدا بالرسالة .
ومن يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه فأبى الظالمون إلا كفورا قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا .

قوله تعالى: " ومن يهد الله فهو المهتدي " قرأ نافع وأبو عمرو بالياء في الوصل، وحذفاها في الوقف . وأثبتها يعقوب في الوقف، وحذفها الأكثرون في [ ص: 90 ] الحالتين . " من يهد الله " قال ابن عباس: من يرد الله هداه " فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه " يهدونهم .

قوله تعالى: " ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم " فيه ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه يمشيهم على وجوههم، وشاهده ما روى البخاري ومسلم في " صحيحيهما " من حديث أنس بن مالك، أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة ؟ قال: " إن الذي أمشاه على رجليه في الدنيا، قادر على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة " .

والثاني: أن المعنى: ونحشرهم مسحوبين على وجوههم، قاله ابن عباس .

والثالث: نحشرهم مسرعين مبادرين، فعبر بقوله: " على وجوههم " عن الإسراع، كما تقول العرب: قد مر القوم على وجوههم: إذا أسرعوا، قاله ابن الأنباري .

قوله تعالى: " عميا وبكما وصما " فيه قولان:

أحدهما: عميا لا يرون شيئا يسرهم، وبكما لا ينطقون بحجة، وصما لا يسمعون شيئا يسرهم، قاله ابن عباس . وقال في رواية: عميا عن النظر إلى ما جعل لأوليائه، وبكما عن مخاطبة الله، وصما عما مدح به أولياءه، وهذا قول الأكثرين .

والثاني: أن هذا الحشر في بعض أحوال القيامة بعد الحشر الأول . قال مقاتل: هذا يكون حين يقال لهم: اخسئوا فيها [ المؤمنون: 108 ]، فيصيرون عميا بكما صما، لا يرون ولا يسمعون ولا ينطقون بعد ذلك .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 24-10-2022, 10:11 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,007
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الخامس

سُورَةُ
الْإِسْرَاءِ
الحلقة (355)
صــ 91 إلى صــ 98






قوله تعالى: " كلما خبت " قال ابن عباس: أي: سكنت . قال المفسرون: وذلك أنها تأكلهم، فإذا لم تبق منهم شيئا وصاروا فحما ولم تجد شيئا تأكله، [ ص: 91 ] سكنت، فيعادون خلقا جديدا، فتعود لهم . وقال ابن قتيبة: يقال: خبت النار: إذا سكن لهبها، فاللهب يسكن، والجمر يعمل، فإن سكن اللهب، ولم يطفإ الجمر، قيل: خمدت تخمد خمودا، فإن طفئت ولم يبق منها شيء، قيل: همدت تهمد همودا . ومعنى " زدناهم سعيرا " : نارا تتسعر ; أي: تتلهب . وما بعد هذا قد سبق تفسيره [ الإسراء: 49 ] إلى قوله: " قادر على أن يخلق مثلهم " ; أي: على أن يخلقهم مرة ثانية، وأراد بـ " مثلهم " إياهم، وذلك أن مثل الشيء مساو له، فجاز أن يعبر به عن نفس الشيء، يقال: مثلك لا يفعل هذا ; أي: أنت، ومثله قوله: فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به [ البقرة: 137 ] . وقد تم الكلام عند قوله: " مثلهم " ، ثم قال: " وجعل لهم أجلا لا ريب فيه " يعني: أجل البعث، " فأبى الظالمون إلا كفورا " ; أي: جحودا بذلك الأجل .

قوله تعالى: " قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي " قال الزجاج: المعنى: لو تملكون أنتم، قال المتلمس:


ولو غير أخوالي أرادوا نقيصتي نصبت لهم فوق العرانين ميسما


المعنى: لو أراد غير أخوالي .

وفي هذه الخزائن قولان:

أحدهما: خزائن الأرزاق . والثاني: خزائن النعم، فيخرج في الرحمة قولان: أحدهما: الرزق . والثاني: النعمة . وتحرير الكلام: لو ملكتم ما يملكه الله عز وجل لأمسكتم عن الإنفاق خشية الفاقة . " وكان الإنسان " يعني: الكافر، " قتورا " ; أي: بخيلا ممسكا، يقال: قتر يقتر، وقتر يقتر: إذا قصر في الإنفاق . وقال الماوردي: لو ملك أحد من المخلوقين من خزائن الله تعالى، لما جاد [ ص: 92 ] كجود الله تعالى لأمرين: أحدهما: أنها لا بد أن يمسك منه لنفقته ومنفعته . والثاني: أنه يخاف الفقر، والله تعالى منزه في جوده عن الحالين .

ثم إن الله تعالى ذكر إنكار فرعون آيات موسى، تشبيها بحال هؤلاء المشركين، فقال: " ولقد آتينا موسى تسع آيات " وفيها قولان:

أحدهما: أنها بمعنى المعجزات والدلالات، ثم اتفق جمهور المفسرين على سبع آيات منها، وهي: يده، والعصا، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، واختلفوا في الآيتين الآخرتين على ثمانية أقوال: أحدها: أنهما لسانه والبحر الذي فلق له، رواه العوفي عن ابن عباس، يعني بلسانه: أنه كان فيه عقدة فحلها الله تعالى له . والثاني: البحر والجبل الذي نتق فوقهم، رواه الضحاك عن ابن عباس . والثالث: السنون ونقص الثمرات، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والشعبي، وعكرمة، وقتادة، وقال الحسن: السنون ونقص الثمرات آية واحدة . والرابع: البحر والموت أرسل عليهم، قاله الحسن ووهب . والخامس: الحجر والبحر، قاله سعيد بن جبير . والسادس: لسانه وإلقاء العصا مرتين عند فرعون، قاله الضحاك . والسابع: البحر والسنون، قاله محمد بن كعب . والثامن: ذكره [ محمد بن إسحاق عن ] محمد بن كعب أيضا، فذكر السبع الآيات الأولى، إلا أنه جعل مكان يده البحر، وزاد الطمسة والحجر، يعني قوله: اطمس على أموالهم [ يونس: 88 ] .

والثاني: أنها آيات الكتاب، روى أبو داود السجستاني من حديث صفوان بن عسال، أن يهوديا قال لصاحبه: تعال حتى نسأل هذا النبي، فقال الآخر: لا تقل: إنه نبي، فإنه لو سمع ذلك، صارت له أربعة أعين ; فأتياه، فسألاه عن تسع آيات بينات، فقال: " لا تشركوا بالله شيئا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، [ ص: 93 ] ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تأكلوا الربا، ولا تمشوا بالبريء إلى السلطان ليقتله، ولا تسحروا، ولا تقذفوا المحصنات، ولا تفروا من الزحف، وعليكم خاصة يهود ألا تعدوا في السبت " ، قال: فقبلا يده، وقالا: نشهد أنك نبي .
ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا قال لقد علمت ما أنـزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورا فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعا وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا .

قوله تعالى: " فاسأل بني إسرائيل " قرأ الجمهور: ( فاسأل ) على معنى الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم . وإنما أمر أن يسأل من آمن منهم عما أخبر [ به ] عنهم، ليكون حجة [ ص: 94 ] على من لم يؤمن منهم . وقرأ ابن عباس: ( فسأل بني إسرائيل )، [ على معنى ] الخبر عن موسى أنه سأل فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل، " فقال له فرعون إني لأظنك " ; أي: لأحسبك، " يا موسى مسحورا " وفيه ثلاثة أقوال:

أحدها: مخدوعا، قاله ابن عباس . والثاني: مسحورا قد سحرت، قاله ابن السائب . والثالث: ساحرا، فوضع مفعولا في موضع فاعل، هذا مروي عن الفراء وأبي عبيدة . فقال موسى: " لقد علمت " قرأ الجمهور بفتح التاء . وقرأ علي عليه السلام بضمها، وقال: والله ما علم عدو الله، ولكن موسى هو الذي علم، فبلغ ذلك ابن عباس، فاحتج بقوله تعالى: وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم [ النمل: 14 ] . واختار الكسائي وثعلب قراءة علي عليه السلام، وقد رويت عن ابن عباس، وأبي رزين، وسعيد بن جبير، وابن يعمر . واحتج من نصرها بأنه لما نسب موسى إلى أنه مسحور، أعلمه بصحة عقله بقوله: " لقد علمت " ، والقراءة الأولى أصح لاختيار الجمهور، ولأنه قد أبان موسى من المعجزات ما أوجب علم فرعون بصدقه، فلم يرد عليه إلا بالتعلل والمدافعة، فكأنه قال: لقد علمت بالدليل والحجة " ما أنزل هؤلاء " يعني: الآيات . وقد شرحنا معنى " البصائر " في ( الأعراف: 203 ) .

قوله تعالى: " وإني لأظنك " قال أكثر المفسرين: الظن هاهنا بمعنى العلم، على خلاف ظن فرعون في موسى، وسوى بينهما بعضهم، فجعل الأول بمعنى العلم أيضا .

وفي المثبور ستة أقوال:

أحدها: أنه الملعون، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الضحاك . والثاني: المغلوب، رواه العوفي عن ابن عباس . والثالث: الناقص العقل، رواه [ ص: 95 ] ميمون بن مهران عن ابن عباس . والرابع: المهلك، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال أبو عبيدة وابن قتيبة . قال الزجاج: يقال: ثبر الرجل، فهو مثبور: إذا أهلك . والخامس: الهالك، قاله مجاهد . والسادس: الممنوع من الخير، تقول العرب: ما ثبرك عن هذا ; أي: ما منعك، قاله الفراء .

قوله تعالى: " فأراد أن يستفزهم من الأرض " يعني: فرعون أراد أن يستفز بني إسرائيل من أرض مصر . وفي معنى " يستفزهم " قولان:

أحدهما: يستأصلهم، قاله ابن عباس .

والثاني: يستخفهم حتى يخرجوا، قاله ابن قتيبة . وقال الزجاج: جائز أن يكون استفزازهم إخراجهم منها بالقتل أو بالتنحية . قال العلماء: وفي هذه الآية تنبيه على نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ; لأنه لما خرج موسى فطلبه فرعون، هلك فرعون وملك موسى، وكذلك أظهر الله نبيه بعد خروجه من مكة حتى رجع إليها ظاهرا عليها .

قوله تعالى: " وقلنا من بعده " ; أي: من بعد هلاك فرعون لبني إسرائيل اسكنوا الأرض " وفيها ثلاثة أقوال:

أحدها: فلسطين والأردن، قاله ابن عباس . والثاني: أرض وراء الصين، قاله مقاتل . والثالث: أرض مصر والشام .

قوله تعالى: " فإذا جاء وعد الآخرة " يعني: القيامة، " جئنا بكم لفيفا " ; أي: جميعا، قاله ابن عباس، ومجاهد، وابن قتيبة . وقال الفراء: لفيفا ; أي: من هاهنا ومن هاهنا . وقال الزجاج: اللفيف: الجماعات من قبائل شتى . [ ص: 96 ]
وبالحق أنـزلناه وبالحق نـزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونـزلناه تنـزيلا قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا .

قوله تعالى: " وبالحق أنزلناه " الهاء كناية عن القرآن، والمعنى: أنزلنا القرآن بالأمر الثابت والدين المستقيم، فهو حق، ونزوله حق، وما تضمنه حق . وقال أبو سليمان الدمشقي: " وبالحق أنزلناه " ; أي: بالتوحيد، " وبالحق نزل " يعني: بالوعد والوعيد، والأمر والنهي .

قوله تعالى: " وقرآنا فرقناه " قرأ علي عليه السلام، وسعد بن أبي وقاص، وأبي بن كعب، وابن مسعود، وابن عباس، وأبو رزين، ومجاهد، والشعبي، وقتادة، والأعرج، وأبو رجاء، وابن محيصن: ( فرقناه ) بالتشديد، وقرأ الجمهور بالتخفيف .

فأما قراءة التخفيف ففي معناها ثلاثة أقوال:

أحدها: بينا حلاله وحرامه، رواه الضحاك عن ابن عباس .

والثاني: فرقنا فيه بين الحق والباطل، [ قاله الحسن ] .

والثالث: أحكمناه وفصلناه، كقوله تعالى: فيها يفرق كل أمر حكيم [ الدخان: 4 ]، قاله الفراء . وأما المشددة فمعناها: أنه أنزل متفرقا ولم ينزل جملة واحدة . وقد بينا في أول كتابنا هذا مقدار المدة التي نزل فيها . [ ص: 97 ]

قوله تعالى: " لتقرأه على الناس على مكث " قرأ أنس، والشعبي، والضحاك، وقتادة، وأبو رجاء، وأبان عن عاصم، وابن محيصن بفتح الميم، والمعنى: على تؤدة وترسل ليتدبروا معناه .

قوله تعالى: " قل آمنوا به أو لا تؤمنوا " هذا تهديد لكفار [ أهل ] مكة، والهاء كناية عن القرآن . " إن الذين أوتوا العلم " وفيهم ثلاثة أقوال:

أحدها: أنهم ناس من أهل الكتاب، قاله مجاهد .

والثاني: أنهم الأنبياء عليهم السلام، قاله ابن زيد .

والثالث: طلاب الدين، كأبي ذر، وسلمان، وورقة بن نوفل، وزيد بن عمرو، قاله الواحدي .

وفي هاء الكناية في قوله: " من قبله " قولان:

أحدهما: أنها ترجع إلى القرآن، والمعنى: من قبل نزوله .

والثاني: ترجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله ابن زيد . فعلى الأول " إذا يتلى عليهم " : القرآن، وعلى قول ابن زيد " إذا يتلى عليهم " : ما أنزل إليهم من عند الله .

قوله تعالى: " يخرون للأذقان " اللام هاهنا بمعنى ( على ) . قال ابن عباس: قوله: " للأذقان " ; أي: للوجوه . قال الزجاج: الذي يخر وهو قائم، إنما يخر لوجهه، والذقن مجتمع اللحيين، وهو عضو من أعضاء الوجه، فإذا ابتدأ يخر، فأقرب الأشياء من وجهه إلى الأرض الذقن . وقال ابن الأنباري: أول ما يلقى الأرض من الذي يخر قبل أن يصوب جبهته ذقنه ; فلذلك قال: [ ص: 98 ] " للأذقان " . ويجوز أن يكون المعنى: يخرون للوجوه، فاكتفى بالذقن من الوجه كما يكتفى بالبعض من الكل، وبالنوع من الجنس .

قوله تعالى: " ويقولون سبحان ربنا " نزهوا الله تعالى عن تكذيب المكذبين بالقرآن، وقالوا: " إن كان وعد ربنا " بإنزال القرآن وبعث محمد صلى الله عليه وسلم " لمفعولا " ، واللام دخلت للتوكيد . وهؤلاء قوم كانوا يسمعون أن الله باعث نبيا من العرب، ومنزل عليه كتابا، فلما عاينوا ذلك حمدوا الله تعالى على إنجاز الوعد . " ويخرون للأذقان " كرر القول ليدل على تكرار الفعل منهم . " ويزيدهم خشوعا " ; أي: يزيدهم القرآن تواضعا . وكان عبد الأعلى التيمي يقول: من أوتي من العلم ما لا يبكيه، لخليق أن لا يكون أوتي علما ينفعه ; لأن الله تعالى نعت العلماء فقال: " إن الذين أوتوا العلم . . . " إلى قوله: " يبكون " .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 24-10-2022, 10:15 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,007
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الخامس

سُورَةُ الْكَهْفِ
الحلقة (356)
صــ 99 إلى صــ 106






قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا .

قوله تعالى: " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن . . . " الآية . هذه الآية نزلت على سببين: [ نزل ] أولها إلى قوله: " الحسنى " على سبب، وفيه ثلاثة أقوال:

أحدها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تهجد ذات ليلة بمكة، فجعل يقول في سجوده: " يا رحمن يا رحيم " ، فقال المشركون: كان محمد يدعو إلها واحدا، فهو الآن [ ص: 99 ] يدعو إلهين اثنين: الله والرحمن، ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة، يعنون: مسيلمة، فأنزل الله هذه الآية، قاله ابن عباس .

والثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكتب في أول ما أوحي إليه: باسمك اللهم، حتى نزل: إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم [ النمل: 30 ]، فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال مشركو العرب: هذا الرحيم نعرفه، فما الرحمن ؟ فنزلت هذه الآية، قاله ميمون بن مهران .

والثالث: أن أهل الكتاب قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك لتقل ذكر الرحمن، وقد أكثر الله في التوراة هذا الاسم، فنزلت هذه الآية، قاله الضحاك .

فأما قوله: " ولا تجهر بصلاتك " فنزل على سبب، وفيه ثلاثة أقوال:

أحدها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع صوته بالقرآن بمكة، فيسب المشركون القرآن ومن أتى به، فخفض رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته بعد ذلك حتى لم يسمع أصحابه، فأنزل الله تعالى: " ولا تجهر بصلاتك " ; أي: بقراءتك، فيسمع المشركون فيسبوا القرآن، " ولا تخافت بها " عن أصحابك فلا يسمعون ، قاله ابن عباس .

والثاني: أن الأعرابي كان يجهر في التشهد ويرفع صوته، فنزلت هذه الآية، هذا قول عائشة .

والثالث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي بمكة عند الصفا، فجهر بالقرآن في صلاة الغداة، فقال أبو جهل: لا تفتر على الله، فخفض النبي صلى الله عليه وسلم صوته، فقال [ ص: 100 ] أبو جهل للمشركين: ألا ترون ما فعلت بابن أبي كبشة ؟ رددته عن قراءته، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل .

فأما التفسير، فقوله: " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن " المعنى: إن شئتم فقولوا: يا ألله، وإن شئتم فقولوا: يا رحمن ; فإنهما يرجعان إلى واحد . " أيا ما تدعوا " المعنى: أي أسماء الله تدعوا، قال الفراء: و " ما " قد تكون صلة، كقوله: عما قليل ليصبحن نادمين [ المؤمنون: 40 ]، وتكون في معنى: " أي " معادة لما اختلف لفظهما .

قوله تعالى: " ولا تجهر بصلاتك " فيه قولان:

أحدهما: أنها الصلاة الشرعية . ثم في المراد بالكلام ستة أقوال:

أحدها: لا تجهر بقراءتك ولا تخافت بها، فكأنه نهي عن شدة الجهر بالقراءة وشدة المخافة، قاله ابن عباس . فعلى هذا في تسمية القراءة بالصلاة قولان ذكرهما ابن الأنباري ; أحدهما: أن يكون المعنى: فلا تجهر بقراءة صلاتك . والثاني: أن القراءة بعض الصلاة، فنابت عنها، كما قيل لعيسى: كلمة الله ; لأنه بالكلمة كان .

والثاني: لا تصل مراءاة للناس، ولا تدعها مخافة الناس، قاله ابن عباس أيضا .

والثالث: لا تجهر بالتشهد في صلاتك، روي عن عائشة في رواية، وبه قال ابن سيرين .

والرابع: لا تجهر بفعل صلاتك ظاهرا، ولا تخافت بها شديد الاستتار، قاله عكرمة .

والخامس: لا تحسن علانيتها وتسئ سريرتها، قاله الحسن .

والسادس: لا تجهر بصلاتك كلها ولا تخافت بجميعها، فاجهر في صلاة الليل وخافت في صلاة النهار على ما أمرناك به، ذكره القاضي أبو يعلى . [ ص: 101 ]

والقول الثاني: أن المراد بالصلاة: الدعاء، وهو قول عائشة، وأبي هريرة، ومجاهد .

قوله تعالى: " ولا تخافت بها " المخافتة: الإخفاء، يقال: صوت خفيت . " وابتغ بين ذلك سبيلا " ; أي: اسلك بين الجهر والمخافتة طريقا . وقد روي عن ابن عباس أنه قال: نسخت هذه الآية بقوله: واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول [ الأعراف: 205 ] . وقال ابن السائب: نسخت بقوله: فاصدع بما تؤمر [ الحجر: 94 ] . وعلى التحقيق وجود النسخ هاهنا بعيد .

قوله تعالى: " ولم يكن له شريك في الملك " وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وطلحة بن مصرف: ( في الملك ) بكسر الميم . " ولم يكن له ولي من الذل " قال مجاهد: لم يحالف أحدا ولم يبتغ نصر أحد، والمعنى: أنه لا يحتاج إلى موالاة أحد لذل يلحقه، فهو مستغن عن الولي والنصير . " وكبره تكبيرا " ; أي: عظمه تعظيما تاما .
[ ص: 102 ]

سُورَةُ الْكَهْفِ

فَصْلٌ فِي نُزُولِهَا

رَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ سُورَةَ ( الْكَهْفِ ) مَكِّيَّةٌ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ . وَهَذَا إِجْمَاعُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ أَنَّ مِنْهَا آَيَةً مَدَنِيَّةً، وَهِيَ قَوْلُهُ: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ [ الْكَهْفِ: 28 ] . وَقَالَ مُقَاتِلٌ: مِنْ أَوَّلِهَا إلى قَوْلِهِ تَعَالَى: صَعِيدًا جُرُزًا [ الْكَهْفِ: 8 ] مَدَنِيٌّ، وَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [ الْكَهْفِ: 107، 108 ] الْآَيَتَانِ مَدَنِيَّةٌ، وَبَاقِيهَا مَكِّيٌّ . وَرَوَى أَبُو الدَّرْدَاءِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آَيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ الْكَهْفِ، ثُمَّ أَدْرَكَ الدَّجَّالَ لَمْ يَضُرَّهُ، وَمَنْ حَفِظَ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْكَهْفِ كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ " . [ ص: 103 ]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْـزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا .

قَوْلُهُ تَعَالَى: " الْحَمْدُ لِلَّهِ " قَدْ شَرَحْنَاهُ فِي أَوَّلِ ( الْفَاتِحَةِ ) . وَالْمُرَادُ بِعَبْدِهِ هَاهُنَا: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِالْكِتَابِ: الْقُرْآَنُ، تَمَدَّحَ بِإِنْزَالِهِ ; لِأَنَّهُ إِنْعَامٌ عَلَى الرَّسُولِ خَاصَّةً، وَعَلَى النَّاسِ عَامَّةً . قَالَ الْعُلَمَاءُ بِاللُّغَةِ وَالتَّفْسِيرِ: فِي هَذِهِ الْآَيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، تَقْدِيرُهُا: أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ " قَيِّمًا " ; أَيْ: مُسْتَقِيمًا عَدْلًا . وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ، وَأَبُو الْمُتَوَكِّلِ، وَأَبُو الْجَوْزَاءِ، وَابْنُ يَعْمُرَ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْأَعْمَشُ: ( قِيَمًا ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْيَاءِ، وَقَدْ فَسَّرْنَاهُ فِي ( الْأَنْعَامِ: 161 ) .

قَوْلُهُ تَعَالَى: " وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا " ; أَيْ: لَمْ يَجْعَلْ فِيهِ اخْتِلَافًا، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ الْعِوَجِ فِي ( آَلِ عِمْرَانَ: 99 ) .

قَوْلُهُ تَعَالَى: " لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا " ; أَيْ: عَذَابًا شَدِيدًا، " مِنْ لَدُنْهُ " ; أَيْ: مِنْ عِنْدِهِ، وَمِنْ قَبْلِهِ، وَالْمَعْنَى: لِيُنْذِرَ الْكَافِرِينَ، " وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ " ; أَيْ: بِأَنَّ لَهُمْ " أَجْرًا حَسَنًا " وَهُوَ الْجَنَّةُ . " مَاكِثِينَ " ; [ ص: 104 ] أَيْ: مُقِيمِينَ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ . " وَيُنْذِرَ " بِعَذَابِ اللَّهِ " الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا " وَهُمُ الْيَهُودُ حِينَ قَالُوا: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَالنَّصَارَى حِينَ قَالُوا: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، وَالْمُشْرِكُونَ حِينَ قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، " مَا لَهُمْ بِهِ " ; أَيْ: بِذَلِكَ الْقَوْلِ " مِنْ عِلْمٍ " ; لِأَنَّهُمْ قَالُوا: افْتَرَى عَلَى اللَّهِ، " وَلا لآبَائِهِمْ " الَّذِينَ قَالُوا ذَلِكَ، " كَبُرَتْ " ; أَيْ: عَظُمَتْ " كَلِمَةً " الْجُمْهُورِ عَلَى النَّصْبِ . وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو رَزِينٍ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: ( كَلِمَةٌ ) بِالرَّفْعِ . قَالَ الْفَرَّاءُ مَنْ نَصَبَ أَضْمَرَ: كَبُرَتْ تِلْكَ الْكَلِمَةُ كَلِمَةً، وَمِنْ رَفَعَ لَمْ يُضْمِرْ شَيْئًا، كَمَا تَقُولُ: عَظُمَ قَوْلُكَ . وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَنْ نَصَبَ فَالْمَعْنَى: كَبُرَتْ مَقَالَتُهُمْ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا كَلِمَةً، وَ " كَلِمَةً " مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ . وَمَنْ رَفَعَ فَالْمَعْنَى: عَظُمَتْ كَلِمَةً هِيَ قَوْلُهُمْ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا .

قَوْلُهُ تَعَالَى: " تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ " ; أَيْ: إِنَّهَا قَوْلٌ بِالْفَمِ لَا صِحَّةَ لَهَا، وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهَا، " إِنْ يَقُولُونَ " ; أَيْ: مَا يَقُولُونَ " إِلا كَذِبًا " . ثُمَّ عَاتَبَهُ عَلَى حُزْنِهِ لِفَوْتِ مَا كَانَ يَرْجُو مِنْ إِسْلَامِهِمْ، فَقَالَ: " فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ " وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبُو الْجَوْزَاءِ، وَقَتَادَةُ: ( بَاخِعٌ نَفْسِكَ ) بِكَسْرِ السِّينِ عَلَى الْإِضَافَةِ . قَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَاللُّغَوِيُّونَ: فَلَعَلَّكَ مُهْلِكٌ نَفْسَكَ، وَقَاتَلٌ نَفْسَكَ، وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ لِذِي الرُّمَّةِ:


أَلَا أَيُّهَذَا الْبَاخِعُ الْوَجْدُ نَفْسَهُ لِشَيْءٍ نَحَتْهُ عَنْ يَدَيْهِ الْمَقَادِرُ


أَيْ: نَحَّتْهُ [ ص: 105 ]

فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ: " فَلَعَلَّكَ " وَالْغَالِبُ عَلَيْهَا الشَّكُ، وَاللَّهُ عَالِمٌ بِالْأَشْيَاءِ قَبْلَ كَوْنِهَا ؟

فَالْجَوَابُ: أَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَكٍّ، إِنَّمَا هِيَ مُقَدَّرَةٌ تَقْدِيرَ الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي يَعْنِي بِهِ التَّقْرِيرُ، فَالْمَعْنَى: هَلْ أَنْتَ قَاتِلٌ نَفْسَكَ ؟ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَطُولَ أَسَاكَ عَلَى إِعْرَاضِهِمْ، فَإِنَّ مَنْ حَكَمْنَا عَلَيْهِ بِالشِّقْوَةِ لَا تُجْدِي عَلَيْهِ الْحَسْرَةُ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: " عَلَى آثَارِهِمْ " ; أَيْ: مِنْ بَعْدِ تَوَلِّيهِمْ عَنْكَ، " إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ " يَعْنِي: الْقُرْآَنَ، " أَسَفًا " وَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: حَزَنًا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ قُتَيْبَةَ . وَالثَّانِي: جَزَعًا، قَالَهُ مُجَاهِدٌ . وَالثَّالِثُ: غَضَبًا، قَالَهُ قَتَادَةُ . وَالرَّابِعُ: نَدَمًا، قَالَهُ السُّدِّيُّ . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: نَدَمًا وَتَلَهُّفًا وَأَسًى . قَالَ الزَّجَّاجُ: الْأَسَفُ: الْمُبَالَغَةُ فِي الْحُزْنِ أَوِ الْغَضَبِ، يُقَالُ: قَدْ أَسِفَ الرَّجُلُ فَهُوَ أَسِيفٌ، قَالَ الشَّاعِرُ:


أَرَى رَجُلًا مِنْهُمْ أَسَيْفًا كَأَنَّمَا يَضُمُّ إِلَى كَشْحَيْهِ كَفًّا مُخَضَّبًا


وَهَذِهِ الْآَيَةُ يُشِيرُ بِهَا إِلَى نَهْيِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَثْرَةِ الْحِرْصِ عَلَى إِيمَانِ قَوْمِهِ ; لِئَلَّا يُؤَدِّيَ ذَلِكَ إِلَى هَلَاكِ نَفْسِهِ بِالْأَسَفِ .
إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا .

قوله تعالى: " إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها " فيه أربعة أقوال:

أحدها: أنهم الرجال، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس . والثاني: العلماء، [ ص: 106 ] رواه مجاهد عن ابن عباس . فعلى هذين القولين تكون " ما " في موضع ( من ); لأنها في موضع إبهام، قاله ابن الأنباري . والثالث: أنه ما عليها من شيء، قاله مجاهد . والرابع: النبات والشجر، قاله مقاتل . وقول مجاهد أعم، يدخل فيه النبات، والماء، والمعادن، وغير ذلك .

فإن قيل: قد نرى بعض ما على الأرض سمجا وليس بزينة .

فالجواب: أنا إن قلنا: إن المراد [ به ] شيء مخصوص، فالمعنى: إنا جعلنا بعض ما على الأرض زينة لها، فخرج مخرج العموم ومعناه الخصوص . وإن قلنا: هم الرجال أو العلماء، فلعبادتهم أو لدلالتهم على خالقهم . وإن قلنا: النبات والشجر ; فلأنه زينة لها تجري مجرى الكسوة والحلية . وإن قلنا: إنه عام في كل ما عليها، فلكونه دالا على خالقه، فكأنه زينة الأرض من هذه الجهة .

قوله تعالى: " لنبلوهم " ; أي: لنختبر الخلق، والمعنى: لنعاملهم معاملة المبتلى . قال ابن الأنباري: من قال: إن " ما على الأرض " يعني به: النبات، قال: الهاء والميم ترجع إلى سكان الأرض المشاهدين للزينة، ومن قال: " ما على الأرض " الرجال، رد الهاء والميم على " ما " ; لأنها بتأويل الجميع، ومعنى الآية: لنبلوهم فنرى أيهم أحسن عملا، هذا أم هذا . قال الحسن: أيهم أزهد في الدنيا . وقد ذكرنا في هذه الآية أربعة أقوال في سورة ( هود: 7 ) . ثم أعلم الخلق أنه يفني جميع ذلك، فقال تعالى: " وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا " قال الزجاج: الصعيد: الطريق الذي لا نبات فيه . وقال ابن الأنباري: قال اللغويون: الصعيد: التراب ووجه الأرض . فأما الجرز فقال الفراء: أهل الحجاز يقولون: أرض جرز وجرز، وأسد تقول: جرز وجرز، وتميم تقول: أرض جرز وجرز بالتخفيف . وقال أبو عبيدة: الصعيد الجرز: الغليظ الذي لا ينبت شيئا .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 24-10-2022, 10:18 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,007
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الخامس

سُورَةُ الْكَهْفِ
الحلقة (357)
صــ 107 إلى صــ 114





ويقال للسنة [ ص: 107 ] المجدبة: جرز، وسنون أجراز ; لجدوبتها وقلة مطرها، وأنشد:

قد جرفتهن السنون الأجراز .

وقال الزجاج: الجرز: الأرض التي لا ينبت فيها شيء، كأنها تأكل النبت أكلا . وقال ابن الأنباري: قال اللغويون: الجرز: [ الأرض ] التي لا يبقى بها نبات، تحرق كل نبات يكون بها . وقال المفسرون: وهذا يكون يوم القيامة، يجعل الله الأرض مستوية لا نبات فيها ولا ماء .
أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا .

قوله تعالى: " أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم " نزلت على سبب قد ذكرناه عند قوله تعالى: ويسألونك عن الروح [ الإسراء: 85 ] . وقال ابن قتيبة: ومعنى " أم حسبت " : أحسبت . فأما " الكهف " فقال المفسرون: هو المغارة في الجبل، إلا أنه واسع، فإذا صغر فهو غار . قال ابن الأنباري: قال اللغويون: الكهف بمنزلة الغار في الجبل .

فأما الرقيم ففيه ستة أقوال:

أحدها: أنه لوح من رصاص كانت فيه أسماء الفتية مكتوبة، ليعلم من اطلع عليهم يوما من الدهر ما قصتهم، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال [ ص: 108 ] وهب بن منبه، وسعيد بن جبير في رواية، ومجاهد في رواية . وقال السدي: الرقيم: صخرة كتب فيها أسماء الفتية، وجعلت في سور المدينة . وقال مقاتل: الرقيم: كتاب كتبه رجلان صالحان، وكانا يكتمان إيمانهما من الملك الذي فر منه الفتية، كتبا أمر الفتية في لوح من رصاص، ثم جعلاه في تابوت من نحاس، ثم جعلاه في البناء الذي سدوا به باب الكهف، فقالا: لعل الله أن يطلع على هؤلاء الفتية أحدا، فيعلمون أمرهم إذا قرؤوا الكتاب . وقال الفراء: كتب في اللوح أسماؤهم، وأنسابهم، ودينهم، وممن كانوا . قال أبو عبيدة وابن قتيبة: الرقيم: الكتاب، وهو فعيل بمعنى مفعول، ومنه: كتاب مرقوم ; أي: مكتوب . والثاني: أنه اسم القرية التي خرجوا منها، قاله كعب . والثالث: اسم الجبل، قاله الحسن وعطية . والرابع: أن الرقيم: الدواة، بلسان الروم، قاله عكرمة ومجاهد في رواية . والخامس: اسم الكلب، قاله سعيد بن جبير . والسادس: اسم الوادي الذي فيه الكهف، قاله قتادة والضحاك .

قوله تعالى: " كانوا من آياتنا عجبا " قال المفسرون: معنى الكلام: أحسبت أنهم كانوا أعجب آياتنا ؟ قد كان في آياتنا ما هو أعجب منهم، فإن خلق السماوات والأرض وما بينهما أعجب من قصتهم . وقال ابن عباس: الذي آتيتك من الكتاب والسنة والعلم أفضل من شأنهم .

قوله تعالى: " إذ أوى الفتية " قال الزجاج: معنى أووا إليه: صاروا إليه وجعلوه مأواهم . والفتية: جمع فتى، مثل غلام وغلمة، وصبي وصبية، و( فعلة ) من أسماء الجمع، وليس ببناء يقاس عليه، لا يجوز غراب وغربة، ولا غني وغنية . وقال بعض المفسرين: الفتية: بمعنى الشبان . وقد ذكرنا عن [ ص: 109 ] القتيبي أن الفتى بمعنى: الكامل من الرجال، وبيناه في قوله تعالى: من فتياتكم المؤمنات [ النساء: 25 ] .

قوله تعالى: " فقالوا ربنا آتنا من لدنك " ; أي: من عندك، " رحمة " ; أي: رزقا، " وهيئ لنا " ; أي: أصلح لنا، " من أمرنا رشدا " ; أي: أرشدنا إلى ما يقربنا منك . والمعنى: هيئ لنا من أمرنا ما نصيب به الرشد . والرشد، والرشد، والرشاد: نقيض الضلال .

تلخيص قصة أصحاب الكهف .

اختلف العلماء في بدو أمرهم وسبب مصيرهم إلى الكهف على ثلاثة أقوال:

أحدها: أنهم هربوا ليلا من ملكهم حين دعاهم إلى عبادة الأصنام، فمروا براع له كلب، فتبعهم على دينهم، فأووا إلى الكهف يتعبدون، ورجل منهم يبتاع لهم أرزاقهم من المدينة، إلى أن جاءهم يوما فأخبرهم أنهم قد ذكروا، فبكوا وتعوذوا بالله من الفتنة، فضرب الله تعالى على آذانهم، وأمر الملك فسد عليهم الكهف وهو يظنهم أيقاظا، وقد توفى الله أرواحهم وفاة النوم، وكلبهم قد غشيه ما غشيهم . ثم إن الرجلين مؤمنين يكتمان إيمانهما كتبا أسماءهم وأنسابهم وخبرهم في لوح من رصاص، وجعلاه في تابوت من نحاس في البنيان، وقالا: لعل الله يطلع عليهم قوما مؤمنين فيعلمون خبرهم، هذا قول ابن عباس . وقال عبيد بن عمير: فقدهم قومهم فطلبوهم، فعمى الله عليهم أمرهم، فكتبوا أسماءهم وأنسابهم في لوح: فلان وفلان أبناء ملوكنا فقدناهم في شهر كذا، في سنة كذا، في مملكة فلان، ووضعوا اللوح في خزانة الملك، وقالوا: ليكونن لهذا شأن . [ ص: 110 ]

والثاني: أن أحد الحواريين جاء إلى مدينة أصحاب الكهف، فأراد أن يدخلها، فقيل له: إن على بابها صنما لا يدخلها أحد إلا سجد له، فكره أن يدخلها، فأتى حماما قريبا من المدينة، فكان يعمل فيه بالأجر، وعلقه فتية من أهل المدينة، فجعل يخبرهم عن خبر السماء والأرض وخبر الآخرة، فآمنوا به وصدقوه، حتى جاء ابن الملك يوما بامرأة فدخل معها الحمام، فأنكر عليه الحواري ذلك، فسبه ودخل، فمات وماتت المرأة في الحمام، فأتى الملك، فقيل له: إن صاحب الحمام قتل ابنك، فالتمس فهرب، فقال: من كان يصحبه ؟ فسمي له الفتية، فالتمسوا فخرجوا من المدينة، فمروا على صاحب لهم في زرع وهو على مثل أمرهم، فانطلق معهم ومعه كلب حتى آواهم الليل إلى الكهف، فدخلوه فقالوا: نبيت هاهنا، ثم نصبح إن شاء الله فترون رأيكم، فضرب الله على آذانهم فناموا، وخرج الملك وأصحابه يتبعونهم، فوجدوهم قد دخلوا الكهف، فكلما أراد رجل أن يدخل [ الكهف ] أرعب، فقال قائل للملك: أليس قلت: إن قدرت عليهم قتلتهم ؟ قال: بلى . قال: فابن عليهم باب الكهف حتى يموتوا جوعا وعطشا، ففعل، هذا قول وهب بن منبه .

والثالث: أنهم كانوا أبناء عظماء المدينة وأشرافهم، خرجوا فاجتمعوا وراء المدينة على غير ميعاد، فقال رجل منهم، هو أسنهم: إني لأجد في نفسي شيئا ما أظن أحدا يجده، فقالوا: ما تجد ؟ قال: أجد في نفسي أن ربي رب السماوات والأرض، فقاموا جميعا فقالوا: ربنا رب السماوات والأرض، فأجمعوا أن يدخلوا الكهف، فدخلوا فلبثوا ما شاء الله، هذا قول مجاهد . وقال قتادة: كانوا أبناء ملوك الروم، فتفردوا بدينهم في الكهف، فضرب الله على آذانهم . [ ص: 111 ]

فصل

فأما سبب بعث أصحاب الكهف من نومهم، فقال عكرمة: جاءت أمة مسلمة وكان ملكهم مسلما، فاختلفوا في الروح والجسد، فقال قائل: يبعث الروح والجسد . وقال قائل: يبعث الروح وحده، والجسد تأكله الأرض فلا يكون شيئا ; فشق اختلافهم على الملك، فانطلق فلبس المسوح وقعد على الرماد، ودعا الله أن يبعث لهم آية تبين لهم، فبعث الله أصحاب الكهف . وقال وهب بن منبه: جاء راع قد أدركه المطر إلى الكهف، فقال: لو فتحت هذا الكهف وأدخلته غنمي من المطر، فلم يزل يعالجه حتى فتحه، ورد الله إليهم أرواحهم حين أصبحوا من الغد . وقال ابن السائب: احتاج صاحب الأرض التي فيها الكهف أن يبني حظيرة لغنمه، فهدم ذلك السد، فبنى به، فانفتح باب الكهف . وقال ابن إسحاق: ألقى الله في نفس رجل من أهل البلد أن يهدم ذلك البنيان فيبني به حظيرة لغنمه، فاستأجر عاملين ينزعان تلك الحجارة، فنزعاها وفتحا باب الكهف، فجلسوا فرحين، فسلم بعضهم على بعض لا يرون في وجوههم ولا أجسادهم شيئا يكرهونه، إنما هم على هيئتهم حين رقدوا، وهم يرون أن ملكهم في طلبهم، فصلوا، وقالوا ليمليخا صاحب نفقتهم: انطلق فاستمع ما نذكر به، وابتغ لنا طعاما، فوضع ثيابه وأخذ الثياب التي كان يتنكر فيها وخرج، فرأى الحجارة قد نزعت عن باب الكهف فعجب، ثم مر مستخفيا متخوفا أن يراه أحد فيذهب به إلى الملك، فلما رأى باب المدينة رأى عليه علامة تكون لأهل الإيمان فعجب، وخيل إليه أنها ليست بالمدينة [ ص: 112 ] التي يعرف، ورأى ناسا لا يعرفهم، فجعل يتعجب ويقول: لعلي نائم، فلما دخلها رأى قوما يحلفون باسم عيسى، فقام مسندا ظهره إلى جدار وقال في نفسه: والله ما أدري ما هذا، عشية أمس لم يكن على [ وجه ] الأرض من يذكر عيسى إلا قتل، واليوم أسمعهم يذكرونه، لعل هذه ليست المدينة التي أعرف، والله ما أعرف مدينة قرب مدينتنا، فقام كالحيران، وأخرج ورقا فأعطاه رجلا وقال: بعني طعاما، فنظر الرجل إلى نقشه فعجب، ثم ألقاه إلى آخر، فجعلوا يتطارحونه بينهم ويتعجبون ويتشاورون، وقالوا: إن هذا قد أصاب كنزا، ففرق منهم وظنهم قد عرفوه، فقال: أمسكوا طعامكم فلا حاجة بي إليه، فقالوا له: من أنت يا فتى ؟ والله لقد وجدت كنزا وأنت تريد أن تخفيه، شاركنا فيه وإلا أتينا بك إلى السلطان فيقتلك، فلم يدر ما يقول، فطرحوا كساءه في عنقه وهو يبكي ويقول: فرق بيني وبين إخوتي، يا ليتهم يعلمون ما لقيت، فأتوا به إلى رجلين كانا يدبران أمر المدينة، فقالا: أين الكنز الذي وجدت ؟ قال: ما وجدت كنزا، ولكن هذه ورق آبائي ونقش هذه المدينة وضربها، ولكن والله ما أدري ما شأني، ولا ما أقول لكم . قال مجاهد: وكان ورق أصحاب الكهف مثل أخفاف الإبل، فقالوا: من أنت، وما اسم أبيك ؟ فأخبرهم، فلم يجدوا من يعرفه، فقال له أحدهما: أتظن أنك تسخر منا وخزائن هذه البلدة بأيدينا، وليس عندنا من هذا الضرب درهم ولا دينار ؟ إني سآمر بك فتعذب عذابا شديدا، ثم أوثقك حتى تعترف بهذا الكنز، فقال يمليخا: أنبئوني عن شيء أسألكم عنه، فإن فعلتم صدقتكم، قالوا: سل، قال: ما فعل الملك دقيانوس ؟ قالوا: لا نعرف اليوم على وجه الأرض ملكا يسمى دقيانوس، وإنما هذا ملك كان منذ زمان طويل وهلكت بعده قرون كثيرة، فقال: والله ما يصدقني أحد بما أقوله، لقد كنا [ ص: 113 ] فتية، وأكرهنا الملك على عبادة الأوثان والذبح للطواغيت، فهربنا منه عشية أمس فنمنا، فلما انتبهنا خرجت أشتري لأصحابي طعاما، فإذا أنا كما ترون، فانطلقوا معي إلى الكهف أريكم أصحابي، فانطلقوا معه وسائر أهل المدينة، وكان أصحابه قد ظنوا لإبطائه عليهم أنه قد أخذ، فبينما هم يتخوفون ذلك إذ سمعوا الأصوات وجلبة الخيل، فظنوا أنهم رسل دقيانوس، فقاموا إلى الصلاة وسلم بعضهم على بعض، فسبق يمليخا إليهم وهو يبكي، فبكوا معه وسألوه عن شأنه، فأخبرهم خبره وقص عليهم النبأ كله، فعرفوا أنهم كانوا نياما بأمر الله تعالى، وإنما أوقظوا ليكونوا آية للناس وتصديقا للبعث، ونظر الناس في المسطور الذي فيه أسماؤهم وقصتهم فعجبوا، وأرسلوا إلى ملكهم فجاء واعتنق القوم وبكى، فقالوا له: نستودعك الله ونقرأ عليك السلام، حفظك الله، وحفظ ملكك، فبينا الملك قائم، رجعوا إلى مضاجعهم وتوفى الله عز وجل أنفسهم، فأمر الملك أن يجعل لكل واحد منهم تابوتا من ذهب، فلما أمسوا رآهم في المنام، فقالوا: إنا لم نخلق من ذهب وفضة، ولكن خلقنا من تراب، فاتركنا كما كنا في الكهف على التراب حتى يبعثنا الله عز وجل منه، وحجبهم الله عز وجل حين خرجوا من عندهم بالرعب، فلم يقدر أحد أن يدخل عليهم، وأمر الملك فجعل على باب الكهف مسجد يصلى فيه، وجعل لهم عيدا عظيما يؤتى كل سنة . وقيل: إنه لما جاء يمليخا ومعه الناس، قال: دعوني أدخل إلى أصحابي فأبشرهم، فإنهم إن رأوكم معي أرعبتموهم، فدخل فبشرهم، وقبض الله روحه وأرواحهم، فدخل الناس، فإذا أجساد لا ينكرون منها شيئا غير أنها لا أرواح فيها، فقال الملك: هذه آية بعثها الله لكم . [ ص: 114 ]

قوله تعالى: " فضربنا على آذانهم " قال الزجاج: المعنى: أنمناهم ومنعناهم السمع ; لأن النائم إذا سمع انتبه . و " عددا " منصوب على ضربين .

أحدهما: على المصدر، المعنى: تعد عددا .

والثاني: أن يكون نعتا للسنين، المعنى: سنين ذات عدد، والفائدة في ذكر العدد في الشيء المعدود، توكيد كثرة الشيء ; لأنه إذا قل فهم مقداره، وإذا كثر احتيج إلى أن يعد العدد الكثير . " ثم بعثناهم " من نومهم، يقال لكل من خرج من الموت إلى الحياة أو من النوم إلى الانتباه: مبعوث ; لأنه قد زال عنه ما كان يحبسه عن التصرف والانبعاث . وقيل: معنى " سنين عددا " : أنه لم يكن فيها شهور ولا أيام، إنما هي كاملة، ذكره الماوردي .

قوله تعالى: " لنعلم أي الحزبين " قال المفسرون: " أي " : لنرى . وقال بعضهم: المعنى: لتعلموا أنتم . وقرأ أبو الجوزاء، وأبو عمران، والنخعي: ( ليعلم ) بضم الياء على ما لم يسم فاعله " أي الحزبين " ، ويعني بالحزبين: المؤمنين والكافرين من قوم أصحاب الكهف . " أحصى لما لبثوا " ; أي: لنعلم أهؤلاء أحصى للأمد أو هؤلاء، فكأنه وقع بينهم تنازع في مدة لبثهم في الكهف بعد خروجهم من بينهم، فبعثهم الله ليبين ذلك ويظهر . قال قتادة: لم يكن للفريقين علم بلبثهم، لا لمؤمنيهم ولا لكافريهم . قال مقاتل: لما بعثوا زال الشك وعرفت حقيقة اللبث . وقال القاضي أبو يعلى: معنى الكلام: بعثناهم ليظهر المعلوم في اختلاف الحزبين في مدة لبثهم، لما في ذلك من العبرة



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 24-10-2022, 10:21 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,007
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الخامس

سُورَةُ الْكَهْفِ
الحلقة (358)
صــ 115 إلى صــ 122




.
نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا [ ص: 115 ] شططا هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا .

قوله تعالى: " نحن نقص عليك نبأهم " ; أي: خبر الفتية " بالحق " ; أي: بالصدق .

قوله تعالى: " وزدناهم هدى " ; أي: ثبتناهم على الإيمان، " وربطنا على قلوبهم " ; أي: ألهمناها الصبر " إذ قاموا " بين يدي ملكهم دقيانوس، " فقالوا ربنا رب السماوات والأرض " وذلك أنه كان يدعو الناس إلى عبادة الأصنام، فعصم الله هؤلاء حتى عصوا ملكهم . وقال الحسن: قاموا في قومهم فدعوهم إلى التوحيد . وقيل: هذا قولهم بينهم لما اجتمعوا خارج المدينة على ما ذكرنا في أول القصة . فأما الشطط فهو الجور . قال الزجاج: يقال: شط الرجل وأشط: إذا جار . ثم قال الفتية: " هؤلاء قومنا " يعنون: الذين كانوا في زمن دقيانوس، " اتخذوا من دونه آلهة " ; أي: عبدوا الأصنام، " لولا " ; أي: هلا، " يأتون عليهم " ; أي: على عبادة الأصنام، " بسلطان بين " ; أي: بحجة . وإنما قال: " عليهم " والأصنام مؤنثة ; لأن الكفار نحلوها العقل والتمييز، فجرت مجرى المذكرين من الناس .

قوله تعالى: " فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا " فزعم أن له شريكا .
وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه ذلك [ ص: 116 ] من آيات الله من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا .

قوله تعالى: " وإذ اعتزلتموهم " قال ابن عباس: هذا [ قول ] يمليخا، وهو رئيس أصحاب الكهف، قال لهم: وإذ اعتزلتموهم ; أي: فارقتموهم، يريد: عبدة الأصنام، " وما يعبدون إلا الله " فيه قولان:

أحدهما: واعتزلتم ما يعبدون إلا الله، فإن القوم كانوا يعبدون الله ويعبدون معه آلهة، فاعتزل الفتية عبادة الآلهة ولم يعتزلوا عبادة الله، هذا قول عطاء الخراساني والفراء .

والثاني: وما يعبدون غير الله، قال قتادة: هي في مصحف عبد الله: ( وما يعبدون من دون الله )، وهذا تفسيرها .

قوله تعالى: " فأووا إلى الكهف " ; أي: اجعلوه مأواكم، " ينشر لكم ربكم من رحمته " ; أي: يبسط عليكم من رزقه، " ويهيئ لكم من أمركم مرفقا " قرأ ابن كثير، وأبو عمرو ، وعاصم، وحمزة، والكسائي: ( مرفقا بكسر الميم وفتح الفاء . وقرأ نافع وابن عامر: ( مرفقا بفتح الميم وكسر الفاء . قال الفراء: أهل الحجاز يقولون: ( مرفقا ) بفتح الميم وكسر الفاء، في كل مرفق ارتفقت به، ويكسرون مرفق الإنسان، والعرب قد يكسرون الميم منهما جميعا . قال ابن الأنباري: معنى الآية: ويهيئ لكم بدلا من أمركم الصعب مرفقا، قال الشاعر:


فليت لنا من ماء زمزم شربة مبردة باتت على طهيان
[ ص: 117 ]

معناه: فليت لنا بدلا من ماء زمزم . قال ابن عباس: " ويهيئ لكم " : يسهل عليكم ما تخافون من الملك وظلمه، ويأتكم باليسر والرفق واللطف .

قوله تعالى: " وترى الشمس إذا طلعت " المعنى: لو رأيتها لرأيت ما وصفنا . " تزاور " قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو : ( تزاور ) بتشديد الزاي . وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: ( تزاور ) خفيفة . وقرأ ابن عامر: ( تزور ) مثل: ( تحمر ) . وقرأ أبي بن كعب، وأبو مجلز، وأبو رجاء، والجحدري: ( تزوار ) بإسكان الزاي وبألف ممدودة بعد الواو من غير همزة مشددة الراء . وقرأ ابن مسعود، وأبو المتوكل، وابن السميفع: ( تزوئر ) بهمزة قبل الراء مثل: ( تزوعر ) . وقرأ أبو الجوزاء وأبو السماك: ( تزور ) بفتح التاء والزاي وتشديد الواو المفتوحة خفيفة الراء، مثل: ( تكور ) ; أي: تميل وتعدل . قال الزجاج: أصل " تزاور " : تتزاور، فأدغمت التاء في الزاي . و " تقرضهم " ; أي: تعدل عنهم وتتركهم، وقال ذو الرمة:


إلى ظعن يقرضن أجواز مشرف شمالا وعن أيمانهن الفوارس


يقرضن: يتركن، وأصل القرض: القطع والتفرقة بين الأشياء، ومنه قولك: أقرضني درهما ; أي: اقطع لي من مالك درهما . قال المفسرون: كان كهفهم بإزاء بنات نعش في أرض الروم، فكانت الشمس تميل عنهم طالعة وغاربة، لا تدخل عليهم فتؤذيهم بحرها وتغير ألوانهم، ثم أخبر أنهم كانوا في متسع من الكهف ينالهم فيه برد الريح ونسيم الهواء، فقال: " وهم في فجوة منه " قال أبو عبيدة: أي: [ في ] متسع، والجميع: فجوات وفجاء، بكسر الفاء . وقال الزجاج: إنما [ ص: 118 ] صرف الشمس عنهم آية من الآيات، ولم يرض قول من قال: كان كهفهم بإزاء بنات نعش .

قوله تعالى: " ذلك من آيات الله " يشير إلى ما صنعه بهم من اللطف في هدايتهم، وصرف أذى الشمس عنهم، والرعب الذي ألقى عليهم، حتى لم يقدر الملك الظالم ولا غيره على أذاهم . " من آيات الله " ; أي: من دلائله على قدرته ولطفه . " من يهد الله فهو المهتد " هذا بيان أنه هو الذي تولى هداية القوم، ولولا ذلك لم يهتدوا .
وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا .

قوله تعالى: " وتحسبهم أيقاظا " ; أي: لو رأيتهم لحسبتهم أيقاظا . قال الزجاج: الأيقاظ: المنتبهون، واحدهم: يقط ويقظان، والجميع: أيقاظ، والرقود: النيام . قال الفراء: واحد الأيقاظ: يقظ ويقظ . قال ابن السائب: وإنما يحسبون أيقاظا ; لأن أعينهم مفتحة وهم نيام . وقيل: لتقلبهم يمينا وشمالا . وذكر بعض أهل العلم أن وجه الحكمة في فتح أعينهم، أنه لو دام طبقها لذابت .

قوله تعالى: " ونقلبهم " وقرأ أبو رجاء: ( وتقلبهم ) بتاء مفتوحة، وسكون القاف، وتخفيف اللام المكسورة . وقرأ أبو الجوزاء وعكرمة: ( ونقلبهم ) مثلها، إلا أنه بالنون . " ذات اليمين " ; أي: على أيمانهم وعلى شمائلهم . قال ابن عباس: كانوا يقلبون في كل عام مرتين، ستة أشهر على هذا الجنب، وستة أشهر على هذا الجنب ; لئلا تأكل الأرض لحومهم . وقال مجاهد: كانوا ثلاثمائة عام على شق واحد، ثم قلبوا تسع سنين . [ ص: 119 ]

قوله تعالى: " وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد " أخبر أن الكلب كان على مثل حالهم في النوم، وهو في رأي العين منتبه . وفي " الوصيد " أربعة أقوال:

أحدها: أنه الفناء فناء الكهف، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، والفراء . قال الفراء: يقال: الوصيد والأصيد لغتان، مثل: الإكفاف والوكاف، وأرخت الكتاب وورخت، ووكدت الأمر وأكدت، وأهل الحجاز يقولون: الوصيد، وأهل نجد يقولون: الأصيد، وهو الحظيرة والفناء .

والثاني: أنه الباب، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال السدي . وقال ابن قتيبة: فيكون المعنى: وكلبهم باسط ذارعيه بالباب، قال الشاعر:


بأرض فضاء لا يسد وصيدها علي ومعروفي بها غير منكر


والثالث: أنه الصعيد، وهو التراب، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير ومجاهد في رواية عنهما .

والرابع: أنه عتبة الباب، قاله عطاء . قال ابن قتيبة: وهذا أعجب إلي ; لأنهم يقولون: أوصد بابك ; أي: أغلقه، ومنه قوله: إنها عليهم مؤصدة [ الهمزة: 8 ] ; أي: مطبقة مغلقة، وأصله أن تلصق الباب بالعتبة إذا أغلقته، ومما يوضح هذا أنك إذا جعلت الكلب بالفناء كان خارجا من الكهف، وإن جعلته بعتبة الباب أمكن أن يكون داخل الكهف، والكهف وإن لم يكن له باب وعتبة، فإنما أراد أن الكلب موضع العتبة من البيت، فاستعير .

قوله تعالى: " لو اطلعت عليهم " [ وقرأ الأعمش وأبو حصين: ( لو اطلعت ) [ ص: 120 ] بضم الواو ]، " لوليت منهم فرارا " رهبة لهم، " ولملئت " قرأ عاصم، وابن عامر، وأبو عمرو ، وحمزة، والكسائي: ( ولملئت ) خفيفة مهموزة . وقرأ ابن كثير ونافع: ( ولملئت ) مشددة مهموزة . " رعبا " ; [ أي ]: فزعا وخوفا، وذلك أن الله تعالى منعهم بالرعب ; لئلا يدخل إليهم أحد . وقيل: إنهم طالت شعورهم وأظفارهم جدا، فلذلك كان الرائي لهم لو رآهم هرب مرعوبا، حكاه الزجاج .
وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا .

قوله تعالى: " وكذلك بعثناهم " ; أي: وكما فعلنا بهم ما ذكرنا، بعثناهم من تلك النومة، " ليتساءلوا " ; أي: ليكون بينهم تساؤل وتنازع واختلاف في مدة لبثهم، فيفيد تساؤلهم اعتبار المعتبرين بحالهم . " قال قائل منهم كم لبثتم " ; أي: كم مر علينا منذ دخلنا هذا الكهف ؟ " قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم " وذلك أنهم دخلوا غدوة، وبعثهم الله في آخر النهار ; فلذلك قالوا: ( يوما )، فلما رأوا الشمس قالوا: ( أو بعض يوم ) . " قالوا ربكم أعلم بما لبثتم " قال ابن عباس: القائل لهذا يمليخا رئيسهم، رد علم ذلك إلى الله تعالى . وقال في رواية أخرى: إنما قاله مكسلمينا، وهو أكبرهم . قال أبو سليمان: وهذا يوجب أن تكون نفوسهم قد حدثتهم أنهم قد لبثوا أكثر مما ذكروا . وقيل: إنما قالوا ذلك ; لأنهم رأوا أظفارهم وأشعارهم قد طالت جدا .

قوله تعالى: " فابعثوا أحدكم " قال ابن الأنباري: إنما قال: " أحدكم " ، [ ص: 121 ] ولم يقل: ( واحدكم ) ; لئلا يلتبس البعض بالممدوح المعظم، فإن العرب تقول: رأيت أحد القوم، ولا يقولون: رأيت واحد القوم، إلا إذا أرادوا المعظم، فأراد بأحدهم: بعضهم، ولم يرد شريفهم .

قوله تعالى: " بورقكم " قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، والكسائي، وحفص عن عاصم: ( بورقكم ) الراء مكسورة خفيفة . وقرأ أبو عمرو، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم ساكنة الراء . وعن أبي عمرو: ( بورقكم ) مدغمة يشمها شيئا من التثقيل . قال الزجاج: تصير كافا خالصة . قال الفراء: الورق لغة أهل الحجاز، وتميم يقولون: الورق، وبعض العرب يكسرون الواو فيقولون: الورق . قال ابن قتيبة: الورق: الفضة، دراهم كانت أو غير دراهم، يدلك على ذلك حديث عرفجة أنه اتخذ أنفا من ورق .

قوله تعالى: " إلى المدينة " يعنون: التي خرجوا منها، واسمها دقسوس، ويقال: هي اليوم طرسوس .

قوله تعالى: " فلينظر أيها " قال الزجاج: المعنى: أي أهلها . " أزكى طعاما " وللمفسرين في معناه ستة أقوال:

أحدها: أحل ذبيحة، قاله ابن عباس وعطاء، وذلك أن عامة أهل بلدهم كانوا كفارا، فكانوا يذبحون للطواغيت، وكان فيهم قوم يخفون إيمانهم . والثاني: أحل طعاما، قاله سعيد بن جبير . قال الضحاك: وكان أكثر أموالهم غصوبا . وقال مجاهد: قالوا لصاحبهم: لا تبتع طعاما فيه ظلم ولا غصب . والثالث: أكثر، قاله عكرمة . والرابع: خير ; أي: أجود، قاله قتادة . [ ص: 122 ]

والخامس: أطيب، قاله ابن السائب ومقاتل . والسادس: أرخص، قاله يمان بن رياب . قال ابن قتيبة: وأصل الزكاة: النماء والزيادة .

قوله تعالى: " فليأتكم برزق منه " ; أي: بما تأكلونه . " وليتلطف " ; أي: ليدقق النظر فيه وليحتل ; لئلا يطلع عليه . " ولا يشعرن بكم " ; أي: ولا يخبرن أحد بمكانكم . " إنهم إن يظهروا " ; أي: يطلعوا ويشرفوا عليكم، " يرجموكم " وفيه ثلاثة أقوال:

أحدها: يقتلوكم، قاله ابن عباس . وقال الزجاج: يقتلوكم بالرجم . والثاني: يرجموكم بأيديهم استنكارا لكم، قاله الحسن . والثالث: بألسنتهم شتما لكم، قاله مجاهد وابن جريج .

قوله تعالى: " أو يعيدوكم في ملتهم " ; أي: يردوكم في دينهم، " ولن تفلحوا إذا أبدا " ; أي: إن رجعتم في دينهم لم تسعدوا في الدنيا ولا في الآخرة .
وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا .

قوله تعالى: " وكذلك أعثرنا عليهم " ; أي: وكما أنمناهم وبعثناهم، أطلعنا وأظهرنا عليهم . قال ابن قتيبة: وأصل هذا أن من عثر بشيء وهو غافل، نظر إليه حتى يعرفه، فاستعير العثار مكان التبين والظهور، ومنه قول الناس: ما عثرت على فلان بسوء قط ; أي: ما ظهرت على ذلك منه

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 24-10-2022, 10:35 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,007
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الخامس

سُورَةُ الْكَهْفِ
الحلقة (359)
صــ 123 إلى صــ 130





قوله تعالى: " ليعلموا " في المشار إليهم بهذا العلم قولان: [ ص: 123 ]

أحدهما: أنهم أهل بلدهم حين اختصموا في البعث، فبعث الله أهل الكهف ليعلموا " أن وعد الله " بالبعث والجزاء " حق " وأن القيامة لا شك فيها، هذا قول الأكثرين .

والثاني: أنهم أهل الكهف، بعثناهم ليروا بعد علمهم أن وعد الله حق، ذكره الماوردي .

قوله تعالى: " إذ يتنازعون " يعني: أهل ذلك الزمان . قال ابن الأنباري: المعنى: إذ كانوا يتنازعون، ويجوز أن يكون المعنى: إذ تنازعوا .

وفي ما تنازعوا فيه خمسة أقوال:

أحدها: أنهم تنازعوا في البنيان والمسجد، فقال المسلمون: نبني عليهم مسجدا ; لأنهم على ديننا، وقال المشركون: نبني عليهم بنيانا ; لأنهم من أهل سنتنا، قاله ابن عباس . والثاني: أنهم تنازعوا في البعث، فقال المسلمون: تبعث الأجساد والأرواح، وقال بعضهم: تبعث الأرواح دون الأجساد، فأراهم الله تعالى بعث الأرواح والأجساد ببعثه أهل الكهف، قاله عكرمة . والثالث: أنهم تنازعوا ما يصنعون بالفتية، قاله مقاتل . والرابع: أنهم تنازعوا في قدر مكثهم . والخامس: تنازعوا في عددهم، ذكرهما الثعلبي .

قوله تعالى: " ابنوا عليهم بنيانا " ; أي: استروهم من الناس بأن تجعلوهم وراء ذلك البنيان . وفي القائلين لهذا قولان:

أحدهما: أنهم مشركو ذلك الزمان، وقد ذكرناه عن ابن عباس .

والثاني: أنهم الذين أسلموا حين رأوا أهل الكهف، قاله ابن السائب .

قوله تعالى: " قال الذين غلبوا على أمرهم " قال ابن قتيبة: يعني: المطاعين [ ص: 124 ] والرؤساء، قال المفسرون: وهم الملك وأصحابه المؤمنون، اتخذوا عليهم مسجدا . قال سعيد بن جبير: بنى عليهم الملك بيعة .
سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدا .

قوله تعالى: " سيقولون ثلاثة " قال الزجاج: " ثلاثة " مرفوع بخبر الابتداء، المعنى: سيقول الذين تنازعوا في أمرهم: [ هم ] ثلاثة . وفي هؤلاء القائلين قولان:

أحدهما: أنهم نصارى نجران، ناظروا رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدة أهل الكهف، فقالت الملكية: هم ثلاثة رابعهم كلبهم، وقالت اليعقوبية: هم خمسة سادسهم كلبهم، وقالت النسطورية: هم سبعة وثامنهم كلبهم، فنزلت هذه الآية، رواه الضحاك عن ابن عباس .

والثاني: أنهم أهل مدينتهم قبل ظهورهم عليهم، ذكره الماوردي .

قوله تعالى: " رجما بالغيب " ; أي: ظنا غير يقين، قال زهير:


وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم وما هو عنها بالحديث المرجم


فأما دخول الواو في قوله: " وثامنهم كلبهم " ، ولم تدخل فيما قبل هذا، ففيه أربعة أقوال: [ ص: 125 ]

أحدها: أن دخولها وخروجها واحد، قاله الزجاج .

والثاني: أن ظهور الواو في الجملة الثامنة دلالة على أنها مرادة في الجملتين المتقدمتين، فأعلم بذكرها هاهنا أنها مرادة فيما قبل، وإنما حذفت تخفيفا، ذكره أبو نصر في " شرح اللمع " .

والثالث: أن دخولها يدل على انقطاع القصة وأن الكلام قد تم، ذكره الزجاج أيضا، وهو قول مقاتل بن سليمان، فإن الواو تدل على تمام الكلام قبلها واستئناف ما بعدها، قال الثعلبي: فهذه واو الحكم والتحقيق، كأن الله تعالى حكى اختلافهم، فتم الكلام عند قوله: " ويقولون سبعة " ، ثم حكم أن ثامنهم كلبهم . وجاء في بعض التفسير أن المسلمين قالوا عند اختلاف النصارى: هم سبعة، فحقق الله قول المسلمين .

والرابع: أن العرب تعطف بالواو على السبعة، فيقولون: ستة، سبعة، وثمانية ; لأن العقد عندهم سبعة، كقوله: التائبون العابدون . . . إلى أن قال في الصفة الثامنة: والناهون عن المنكر [ التوبة: 112 ]، وقوله في صفة الجنة: وفتحت أبوابها ، وفي صفة النار: فتحت أبوابها [ الزمر: 71 - 73 ] ; لأن أبواب النار سبعة، وأبواب الجنة ثمانية، ذكر هذا المعنى أبو إسحاق الثعلبي .

وقد اختلف العلماء في عددهم على قولين:

أحدهما: أنهم كانوا سبعة، قاله ابن عباس .

والثاني: ثمانية، قاله ابن جريج وابن إسحاق . وقال ابن الأنباري: وقيل: معنى قوله: " وثامنهم كلبهم " : صاحب كلبهم، كما يقال: السخاء حاتم، والشعر زهير ; أي: السخاء سخاء حاتم، والشعر شعر زهير . وأما أسماؤهم ; فقال هشيم: [ ص: 126 ] مكسلمينا، ويمليخا، وطرينوس، وسدينوس، وسرينوس، ونواسس، ويرانوس، وفي التفسير خلاف في أسمائهم فلم أطل به .

واختلفوا في كلبهم لمن كان على ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه كان لراع مروا به، فتبعهم الراعي والكلب، قاله ابن عباس .

والثاني: أنه كان لهم يتصيدون عليه، قاله عبيد بن عمير .

والثالث: أنهم مروا بكلب فتبعهم فطردوه، فعاد، ففعلوا ذلك به مرارا، فقال لهم الكلب: ما تريدون مني ؟ لا تخشوا جانبي أنا أحب أحباء الله، فناموا حتى أحرسكم، قاله كعب الأحبار .

وفي اسم كلبهم أربعة أقوال:

أحدها: قطمير، قاله أبو صالح عن ابن عباس . والثاني: اسمه الرقيم، وقد ذكرناه عن سعيد بن جبير . والثالث: قطمور، قاله عبد الله بن كثير . والرابع: حمران، قاله شعيب الجبائي . وفي صفته ثلاثة أقوال:

أحدها: أحمر، حكاه الثوري . والثاني: أصفر، حكاه ابن إسحاق . والثالث: أحمر الرأس، أسود الظهر، أبيض البطن، أبلق الذنب، ذكره ابن السائب .

قوله تعالى: " ربي أعلم بعدتهم " حرك الياء ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وأسكنها الباقون .

قوله تعالى: " ما يعلمهم إلا قليل " ; أي: ما يعلم عددهم إلا قليل من الناس . قال عطاء: يعني بالقليل: أهل الكتاب . قال ابن عباس: أنا من ذلك القليل، هم سبعة، إن الله عدهم حتى انتهى إلى السبعة .

قوله تعالى: " فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا " قال ابن عباس وقتادة: [ ص: 127 ] لا تمار أحدا، حسبك ما قصصت عليك من أمرهم . وقال ابن زيد: لا تمار في عدتهم إلا مراء ظاهرا أن تقول لهم: ليس كما تقولون، ليس كما تعلمون . وقيل: " إلا مراء ظاهرا " بحجة واضحة، حكاه الماوردي . والمراء في اللغة: الجدال، يقال: مارى يماري مماراة ومراء ; أي: جادل . قال ابن الأنباري: معنى الآية: لا تجادل إلا جدال متيقن عالم بحقيقة الخبر ; إذ الله تعالى ألقى إليك ما لا يشوبه باطل . وتفسير المراء في اللغة: استخراج غضب المجادل، من قولهم: مريت الشاة: إذا استخرجت لبنها .

قوله تعالى: " ولا تستفت فيهم " ; أي: في أصحاب الكهف، " منهم " قال ابن عباس: يعني: من أهل الكتاب . قال الفراء: أتاه فريقان من النصارى: نسطوري ويعقوبي، فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن عددهم، فنهي عن ذلك .

قوله تعالى: " ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله " سبب نزولها: أن قريشا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين، وعن الروح، وعن أصحاب الكهف، فقال: " غدا أخبركم بذلك " ، ولم يقل: إن شاء الله ; فأبطأ عليه جبريل خمسة عشر يوما لتركه الاستثناء، فشق ذلك عليه، ثم نزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس . ومعنى الكلام: ولا تقولن لشيء: إني فاعل ذلك غدا، إلا أن تقول: إن شاء الله، فحذف القول .

قوله تعالى: " واذكر ربك إذا نسيت " قال ابن الأنباري: معناه: واذكر ربك بعد تقضي النسيان، كما تقول: اذكر لعبد الله - إذا صلى - حاجتك ; أي: بعد انقضاء الصلاة .

وللمفسرين في معنى الآية ثلاثة أقوال: [ ص: 128 ]

أحدها: أن المعنى: إذا نسيت الاستثناء ثم ذكرت، فقل: إن شاء الله، ولو كان بعد يوم أو شهر أو سنة، قاله سعيد بن جبير والجمهور .

والثاني: أن معنى " إذا نسيت " : إذا غضبت، قاله عكرمة . قال ابن الأنباري: وليس ببعيد ; لأن الغضب ينتج النسيان .

والثالث: إذا نسيت الشيء فاذكر الله ليذكرك إياه، حكاه الماوردي .

فصل

وفائدة الاستثناء أن يخرج الحالف من الكذب إذا لم يفعل ما حلف عليه، كقوله في قصة موسى: ستجدني إن شاء الله صابرا [ الكهف: 70 ]، ولم يصبر، فسلم من الكذب لوجود الاستثناء في حقه . ولا تختلف الرواية عن أحمد أنه لا يصح الاستثناء في الطلاق والعتاق، وأنه إذا قال: أنت طالق إن شاء الله، وأنت حر إن شاء الله، أن ذلك يقع، وهو قول مالك ; وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يقع شيء من ذلك . وأما اليمين بالله تعالى، فإن الاستثناء فيها يصح، بخلاف الطلاق، وكذلك الاستثناء في كل ما يكفر، كالظهار والنذر ; لأن الطلاق والعتاق لفظه لفظ إيقاع، وإذا علق به المشيئة علمنا وجودها، لوجود لفظ الإيقاع من جهته، بخلاف سائر الأيمان ; لأنها ليست بموجبات للحكم، وإنما تتعلق بأفعال مستقبلة .

وقد اختلف في الوقت الذي يصح فيه الاستثناء على ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه لا يصح الاستثناء إلا موصولا بالكلام، وقد روي عن أحمد نحو هذا، وبه قال أكثر الفقهاء . [ ص: 129 ]

والثاني: أنه يصح ما دام في المجلس، قاله الحسن وطاووس، وعن أحمد نحوه .

والثالث: أنه لو استثنى بعد سنة جاز، قاله ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وأبو العالية . وقال ابن جرير الطبري: الصواب للإنسان أن يستثني ولو بعد حنثه في يمينه، فيقول: إن شاء الله، ليخرج بذلك مما ألزمه الله في هذه الآية، فيسقط عنه الحرج، فأما الكفارة فلا تسقط عنه بحال، إلا أن يكون الاستثناء موصولا بيمينه، ومن قال: له ثنياه ولو بعد سنة، أراد سقوط الحرج الذي يلزمه بترك الاستثناء دون الكفارة .

قوله تعالى: " وقل عسى أن يهديني ربي " قرأ نافع وأبو عمرو : ( يهديني ربي ) بياء في الوصل [ دون ] الوقف . وقرأ ابن كثير بياء في الحالين . وقرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي بغير ياء في الحالين .

وفي معنى الكلام قولان:

أحدهما: عسى أن يعطيني ربي من الآيات والدلالات على النبوة ما يكون أقرب في الرشد، وأدل من قصة أصحاب الكهف، ففعل الله له ذلك، وآتاه من علم غيوب المرسلين ما هو أوضح في الحجة وأقرب إلى الرشد من خبر أصحاب الكهف، هذا قول الزجاج .

والثاني: أن قريشا لما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم خبر أصحاب الكهف، قال: " غدا أخبركم " ، كما شرحنا في سبب نزول الآية، فقال الله تعالى له: " وقل عسى أن يهديني ربي " ; أي: عسى أن يعرفني جواب مسائلكم قبل الوقت الذي حددته لكم، ويعجل لي من جهته الرشاد، هذا قول ابن الأنباري . [ ص: 130 ]
ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا .

قوله تعالى: " ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين " قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وعاصم، وابن عامر: ( ثلاثمائة سنين ) منونا . وقرأ حمزة والكسائي: ( ثلاثمائة سنين ) مضافا غير منون . قال أبو علي: العدد المضاف إلى الآحاد قد جاء مضافا إلى الجميع، قال الشاعر:


وما زودوني غير سحق عمامة وخمسمئ منها قسي وزائف


وفي هذا الكلام قولان:

أحدهما: أنه حكاية عما قال الناس في حقهم، وليس بمقدار لبثهم، قاله ابن عباس، واستدل عليه فقال: لو كانوا لبثوا ذلك، لما قال: " الله أعلم بما لبثوا " ، وكذلك قال قتادة، وهذا قول أهل الكتاب .

والثاني: أنه مقدار ما لبثوا، قاله عبيد بن عمير، ومجاهد، والضحاك، وابن زيد، والمعنى: لبثوا هذا القدر من يوم دخلوه إلى أن بعثهم الله وأطلع الخلق عليهم .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 24-10-2022, 10:37 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,007
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الخامس

سُورَةُ الْكَهْفِ
الحلقة (360)
صــ 131 إلى صــ 138





قوله تعالى: " سنين " قال الفراء، وأبو عبيدة، والكسائي، والزجاج: التقدير: سنين ثلاثمائة . وقال ابن قتيبة: المعنى: أنها لم تكن شهورا ولا أياما، وإنما كانت سنين . وقال أبو علي الفارسي: " سنين " بدل من قوله: " ثلاث مائة " . قال الضحاك: نزلت: " ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة " فقالوا: أياما، أو شهورا، أو سنين ؟ فنزلت: " سنين " ; فلذلك قال: " سنين " ، ولم يقل: سنة . [ ص: 131 ]

قوله تعالى: " وازدادوا تسعا " يعني: تسع سنين، فاستغنى عن ذكر السنين بما تقدم من ذكرها، ثم أعلم أنه أعلم بقدر مدة لبثهم من أهل الكتاب المختلفين فيها، فقال: " قل الله أعلم بما لبثوا " . قال ابن السائب: قالت نصارى نجران: أما الثلاثمائة فقد عرفناها، وأما التسع فلا علم لنا بها، فنزل قوله تعالى: " قل الله أعلم بما لبثوا " . وقيل: إن أهل الكتاب قالوا: إن للفتية منذ دخلوا الكهف إلى يومنا هذا ثلاثمائة وتسع سنين، فرد الله تعالى عليهم ذلك، وقال: " قل الله أعلم بما لبثوا " بعد أن قبض أرواحهم إلى يومكم هذا، لا يعلم ذلك غير الله . وقيل: إنما زاد التسع ; لأنه تفاوت ما بين السنين الشمسية والسنين القمرية، حكاه الماوردي .

قوله تعالى: " أبصر به وأسمع " فيه قولان:

أحدهما: أنه على مذهب التعجب، فالمعنى: ما أسمع الله به وأبصر ; أي: هو عالم بقصة أصحاب الكهف وغيرهم، هذا قول الزجاج، وذكر أنه إجماع العلماء .

والثاني: أنه في معنى الأمر، فالمعنى: أبصر بدين الله وأسمع ; أي: أبصر بهدى الله وأسمع، فترجع الهاء إما على الهدى، وإما على الله عز وجل، ذكره ابن الأنباري .

قوله تعالى: " ما لهم من دونه " ; أي: ليس لأهل السماوات والأرض من دون الله من ناصر، " ولا يشرك في حكمه أحدا " ولا يجوز أن يحكم حاكم بغير ما حكم به، وليس لأحد أن يحكم من ذات نفسه، فيكون شريكا لله عز وجل في حكمه . وقرأ ابن عامر: ( ولا تشرك ) جزما بالتاء، والمعنى: لا تشرك أيها الإنسان . [ ص: 132 ]
واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا .

قوله تعالى: " واتل ما أوحي إليك " في هذه التلاوة قولان:

أحدهما: أنها بمعنى القراءة . والثاني: بمعنى الاتباع . فيكون المعنى على الأول: اقرإ القرآن، وعلى الثاني: اتبعه واعمل به . وقد شرحنا في ( الأنعام: 115 ) معنى لا مبدل لكلماته .

قوله تعالى: " ولن تجد من دونه ملتحدا " قال مجاهد والفراء: ملجأ . وقال الزجاج: معدلا عن أمره ونهيه . وقال غيرهم: موضعا تميل إليه في الالتجاء .

قوله تعالى: " واصبر نفسك " سبب نزولها أن المؤلفة قلوبهم جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، وذووهم، فقالوا: يا رسول الله ; لو أنك جلست في صدر المجلس ونحيت هؤلاء عنا - يعنون: سلمان، وأبا ذر، وفقراء المسلمين، وكانت عليهم جباب الصوف - جلسنا إليك وأخذنا عنك، فنزلت هذه الآية إلى قوله: " إنا أعتدنا للظالمين نارا " ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتمسهم، حتى إذا أصابهم في مؤخر المسجد يذكرون الله، قال: " الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من أمتي، معكم المحيا ومعكم الممات " ، هذا قول سلمان الفارسي . ومعنى قوله: [ ص: 133 ] " واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم " ; أي: احبسها معهم على أداء الصلوات " بالغداة والعشي " . وقد فسرنا هذه الآية في ( الأنعام: 52 ) إلى قوله تعالى: ولا تعد عيناك عنهم ; أي: لا تصرف بصرك إلى غيرهم من ذوي الغنى والشرف، وكان عليه السلام حريصا على إيمان الرؤساء ليؤمن أتباعهم، ولم يكن مريدا لزينة الدنيا قط، فأمر أن يجعل إقباله على فقراء المؤمنين .

قوله تعالى: " ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا " سبب نزولها أن أمية بن خلف الجمحي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طرد الفقراء عنه، وتقريب صناديد أهل مكة، فنزلت هذه الآية، رواه الضحاك عن ابن عباس . وفي رواية أخرى عنه أنه قال: هو عيينة وأشباهه . ومعنى " أغفلنا قلبه " : جعلناه غافلا . وقرأ أبو مجلز: ( من أغفلنا ) بفتح اللام ورفع باء القلب . " عن ذكرنا " : عن التوحيد والقرآن والإسلام، " واتبع هواه " في الشرك . " وكان أمره فرطا " فيه أربعة أقوال:

أحدها: أنه أفرط في قوله ; لأنه قال: إنا رؤوس مضر، وإن نسلم يسلم الناس بعدنا، قاله أبو صالح عن ابن عباس . والثاني: ضياعا، قاله مجاهد . وقال أبو عبيدة: سرفا وتضييعا . والثالث: ندما، حكاه ابن قتيبة عن أبي عبيدة . والرابع: كان أمره التفريط، والتفريط: تقديم العجز، قاله الزجاج .
وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا . [ ص: 134 ]

قوله تعالى: " وقل الحق من ربكم " قال الزجاج: المعنى: وقل الذي أتيتكم به: الحق من ربكم .

قوله تعالى: " فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر " فيه ثلاثة أقوال:

أحدها: فمن شاء الله فليؤمن، روي عن ابن عباس .

والثاني: أنه وعيد وإنذار وليس بأمر، قاله الزجاج .

والثالث: أن معناه: لا تنفعون الله بإيمانكم ولا تضرونه بكفركم، قاله الماوردي . وقال بعضهم: هذا إظهار للغنى لا إطلاق في الكفر .

قوله تعالى: " إنا أعتدنا " ; أي: هيأنا وأعددنا، وقد شرحناه في قوله: وأعتدت لهن متكأ [ يوسف: 31 ] . فأما الظالمون، فقال المفسرون: هم الكافرون . وأما السرادق، فقال الزجاج: السرادق: كل ما أحاط بشيء، نحو: الشقة في المضرب، أو الحائط المشتمل على الشيء . وقال ابن قتيبة: السرادق: الحجرة التي تكون حول الفسطاط . وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي، قال: السرادق فارسي معرب، وأصله بالفارسية: سرادار، وهو الدهليز، قال الفرزدق:


تمنيتهم حتى إذا ما لقيتهم تركت لهم قبل الضراب السرادقا


وفي المراد بهذا السرادق قولان:

أحدهما: أنه سرادق من نار، قاله ابن عباس . روى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لسرادق النار أربعة جدر كثف، كل جدار منها مسيرة أربعين سنة " . وفي رواية أبي صالح عن ابن عباس، قال: [ ص: 135 ] السرادق: لسان من النار، يخرج من النار فيحيط بهم حتى يفرغ من حسابهم .

والثاني: أنه دخان يحيط بالكفار يوم القيامة، وهو الظل ذو ثلاث شعب الذي ذكره الله تعالى في ( المرسلات: 30 )، قاله ابن قتيبة .

قوله تعالى: وإن يستغيثوا ; أي: مما هم فيه من العذاب وشدة العطش، " يغاثوا بماء كالمهل " وفيه سبعة أقوال:

أحدها: أنه ماء غليظ كدردي الزيت، رواه العوفي عن ابن عباس .

والثاني: أنه كل شيء أذيب حتى انماع، قاله ابن مسعود . وقال أبو عبيدة والزجاج: كل شيء أذبته من نحاس أو رصاص أو نحو ذلك، فهول مهل .

والثالث: قيح ودم أسود كعكر الزيت، قاله مجاهد .

والرابع: أنه الفضة والرصاص يذابان، روي عن مجاهد أيضا .

والخامس: أنه الذي انتهى حره، قاله سعيد بن جبير .

والسادس: [ أنه ] الصديد، ذكره ابن الأنباري . قال مغيث بن سمي: هذا الماء هو ما يسيل من عرق أهل الموقف في الآخرة وبكائهم، وما يجري منهم من دم وقيح، يسيل ذلك إلى واد في جهنم فتطبخه جهنم، فيكون أول ما يغاث به أهل النار .

والسابع: أنه الرماد الذي ينفض عن الخبزة إذا خرجت من التنور، حكاه ابن الأنباري . [ ص: 136 ]

قوله تعالى: " يشوي الوجوه " قال المفسرون: إذا قربه إليه سقطت فروة وجهه فيه، ثم ذمه فقال: " بئس الشراب وساءت النار مرتفقا وفيه خمسة أقوال:

أحدها: منزلا، قاله ابن عباس . والثاني: مجتمعا، قاله مجاهد . والثالث: متكأ، قاله أبو عبيدة، وأنشد لأبي ذؤيب:


إني أرقت فبت الليل مرتفقا كأن عيني فيها الصاب مذبوح


وذبحه: انفجاره . قال الزجاج: " مرتفقا " منصوب على التمييز، ومعنى مرتفقا: متكأ على المرفق . والرابع: ساءت مجلسا، قاله ابن قتيبة . والخامس: ساءت مطلبا للرفق ; لأن من طلب رفقا من جهتها عدمه، ذكره ابن الأنباري . ومعاني هذه الأقوال تتقارب، وأصل المرفق في اللغة: ما يرتفق به .
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق متكئين فيها على الأرائك نعم الثواب وحسنت مرتفقا .

قوله تعالى: " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات " قال الزجاج: خبر " إن " هاهنا على ثلاثة أوجه: [ ص: 137 ]

أحدها: أن يكون على إضمار " إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا " منهم، ولم يحتج إلى ذكر ( منهم ) ; لأن الله تعالى قد أعلمنا أنه محبط عمل غير المؤمنين .

والثاني: أن يكون خبر " إن " : " أولئك لهم جنات عدن " ، فيكون قوله: " إنا لا نضيع " قد فصل به بين الاسم وخبره ; لأنه يحتوي على معنى الكلام الأول ; لأن من أحسن عملا بمنزلة الذين آمنوا .

والثالث: أن يكون الخبر " إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا " بمعنى: إنا لا نضيع أجرهم .

قال المفسرون: ومعنى " لا نضيع أجر من أحسن عملا " ; أي: لا نترك أعماله تذهب ضياعا، بل نجازيه عليها بالثواب .

فأما الأساور، فقال الفراء: في الواحد منها ثلاث لغات: إسوار وسوار وسوار، فمن قال: إسوار، جمعه: أساور، ومن قال: سوار أو سوار، جمعه: أسورة، وقد يجوز أن يكون واحد أساورة وأساور: سوارا . وقال الزجاج: الأساور جمع أسورة، وأسورة جمع سوار، يقال: سوار اليد، بالكسر، وقد حكي: سوار . قال المفسرون: لما كانت الملوك تلبس في الدنيا الأساور في اليد والتيجان على الرؤوس، جعل الله ذلك لأهل الجنة . قال سعيد بن جبير: يحلى كل واحد منهم بثلاثة من الأساور، واحد من فضة، وواحد من ذهب، وواحد من لؤلؤ ويواقيت .

فأما " السندس " و " الإستبرق " ، فقال ابن قتيبة: السندس: رقيق الديباج، والإستبرق ثخينه . وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي، قال: السندس: رقيق الديباج، لم يختلف أهل اللغة في أنه معرب، قال الراجز:


وليلة من الليالي حندس لون حواشيها كلون السندس
[ ص: 138 ]

والاستبرق: غليظ الديباج، فارسي معرب، وأصله: إستفره . وقال ابن دريد: استروه، ونقل من العجمية إلى العربية، فلو حقر ( إستبرق ) أو كسر، لكان في التحقير ( أبيرق )، وفي التكسير ( أبارق ) بحذف السين والتاء جميعا .

قوله تعالى: " متكئين فيها " الاتكاء: التحامل على الشيء . قال أبو عبيدة: والأرائك: الفرش في الحجال، ولا تكون الأريكة إلا بحجلة وسرير . وقال ابن قتيبة: الأرائك: السرر في الحجال، واحدها: أريكة . وقال ثعلب: لا تكون الأريكة إلا سريرا في قبة عليه شواره ومتاعه . قال ابن قتيبة: ( الشوار ) مفتوح الشين، وهو متاع البيت . وقال الزجاج: الأرائك: الفرش في الحجال . قال: وقيل: إنها الفرش، وقيل: الأسرة، وهي على الحقيقة: الفرش كانت في حجال لهم .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 24-10-2022, 10:40 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,007
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الخامس

سُورَةُ الْكَهْفِ
الحلقة (361)
صــ 139 إلى صــ 146



واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا .

قوله تعالى: " واضرب لهم مثلا رجلين " روى عطاء عن ابن عباس، قال: هما ابنا ملك كان في بني إسرائيل توفي وتركهما، فاتخذ أحدهما الجنان والقصور، وكان الآخر زاهدا في الدنيا، فكان إذا عمل أخوه شيئا من زينة [ ص: 139 ] الدنيا، أخذ مثل ذلك فقدمه لآخرته، حتى نفد ماله، فضربهما الله عز وجل مثلا للمؤمن والكافر الذي أبطرته النعمة . وروى أبو صالح عن ابن عباس: أن المسلم لما احتاج تعرض لأخيه الكافر، فقال الكافر: أين ما ورثت عن أبيك، فقال: أنفقته في سبيل الله، فقال الكافر: لكني ابتعت به جنانا وغنما وبقرا، والله لا أعطيتك شيئا أبدا حتى تتبع ديني، ثم أخذ بيد المسلم فأدخله جنانه يطوف به فيها، ويرغبه في دينه . وقال مقاتل: اسم المؤمن: يمليخا، واسم الكافر: قرطس، وقيل: قطرس، وقيل: هذا المثل [ ضرب ] لعيينة بن حصن وأصحابه، ولسلمان وأصحابه .

قوله تعالى: " وحففناهما بنخل " الحف: الإحاطة بالشيء، ومنه قوله: حافين من حول العرش [ الزمر: 75 ]، والمعنى: جعلنا النخل مطيفا بها . وقوله: " وجعلنا بينهما زرعا " إعلام أن عمارتهما كاملة .

قوله تعالى: " كلتا الجنتين آتت أكلها " قال الفراء: لم يقل: آتتا ; لأن " كلتا " ثنتان لا تفرد واحدتهما، وأصله: ( كل )، كما تقول للثلاثة: ( كل )، فكان القضاء أن يكون للثنتين ما كان للجمع، وجاز توحيده على مذهب ( كل )، وتأنيثه جائز للتأنيث الذي ظهر في ( كلتا )، وكذلك فافعل بـ( كلا، وكلتا، وكل )، إذا أضفتهن إلى معرفة وجاء الفعل بعدهن، فوحد واجمع، فمن التوحيد قوله تعالى: وكلهم آتيه يوم القيامة فردا [ مريم: 96 ]، ومن الجمع: وكل أتوه داخرين [ النمل: 87 ]، والعرب قد تفعل أيضا في ( أي ) فيؤنثون ويذكرون، قال الله تعالى: وما تدري نفس بأي أرض تموت [ لقمان: 34 ]، ويجوز في الكلام: ( بأيت أرض )، وكذلك: [ ص: 140 ] في أي صورة ما شاء ركبك [ الانفطار: 8 ]، ويجوز في الكلام ( في أيت )، قال الشاعر:


بأي بلاء أم بأية نعمة تقدم قبلي مسلم والمهلب


قال ابن الأنباري: " كلتا " وإن كان واقعا في المعنى على اثنتين، فإن لفظه لفظ واحدة مؤنثة، فغلب اللفظ، ولم يستعمل المعنى ثقة بمعرفة المخاطب به، ومن العرب من يؤثر المعنى على اللفظ، فيقول: ( كلتا الجنتين آتتا أكلها )، ويقول آخرون: ( كلتا الجنتين آتى أكله ) ; لأن " كلتا " تفيد معنى ( كل )، قال الشاعر:


وكلتاهما قد خط لي في صحيفتي فلا الموت أهواه ولا العيش أروح


يعني: وكلهما قد خط لي، وقد قالت العرب: كلكم ذاهب، وكلكم ذاهبون، فوحدوا للفظ ( كل ) وجمعوا لتأويلها . وقال الزجاج: لم يقل: ( آتتا ) ; لأن لفظ " كلتا " لفظ واحدة، والمعنى: كل واحدة منهما آتت أكلها . " ولم تظلم " ; أي: لم تنقص، " منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا " فأعلمنا أن شربهما كان من ماء نهر، وهو من أغزر الشرب . وقال الفراء: إنما قال: " فجرنا " بالتشديد، وهو نهر واحد ; لأن النهر يمتد، فكان التفجر فيه كله . قرأ أبو رزين، وأبو مجلز، وأبو العالية، وابن يعمر، وابن أبي عبلة: ( وفجرنا ) بالتخفيف . وقرأ أبو مجلز وأبو المتوكل: ( خللهما ) . وقرأ أبو العالية وأبو عمران: ( نهرا ) بسكون الهاء .

قوله تعالى: " وكان له " يعني: للأخ الكافر، " ثمر " قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: ( وكان له ثمر )، ( وأحيط بثمره ) بضمتين . وقرأ عاصم: ( وكان لهم ثمر )، ( وأحيط بثمره ) بفتح الثاء والميم فيهما . [ ص: 141 ] وقرأ أبو عمرو: ( ثمر ) و( بثمره ) بضمة واحدة وسكون الميم . قال الفراء: ( الثمر ) بفتح الثاء والميم: المأكول، وبضمها: المال . وقال ابن الأنباري: ( الثمر ) بالفتح: الجمع الأول، و( الثمر ) بالضم: جمع الثمر، يقال: ثمر وثمر، كما يقال: أسد وأسد، ويصلح أن يكون الثمر جمع الثمار، كما يقال: حمار وحمر، وكتاب وكتب، فمن ضم قال: الثمر أعم ; لأنها تحتمل الثمار المأكولة والأموال المجموعة . قال أبو علي الفارسي: وقراءة أبي عمرو: ( ثمر ) يجوز أن تكون جمع ثمار، ككتاب وكتب، فتخفف، فيقال: كتب، ويجوز أن يكون ( ثمر ) جمع ثمرة، كبدنة وبدن، وخشبة وخشب، ويجوز أن يكون ( ثمر ) واحدا، كعنق وطنب .

وقد ذكر المفسرون في قراءة من ضم ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه المال الكثير من صنوف الأموال، قاله ابن عباس .

والثاني: أنه الذهب والفضة، قاله مجاهد .

والثالث: أنه جمع ثمرة، قال الزجاج: يقال: ثمرة، وثمار، وثمر .

فإن قيل: ما الفائدة في ذكر الثمر بعد ذكر الجنتين، وقد علم أن صاحب الجنة لا يخلو من ثمر ؟ فعنه ثلاثة أجوبة:

أحدها: أنه لم يكن أصل الأرض ملكا له، وإنما كانت له الثمار، قاله ابن عباس .

والثاني: أن ذكر الثمر دليل على كثرة ما يملك من الثمار في الجنتين وغيرهما، ذكره ابن الأنباري .

والثالث: إنا قد ذكرنا أن المراد بالثمر: الأموال من الأنواع، وذكرنا [ ص: 142 ] أنها الذهب والفضة، وذلك يخالف الثمر المأكول، قال أبو علي الفارسي: من قال: هو الذهب والورق، فإنما قيل لذلك: ( ثمر ) على التفاؤل ; لأن الثمر نماء في ذي الثمر، وكونه هاهنا بالجنى أشبه من الذهب والفضة . ويقوي ذلك: " وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها " ، والإنفاق من الورق لا من الشجر .

قوله تعالى: " فقال " يعني: الكافر، " لصاحبه " المؤمن، " وهو يحاوره " ; أي: يراجعه الكلام ويجاوبه .

وفيما تحاورا فيه قولان:

أحدهما: أنه الإيمان والكفر .

والثاني: طلب الدنيا وطلب الآخرة . فأما ( النفر ) فهم الجماعة، ومثلهم: القوم والرهط، [ ولا واحد لهذه الألفاظ من لفظها . وقال ابن فارس اللغوي ]: النفر: عدة رجال من ثلاثة إلى العشرة .

وفيمن أراد بنفره ثلاثة أقوال:

أحدها: عبيدة، قاله ابن عباس . والثاني: ولده، قاله مقاتل . والثالث: عشيرته ورهطه، قاله أبو سليمان .

قوله تعالى: " ودخل جنته " يعني: الكافر، " وهو ظالم لنفسه " بالكفر، وكان قد أخذ بيد أخيه فأدخله معه، " قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا " أنكر فناء الدنيا وفناء جنته، وأنكر البعث والجزاء بقوله: " وما أظن الساعة قائمة " ، وهذا شك [ منه ] في البعث، ثم قال: " ولئن رددت إلى ربي " ; أي: كما تزعم أنت . قال [ ابن عباس ]: يقول: إن كان البعث حقا، " لأجدن خيرا منها " قرأ أبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي: ( خيرا منها )، وكذلك هي في مصاحف أهل البصرة والكوفة . وقرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر: ( خيرا منهما ) بزيادة [ ص: 143 ] ميم على التثنية، وكذلك هي في مصاحف أهل مكة والمدينة والشام . قال أبو علي: الإفراد أولى ; لأنه أقرب إلى الجنة المفردة في قوله: " ودخل جنته " ، والتثنية لا تمتنع لتقدم ذكر الجنتين .

قوله تعالى: " منقلبا " ; أي: كما أعطاني هذا في الدنيا، سيعطيني في الآخرة أفضل منه .
قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا فعسى ربي أن يؤتيني خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا .

قوله تعالى: " قال له صاحبه " يعني: المؤمن، " وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب " يعني: خلق أباك آدم، " ثم من نطفة " يعني: ما أنشئ هو منه، فلما شك في البعث كان كافرا .

قوله تعالى: " لكنا هو الله ربي " قرأ ابن كثير، وأبو عمرو ، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وقالون عن نافع: ( لكن هو الله ربي ) بإسقاط الألف في الوصل، وإثباتها في الوقف . وقرأ نافع في رواية المسيبي بإثبات الألف وصلا ووقفا . وأثبت الألف ابن عامر في الحالين . وقرأ أبو رجاء: ( لكن ) بإسكان النون خفيفة من غير ألف في الحالين . وقرأ ابن يعمر: ( لكن ) بتشديد النون من غير ألف في الحالين . وقرأ الحسن: ( لكن أنا هو الله ربي ) [ ص: 144 ] بإسكان نون ( لكن ) وإثبات ( أنا ) . قال الفراء: فيها ثلاث لغات: لكنا، ولكن، ولكنه بالهاء، أنشدني أبو ثروان:


وترمينني بالطرف أي أنت مذنب وتقلينني لكن إياك لا أقلي


وقال أبو عبيدة: مجازه: لكن أنا هو الله ربي، ثم حذفت الألف الأولى، وأدغمت إحدى النونين في الأخرى فشددت . قال الزجاج: وهذه الألف تحذف في الوصل وتثبت في الوقف، فأما من أثبتها في الوصل كما تثبت في الوقف، فهو على لغة من يقول: أنا قمت، فأثبت الألف، قال الشاعر:


أنا سيف العشيرة فاعرفوني [ حميدا قد تذريت السناما ]


وهذه القراءة جيدة ; لأن الهمزة قد حذفت من ( أنا )، فصار إثبات الألف عوضا من الهمزة .

قوله تعالى: " ولولا إذ دخلت جنتك " ; أي: وهلا، ومعنى الكلام: التوبيخ . قال الفراء: " ما شاء الله " في موضع رفع، إن شئت رفعته بإضمار هو، يريد: [ هو ] ما شاء الله، وإن شئت أضمرت فيه: ما شاء الله كان، وجاز طرح جواب الجزاء، كما جاز في قوله: فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض [ الأنعام: 35 ]، ليس له جواب ; لأنه معروف . قال الزجاج: وقوله: " لا قوة إلا بالله " الاختيار النصب بغير تنوين على النفي، كقوله: لا ريب فيها [ الكهف: 21 ]، ويجوز " لا قوة إلا بالله " على الرفع بالابتداء، والخبر " بالله " ، المعنى: لا يقوى أحد في بدنه ولا في ملك يده إلا بالله تعالى، ولا يكون له إلا ما شاء الله . [ ص: 145 ]

قوله تعالى: " إن ترن " قرأ ابن كثير: ( إن ترني أنا ) و( يؤتيني خيرا ) بياء في الوصل والوقف . وقرأ نافع وأبو عمرو بياء في الوصل . وقرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة بحذف الياء فيهما وصلا ووقفا . " أنا أقل " وقرأ ابن أبي عبلة: ( أنا أقل ) برفع اللام . قال الفراء: ( أنا ) هاهنا عماد إن نصبت ( أقل )، واسم إذا رفعت ( أقل )، والقراءة بهما جائز .

قوله تعالى: " فعسى ربي أن يؤتيني خيرا من جنتك " ; أي: في الآخرة، " ويرسل عليها حسبانا " وفيه أربعة أقوال:

أحدها: أنه العذاب، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال قتادة والضحاك . وقال أبو صالح عن ابن عباس: نارا من السماء .

والثاني: قضاء من الله يقضيه، قاله ابن زيد .

والثالث: مرامي من السماء، وأحدها: حسبانة، قاله أبو عبيدة وابن قتيبة . قال النضر بن شميل: الحسبان: سهام يرمي بها الرجل في جوف قصبة تنزع في القوس، ثم يرمي بعشرين منها دفعة، فعلى هذا القول يكون المعنى: ويرسل عليها مرامي من عذابه، إما حجارة أو بردا، أو غيرهما مما يشاء من أنواع العذاب .

والرابع: أن الحسبان: الحساب، كقوله الشمس والقمر بحسبان [ الرحمن: 5 ] ; أي: بحساب، فيكون المعنى: ويرسل عليها عذاب حساب ما كسبت يداه، هذا قول الزجاج .

قوله تعالى: " فتصبح صعيدا زلقا أو يصبح ماؤها غورا " قال ابن قتيبة: الصعيد: الأملس المستوى، والزلق: الذي تزل عنه الأقدام، والغور: الغائر، [ ص: 146 ] فجعل المصدر صفة، يقال: ماء غور، ومياه غور، ولا يثنى ولا يجمع، ولا يؤنث، كما يقال: رجل نوم، ورجل صوم، ورجل فطر، ورجال نوم، [ ونساء نوم ]، ونساء صوم . ويقال للنساء إذا نحن: نوح، والمعنى: يذهب ماؤها غائرا في الأرض ; أي: ذاهبا فيها . " فلن تستطيع له طلبا " فلا يبقى له أثر تطلبه به، ولا تناله الأيدي ولا الأرشية . وقال ابن الأنباري: " غورا " : إذا غور، فسقط المضاف وخلفه المضاف إليه، والمراد بالطلب هاهنا: الوصول، فقام الطلب مقامه لأنه سببه . وقرأ أبو الجوزاء وأبو المتوكل: ( غؤورا ) برفع الغين والواو [ الأولى ] جميعا وواو بعدها .
وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا .

قوله تعالى: " وأحيط بثمره " ; أي: أحاط الله العذاب بثمره، وقد سبق معنى الثمر . " فأصبح يقلب كفيه " ; أي: يضرب يدا على يد، وهذا فعل النادم . " على ما أنفق فيها " ; أي: في جنته، و " في " هاهنا بمعنى ( على ) . " وهي خاوية " ; أي: خالية ساقطة، " على عروشها " والعروش: السقوف، والمعنى: أن حيطانها قائمة والسقوف قد تهدمت فصارت في قرارها، فصارت الحيطان كأنها على السقوف . " ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا فأخبر الله تعالى أنه لما سلبه ما أنعم به عليه، وحقق ما أنذره [ به ] أخوه في الدنيا، ندم على شركه حين لا تنفعه الندامة . وقيل: إنما يقول هذا في القيامة . " ولم تكن له فئة " قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وعاصم: ( ولم تكن ) بالتاء .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 24-10-2022, 10:43 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,007
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الخامس

سُورَةُ الْكَهْفِ
الحلقة (362)
صــ 147 إلى صــ 154



وقرأ حمزة، [ ص: 147 ] والكسائي، وخلف: ( ولم يكن ) بالياء . والفئة: الجماعة، " ينصرونه " ; أي: يمنعونه من عذاب الله .

قوله تعالى: " هنالك الولاية " قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وعاصم: ( الولاية ) بفتح الواو، و( لله الحق ) خفضا . وقرأ حمزة: ( الولاية ) بكسر الواو، و( لله الحق ) بكسر القاف أيضا . وقرأ أبو عمرو بفتح الواو ورفع ( الحق )، ووافقه الكسائي في رفع القاف، لكنه كسر ( الولاية ) . قال الزجاج: معنى الولاية في [ مثل ] تلك الحال: تبيين نصرة ولي الله . وقال غيره: هذا الكلام عائد إلى ما قبل قصة الرجلين، فأما من فتح واو ( الولاية ) فإنه أراد: الموالاة والنصرة، ومن كسر أراد: السلطان والملك، على ما شرحنا في آخر ( الأنفال: 72 ) . فعلى قراءة الفتح في معنى الكلام قولان:

أحدهما: أنهم يتولون الله تعالى في القيامة، ويؤمنون به، ويتبرؤون مما كانوا يعبدون، قاله ابن قتيبة .

والثاني: هنالك يتولى الله أمر الخلائق، فينصر المؤمنين ويخذل الكافرين . وعلى قراءة الكسر يكون المعنى: هنالك السلطان لله . قال أبو علي: من كسر قاف ( الحق ) جعله من وصف الله عز وجل، ومن رفعه جعله صفة للولاية .

فإن قيل: لم نعتت الولاية وهي مؤنثة بالحق وهو مصدر ؟ فعنه جوابان ذكرهما ابن الأنباري:

أحدهما: أن تأنيثها ليس حقيقيا، فحملت على معنى النصر، والتقدير: هنالك النصر لله الحق، كما حملت الصيحة على معنى الصياح في قوله: وأخذ الذين ظلموا الصيحة [ هود: 67 ] .

والثاني: أن الحق مصدر يستوي في لفظه المذكر والمؤنث، والاثنان [ ص: 148 ] والجمع، فيقال: قولك حق، وكلمتك حق، وأقوالكم حق، ويجوز ارتفاع الحق على المدح للولاية، وعلى المدح لله تعالى بإضمار ( هو ) .

قوله تعالى: " هو خير ثوابا " ; أي: هو أفضل ثوابا ممن يرجى ثوابه، وهذا على تقدير أنه لو كان غيره يثيب لكان ثوابه أفضل .

قوله تعالى: " وخير عقبا " قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وابن عامر، والكسائي: ( عقبا ) مضمومة القاف . وقرأ عاصم وحمزة: ( عقبا ) ساكنة القاف . قال أبو علي: ما كان [ على ] ( فعل ) جاز تخفيفه، كالعنق والطنب . قال أبو عبيدة: العقب، والعقب، والعقبى، والعاقبة، بمعنى، وهي الآخرة، والمعنى: عاقبة طاعة الله خير من عاقبة طاعة غيره .
واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا .

قوله تعالى: " واضرب لهم مثل الحياة الدنيا " ; أي: في سرعة نفادها وذهابها، وقيل: في تصرف أحوالها، إذ مع كل فرحة ترحة، وهذا مفسر في سورة ( يونس: 24 ) إلى قوله: فأصبح هشيما . قال الفراء: الهشيم: كل شيء كان رطبا فيبس . وقال الزجاج: الهشيم: النبات الجاف . وقال ابن قتيبة: الهشيم من النبت: المتفتت، وأصله من هشمت الشيء: إذا كسرته، ومنه سمي الرجل هاشما . و " تذروه الرياح " تنسفه . وقرأ أبي، وابن عباس، وابن أبي عبلة: ( تذريه ) برفع التاء وكسر الراء بعدها ياء ساكنة وهاء مكسورة . وقرأ ابن مسعود كذلك، إلا أنه فتح التاء . والمقتدر: مفتعل، من قدرت . قال المفسرون: " وكان الله على كل شيء " من الإنشاء والإفناء، " مقتدرا " . [ ص: 149 ]
المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا .

قوله تعالى: " المال والبنون زينة الحياة الدنيا " هذا رد على المشركين الذين كانوا يفتخرون بالأموال والأولاد، فأخبر الله تعالى أن ذلك مما يتزين به في الدنيا، [ لا ] مما ينفع في الآخرة .

قوله تعالى: " والباقيات الصالحات " فيها خمسة أقوال:

أحدها: أنها " سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر " ; روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن عجزتم عن الليل أن تكابدوه، وعن العدو أن تجاهدوه، فلا تعجزوا عن قول: سبحان الله، والحمد الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فقولوها فإنهن الباقيات الصالحات " ، وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء، وبه قال مجاهد، وعطاء، وعكرمة، والضحاك . وسئل عثمان بن عفان رضي الله عنه عن الباقيات الصالحات، فقال هذه الكلمات، وزاد فيها: ( ولا حول ولا قوة إلا بالله ) . وقال سعيد بن المسيب ومحمد بن كعب القرظي مثله سواء .

والثاني: أنها " لا إله إلا الله، والله أكبر، والحمد لله، ولا قوة إلا بالله " ، رواه علي بن أبي طالب عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

والثالث: أنها الصلوات الخمس، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال ابن مسعود، ومسروق، وإبراهيم . [ ص: 150 ]

والرابع: الكلام الطيب، رواه العوفي عن ابن عباس .

والخامس: هي جميع أعمال الحسنات، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال قتادة وابن زيد .

قوله تعالى: " خير عند ربك ثوابا " ; أي: أفضل جزاء، " وخير أملا " ; أي: خير مما تؤملون ; لأن آمالكم كواذب، وهذا أمل لا يكذب .
ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا .

قوله تعالى: " ويوم نسير الجبال " قرأ ابن كثير، وأبو عمرو ، وابن عامر: ( ويوم تسير ) بالتاء ( الجبال ) رفعا . وقرأ نافع، وعاصم، وحمزة، والكسائي: ( نسير ) بالنون ( الجبال ) نصبا . وقرأ ابن محيصن: ( ويوم تسير ) بفتح التاء وكسر السين وتسكين الياء ( الجبال ) بالرفع . قال الزجاج: " ويوم " منصوب على معنى اذكر، ويجوز أن يكون منصوبا على: والباقيات الصالحات [ ص: 151 ] خير يوم تسير الجبال .

قال ابن عباس: تسير الجبال عن وجه الأرض، كما يسير السحاب في الدنيا، ثم تكسر فتكون في الأرض كما خرجت منها .

قوله تعالى: " وترى الأرض بارزة " وقرأ عمرو بن العاص، وابن السميفع، وأبو العالية: ( وترى الأرض بارزة ) برفع التاء والضاد . وقرأ أبو رجاء العطاردي كذلك، إلا أنه فتح ضاد ( الأرض ) .

وفي معنى " بارزة " قولان: أحدهما: [ ظاهرة ] فليس عليها شيء من جبل، أو شجر، أو بناء، قاله الأكثرون . والثاني: بارزا أهلها من بطنها، قاله الفراء .

قوله تعالى: " وحشرناهم " يعني: المؤمنين والكافرين، " فلم نغادر " قال ابن قتيبة: أي: فلم نخلف، يقال: غادرت كذا: إذا خلفته، ومنه سمي الغدير ; لأنه ماء تخلفه السيول . وروى أبان: ( فلم تغادر ) بالتاء .

قوله تعالى: " وعرضوا على ربك صفا " إن قيل: هذا أمر مستقبل، فكيف عبر [ عنه ] بالماضي ؟ فالجواب: أن ما قد علم الله وقوعه يجري مجرى المعاين، كقوله: ونادى أصحاب الجنة [ الأعراف: 43 ] .

وفي معنى قوله: " صفا " أربعة أقوال:

أحدها: أنه بمعنى جميعا، كقوله: ثم ائتوا صفا [ طه: 64 ]، قاله مقاتل .

والثاني: أن المعنى: وعرضوا على ربك مصفوفين، هذا مذهب البصريين .

والثالث: أن المعنى: وعرضوا على ربك صفوفا، فناب الواحد عن الجميع، كقوله: ثم نخرجكم طفلا [ الحج: 5 ] .

والرابع: أنه لم يغب عن الله منهم أحد، فكانوا كالصف الذي تسهل الإحاطة بجملته، ذكر هذه الأقوال ابن الأنباري . وقد قيل: إن كل أمة وزمرة صف . [ ص: 152 ]

قوله تعالى: " لقد جئتمونا " فيه إضمار ( فيقال لهم ) .

وفي المخاطبين بهذا قولان: أحدهما: أنهم الكل . والثاني: الكفار، فيكون اللفظ عاما والمعنى خاصا . وقوله: " كما خلقناكم أول مرة " مفسر في ( الأنعام: 94 ) . وقوله: " بل زعمتم " خطاب الكفار خاصة، والمعنى: زعمتم في الدنيا " ألن نجعل لكم موعدا " للبعث والجزاء .

قوله تعالى: " ووضع الكتاب " فيه ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه الكتاب الذي سطر فيه ما تعمل الخلائق قبل وجودهم، قاله ابن عباس . والثاني: أنه الحساب، قاله ابن السائب . والثالث: كتاب الأعمال، قاله مقاتل . وقال ابن جرير: وضع كتاب أعمال العباد في أيديهم، فعلى هذا الكتاب اسم جنس .

قوله تعالى: " فترى المجرمين " قال مجاهد: [ هم ] الكافرون . وذكر بعض أهل العلم أن كل مجرم ذكر في القرآن، فالمراد به: الكافر .

قوله تعالى: " مشفقين " ; أي: خائفين " مما فيه " من الأعمال السيئة، " ويقولون يا ويلتنا " هذا قول كل واقع في هلكة . وقد شرحنا هذا المعنى في قوله: يا حسرتنا [ الأنعام: 31 ] .

قوله تعالى: " لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها " هذا على ظاهره في صغير الأمور وكبيرها، وقد روى عكرمة عن ابن عباس، قال: الصغيرة: التبسم، والكبيرة: القهقهة . وقد يتوهم أن المراد بذلك صغائر الذنوب وكبائرها، وليس كذلك ; إذ ليس الضحك والتبسم مجردهما من الذنوب، وإنما المراد أن التبسم من صغار الأفعال، والضحك فعل كبير، وقد روى الضحاك عن ابن عباس، قال: الصغيرة: التبسم والاستهزاء بالمؤمنين، والكبيرة: القهقهة [ ص: 153 ] بذلك ; فعلى هذا يكون ذنبا من الذنوب لمقصود فاعله، لا لنفسه . ومعنى " أحصاها " : عدها وأثبتها، والمعنى: وجدت محصاة . " ووجدوا ما عملوا حاضرا " ; أي: مكتوبا مثبتا في الكتاب . وقيل: رأوا جزاءه حاضرا . وقال أبو سليمان: الصحيح عند المحققين أن صغائر المؤمنين الذين وعدوا العفو عنها إذا اجتنبوا الكبائر، إنما يعفى عنها في الآخرة بعد أن يراها صاحبها .

قوله تعالى: " ولا يظلم ربك أحدا " قال أبو سليمان: لا تنقص حسنات المؤمن ولا يزاد في سيئات الكافر . وقيل: إن كان للكافر فعل خير، كعتق رقبة وصدقة، خفف عنه به من عذابه، وإن ظلمه مسلم أخذ الله من المسلم فصار الحق لله .

ثم إن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يذكر هؤلاء المتكبرين عن مجالسة الفقراء قصة إبليس وما أورثه الكبر، فقال: " وإذ قلنا " ; أي: اذكر ذلك .

وفي قوله: " كان من الجن " قولان:

أحدهما: أنه من الجن حقيقة لهذا النص، واحتج قائلوا هذا بأن له ذرية - وليس للملائكة ذرية - وأنه كفر، والملائكة رسل الله، فهم معصومون من الكفر .

والثاني: أنه كان من الملائكة، وإنما قيل: " من الجن " ; لأنه كان من قبيل من الملائكة، يقال لهم: الجن، قاله ابن عباس، وقد شرحنا هذا في ( البقرة: 34 ) .

قوله تعالى: " ففسق عن أمر ربه " فيه ثلاثة أقوال:

أحدها: خرج عن طاعة ربه، تقول العرب: فسقت الرطبة من قشرها: إذا خرجت منه، قاله الفراء وابن قتيبة . [ ص: 154 ]

والثاني: أتاه الفسق لما أمر فعصى، فكان سبب فسقه عن أمر ربه . قال الزجاج: وهذا مذهب الخليل وسيبويه، وهو الحق عندنا .

والثالث: ففسق عن رد أمر ربه، حكاه الزجاج عن قطرب .

قوله تعالى: " أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني " ; [ أي ]: توالونهم بالاستجابة لهم . قال الحسن وقتادة: ذريته: أولاده، وهم يتوالدون كما يتوالد بنو آدم . قال مجاهد: ذريته: الشياطين، ومن ذريته زلنبور صاحب راية إبليس بكل سوق وثبر، وهو صاحب المصائب، والأعور صاحب الرياء، ومسوط صاحب الأخبار، يأتي بها فيطرحها على أفواه الناس فلا يوجد لها أصل، وداسم صاحب الإنسان إذا دخل بيته ولم يسلم ولم يذكر اسم الله، فهو يأكل معه إذا أكل . قال بعض أهل العلم: إذا كانت خطيئة الإنسان في كبر فلا ترجه، وإن كانت في شهوة فارجه، فإن معصية إبليس كانت بالكبر، ومعصية آدم بالشهوة .

قوله تعالى: " بئس للظالمين بدلا " فيه ثلاثة أقوال:

أحدها: بئس الاتخاذ للظالمين بدلا . والثاني: بئس الشيطان . والثالث: بئس الشيطان والذرية، ذكرهن ابن الأنباري .

قوله تعالى: " ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض " وقرأ أبو جعفر وشيبة: ( ما أشهدناهم ) بالنون والألف .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 24-10-2022, 10:46 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,007
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الخامس

سُورَةُ الْكَهْفِ
الحلقة (363)
صــ 155 إلى صــ 162


وفي المشار إليهم أربعة أقوال:

أحدها: إبليس وذريته . والثاني: الملائكة . والثالث: جميع الكفار . والرابع: جميع الخلق، والمعنى: إني لم أشاورهم في خلقهن، وفي هذا بيان للغناء عن الأعوان وإظهار كمال القدرة . [ ص: 155 ]

قوله تعالى: " ولا خلق أنفسهم " ; أي: ما أشهدت بعضهم خلق بعض، ولا استعنت ببعضهم على إيجاد بعض .

قوله تعالى: " وما كنت متخذ المضلين " [ يعني: الشياطين ]، " عضدا " ; أي: أنصارا وأعوانا . والعضد يستعمل كثيرا في معنى العون ; لأنه قوام [ اليد ] . قال الزجاج: والاعتضاد: التقوي وطلب المعونة، يقال: اعتضدت بفلان ; أي: استعنت به .

وفي ما نفى اتخاذهم عضدا فيه قولان:

أحدهما: أنه الولايات، والمعنى: ما كنت لأولي المضلين، قاله مجاهد .

والثاني: أنه خلق السماوات والأرض، قاله مقاتل . وقرأ الحسن، والجحدري، وأبو جعفر: ( وما كنت ) بفتح التاء .
ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقا ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا .

قوله تعالى: " ويوم يقول " وقرأ حمزة: ( نقول ) بالنون، يعني: يوم القيامة، " نادوا شركائي " أضاف الشركاء إليه على زعمهم، والمراد: نادوهم لدفع العذاب عنكم أو الشفاعة لكم، " الذين زعمتم " ; أي: زعمتموهم شركاء، " فدعوهم فلم يستجيبوا لهم " ; أي: لم يجيبوهم، " وجعلنا بينهم " في المشار إليهم قولان:

أحدهما: أنهم المشركون والشركاء . والثاني: أهل الهدى وأهل الضلالة .

وفي معنى " موبقا " ستة أقوال:

أحدها: مهلكا، قاله ابن عباس، وقتادة، والضحاك . وقال ابن قتيبة: [ ص: 156 ] مهلكا بينهم وبين آلهتهم في جهنم، ومنه يقال: أوبقته ذنوبه ; [ أي: أهلكته ] . قال الزجاج: المعنى: جعلنا بينهم من العذاب ما يوبقهم ; أي: يهلكهم، فالموبق: المهلك، يقال: وبق، ييبق، ويابق، وبقا، ووبق، يبق، وبوقا، فهو وابق . وقال الفراء: جعلنا تواصلهم في الدنيا موبقا ; أي: مهلكا لهم في الآخرة، فالبين على هذا القول بمعنى التواصل، كقوله تعالى: لقد تقطع بينكم [ الأنعام: 94 ] على قراءة من ضم النون .

والثاني: أن الموبق: واد عميق يفرق به بين أهل الضلالة وأهل الهدى، قاله عبد الله بن عمرو .

والثالث: أنه واد في جهنم، قاله أنس بن مالك ومجاهد .

والرابع: أن معنى الموبق: العدواة، قاله الحسن .

والخامس: أنه المحبس، قاله الربيع بن أنس .

والسادس: أنه الموعد، قاله أبو عبيدة .

قال ابن الأنباري: إن قيل: لم قال: " موبقا " ، ولم يقل: ( موبقا ) بضم الميم ; إذ كان معناه: عذابا موبقا ؟

فالجواب: أنه اسم موضوع لمحبس في النار، والأسماء لا تؤخذ بالقياس، فيعلم أن ( موبقا ) مفعل، من أوبقه الله: إذا أهلكه، فتنفتح الميم كما تنفتح في ( موعد، ومولد، ومحتد )، إذا سميت الشخوص بهن .

قوله تعالى: " ورأى المجرمون النار " ; أي: عاينوها وهي تتغيظ حنقا عليهم، والمراد بالمجرمين: الكفار . " فظنوا " ; أي: أيقنوا " أنهم مواقعوها " ; أي: [ ص: 157 ] داخلوها، ومعنى المواقعة: ملابسة الشيء بشدة . " ولم يجدوا عنها مصرفا " ; أي: معدلا، والمصرف: الموضع الذي يصرف إليه، وذلك أنها أحاطت بهم من كل جانب، فلم يقدروا على الهرب .
ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا .

قوله تعالى: " ولقد صرفنا في هذا القرآن " قد فسرناه في ( بني إسرائيل: 41 ) .

قوله تعالى: " وكان الإنسان أكثر شيء جدلا " فيمن نزلت قولان:

أحدهما: أنه النضر بن الحارث، وكان جداله في القرآن، قاله ابن عباس .

والثاني: أبي بن خلف، وكان جداله في البعث حين أتى بعظم قد رم، فقال: أيقدر الله على إعادة هذا ؟ قاله ابن السائب . قال الزجاج: كل ما يعقل من الملائكة والجن يجادل، والإنسان أكثر هذه الأشياء جدلا .

قوله تعالى: " وما منع الناس أن يؤمنوا " قال المفسرون: يعني: أهل مكة، " إذ جاءهم الهدى " وهو محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن والإسلام، " إلا أن تأتيهم سنة الأولين " وهو أنهم إذا لم يؤمنوا عذبوا .

وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال:

أحدها: ما منعهم من الإيمان إلا طلب أن تأتيهم سنة الأولين، قاله الزجاج .

والثاني: وما منع الشيطان الناس أن يؤمنوا إلا لأن تأتيهم سنة الأولين ; أي: منعهم رشدهم لكي يقع العذاب بهم، ذكره ابن الأنباري . [ ص: 158 ]

والثالث: ما منعهم إلا أني قد قدرت عليهم العذاب . وهذه الآية فيمن قتل ببدر وأحد من المشركين، قاله الواحدي .

قوله تعالى: " أو يأتيهم العذاب " ذكر ابن الأنباري في " أو " هاهنا ثلاثة أقوال:

أحدها: أنها بمعنى الواو .

والثاني: أنها لوقوع أحد الشيئين ; إذ لا فائدة في بيانه .

والثالث: أنها دخلت للتبعيض ; أي: أن بعضهم يقع به هذا، وهذه الأقوال الثلاثة قد أسلفنا بيانها في قوله عز وجل: أو كصيب من السماء [ البقرة: 19 ] .

قوله تعالى: " قبلا " قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وابن عامر: ( قبلا ) بكسر القاف وفتح الباء . وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: ( قبلا ) بضم القاف والباء . وقد بينا علة القراءتين في ( الأنعام: 111) . وقرأ أبي بن كعب وابن مسعود: ( قبلا ) بفتح القاف من غير ياء، قال ابن قتيبة: أراد: استئنافا .

فإن قيل: إذا كان المراد بسنة الأولين: العذاب، فما فائدة التكرار بقوله: " أو يأتيهم العذاب " ؟

فالجواب: أن سنة الأولين أفادت عذابا مبهما يمكن أن يتراخى وقته وتختلف أنواعه، وإتيان العذاب قبلا أفاد القتل يوم بدر . قال مقاتل: " سنة الأولين " : عذاب الأمم السالفة، " أو يأتيهم العذاب قبلا " ; أي: عيانا قتلا بالسيف يوم بدر .
وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي [ ص: 159 ] وما أنذروا هزوا ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا .

قوله تعالى: " ويجادل الذين كفروا بالباطل " قال ابن عباس: يريد: المستهزئين والمقتسمين وأتباعهم، وجدالهم بالباطل أنهم ألزموه أن يأتي بالآيات على أهوائهم ; " ليدحضوا به الحق " ; أي: ليبطلوا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل: جدالهم: قولهم: أإذا كنا عظاما ورفاتا [ الإسراء: 49 ]، أإذا ضللنا في الأرض [ السجدة: 10 ]، ونحو ذلك ليبطلوا به ما جاء في القرآن من ذكر البعث والجزاء . قال أبو عبيدة: ومعنى " ليدحضوا " : ليزيلوا ويذهبوا، يقال: مكان دحض ; أي: مزل لا يثبت فيه قدم ولا حافر .

قوله تعالى: " واتخذوا آياتي " يعني: القرآن . " وما أنذروا " ; أي: خوفوا به من النار والقيامة، " هزوا " ; أي: مهزوءا به .

قوله تعالى: " ومن أظلم " قد شرحنا هذه الكلمة في ( البقرة: 114 ) . و " ذكر " بمعنى: وعظ . وآيات ربه: القرآن، وإعراضه عنها: تهاونه بها . " ونسي ما قدمت يداه " ; أي: ما سلف من ذنوبه، وقد شرحنا ما بعد هذا في ( الأنعام: 21 ) إلى قوله: وإن تدعهم إلى الهدى وهو الإيمان والقرآن، " فلن يهتدوا " هذا إخبار عن علمه فيهم .

قوله تعالى: " وربك الغفور ذو الرحمة " إذ لم يعاجلهم بالعقوبة . " بل لهم [ ص: 160 ] موعد " للبعث والجزاء، " لن يجدوا من دونه موئلا " قال الفراء: الموئل: المنجى، وهو الملجأ في المعنى ; لأن المنجى ملجأ، والعرب تقول: إنه ليوائل إلى موضعه ; أي: يذهب إلى موضعه، قال الشاعر:


لا واءلت نفسك خليتها للعامريين ولم تكلم


يريد: لا نجت نفسك، وأنشد أبو عبيدة للأعشى:


وقد أخالس رب البيت غفلته وقد يحاذر مني ثم ما يئل


أي: ما ينجو . وقال ابن قتيبة: الموئل: الملجأ، يقال: وآل فلان إلى كذا: إذا لجأ .

فإن قيل: ظاهر هذه الآية يقتضي أن تأخير العذاب عن الكفار برحمة الله، ومعلوم أنه لا نصيب لهم في رحمته ؟

فعنه جوابان: أحدهما: [ أن ] الرحمة هاهنا بمعنى النعمة، ونعمة الله لا يخلو منها مؤمن ولا كافر . فأما الرحمة التي هي الغفران والرضى، فليس للكافر فيها نصيب . والثاني: أن رحمة الله محظورة على الكفار يوم القيامة، فأما في الدنيا فإنهم ينالون منها العافية والرزق .

قوله تعالى: " وتلك القرى " يريد: التي قصصنا عليك ذكرها، والمراد: أهلها ; ولذلك قال: " أهلكناهم " والمراد: قوم هود وصالح، ولوط وشعيب . قال الفراء: قوله: " لما ظلموا " معناه: بعدما ظلموا . [ ص: 161 ]

قوله تعالى: " وجعلنا لمهلكهم " قرأ الأكثرون بضم الميم وفتح اللام . قال الزجاج: وفيه وجهان:

أحدهما: أن يكون مصدرا، فيكون المعنى: وجعلنا لإهلاكهم .

والثاني: أن يكون وقتا، فالمعنى: لوقت هلاكهم .

وقرأ أبو بكر عن عاصم بفتح الميم واللام، وهو مصدر مثل الهلاك . وقرأ حفص عن عاصم بفتح الميم وكسر اللام، ومعناه: لوقت إهلاكهم .
وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما .

قوله تعالى: " وإذ قال موسى لفتاه . . . " الآية، سبب خروج موسى عليه السلام في هذا السفر، ما روى ابن عباس، عن أبي بن كعب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: " إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل، فسئل: أي الناس أعلم ؟ فقال: أنا، فعتب الله عز وجل عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه أن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك ; قال موسى: يا رب فكيف لي به ؟ قال: تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل، فحيثما فقدت الحوت فهو ثم . فانطلق [ ص: 162 ] معه فتاه يوشع بن نون، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما، واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه، فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق . فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كان من الغد، قال موسى لفتاه: آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا، قال: ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به، فقال فتاه: "أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة . . . " إلى قوله: "عجبا،" قال: فكان للحوت سربا، ولموسى ولفتاه عجبا، فقال موسى: ذلك ما كنا نبغي، "فارتدا على آثارهما قصصا" . قال: رجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا هو مسجى بثوب، فسلم عليه موسى، فقال الخضر: وأنى بأرضك السلام ! من أنت ؟ قال: أنا موسى . قال: موسى بني إسرائيل ؟ قال: نعم، أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا . قال: إنك لن تستطيع معي صبرا يا موسى، إني على علم من علم الله لا تعلمه علمنيه، وأنت على علم من علم الله علمكه لا أعلمه، فقال موسى: ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا، فقال له الخضر: فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا ; فانطلقا يمشيان على الساحل، فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدوم، فقال له موسى: قوم قد حملونا بغير نول عمدت


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 516.56 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 510.68 كيلو بايت... تم توفير 5.88 كيلو بايت...بمعدل (1.14%)]