فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام - الصفحة 36 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         الله أولى من الناس بتقواك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 23 )           »          السابقون الأولون (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          حلاوة الطاعة وشؤم المعصية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          الأُخُوَّةِ والتَّراحُمِ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          سبيل القلب إلى ربيع القرآن (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          ما الفرق بين التوبة والاستغفار؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          كيف نفهم الأثر: اعتزل ما يؤذيك! عبد الله بلقاسم الشهري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          الشيطان وتقنين المعاصي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          20 مهارة تحتاجها لتبقى من الأوائل في سوق العمل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          لو قلناها بلطف… لما تنازعنا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 06-02-2025, 08:08 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,714
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ التَّوْبَةِ
المجلد التاسع
الحلقة( 353)

من صــ 491 الى صـ 500


وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في افتتاح الصلاة: {اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب اللهم نقني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والبرد والماء البارد} " وفي الصحيح أنه كان يقول في دعاء الاستفتاح: " {اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت أنت ربي وأنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعا إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت} " وفي الصحيح أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: " {اللهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله علانيته وسره أوله وآخره} " وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: " {اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني اللهم اغفر لي هزلي وجدي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي. اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت} ". ومثل هذا كثير في الكتاب والسنة. وقد قال الله تعالى: {واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات} فتوبة المؤمنين واستغفارهم هو من أعظم حسناتهم وأكبر طاعاتهم وأجل عباداتهم التي ينالون بها أجل الثواب ويندفع بها عنهم ما يدفعه من العقاب. فإذا قال القائل:
أي حاجة بالأنبياء إلى العبادات والطاعات؟ كان جاهلا؛ لأنهم إنما نالوا ما نالوه بعبادتهم وطاعتهم فكيف يقال: إنهم لا يحتاجون إليها فهي أفضل عبادتهم وطاعتهم. وإذا قال القائل: فالتوبة لا تكون إلا عن ذنب والاستغفار كذلك قيل له: الذنب الذي يضر صاحبه هو ما لم يحصل منه توبة فأما ما حصل منه توبة فقد يكون صاحبه بعد التوبة أفضل منه قبل الخطيئة كما قال بعض السلف: كان داود بعد التوبة أحسن منه حالا قبل الخطيئة ولو كانت التوبة من الكفر والكبائر؛ فإن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار هم خيار الخليقة بعد الأنبياء وإنما صاروا كذلك بتوبتهم مما كانوا عليه من الكفر والذنوب ولم يكن ما تقدم قبل التوبة نقصا ولا عيبا؛ بل لما تابوا من ذلك وعملوا الصالحات كانوا أعظم إيمانا وأقوى عبادة وطاعة ممن جاء بعدهم؛ فلم يعرف الجاهلية كما عرفوها.
ولهذا قال عمر بن الخطاب: إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية. وقد قال الله تعالى: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما} {يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا} {إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما} وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم " {أن الله يحاسب عبده يوم القيامة فيعرض عليه صغار الذنوب ويخبئ عنه كبارها فيقول: فعلت يوم كذا كذا وكذا؟ فيقول: نعم يا رب وهو مشفق من كبارها أن تظهر فيقول إني قد غفرتها لك وأبدلتك مكان كل سيئة حسنة فهنالك يقول رب إن لي سيئات ما أراها بعد} "
فالعبد المؤمن إذا تاب وبدل الله سيئاته حسنات انقلب ما كان يضره من السيئات بسبب توبته حسنات ينفعه الله بها فلم تبق الذنوب بعد التوبة مضرة له بل كانت توبته منها من أنفع الأمور له والاعتبار بكمال النهاية لا بنقص البداية فمن نسي القرآن ثم حفظه خير ممن حفظه الأول لم يضره النسيان ومن مرض ثم صح وقوي لم يضره المرض العارض.
والله تعالى يبتلي عبده المؤمن بما يتوب منه؛ ليحصل له بذلك من تكميل العبودية والتضرع والخشوع لله والإنابة إليه وكمال الحذر في المستقبل والاجتهاد في العبادة ما لم يحصل بدون التوبة كمن ذاق الجوع والعطش والمرض والفقر والخوف ثم ذاق الشبع والري والعافية والغنى والأمن فإنه يحصل له من المحبة لذلك وحلاوته ولذته والرغبة فيه وشكر نعمة الله عليه والحذر أن يقع فيما حصل أولا ما لم يحصل بدون ذلك.
وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع. وينبغي أن يعرف أن التوبة لا بد منها لكل مؤمن ولا يكمل أحد ويحصل له كمال القرب من الله ويزول عنه كل ما يكره إلا بها.
ومحمد صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق وأكرمهم على الله وهو المقدم على جميع الخلق في أنواع الطاعات؛ فهو أفضل المحبين لله وأفضل المتوكلين على الله وأفضل العابدين له وأفضل العارفين به وأفضل التائبين إليه وتوبته أكمل من توبة غيره؛ ولهذا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. وبهذه المغفرة نال الشفاعة يوم القيامة كما ثبت في الصحيح: " {أن الناس يوم القيامة يطلبون الشفاعة من آدم فيقول: إني نهيت عن الأكل من الشجرة فأكلت منها نفسي نفسي نفسي. ويطلبونها من نوح فيقول: إني دعوت على أهل الأرض دعوة لم أومر بها. نفسي نفسي نفسي. ويطلبونها من الخليل ثم من موسى ثم من المسيح فيقول: اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
قال: فيأتوني فأنطلق فإذا رأيت ربي خررت له ساجدا فأحمد ربي بمحامد يفتحها علي لا أحسنها الآن فيقول: أي محمد ارفع رأسك وقل تسمع وسل تعط واشفع تشفع فأقول: أي رب أمتي فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة} ". فالمسيح - صلوات الله عليه وسلامه - دلهم على محمد صلى الله عليه وسلم وأخبر بكمال عبوديته لله وكمال مغفرة الله له إذ ليس بين المخلوفين والخالق نسب إلا محض العبودية والافتقار من العبد ومحض الجود والإحسان من الرب عز وجل.
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل} " وثبت عنه في الصحيح أنه كان يقول: " {يا أيها الناس توبوا إلى ربكم فوالذي نفسي بيده إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة} " وثبت عنه في الصحيح أنه قال: " {إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة} " فهو صلى الله عليه وسلم لكمال عبوديته لله. وكمال محبته له وافتقاره إليه وكمال توبته واستغفاره: صار أفضل الخلق عند الله فإن الخير كله من الله وليس للمخلوق من نفسه شيء بل هو فقير من كل وجه والله غني عنه من كل وجه محسن إليه من كل وجه فكلما ازداد العبد تواضعا وعبودية ازداد إلى الله قربا ورفعة؛ ومن ذلك توبته واستغفاره. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون} " رواه ابن ماجه والترمذي.
(ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين (119)
[فصل البرهان الخامس والثلاثون " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين " والجواب عليه]
فصل
قال الرافضي: " البرهان الخامس والثلاثون: قوله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} [سورة التوبة: 119] أوجب الله علينا الكون مع المعلوم منهم الصدق، وليس إلا المعصوم لتجويز الكذب في غيره، فيكون هو عليا ; إذ لا معصوم من الأربعة سواه. وفي حديث أبي نعيم عن ابن عباس أنها نزلت في علي ".
والجواب من وجوه: أحدها: أن الصديق مبالغة في الصادق، فكل صديق صادق وليس كل صادق صديقا. وأبو بكر - رضي الله عنه - قد ثبت أنه صديق بالأدلة الكثيرة، فيجب أن تتناوله الآية قطعا وأن تكون معه، بل تناولها له أولى من تناولها لغيره من الصحابة. وإذا كنا معه مقرين بخلافته، امتنع أن نقر بأن عليا كان هو الإمام دونه، فالآية تدل على نقيض مطلوبهم.

الثاني: أن يقال: علي إما أن يكون صديقا وإما أن لا يكون، فإن لم يكن صديقا فأبو بكر الصديق، فالكون مع الصادق الصديق أولى من الكون مع الصادق الذي ليس بصديق. وإن كان صديقا فعمر وعثمان أيضا صديقون، وحينئذ فإذا كان الأربعة صديقين، لم يكن علي مختصا
بذلك، ولا بكونه صادقا، فلا يتعين الكون مع واحد دون الثلاثة. بل لو قدرنا التعارض لكان الثلاثة أولى من الواحد، فإنهم أكثر عددا، لا سيما وهم أكمل في الصدق.
الثالث: أن يقال: هذه الآية نزلت في قصة كعب بن مالك لما تخلف عن غزوة تبوك، وصدق النبي - صلى الله عليه وسلم - في أنه لم يكن له عذر، وتاب الله عليه ببركة الصدق، وكان جماعة أشاروا عليه بأن يعتذر ويكذب، كما اعتذر غيره من المنافقين وكذبوا. وهذا ثابت في الصحاح والمساند وكتب التفسير والسير، والناس متفقون عليه.
ومعلوم أنه لم يكن لعلي اختصاص في هذه القصة، بل قال كعب بن مالك: " فقام إلي طلحة يهرول فعانقني، والله ما قام إلي من المهاجرين غيره " فكان كعب لا ينساها لطلحة. وإذا كان كذلك بطل حملها على علي وحده.
الوجه الرابع: أن هذه الآية نزلت في هذه القصة، ولم يكن أحد يقال: إنه معصوم، لا علي ولا غيره. فعلم أن الله أراد {مع الصادقين} ولم يشترط كونه معصوما.
الخامس: أنه قال: {مع الصادقين} وهذه صيغة جمع، وعلي واحد، فلا يكون هو المراد وحده.

السادس: أن قوله تعالى: {مع الصادقين} إما أن يراد: كونوا معهم في
الصدق وتوابعه، فاصدقوا كما يصدق الصادقون، ولا تكونوا مع الكاذبين. كما في قوله: {واركعوا مع الراكعين} [سورة البقرة: 43]، وقوله: {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين} [سورة النساء: 69]، وكما في قوله: {فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما} [سورة النساء: 146].
وإما أن يراد به: كونوا مع الصادقين في كل شيء، وإن لم يتعلق بالصدق.
والثاني باطل فإن الإنسان لا يجب عليه أن يكون مع الصادقين في المباحات، كالأكل والشرب واللباس ونحو ذلك. فإذا كان الأول هو الصحيح، فليس في هذا أمر بالكون مع شخص معين، بل المقصود: اصدقوا ولا تكذبوا.

كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: " «عليكم بالصدق ; فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا. وإياك والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا» ".
وهذا كما يقال: كن مع المؤمنين، كن مع الأبرار. أي ادخل معهم في هذا الوصف وجامعهم عليه، ليس المراد: أنك مأمور بطاعتهم في كل شيء.
الوجه السابع: أن يقال: إذا أريد: كونوا مع الصادقين مطلقا، فذلك لأن الصدق مستلزم لسائر البر، كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر» " الحديث. وحينئذ فهذا وصف ثابت لكل من اتصف به.

الثامن: أن يقال: إن الله أمرنا أن نكون مع الصادقين، ولم يقل: مع المعلوم فيهم الصدق، كما أنه قال: {وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله} [سورة الطلاق: 2] لم يقل: من علمتم أنهم ذوو عدل منكم. وكما قال: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} [سورة النساء: 58] لم يقل: إلى من علمتم أنهم أهلها. وكما قال: {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} [سورة النساء: 58] لم يقل: بما علمتم أنه عدل، لكن علق الحكم بالوصف.
ونحن علينا الاجتهاد بحسب الإمكان في معرفة الصدق والعدالة وأهل الأمانة والعدل، ولسنا مكلفين في ذلك بعلم الغيب. كما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - المأمور أن يحكم بالعدل قال: " «إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بنحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه، فإنما أقطع له من النار».


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 06-02-2025, 08:15 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,714
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ التَّوْبَةِ
المجلد العاشر
الحلقة( 354)

من صــ 1 الى صـ 15





الوجه التاسع: هب أن المراد: من المعلوم فيهم الصدق، لكن العلم كالعلم في قوله: {فإن علمتموهن مؤمنات} [سورة الممتحنة: 10] والإيمان أخفى من الصدق. فإذا كان العلم المشروط هناك يمتنع أن يقال فيه: ليس إلا العلم بالمعصوم، كذلك هنا يمتنع أن يقال: لا يعلم إلا صدق المعصوم.
الوجه العاشر: هب أن المراد: علمنا صدقه، لكن يقال: إن أبا بكر، وعمر، وعثمان ونحوهم ممن علم صدقهم، وأنهم لا يتعمدون الكذب، وإن جاز عليهم الخطأ أو بعض الذنوب، فإن الكذب أعظم. ولهذا ترد شهادة الشاهد بالكذبة الواحدة في أحد قولي العلماء، وهو إحدى الروايتين عن أحمد. وقد روي في ذلك حديث مرسل. ونحن قد نعلم يقينا أن هؤلاء لم يكونوا يتعمدون الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل ولا يتعمدون الكذب بحال. ولا نسلم أنا لا نعلم انتفاء الكذب إلا عمن يعلم أنه معصوم مطلقا، بل كثير من الناس إذا اختبرته تيقنت أنه لا يكذب، وإن كان يخطئ ويذنب ذنوبا أخرى. ولا نسلم أن كل من ليس بمعصوم يجوز أن يتعمد الكذب.

وهذا خلاف الواقع، فإن الكذب لا يتعمده إلا من هو من شر الناس. وهؤلاء الصحابة لم يكن فيهم من يتعمد الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهل العلم يعلمون بالاضطرار أن مثل مالك، وشعبة، ويحيى بن سعيد، والثوري، والشافعي، وأحمد ونحوهم، لم يكونوا يتعمدون الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - بل ولا على غيره، فكيف بابن عمر، وابن عباس، وأبى سعيد وغيرهم؟.
الوجه الحادي عشر: أنه لو قدر أن المراد به: المعصوم لا نسلم الإجماع على انتفاء العصمة من غير علي، كما تقدم بيان ذلك ; فإن كثيرا من الناس الذين هم خير من الرافضة يدعون في شيوخهم هذا المعنى، وإن غيروا عبارته.
وأيضا فنحن لا نسلم انتفاء عصمتهم مع ثبوت عصمته، بل إما انتفاء الجميع وإما ثبوت الجميع.

(فصل: الصدق أساس الحسنات وجماعها والكذب أساس السيئات ونظامها)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
الصدق أساس الحسنات وجماعها والكذب أساس السيئات ونظامها ويظهر ذلك من وجوه: أحدها: أن الإنسان هو حي ناطق فالوصف المقوم له الفاصل له عن غيره من الدواب هو المنطق والمنطق قسمان:
خبر وإنشاء والخبر صحته بالصدق وفساده بالكذب فالكاذب أسوأ حالا من البهيمة العجماء والكلام الخبري هو المميز للإنسان وهو أصل الكلام الإنشائي فإنه مظهر العلم والإنشاء مظهر العمل والعلم متقدم على العمل وموجب له فالكاذب لم يكفه أنه سلب حقيقة الإنسان حتى قلبها إلى ضدها ولهذا قيل: لا مروءة لكذوب ولا راحة لحسود ولا إخاء لملوك ولا سؤدد لبخيل فإن المروءة مصدر المرء كما أن الإنسانية مصدر الإنسان.
الثاني: أن الصفة المميزة بين النبي والمتنبئ هو الصدق والكذب فإن محمدا رسول الله الصادق الأمين ومسيلمة الكذاب قال الله تعالى: {فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين. والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون}.
الثالث: أن الصفة الفارقة بين المؤمن والمنافق هو الصدق فإن أساس النفاق الذي بني عليه الكذب وعلى كل خلق يطبع المؤمن ليس الخيانة والكذب. وفي الصحيحين عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {ثلاث من كن فيه كان منافقا إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان}.
الرابع: أن الصدق هو أصل البر والكذب أصل الفجور كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا}.
الخامس: أن الصادق تنزل عليه الملائكة والكاذب تنزل عليه الشياطين كما قال تعالى: {هل أنبئكم على من تنزل الشياطين} {تنزل على كل أفاك أثيم} {يلقون السمع وأكثرهم كاذبون}.

السادس: أن الفارق بين الصديقين والشهداء والصالحين وبين المتشبه بهم من المرائين والمسمعين والمبلسين هو الصدق والكذب.
السابع: أنه مقرون بالإخلاص الذي هو أصل الدين في الكتاب. . . (1) وكلام العلماء والمشايخ قال الله تعالى {واجتنبوا قول الزور} {حنفاء لله غير مشركين به} ولهذا {قال صلى الله عليه وسلم عدلت شهادة الزور الإشراك بالله مرتين وقرأ هذه الآية وقال: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس فقال: ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت}.
الثامن: أنه ركن الشهادة الخاصة عند الحكام التي هي قوام الحكم والقضاء والشهادة العامة في جميع الأمور والشهادة خاصة هذه الأمة التي ميزت بها في قوله: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس} وركن الإقرار الذي هو شهادة المرء على نفسه وركن الأحاديث والأخبار التي بها يقوم الإسلام؛ بل هي ركن النبوة والرسالة التي هي واسطة بين الله وبين خلقه وركن الفتيا التي هي إخبار المفتي بحكم الله. وركن المعاملات التي تتضمن أخبار كل واحد من المتعاملين للآخر بما في سلعته وركن الرؤيا التي قيل فيها: أصدقهم رؤيا أصدقهم كلاما والتي يؤتمن فيها الرجل على ما رأى.
التاسع: أن الصدق والكذب هو المميز بين المؤمن والمنافق كما جاء في الأثر: أساس النفاق الذي بني عليه الكذب. وفي الصحيحين عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان} وفي حديث آخر: {على كل خلق يطبع المؤمن ليس الخيانة والكذب} ووصف الله المنافقين في القرآن بالكذب في مواضع متعددة ومعلوم أن المؤمنين هم أهل الجنة وأن المنافقين هم أهل النار في الدرك الأسفل من النار.
العاشر: أن المشايخ العارفين اتفقوا على أن أساس الطريق إلى الله هو الصدق والإخلاص كما جمع الله بينهما في قوله: {واجتنبوا قول الزور} {حنفاء لله غير مشركين به} ونصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة دال على ذلك في مواضع كقوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} وقوله تعالى {فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين} {والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون} وقال تعالى لما بين الفرق بين النبي والكاهن والساحر: {وإنه لتنزيل رب العالمين} {نزل به الروح الأمين} {على قلبك لتكون من المنذرين} {بلسان عربي مبين} {وإنه لفي زبر الأولين} إلى قوله: {هل أنبئكم على من تنزل الشياطين} {تنزل على كل أفاك أثيم} {يلقون السمع وأكثرهم كاذبون} وقال تعالى: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله} وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا}.

(فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون (122)
وسئل:
عن قوم اجتمعوا على أمور متنوعة في الفساد؛ ومنهم من يقول: لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث واحد بالتواتر؛ إذ التواتر نقل الجم الغفير عن الجم الغفير؟
فأجاب:

أما من أنكر تواتر حديث واحد فيقال له: التواتر نوعان: تواتر عن العامة؛ وتواتر عن الخاصة وهم أهل علم الحديث. وهو أيضا قسمان: ما تواتر لفظه؛ وما تواتر معناه. فأحاديث الشفاعة والصراط والميزان والرؤية وفضائل الصحابة ونحو ذلك متواتر عند أهل العلم وهي متواترة المعنى وإن لم يتواتر لفظ بعينه وكذلك معجزات النبي صلى الله عليه وسلم الخارجة عن القرآن متواترة أيضا وكذلك سجود السهو متواتر أيضا عند العلماء وكذلك القضاء بالشفعة ونحو ذلك. وعلماء الحديث يتواتر عندهم ما لا يتواتر عند غيرهم؛ لكونهم سمعوا ما لم يسمع غيرهم وعلموا من أحوال النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يعلم غيرهم والتواتر لا يشترط له عدد معين؛ بل من العلماء من ادعى أن له عددا يحصل له به العلم من كل ما أخبر به كل مخبر ونفوا ذلك عن الأربعة وتوقفوا فيما زاد عليها وهذا غلط فالعلم يحصل تارة بالكثرة؛ وتارة بصفات المخبرين؛ وتارة بقرائن تقترن بأخبارهم وبأمور أخر.
وأيضا فالخبر الذي رواه الواحد من الصحابة والاثنان: إذا تلقته الأمة بالقبول والتصديق أفاد العلم عند جماهير العلماء ومن الناس من يسمي هذا: المستفيض.
والعلم هنا حصل بإجماع العلماء على صحته؛ فإن الإجماع لا يكون على خطإ؛ ولهذا كان أكثر متون الصحيحين مما يعلم صحته عند علماء الطوائف: من الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية والأشعرية وإنما خالف في ذلك فريق من أهل الكلام كما قد بسط في موضعه.
قال شيخ الإسلام - رحمه الله -:
فصل:

قول أحمد بن حنبل: إذا جاء الحلال والحرام شددنا في الأسانيد؛ وإذا جاء الترغيب والترهيب تساهلنا في الأسانيد؛ وكذلك ما عليه العلماء من العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال: ليس معناه إثبات الاستحباب بالحديث الذي لا يحتج به؛ فإن الاستحباب حكم شرعي فلا يثبت إلا بدليل شرعي ومن أخبر عن الله أنه يحب عملا من الأعمال من غير دليل شرعي فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله كما لو أثبت الإيجاب أو التحريم؛ ولهذا يختلف العلماء في الاستحباب كما يختلفون في غيره بل هو أصل الدين المشروع. وإنما مرادهم بذلك: أن يكون العمل مما قد ثبت أنه مما يحبه الله أو مما يكرهه الله بنص أو إجماع كتلاوة القرآن؛ والتسبيح والدعاء؛ والصدقة والعتق؛ والإحسان إلى الناس؛ وكراهة الكذب والخيانة؛ ونحو ذلك فإذا روي حديث في فضل بعض الأعمال المستحبة وثوابها وكراهة بعض الأعمال وعقابها: فمقادير الثواب والعقاب وأنواعه إذا روي فيها حديث لا نعلم أنه موضوع جازت روايته والعمل به بمعنى: أن النفس ترجو ذلك الثواب أو تخاف ذلك العقاب كرجل يعلم أن التجارة تربح لكن بلغه أنها تربح ربحا كثيرا فهذا إن صدق نفعه وإن كذب لم يضره؛ ومثال ذلك الترغيب والترهيب بالإسرائيليات؛ والمنامات وكلمات السلف والعلماء؛ ووقائع العلماء ونحو ذلك مما لا يجوز بمجرده إثبات حكم شرعي؛ لا استحباب ولا غيره ولكن يجوز أن يذكر في الترغيب والترهيب؛ والترجية والتخويف. فما علم حسنه أو قبحه بأدلة الشرع فإن ذلك ينفع ولا يضر وسواء كان في نفس الأمر حقا أو باطلا فما علم أنه باطل موضوع لم يجز الالتفات إليه؛ فإن الكذب لا يفيد شيئا وإذا ثبت أنه صحيح أثبتت به الأحكام وإذا احتمل الأمرين روي لإمكان صدقه ولعدم المضرة في كذبه وأحمد إنما قال: إذا جاء الترغيب والترهيب تساهلنا في الأسانيد.

ومعناه: أنا نروي في ذلك بالأسانيد وإن لم يكن محدثوها من الثقات الذين يحتج بهم. في ذلك قول من قال: يعمل بها في فضائل الأعمال إنما العمل بها العمل بما فيها من الأعمال الصالحة مثل التلاوة والذكر والاجتناب لما كره فيها من الأعمال السيئة. ونظير هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو: {بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار} مع قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم} فإنه رخص في الحديث عنهم ومع هذا نهى عن تصديقهم وتكذيبهم فلو لم يكن في التحديث المطلق عنهم فائدة لما رخص فيه وأمر به ولو جاز تصديقهم بمجرد الإخبار لما نهى عن تصديقهم؛ فالنفوس تنتفع بما تظن صدقه في مواضع. فإذا تضمنت أحاديث الفضائل الضعيفة تقديرا وتحديدا مثل صلاة في وقت معين بقراءة معينة أو على صفة معينة لم يجز ذلك؛ لأن استحباب هذا الوصف المعين لم يثبت بدليل شرعي بخلاف ما لو روي فيه من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله كان له كذا وكذا فإن ذكر الله في السوق مستحب لما فيه من ذكر الله بين الغافلين كما جاء في الحديث المعروف: {ذاكر الله في الغافلين كالشجرة الخضراء بين الشجر اليابس}.
فأما تقدير الثواب المروي فيه فلا يضر ثبوته ولا عدم ثبوته وفي مثله جاء الحديث الذي رواه الترمذي: {من بلغه عن الله شيء فيه فضل فعمل به رجاء ذلك الفضل أعطاه الله ذلك وإن لم يكن ذلك كذلك}. فالحاصل: أن هذا الباب يروى ويعمل به في الترغيب والترهيب لا في الاستحباب ثم اعتقاد موجبه وهو مقادير الثواب والعقاب يتوقف على الدليل الشرعي.
(لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم (128)
[فصل: رد احتجاجهم ببعض الآيات على خصوصية الرسالة]
وأما احتجاجهم بقوله تعالى: {كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا} [البقرة: 151].
وقوله تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته} [آل عمران: 164].
فهذا كقوله تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} [التوبة: 128].
وهذا في عمومه نزاع، فإنه إما أن يكون خطابا لجميع الناس، ويكون المراد إنا بعثنا إليكم رسولا من البشر، إذ كنتم لا تطيقون أن تأخذوا عن ملك من الملائكة، فمن الله عليكم بأن أرسل إليكم رسولا بشريا.
قال تعالى: {وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون - ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون} [الأنعام: 8 - 9].

وإما أن يكون الخطاب للعرب، وعلى التقديرين فإن ما تضمن ذكر إنعامه على المخاطبين بإرساله رسولا من جنسهم، وليس في هذا ما يمنع أن يكون مرسلا إلى غيرهم، فإنه إن كان خطابا للإنس كلهم، فهو أيضا مرسل إلى الجن، وليس من جنسهم، فكيف يمتنع إذا كان خطابا للعرب بما امتن به عليهم؟ أن يكون قد امتن على غيرهم بذلك، فالعجم أقرب إلى العرب من الجن إلى الإنس، وقد أخبر في الكتاب العزيز أن الجن لما سمعوا القرآن آمنوا به.
قال تعالى: {وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين - قالوا ياقومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم - ياقومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم - ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض} [الأحقاف: 29 - 32].

وقال: {قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا - يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا - وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا - وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا - وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا - وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا - وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا - وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا - وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا - وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا - وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا - وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا - وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا - وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا - وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا - وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا - لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا - وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا - وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا - قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا - قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا - قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا - إلا بلاغا من الله ورسالاته ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا - حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا - قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا - عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا - إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا - ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا} [الجن: 1 - 28].
ونظير هذا قوله: {وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون} [الزخرف: 44].

__________
Q (1) بياض بالأصل قدر كلمة، ولعلها: والسنة


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 06-02-2025, 08:22 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,714
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ التَّوْبَةِ
المجلد العاشر
الحلقة( 355)

من صــ 16 الى صـ 30



وقومه قريش، ولا يمنع أنه ذكر لسائر العرب بل لسائر الناس،كما قال تعالى: {وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون - وما هو إلا ذكر للعالمين} [القلم: 51 - 52].
وقال تعالى: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا} [الفرقان: 1].
وقال تعالى: {قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين - إن هو إلا ذكر للعالمين - ولتعلمن نبأه بعد حين} [ص: 86 - 88] وقال تعالى: {إنه لقول رسول كريم - ذي قوة عند ذي العرش مكين - مطاع ثم أمين - وما صاحبكم بمجنون - ولقد رآه بالأفق المبين - وما هو على الغيب بضنين - وما هو بقول شيطان رجيم - فأين تذهبون - إن هو إلا ذكر للعالمين - لمن شاء منكم أن يستقيم - وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين} [التكوير: 19 - 29].
وقال تعالى: {وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا} [النساء: 79].
وهذا على أصح القولين، وأن المراد بقوله {وإنه لذكر لك ولقومك} [الزخرف: 44] أنه ذكر لهم يذكرونه فيهتدون به.

وقيل: أن المراد أنه شرف لهم وليس بشيء، فإن القرآن هو شرف لمن آمن به من قومه وغيرهم وليس شرفا لجميع قومه، بل من كذب به منهم كان أحق بالذم، كما قال تعالى: {تبت يدا أبي لهب} [المسد: 1].
وقال تعالى: {وكذب به قومك وهو الحق} [الأنعام: 66].
بخلاف كونه تذكرة وذكرى ; فإنه تذكرة لهم ولغيرهم، كما قال تعالى: {قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين} [الأنعام: 90].
فعم العالمين جميعهم، فقال: {وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين} [يوسف: 104].

[فصل: قول من يقول أنه لم يقل أنه أرسل إلا إلى العرب] [إن أقروا برسالته إلى العرب]
هذا الكلام على الوجه الأول، وهو قول من يقول أنه لم يقل أنه أرسل إلا إلى العرب.
وأما الوجه الثاني: وهو أن نقول: هو ذكر أنه رسول إلى الناس كافة، كما نطق به القرآن في غير موضع، كقوله تعالى: {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا} [سبأ: 28].
وقوله: {ياأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض} [الأعراف: 158].
وقد صرح فيه بدعوة أهل الكتاب وبدعوة الجن في غير موضع، فإذا سلموا أنه ذكر ذلك ولكن كذبوه في ذلك، فإما أن يقروا برسالته إلى العرب، أو لا يقروا.
فإن أقروا بأنه رسول أرسله الله، لم يمكن مع ذلك تكذيبه كما تقدم، بل يجب الإقرار برسالته إلى جميع الخلق كما أخبر بذلك، كما تقدم أن من ذكر أنه رسول الله لا يكون إلا من أفضل الخلق وأصدقهم، أو من شر الخلق وأكذبهم، فإنه إن كان صادقا فهو من أفضلهم وإن كان كاذبا فهو من شرهم، وإذا كان الله قد أرسله - ولو إلى قرية كما أرسل يونس بن متى إلى أهل نينوى - كان من أفضل الخلق، وكان صادقا لا يكذب على الله، ولا يقول عليه إلا الحق، ولو كذب على الله ولو في كلمة واحدة لكان من الكاذبين، لم يكن من رسل الله الصادقين، فإن الكاذب لا يكذب في كل شيء، بل في البعض، فمن كذب على الله في كلمة واحدة، فقد افترى على الله الكذب، وكان من القسم الكاذبين في دعوى الرسالة لا من الصادقين.

وأيضا فإن مقصود الرسالة تبليغ رسالات الله على وجهها، فإذا خلط الكذب بالصدق لم يحصل مقصود الرسالة.
وأيضا فإذا علم أنه كذب في بعضها لم يتميز ما صدق فيه مما كذب فيه إلا بدليل آخر غير رسالته، فلا يحصل المقصود برسالته.
ولهذا أجمع أهل الملل قاطبة على أن الرسل معصومون فيما يبلغونه عن الله تبارك وتعالى لم يقل أحد قط أن من أرسله الله يكذب عليه، وقد قال تعالى ما يبين أنه لا يقر كاذبا عليه، قال تعالى: {ولو تقول علينا بعض الأقاويل - لأخذنا منه باليمين - ثم لقطعنا منه الوتين - فما منكم من أحد عنه حاجزين} [الحاقة: 44 - 47].

وقال تعالى: {أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشأ الله يختم على قلبك} [الشورى: 24].
ثم قال تعالى: {ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته} [الشورى: 24].
فقوله تعالى: {ويمح الله الباطل ويحق الحق} [الشورى: 24] كلام مستأنف، ليس داخلا في جواب الشرط، فإنه لو كان معطوفا على جواب الشرط، لقال ويحق الحق بالكسر لالتقاء الساكنين، كما في قوله {قم الليل} [المزمل: 2].
فلما قال {ويحق الحق} [الشورى: 24] بالضم دل على أنه جملة مستأنفة أخبر فيها أنه تعالى يمحو الباطل كباطل الكاذبين عليه، ويحق الحق كحق الصادقين عليه، فمحو الباطل نظير إحقاق الحق، ليس مما علق بالمشيئة، بل لا بد منه، بخلاف الختم على قلبه، فإنه معلق بالمشيئة، ولا يجوز أن يعلق بالمشيئة محو الباطل كتعليق الختم، بل يقذف بالحق على الباطل فيدمغه.

وقال تعالى في صيانته وإحكامه لما تبلغه رسله: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم - ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد - وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم} [الحج: 52 - 54].
وأيضا فإذا لم يكن أرسل إلا إلى العرب، وقد دعا اليهود والنصارى إلى الإيمان به، وكفرهم إذا لم يؤمنوا به، وجاهدهم، وقتل مقاتلهم، وسبى ذرياتهم، كان ذلك ظلما لا يفعله إلا من هو من أظلم الناس، ومن كان نبيا قد أرسله الله فهو منزه عن هذا وهذا.

فالإقرار برسالته إلى العرب دون غيرهم - مع ما ظهر من عموم دعوته للخلق كلهم - قول متناقض ظاهر الفساد، وكل ما دل عليه أنه رسول، فإنه يستلزم رسالته إلى جميع الخلق، وكل من اعترف بأنه رسول لزمه الاعتراف بأنه رسول إلى جميع الخلق، وإلا لزم أن يكون الله أرسل رسولا يفتري عليه الكذب، ويقول للناس: إن الله أمركم باتباعي، وأمرني بجهادكم إذا لم تفعلوا، وهو كاذب في ذلك، ومعلوم أن كل ما دل على أن الله أرسله فإنه يدل على أنه صادق في الرسالة وإلا فلا، فالرسول الكاذب لا يحصل به مقصود الرسالة، بل يكون من جملة المفترين على الله الكذب، وأولئك ليسوا من رسل الله، ولا يجوز تصديقهم في قولهم: إن الله أرسلهم.

[فصل: إن لم يقروا برسالته إلى العرب]
وإما أن لا يقروا برسالته إلى العرب ولا غيرهم بل قالوا فيه ما كان يقوله مشركو العرب من أنه شاعر أو ساحر أو مفتر كاذب ونحو ذلك فيقال: لهم على هذا التقدير فدليلكم أيضا باطل ولا يجوز أن تحتجوا بتقدير تكذيبكم لمحمد - صلى الله عليه وسلم - بشيء من كلام الأنبياء قبله سواء صدقتم محمدا - صلى الله عليه وسلم - في جميع ما يقوله: أو في بعضه أو كذبتموه فدليلكم باطل فيلزم بطلان دينكم على كل تقدير وما ثبت بطلانه على كل تقدير فهو باطل في نفس الأمر فيثبت أنه باطل في نفس الأمر وذلك أنكم إذا كذبتم محمدا لم يبق لكم طريق تعلمون به صدق غيره من الأنبياء فيمتنع مع تكذيبه القول بصدق غيره بل من اعتقد كذبه وصدق غيره لم يكن عالما بصدق غيره بل يكون مصدقا لهم بغير علم وإذا لم يكن عالما بصدقهم لم يجز احتجاجه قط بأقوالهم بل ذلك قول منه بلا علم ومحاجة فيما لا علم له بها، فإن الدلائل الدالة على صدق محمد - صلى الله عليه وسلم - أعظم وأكثر من الدلائل الدالة على صدق موسى وعيسى ومعجزاته أعظم من معجزات غيره والكتاب الذي أرسل به أشرف من الكتاب الذي بعث به غيره والشريعة التي جاء بها أكمل من شريعة موسى وعيسى - عليهما السلام - وأمته أكمل في جميع الفضائل من أمة هذا وهذا ولا يوجد في التوراة والإنجيل علم نافع وعمل صالح إلا وهو في القرآن أو مثله أو منه وفي القرآن من العلم النافع والعمل الصالح ما لا يوجد مثله في التوراة والإنجيل فما من مطعن من مطاعن أعداء الأنبياء يطعن به على محمد صلى الله عليه وسلم إلا ويمكن توجيه ذلك الطعن وأعظم منه على موسى وعيسى.
وهذه جملة مبسوطة في موضع آخر لم نبسطها هنا ; لأن جواب كلامهم لا يحتاج إلى ذلك فيمتنع الإقرار بنبوة موسى وعيسى - عليهما السلام - مع التكذيب بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا يفعل ذلك إلا من هو من أجهل الناس وأضلهم أو من أعظمهم عنادا واتباعا لهواه وذلك أن هؤلاء القوم احتجوا بما نقلوه عن الأنبياء ولم يذكروا الأدلة الدالة على صدقهم بل أخذوا ذلك مسلما وطلبوا أن يحتجوا بما نقلوه عن الأنبياء قبله وبما نقلوه عنه على صحة دينهم وهذه حجة داحضة سواء صدقوه أو كذبوه، فإن صدقوه بطل دينهم وإن كذبوه بطل دينهم، فإنهم إن صدقوه فقد علم أنه دعاهم وجميع أهل الأرض إلى الإيمان به وطاعته كما دعا المسيح وموسى وغيرهما من الرسل وأنه أبطل ما هم عليه من الاتحاد وغيره وكفرهم في غير موضع ولهذا كان مجرد التصديق بأن محمدا رسول الله ولو إلى العرب يوجب بطلان دين النصارى واليهود وكل دين يخالف دينه، فإن من كان رسولا لله، فإنه لا يكذب على الله ومحمد - صلى الله عليه وسلم - قد علم منه أنه دعا النصارى واليهود إلى الإيمان به وطاعته كما دعا غيرهم وأنه كفر من لم يؤمن به ووعده النار وهذا متواتر عنه تواترا تعلمه العامة والخاصة وفي القرآن من ذلك ما يكثر ذكره كما قال - تعالى -: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة} [البينة: 1] (1) {رسول من الله يتلو صحفا مطهرة} [البينة: 2] (2) {فيها كتب قيمة} [البينة: 3] (3) {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة} [البينة: 4] (4) {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة} [البينة: 5] (5) {إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية} [البينة: 6] (6) {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية} [البينة: 7] (7) {جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه} [البينة: 8]وقال - تعالى -: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم} [آل عمران: 18] (18) {إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب} [آل عمران: 19] (19) {فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد} [آل عمران: 20].
وقد ذكر كفر اليهود والنصارى في غير موضع كقوله - تعالى -: عن النصارى {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا} [المائدة: 17].

وقال - تعالى -: أيضا {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يابني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار} [المائدة: 72] (72) {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم} [المائدة: 73] (73) {أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم} [المائدة: 74] (74) {ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون} [المائدة: 75] (75) {قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم} [المائدة: 76] (76) {قل ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل} [المائدة: 77].
وقال - تعالى -: {ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا} [النساء: 171] (171) {لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا} [النساء: 172] (172) {فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا} [النساء: 173] (173) {ياأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا} [النساء: 174] (174) {فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما} [النساء: 175]

وقال - تعالى -: {وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون} [التوبة: 30] (30) {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} [التوبة: 31].
وقال - تعالى -: {وإذ قال الله ياعيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب} [المائدة: 116] (116) {ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد} [المائدة: 117].

فقد قال - تعالى -: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم} [المائدة: 17] في الموضعين.
وقال - تعالى -: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} [المائدة: 73] وقال - تعالى -: {ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم} [النساء: 171].

وقال - تعالى -: {وقالت النصارى المسيح ابن الله} [التوبة: 30].
والنصارى قالت الأقوال الثلاثة فذكر الله عنهم هذه الأقوال لكن من الناس من يظن أن هذا قول طائفة منهم وهذا قول طائفة منهم.
كما ذكره طائفة من المفسرين كابن جرير الطبري والثعلبي وغيرهما ثم تارة يحكون عن اليعقوبية أن عيسى هو الله
وعن النسطورية أنه ابن الله وعن المريوسية أنه ثالث ثلاثة وتارة يحكون عن النسطورية أنه ثالث ثلاثة وعن الملكية أنه الله ويفسرون قولهم: ثالث ثلاثة بالآب والابن وروح القدس.
والصواب أن هذه الأقوال جميعها قول طوائف النصارى المشهورة الملكية واليعقوبية والنسطورية، فإن هذه الطوائف كلها تقول بالأقانيم الثلاثة الآب والابن وروح القدس، فتقول إن الله ثالث ثلاثة وتقول عن المسيح أنه الله وتقول أنه ابن الله وهم متفقون على اتحاد اللاهوت والناسوت وأن المتحد هو الكلمة وهم متفقون على عقيدة إيمانهم التي تتضمن ذلك وهو قولهم: نؤمن بإله واحد أب ضابط الكل خالق السماوات والأرض كل ما يرى وما لا يرى وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الآب قبل كل الدهور نور من نور إله حق من إله حق مولود غير مخلوق.
وأما قوله - تعالى -: {ولا تقولوا ثلاثة} [النساء: 171] وقوله: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} [المائدة: 73].

فقد فسروه بالتثليث المشهور عنهم المذكور في أمانتهم ومن الناس من يقول: إن الله هو المسيح ابن مريم قول اليعقوبية وقولهم ثالث ثلاثة هو قول النصارى الذين يقولون بالآب والابن والروح القدس وهم قد جعلوا الله فيها ثالث ثلاثة وسموا كل واحد من الثلاثة بالإله والرب وقد فسره طائفة بجعلهم عيسى وأمه إلهين يعبدان من دون الله.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 06-02-2025, 08:43 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,714
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ يُونُسَ
المجلد العاشر
الحلقة( 356)

من صــ 31 الى صـ 45







قال السدي في قوله - تعالى -:

{لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} [المائدة: 73].
قال: قالت النصارى إن الله هو المسيح وأمه فذلك قوله: {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} [المائدة: 116] وقد قيل قول ثالث أغرب من ذلك عن أبي صخر قال {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} [المائدة: 73] قال: هو قول اليهود عزير ابن الله وقول النصارى المسيح ابن الله فجعلوا الله ثالث ثلاثة وهذا ضعيف وقد ذكر سعيد بن البطريق في أخبار النصارى أن منهم طائفة يقال لهم المريميون يقولون إن مريم إله وإن عيسى إله.
وأما الأول فمتوجه، فإن النصارى المتفقين على الأمانة كلهم يقولون إن الله ثالث ثلاثة والله تعالى قد نهاهم عن أن يقولوا ذلك فقال - تعالى -: {ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم} [النساء: 171] فذكر سبحانه في هذه الآية التثليث والاتحاد ونهاهم عنهما وبين أن المسيح إنما هو رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه.
وقال: {فآمنوا بالله ورسله} [النساء: 171] ثم قال {ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم} [النساء: 171] لم يذكر هنا أمه. وقوله - تعالى -: {وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه} [النساء: 171] قال: معمر عن قتادة وكلمته ألقاها إلى مريم هو قوله: كن فكان.
وكذلك قال: قتادة ليس الكلمة صار عيسى، ولكن بالكلمة صار عيسى.
وكذلك قال: الإمام أحمد في مصنفه الذي صنفه في كتابه في الرد على الجهمية وذكره عنه الخلال والقاضي أبو يعلى قال: أحمد ثم إن الجهم ادعى أمرا فقال: إنا وجدنا في كتاب الله آية تدل على أن القرآن مخلوق قلنا: أي آية قال: قول الله {إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته} [النساء: 171] فقلنا: إن الله منعكم الفهم في القرآن عيسى - عليه السلام - تجري عليه ألفاظ لا تجري على القرآن ; لأن عيسى يجري عليه نسمة ومولود وطفل وصبي وغلام يأكل ويشرب وهو يخاطب بالأمر والنهي يجري عليه الوعد والوعيد هو من ذرية نوح ومن ذرية إبراهيم ولا يحل لنا أن نقول في القرآن ما نقول في عيسى هل سمعتم الله يقول في القرآن ما قال عيسى؟ ولكن المعنى في قوله - جل ثناؤه - {إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه} [النساء: 171] فالكلمة التي ألقاها إلى مريم حين قال: له كن فكان عيسى بـ كن وليس عيسى هو الكن، ولكن بالكن كان فالكن من الله قوله: وليس الكن مخلوقا وكذبت النصارى والجهمية على الله في أمر عيسى وذلك أن الجهمية قالوا: عيسى روح الله وكلمته ; لأن الكلمة مخلوقة.

وقالت النصارى روح الله من ذات الله وكلمة الله من ذات الله كما يقال هذه الخرقة من هذا الثوب وقلنا نحن إن عيسى بالكلمة كان وليس عيسى هو الكلمة.
قال أحمد وأما قوله - جل ثناؤه - {وروح منه} [النساء: 171] يقول من أمره كان الروح فيه كقوله: {وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه} [الجاثية: 13] يقول من أمره، وتفسير روح الله إنما معناها أنها روح بكلمة الله خلقهم الله كما يقال: عبد الله وسماء الله، وفي نسخة روح يملكها الله خلقها الله.
وقال: الشعبي في قوله - تعالى -:

{وكلمته ألقاها إلى مريم} [النساء: 171] الكلمة حين قال: له كن فكان عيسى بـ " كن " وليس عيسى هو الكن، ولكن بالكن كان.
وقال: ليث عن مجاهد روح منه قال: رسول منه يريد مجاهد قوله: {فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا} [مريم: 17] {قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا} [مريم: 18] {قال إنما أنا رسول ربك} [مريم: 19]والمعنى أن عيسى خلق من الروح وهو جبريل روح القدس سمي روحا كما سمي كلمة ; لأنه خلق بالكلمة والنصارى يقولون في أمانتهم تجسد من مريم ومن روح القدس ; لأنه كذلك في الكتب المتقدمة لكن ظنوا أن روح القدس هو صفة لله وجعلوها حياته وقدرته وهو رب، وهذا غلط منهم، فإنه لم يسم أحد من الأنبياء حياة الله ولا قدرته ولا شيئا من صفاته روح القدس، بل روح القدس في غير موضع من كلام الأنبياء - عليهم السلام - يراد بها ما ينزله الله على قلوب الأنبياء كالوحي والهدى والتأييد ويراد بها الملك وهكذا في تفسير ابن السائب عن أبي صالح عن ابن عباس أن عيسى ابن مريم استقبل رهطا من اليهود فلما رأوه قالوا: قد جاء الساحر ابن الساحرة والفاعل ابن الفاعلة فقذفوه وأمه فلما سمع عيسى ذلك قال اللهم أنت ربي وأنا من روحك خرجت وبكلمتك خلقتني ولم آتهم من تلقاء نفسي وذكر تمام الحديث.

وقد قال - تعالى -: {والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين} [الأنبياء: 91] وقال - تعالى -: {ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا} [التحريم: 12] فهذا يوافق قوله - تعالى -: {فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا} [مريم: 17] (17) {قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا} [مريم: 18] (18) {قال إنما أنا رسول ربك} [مريم: 19].
والمقصود هنا أنهم سواء صدقوا محمدا أو كذبوه، فإنه يلزم بطلان دينهم على التقديرين، فإنه إن كان نبيا صادقا فقد بلغ عن الله في هذا الكتاب كفر النصارى في غير موضع ودعاهم إلى الإيمان به وأمر بجهادهم فمن علم أنه نبي ولو إلى طائفة معينة يجب تصديقه في كل ما أخبر به وقد أخبر بكفر النصارى وضلالهم وإذا ثبت هذا لم يغن عنهم الاحتجاج بشيء من الكتب والمعقول، بل يعلم من حيث الجملة أن كل ما يحتجون به على صحة دينهم فهو باطل وإن لم يبين فساد حججهم على التفصيل ; لأن الأنبياء لا يقولون إلا حقا كما أن المسيح - عليه السلام - لما حكم بكفر من كذبه من اليهود كان كل ما يحتج به اليهود على خلاف ذلك باطلا فكل ما عارض قول النبي - صلى الله عليه وسلم - المعصوم فهو باطل وإن كذبوا محمدا تكذيبا عاما مطلقا وقالوا ليس هو نبي أصلا ولا أرسل إلى أحد لا إلى العرب ولا إلى غيرهم بل كان كذابا امتنع مع هذا أن يصدقوا بنبوة غيره، فإن الطريق الذي يعلم به نبوة موسى وعيسى يعلم به نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - بطريق الأولى فإذا قالوا:

علمت نبوة موسى والمسيح بالمعجزات وعرفت المعجزات بالنقل المتواتر إلينا قيل لهم معجزات محمد - صلى الله عليه وسلم - أعظم وتواترها أبلغ والكتاب الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - أكمل وأمته أفضل وشرائع دينه أحسن وموسى جاء بالعدل وعيسى جاء بتكميلها بالفضل وهو - صلى الله عليه وسلم - قد جمع في شريعته بين العدل والفضل.
فإن ساغ لقائل أن يقول هو مع هذا كاذب مفتر كان على هذا التقدير الباطل غيره أولى أن يقال فيه ذلك. فيبطل بتكذيبهم محمدا - صلى الله عليه وسلم جميع ما معهم من النبوات إذ حكم أحد الشيئين حكم مثله فكيف بما هو أولى منه؟ فلو قال قائل إن هارون ويوشع وداود وسليمان كانوا أنبياء وموسى لم يكن نبيا أو أن داود وسليمان ويوشع كانوا أنبياء والمسيح لم يكن نبيا. أو قال ما تقوله السامرة: أن يوشع كان نبيا ومن بعده كداود وسليمان والمسيح لم يكونوا أنبياء.

أو قال ما يقوله اليهود: إن داود وسليمان وأشعيا وحبقوق ومليخا وعاموص ودانيال كانوا أنبياء والمسيح بن مريم لم يكن نبيا كان هذا قولا متناقضا معلوم البطلان، فإن الذين نفى هؤلاء عنهم النبوة أحق بالنبوة وأكمل نبوة ممن أثبتوها له ودلائل نبوة الأكمل أفضل فكيف يجوز إثبات النبوة للنبي المفضول دون الفاضل وصار هذا كما لو قال قائل أن زفر وابن القاسم والمزني
والأثرم كانوا فقهاء وأبا حنيفة ومالكا والشافعي وأحمد لم يكونوا فقهاء أو قال: إن الأخفش وابن الأنباري والمبرد كانوا نحاة والخليل وسيبويه والفراء لم يكونوا نحاة أو قال: إن صاحب الملكي والمسبحي ونحوهما من كتب الطب كانوا أطباء وبقراط وجالينوس ونحوهما لم يكونوا أطباء أو قال: إن كوشيار والخرقي ونحوهما كانوا يعرفون علم الهيئة وبطليموس ونحوه لم يكن لهم علم بالهيئة.

ومن قال: إن داود وسليمان ومليخا وعاموص ودانيال كانوا أنبياء ومحمد بن عبد الله لم يكن نبيا فتناقضه أظهر وفساد قوله أبين من هذا جميعه بل وكذلك من قال: إن موسى وعيسى رسولان والتوراة والإنجيل كتابان منزلان من عند الله ومحمد ليس برسول والقرآن لم ينزل من الله فبطلان قوله في غاية الظهور والبيان لمن تدبر ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به من قبله، وتدبر كتابه والكتب التي قبله وآيات نبوته وآيات نبوة هؤلاء وشرائع دينه وشرائع دين هؤلاء وهذه الجملة مفصلة مشروحة في غير هذا الموضع لكن المقصود هنا التنبيه على مجامع جوابهم وهؤلاء القوم لم يأتوا بدليل واحد يدل على صدق من احتجوا به من الأنبياء فلو ناظرهم من يكذب بهؤلاء الأنبياء كلهم من المشركين والملاحدة لم يكن فيما ذكروه حجة لهم ولا حجة لهم أيضا على المسلمين الذين يقرون بنبوة هؤلاء، فإن جمهور المسلمين إنما عرفوا صدق هؤلاء الأنبياء بإخبار محمد أنهم أنبياء فيمتنع أن يصدقوا بالفرع مع القدح في الأصل الذي به علموا صدقهم.
وأيضا فالطريق الذي به علمت نبوة هؤلاء بما ثبت من معجزاتهم وأخبارهم، فكذلك تعلم نبوة محمد بما ثبت من معجزاته وأخباره بطريق الأولى فيمتنع أن يصدق أحد من المسلمين بنبوة واحد من هؤلاء مع تكذيبه لمحمد في كلمة مما جاء به.

سُورَةُ يُونُسَ
(هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون (5)
وقال شيخ الإسلام - رحمه الله -:
فصل:
قوله: {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب} وقوله: {وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا} وقوله: {الشمس والقمر بحسبان} وقوله {والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم} وقوله: {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج} دليل على توقيت ما فيها من التوقيت للسنين والحساب فقوله: {لتعلموا عدد السنين والحساب} إن علق بقوله: {وقدره منازل} كان الحكم مختصا بالقمر وإن أعيد إلى أول الكلام تعلق بهما ويشهد للأول قوله في الأهلة فإنه موافق لذلك ولأن كون الشمس ضياء والقمر نورا لا يوجب علم عدد السنين والحساب بخلاف تقدير القمر منازل فإنه هو الذي
يقتضي علم عدد السنين والحساب ولم يذكر انتقال الشمس في البروج. ويؤيد ذلك قوله:

{إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله} الآية فإنه نص على أن السنة هلالية وقوله: {الحج أشهر معلومات} يؤيد ذلك لكن يدل على الآخر قوله: {وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب}. وهذا والله أعلم لمعنى تظهر به حكمة ما في الكتاب وما جاءت به الشريعة من اعتبار الشهر والعام الهلالي دون الشمسي أن كل ما حد من الشهر والعام ينقسم في اصطلاح الأمم إلى عددي وطبيعي فأما الشهر الهلالي فهو طبيعي وسنته عددية. وأما الشهر الشمسي: فعددي وسنته طبيعية فأما جعل شهرنا هلاليا فحكمته ظاهرة لأنه طبيعي وإنما علق بالهلال دون الاجتماع لأنه أمر مضبوط بالحس لا يدخله خلل ولا يفتقر إلى حساب بخلاف الاجتماع فإنه أمر خفي يفتقر إلى حساب وبخلاف الشهر الشمسي لو ضبط. وأما السنة الشمسية فإنها وإن كانت طبيعية فهي من جنس الاجتماع ليس أمرا ظاهرا للحس بل يفتقر إلى حساب سير الشمس في المنازل وإنما الذي يدركه الحس تقريب ذلك فإن انقضاء الشتاء ودخول الفصل الذي تسميه العرب الصيف ويسميه غيرها الربيع أمر ظاهر بخلاف محاذاة الشمس لجزء من أجزاء الفلك يسمى برج كذا أو محاذاتها لإحدى نقطتي الرأس أو الذنب فإنه يفتقر إلى حساب. ولما كانت البروج اثني عشر فمتى تكرر الهلالي اثني عشر فقد انتقل فيها كلها فصار ذلك سنة كاملة تعلقت به أحكام ديننا من المؤقتات شرعا أو شرطا إما بأصل الشرع كالصيام والحج. وإما بسبب من العبد كالعدة ومدة الإيلاء وصوم الكفارة والنذر. وإما بالشرط كالأجل في الدين والخيار والأيمان وغير ذلك.
(للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون (26)
(فصل)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
(الأصل الثاني: النعيم في الدار الآخرة أيضا مثل النظر إليه لا كما يزعم طائفة من أهل الكلام ونحوهم أنه لا نعيم ولا لذة إلا بالمخلوق: من المأكول والمشروب والمنكوح ونحو ذلك، بل اللذة والنعيم التام في حظهم من الخالق سبحانه وتعالى، كما في الدعاء المأثور: {اللهم إني أسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة}. رواه النسائي وغيره وفي صحيح " مسلم " وغيره عن " صهيب " عن النبي صلى الله عليه وسلم قال {: إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد يا أهل الجنة؛ إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه. فيقولون: ما هو ألم يبيض وجوهنا، ويدخلنا الجنة، ويجرنا من النار قال: فيكشف الحجاب؛ فينظرون إليه - سبحانه. فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه، وهو الزيادة}. فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنهم مع كمال تنعمهم بما أعطاهم الله في الجنة لم يعطهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه؛ وإنما يكون أحب إليهم لأن تنعمهم وتلذذهم به أعظم من التنعم والتلذذ بغيره. فإن اللذة تتبع الشعور بالمحبوب، فكلما كان الشيء أحب إلى الإنسان كان حصوله ألذ له، وتنعمه به أعظم.
وروي أن يوم الجمعة يوم المزيد، وهو يوم الجمعة من أيام الآخرة، وفي الأحاديث والآثار ما يصدق هذا، قال الله تعالى في حق الكفار: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} {ثم إنهم لصالو الجحيم}. فعذاب الحجاب أعظم أنواع العذاب. ولذة النظر إلى وجهه أعلى اللذات؛ ولا تقوم حظوظهم من سائر المخلوقات مقام حظهم منه تعالى.

(فصل)
قال الشيخ الإمام العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية - قدس الله روحه -:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما.
حديث: {رؤية المؤمنين ربهم في الجنة في مثل يوم الجمعة من أيام الدنيا} رواه أبو الحسن الدارقطني في كتابه في الرؤية - وما علمنا أحدا جمع في هذا الباب أكثر من كتاب أبي بكر الآجري وأبي نعيم الحافظ الأصبهاني - رواه من حديث أنس مرفوعا ومن حديث ابن مسعود موقوفا ورواه ابن ماجه من حديث ابن مسعود مرفوعا. فأما حديث أنس فرواه الدارقطني من خمس طرق أو ست طرق في غالبها {إن الرؤية تكون بمقدار صلاة الجمعة في الدنيا} وصرح في بعضها: {بأن النساء يرينه في الأعياد}. وأما حديث ابن مسعود ففي جميع طرقه - مرفوعها وموقوفها -

التصريح بذلك؛ وإسناد حديث ابن مسعود أجود من جميع أسانيد هذا الباب. ورواه أبو عبد الله بن بطة في " الإبانة " بإسناد آخر من حديث أنس أجود من غيره وذكر فيه: {وذلك مقدار انصرافكم من الجمعة}. ورواه أبو أحمد بن عدي من حديث صالح بن حيان عن ابن بريدة عن أنس وما أعلم لفظه. ورواه أبو عمرو الزاهد بإسناد آخر لم يحضرني لفظه. ورواه أبو العباس السراج حدثنا علي بن أشيب حدثنا أبو بدر حدثنا زياد بن خيثمة عن عثمان بن مسلم عن أنس بن مالك وليس فيه الزيادة. ورواه أبو يعلى الموصلي في مسنده عن شيبان بن فروخ عن الصعق بن حزن عن علي بن الحكم البناني عن أنس نحوه ولا أعلم لفظه. ورواه أبو بكر البزار وأبو بكر الخلال وابن بطة من حديث حذيفة بن اليمان مرفوعا ولم يذكر فيه هذه الزيادة لكن قال في آخره: {فلهم في كل سبعة أيام الضعف على ما كانوا فيه} - قال - وذلك قول الله في كتابه: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون}. ورواه الآجري وابن بطة أيضا مرفوعا من حديث ابن عباس وفيه: {وأقربهم منه مجلسا أسرعهم إليه يوم الجمعة وأبكرهم غدوا}.
وله طريق آخر من حديث أبي هريرة ورواه الترمذي وابن ماجه من حديث عبد الحميد بن أبي العشرين عن الأوزاعي عن حسان بن عطية عن أبي هريرة وقال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وقد روى سويد بن عمرو عن الأوزاعي شيئا من هذا وقالوا: ورواه سويد بن عبد العزيز عن الأوزاعي قال: قال: حديث عن سعيد.
وروي أيضا معناه عن كعب الأحبار موقوفا وفيه معنى الزيادة. وأصل حديث {سوق الجنة} قد رواه مسلم في صحيحه ولم يذكر فيه الرؤية وهذه الأحاديث عامتها إذا جرد إسناد الواحد منها لم يخل عن مقال قريب أو شديد لكن تعددها وكثرة طرقها يغلب على الظن ثبوتها في نفس الأمر؛ بل قد يقتضي القطع بها.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 06-02-2025, 09:02 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,714
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ يُونُسَ
المجلد العاشر
الحلقة( 357)

من صــ 46 الى صـ 60





وأيضا فقد روي عن " الصحابة " و " التابعين " ما يوافق ذلك ومثل هذا لا يقال بالرأي؛ وإنما يقال بالتوقيف. فروى الدارقطني بإسناد صحيح عن ابن المبارك أخبرنا المسعودي عن المنهال بن عمرو عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال: {سارعوا إلى الجمعة فإن الله يبرز لأهل الجنة في كل جمعة في كثيب من كافور فيكونون في قرب منه على قدر تسارعهم إلى الجمعة في الدنيا} وأيضا بإسناد صحيح إلى شبابة بن سوار عن عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي عن المنهال بن عمرو عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن عبد الله بن مسعود قال: {سارعوا إلى الجمعة فإن الله عز وجل يبرز لأهل الجنة في كل يوم جمعة في كثيب من كافور أبيض فيكونون في الدنو منه على مقدار مسارعتهم في الدنيا إلى الجمعة فيحدث لهم من الكرامة شيئا لم يكونوا رأوه فيما خلا}. قال: وكان عبد الله بن مسعود لا يسبقه أحد إلى الجمعة قال: فجاء يوما وقد سبقه رجلان فقال: رجلان وأنا الثالث إن الله يبارك في الثالث. ورواه ابن بطة بإسناد صحيح من هذا الطريق وزاد فيه: {ثم يرجعون إلى أهليهم فيحدثونهم بما قد أحدث لهم من الكرامة شيئا لم يكونوا رأوه فيما خلا} هذا إسناد حسن حسنه الترمذي وغيره. ويقال إن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه؛ لكن هو عالم بحال أبيه متلق لآثاره من أكابر أصحاب أبيه وهذه حال متكررة من عبد الله - رضي الله عنه - فتكون مشهورة عند أصحابه فيكثر المتحدث بها ولم يكن في أصحاب عبد الله من يتهم عليه حتى يخاف أن يكون هو الواسطة فلهذا صار الناس يحتجون برواية ابنه عنه وإن قيل إنه لم يسمع من أبيه. وقد روي هذا عن ابن مسعود من وجه آخر رواه ابن بطة في " الإبانة " بإسناد صحيح عن الوليد بن مسلم عن ثور بن يزيد عن عمرو بن قيس إلى عبد الله بن مسعود قال: {إن الله يبرز لأهل جنته في كل يوم جمعة في كثيب من كافور أبيض فيكونون في الدنو منه كتسارعهم إلى الجمعة فيحدث لهم من الحياة والكرامة ما لم يروا قبله}.
وروي عن ابن مسعود من " وجه ثالث " رواه سعيد في سننه: حدثنا فرج بن فضالة عن علي بن أبي طلحة عن ابن مسعود أنه كان يقول: {بكروا في الغدو في الدنيا إلى الجمعات؛ فإن الله يبرز لأهل الجنة في كل يوم جمعة على كثيب من كافور أبيض فيكون الناس منه في الدنو كغدوهم في الدنيا إلى الجمعة}. وهذا الذي أخبر به ابن مسعود أمر لا يعرفه إلا نبي أو من أخذه عن نبي فيعلم بذلك أن ابن مسعود أخذه عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يجوز أن يكون أخذه عن أهل الكتاب لوجوه: (أحدها): أن الصحابة قد نهوا عن تصديق أهل الكتاب فيما يخبرونهم به: فمن المحال أن يحدث ابن مسعود رضي الله عنه بما أخبر به اليهود على سبيل التعليم ويبني عليه حكما.
(الثاني): أن ابن مسعود - رضي الله عنه - خصوصا كان من أشد الصحابة - رضي الله عنهم - إنكارا لمن يأخذ من أحاديث أهل الكتاب.
(الثالث): أن الجمعة لم تشرع إلا لنا والتبكير فيها ليس إلا في شريعتنا فيبعد مثل أخذ هذا عن الأنبياء المتقدمين ويبعد أن اليهودي يحدث بمثل هذه الفضيلة لهذه الأمة وهم الموصوفون بكتمان العلم والبخل به وحسد هذه الأمة. ورواه ابن ماجه في سننه من وجه آخر مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم عن {علقمة قال: خرجت مع عبد الله بن مسعود إلى الجمعة فوجد ثلاثة قد سبقوه فقال: رابع أربعة وما رابع أربعة ببعيد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس يجلسون من الله يوم الجمعة على قدر رواحهم إلى الجمعة الأول والثاني والثالث ثم قال: رابع أربعة وما رابع أربعة ببعيد}. وهذا الحديث مما استدل به العلماء على استحباب التبكير إلى الجمعة وقد ذكروا هذا المعنى من جملة معاني قوله: {والسابقون السابقون} قال بعضهم: السابقون في الدنيا إلى الجمعات هم السابقون في يوم المزيد في الآخرة أو كما قال؛ فإنه لم يحضرني لفظه وتأييد ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم المخرج في الصحيحين: {نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب قبلنا وأوتيناه من بعدهم فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له فالناس لنا فيه تبع: اليهود غدا والنصارى بعد غد} فإنه جعل سبقنا لهم في الآخرة لأجل أنا أوتينا الكتاب من بعدهم فهدينا لما اختلفوا فيه من الحق حتى صرنا سابقين لهم إلى التعبيد فكما سبقناهم إلى التعبيد في الدنيا نسبقهم إلى كرامته في الآخرة.

وأما " حديث أنس " - وهو أشهر الأحاديث - فيما يكون يوم الجمعة في الآخرة من زيارة الله ورؤيته وإتيان سوق الجنة فأصح حديث عنه ما رواه مسلم في صحيحه عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إن في الجنة لسوقا يأتونها كل جمعة فتهب ريح الشمال فتحثوا في وجوههم وثيابهم فيزدادون حسنا وجمالا فيقول لهم أهلوهم: والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا فيقولون: وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا}.
فهذا ليس فيه إلا أنهم يأتون السوق وفيه يزدادون حسنا وجمالا وأن أهليهم ازدادوا أيضا في غيبتهم عنهم حسنا وجمالا وإن كانوا لم يأتوا سوق الجنة. وإن كانت زيادة بعض الحديث على بعض غير مقبولة؛ بل يجعل نوع تعارض؟ فينبغي أن لا يقبل في الباب حديث برؤية الله يوم الجمعة؛ لأنه ليس فيها شيء يقاوم حديث أنس هذا فإنه هو الذي أخرجه أصحاب الصحيح دون الجميع؛ بل قد يقال: لو كانت رؤية الله خاصة وأن زيادة الوجوه حسنا وجمالا كان عنها لأخبر به في هذا الحديث بل قد يقال: ظاهره أن زيادة الحسن والجمال إنما كان من الريح التي تهب في وجوههم وثيابهم. وإن كان الواجب أن يقال: ما في تلك الأحاديث من الزيادات لا ينافي هذا - وإن كان هذا أصح - فإن الترجيح إنما يكون عند التنافي وأما إذا أخبر في أحد الحديثين بشيء وأخبر في الآخر بزيادة أخرى لا تنافيها كانت تلك الزيادة بمنزلة خبر مستقل فهذا هو الصواب. وليس هذا مما اختلف فيه الفقهاء من الزيادة في النص هل هي نسخ؟ فإن ذلك إنما هو في " الأحكام " التي هي الأمر والنهي والإباحة وتوابعها: مثل ما قال الله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة}
وقال النبي صلى الله عليه وسلم {البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام} وقال لآخر: {على ابنك جلد مائة وتغريب عام} فهنا اختلف العلماء هل هذه الزيادة نسخ لقوله: {الزانية والزاني فاجلدوا}؟ مع أن الجمهور على أنها ليست بنسخ وهو الصحيح كما هو مقرر في موضعه.

وأما زيادة أحد الخبرين على الآخر في " الأخبار المحضة " فهذا مما لم يختلف المسلمون أنه ليس بنسخ وأنه لا ترد الزيادة إذا لم تناف المزيد؛ فإن رجلا لو قال: رأيت رجلا ثم قال: رأيت رجلا عاقلا أو عالما لم يكن بين الكلامين منافاة؛ ففرق بين الإطلاق والتقييد والتجريد والزيادة في " الأمور الطلبية "؛ وبين ذلك في " الأمور الخبرية ". وإذا كان كذلك فيقال: قد جاء في أحاديث أخر أن " السوق " يكون بعد " رؤية الله سبحانه " كما أن العادة في الدنيا أنهم ينتشرون في الأرض ويبتغون من فضل الله بعد زيارة الله والتوجه إليه في الجمعة.
وما في هذا الحديث من " ازدياد وجوههم حسنا وجمالا " لا يقتضي انحصار ذلك في الريح فإن أزواجهم قد ازدادوا حسنا وجمالا ولم يشركوهم في الريح؛ بل يجوز أن يكون حصل في الريح زيادة على ما حصل لهم قبل ذلك ويجوز أن يكون هذا الحديث مختصرا من بقية الأحاديث بأن سبب الازدياد " رؤية الله تعالى " مع ما اقترن بها. وعلى هذا فيمكن أن يكون "
نساؤهم المؤمنات " رأين الله في منازلهن في الجنة " رؤية " اقتضت زيادة الحسن والجمال - إذا كان السبب هو الرؤية كما جاء مفسرا في أحاديث أخر - كما أنهم في الدنيا كان الرجال يروحون إلى المساجد فيتوجهون إلى الله هنالك والنساء في بيوتهن يتوجهن إلى الله بصلاة الظهر؛ والرجال يزدادون نورا في الدنيا بهذه الصلاة وكذلك النساء يزددن نورا بصلاتهن كل بحسبه؛ والله سبحانه لا يشغله شأن عن شأن بل كل عبد يراه مخليا به في وقت واحد كما جاء في غير حديث بل قد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن بعض مخلوقاته - وهو القمر - يراه كل واحد مخليا به إذا شاء. إذا تلخص ذلك. فنقول: " الأحاديث الزائدة على هذا الحديث " في بعضها ذكر الرؤية في الجمعة وليس فيه ذكر تقدير ذلك بصلاة الجمعة في الدنيا كما في حديث أبي هريرة حديث سوق الجنة وفي بعضها أنهم يجلسون من الله يوم الجمعة في الآخرة على قدر رواحهم إلى الجمعة في الدنيا؛ وليس فيه ذكر الرؤية - كما تقدم في حديث ابن مسعود المرفوع - وفي بعضها ذكر الأمرين جميعا وهي أكثر الأحاديث. وليست الأحاديث المتضمنة " للرؤية المجردة " عن تقدير ذلك بصلاة الجمعة بدون الأحاديث المتضمنة لذلك: لا في الكثرة ولا في قوة الأسانيد؛ بل المتضمنة لذلك أكثر منها وإسناد بعضها أجود من إسناد تلك ولو كانت تلك أكثر ورويت هذه الزيادة بإسناد واحد - من جنس تلك الأسانيد - لكان حكمها في القبول والرد كحكم المزيد؛ لعدم المنافاة. ولو فرض أن " بعض العامة " الذين يسمعون الأحاديث من القصاص أو من النقاد أو بعض من يطالع الأحاديث ولا يعتني بتمييزها اشتهر عنده شيء من ذلك دون شيء لم يكن بهذا عبرة أصلا. فكم من أشياء مشهورة عند العامة؛ بل وعند كثير من الفقهاء والصوفية والمتكلمين أو أكثرهم؛ ثم عند حكام الحديث العارفين به لا أصل له بل قد يقطعون بأنه موضوع وكم من أشياء مشهورة عند " العارفين بالحديث " بل متواترة عندهم وأكثر العامة؛ بل كثير من العلماء الذين لم يعتنوا بالحديث ما سمعوها أو سمعوها من وراء وراء وهم إما مكذبون بها وإما مرتابون فيها وهم مع ذلك لم يضبطوها ضبط العالم لعلمه كضبط النحوي للنحو والطبيب للطب وإن ضبطوا منها شيئا: ضبطوا اللفظة بعد اللفظة مما لا تسمن ولا تغني من جوع وليس ذلك مما يعتمد عليه ولا ينضبط به دين الله ولا يسقط به عن الأمة الفرض في حفظ علم النبوة والفقه فيه. قال " الإمام أحمد ": معرفة الحديث والفقه فيه أحب إلي من حفظه. وأنا أذكر شواهد ما ذكرته: فروى الدارقطني في " كتاب الرؤية " - وهي من أوائل ما رواه في ترجمة أنس -: حدثنا أحمد حدثنا سليمان حدثنا محمد بن عثمان بن محمد حدثنا مروان بن جعفر حدثنا نافع أبو الحسن مولى بني هشام حدثنا عطاء بن أبي ميمونة عن أنس بن مالك قال: {قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم القيامة رأى المؤمنون ربهم عز وجل فأحدثهم عهدا بالنظر إليه في كل جمعة وتراه المؤمنات يوم الفطر ويوم النحر}. وروى " الدارقطني " أيضا عن جماعة ثقات عن عبد الله بن روح المدائني حدثنا سلام بن سليمان حدثنا ورقاء وإسرائيل وشعبة وجرير بن عبد الحميد - كلهم - قالوا: حدثنا ليث عن عثمان بن حميد عن {أنس بن مالك قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أتاني جبريل عليه السلام وفي كفه كالمرآة البيضاء يحملها فيها كالنكتة السوداء فقلت: ما هذه التي في يدك يا جبريل فقال: هذه الجمعة. قلت: وما الجمعة؟ قال: لكم فيها خير قلت: وما يكون لنا فيها؟ قال: تكون عيدا لك ولقومك من بعدك وتكون اليهود والنصارى تبعا لكم قلت: وما لنا فيها؟ قال لكم فيها ساعة لا يسأل الله عبده فيها شيئا هو له قسم إلا أعطاه إياه وليس له بقسم إلا ادخر له في آخرته ما هو أعظم منه قلت: ما هذه النكتة التي فيها؟ قال: هي الساعة ونحن ندعوه يوم المزيد قلت: وما ذلك يا جبريل؟ قال؛ إن ربك أعد في الجنة واديا فيه كثبان من مسك أبيض فإذا كان يوم الجمعة هبط من عليين عز وجل على كرسيه فيحف الكرسي بكراسي من نور؛ فيجيء النبيون حتى يجلسوا على تلك الكراسي ويحف الكرسي بمنابر: من نور ومن ذهب. مكللة بالجوهر ثم يجيء الصديقون والشهداء حتى يجلسوا على تلك المنابر ثم ينزل أهل الغرف من غرفهم حتى يجلسوا على تلك الكثبان ثم يتجلى لهم عز وجل فيقول: أنا الذي صدقتكم وعدي وأتممت عليكم نعمتي وهذا محل كرامتي فسلوني فيسألونه حتى تنتهي رغبتهم فيفتح لهم في ذلك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وذلك مقدار منصرفكم من الجمعة ثم يرتفع على كرسيه عز وجل وترتفع معه النبيون والصديقون والشهداء ويرجع أهل
الغرف إلى غرفهم وهي لؤلؤة بيضاء وزمردة خضراء وياقوتة حمراء غرفها وأبوابها منها وأنهارها مطردة فيها وأزواجها وخدامها وثمارها متدليات فيها فليسوا إلى شيء بأحوج منهم إلى يوم الجمعة ليزدادوا منه نظرا إلى ربهم عز وجل ويزدادوا منه كرامة}. وروى " ابن بطة " هذا الحديث مثل هذا عن القافلاني: حدثنا محمد بن إسحاق الصاغاني حدثنا عبد الله بن محمد بن أبي شيبة حدثنا عبد الرحمن بن محمد عن ليث عن عثمان عن أنس وفيه {ثم يتجلى لهم ربهم تعالى ثم يقول: سلوني أعطكم فيسألونه الرضا فيقول: رضائي أحلكم داري وأنالكم كرامتي فسلوني أعطكم فيسألونه الرضا فيشهدهم أنه قد رضي عنهم - قال -: فيفتح لهم ما لا ترى عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر - قال -: وذلك مقدار انصرافكم من الجمعة ثم يرتفع ويرتفع معه النبيون والصديقون والشهداء؛ ويرجع أهل الغرف إلى غرفهم} وذكر تمامه.

وهذا الطريق يبين أن هذا الحديث محفوظ عن ليث بن أبي سليم واندفع بذلك الكلام في سلام بن سليم؛ فإن هذا الإسناد الثاني كلهم أئمة إلى ليث وأما الأول فكأن في القلب حزازة من أجل أن " سلاما " رواه عن جماعة من المشاهير ورواه عنه عبد الله بن روح المدائني وقد اختلف في سلام " هذا: فقال ابن معين مرة: لا بأس به وقال أبو حاتم: صدوق صالح الحديث. وسئل عنه ابن معين مرة أخرى فقيل له: أثقة هو؟ فقال: لا. وقال العقيلي لا يتابع على حديثه.
فإذا كان الحديث قد روي من تلك الطريق الجيدة اندفع الحمل عليه.

ورواه الدارقطني من هذه الطريق من " وجه ثالث " من حديث الحسن بن عرفة: حدثنا عمار بن محمد بن أخت سفيان الثوري عن ليث بن أبي سليم عن عثمان عن أنس بن مالك قال: {قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاني جبريل وفي كفه كالمرآة البيضاء فيها كالنكتة السوداء} وساق الحديث نحو ما تقدم ولم يذكر: " وذلك مقدار انصرافكم من الجمعة ". وهذا يقوي أن للحديث أصلا عن ليث؛ ولا يضر ترك الزيادة؛ فإن عمار بن محمد بن أبي أخت سفيان لا يحتج لا بزيادته ولا بنقصه؛ وإنما ذكرناه للمتابعة. وفي هذا الحديث أن الصالحين هم الذين يرجعون إلى أهليهم فأما النبيون والصديقون والشهداء فلا يرجعون حينئذ وليس فيه ما يدل على رؤية النساء؛ لا بنفي ولا إثبات. ورواه " أبو العباس محمد بن إسحاق السراج " حدثنا علي بن أشيب حدثنا أبو بدر حدثنا زياد بن خيثمة عن عثمان بن مسلم عن {أنس بن مالك قال: أبطأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فلما خرج قلنا: لقد احتبست قال: فإن جبريل أتاني وفي كفه كهيئة المرآة البيضاء فيها نكتة سوداء.
فقال: إن هذه الجمعة فيها خير لك ولأمتك وقد أرادها اليهود والنصارى فأخطئوها فقلت: يا جبريل ما في هذه النكتة السوداء؟ قال: إن هذه الساعة التي في يوم الجمعة لا يوافقها عبد يسأل الله خيرا من قسمه إلا أعطاه إياه أو ادخر له مثله يوم القيامة أو صرف عنه من السوء مثله وأنه خير الأيام عند الله وأن أهل الجنة يسمونه يوم المزيد. قلت: يا جبريل وما يوم المزيد؟ قال:
إن في الجنة واديا أفيح تربته مسك أبيض ينزل الله إليه كل يوم جمعة فيوضع كرسيه ثم يجاء بمنابر من نور فتوضع خلفه فتحف به الملائكة ثم يجاء بكراسي من ذهب فتوضع ثم يجيء النبيون والصديقون والشهداء والمؤمنون أهل الغرف فيجلسون ثم يتبسم الله إليهم فيقول: سلوا فيقولون: نسألك رضوانك فيقول: قد رضيت عنكم فسلوا فيسألون مناهم فيعطيهم ما سألوا وأضعافها ويعطيهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر؛ ثم يقول: ألم أنجزكم وعدي وأتممت عليكم نعمتي وهذا محل كرامتي؟ ثم ينصرفون إلى غرفهم ويعودون كل يوم جمعة قلت: يا جبريل ما غرفهم؟ قال: من لؤلؤة بيضاء وياقوتة حمراء وزبرجدة خضراء مقدرة منها أبوابها فيها أزواجها مطردة أنهارها} رواه " أبو يعلى الموصلي " في (مسنده) عن شيبان بن فروخ عن الصعق بن حزن عن علي بن الحكم البناني عن أنس نحوه لم يحضرني لفظه. ورواه الدارقطني " أيضا من حديث عبد الله بن الحميم الرازي وحدثنا عمرو بن قيس عن أبي شبيبة عن عاصم عن عثمان بن عمير أبي اليقظان عن أنس. ومن حديث إسحاق بن سليمان الرازي حدثنا عنبسة بن سعيد عن عثمان بن عمير عن أنس بن مالك بنحو من السياق المتقدم وليس فيه ذكر الزيادة.
وروى " ابن بطة " بإسناد صحيح عن الأسود بن عامر قال: ذكر لي عن شريك عن أبي اليقظان عن أنس {ولدينا مزيد} قال: يتجلى لهم كل جمعة. ورواه أيضا الدارقطني " من حديث محمد بن حاتم المصيصي: حدثنا محمد بن سعيد القرشي حدثنا حمزة بن واصل المنقري حدثنا قتادة بن دعامة سمعته يقول: حدثنا {أنس بن مالك قال: بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال:
أتاني جبريل وفي يده المرآة البيضاء} وذكر الحديث المتقدم بأبسط مما تقدم وفيه ما يجمع بين حديث أنس الذي في صحيح مسلم وبين سائر الأحاديث وفيه: {ويكون كذلك حتى مقدار متفرقهم من الجمعة}.
وروي من طريق آخر رواه " أبو عمر محمد بن عبد الواحد الزاهد غلام ثعلب " حدثنا محمد بن جعفر بن أبي الدميك المروزي حدثنا سلمة بن شبيب حدثنا يحيى بن عبد الله الحراني حدثنا ضرار بن عمرو عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك وذكر " الحديث " بأبسط مما تقدم ولم يحضرني سياقه ولكن أظن فيه الزيادة المذكورة وهذا الإسناد ضعيف من جهة يزيد الرقاشي وضرار بن عمرو؛ لكن هو مضموم إلى ما تقدم. وروي من طريق عن أنس رواه " أبو حفص بن شاهين " حدثنا جعفر بن محمد العطار حدثنا جدي عبد الله بن الحكم سمعت عاصما أبا علي يقول: سمعت حميدا الطويل قال: سمعت {أنس بن مالك يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله يتجلى لأهل الجنة كل يوم على كثيب كافور أبيض} وقيل: إن جعفرا وجده وعاصما: مجهولون وهذا لا يمنع المعارضة. ورواه أيضا " الدارقطني " بإسناد صحيح إلى العباس بن الوليد بن مزيد: أخبرني محمد بن شعيب أخبرني عمر مولى عفرة عن أنس بن مالك: بنحو ما تقدم في الروايات المتقدمة وفيه: {فيفتح عليهم بعد انصرافهم من يوم الجمعة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر}. فهذا قد روي عن أنس " من طريق جماعة وفي أكثر رواية هؤلاء ذكر الزيادة كما تقدم.
وأما " حديث حذيفة " رضي الله عنه - فرواه " أبو بكر الخلال عن يزيد بن جمهور " حدثنا الحسن بن يحيى بن كثير العنبري حدثنا أبي عن إبراهيم بن المبارك عن الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة بن اليمان قال: {قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاني جبريل وإذا في كفه مرآة كأصفى المرايا وأحسنها} وساق الحديث بزيادته على ما تقدم وفيه ألفاظ أخرى ولم يذكر الزيادة.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 06-02-2025, 09:11 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,714
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ يُونُسَ
المجلد العاشر
الحلقة( 358)

من صــ 61 الى صـ 75






ورواه أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن معمر وأحمد بن عمرو العصفوري قالا: حدثنا يحيى بن كثير العنبري عن إبراهيم بن المبارك عن القاسم بن مطيب عن الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة وذكر الحديث وفيه: {فيوحي الله إلى حملة العرش أن يفتحوا الحجب فيما بينه وبينهم فيكون أول ما يسمعون منه تعالى: أين عبادي الذين أطاعوني بالغيب ولم يروني وصدقوا رسلي واتبعوا أمري؟ سلوني فهذا يوم المزيد فيجتمعون على كلمة واحدة: أن قد رضينا فارض عنا - ويرجع في قوله - يا أهل الجنة إني لو لم أرض عنكم لم أسكنكم جنتي هذا يوم المزيد فسلوني فيجتمعون على كلمة واحدة: أرنا وجهك رب ننظر إليه فيكشف الله الحجب فيتجلى لهم فيغشاهم من نوره ما لولا أن الله قضى أن لا يموتوا لاحترقوا ثم يقال لهم: ارجعوا إلى منازلكم فيرجعون إلى منازلهم في كل سبعة أيام يوم وذلك يوم المزيد}. وأما " حديث ابن عباس " - رضي الله عنه - فروي من غير وجه صحيح في (كتاب الآجري) وابن بطة وغيرهما: عن أبي بكر بن أبي داود السجستاني حدثنا عمي محمد بن الأشعث حدثنا ابن جسر حدثنا أبي جسر عن الحسين عن ابن عباس عن {النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أهل الجنة يرون ربهم تعالى في كل يوم جمعة في رمال الكافور وأقربهم منه مجلسا أسرعهم إليه يوم الجمعة وأبكرهم غدوا} وهذا تصريح بالزيادة المطلوبة. وأما " حديث أبي هريرة " - رضي الله عنه - فرواه الترمذي وابن ماجه من حديث عبد الحميد بن أبي العشرين حدثنا الأوزاعي حدثنا حسان بن عطية عن {سعيد بن المسيب: أنه لقي أبا هريرة فقال أبو هريرة:
أسأل الله أن يجمع بيني وبينك في سوق الجنة؟ فقال سعيد: أفيها سوق؟ قال: نعم أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل الجنة إذا دخلوا نزلوا فيها بفضل أعمالهم ثم يؤذن في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا فيزورون ربهم ويبرز لهم عرشه ويتبدى لهم في روضة من رياض الجنة فتوضع لهم منابر من نور ومنابر من لؤلؤ ومنابر من ياقوت ومنابر من زبرجد ومنابر من ذهب ومنابر من فضة؛ ويجلس أدناهم - وما فيهم من دني - على كثبان المسك والكافور؛ ما يرون بأن أصحاب الكراسي أفضل منهم مجلسا - قال أبو هريرة -:
قلت: يا رسول الله وهل نرى ربنا عز وجل؟ قال: نعم هل تتمارون في رؤية الشمس والقمر ليلة البدر؟ قلنا: لا. قال: كذلك لا تمارون في رؤية ربكم تبارك وتعالى ولا يبقى في ذلك المجلس - يعني: رجلا - إلا حاضره الله محاضرة حتى يقول للرجل منهم: يا فلان بن فلان أتذكر يوم قلت: كذا وكذا - فيذكره ببعض غدراته في الدنيا - فيقول: يا رب؟ أفلم تغفر لي؟ فيقول: بلى فبسعة مغفرتي بلغت منزلتك هذه. فبينما هم كذلك غشيهم سحابة من فوقهم فأمطرت عليهم طيبا لم يجدوا مثل ريحه شيئا قط ويقول ربنا: قوموا إلى ما أعددت لكم من الكرامة فخذوا ما اشتهيتم فنأتي سوقا قد حفت به الملائكة فيه ما لم تنظر العيون إلى مثله ولم تسمع الآذان ولم يخطر على القلوب فيحمل لنا ما اشتهينا ليس يباع فيها ولا يشترى وفي ذلك السوق يلقى أهل الجنة بعضهم بعضا - قال -:
فيقبل الرجل ذو المنزلة المرتفعة فيلقاه من هو دونه - وما فيهم دني - فيروعه ما عليه من اللباس فما ينقضي آخر حديثه حتى يتخيل إليه ما هو أحسن منه؛ وذلك أنه لا ينبغي لأحد أن يحزن فيها ثم ننصرف إلى منازلنا فيتلقانا أزواجنا فيقلن: مرحبا وأهلا لقد جئت وإن بك من الجمال أفضل مما فارقتنا عليه؛ فيقول: إنا جالسنا اليوم ربنا الجبار ويحقنا أن ننقلب بمثل ما انقلبنا} قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وقد روى سويد بن عمرو عن الأوزاعي شيئا من هذا. قلت: قد روى هذا الحديث " ابن بطة " في (الإبانة) بأسانيد صحيحة عن أبي المغيرة عبد القدوس بن الحجاج عن الأوزاعي وعن محمد بن كثير عن الأوزاعي عن عبد الله بن صالح حدثني الهقل عن الأوزاعي قال: نبئت أنه لقي سعيد بن المسيب أبا هريرة فقال: أسأل الله أن يجمع بيني وبينك في سوق الجنة وذكر الحديث مثل ما تقدم. وهذا يبين أن الحديث محفوظ عن الأوزاعي لكن في تلك الروايات سمى من حدثه وفي الروايات البواقي الثانية لم يسم فالله أعلم. و "
مضمون هذا الحديث " أن أزواجهم لم تكن معهم في جمعة الآخرة ولا في سوقها؛ لكنه لا ينفي أنهن رأين الله في دورهن؛ فإن الرجال قد عللوا زيادة الحسن والجمال بمجالسة الجبار والنساء قد شركتهم في زيادة الحسن والجمال كما تقدم في أصح الأحاديث.
فصل:المقتضي لكتابة هذا: أن بعض الفقهاء كان قد سألني لأجل نسائه من مدة: هل ترى المؤمنات الله في الآخرة؟

فأجبت بما حضرني إذ ذاك: من أن الظاهر أنهن يرينه وذكرت له أنه قد روى أبو بكر عن ابن عباس أنهن يرينه في الأعياد وأن أحاديث الرؤية تشمل المؤمنين جميعا من الرجال والنساء وكذلك كلام العلماء؛ وأن المعنى يقتضي ذلك حسب التتبع؛ وما لم يحضرني الساعة. وكان قد سنح لي فيما روي عن ابن عباس أن سبب ذلك أن " الرؤية " المعتادة العامة في الآخرة تكون بحسب الصلوات العامة المعتادة فلما كان الرجال قد شرع لهم في الدنيا الاجتماع لذكر الله ومناجاته وترائيه بالقلوب والتنعم بلقائه في الصلاة كل جمعة جعل لهم في الآخرة اجتماعا في كل جمعة لمناجاته ومعاينته والتمتع بلقائه.

ولما كانت السنة قد مضت بأن النساء يؤمرن بالخروج في العيد حتى العواتق والحيض وكان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج عامة نساء المؤمنين في العيد جعل عيدهن في الآخرة بالرؤية على مقدار عيدهن في الدنيا.
وأيد ذلك عندي ما خرجاه في " الصحيحين " عن {جرير بن عبد الله البجلي قال: كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر فقال: إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا. ثم قرأ: {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها} وهذا الحديث من أصح الأحاديث على وجه الأرض المتلقاة بالقبول المجمع عليها عند العلماء بالحديث وسائر أهل السنة.
ورأيت أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر المؤمنين بأنهم يرون ربهم وعقبه بقوله: {فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا} ومعلوم أن تعقيب الحكم للوصف؛ أو الوصف للحكم بحرف الفاء يدل على أن الوصف علة للحكم؛ لا سيما ومجرد التعقيب هنا محال؛ فإن الرؤية في الحديث قبل التحضيض على الصلاتين وهي موجودة في الآخرة والتحضيض موجود قبلها في الدنيا. والتعقيب الذي يقوله النحويون لا يعنون به أن اللفظ بالثاني يكون بعد الأول؛ فإن هذا موجود بالفاء وبدونها وبسائر حروف العطف وإنما يعنون به معنى أن التلفظ الثاني يكون عقب الأول فإذا قلت: قام زيد فعمرو أفاد أن قيام عمرو موجود في نفسه عقب قيام زيد؛ لا أن مجرد تكلم المتكلم بالثاني عقب الأول وهذا مما هو مستقر عند الفقهاء في أصول الفقه وهو مفهوم من اللغة العربية إذا قيل: هذا رجل صالح فأكرمه فهم من ذلك أن الصلاح سبب للأمر بإكرامه حتى لو رأينا بعد ذلك رجلا صالحا لقيل كذلك الأمر وهذا أيضا رجل صالح أفلا تكرمه؟ فإن لم يفعل فلا بد أن يخلف الحكم لمعارض وإلا عد تناقضا. وكذلك لما قال النبي صلى الله عليه وسلم {ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه حاجب ولا ترجمان فينظر أيمن منه فلا يرى إلا شيئا قدمه وينظر أشأم منه فلا يرى إلا شيئا قدمه وينظر أمامه فتستقبله النار فمن استطاع منكم أن يتقي النار ولو بشق تمرة فليفعل فإن لم يستطع فبكلمة طيبة} فهم منه أن تحضيضه على اتقاء النار هنا لأجل كونهم يستقبلونها وقت ملاقاة الرب وإن كان لها سبب آخر.
وكذلك لما قال ابن مسعود: " سارعوا إلى الجمعة فإن الله يبرز لأهل الجنة في كل جمعة في كثيب من كثب الكافور فيكونون في القرب منه على قدر تسارعهم في الدنيا إلى الجمعة " فهم الناس من هذا أن طلب هذا الثواب سبب للأمر بالمسارعة إلى الجنة. وكذلك لو قيل: إن الأمير غدا يحكم بين الناس أو يقسم بينهم فمن أحب فليحضر فهم منه أن الأمر بالحضور لأخذ النصيب من حكمه أو قسمه وهذا ظاهر. ثم إن هذا الوصف المقتضي للحكم " تارة يكون سببا متقدما على الحكم في العقل وفي الوجود كما في قوله: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} " وتارة " يكون حكمه متقدما على الحكم في العلم والإرادة متأخرة عنه في الوجود كما في قولك: الأمير يحضر غدا فإن حضر كان حضور الأمير يتصور ويقصد قبل الأمر بالحضور معه. وإن كان يوجد بعد الأمر بالحضور وهذه تسمى العلة الغائية وتسميها الفقهاء حكمة الحكم وهي سبب في الإرادة بحكمها وحكمها سبب في الوجود لها. و " التعليل " تارة يقع في اللفظ بنفس الحكمة الموجودة فيكون ظاهره أن العلة متأخرة عن المعلول وفي الحقيقة إنما العلة طلب تلك الحكمة وإرادتها. وطلب العافية وإرادتها متقدم على طلب أسبابها المفعولة وأسبابها المفعولة متقدمة عليها في الوجود ونظائره كثير. كما قيل: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ} {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} ويقال: إذا حججت فتزود. فقوله صلى الله عليه وسلم {إنكم سترون ربكم فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاتين} إلى: فافعلوا يقتضي أن المحافظة عليها هنا لأجل ابتغاء هذه الرؤية ويقتضي أن المحافظة سبب لهذه الرؤية ولا يمنع أن تكون المحافظة توجب ثوابا آخر ويؤمر بها لأجله وأن المحافظة عليها سبب لذلك الثواب وأن للرؤية سببا آخر؛ لأن تعليل الحكم الواحد بعلل واقتضاء العلة الواحدة لأحكام جائز. وهكذا غالب أحاديث الوعد كما في قوله: {من صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه ومن حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه} وقوله: {لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها؛ فإنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم} ونحو ذلك؛ فإنه يقتضي أن صلاة هاتين الركعتين سبب للمغفرة وكذلك الحج المبرور وإن كان للمغفرة أسباب أخر. وأيد هذا المعنى أن الله تعالى قال: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه} وقد فسر هذا الدعاء بصلاتي الفجر والعصر ولما أخبر أنهم يريدون وجهه بهاتين الصلاتين وأخبر في هذا الحديث أنهم ينظرون إليه فتحضيضهم على هاتين يناسب ذلك أن من أراد وجهه نظر إلى وجهه تبارك وتعالى. ثم لما انضم إلى ذلك ما تقدم من أن صلاة الجمعة سبب للرؤية في وقتها وكذلك صلاة العيد ناسب ذلك أن تكون هاتان الصلاتان اللتان هما أفضل الصلوات وأوقاتهما أفضل الأوقات فناسب أن تكون الصلاة: التي هي أفضل الأعمال ثم ما كان منها أفضل الصلوات في أفضل الأوقات سببا لأفضل الثوابات في أفضل الأوقات.
لا سيما وقد جاء في حديث ابن عمر الذي رواه الترمذي عن إسرائيل عن ثوير بن أبي فاختة سمعت ابن عمر يقول: {قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشيا - ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم -: {وجوه يومئذ ناضرة} {إلى ربها ناظرة}.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 07-02-2025, 07:31 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,714
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ يُونُسَ
المجلد العاشر
الحلقة( 359)

من صــ 76 الى صـ 90





قال الترمذي وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن إسرائيل عن ثوير عن ابن عمر مرفوعا ورواه عبد الملك بن أبجر عن ثوير عن مجاهد عن ابن عمر موقوفا ورواه عبيد الله الأشجعي عن سفيان عن ثوير عن مجاهد عن ابن عمر قوله: ولم يرفعه. وقال الترمذي: لا نعلم أحدا ذكر فيه مجاهدا غير ثوير وأظنه قد قيل: في قوله: {ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا} أن منه النظر إلى الله. وروي في ذلك حديث مرفوع رواه الدارقطني في " الرؤية ": حدثنا أبو عبيد قاسم بن إسماعيل الضبي حدثنا محمد بن محمد بن مرزوق البصري حدثنا هانئ بن يحيى حدثنا صالح المصري عن عباد المنقري عن ميمون بن سياه عن {أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه هذه الآية {وجوه يومئذ ناضرة} {إلى ربها ناظرة} قال: والله ما نسخها منذ أنزلها يزورون ربهم تبارك وتعالى فيطعمون ويسقون ويطيبون ويحملون ويرفع الحجاب بينه وبينهم فينظرون إليه وينظر إليهم عز وجل وذلك قوله: {ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا}. وقد ذكر أبو الفرج بن الجوزي هذا الحديث في " الموضوعات " وقال: هذا لا يصح؛ فيه ميمون بن سياه. قال ابن حبان: ينفرد بالمناكير عن المشاهير لا يحتج به إذا انفرد وفيه صالح المصري قال النسائي: متروك الحديث.
قلت: أما ميمون بن سياه فقد أخرج له البخاري والنسائي وقال فيه أبو حاتم الرازي: ثقة وحسبك بهذه الأمور الثلاثة وعن ابن معين قال فيه:ضعيف؛ لكن هذا الكلام يقوله ابن معين في غير واحد من الثقات. وأما كلام ابن حبان ففيه ابتداع في الجرح. فلما كان في حديث ابن عمر المتقدم وعد أعلاهم " غدوة وعشيا " والرسول صلى الله عليه وسلم قد جعل صلاتي الغداة والعشي سببا " للرؤية " وصلاة الجمعة سببا " للرؤية " في وقتها؛ مع ما في الصلاة من مناسبة الرؤية كان العلم بمجموع هذه الأمور يفيد ظنا قويا أن هاتين الصلاتين سبب للرؤية في وقتهما في الآخرة والله أعلم بحقيقة الحال. فلما كان هذا قد سنح لي والنساء يشاركن الرجال في سبب العمل فيشاركونهم في ثوابه ولما انتفت المشاركة في الجمعة انتفت المشاركة في النظر في الآخرة ولما حصلت المشاركة في العيد حصلت المشاركة في ثوابه.
ثم بعد مدة طويلة جرى كلام في هذه " المسألة " وكنت قد نسيت ما ذكرته أولا؛ لا بعضه فاقتضى ذكر ما ذكرته أولا فقيل لي: الحديث يقتضي أن هاتين الصلاتين من جملة سبب " الرؤية "؛ لا أنه جميع السبب بدليل أن من صلاهما ولم يصل الظهر والعصر لا يستحق الرؤية. وقيل لي: الحديث يدل على أن الصلاتين سبب في الجملة فيجوز أن تكون هاتان الصلاتان سببا للرؤية في الجمعة؛ كيف وقد قيل: إن أعلى أهل الجنة من يراه مرتين؟ فكيف يكون المحافظون على هاتين الصلاتين أعلاهم؟. فقلت: ظاهر الحديث يقتضي أن هاتين الصلاتين هو السبب في هذه " الرؤية " لما ذكرته من القاعدة في النساء آنفا؛ ثم قد يتخلف المقتضي عن المقتضى لمانع لا يقدح في اقتضائه كسائر أحاديث الوعد؛ فإنه لما قال: {من صلى البردين دخل الجنة} " من فعل كذا دخل الجنة " دل على أن ذلك العمل سبب لدخول الجنة وإن تخلف عنه مقتضاه لكفر أو فسق. فمن ترك صلاة الظهر أو زنى أو سرق ونحو ذلك كان فاسقا والفاسق غير مستحق للوعد بدخول الجنة كالكافر وكذلك أحاديث الوعيد إذا قيل: من فعل كذا دخل النار؛ فإن المقتضى يتخلف عن التائب وعمن أتى بحسنات تمحو السيئات وعن غيرهم ويجوز أن يكون للرؤية سبب آخر فكونه سببا لا يمنع تخلف الحكم عنه لمانع ولا يمنع أن ينتصب سبب آخر للرؤية. ثم أقول: فعل بقية الفرائض سواء كانت من جملة السبب أو كانت شرطا في هذا السبب: فالأمر في ذلك قريب وهو نزاع لفظي؛ فإن الكلام إنما هو في حق من أتى ببقية شروط الوعد وانتفت عنه موانعه. ولا يجوز أن يقال: فالأنوثة مانع من لحوق الوعد أو الذكورة شرط؛ لأن هذا إن دل عليه دليل شرعي كما دل على أن فعل بقية الفرائض شرط قلنا به فأما بمجرد الإمكان فلا يجوز ترك مقتضى اللفظ وموجبه بالإمكان؛ بل متى ثبت عموم اللفظ وعموم العلة وجب ترتيب مقتضى ذلك عليه ما لم يدل دليل بخلافه؛ ولم يثبت أن الذكورة شرط ولا أن الأنوثة مانع؛ كما لم يقتض أن العربية والعجمية والسواد والبياض لها تأثير في ذلك.
وكذلك الحديث يدل على أن " المقتصدين " يشاركون " السابقين " في أصل الرؤية وإن امتاز السابقون عنهم بدرجات ومثوبات أو شمول المعنى لهؤلاء على السواء فهذا من هذا الوجه دليل على أن هاتين الصلاتين سبب للرؤية ووجود السبب يقتضي وجود المسبب إلا إذا تخلف شرطه أو حصلت موانعه والشروط والموانع تتوقف على دليل. وأما الاعتراض على كون هاتين الصلاتين سببا للرؤية في الجملة - ولو في يوم الجمعة - فيقال: ذلك لا ينفي أن النساء يرينه في الجملة ولو في غير يوم الجمعة وهذا هو المطلوب.
ثم يقال: مجموع ما تقدم من سائر الأحاديث يقتضي أن الرؤية تحصل وقت العمل في الدنيا فإذا قيل: إن الرؤية تكون غدوا وعشيا وسببها صلاة الغداة والعشي كان هذا ظاهرا فيما قلناه. والمدعى الظهور؛ لا القطع. وأما كون " الرؤية مرتين " لأعلى أهل الجنة وليس من صلى هاتين الصلاتين أعلى أهل الجنة فليس هذا بدافع لما ذكرناه؛ لأن هذين الاحتمالين ممكنة به يخرج الدليل عليها؛ لكن الله أعلم بما هو الواقع منها. يمكن السبب فعل هاتين الصلاتين على الوجه الذي أمر الله به باطنا وظاهرا؛ لا صلاة أكثر الناس.
ألا ترى إلى حديث عمار بن ياسر عن النبي صلى الله عليه وسلم {إن الرجل لينصرف من صلاته ولم يكتب له إلا ربعها إلا خمسها إلا سدسها - حتى قال -: عشرها} رواه أبو داود فالصلاة المقبولة هي سبب الثواب والصلاة المقبولة هي المكتوبة لصاحبها وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن من المصلين من لا يكتب له إلا بعضها فلا يكون ذلك المصلي مستحقا للثواب الذي استحقه من تقبل الله صلاته وكتبها له كلها. وعلى هذا فلا يكاد يندرج في الحديث إلا الصديقون أو قليل من غيرهم فالنساء منهن صديقات. ويجوز أن يكون من له نوافل يجبر بها نقص صلاته يدخل في الحديث كما جاء في حديث أبي هريرة المرفوع: {إن النوافل تجبر الفرائض يوم القيامة}.
وعلى هذا فيكون الموجودون بهذا أكثر المصلين المحافظين على الصلوات ويكون هؤلاء أعلى أهل الجنة؛ فإن أكثر أمة محمد صلى الله عليه وسلم ما يحافظون على الصلوات بل منهم من يؤخر بعضها عن وقته ومنهم من ترك بعض واجباتها ومنهم من يترك بعضها وسائر الأمم قبلنا لا حظ لهم في هاتين الصلاتين. ولو قيل: إن كل من صلى هاتين الصلاتين دخل الجنة على أي حال كان مغفورا له نال هذا الثواب لأمكن في قدرة الله ولم يكن الحديث نافيا لهذا؛ إذ أكثر ما فيه أنه من أعلى أهل الجنة والعلو والسفول أمر إضافي فيصدق على أهل الجنات الثلاث أنهم من أعلى أهل الجنات الخمس الباقية ويصدق أيضا
على أكثر أهل الجنة أنهم أعلى بالنسبة إلى من تحتهم وبعض هذا فيه نظر والله أعلم بحقيقة الحال. لكن الغرض أن هذا لا ينفي ما ذكرناه وهذا كله لو كان حديث " المرتين " يصلح لمعارضة ما ذكرنا من الدلالة وهو لا يصلح لذلك لما فيه من الاختلاف في إسناده.

ولما جرى الكلام ثانيا في " رؤية النساء ربهن في الآخرة " استدللت بأشياء أنا أذكرها وما اعترض به علي وما لم يعترض حتى يظهر الأمر فأقول: الدليل على أنهن يرينه أن النصوص المخبرة بالرؤية في الآخرة للمؤمنين تشمل النساء لفظا ومعنى ولم يعارض هذا العموم ما يقتضي إخراجهن من ذلك فيجب القول بالدليل السالم عن المعارض المقاوم. ولو قيل لنا: ما الدليل على أن الفرس يرون الله؟ أو أن الطوال من الرجال يرون الله أو إيش الدليل على أن نساء الحبشة يخرجن من النار؟ لكان مثل هذا العموم في ذلك بالغا جدا إلا إذا خصص ثم يعلم أن العموم المسند المجرد عن قبول التخصيص يكاد يكون قاطعا في شموله بل قد يكون قاطعا. أما " النصوص العامة " فمثل ما في الصحيحين عن أبي هريرة {أن الناس قالوا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: هل تمارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله؛ قال: فهل تمارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا:
لا قال: فإنكم ترونه كذلك يحشر الناس يوم القيامة فيقول: من كان يعبد شيئا فليتبعه. فمنهم من يتبع الشمس ومنهم من يتبع القمر ومنهم من يتبع الطواغيت؛ وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم في صورة غير صورته التي يعرفون فيقولون: نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا عز وجل فإذا جاء ربنا عز وجل عرفناه فيأتيهم في صورته التي يعرفون فيقول: أنا ربكم فيقولون: أنت ربنا فيدعوهم فيتبعونه ويضرب الصراط بين ظهراني جهنم فأكون أنا وأمتي أول من يجيز ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل ودعوى الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم} وساق الحديث.
وفي الصحيحين أيضا عن {أبي سعيد قال: قلنا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم فهل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صحوا ليس معها سحاب هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر صحوا ليس فيها سحاب قالوا: لا يا رسول الله قال: ما تضارون في رؤية الله تبارك وتعالى يوم القيامة إلا كما تضارون في رؤية أحدهما؛ إذا كان يوم القيامة أذن مؤذن لتتبع كل أمة ما كانت تعبد فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر وغير أهل الكتاب} وذكر الحديث في دعاء اليهود والنصارى إلى أن قال: {حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر أتاهم الله في أدنى صورة من التي رأوه فيها قال: فما تنتظرون؟ تتبع كل أمة ما كانت تعبد قالوا يا ربنا؛ فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم؛ فيقول: أنا ربكم فيقولون: نعوذ بالله منك لا نشرك بالله شيئا مرتين أو ثلاثا حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب فيقول: هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها؟ فيقولون نعم فيكشف عن ساق ولا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود؛ ولا يبقى من كان يسجد اتقاء ورياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة كلما أراد أن يسجد خر على قفاه؛ ثم يرفعون رءوسهم وقد تحول في الصورة التي رأوه فيها أول مرة فيقول: أنا ربكم فيقولون:
أنت ربنا ثم يضرب الجسر على جهنم}. هذان الحديثان من أصح الأحاديث فلما {قال النبي صلى الله عليه وسلم فإنكم ترونه كذلك؛ يحشر الناس فيقول من كان يعبد شيئا فليتبعه}. أليس قد علم بالضرورة أن هذا خطاب لأهل الموقف من الرجال والنساء؟ لأن لفظ الناس يعم الصنفين ولأن الحشر مشترك بين الصنفين. وهذا العموم لا يجوز تخصيصه وإن جاز جاز على ضعف؛ لأن النساء أكثر من الرجال إذ قد صح أنهن أكثر أهل النار وقد صح لكل رجل من أهل الجنة زوجتان من الإنسيات سوى الحور العين وذلك لأن من في الجنة من النساء أكثر من الرجال وكذلك في النار فيكون الخلق منهم أكثر واللفظ العام لا يجوز أن يحمل على القليل من الصور دون الكثير بلا قرينة متصلة؛ لأن ذلك تلبيس وعي ينزه عنه كلام الشارع. ثم قوله: فيقال {: من كان يعبد شيئا فليتبعه} وصف من الصيغ التي تعم الرجال والنساء؛ ثم فيها العموم المعنوي وهو: أن اتباعه إياه معلل بكونه عبده في الدنيا وهذه العلة شاملة للصنفين. ثم قوله {وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها}.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 07-02-2025, 07:39 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,714
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ يُونُسَ
المجلد العاشر
الحلقة( 360)

من صــ 91 الى صـ 105





والنساء من هذه الأمة مؤمناتهن ومنافقاتهن {فإذا جاء عرفناه} وقوله: {فيأتيهم في صورته التي يعرفون فيقول: أنا ربكم فيقولون: أنت ربنا فيدعوهم} تفسير لما ذكرناه في أول الحديث من أنهم يرون ربهم كما يرون الشمس والقمر. والضمير في قوله: {فيأتيهم في صورته التي يعرفون فيقول: أنا ربكم فيقولون: أنت ربنا} قد ثبت أنه عائد إلى الأمة التي فيها الرجال والنساء وإلى من كان يعبده الذي يشمل الرجال والنساء وإلى الناس غير المشركين؛ وذلك يعم الرجال والنساء وهذا أوضح من أن يزاد بيانا. ثم قوله في حديث أبي سعيد: {فيرفعون رءوسهم وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة} نص في أن النساء من الساجدين الرافعين قد رأوه أولا ووسطا وآخرا والساجدون قد قال فيهم: {لا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود} و " من " تعم الرجال والنساء فكل من سجد لله مخلصا من رجل وامرأة فقد سجد لله وقد رآه في هذه المواقف الثلاث وليس هذا موضع بيان ما يتعلق بتعدد السجود والتحول وغير ذلك مما يلتمس معرفته وإنما الغرض هنا ما قصدنا له.
ثم في كلا الحديثين الإخبار بمرورهم على الصراط وسقوط قوم في النار ونجاة آخرين ثم بالشفاعة في أهل التوحيد حتى يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان ويدخلون الجنة ويسمون الجهنميين؛ أفليس هذا كله عاما للرجال والنساء أم الذين يجتازون على الصراط ويسقط بعضهم في النار ثم يشفع في بعضهم هم الرجال؛ ولو طلب الرجل نصا في النساء في مثل هذا أما كان متكلفا ظاهر التكلف؟. وكذلك روى مسلم في صحيحه عن {أبي الزبير: أنه سمع جابرا يسأل عن الورود فقال: نجيء نحن يوم القيامة عن كذا وكذا انظر أي ذلك فوق الناس قال: فتدعى الأمم بأوثانها وما كانت تعبد الأول فالأول؛ ثم يأتينا ربنا بعد ذلك فيقول: من تنتظرون؟ فيقولون: ننتظر ربنا فيقول: أنا ربكم فيقولون: حتى ننظر إليك فيتجلى لهم يضحك قال: فينطلق بهم ويتبعونه ويعطي كل إنسان منهم - منافق أو مؤمن - نورا؛ ثم يتبعونه وعلى جسر جهنم كلاليب وحسك تأخذ من شاء الله ثم يطفأ نور المنافقين ثم ينجوا المؤمنون} وذكر الحديث في دخول الجنة والشفاعة.
أفليس هذا بينا في أنه يتجلى لجميع الأمة؟ كما أن الأمة تعطى نورها ثم جميع " المؤمنين " ذكرانهم وإناثهم يبقى نورهم وكذلك جميع ما في الحديث من المعاني تعم الطائفتين عموما يقينيا. وهذا الحديث هو مرفوع قد رواه الإمام أحمد وغيره بمثل إسناد مسلم وذكر فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يقتضي أن جابرا سمع الجميع منه وروي من وجوه صحيحة عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا؛ وهذا الحديث قد روي أيضا بإسناد جيد من حديث ابن مسعود مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أطول سياقه من سائر الأحاديث وروي من غير وجه.
وفي حديث {أبي رزين العقيلي المشهور من غير وجه قال: قلنا يا رسول الله: أكلنا يرى ربه يوم القيامة؟ قال: أكلكم يرى القمر مخليا به؟ قالوا: بلى فالله أعظم} وقوله: {كلكم يرى ربه} كقوله {كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته فالرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته والمرأة راعية في مال زوجها وهي مسئولة عن رعيتها} من أشمل اللفظ. ومن هذا قوله: {كلكم يرى ربه مخليا به} {وما منكم من أحد إلا سيخلو به ربه كما يخلو أحدكم بالقمر} {وما منكم إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه حاجب ولا ترجمان} إلى غير ذلك من الأحاديث الصحاح والحسان التي تصرح بأن جميع الناس ذكورهم وإناثهم مشتركون في هذه الأمور من " المحاسبة " و " الرؤية " و " الخلوة " و " الكلام ".
وكذلك الأحاديث في " رؤيته - سبحانه - في الجنة " مثل ما رواه مسلم في صحيحه عن صهيب قال: {قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون: ما هو؟ ألم يثقل موازيننا ويبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار؟ فيكشف الحجاب فينظرون إلى الله فما شيء أعطوه أحب إليهم من النظر إليه وهي الزيادة}. قوله: {إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار} يعم الرجال والنساء؛ فإن لفظ الأهل يشمل الصنفين وأيضا فقد علم أن النساء من أهل الجنة. وقوله: {يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه} خطاب لجميع أهل الجنة الذين دخلوها ووعدوا بالجزاء وهذا قد دخل فيه جميع النساء المكلفات. وكذلك قولهم: " ألم يثقل ويبيض ويدخل وينجز " يعم الصنفين. وقوله: {فيكشف الحجاب فينظرون إليه} الضمير يعود إلى ما تقدم وهو يعم الصنفين.
ثم الاستدلال بالآية دليل آخر؛ لأن الله سبحانه قال: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} ومعلوم أن النساء من الذين أحسنوا ثم قوله فيما بعد: {أولئك أصحاب الجنة} يقتضي حصر أصحاب الجنة في أولئك والنساء من أصحاب الجنة فيجب أن يكن من أولئك وأولئك إشارة إلى الذين لهم الحسنى وزيادة؛ فوجب دخول النساء في الذين لهم الحسنى وزيادة واقتضى أن كل من كان من أصحاب الجنة فإنه موعود " بالزيادة على الحسنى " التي هي النظر إلى الله سبحانه؛ ولا يستثنى من ذلك أحد إلا بدليل؛وهذه " الرؤية العامة " لم توقت بوقت بل قد تكون عقب الدخول قبل استقرارهم في المنازل والله أعلم أي وقت يكون ذلك.
وكذلك ما دل من الكتاب على " الرؤية " كقوله {وجوه يومئذ ناضرة} {إلى ربها ناظرة} {ووجوه يومئذ باسرة} {تظن أن يفعل بها فاقرة} هو تقسيم لجنس الإنسان المذكور في قوله: {ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر} {بل الإنسان على نفسه بصيرة} وظاهر انقسام الوجوه إلى هذين النوعين. كما أن قوله {وجوه يومئذ مسفرة} {ضاحكة مستبشرة} {ووجوه يومئذ عليها غبرة} {ترهقها قترة} أيضا إلى هذين النوعين فمن لم يكن من الوجوه الباسرة كان من الوجوه الناضرة الناظرة؛ كيف وقد ثبت في الحديث أن النساء يزددن حسنا وجمالا كما يزداد الرجال في مواقيت النظر؟ وكذلك قوله: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون} قد فسر بالرؤية وقوله:
{إن الأبرار لفي نعيم} {على الأرائك ينظرون} فإن هذا كله يعم الرجال والنساء. واعلم أن الناس قد اختلفوا في " صيغ جمع المذكر مظهره ومضمره " مثل: المؤمنين والأبرار وهو هل يدخل النساء في مطلق اللفظ أو لا يدخلون إلا بدليل؟ على قولين: (أشهرهما عند أصحابنا ومن وافقهم أنهم يدخلون بناء على أن من لغة العرب إذا اجتمع المذكر والمؤنث غلبوا المذكر وقد عهدنا من الشارع في خطابه أنه يعم القسمين ويدخل النساء بطريق التغليب وحاصله أن هذه الجموع تستعملها العرب تارة في الذكور المجردين وتارة في الذكور والإناث وقد عهدنا من الشارع أن خطابه المطلق يجري على النمط الثاني وقولنا: المطلق احتراز من المقيد مثل قوله: {والمؤمنين والمؤمنات} ومن هؤلاء من يدعي أن مطلق اللفظ في اللغة يشمل القسمين.
و (القول الثاني: إنهن لا يدخلن إلا بدليل ثم لا خلاف بين الفريقين أن آيات " الأحكام " و " الوعد " و " الوعيد " التي في القرآن تشمل الفريقين وإن كانت بصيغة المذكر فمن هؤلاء من يقول: دخلوا فيه لأن الشرع استعمل اللفظ فيهما وإن كان اللفظ المطلق لا يشمله وهذا يرجع إلى القول الأول. ومنهم من يقول:
دخلوا لأنا علمنا من الدين استواء الفريقين في الأحكام فدخلوا كما ندخل نحن فيما خوطب به الرسول وكما تدخل سائر الأمة فيما خوطب به الواحد منها. وإن كانت صيغة اللفظ لا تشمل غير المخاطب. وحقيقة هذا القول: أن اللفظ الخاص يستعمل عاما " حقيقة عرفية " إما خاصة وإما عامة وربما سماه بعضهم قياسا جليا ينقص حكم من خالفه؛ وأكثرهم لا يسمونه " قياسا " بل قد علم استواء المخاطب وغيره فنحن نفهم من الخطاب له الخطاب للباقين حتى لو فرض انتفاء الخطاب في حقه لمعنى يخصه لم ينقص انتفاء الخطاب في حق غيره " فالقياس " تعدية الحكم وهنا لم يعد حكم وإنما ثبت الحكم في حق الجميع ثبوتا واحدا؛ بل هو مشبه بتعدية الخطاب بالحكم؛ لا نفس الحكم.
وعلى كل قول فالدلالة من صيغ الجمع المذكر متوجهة؛ كما أنها متوجهة بلا تردد من صيغة: " من " و " أهل " و " الناس " ونحو ذلك. واعلم أن هنا " دلالة ثانية " وهي دلالة العموم المعنوي وهي أقوى من دلالة العموم اللفظي وذلك أن قوله: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون} وقد فسرت " القرة " بالنظر وغيره فيقتضي أن النظر جزاء على عملهم والرجال والنساء مشتركون في العمل الذي استحق به جنس الرجال الجنة؛ فإن العمل الذي يمتاز به الرجال " كالإمارة " و " النبوة " - عند الجمهور - ونحو ذلك لم تنحصر الرؤية فيه؛ بل يدخل في الرؤية من الرجال من لم يعمل عملا يختص الرجال؛ بل اقتصر على ما فرض عليه: من الصلاة والزكاة وغيرهما؛ وهذا مشترك بين الفريقين. وكذلك قوله: {إن الأبرار لفي نعيم} {على الأرائك ينظرون} إن " البر " سبب هذا الثواب و " البر " مشترك بين الصنفين وكذلك كل ما علقت به " الرؤية " من اسم الإيمان ونحوه يقتضي أنه هو السبب في ذلك فيعم الطائفتين. وبهذا " الوجه " احتج الأئمة أن الكفار لا يرون ربهم. فقالوا: لما حجب الكفار بالسخط دل على أن المؤمنين يرون بالرضى ومعلوم أن المؤمنات فارقن الكفار فيما استحقوا به السخط والحجاب وشاركوا المؤمنين فيما استحقوا به الرضوان والمعاينة فثبتت الرؤية في حقهم باعتبار الطرد واعتبار العكس. وهذا باب واسع إن لم نقطعه لم ينقطع. فإن قيل: دلالة العموم ضعيفة فإنه قد قيل: أكثر العمومات مخصوصة؛ وقيل: ما ثم لفظ عام إلا قوله: {وهو بكل شيء عليم} ومن الناس من أنكر دلالة العموم رأسا. قلنا: أما " دلالة العموم المعنوي العقلي " فما أنكره أحد من الأمة فيما أعلمه؛ بل ولا من العقلاء ولا يمكن إنكارها اللهم إلا أن يكون في " أهل الظاهر الصرف " الذين لا يلحظون المعاني كحال من ينكرها؛ لكن هؤلاء لا ينكرون عموم الألفاظ؛ بل هو عندهم العمدة ولا ينكرون عموم معاني الألفاظ العامة؛ وإلا قد ينكرون كون عموم المعاني المجردة مفهوما من خطاب الغير.
فما علمنا أحدا جمع بين إنكار " العمومين " اللفظي والمعنوي ونحن قد قررنا العموم بهما جميعا فيبقى محل وفاق مع العموم المعنوي؛ لا يمكن إنكاره في الجملة؛ ومن أنكره سد على نفسه إثبات حكم الأشياء الكثيرة؛ بل سد على عقله أخص أوصافه وهو القضاء بالكلية العامة ونحن قد قررنا العموم من هذا الوجه؛ بل قد اختلف الناس في مثل هذا العموم: هل يجوز تخصيصه؟ على قولين مشهورين.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 07-02-2025, 07:47 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,714
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ يُونُسَ
المجلد العاشر
الحلقة( 361)

من صــ 106 الى صـ 120





وأما " العموم اللفظي " فما أنكره أيضا إمام ولا طائفة لها مذهب مستقر في العلم ولا كان في " القرون الثلاثة " من ينكره؛ وإنما حدث إنكاره بعد المائة الثانية وظهر بعد المائة الثالثة وأكبر سبب إنكاره إما من المجوزين للعفو من " أهل السنة ". ومن أهل المرجئة من ضاق عطنه لما ناظره الوعيدية بعموم آيات الوعيد وأحاديثه فاضطره ذلك إلى أن جحد العموم في اللغة والشرع فكانوا فيما فروا إليه من هذا الجحد كالمستجير من الرمضاء بالنار. ولو اهتدوا للجواب السديد " للوعيدية ": من أن الوعيد في آية وإن كان عاما مطلقا فقد خصص وقيد في آية أخرى - جريا على السنن المستقيمة - أولى بجواز العفو عن المتوعد وإن كان معينا.
تقييدا للوعيد المطلق؛ وغير ذلك من الأجوبة وليس هذا موضع تقرير ذلك؛ فإن الناس قد قرروا العموم بما يضيق هذا الموضع عن ذكره. وإن كان قد يقال: بل العلم بحصول العموم من صيغه ضروري من اللغة والشرع والعرف والمنكرون له فرقة قليلة يجوز عليهم جحد الضروريات أو سلب معرفتها؛ كما جاز على من جحد العلم بموجب الأخبار المتواترة وغير ذلك من المعالم الضرورية. وأما من سلم أن العموم ثابت وأنه حجة.
وقال: هو ضعيف أو أكثر العمومات مخصوصة وأنه ما من عموم محفوظ إلا كلمة أو كلمات. فيقال له: " أولا " هذا سؤال لا توجيه له؛ فإن هذا القدر الذي ذكرته لا يخلو: إما أن يكون مانعا من الاستدلال بالعموم أو لا يكون، فإن كان مانعا فهو مذهب منكري العموم من الواقفة والمخصصة وهو مذهب سخيف لم ينتسب إليه. وإن لم يكن مانعا من الاستدلال فهذا كلام ضائع غايته أن يقال: دلالة العموم أضعف من غيره من الظواهر وهذا لا يقر؛ فإنه ما لم يقم الدليل المخصص وجب العمل بالعام. ثم يقال " ثانيا ": من الذي سلم لكم أن العموم المجرد الذي لم يظهر له مخصص دليل ضعيف؟ أم من الذي سلم أن أكثر العمومات مخصوصة؟ أم من الذي يقول ما من عموم إلا قد خص إلا قوله: {بكل شيء عليم}؟ فإن هذا الكلام وإن كان قد يطلقه بعض السادات من المتفقهة وقد يوجد في كلام بعض المتكلمين في أصول الفقه فإنه من أكذب الكلام وأفسده. والظن بمن قاله " أولا " أنه إنما عنى أن العموم من لفظ " كل شيء " مخصوص إلا في مواضع قليلة كما في قوله:
{تدمر كل شيء} {وأوتيت من كل شيء} {فتحنا عليهم أبواب كل شيء} وإلا فأي عاقل يدعي هذا في جميع صيغ العموم في الكتاب والسنة وفي سائر كتب الله وكلام أنبيائه وسائر كلام الأمم عربهم وعجمهم. وأنت إذا قرأت القرآن من أوله إلى آخره وجدت غالب عموماته محفوظة؛ لا مخصوصة. سواء عنيت عموم الجمع لأفراده أو عموم الكل لأجزائه أو عموم فهو مذهب منكري العموم من الواقفة والمخصصة وهو مذهب سخيف لم ينتسب إليه.
وإن لم يكن مانعا من الاستدلال فهذا كلام ضائع غايته أن يقال: دلالة العموم أضعف من غيره من الظواهر وهذا لا يقر؛ فإنه ما لم يقم الدليل المخصص وجب العمل بالعام. ثم يقال " ثانيا ": من الذي سلم لكم أن العموم المجرد الذي لم يظهر له مخصص دليل ضعيف؟ أم من الذي سلم أن أكثر العمومات مخصوصة؟ أم من الذي يقول ما من عموم إلا قد خص إلا قوله: {بكل شيء عليم}؟ فإن هذا الكلام وإن كان قد يطلقه بعض السادات من المتفقهة وقد يوجد في كلام بعض المتكلمين في أصول الفقه فإنه من أكذب الكلام وأفسده. والظن بمن قاله " أولا " أنه إنما عنى أن العموم من لفظ " كل شيء " مخصوص إلا في مواضع قليلة كما في قوله: {تدمر كل شيء} {وأوتيت من كل شيء} {فتحنا عليهم أبواب كل شيء} وإلا فأي عاقل يدعي هذا في جميع صيغ العموم في الكتاب والسنة وفي سائر كتب الله وكلام أنبيائه وسائر كلام الأمم عربهم وعجمهم. وأنت إذا قرأت القرآن من أوله إلى آخره وجدت غالب عموماته محفوظة؛ لا مخصوصة. سواء عنيت عموم الجمع لأفراده أو عموم الكل لأجزائه أو عموم الله؟ {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} فهل في المغضوب عليهم والضالين أحد لا يجتنب حاله التي كان بها مغضوبا عليه أو ضالا؟ {هدى للمتقين} {الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون} الآية. فهل في هؤلاء المتقين أحد لم يهتد بهذا الكتاب؟ {والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك}. هل فيما أنزل الله ما لم يؤمن به المؤمنون لا عموما ولا خصوصا؟ {أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون} هل خرج أحد من هؤلاء المتقين عن الهدى في الدنيا وعن الفلاح في الآخرة؟.
ثم قوله: {إن الذين كفروا} قيل: هو عام مخصوص وقيل: هو لتعريف العهد فلا تخصيص فيه؛ فإن التخصيص فرع على ثبوت عموم اللفظ؛ ومن هنا يغلط كثير من الغالطين يعتقدون أن اللفظ عام ثم يعتقدون أنه قد خص منه؛ ولو أمعنوا النظر لعلموا من أول الأمر أن الذي أخرجوه لم يكن اللفظ شاملا له ففرق بين شروط العموم وموانعه وبين شروط دخول المعنى في إرادة المتكلم وموانعه. ثم قوله: {لا يؤمنون} أليس هو عاما لمن عاد الضمير إليه عموما محفوظا؟ {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم} أليس هو عاما في القلوب وفي السمع وفي الأبصار وفي المضاف إليه هذه الصفة عموما لم يدخله تخصيص؟ وكذلك (ولهم) وكذلك في سائر الآيات إذا تأملته إلى قوله: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم} فمن الذين خرجوا من هذا العموم الثاني فلم يخلقهم الله له؟ وهذا باب واسع.
وإن مشيت على آيات القرآن كما تلقن الصبيان وجدت الأمر كذلك؛ فإنه سبحانه قال: {قل أعوذ برب الناس} {ملك الناس} {إله الناس} فأي ناس ليس الله ربهم؟ أم ليس ملكهم؟ أم ليس إلههم؟ ثم قوله: {من شر الوسواس الخناس} إن كان المسمى واحدا فلا عموم فيه وإن كان جنسا فهو عام فأي وسواس خناس لا يستعاذ بالله منه؟. وكذلك قوله: {برب الفلق} أي جزء من " الفلق " أم أي (فلق ليس الله ربه؟ {من شر ما خلق} أي شر من المخلوق لا يستعاذ منه؟ {ومن شر النفاثات} أي نفاثة في العقد لا يستعاذ منها؟ وكذلك قوله: {ومن شر حاسد} مع أن عموم هذا فيه بحث دقيق ليس هذا موضعه. ثم " سورة الإخلاص " فيها أربع عمومات: {لم يلد} فإنه يعم جميع أنواع الولادة وكذلك {ولم يولد} وكذلك {ولم يكن له كفوا أحد} فإنها تعم كل أحد وكل ما يدخل في مسمى الكفؤ فهل في شيء من هذا خصوص؟. ومن هذا الباب كلمة الإخلاص التي هي أشهر عند أهل الإسلام من كل كلام وهي كلمة " لا إله إلا الله " فهل دخل هذا العموم خصوص قط؟ فالذي يقول بعد هذا:
ما من عام إلا وقد خص إلا كذا وكذا إما في غاية الجهل وإما في غاية التقصير في العبارة؛ فإن الذي أظنه أنه إنما عنى: " من الكلمات التي تعم كل شيء " مع أن هذا الكلام ليس بمستقيم؛ وإن فسر بهذا؛ لكنه أساء في التعبير أيضا؛ فإن الكلمة العامة ليس معناها أنها تعم كل شيء؛ وإنما المقصود أن تعم ما دلت عليه أي ما وضع اللفظ له وما من لفظ في الغالب إلا وهو أخص مما هو فوقه في العموم وأعم مما هو دونه في العموم والجميع يكون عاما. ثم عامة كلام العرب وسائر الأمم إنما هو أسماء عامة والعموم اللفظي على وزان العموم العقلي وهو خاصية " العقل " الذي هو أول درجات التمييز بين الإنسان وبين البهائم.
فإن قيل: سلمنا أن ظاهر الكتاب والسنة يشمل النساء؛ لكن هذا العموم مخصوص؛ وذلك أن في حديث رؤية الله للرجال يوم الجمعة: {إن الرجال يرجعون إلى منازلهم فتتلقاهم نساؤهم فيقلن للرجل: لقد جئت وإن بك من الجمال أفضل مما فارقتنا عليه فيقول: إنا جالسنا اليوم ربنا الجبار ويحقنا أن ننقلب بمثل ما انقلبنا به}. وهذا دليل على أن النساء لم يشاركوهم في الرؤية وإذا كان هذا في رؤية الجمعة ففي رؤية الغداة والعشي أولى؛ لأن هذا أعلى من تلك ومن لم يصلح للرؤية في الأسبوع فكيف يصلح للرؤية في كل يوم مرتين؟ وإذا انتفت رؤيتهن في هذين الموطنين ولم يثبت أن الناس يرونه في غير هذين الموطنين: فقد ثبت أن العموم مخصوص منه النساء في هذين الموطنين؛ وما سواهما لم يثبت لا للرجال ولا للنساء فلم يبق ما يدل على حصول الرؤية للنساء في موطن آخر فإما أن يبقى مطلقا عملا بالأصل النافي؛ وإما أن ينفى عن هذين الموطنين ويتوقف فيما عداهما ولا يحتج على ثبوتها فيه بتلك العمومات لوجود التخصيصات فيها. هذا غاية ما يمكن في تقرير هذا السؤال ولولا أنه أورد علي لما ذكرته لعدم توجهه. فنقول: الجواب من وجوه متعددة وترتيبها الطبيعي يقتضي نوعا من الترتيب لكن أرتبها على وجه آخر ليكون أظهر في الفهم الأول أنا لو فرضنا أنه قد ثبت أن النساء لا يرينه في الموطنين المذكورين لم يكن في ذلك ما ينفي رؤيتهن في غير هذين الموطنين فيكون ما سوى هذين الموطنين لم يدل عليه الدليل الخاص لا بنفي ولا بإثبات والدليل العام قد أثبت الرؤية في الجملة والرؤية في غير هذين الموطنين لم ينفها دليل فيكون الدليل العام قد سلم عن معارضة الخاص فيجب العمل به وهذا في غاية الوضوح. فإن من قال: رأيت رجلا فقال آخر:
لم تر أسود ولم تره في دمشق لم تتناقض القضيتان والخاص إذا لم يناقض مثله من العام لم يجز تخصيصه به فلو كان قد دل دليل على أن النساء لا يرينه بحال لكان هذا الخاص معارضا لمثله من العام أما إذا قيل: إنه دل على رؤية في محل مخصوص كيف ينفى بنفي جنس الرؤية؟ وكيف يكون سلب الخاص سلبا للعام؟ فإن قيل: لا رؤية لأهل الجنة إلا في هذين الموطنين قيل ما الذي دل على هذا؟ فإن قيل:لأن الأصل عدم ما سوى ذلك.
قيل: العدم لا يحتج به في الأخبار بإجماع العقلاء بل من أخبر به كان قائلا ما لا علم له به ولو قيل للرجل: هل في البلد الفلاني كذا وفي المسجد الفلاني كذا؟ فقال: لا؛ لأن الأصل عدمه كان نافيا ما ليس له به علم باتفاق العقلاء. ولو قال الآخر: الذين يرون الله كل يوم مرتين: هم النبيون فقط. لأن الأصل عدم رؤية غيرهم ولهم من الخصوص ما لا يشركون فيه كان هذا قولا بلا علم - إذا سلم من أن يكون كذبا - وليس هنا مفهوم يتمسك به كما في قوله: {فاجلدوهم ثمانين جلدة}. فإن الرسول لم يقل إن أهل الجنة لهم موطنان في الرؤية حتى يقول ذلك بنفي ما سواهما بل كلامه يدل على خلاف ذلك كما سنبينه ولو فرضنا أنه يجوز الحكم باستصحاب الحال في مثل هذا؛ فإن العموم والقياس حجتان مقدمتان على الاستصحاب أما " العموم " فبإجماع الفقهاء وأما " القياس " فعند جماهيرهم. ومعلوم أن " العموم " و " القياس " يقتضيان ثبوت الرؤية كما تقدم فلا يجوز نفيها بالاستصحاب وإن جاز تخصيص ذلك بنقص عقل النساء.
فينبغي أن يقال: " البله " و " أهل الجفاء " من الأعراب ونحوهم ممن يدخل الجنة لا يرى الله؛ فإنه لا ريب أن في النساء من هو أعقل من كثير من الرجال حتى إن المرأة تكون شهادتها نصف شهادة الرجل والمغفل ونحوه ترد شهادتهما بالكلية وإن لم يكن مجنونا؛ وقد {قال النبي صلى الله عليه وسلم كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع} أكمل ممن لم يكمل من الرجال؛ ففي أي معقول تكون الرؤية للناقص دون الكامل.
الجواب الثاني:


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 08-02-2025, 09:51 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,714
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ يُونُسَ
المجلد العاشر
الحلقة( 366)

من صــ 166 الى صـ 180






وكرامات الصحابة والتابعين بعدهم وسائر الصالحين كثيرة جدا: مثل ما كان " أسيد بن حضير " يقرأ سورة الكهف فنزل من السماء مثل الظلة فيها أمثال السرج وهي الملائكة نزلت لقراءته وكانت الملائكة تسلم على عمران بن حصين؛ وكان سلمان وأبو الدرداء يأكلان في صحفة فسبحت الصحفة أو سبح ما فيها وعباد بن بشر وأسيد بن حضير خرجا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة فأضاء لهما نور مثل طرف السوط فلما افترقا افترق الضوء معهما. رواه البخاري وغيره.
وقصة {الصديق في الصحيحين لما ذهب بثلاثة أضياف معه إلى بيته وجعل لا يأكل لقمة إلا ربى من أسفلها أكثر منها فشبعوا وصارت أكثر مما هي قبل ذلك فنظر إليها أبو بكر وامرأته فإذا هي أكثر مما كانت فرفعها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء إليه أقوام كثيرون فأكلوا منها وشبعوا}.
و " خبيب بن عدي " كان أسيرا عند المشركين بمكة شرفها الله تعالى وكان يؤتى بعنب يأكله وليس بمكة عنبة.
و " عامر بن فهيرة: قتل شهيدا فالتمسوا جسده فلم يقدروا عليه وكان لما قتل رفع فرآه عامر بن الطفيل وقد رفع وقال: عروة: فيرون الملائكة رفعته. وخرجت " أم أيمن " مهاجرة وليس معها زاد ولا ماء فكادت تموت من العطش فلما كان وقت الفطر وكانت صائمة سمعت حسا على رأسها فرفعته فإذا دلو معلق فشربت منه حتى رويت وما عطشت بقية عمرها. و " سفينة " مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر الأسد بأنه رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم فمشى معه الأسد حتى أوصله مقصده.

و " البراء بن مالك " كان إذا أقسم على الله تعالى أبر قسمه وكان الحرب إذا اشتد على المسلمين في الجهاد يقولون: يا براء أقسم على ربك فيقول: يا رب أقسمت عليك لما منحتنا أكتافهم فيهزم العدو فلما كان يوم " القادسية " قال: أقسمت عليك يا رب لما منحتنا أكتافهم وجعلتني أول شهيد فمنحوا أكتافهم وقتل البراء شهيدا.

و " خالد بن الوليد " حاصر حصنا منيعا فقالوا لا نسلم حتى تشرب السم فشربه فلم يضره.
و " سعد بن أبي وقاص " كان مستجاب الدعوة ما دعا قط إلا استجيب له وهو الذي هزم جنود كسرى وفتح العراق.
و " عمر بن الخطاب " لما أرسل جيشا أمر عليهم رجلا يسمى " سارية " فبينما عمر يخطب فجعل يصيح على المنبر يا سارية الجبل يا سارية الجبل فقدم رسول الجيش فسأل فقال يا أمير المؤمنين لقينا عدوا فهزمونا فإذا بصائح: يا سارية الجبل يا سارية الجبل فأسندنا ظهورنا بالجبل فهزمهم الله. ولما عذبت " الزبيرة " على الإسلام في الله فأبت إلا الإسلام وذهب بصرها قال المشركون أصاب بصرها اللات والعزى قالت كلا والله فرد الله عليها بصرها.
ودعا " سعيد بن زيد " على أروى بنت الحكم فأعمي بصرها لما كذبت عليه فقال: اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها واقتلها في أرضها فعميت ووقعت في حفرة من أرضها فماتت.
" والعلاء بن الحضرمي " كان عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم على البحرين وكان يقول في دعائه: يا عليم يا حليم يا علي يا عظيم فيستجاب له ودعا الله بأن يسقوا ويتوضئوا لما عدموا الماء والإسقاء لما بعدهم فأجيب ودعا الله لما اعترضهم البحر ولم يقدروا على المرور بخيولهم فمروا كلهم على الماء ما ابتلت سروج خيولهم؛ ودعا الله أن لا يروا جسده إذا مات فلم يجدوه في اللحد.
وجرى مثل ذلك " لأبي مسلم الخولاني " الذي ألقي في النار فإنه مشى هو ومن معه من العسكر على دجلة وهي ترمى بالخشب من مدها ثم التفت إلى أصحابه فقال: تفقدون من متاعكم شيئا حتى أدعو الله عز وجل فيه فقال بعضهم: فقدت مخلاة فقال اتبعني فتبعه فوجدها قد تعلقت بشيء فأخذها وطلبه الأسود العنسي لما ادعى النبوة فقال له: أتشهد أني رسول الله.

قال ما أسمع قال أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال نعم فأمر بنار فألقي فيها فوجدوه قائما يصلي فيها وقد صارت عليه بردا وسلاما؛ وقدم المدينة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فأجلسه عمر بينه وبين أبي بكر الصديق رضي الله عنهما وقال الحمد لله الذي لم يمتني حتى أرى من أمة محمد صلى الله عليه وسلم من فعل به كما فعل بإبراهيم خليل الله. ووضعت له جارية السم في طعامه فلم يضره. وخببت امرأة عليه زوجته فدعا عليها فعميت وجاءت وتابت فدعا لها فرد الله عليها بصرها.
(فصل في التنبيه على قاعدة تحرك القلوب إلى الله عز وجل)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
ولا بد من التنبيه على قاعدة تحرك القلوب إلى الله عز وجل فتعتصم به فتقل آفاتها أو تذهب عنها بالكلية بحول الله وقوته. فنقول اعلم أن محركات القلوب إلى الله عز وجل ثلاثة: المحبة والخوف والرجاء. وأقواها المحبة وهي مقصودة تراد لذاتها لأنها تراد في الدنيا والآخرة بخلاف الخوف فإنه يزول في الآخرة قال الله تعالى {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} والخوف المقصود منه الزجر والمنع من الخروج عن الطريق فالمحبة تلقى العبد في السير إلى محبوبه وعلى قدر ضعفها وقوتها يكون سيره إليه والخوف يمنعه أن يخرج عن طريق المحبوب والرجاء يقوده فهذا أصل عظيم يجب على كل عبد أن يتنبه له فإنه لا تحصل له العبودية بدونه وكل أحد يجب أن يكون عبدا لله لا لغيره.

فإن قيل فالعبد في بعض الأحيان قد لا يكون عنده محبة تبعثه على طلب محبوبه فأي شيء يحرك القلوب؟ قلنا يحركها شيئان - أحدهما كثرة الذكر للمحبوب لأن كثرة ذكره تعلق القلوب به ولهذا أمر الله عز وجل بالذكر الكثير فقال تعالى {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا} {وسبحوه بكرة وأصيلا} الآية. والثاني: مطالعة آلائه ونعمائه قال الله تعالى {فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون} وقال تعالى {وما بكم من نعمة فمن الله}.
وقال تعالى {وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة} وقال تعالى {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} فإذا ذكر العبد ما أنعم الله به عليه من تسخير السماء والأرض وما فيها من الأشجار والحيوان وما أسبغ عليه من النعم الباطنة من الإيمان وغيره فلا بد أن يثير ذلك عنده باعثا وكذلك الخوف تحركه مطالعة آيات الوعيد والزجر والعرض والحساب ونحوه وكذلك الرجاء يحركه مطالعة الكرم والحلم والعفو وما ورد في الرجاء والكلام في التوحيد واسع.
وإنما الغرض مبلغ التنبيه على تضمنه الاستغناء بأدنى إشارة والله - سبحانه وتعالى - أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
(وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون (66)
وقال:
هذه تفسير آيات أشكلت حتى لا يوجد في طائفة من كتب التفسير إلا ما هو خطأ فيها،
منها قوله: {وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء} ظن طائفة أن (ما) نافية وهو خطأ. بل هي استفهام فإنهم يدعون معه شركاء كما أخبر عنهم في غير موضع. فالشركاء يوصفون في القرآن بأنهم يدعون لأنهم يتبعون وإنما يتبع الأئمة. ولهذا قال: {إن يتبعون إلا الظن} ولو أراد النفي لقال: إن يتبعون إلا من ليسوا شركاء بل بين أن المشرك لا علم معه إن هو إلا الظن والحرص كقوله: {قتل الخراصون}.

(قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون (89)
المأموم إذا أمن كان داعيا قال الله تعالى لموسى وهارون: {قد أجيبت دعوتكما} وكان أحدهما يدعو والآخر يؤمن.

(حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين (90)
(فصل في الرد على من زعم أن فرعون كان مؤمنا وأنه لا يدخل النار)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
وزعمت طائفة من هؤلاء الاتحادية - الذين ألحدوا في أسماء الله وآياته - أن فرعون كان مؤمنا وأنه لا يدخل النار وزعموا أنه ليس في القرآن ما يدل على عذابه بل فيه ما ينفيه كقوله: {أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} قالوا: فإنما أدخل آله دونه. وقوله: {يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار} قالوا إنما أوردهم ولم يدخلها قالوا: ولأنه قد آمن أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل ووضع جبريل الطين في فمه لا يرد إيمان قلبه.

وهذا القول كفر معلوم فساده بالاضطرار من دين الإسلام لم يسبق ابن عربي إليه - فيما أعلم - أحد من أهل القبلة؛ بل ولا من اليهود ولا من النصارى؛ بل جميع أهل الملل مطبقون على كفر فرعون. فهذا عند الخاصة والعامة أبين من أن يستدل عليه بدليل فإنه لم يكفر أحد بالله ويدعي لنفسه الربوبية والإلهية مثل فرعون.

ولهذا ثنى الله قصته في القرآن في مواضع فإن القصص إنما هي أمثال مضروبة للدلالة على الإيمان وليس في الكفار أعظم من كفره والقرآن قد دل على كفره وعذابه في الآخرة في مواضع: (أحدها قوله تعالى في القصص: {فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين} إلى قوله: {وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين}. فأخبر سبحانه أنه أرسله إلى فرعون وقومه وأخبر أنهم كانوا قوما فاسقين وأخبر أنهم {قالوا ما هذا إلا سحر مفترى} وأخبر أن فرعون: قال: {ما علمت لكم من إله غيري} وأنه أمر باتخاذ الصرح ليطلع إلى إله موسى وأنه يظنه كاذبا وأخبر أنه استكبر فرعون وجنوده وظنوا أنهم لا يرجعون إلى الله وأنه أخذ فرعون وجنوده فنبذهم في اليم؛ فانظر كيف كان عاقبة الظالمين وأنه جعلهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون وأنه أتبعهم في الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين.
فهذا نص في أن فرعون من الفاسقين المكذبين لموسى الظالمين الداعين إلى النار الملعونين في الدنيا بعد غرقهم المقبوحين في الدار الآخرة. وهذا نص في أن فرعون بعد غرقه ملعون وهو في الآخرة مقبوح غير منصور وهذا إخبار عن غاية العذاب وهو موافق للموضع الثاني في سورة المؤمن وهو قوله: {وحاق بآل فرعون سوء العذاب} {النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} وهذا إخبار عن فرعون وقومه؛ أنه حاق بهم سوء العذاب في البرزخ وأنهم في القيامة يدخلون أشد العذاب وهذه الآية إحدى ما استدل به العلماء على عذاب البرزخ. وإنما دخلت الشبهة على هؤلاء الجهال: لما سمعوا آل فرعون فظنوا أن فرعون خارج منهم؛ وهذا تحريف للكلم عن مواضعه بل فرعون داخل في آل فرعون بلا نزاع بين أهل العلم بالقرآن واللغة يتبين ذلك بوجوه: - (أحدهما) أن لفظ آل فلان في الكتاب والسنة يدخل فيها ذلك الشخص مثل قوله في الملائكة الذين ضافوا إبراهيم: {إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين} {إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين} {إلا امرأته} ثم قال: {فلما جاء آل لوط المرسلون} {قال} يعني لوطا: {إنكم قوم منكرون} وكذلك قوله: {إنا أرسلنا عليهم حاصبا إلا آل لوط نجيناهم بسحر} ثم قال بعد ذلك: {ولقد جاء آل فرعون النذر} {كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر}.
ومعلوم أن لوطا داخل في آل لوط في هذه المواضع، وكذلك فرعون: داخل في آل فرعون المكذبين المأخوذين ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم {قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم} وكذلك قوله: {كما باركت على آل إبراهيم} فإبراهيم داخل في ذلك وكذلك قوله للحسن: {إن الصدقة لا تحل لآل محمد}. وفي الصحيح عن عبد الله بن أبي أوفى قال: {كان القوم إذا أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة يصلي عليهم فأتى أبي بصدقة فقال: اللهم صل على آل أبي أوفى} وأبو أوفى هو صاحب الصدقة.
ونظير هذا الاسم أهل البيت فإن الرجل يدخل في أهل بيته كقول الملائكة: {رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت} وقول النبي صلى الله عليه وسلم {سلمان منا أهل البيت} وقوله تعالى {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت} وذلك لأن آل الرجل من يئول إليه ونفسه ممن يئول إليه وأهل بيته هم من يأهله وهو ممن يأهل أهل بيته. فقد تبين أن الآية التي ظنوا أنها حجة لهم: هي حجة عليهم في تعذيب فرعون مع سائر آل فرعون في البرزخ وفي يوم القيامة ويبين ذلك:
أن الخطاب في القصة كلها إخبار عن فرعون وقومه.
قال تعالى: {ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين} {إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب} إلى قوله: {قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد} إلى قوله: {وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب} {أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى} إلى قوله: {وحاق بآل فرعون سوء العذاب}{النار يعرضون عليها غدوا وعشيا} إلى قوله {قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد}. فأخبر عقب قوله: {أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} عن محاجتهم في النار وقول الضعفاء للذين استكبروا وقول المستكبرين للضعفاء: {إنا كل فيها} ومعلوم أن فرعون هو رأس المستكبرين وهو الذي استخف قومه فأطاعوه ولم يستكبر أحد استكبار فرعون فهو أحق بهذا النعت والحكم من جميع قومه. (الموضع الثاني) - وهو حجة عليهم لا لهم - قوله تعالى تعالى: {فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد} {يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود} إلى قوله: {بئس الرفد المرفود} فأخبر أنه يقدم قومه ولم يقل يسوقهم وأنه أوردهم النار.
ومعلوم أن المتقدم إذا أورد المتأخرين النار: كان هو أول من يردها وإلا لم يكن قادما؛ بل كان سائقا؛ يوضح ذلك أنه قال: {وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة} فعلم أنه وهم يردون النار وأنهم جميعا ملعونون في الدنيا والآخرة. وما أخلق المحاج عن فرعون أن يكون بهذه المثابة فإن المرء مع من أحب {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض} وأيضا فقد قال الله تعالى: {فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا} يقول: هلا آمن قوم فنفعهم إيمانهم إلا قوم يونس.
وقال تعالى: {أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض} إلى قوله: {سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون} فأخبر عن الأمم المكذبين للرسل أنهم آمنوا عند رؤية البأس وأنه لم يك ينفعهم إيمانهم حينئذ وأن هذه سنة الله الخالية في عباده. وهذا مطابق لما ذكره الله في قوله لفرعون: {آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين} فإن هذا الخطاب هو استفهام إنكار أي الآن تؤمن وقد عصيت قبل؟ فأنكر أن يكون هذا الإيمان نافعا أو مقبولا فمن قال: إنه نافع مقبول فقد خالف نص القرآن وخالف سنة الله التي قد خلت في عباده. يبين ذلك أنه لو كان إيمانه حينئذ مقبولا: لدفع عنه العذاب كما دفع عن قوم يونس فإنهم لما قبل إيمانهم متعوا إلى حين فإن الإغراق هو عذاب على كفره فإذا لم يكن كافرا لم يستحق عذابا. وقوله بعد هذا: {فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية} يوجب أن يعتبر من خلفه ولو كان إنما مات مؤمنا لم يكن المؤمن مما يعتبر بإهلاكه وإغراقه.
وأيضا فإن {النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبره ابن مسعود بقتل أبي جهل قال: هذا فرعون هذه الأمة} فضرب النبي صلى الله عليه وسلم المثل في رأس الكفار المكذبين له برأس الكفار المكذبين لموسى.
فهذا يبين أنه هو الغاية في الكفر فكيف يكون قد مات مؤمنا؟ ومعلوم أن من مات مؤمنا: لا يجوز أن يوسم بالكفر ولا يوصف؛ لأن الإسلام يهدم ما كان قبله وفي مسند أحمد وإسحاق وصحيح أبي حاتم عن عوف بن مالك عن عبد الله بن عمرو {عن النبي صلى الله عليه وسلم في تارك الصلاة: يأتي مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف}.
(فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك ... (94)
والنبي صلى الله عليه وسلم لم يشك ولم يسأل؛ ولكن هذا حكم معلق بشرط والمعلق بالشرط يعدم عند عدمه وفي ذلك سعة لمن شك أو أراد أن يحتج أو يزداد يقينا.
[فصل: إثبات أن عند أهل الكتاب ما يثبت صدق محمد صلى الله عليه وسلم]
قالوا: وقال أيضا: {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين} [الفاتحة: 94 - 28981] فيقال: لهم من المعلوم بالاضطرار أنه ليس المراد بهذا النصارى فقط ; كما تقدم، بل اليهود يقرءون الكتاب من قبلنا والنصارى يقرءون الكتاب من قبلنا، والكتاب اسم جنس ; كما تقدم نظائره في قوله: {أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا} [الأنعام: 156] وقوله: {وطعام الذين أوتوا الكتاب} [المائدة: 5] وقوله: {ياأهل الكتاب} [آل عمران: 64] في غير موضع، وقوله:

{لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين} [البينة: 1] وقوله - تعالى -: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم - إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب - فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد} [آل عمران: 18 - 20]
وقد قال - تعالى -: {ياأيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا} [النساء: 47]. وتناول لفظ أهل الكتاب هنا لليهود أظهر من تناوله للنصارى لذكره لعنة أصحاب السبت، وكذلك قوله - تعالى -: {وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون} [آل عمران: 72] فهذا خبر عن طائفة من اليهود قالوا: ذلك وقال - تعالى -: {ياأيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين} [آل عمران: 100]

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 8 ( الأعضاء 0 والزوار 8)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 317.42 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 311.54 كيلو بايت... تم توفير 5.88 كيلو بايت...بمعدل (1.85%)]