«عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله - الصفحة 34 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ}ا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 233 - عددالزوار : 27486 )           »          مؤسسة تكوين الفكر العربي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 4 - عددالزوار : 348 )           »          اليهود قرآننا يلعنهم وأفعالهم تفضحهم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          العليم القدير (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 28 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4477 - عددالزوار : 976570 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4013 - عددالزوار : 495362 )           »          دور المواد الغذائية في التطور الجسمي والعقلي للجنين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 112 )           »          دليلـك نحـو المهـارات التربويـة المهمة للتعامل مع فترة المراهقة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 102 )           »          فضائل عرفة وأحكام الأضحية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 87 )           »          الخلاصة النافعة في أحكام الحج والعمرة (word) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 62 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير > هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن
التسجيل التعليمـــات التقويم

هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #331  
قديم 05-09-2023, 06:08 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,477
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله



وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تصدق بعدل تمرة، من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، فإن الله يقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبه، كما يربي أحدكم فلوه، حتى تكون مثل الجبل»[26].

وفي رواية: «فيربيها كما يربي أحدكم مُهْره- أو فلوه- حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد، وتصديق ذلك في كتاب الله- عز وجل: ﴿ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [التوبة: 104] و﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ﴾»[27].

وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله ليربي لأحدكم التمرة واللقمة، كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله، حتى تكون مثل أحد»[28].

وقال صلى الله عليه وسلم: «ما نقصت صدقة من مال»[29].

والواقع أكبر شاهد على هذا، فكم من أموال بارك الله فيها، فزادت وتضاعفت بسبب الإنفاق منها، والبذل والصدقات، وحفظها الله بذلك من الكوارث والآفات. وكم من أموال محقت بركتها، وتعرضت للتلف والآفات والهلاك بسبب عدم الإنفاق منها، ومنع الزكاة والصدقات.

﴿ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ ﴾ في قلبه، ﴿ أَثِيمٍ ﴾ في قوله وفعله.

و«كفَّار» على وزن «فعَّال» صفة مشبهة أو صيغة مبالغة، أي: عظيم الكفر كثيره.

وقد يراد به كفر نعم الله- عز وجل- وعدم شكرها، وما لا يخرج من الملة، وقد يراد به الكفر الأكبر المخرج من الملة.

و«أثيم» على وزن «فعيل» صفة مشبهة أو صيغة مبالغة، أي: كثير الإثم وعظيمه بإصراره على الربا وكبائر الذنوب، أو على الكفر والشرك.

وإذا كان الله- عز وجل- لا يحبه- فإنه- عز وجل- يبغضه ويكرهه. وفي هذا وعيد شديد له، لأن من أبغضه الله عذبه، كما قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [الزخرف: 55]، ويؤخذ من مفهوم الآية محبة الله- عز وجل- لمن كان بضد الكَفّار الأثيم، وهو المؤمن الشكور المطيع لله والتائب من المآثم والذنوب، والوعد له بالأجر والثواب.

قال ابن كثير[30]: «ولابد من مناسبة في ختم هذه الآية بهذه الصفة، وهي أن المرابي لا يرضى بما قسم الله له من الحلال، ولا يكتفي بما شرع الله له من التكسب المباح، فهو يسعى في أكل أموال الناس بالباطل، بأنواع المكاسب الخبيثة، فهو جحود لما عليه من النعمة، ظلوم آثم، يأكل أموال الناس بالباطل».

قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾.

ذم الله- عز وجل- في الآيتين السابقتين أكلة الربا، وذكر سوء حالهم ومآلهم، وخسرانهم في الدنيا والآخرة، وخلودهم في النار، وعدم محبة الله لهم، ولكل كفار أثيم.

ثم أتبع ذلك بامتداح أهل الإيمان والعمل الصالح وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وبيان ما أعد لهم عنده من الأجر العظيم، والأمن والسلامة من الحزن.

قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾؛ أي: إن الذين آمنوا وصدقوا بقلوبهم وألسنتهم بكل ما يجب الإيمان به، وعملوا الأعمال الصالحات بجوارحهم، إذ لا يستقيم الإيمان بدون العمل، ولا يقبل العمل بدون الإيمان.

وحذف الموصوف وهي «الأعمال» واكتفى بالصفة وهي «الصالحات» لأن المهم كون العمل صالحًا، أي: خالصًا لله- عز وجل- موافقًا لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم.

كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ﴾ [النساء: 125].

أي: أخلص العمل لله- عز وجل- وهو متبع لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فبالإخلاص لله تعالى السلامة من الشرك، وبالمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم السلامة من الابتداع.

﴿ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ ﴾ من عطف الخاص على العام، أي: وأقاموا الصلاة إقامة تامة بشروطها وأركانها وواجباتها وسننها، فهي الصلاة التي تنفع صاحبها، وهذا هو المقصود من الأمر بالصلاة.

﴿ وَآتَوُا الزَّكَاةَ ﴾ أي: أعطوا الزكاة لمستحقيها، من الفقراء والمساكين وغيرهم، وخص الصلاة والزكاة- دون سائر العبادات؛ لأن الصلاة أعظم العبادات البدنية، فهي الركن الثاني من أركان الإسلام بعد الشهادتين؛ وهي عمود الإسلام.

ولأن الزكاة أعظم العبادات المالية، وهي الركن الثالث من أركان الإسلام وهي قرينة الصلاة، ففي الصلاة الإحسان في عبادة الله- عز وجل- وفي الزكاة الإحسان إلى عباد الله تعالى.

﴿ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ﴾؛ أي: لهم ثواب إيمانهم وأعمالهم الصالحات وصلاتهم وزكاتهم.

وفي تسمية ثوابهم أجرًا تأكيد لتكفله- عز وجل- لهم بذلك، وفي كونه عند ربهم تعظيم له، وتأكيد ثان لتكفله- عز وجل- لهم به؛ لأنه عند ربهم، الذي لا يخلف الميعاد، الكريم الجواد، مربيهم بسائر النعم، التي لا تحصى.

وأضاف اسم «الرب» إلى ضميرهم تشريفًا وتكريمًا لهم.

ولم يقل: «عند الله» إشارة لفضله السابق عليهم بتربيته لهم، فهو ربهم خالقهم ومالكهم والمتصرف فيهم، وفيه توكيد لضمانه- عز وجل- هذا الأجر لهم، فهو- عز وجل- ذو الفضل السابق عليهم، وهو سبحانه ذو الفضل والإنعام اللاحق عليهم.

﴿ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ فيما يستقبل، ومما أمامهم من أهوال القيامة، كما قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الأنعام: 82].

﴿ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾؛ أي: ولا هم يحزنون على ما فاتهم من الدنيا، ولا على ما خلفوا بعد موتهم، من أهل وولد ومال، وغير ذلك.

قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾.

قوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ «يا» حرف نداء، و«أي» منادى مبني على الضم في محل نصب و«ها» للتنبيه، و«الذين» صفة لأي، أو بدل منها.

﴿ آمَنُوا ﴾ صدقوا بقلوبهم وألسنتهم.

﴿ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ أي: اتقوا الله بجوارحكم، بفعل ما أمركم الله به، وترك ما نهاكم الله عنه.

﴿ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا ﴾؛ أي: اتركوا ما بقى من الربا، مما لم يقبض، وإن كان معقودًا عليه.

وهذا في مقابل قوله تعالى: ﴿ فَلَهُ مَا سَلَفَ ﴾؛ أي: فله ما سلف قبضه قبل نزول التحريم، دون ما لم يقبض قبل ذلك فيجب تركه.

والأمر بترك ما بقي من الربا أمر بترك الشروع فيه وإنشائه من جديد من باب أولى وأحرى.

﴿ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ إن: «شرطية»، و«كنتم»: فعل الشرط، وجوابه دل عليه ما سبق. أي: إن كنتم مؤمنين حقًّا صادقين في إيمانكم فاتقوا الله وذروا ما بقي من الربا.

فمن شرط الإيمان تقوى الله وترك الربا، ومن أعظم تقوى الله ترك الربا، وفي هذا إغراء وإثارة للهمم وتحريك للمشاعر.

قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ﴾.

قوله: ﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا ﴾ أي: فإن لم تذروا ما بقى من الربا.

﴿ فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ قرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم، وخلف «فآذنوا» بالمد وكسر الذال أمر من «آذن» الرباعي، بمعنى «أَعْلَمَ»، يقال: آذنه بكذا، أي: أعلمه، ومنه قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ ﴾[الأنبياء: 109]، والمعنى: أَعْلِموا أنفسكم وغيركم ﴿ بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾.

وقرأ الباقون بالقصر وفتح الذال: ﴿ فَأْذَنُوا ﴾ أمر من «أذن» الثلاثي بمعنى: «اعْلَموا»، يقال: «أذن بالشيء»: إذا علم به، أي: كونوا على علم، ﴿ بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ قال: ابن عباس: «فاستيقنوا بحرب من الله ورسوله»[31].

و«من» في قوله: ﴿ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ لابتداء الغاية، فالمرابي محارب من الله ورسوله، ومحارب لله ورسوله.

وهذا من أشد التهديد وأعظم الوعيد، إذ لم يرد وصف عمل من الأعمال بأنه محاربة لله ورسوله سوى الربا، وقطع الطريق والسعي بالأرض بالفساد.

ولهذا اعتبر بعض أهل العلم أن الربا أكبر الكبائر وأعظمها بعد الشرك.

وقد قال صلى الله عليه وسلم: «الربا نيّف وسبعون بابًا أيسرها مثل أن يأتي الرجل أمه»[32].

وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب، ثم قرأ: ﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾»[33].

قال ابن القيم[34] في كلامه على الآية: «ففي ضمن هذا الوعيد أن المرابي محارب لله ولرسوله، فقد آذن الله بحربه، ولم يجئ هذا الوعيد في كبيرة سوى الربا وقطع الطريق والسعي في الأرض بالفساد؛ لأن كل واحد منهما مفسد في الأرض، قاطع الطريق على الناس، هذا بقهره وتسلطه عليهم، وهذا بامتناعه من تفريج كرباتهم إلا بتحميلهم كربات أشد منها».

وعطف اسم الرسول صلى الله عليه وسلم أو وصفه على اسم الله بالواو في قوله: ﴿ بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾؛ لأن محاربة الرسول صلى الله عليه وسلم محاربة لله- عز وجل- كما أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم طاعة لله تعالى.

وهذا بخلاف باب القدر والمشيئة فلا يجوز فيه عطف اسم الرسول صلى الله عليه وسلم، أو وصفه على اسم الله- عز وجل- بالواو؛ لأنها تقتضي التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه.

﴿ وَإِنْ تُبْتُمْ ﴾ أي: رجعتم إلى الله- عز وجل- بترك الربا.

والتوبة: الرجوع من معصية الله إلى طاعته، وذلك بالإقلاع عن المعصية، والندم على فعلها، والعزم على عدم العودة إليها، وكونها في وقتها قبل بلوغ الروح الحلقوم، وقبل طلوع الشمس من مغربها، وكونها خالصة لله عز وجل.

﴿ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ ﴾ جواب الشرط في قوله: ﴿ وَإِنْ تُبْتُمْ ﴾ أي: فلكم أصول أموالكم كاملة دون الربا.

﴿ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ﴾ الظلم: النقص، ووضع الشيء في غير موضعه على سبيل التعدي، أي: لا تظلمون غيركم، بأخذ الزيادة منهم، ﴿ وَلَا تُظْلَمُونَ ﴾ أنتم بنقص شيء من رؤوس أموالكم.

قال ابن القيم[35]: «يعني إن تركتم الربا وتبتم إلى الله منه، وقد عاقدتم عليه فإنما لكم رؤوس أموالكم، لا تزادون عليها فتظلمون الآخذ، ولا تنقصون منها فيظلمكم من أخذها».

قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾.

قوله: ﴿ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ﴾ الواو: عاطفة، و«كان»: تامة، و«ذو»: فاعل مرفوع بالواو؛ لأنه من الأسماء الستة، وهي بمعنى: صاحب، أي: وإن وجد صاحب عسرة، أي: صاحب إعسار، وهو الذي لا يجد وفاءً لدينه.

﴿ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ﴾: جواب الشرط في قوله: ﴿ وَإِنْ كَانَ ﴾ والفاء: رابطة لجواب الشرط، أي: فله نظرة، أو فعليكم نظرة إلى ميسرة.

قرأ نافع المدني: «ميسُرة» بضم السين، وقرأ الباقون بفتحها: ﴿ مَيْسَرَةٍ ﴾.
والمعنى: فيجب عليكم إنظاره إلى إيسار.
﴿ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ قرأ عاصم: ﴿ وَأَنْ تَصَدَّقُوا ﴾ بتخفيف الصاد.
وقرأ الباقون بتشديدها، «وأن تَصَّدَّقوا».

وجملة ﴿ وَأَنْ تَصَدَّقُوا ﴾ في محل رفع مبتدأ، و﴿ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ خبره، أي: وأن تصدقوا على المدين، فتضعوا عنه دينه، أو بعضه.

﴿ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ أي: خير لكم من إنظاره في دنياكم وأخراكم، فهو في الدنيا سبب للبركة والزيادة في المال والألفة والأخوّة بين المدين ودائنه، وفي الآخرة سبب لمضاعفة الأجر والثواب الجزيل من الله عز وجل.

فأوجب عز وجل أولًا إنظار المعسر، ثم ندب ثانيًا إلى الصدقة عليه والوضع عنه.

عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تلقت الملائكة روح رجل ممن كان قبلكم، فقالوا: أعملت من الخير شيئًا؟ قال: لا. قالوا: تَذَكَّر. قال: كنت أداين الناس، فآمر فتياني أن ينظروا المعسر، ويتجوّزوا عن الموسر. قال: قال الله- عز وجل: تجوّزوا عنه»[36].

وعن أبي اليسر، كعب بن عمرو، أنه قال: «من أنظر معسرًا أو وضع عنه أظله الله في ظله»[37].

﴿ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾؛ أي: إن كنتم ذوي علم، فتصدقوا، كما في قوله تعالى: ﴿ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 184]؛ أي: إن كنتم ذوي علم فصوموا.

عن أبي أمامة أسعد بن زرارة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سره أن يظله الله يوم لا ظل إلا ظله، فلييسر على معسر، أو ليضع عنه»[38].

وعن بريدة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أَنْظَر معسرًا فله بكل يوم مثله صدقة»، قال: ثم سمعته يقول: «من أنظر معسرًا، فله بكل يوم مثلاه صدقة».

قلت: سمعتك- يا رسول الله- تقول: «من أنظر معسرًا فله بكل يوم مثله صدقة» ثم سمعتك تقول: «من أنظر معسرًا فله بكل يوم مثلاه صدقة»؟! قال: «له بكل يوم مثله صدقة قبل أن يحل الدين، فإذا حل الدين فأنظره، فله بكل يوم مثلاه صدقة»[39].


وعن محمد بن كعب القرظي: أن أبا قتادة كان له دين على رجل، وكان يأتيه يتقاضاه، فيختبئ منه، فجاء ذات يوم فخرج صبي، فسأله عنه، فقال: نعم، هو في البيت يأكل خزيرة[40]، فناداه: يا فلان، اخرج، فقد أخبرت أنك ههنا، فخرج إليه، فقال: ما يغيبك عني؟ فقال: إني معسر، وليس عندي. قال: آلله إنك معسر؟ قال: نعم، فبكى أبو قتادة، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من نفس عن غريمه- أو محا عنه- كان في ظل العرش يوم القيامة»[41].

وفي رواية: «أن أبا قتادة طلب غريمًا له، فتوارى عنه، ثم وجده، فقال:إني معسر. فقال: آلله؟ قال: آلله. قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة، فلينفس عن معسر، أو يضع عنه»[42].

قوله تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾.

عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: «آخر آية نزلت ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾»[43].

قوله: ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا ﴾ «يومًا» مفعول به منصوب، والمراد به يوم القيامة.

ونكّر للتعظيم، أي: احذروا عذاب يوم القيامة، وما فيه من الأهوال والنكال، كما قال تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾ [آل عمران: 131]؛ أي: احذروا النار.

وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: «واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب»[44]، أي: احذر دعوة المظلوم.

أي: اجعلوا وقاية بينكم وبين عذاب هذا اليوم، العظيم، الثقيل، العسير، الشديد، القمطرير، الذي يجعل الوالدان شيبًا، بتقوى الله- عز وجل- وفعل أوامره واجتناب نواهيه.

﴿ تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ﴾ الجملة صفة لـ «يومًا» قرأ أبو عمرو ويعقوب بفتح التاء، وكسر الجيم «تَرجِعون» على البناء للفاعل، وقرأ الباقون بضم التاء، وفتح الجيم ﴿ تُرْجَعُونَ ﴾ على البناء لما لم يسم فاعله.

أي: تردون فيه إلى الله - عز وجل - للحساب والجزاء؛ ولهذا قال بعده:
﴿ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ ﴾؛ أي: ثم تعطى كل نفس جزاء الذي كسبت، أو جزاء كسبها، أي: جزاء عملها تامًّا وافيًا غير منقوص، خيرًا كان أو شرًّا، ثوابًا كان أو عذابًا.

﴿ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ الجملة حالية، أي: حال كونهم لا يظلمون.

أي: وهم لا يظلمون أيَّ ظلم، فلا ينقص من ثوابهم مثقال ذرة، ولا يزاد في عذابهم مثقال ذرة، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 40]، وقال تعالى: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7، 8].

[1] أخرجه البخاري في الأذان (660)، ومسلم في الزكاة (1031)، والنسائي في آداب القضاة (5380)، والترمذي في الزهد (2391)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[2] أخرجه مسلم في الزكاة (1017)، والنسائي في الزكاة (2554)، والترمذي في العلم (2675)، وابن ماجه في المقدمة (203)، من حديث جرير رضي الله عنه.

[3] أخرجه ابن ماجه في الأحكام (2443)، من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما.

[4] أخرجه البخاري في البيوع (2227)، وابن ماجه في الأحكام (2442)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[5] أخرجه البخاري في الوصايا (2742)، ومسلم في الوصية (1628)، وأبو داود في الوصايا (2118)، والنسائي في الوصايا (3615- 3619)، والترمذي في الجنائز (974)، وابن ماجه في الوصايا (2669)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

[6] أخرجه البخاري في الإيمان (55)، ومسلم في الزكاة (1002)، والنسائي في الزكاة (2545)، والترمذي في البر والصلة (1965).

[7] أخرجه البخاري في الزكاة (1410)، ومسلم في الزكاة (1014)، والنسائي في الزكاة (2525)، والترمذي في الزكاة (661)، وابن ماجه في الزكاة (1842)، والطبري في «جامع البيان» (5/ 46، 47).

[8] البيتان لأبي القاسم الشابي. انظر: «ديوانه» ص (11).

[9] أخرجه مسلم في المساقاة (1584)، والنسائي في البيوع (4565).

[10] أخرجه أبو داود في البيوع (3349).

[11] أخرجه مسلم في المساقاة (1597)، والنسائي في الطلاق (3416).

[12] أخرجها أبو داود في البيوع (3333)، والترمذي في البيوع (1206)، وابن ماجه في التجارات (2277)، وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح».

[13] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (5/ 39).

[14] في «تفسيره» (1/ 483).

[15] في «تيسير الكريم الرحمن» (1/ 337).

[16] أخرجه أبو داود في البيوع (3331)، والنسائي في «البيوع» (4455)، وابن ماجه في التجارات (2278)، وأحمد (2/ 494) – من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[17] أخرجه مسلم في الحج (1218)، وأبو داود في المناسك (1905)، وابن ماجه في المناسك (3074)، من حديث جابر رضي الله عنه.

[18] أخرجه أحمد (1/ 395)، وابن ماجه في التجارات (2279)، والحاكم (2/ 37، 4/ 317).

[19] أخرجها ابن ماجه في التجارات (2279).

[20] أخرجه الترمذي في الجمعة (614)، من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه وقال: «حديث حسن غريب».

[21] أخرجه مسلم في الزكاة (1015)، والترمذي في التفسير (2989)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[22] سبق تخريجه.

[23] أخرجه ابن ماجه في التجارات (2274)، وأخرجه الحاكم (2/ 37)، من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه بلفظ: «الربا ثلاثة وسبعون بابًا...» الحديث. وفيه زيادة: «وإن أربا الربا عرض الرجل المسلم». وقال: «صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه».

[24] أخرجه أحمد (5/ 225).

[25] أخرجه البخاري في الزكاة (1442)، ومسلم في الزكاة (1010)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[26] أخرجه البخاري في الزكاة (1410)، ومسلم في الزكاة (1014).

[27] أخرجها أحمد (2/ 471)، والترمذي في الزكاة (662)، وقال: «حسن صحيح» وابن أبي حاتم في «تفسيره» (2/ 547)

[28] أخرجه أحمد (6/ 251)، والطبري في «جامع البيان» (5/ 47).

[29] أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب (2588)، والترمذي في البر والصلة (2029)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[30] في «تفسيره» (1/ 489).

[31] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (5/ 53).

[32] سبق تخريجه.

[33] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (5/ 39، 52)، وابن أبي حاتم في «تفسيره (2/ 550).

[34] انظر: «بدائع التفسير» (1/ 434- 435).

[35] انظر: «بدائع التفسير» (1/ 435)..

[36] أخرجه البخاري في البيوع (2077)، وفي الاستقراض (2391)، ومسلم في المساقاة (1560)، وأخرجه- مختصرًا- ابن ماجه في الأحكام (2420)، وأحمد (4/ 118).

[37] أخرجه مسلم في الزهد والرقائق (3014)، وأخرجه ابن ماجه في الأحكام (2419) بلفظ: «من أحب أن يظله الله في ظله..».

[38] أخرجه الطبراني فيما ذكر ابن كثير في «تفسيره» (1/ 491).

[39] أخرجه أحمد (5/ 360)، وأخرجه ابن ماجه- مختصرًا- في الأحكام (2418)، وأخرجه أحمد أيضًا (4/ 442، 443)- مختصرًا من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه.

[40] الخزيرة: لحم يقطع صغارًا ويصب عليه ماء كثير، فإذا نضج ذر عليه الدقيق.

[41] أخرجه أحمد (5/ 308).

[42] أخرجها مسلم في المساقاة (1563).

[43] أخرجه البخاري في البيوع معلقًا بصيغة الجزم. انظر: «فتح الباري» (5/ 314)، وأخرجه النسائي وابن مردويه فيما ذكره ابن كثير في «تفسيره» (1/ 494).

[44] أخرجه البخاري في المظالم والغصب (2448)، ومسلم في الإيمان (19)، وأبو داود في الزكاة (1584)، والترمذي في الزكاة (625)، وابن ماجه في الزكاة (1783)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #332  
قديم 05-09-2023, 06:10 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,477
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»





الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم



فوائـد وأحكـام من قوله تعالى:

﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ...

من قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ * وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 275 - 281].

1- ثناء الله- عز وجل- على الذين ينفقون أموالهم ابتغاء وجه الله في جميع الأوقات والأحوال ليلًا ونهارًا، وسرًّا وإعلانًا؛ لقوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً ﴾.

2- جواز الإعلان بالنفقة وإظهارها، واجبة كانت أو مستحبة، وقد يكون أولى من الإسرار بها، كما إذا كان القصد من ذلك إظهار السنة وإشهارها، وقد يكون الإسرار أولى، كما إذا خاف الإنسان على نفسه من الرياء ونحو ذلك.

3- عظم ما أعده الله- عز وجل- من الثواب للمنفقين في سبيله، وتكفله- عز وجل- بذلك لهم، وقد أكد ذلك بتقديم الخبر في قوله: ﴿ فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ ﴾، وبتسميته أجرًا، وإضافته إلى نفسه وأنه عنده، وإضافة «رب» إلى ضميرهم في قوله- عز وجل: ﴿ رَبِّهِمْ؛ أي: خالقهم ومالكهم ومربيهم بسائر النعم.

4- تشريف المنفقين وتكريمهم بإضافة «رب» إلى ضميرهم في قوله عز وجل: ﴿ عِنْدَ رَبِّهِمْ ﴾، وإثبات ربوبية الله تعالى الخاصة لهم.

5- أن مما أعده الله- عز وجل- للمنفقين في سبيله كمال الأمن وانشراح الصدور في الدنيا والآخرة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾.

6- الترغيب في الإنفاق في سبيل الله، في جميع الأوقات، ليلًا ونهارًا، وفي جميع الأحوال، سرًّا وإعلانًا؛ لعظم ما أعده الله- عز وجل- للمنفقين من الثواب، وعدم الخوف والحزن.

7- أن كمال السعادة إنما يحصل باجتماع الأجر والثواب، وانتفاء الخوف والحزن، أي: بحصول المطلوب وزوال المرهوب.

8- التحذير من الربا، وذم آكليه والتهديد لهم، والتشنيع عليهم، وبيان سوء حالهم وأنهم لا يقومون إلا كما يقوم المجنون، الذي تخبطه الشيطان وصرعه ومسّه؛ لقوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ﴾.

9- إثبات مس الجن وصرعهم للإنس؛ لقوله تعالى: ﴿ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ﴾.

ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لماعز بن مالك: «أبك جنون»[1]، وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم»[2].

10- أن سبب أخذ المرابين للربا وعقوبتهم بما ذكر قولهم: إنما البيع مثل الربا، واستحلالهم له؛ لقوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ﴾.

11- جرأة أكلة الربا على الاعتراض على حكم الله الشرعي في تحريم الربا وتحليل البيع، وقياسهم الفاسد، وجمعهم بين ما حرم الله وبين ما أحل بقولهم: ﴿ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ﴾.
أي: فإذا كان البيع حلالًا ينبغي أن يكون الربا حلالًا، وإذا كان الربا حرامًا ينبغي أن يكون البيع حرامًا.

12- أن الله- عز وجل- أحل البيع وحرم الربا، والحكم له وحده دون من سواه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾.
فيجب التسليم لحكمه، عرفنا الحكمة في ذلك، أم لم نعرفها. وفي هذا رد على المعترضين على حكمه- عز وجل- في ذلك.

13- إثبات الفرق الشاسع والبون الواسع بين الربا والبيع؛ لأن الله- عز وجل- فرق بينهما فأحل البيع وحرم الربا، فالبيع ضرورة من ضرورات الحياة للتعامل بين الناس، وتبادل المنافع بينهم، وتأمين حاجاتهم.
والربا أكل لأموال الناس بالباطل، وظلم لهم، وسبب لتلف الأموال، ومحق بركتها.

14- تذكير الله- عز وجل- العباد- بآيات القرآن الكريم ووعظهم بما فيها من الأوامر والنواهي والترغيب والترهيب، والوعد والوعيد؛ لقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ ﴾.

15- في إضافة «رب» إلى الضمير في قوله: ﴿ مِنْ رَبِّهِ ﴾ إثبات ربوبية الله تعالى العامة، وتذكير بنعمة ربوبية الله- عز وجل- واستعطاف لقلوب المخاطبين- عسى أن تلين وتقبل الموعظة.

16- أن من انتهى من الربا وتاب منه بعد أن بلغه النهي عنه فله ما أخذ قبل ذلك، دون ما لم يقبضه فلا يحل له، وأمره فيما يستقبل، وفي الآخرة إلى الله؛ لقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ ﴾.

ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: «ألا وإن ربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربانا، ربا العباس ابن عبدالمطلب، فإنه موضوع كله»[3].

17- الوعيد الشديد والتهديد الأكيد لمن عاد إلى أكل الربا بعد أن بلغته الموعظة، بملازمة النار والخلود فيها؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾.

18- عظم الربا وأنه من أكبر الكبائر؛ لأن الله توعد آخذه بملازمة النار والخلود فيها. وقد عده بعض أهل العلم أكبر الكبائر بعد الشرك بالله؛ لأنه محاربة لله ورسوله؛ لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 278، 279].

19- محق الربا بإزالته وإتلافه ونزع بركته؛ لقوله تعالى: ﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ﴾.
وفي هذا معاملة المرابي بنقيض قصده وسد أبواب الطمع أمام المرابين.

20- زيادة الصدقات بمضاعفة أجورها الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، والخلف عنها بزيادة المال ونموه وبركته؛ لقوله تعالى: ﴿ وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ﴾.

21- فرْقٌ بين الربا والصدقات، فالربا سبب لمحق المال، والصدقات سبب لنموه وزيادته.

22- نفي محبة الله- عز وجل- عن كل كفار أثيم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ﴾.
وفي هذا تحذير من الكفر والإثم، وأكل الربا، ووعيد وتهديد لمن هذه صفته؛ لأن مقتضى عدم محبة الله له- بغضه له وتعذيبه.

23- إثبات محبة الله- عز وجل- للمؤمنين المطيعين؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ، فمفهوم هذا محبته لكل مؤمن مطيع.

24- بيان ما أعده الله- عز وجل- عنده للذين آمنوا وعملوا الصالحات، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة؛ من الثواب العظيم، والأمن التام، والسلامة من الحزن؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾.
ويكفي في عظمه أن الله- عز وجل- أضافه إلى نفسه

25- تكريم المؤمنين وتشريفهم بإضافة اسمه- عز وجل- إلى ضميرهم في قوله: ﴿ رَبِّهِمْ ﴾، وإثبات ربوبية الله تعالى الخاصة لهم.

26- الحث على الإيمان والعمل الصالح، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة؛ لعظم ما أعده الله- عز وجل- من الثواب لمن اتصف بذلك.

27- تلازم الإيمان والعمل الصالح، فلا يصح الإيمان بلا عمل، ولا يصح العمل بلا الإيمان؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾.

28- لابد لقبول العمل من كونه صالحًا؛ خالصًا لله- عز وجل- وفق شرعه وسنة نبيه- صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾.

29- عظم مكانة الصلاة والزكاة، وأنهما أعظم أركان الدين وواجباته، لهذا خصهما بالذكر، وفضل الصلاة على الزكاة، لهذا قدمها على الزكاة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ ﴾.

30- أن المقصود الأعظم من الصلاة إقامتها إقامة تامة بشروطها وأركانها وواجباتها وسننها، فهي الصلاة التي تنفع صاحبها؛ لقوله تعالى: ﴿ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ ﴾.

31- أن الواجب على أهل الأموال أن يؤدوا الزكاة إلى الفقراء ونحوهم، دون تكليف الفقراء المطالبة بها؛ لقوله تعالى: ﴿ وَآتَوُا الزَّكَاةَ ﴾.

32- تكفل الله- عز وجل- بهذا الثواب وضمانه؛ لهذا سماه أجرًا فقال تعالى: ﴿ لَهُمْ أَجْرُهُمْ ﴾.

33- الجمع لأهل الجنة بحصول الثواب، والسلامة من الخوف والحزن- وهذا غاية السعادة، ففيه حصول المطلوب، والنجاة من المرهوب.

34- تصدير الخطاب بالنداء للتنبيه والعناية والاهتمام، ونداء المؤمنين بوصف الإيمان تكريمًا وتشريفًا لهم، وحثًّا على الاتصاف بهذا الوصف، وأن امتثال ما بعده من أمر أو نهي من مقتضيات الإيمان، وعدم امتثاله يعد نقصًا في الإيمان؛ لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾.

35- وجوب تقوى الله عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾.

36- وجوب ترك ما بقي من الربا وما لم يقبض منه، وإن كان بعد تمام العقد، وأن ذلك من شرط الإيمان؛ لقوله تعالى: ﴿ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾.

37- أن الربا من أعظم المنهيات، لهذا عطف تركه على الأمر بتقوى الله- مع أنه من تقوى الله؛ لمزيد التحذير منه؛ لقوله تعالى: ﴿ اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا ﴾.

38- إثبات الفعل والاختيار للإنسان؛ لقوله تعالى: ﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا ﴾.

وفي هذا رد على الجبرية الذين يزعمون أن الإنسان مجبر على تصرفاته كلها، فعلًا أو تركًا، ولا اختيار له.

39- أن المصرين على الربا معلنون الحرب على الله ورسوله؛ لقوله تعالى: ﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وفي هذا من التهديد الشديد والوعيد الأكيد ما ترجف له القلوب، مما يدل على شدة حرمة الربا وعظيم خطره.

40- إثبات رسالة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَرَسُولِهِ ﴾.

41- عطف اسمه- صلى الله عليه وسلم أو وصفه بالواو، التي تقتضي التشريك، على اسم الله- عز وجل- في قوله تعالى: ﴿ بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾؛ لأن محاربة الرسول صلى الله عليه وسلم محاربة لله تعالى، كما أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم طاعة ﷲ تعالى.

42- يجب على من تابوا من الربا ألا يأخذوا سوى رؤوس أموالهم، فلا يظلمون بأخذ الزيادة الربوية، ولا يُظلمون بنقص رؤوس أموالهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ ﴾.

وعلى هذا فلا يجوز أخذ الزيادة الربوية، لا للانتفاع بها ولا للصدقة بها، ولا للتخلص منها، ولا لغير ذلك.

43- أن العلة في تحريم الربا ما فيه من الظلم، بسبب أكل أموال الناس بالباطل؛ لقوله تعالى: ﴿ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ﴾.

44- تحريم الظلم ووجوب العدل في المعاملات وغيرها؛ لقوله تعالى: ﴿ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ﴾.

45- وجوب إنظار المعسر وإمهاله حتى يوسر، ويتمكن من وفاء دينه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ، فلا يجوز التضييق عليه ومطالبته، حتى يوسر؛ لأن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا.

46- الإشارة إلى أن العسر يعقبه اليسر، وأن مع كل عسر يسرين؛ لقوله تعالى: ﴿ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ﴾.

47- الحث على الوضع عن المدين بإسقاط الدين عنه أو بعضه، والترغيب في ذلك بتسميته تصدقًا، وبيان أنه خير من إنظاره أي: خير للدائن في الدنيا والآخرة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ ﴾.

48- إثبات تفاضل الأعمال والعمّال وتفاضل الإيمان؛ لقوله تعالى: ﴿ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ ﴾.

49- فضل العلم النافع الذي يهدي صاحبه إلى الخير والعمل الصالح والترغيب فيه؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾.

50- وجوب اتقاء يوم القيامة والاستعداد له، والحذر من عذابه وأهواله؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ، وذلك بفعل أوامر الله، واجتناب نواهيه.

51- أنه إذا كان المراد بـ«التقوى» التحذير والحذر من الشيء دون العبادة والتذلل والخضوع جاز أن تضاف لغير الله؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا ﴾، كما في قوله تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا النَّارَ ﴾ [آل عمران: 131]، ﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً ﴾ [الأنفال: 25].

52- عظم يوم القيامة وشدة عذابه وأهواله؛ لقوله تعالى: ﴿ يَوْمًا ﴾ بالتنكير.

53- إثبات البعث والمعاد والرجوع إلى الله عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ﴾.

54- إثبات الحساب والجزاء على الأعمال، وتوفية كل نفس عملها، ومجازاتها عليه؛ لقوله تعالى: ﴿ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ ﴾.

55- الحث على العمل الصالح والترغيب فيه، قليلًا كان أو كثيرًا، والتحذير من العمل السيئ، قليلًا كان أو كثيرًا؛ لقوله تعالى: ﴿ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ ﴾.
وهذا عام في القليل والكثير من الخير والشر.

56- في قوله تعالى ﴿ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ ﴾ ما يدل على انتفاع المؤمن بما يُهدى إليه من الغير، من ثواب الدعاء والصدقات والحج وغير ذلك، مما دلت عليه السنة الصحيحة، وذلك- وإن لم يكن من كسبه- فهو بسبب إيمانه، وهو من أعظم كسبه، إذ لو لم يكن مؤمنًا ما انتفع بذلك.

57- كمال عدل الله- عز وجل- في محاسبة الخلائق؛ لقوله تعالى: ﴿ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾.


[1] أخرجه البخاري في الطلاق (5270)، ومسلم في الحدود (1691)، وأبو داود في الحدود (4430)، والنسائي في الجنائز (1956)، والترمذي في الحدود (1429)، من حديث جابر رضي الله عنه.

[2] أخرجه البخاري في الاعتكاف (2039)، ومسلم في السلام (2175)، وأبو داود في الصوم (2470)، وابن ماجه في الصيام (1779)، من حديث صفية رضي الله عنها.

[3] سبق تخريجه.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #333  
قديم 05-09-2023, 06:12 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,477
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»





الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم



تفسير قوله تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ...


قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة:282، 283].

رغَّب عز وجل في الآيات السابقة في الإنفاق في سبيله وأكد ذلك، ثم أتبع ذلك بذم الربا وأهله وتحريمه، وشدد في ذلك، ثم أتبع ذلك بذكر ما يستغنى به عن الربا من المعاملات المباحة والمداينة الشرعية، مما به حفظ الأموال وصيانتها، وعدم استغلال الفقراء وأكل أموالهم بالباطل.

قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾.

هذه الآية أطول آية في القرآن الكريم، وأقصر آية فيه: ﴿ ثُمَّ نَظَرَ ﴾ [المدثر: 21].

قوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ﴾ الآية.

وصدر الخطاب بقوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ بالنداء للتنبيه والعناية والاهتمام.

ونادى- عز وجل- المؤمنين بوصف الإيمان تكريمًا وتشريفًا لهم، وحثًّا على الاتصاف بهذا الوصف، وامتثال ما بعده من الأوامر والنواهي، وأن ذلك من مقتضيات الإيمان.

أي: يا أيها الذين صدقوا بقلوبهم وألسنتهم بما جاء من الحق والشرع، وانقادوا لذلك بجوارحهم فجمعوا بين التصديق والإقرار، وبين القبول والإذعان والانقياد.

﴿ إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ ﴾ «إذا» ظرفية شرطية غير عاملة. والتداين والمداينة: التفاعل من الدين، و«الدين» ما ثبت في الذمة، من ثمن مبيع أو أجرة، أو صداق، أو قرض، أو عوض خلع، أو سَلَم، أو غير ذلك.

﴿ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ﴾ أي: إلى وقت محدد معلوم بينكم، إلى سنة، أو سنتين، أو إلى سنة كذا، أو شهر كذا، أو يوم كذا، كما قال صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وهم يسلفون السنة والسنتين والثلاث، فقال صلى الله عليه وسلم: «من أسلف فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم»[1].

﴿ فَاكْتُبُوهُ ﴾: جواب الشرط «إذا»، وقرن بالفاء؛ لأنه جملة طلبية، أي: فاكتبوا هذا الدين المؤجل إلى أجله، سدًّا للذرائع المؤدية إلى النزاع والاختلاف؛ لأن الوقاية خير من العلاج، ولهذا قال في آخر الآية: ﴿ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا ﴾، فلله ما أحكم هذا التشريع وما أعدله وأعظمه.

والأصل في الأمر الوجوب، وجمهور العلماء على أن الأمر بالكتابة للإرشاد، وليس بواجب؛ لما في ذلك من التيسير على الناس، ورفع المشقة عنهم، إذ ليس كل أحد يقدر على الكتابة، بل ولا على الإشهاد، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب»[2].

ويقوي القول بعدم الوجوب؛ قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ﴾ [البقرة: 283].

﴿ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ ﴾ الواو: عاطفة، واللام: للأمر، وهو للوجوب، ﴿ بَيْنَكُمْ ﴾ أي: بينكم أيها المتداينون، أي: بحضور الدائن والمدين، فلا تصح الكتابة بحضور أحد الطرفين دون الآخر.

﴿ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ﴾ «كاتب» نكرة، يعم أي كاتب، أي: وليكن الكاتب الذي يكتب بينكم كاتبًا ﴿ بِالْعَدْلِ ﴾، يكتب ما تم بينكم من عقد الدين؛ تاريخه ومقداره، وعوضه، وأجله ووقت حلوله، وشاهديه، وغير ذلك.

وقوله: ﴿ بِالْعَدْلِ ﴾ أي: بالقسط والحق، والصدق المطابق للواقع، من غير زيادة، ولا نقصان، ولا تبديل، ولا غير ذلك.

قال ابن كثير[3]: «وقوله: ﴿ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ﴾؛ أي: بالقسط والحق، ولا يجر في كتابته على أحد، ولا يكتب إلا ما اتفقوا عليه، من غير زيادة ولا نقصان».

﴿ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ ﴾؛ أي: ولا يمتنع من يعرف الكتابة أن يكتب لغيره، إذا طلب منه ذلك.

﴿ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ ﴾ الكاف: للتشبيه، وهي: صفة لمصدر محذوف، و«ما» موصولة، أي: كتابة مثل الذي علمه الله إياه من صفة الكتابة، ومن العلم الشرعي في كتابة الوثائق.

ويجوز كون «الكاف»: للتعليل، أي: ولا يمتنع كاتب أن يكتب للناس وينفعهم بكتابته، كما مَنَّ الله عليه وعلمه، كما في قوله تعالى: ﴿ وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ﴾ [القصص: 77]، وقوله تعالى: ﴿ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ ﴾ [البقرة: 198].

وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن من الصدقة أن تعين صانعًا، أو تصنع لأخرق»[4].

وعن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار»[5].

﴿ فَلْيَكْتُبْ ﴾ الفاء للتفريع، واللام: للأمر، وجملة ﴿ فَلْيَكْتُبْ ﴾ فيها توكيد، لما قبلها، وحث على المبادرة إلى الكتابة، وفيها توطئة وتمهيد لما بعدها.

﴿ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ﴾ الواو في الموضعين: عاطفة، واللام فيهما للأمر.

ومعنى قوله: ﴿ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ ﴾؛ أي: وليمل ﴿ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ ﴾، وهو: المدين على الكاتب ما في ذمته من الدين ونوعه وصفته وأجله وغير ذلك، وفي هذا دليل على أن القول في ذلك هو قول المدين.

و«الإملال» و«الإملاء»: لغتان بمعنى واحد، فأهل الحجاز وبنو أسد يقولون: «أملَّ» وبنو تميم يقولون: «أملى»، يقال: أمللت عليه، ومنه قوله هنا: ﴿ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ ﴾، ويقال: أمليت عليه، ومنه قوله تعالى: ﴿ وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴾ [الفرقان: 5].

ومعنى الإملال والإملاء: أن يلقي على سامعه كلامًا ليكتبه عنه، أو يرويه أو يحفظه.

﴿ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ﴾: الفعل «يتق» مجزوم بلام الأمر، وعلامة جزمه حذف حرف العلة «الياء» والكسرة دليل عليها.

والخطاب في هذه الجملة والتي بعدها للمملي؛ أي: وليتخذ وقاية من عذاب الله ربه، بأن لا يملي إلا حقًّا، ولا يقول إلا صدقًا.

وفي قوله: ﴿ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ﴾ ترغيب وترهيب أي: وليتق «الله» المعبود العظيم «ربه» خالقه ومالكه المتصرف فيه، والمنعم عليه بسائر النعم، رغبة ورهبة، وخوفًا من عقابه وطمعًا في ثوابه.

﴿ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا ﴾ الواو: عاطفة، و«لا»: ناهية، ﴿ يَبْخَسْ مِنْهُ ﴾؛ أي: ينقص منه، ﴿ شيئًا ﴾: نكرة تفيد العموم؛ أي: ولا ينقص من الحق الذي عليه شيئًا أيًّا كان، ومهما قل، لا في كميته، ولا في كيفيته، ولا في نوعه.

﴿ فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا ﴾؛ أي: لا يحسن التصرف في ماله، محجورًا عليه أو غير محجور عليه.

﴿ أَوْ ضَعِيفًا ﴾ في بدنه كالصغير والشيخ الكبير والمريض، أو في عقله كالمعتوه والمجنون.

﴿ أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هو ﴾ «أن» والفعل «يمل» في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به لـ«يستطيع»، وفاعل «يمل» مستتر، والضمير «هو» للتوكيد.

والمعنى: أو لا يقدر أن يملي هو؛ لخرس في لسانه، أو لجهل، لا يعرف معه وجه الصواب، ونحو ذلك.

﴿ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ﴾؛ الفاء: واقعة في جواب الشرط ﴿ فَإِنْ كَانَ ﴾؛ لأنه جملة طلبية، واللام: للأمر.

﴿ وَلِيُّهُ ﴾ أي: الذي يتولى أمره وشأنه؛ من قريب كأب أو جد أو أخ أو ابن أو غيرهم، أو من وصي أو وكيل، وغير ذلك.

﴿ بِالْعَدْلِ ﴾؛ أي: إملاءً بالعدل والقسط، من غير زيادة في الدين، أو نقص منه.

وقال هنا: ﴿ بِالْعَدْلِ ﴾؛ لأن المملي هنا وهو الولي يُتصور منه الزيادة والنقص، محاباة لهذا أو هذا، بخلاف ما إذا كان المملي هو المدين، فإن المتصور منه النقص فقط؛ ولهذا قال في حقه: ﴿ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا ﴾.

﴿ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ ﴾ الواو: استئنافية، والاستشهاد طلب الشهود.

﴿ مِنْ رِجَالِكُمْ ﴾ الخطاب للمؤمنين، وحقيقة الشهادة: الحضور والمشاهدة وسماع ما تم بين الطرفين.

أي: اطلبوا لزيادة توثيق الدين- مع كتابته- شهيدين من رجالكم الذكور البالغين العدول الأحرار، كما هو الحال في جميع الحقوق المالية، والبدنية والحدود، لابد فيها من شاهدين، ما عدا الزنا فلابد فيه من أربعة شهود، تأكيدًا في الستر، وصيانة للأعراض.

﴿ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ ﴾، أي: فإن لم يكن الشاهدان رجلين، أي: ذكرين بالغين.

﴿ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ ﴾: جواب الشرط ﴿ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا ﴾، وقرن بالفاء؛ لأنه جملة اسمية ﴿ فَرَجُلٌ ﴾ خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: فالشهود رجل وامرأتان، أو مبتدأ خبره محذوف، أي: فرجل وامرأتان يشهدون.

ويحتمل أن الجواب قرن بالفاء؛ لأنه جملة طلبية والتقدير: فليكن رجل وامرأتان، أو فليشهد رجل وامرأتان.

والرجل: هو الذكر البالغ ﴿ وَامْرَأَتَانِ ﴾؛ أي: أنثيان بالغتان.

وفي الآية تخيير بين شهادة الرجلين، وشهادة الرجل والمرأتين، وفيها ترتيب بتقديم شهادة الرجلين على شهادة الرجل والمرأتين إشارة إلى أنه الأولى.

فالأولى أن يكون الشاهدان على البيع رجلين؛ لأن شهادة الرجل الواحد أقوى من شهادة المرأتين، لأن حفظ النساء وضبطهن من حيث العموم دون حفظ الرجال وضبطهم، وهذا لا ينافي أن يكون في النساء من هن أحفظ وأضبط من بعض الرجال.

يضاف إلى ما سبق تعذر حضورهن مجالس القضاء غالبًا، فإن شهد على البيع رجل وامرأتان كفى ذلك.

﴿ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ ﴾ «ممن»: جار ومجرور، «من» الأولى: حرف جر، و«من» الثانية: اسم موصول، والجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة لما قبله، أي: كائنون ممن ترضون من الشهداء، والخطاب للمؤمنين، أي: ممن ترضون أيها المؤمنون.

﴿ مِنَ الشُّهَدَاءِ ﴾ «من»: بيانية، أي: من الذين ترضونهم ﴿ مِنَ الشُّهَدَاءِ ﴾ وهم الشهداء العدول، كما قال تعالى: ﴿ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُم ﴾ [الطلاق: 2].

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «شهد عندي رجال مرضيون، وأرضاهم عندي عمر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس، وبعد العصر حتى تغرب»[6].

قال ابن كثير[7]: «فيه دلالة على اشتراط العدالة في الشهود وهذا مقيّد، حكم به الشافعي على كل مطلق في القرآن من الأمر بالإشهاد من غير اشتراط، وقد استدل من رد المستور بهذه الآية الدالة على أن يكون الشاهد مرضيًّا».

﴿ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى ﴾ قرأ حمزة بكسر همزة: «إن»، وقرأ الباقون بفتحها: ﴿ أن ﴾.

قرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بسكون الذال وتخفيف الكاف: «فتُذْكِرَ»، وقرأ الباقون بفتح الذال وتشديد الكاف: ﴿ فَتُذَكِّرَ ﴾، إلا أن حمزة رفع الراء: ﴿ فَتُذَكِّرَ ﴾.

مأخوذة من التذكير، أي: من الذكر ضد النسيان، أي: إن نسيت إحداهما الشهادة، أو بعضها ذكرتها أو نبهتها الأخرى.

وفي الإظهار في موضع الإضمار في قوله: ﴿ فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى ﴾ دون أن يقول: «فتذكرها الأخرى» إشارة إلى أن النسيان قد يحصل لكل منهما لشيء من الشهادة، فتذكر كل منهما الأخرى بما نسيت.

وفي قوله: ﴿ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى ﴾ بيان الحكمة في جعل شهادة امرأتين تعدل شهادة رجل واحد، وهو كون المرأة عرضة للنسيان أكثر بسبب نقصان عقلها، وضعف حفظها وضبطها.

عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «يا معشر النساء تصدقن، وأكثرن الاستغفار، فإني رأيتكن أكثر أهل النار» فقالت امرأة منهن جزلة[8]: وما لنا يا رسول الله- أكثر أهل النار؟ قال: «تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، وما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن» قالت: يا رسول الله، وما نقصان العقل والدين؟ قال: «أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل، فهذا نقصان العقل، وتمكث الليالي ما تصلي، وتفطر في رمضان، فهذا نقصان الدين»[9].

قال ابن تيمية[10]: «فبيّن أن شطر شهادتهن إنما هو؛ لضعف العقل، لا لضعف الدين. فعلم بذلك أن عدل النساء بمنزلة عدل الرجال، وإنما عقلها ينقص عنه. فما كان من الشهادة لا يخاف فيه الضلال في العادة لم تكن فيه على نصف الرجل. وما يقبل فيه شهادتهن منفردات إنما هو في أشياء تراها بعينها، أو تلمسها بيدها، أو تسمعها بأذنها، من غير توقف على عقل، كالولادة والاستهلال والارتضاع والحيض والنفاس، والعيوب تحت الثياب، فإن مثل هذا لا ينسى في العادة، ولا تحتاج معرفته إلى كمال عقل».

وفي قوله: ﴿ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى ﴾ أيضًا: دلالة على أن الشاهد إذا نسي الشهادة فذكره بها غيره أنه ليس له أن يرجع إلى قول من ذكره ويقلده، حتى يذكر ذلك بنفسه بعد تذكيره.

﴿ وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ ﴾؛ أي: ولا يمتنع الشهداء ﴿ إِذَا مَا دُعُوا ﴾ «ما» زائدة من حيث الإعراب، مؤكدة من حيث المعنى، أي: إذا ما دعوا وطلب منهم تحمل الشهادة؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ ﴾.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #334  
قديم 05-09-2023, 06:13 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,477
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله



﴿ وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا ﴾ أيضًا لأداء الشهادة التي تحملوها، فهذا واجب قال عز وجل: ﴿ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 283].

وعن زيد بن خالد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبركم بخير الشهداء الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها»[11].

ولا ينافي هذا ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثم يخلف قوم يشهدون قبل أن يستشهدوا»[12].

وما جاء في حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته»[13].

فالمعنيون بهذين الحديثين وما في معناهما شهداء الزور، والمستخفون بالشهادة والأيمان، أما الشهادة لإحقاق الحق فيجب أداؤها، وإن لم تطلب منه إذا توقف ذلك على شهادته.

﴿ وَلَا تَسْأَمُوا ﴾ الواو: عاطفة، و«لا»: ناهية.

والسأم: الملل، قال لبيد[14]:
ولقد سئمت من الحياة وطولها
وسؤال هذا الناس كيف لبيد




وقال زهير[15]:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش
ثمانين حولًا لا أبا لك يسأم




﴿ أَنْ تَكْتُبُوهُ ﴾ أن والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل نصب مفعول «تسأموا» أي: ولا تسأموا كتابة الدين، أي: ولا تملوا كتابة الدين.

﴿ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا ﴾: حالان، أي: حال كونه صغيرًا، أو كبيرًا، أي: قليلًا أو كثيرًا.

﴿ إِلَى أَجَلِهِ ﴾؛ أي: إلى وقت حلوله؛ لأن في الكتابة ضبط الدين، والقضاء على أسباب الاختلاف.

وقَدَّم قوله ﴿ صَغِيرًا ﴾ على قوله: ﴿ كبيرًا ﴾ تأكيدًا لعدم التهاون في كتابة الدين مهما قل، ولأن القليل قد يتساهل في كتابته، وقد يكون سببًا للنزاع والاختلاف؛ لأن من الناس من يشكل عنده ويعظم حتى أقل القليل.

﴿ ذَلِكُمْ ﴾ الإشارة إلى كل ما سبق من الأحكام، من كتابة الدين والإشهاد عليه، وغير ذلك، والخطاب للمؤمنين.

﴿ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ ﴾ أي: أعدل عند الله- عز وجل- وفي حكمه؛ لما في ذلك من حفظ الحق لمن هو له أو عليه.

﴿ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ ﴾ أي: وأقرب وأعدل لإقامة الشهادة، وأكمل وأصوب وأضبط لها، بكونها بشهادة رجلين، أو رجل وامرأتين، وكتابة الدين والشهادة، بحيث يتذكر الشاهد بالكتابة شهادته، وما شهد به، بلفظه، أو بلفظه وخطه إن كان الشاهد هو الكاتب، وغير ذلك.

﴿ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا ﴾ أي: وأقرب ألا تشكوا فيما بينكم من دين، في أصله، أو قدره، أو أجله، أو غير ذلك، بحيث ترجعون عند حصول أي ريب وشك إلى المكتوب بينكم وإلى الشهود، فيزول بذلك ما حصل عندكم من شك وريب.

﴿ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا.
أمر عز وجل بكتابة الدين والإشهاد عليه إذا كان مؤجلًا بقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ﴾ الآية، ثم استثنى من ذلك إذا كان البيع ونحوه تجارة حاضرة غير مؤجلة، فلا جناح في عدم كتابتها.

﴿ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً ﴾ استثناء من أعم الأحوال، أو الأكوان في قوله: ﴿ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا ﴾، وهو استثناء منقطع؛ لأن التجارة الحاضرة ليست من الدين.

قرأ عاصم بنصب ﴿ تِجَارَةً حَاضِرَةً ﴾ على أن «تجارةً»: خبر «تكون» و«حاضرةً»: صفة لـ«تجارةً»، واسم «يكون»: ضمير مستتر يدل عليه السياق، تقديره: «هي»، أي: إلا أن تكون المعاملة أو الصفقة «تجارةً حاضرةً»، وجملة «تديرونها بينكم»: صفة ثانية لـ«تجارة».

وقرأ الباقون برفع «تجارةٌ حاضرةٌ»، على أن «تجارةٌ»: اسم «تكون»، و«حاضرةٌ»: صفة لها، وخبرها جملة: «تديرونها بينكم»، ومعنى «حاضرة» منجزة، وليست دينًا مؤجلًا.

﴿ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ ﴾: تتبادلونها بينكم، فيأخذ البائع الثمن، ويأخذ المبتاع السلعة.

والتجارة: اسم يقع على عقود المعاوضات التي تطلب بها الأرباح، كالبيع والشراء والإجارة، ونحو ذلك.

وأعظم التجارة المتاجرة والمرابحة مع الله- عز وجل- بالإيمان به، والجهاد في سبيله، كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [الصف: 10 - 12].

وقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 111].

وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ﴾ [فاطر: 29، 30].

﴿ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا ﴾ «الفاء» عاطفة، أي: فليس عليكم حرج ولا إثم في عدم كتابتها، إذ لا محذور يترتب على تركها؛ لأن الكتابة إنما أمر بها لتفادي الجحود والنسيان؛ إمّا لأصل البيع، أو قدر الدين، أو أجله ونحو ذلك، وكل هذا مرتفع في البيع الحاضر ونحوه.

﴿ وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ﴾ أي: واطلبوا من يشهد على البيع إذا باع بعضكم على بعض؛ حسمًا لمادة النزاع والاختلاف.

والأصل في الأمر الوجوب، لكن حمل جمهور أهل العلم الأمر هنا على الندب؛ لما في الإشهاد على كل بيع من المشقة، ويؤيد هذا قوله تعالى في الآية بعد هذه الآية: ﴿ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ﴾ [البقرة: 283].

وحديث عمارة بن خزيمة الأنصاري رضي الله عنه أن عمه حدثه- وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: «أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع فرسًا من أعرابي، فاستتبعه النبي صلى الله عليه وسلم ليقضيه ثمن فرسه، فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم المشي، وأبطأ الأعرابي فطفق رجال يعترضون الأعرابي فيساومونه بالفرس، ولا يشعرون أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاعه، حتى زاد بعضهم الأعرابي في السوم على ثمن الفرس الذي ابتاعه النبي صلى الله عليه وسلم، فنادى الأعرابي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن كنت مبتاعًا هذا الفرس، وإلا بعته، فقام النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع نداء الإعرابي، قال: «أوليس قد ابتعته منك؟» قال الأعرابي: لا والله، ما بعتك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بلى قد ابتعته منك». فطفق الناس يلوذون بالنبي صلى الله عليه وسلم والأعرابي وهما يتراجعان، فطفق الأعرابي يقول: هلم شهيدًا يشهد أني بايعتك. فمن جاء من المسلمين قال للأعرابي: ويلك إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقول إلا حقًا. حتى جاء خزيمة فاستمع لمراجعة النبي صلى الله عليه وسلم ومراجعة الأعرابي يقول: هلم شهيدًا يشهد أني بايعتك. قال خزيمة: أنا أشهد أنك قد بايعته. فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على خزيمة فقال: «بم تشهد»؟ قال: بتصديقك يا رسول الله. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين»[16].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنه ذكر أن رجلًا من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار، فقال: ائتني بشهداء أشهدهم. قال: كفى بالله شهيدًا. قال: ائتني بكفيل. قال: كفى بالله كفيلًا. قال: صدقت. فدفعها إليه، إلى أجل مسمى، فخرج في البحر فقضى حاجته، ثم التمس مركبًا يقدم عليه للأجل الذي أجله، فلم يجد مركبًا، فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة معها إلى صاحبها، ثم زجج موضعها، ثم أتى بها البحر، ثم قال: اللهم إنك قد علمت أني استسلفت فلانًا ألف دينار، فسألني كفيلًا، فقلت: كفى بالله كفيلًا. فرضي بذلك، وسألني شهيدًا، فقلت: كفى بالله شهيدًا. فرضي بذلك، وإني قد جهدت أن أجد مركبًا أبعث بها إليه بالذي أعطاني، فلم أجد مركبًا، وإني استودعتكها، فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه، ثم انصرف، وهو في ذلك يطلب مركبًا إلى بلده، فخرج الرجل الذي كان أسلفه لعل مركبًا يجيء بما له، فإذا بالخشبة التي فيها المال، فأخذها لأهله حطبًا، فلما كسرها وجد المال والصحيفة، ثم قدم الرجل الذي تسلف منه، فأتاه بألف دينار وقال: وﷲ ما زلت جاهدًا في طلب مركب لآتيك بمالك، فما وجدت مركبًا قبل الذي أتيت فيه. قال: هل كنت بعثت إليَّ بشيء؟ قال: ألم أخبرك أني لم أجد مركبًا قبل هذا الذي جئت فيه؟ قال: فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت به في الخشبة، فانصرف بألفك راشدًا»[17].

﴿ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ ﴾ الواو: عاطفة و«لا» ناهية، و﴿ يُضَارَّ ﴾ مأخوذ من المضارة، وهي: إلحاق الأذى والضرر.

والفعل «يُضار» أصله «يضارر» ويحتمل أن يكون مبنيًا للفاعل، أي: ولا يضارِرْ كاتب ولا شهيد، فـ«كاتب» فاعل، والواو: عاطفة و«لا» زائدة من حيث الإعراب مؤكدة للنفي من حيث المعنى و«شهيد» معطوف على «كاتب» أي: ولا يُضارِرْ كاتب في كتابته، فيكتب غير ما يُملى عليه، أو يمتنع من الكتابة مضارة للمملي أو لغيره.

ولا يُضارِرْ شهيد في شهادته، فيشهد بخلاف ما رأى وسمع، وبخلاف الحق، أو يمتنع من تحمل الشهادة، أو أدائها أو يكتمها مضارة للمشهود له.

ويحتمل أن يكون الفعل «يضار» مبنيًا للمفعول، فيكون «كاتب» نائب فاعل، أي: ولا يُضارَرْ كاتب إذا كتب كما أُملي عليه أو امتنع من الكتابة ونحو ذلك.

ولا يُضارَرْ شهيد إذا شهد بالحق وبما رأى وسمع، أو إذا امتنع من تحمل الشهادة، ونحو ذلك؛ لأن كلًا منهما محسن، وقد قال الله عز وجل: ﴿ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 91].

﴿ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ﴾ الواو: عاطفة، أو استئنافية، أي: وإن تفعلوا المضارة بأن يضار بعضكم بعضًا.

﴿ فَإِنَّهُ ﴾ أي: فعل المضارة ﴿ فُسُوقٌ بِكُمْ ﴾ أي: خروج منكم عن طاعة الله- عز وجل- وفي التعبير بالباء في قوله: ﴿ فُسُوقٌ بِكُمْ ﴾ بدل «من» إشارة إلى لزوم ذلك لهم، أي: فإنه فسوق كائن بكم، لازم لكم، لا تحيدون عنه، ولا تنفكون منه.

﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾ بفعل أوامره وترك نواهيه يَقِكُم عذابه.

﴿ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ﴾ الواو: للاستئناف، أي: ويعلمكم الله ما ينفعكم في أمر دينكم ودنياكم، وما تفرقون به بين الحق والباطل، كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [الأنفال: 29]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحديد: 28].

﴿ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾؛ أي: إن علمه- عز وجل- محيط بالأشياء كلها في أطوارها الثلاثة: قبل وجودها، وبعد وجودها، وبعد عدمها، يعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكن، لو كان كيف كان يكون.

وقدم المتعلِّقين ﴿ بِكُلِّ شَيْءٍ ﴾ على المتعلَّق به وهو قوله ﴿ عَلِيمٌ ﴾ لتأكيد شمول علمه عز وجل- لكل شيء.

قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ

قوله: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ ﴾ الواو: استئنافية، أو عاطفة، و«إن»: شرطية، و«كنتم»: فعل الشرط، أي: وإن كنتم مسافرين، وتداينتم حال السفر، بدين إلى أجل مسمى.

والسفر: هو الضرب في الأرض والسير فيها، سُمي سفرًا لأنه خروج من البلد ومحل الإقامة إلى حيث السفر والنور. قال ابن فارس[18]: «سمي بذلك، لأن الناس ينكشفون عن أماكنهم».

وقيل: سمي سفرًا، لأنه يسفر عن أخلاق الرجال.

﴿ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا ﴾ يكتب الدين بينكم، ومثل هذا إذا لم يجدوا أدوات الكتابة، كالقرطاس والقلم ونحو ذلك.

﴿ فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ ﴾ جملة جواب الشرط «إن»، واقترن بالفاء؛ لأنه جملة اسمية، أي: فعليكم رهان مقبوضة، أو فالوثيقة رهان مقبوضة.

قرأ ابن كثير وأبوعمرو «فرُهُن» بضم الراء والهاء من غير ألف، وقرأ الباقون «فرهان» بكسر الراء وفتح الهاء وألف بعدها.

و«الرهان» و«الرُهُن» ما تُوَثَّق به الديون من الأشياء العينية، وهي جمع «رهن» وهو في اللغة الحبس، قال تعالى: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ﴾ [المدثر: 38]؛ أي: مرتهنة محبوسة بما كسبت.

والرهن في الاصطلاح: توثقة دين بعين يمكن استيفاؤه أو بعضه منها أو من بعضها.

﴿ مَقْبُوضَةٌ ﴾ أي: يقبضها الدائن وهو «المرتهِن»، ويأخذها من «الراهن» وهو المدين، بأن يحوزها إليه، إذا كانت مما ينقل، أو تكون تحت سيطرته إذا كانت مما لا ينقل، كالعقار، ونحوه.

ومثل هذا إذا كان الدين في الحضر، ولم يجدوا كاتبًا، وإنما خص السفر؛ لأنه مظنة عدم وجود الكاتب، أما الحضر فيندر فيه عدم وجود الكاتب.

قال ابن القيم[19]: «وقاست الأمة الرهن في الحضر على الرهن في السفر، والرهن مع وجود الكاتب على الرهن مع عدمه، فإن استدل على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم رهن درعه في الحضر، فلا عموم في ذلك، فإنما رهنها على شعير استقرضه من يهودي، فلابد من القياس، إما على الآية، وإما على السنة».

﴿ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ﴾ الفاء: عاطفة، و«إن»: شرطية، و«أمن»: فعل الشرط، أي: فإن أمن بعضكم بعضًا، ولم تكتبوا الدين، ولم تشهدوا عليه.

والمعنى: فإن اطمأن بعضكم إلى بعض، ووثق بأنه لن يُنكِر أو يَبخس أو يُغيّر، فلم يوثق حقه برهن مقبوض، ولم يُشهد ولم يَكتب.

﴿ فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ﴾ جملة جواب الشرط ﴿ فَإِنْ أَمِنَ ﴾، وقرن بالفاء؛ لأنه جملة طلبية، واللام: لام الأمر، أي: فليؤد المدين الذي ائتمنه الدائن، ﴿ أَمَانَتَهُ ﴾؛ أي: الذي ائتمن عليه من الدين وغيره.

قال صلى الله عليه وسلم: «أدِ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك»[20].

وقال صلى الله عليه وسلم: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه»[21].

وقال صلى الله عليه وسلم: «من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله»[22].

﴿ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ﴾ الواو: عاطفة، واللام: للأمر، والفعل: مجزوم بها، وعلامة جزمه حذف حرف العلة الياء.

أي: ﴿ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ﴾ فلا ينكر ما ائتمن عليه من دين وغيره، ولا يبخس منه شيئًا أو يماطل في أدائه.

وهذه الآية مخصصة لما سبق من الأمر بكتابة الدين والإشهاد عليه وتوثيقه بالرهن المقبوض.

﴿ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ ﴾ الواو: عاطفة، و«لا»: ناهية.

و«الكتمان»: الإخفاء والجحود، و«الشهادة»: ما شهد به الإنسان، مما حضره ورآه بعينه وسمعه بإذنه.

أي: لا تخفوا وتجحدوا ما شهدتم به، بإنكار الشهادة أصلًا، أو بالتغيير فيها والتبديل، بزيادة، أو نقصان، أو غير ذلك.

﴿ وَمَنْ يَكْتُمْهَا ﴾ أي: ومن يكتم الشهادة ويخفها، أو يغير فيها ويبدل.

﴿ فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ﴾: جواب الشرط في قوله: ﴿ وَمَنْ يَكْتُمْهَا ﴾، وقرن بالفاء؛ لأنه جملة اسمية. و«قلبه»: فاعل اسم الفاعل «آثم».

وأضاف الإثم إلى القلب؛ لأن الشهادة أمر خفي راجع إلى القلب؛ ولأن القلب ملك الأعضاء، عليه مدار الصلاح والفساد، كما قال صلى الله عليه وسلم- في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»[23].

وقال صلى الله عليه وسلم: «التقوى هـٰهنا، ويشير إلى صدره- ثلاث مرات»[24].

قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾ [النساء: 135]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المائدة: 8].

فمن كتم الشهادة فقلبه واقع في الإثم، وهو الذنب، وهو من الآثمين، كما قال تعالى: ﴿ وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ ﴾ [المائدة: 106]؛ أي: إن كتمناها.

﴿ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾، والله بالذي تعملون، أو بعملكم عليم، وسيحاسبكم على أعمالكم، ويجازيكم عليها، خيرها وشرها. وقدم المتعلِّق وهو قوله: ﴿ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ على المتعلق به، وهو «عليم» لتأكيد إحاطة علمه - عز وجل - بأعمالهم.

وفي هذا وعيد لمن خالف أمر الله، فأنكر ما عليه من حقوق، أو كتم الشهادة، أو غير في ذلك، وفيه وعد لمن أطاع الله واتقاه، فأدى ما عليه من حقوق، من دين أو شهادة، أو غير ذلك.

[1] أخرجه البخاري في السلم (2241)، ومسلم في المساقاة (1604)، وأبو داود في البيوع (3463)، والنسائي في البيوع (4616)، والترمذي في البيوع (1311)، وابن ماجه في التجارات (2280)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

[2] أخرجه البخاري في الصوم (1913)، ومسلم في الصيام (1080)، وأبو داود في الصوم (2319)، والنسائي في الصيام (2140)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

[3] في «تفسيره» (1/ 497).

[4] أخرجه البخاري في العتق (2518)، ومسلم في الإيمان (84)، وأحمد (2/ 388) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.

[5] أخرجه أبو داود في العلم (3658)، والترمذي في العلم (2649)، وابن ماجه في المقدمة (261)، وأحمد (2/ 304)- وقال الترمذي: «حديث حسن».

[6] أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة- الصلاة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس (581)، وأبو داود في الصلاة (1276).

[7] في «تفسيره» (1/ 497).

[8] أي: تامة الخلق قوية.

[9] أخرجه مسلم في الإيمان (79)، وأخرجه البخاري في الحيض (304)، ومسلم في الإيمان (80)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

[10] انظر: «بدائع التفسير» (1/ 446).

[11] أخرجه مسلم في الأقضية (1719)، وأبو داود في الأقضية (4596)، والترمذي في الشهادات (2295)، وابن ماجه في الأحكام (2364).

[12] أخرجه مسلم في فضائل الصحابة (2534).

[13] أخرجه البخاري في الشهادات (2652)، ومسلم في فضائل الصحابة (2533)، والترمذي في المناقب (3859)، وابن ماجه في الأحكام (2362).

[14] انظر «ديوانه» ص(35).

[15] انظر «ديوانه» ص(29).

[16] أخرجه أبو داود في الأقضية (3607)، والنسائي في البيوع (4647)، وأحمد (5/ 213- 214- 215- 216)، والحاكم في البيوع (2/ 17- 18)، وقال: «صحيح الإسناد، ورجاله باتفاق الشيخين ثقات، ولم يخرجاه»، وأخرجه البيهقي في الشهادات (10/ 145- 146).

[17] أخرجه أحمد (2/ 348)، وأخرجه البخاري معلقًا بصيغة الجزم- في الكفالة (2291).

[18] في «مقاييس اللغة»، مادة «سفر».

[19] انظر: «بدائع التفسير» (1/ 446- 447).

[20] أخرجه أبو داود في البيوع (3535)، والترمذي في البيوع (1264)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وقال الترمذي: «حسن غريب».

[21] أخرجه أبو داود في البيوع (3561)، والترمذي في البيوع (1266)، وابن ماجه في الأحكام (2400)، من حديث الحسن عن سمرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح».

[22] أخرجه البخاري في الاستقراض وأداء الديون (2387)، وابن ماجه في الأحكام (2411) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[23] أخرجه البخاري في الإيمان (52)، ومسلم في المساقاة (1599)، وأبو داود في البيوع (3329)، والنسائي في البيوع (4453)، والترمذي في البيوع (1205)، وابن ماجه في الفتن (3984).

[24] أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب (2564)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #335  
قديم 05-09-2023, 06:15 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,477
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»





الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم




فوائد وأحكام من قوله تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ...

من قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة:282، 283].
الفوائـد والأحكـام:
1- تصدير الخطاب للمؤمنين بالنداء للتنبيه والعناية والاهتمام بما تضمنته هاتان الآيتان العظيمتان من أحكام.

2- نداء المؤمنين بوصف الإيمان تكريم وتشريف لهم.

3- في نداء المؤمنين بوصف الإيمان حث على الاتصاف بهذا الوصف، وتعظيم لما ذكر بعده من أحكام، وأن امتثال تلك الأحكام من مقتضيات الإيمان، وعدم امتثالها يعد نقصًا في الإيمان.

4- جواز التعامل بالدين، سواء كان هذا الدين ثمن مبيع أو أجرة، أو سَلَمًا، وهو تعجيل الثمن وتأخير المثمن، أو غير ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ ﴾.

5- أن الجائز من الدين ما كان إلى أجل مسمى، أي: معلوم محدد؛ لقوله تعالى: ﴿ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ﴾ كشهر أو سنة أو غير ذلك، فإن كان الأجل مجهولًا غير محدد لم يصح؛ لمفهوم قوله تعالى: ﴿ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ﴾.

وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم»[1].

فإن كان الدين إلى غير أجل، أي: لم ينقد الثمن في الحال فهو واجب منذ العقد، وللدائن المطالبة به منذ العقد.

6- وجوب كتابة الدين المؤجل إلى أجل مسمى؛ لقوله تعالى: ﴿ فَاكْتُبُوهُ﴾، والأصل في الأمر الوجوب، ويقوي هذا قوله تعالى في آخر الآية: ﴿ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا﴾، وإلى هذا ذهب بعض أهل العلم.

وذهب جمهور أهل العلم إلى أن كتابة الدين مستحبة، وليست بواجبة، وحملوا الأمر في الآية على الاستحباب، بدليل قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ﴾ [البقرة: 283].

وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم ابتاع بلا كتابة ولا إشهاد كما في حديث خزيمة بن ثابت عن عمه رضي الله عنه[2].

وعللوا ذلك أيضًا بمشقة الكتابة على كل متداينين. وهذا القول أرفق، والأول أحوط، وأسلم عاقبة.

ولهذا فالأولى كتابة الدين لمن تمكن من ذلك، تفاديًا لما قد يترتب على عدم الكتابة من النسيان، أو الإنكار، أو النزاع والاختلاف، حول الدين أو قدره أو أجله، وغير ذلك، لكن إذا كان الدين في أموال الغير مما للإنسان عليه ولاية أو وكالة، كمال اليتيم، أو غير ذلك وجبت كتابته.

7- وجوب حضور كل من الدائن والمدين، عند كتابة الدين؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ ﴾.

8- يجب أن يكون الكاتب بين المتداينين عدلًا، معروفًا بالعدل، عارفًا به، يكتب بالعدل المطابق للواقع، الموافق للشرع، من غير ميل لأحدهما؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ﴾.

9- أنه يجوز أن يتولى كتابة الدين أيُّ كاتب، إذا كان عدلًا؛ لقوله تعالى: ﴿ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ﴾ بتنكير «كاتب» أي: أيُّ كاتب، ولا يشترط كاتب بعينه.

10- ظاهر الآية أن الكاتب لا يكون أحد المتعاقدين؛ لقوله: ﴿ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ ﴾ لكن لو تراضيا أن يكتب أحدهما، وبخاصة الذي عليه الحق صح ذلك؛ لأن ذلك بمثابة الاعتراف منه والإقرار على نفسه.

11- ينبغي لمن منّ الله عليه، فعلمه الكتابة وصنعتها، والعلم الشرعي فيها أن لا يمتنع عن الكتابة لمن يحتاج إليها؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ﴾.

12- أن من شكر نعمة الله- عز وجل- على من علمه الله الكتابة أن يكتب لمن يحتاج إليها؛ لقوله تعالى: ﴿ كَمَا عَلَّمَهُ الله ﴾ أي: لتعليم الله إياه، وهذا على اعتبار أن الكاف للتعليل. وفي الحديث: «ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته»[3].

13- نعمة الله- عز وجل- على عباده بتعليمهم الكتابة، وما ينفعهم من العلوم في أمر دينهم ودنياهم؛ لقوله تعالى: ﴿ كَمَا عَلَّمَهُ الله ﴾، كما قال تعالى: ﴿ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [العلق: 5].

14- يجب على الكاتب أن يكتب وفق ما علمه الله من الشرع، ومن حسن الكتابة؛ لقوله تعالى: ﴿ كَمَا عَلَّمَهُ الله ﴾ وهذا على اعتبار الكاف للتشبيه، أي: كالذي علمه الله.

15- أن الذي ينبغي أن يملي على الكاتب هو المدين الذي عليه الحق، لا الدائن؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ ﴾.

16- أن الكاتب مطالب بأمرين؛ الأول: أن يكتب كما علمه الله من حيث الشرع، وحسن الكتابة. والأمر الثاني: أن يكتب حسب ما يملي عليه الذي عليه الحق وهو المدين، من مقدار الدين وتاريخه وعوضه وأجله وغير ذلك.

17- أن القول في مقدار الدين، وصفته وشروطه وغير ذلك مما يتعلق به هو قول المملي الذي عليه الحق؛ لأنه المقر به الملتزم له؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ ﴾.

18- أن الإقرار من أعظم الطرق التي تثبت بها الحقوق؛ لأن ما يمليه المدين إقرار منه واعتراف بالحق الذي عليه.

19- يجب على المدين الذي عليه الحق أن يتقي الله ربه، فلا يملي إلا حقًا، ولا يقول إلا صدقًا؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ﴾.

20- في إرداف قوله تعالى: ﴿ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ ﴾ بقوله: ﴿ رَبَّهُ ﴾ إثبات الربوبية الخاصة للمؤمنين، وتذكير للمملي بألوهية الله- عز وجل- وربوبيته له، وجمع له بين الترغيب والترهيب، أي: وليتق الله المعبود العظيم ﴿ رَبَّهُ ﴾ خالقه ومالكه ومدبره، والمنعم عليه بسائر النعم. ومثل هذا قوله- عز وجل- للمؤتمن في الآية التي بعد هذه الآية: ﴿ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ﴾.

21- لا يجوز للمدين أن ينقص مما عليه من الدين شيئًا أيًّا كان، مهما قل، لا في قدره، ولا في وصفه، ولا في شروطه وقيوده، أو غير ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا ﴾.

22- ثبوت الولاية على من لا يحسن التصرف لسفه، أو صغر أو جنون، أو نحو ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ﴾.

23- إذا كان الذي عليه الحق سفيهًا لا يحسن التصرف، أو ضعيفًا لصغر، أو كبر، أو مرض، أو جنون أو لا يستطيع الإملال لخرس ونحوه وجب على وليه أن يملل عنه بالعدل، من غير محاباة بزيادة أو نقصان أو غير ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ﴾.

24- تفصيل القرآن الكريم فيما يحتاج إلى تفصيل؛ لقوله تعالى: ﴿ فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ ﴾.

وهذه الحالات الثلاث هي حالات القصور التي يحتاج معها الشخص إلى ولي، وهي: إما كونه سفيهًا لا يحسن التصرف، أو ضعيفًا في بدنه لصغر أو كبر أو مرض، أو في عقله لجنون ونحوه، أو لا يقدر على الإملاء لخرس ونحوه.

25- قبول قول الولي فيما يقر به على موليه؛ لقوله تعالى: ﴿ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ ﴾ ما لم يظهر منه محاباة وميل عن العدل إلى الظلم فلا يقبل؛ لقوله تعالى: ﴿ بِالْعَدْلِ ﴾.

26- قبول قول الأمين؛ لأنه إذا كان ولي القاصرين يقوم مقامهم، وتقبل اعترافاته عليهم، فالذي ولاه الشخص وائتمنه بنفسه أولى بالقبول.

27- مشروعية الإشهاد على الدين مع الكتابة لزيادة التوثيق؛ لقوله: ﴿ وَاسْتَشْهِدُوا ﴾، وأكثر أهل العلم على أن الأمر للإرشاد والندب، وقال بعضهم بوجوب الإشهاد.

28- لابد في الشهادة على الدين ونحوه، من شهادة رجلين، أو رجل وامرأتين من المؤمنين العدول الأحرار؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ ﴾.

وهذا أكمل وأوثق، ولا ينافي هذا أنه صلى الله عليه وسلم قضى بالشاهد واليمين[4].

29- أن شهادة الرجلين أولى من شهادة رجل وامرأتين، لتقديم شهادة الرجلين في الآية.

30- تفضيل الرجال على النساء في الشهادة- من حيث العموم- حيث جعلت شهادة امرأتين تعدل شهادة رجل واحد- وذلك لما ميز الله به الرجال- من حيث العموم- على النساء من كمال العقل والدين وقوة الحفظ والضبط.

31- جواز شهادة النساء في الأموال ونحوها إلا في الحدود للاحتياط فيها؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا ﴾ [النساء: 15]، وقوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [النور: 4] وقوله تعالى: ﴿ لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ﴾ [النور: 13].

32- يشترط كون الشهداء عدولًا مرضيين عند المشهود له والمشهود عليه وعند عامة المؤمنين؛ لقوله تعالى: ﴿ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ ﴾.

33- بيان الحكمة في جعل شهادة امرأتين تعدل شهادة رجل واحد، وهو نقصان عقلها، وضعف حفظها وضبطها، وكمال عقل الرجل وقوة حفظه وضبطه، فالمرأة عرضة للنسيان أكثر من الرجل، من حيث العموم.

34- جواز شهادة الإنسان إذا كان قد نسي الشهادة، ثم ذُكّر فيها فذكر؛ لقوله تعالى: ﴿ فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى ﴾ ومن باب أولى إذا ذكرها بدون تذكير.

35- إذا نسي الشاهد الشهادة ثم ذُكِّر بها فلم يَذْكُر لم يجز له أن يشهد تقليدًا لمن ذَكَّره؛ لقوله تعالى: ﴿ فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى ﴾؛ أي: فتذكر إحداهما الأخرى فتَذْكر.

36- لابد أن تكون الشهادة عن علم ويقين، فمتى شك في الشهادة لم يجز له أن يشهد، وإن غلب ذلك على ظنه.

37- تحريم الامتناع من الشهادة تحملًا وأداء ممن دعي إليها؛ لما في ذلك من ضياع الحقوق؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا ﴾.

أما أداء الشهادة بعد تحملها فوجوبه متأكد لتعينه على الشاهد، وقد قال تعالى: ﴿ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ﴾ [البقرة: 283].

وكذا الحكم إذا كان عنده شهادة لم يُعلم بها ولم يُدع إليها، وعرف أن حق أخيه سيضيع إذا لم يؤدها، قال تعالى: ﴿ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ﴾ [الطلاق: 2]، وقال تعالى: ﴿ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [الزخرف: 86].

وقال صلى الله عليه وسلم: «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا»[5].

وأما تحمل الشهادة فظاهر الآية يدل على وجوبه على من طلب منه ذلك، وقال كثير من أهل العلم: إنه فرض كفاية.

38- أن الشاهد ينبغي أن يأتي هو إذا دعي إلى الشهادة، لا أن يؤتى إليه؛ لقوله تعالى: ﴿ إِذَا مَا دُعُوا ﴾ وقد قيل في المثل: «في بيته يؤتى الحكم».

39- التأكيد على مشروعية كتابة الدين إلى أجله، والنهي عن السأم من كتابته، مهما كان الدين صغيرًا أو كبيرًا؛ لما في ذلك من حفظ الحقوق، والاحتراز من الاختلاف والنزاع؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا ﴾.

40- أن ما أمر الله به في الآية من كتاب الدين والإشهاد عليه على الصفة المذكورة في الآية، والعدل في ذلك، وغير ذلك من التوجيهات هو أعدل عند الله- عز وجل- وفي حكمه؛ لما فيه من حفظ الحقوق لأصحابها، وأقوم للشهادة، وأضبط لها وأكمل، وأحفظ من النسيان، وأقرب للسلامة من الريب والشك في الدَّين أو قدره أو أجله، أو غير ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا ﴾.

41- حرص الإسلام على النأي بالمسلمين عن كل ما يؤدي إلى الشك والارتياب، والاحتراز من ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا ﴾.

ولهذا قال صلى الله عليه وسلم للصحابيين لما مرا به وأسرعا، وهو يقلب صفية إلى بيتها: «على رسلكما إنها صفية»[6].

42- العمل بالكتابة واعتمادها حجة شرعية؛ لقوله تعالى: ﴿ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا ﴾.

ويؤيد هذا ما جاء في حديث عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من امرئ مسلم يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده»[7].

43- إباحة التجارة والمعاوضات الشرعية التي تطلب بها الأرباح كالبيع والشراء والإجارة، وغير ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً ﴾ بل إن ذلك مطلوب شرعًا، وقد يجب لإعفاف المرء نفسه وأهله عن مذلة السؤال.

44- أن الدَّين تجارة غير حاضرة؛ لقوله تعالى: ﴿ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً ﴾، فهذا استثناء مما قبله يدل على أن الدين تجارة لكنها غير حاضرة.

45- لا حرج في عدم كتابة التجارة الحاضرة، والبيع الناجز ونحوه؛ لقوله تعالى: ﴿ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا ﴾ وذلك؛ لأنه لا يترتب على ذلك محذور.

46- الأمر بالإشهاد حين البيع؛ لقوله تعالى: ﴿ وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ﴾، وأكثر أهل العلم على أن الأمر للإرشاد والندب، وذهب بعضهم إلى أن الإشهاد واجب بناءً على أن الأصل في الأمر الوجوب.

والراجح أن الإشهاد مستحب ومندوب إليه، ولهذا قال في آخر الآية: ﴿ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ﴾.

وثبت في حديث عمارة بن خزيمة عن عمه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع فرسًا من أعرابي ولم يشهد[8].

وأيضًا فإن في الإشهاد على كل بيع من المشقة والحرج على الناس ما لا يخفى. لكن الإشهاد بلا شك أحوط وأضبط ويتأكد في صفقات البيع الكبيرة، وقد يجب، وكذا في التصرف للغير كالوكيل والولي.

47- تحريم المضارة للكاتب والشهيد، كأن يدعيا في وقت أو حالة تضرهما، أو ينسب إليهما ما لم يحصل منهما، أو غير ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ ﴾ بالبناء للمفعول؛ لأنهما محسنان وما على المحسنين من سبيل، وما جزاء الإحسان إلا الإحسان.

48- لا يجوز أن يضار كاتب فيكتب خلاف ما يُملى عليه وخلاف الحق، ونحو ذلك، ولا يجوز أن يضار شهيد فيشهد بخلاف ما رأى وسمع، أو يكتم الشهادة ونحو ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ ﴾ على البناء للفاعل.

49- أن المضارة للكاتب والشهيد، والمضارة منهما من الفسوق والخروج عن طاعة ﷲ تعالى؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ﴾.

50- أن الفسوق يطلق على ما دون الكفر المخرج من الملة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ﴾ والمضارة دون الكفر.

51- وجوب تقوى الله- عز وجل- بفعل أوامره واجتناب نواهيه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾.

52- أن من اتقى الله علمه الله ما ينفعه في أمر دينه ودنياه وجعل له نورًا يفرق به بين الحق والباطل والخير والشر؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ﴾، كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ ﴾ [الأنفال: 29].

53- أن الأصل في الإنسان الجهل، وعدم العلم إلا بتعليم الله له؛ لقوله تعالى: ﴿ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [العلق: 5]، وقال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [النحل: 78].

54- إثبات علم الله- عز وجل- الواسع المحيط بكل شيء؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون.

55- أن السفر مظنة عدم وجود الكاتب، ويتجوز فيه ما لا يتجوز في الحضر؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ ﴾.

56- إذا كان المتداينون في السفر، ولم يجدوا كاتبًا شرع لهم توثيق حقوقهم بالرهان المقبوضة.

57- مشروعية الرهن؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ ﴾، وهو مشروع في الحضر والسفر، مع وجود الكاتب وعدمه.

وإنما خص في الآية حال السفر وعدم وجود الكاتب؛ لأن السفر مظنة عدم وجود الكاتب.

«وقد توفي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي، بثلاثين صاعًا من شعير»[9].

58- أن الكتابة أولى من الرهن؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ ﴾.

59- ظاهر الآية ﴿ فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ ﴾ لزوم قبض الرهن، لأن «مقبوضة» صفة لـ«رهان» ولهذا ذهب بعض أهل العلم إلى أن قبض الرهن شرط لصحته.

وذهب بعضهم إلى أن قبض الرهن شرط للزومه، لا لصحته، بمعنى أن الرهن صحيح وإن لم يقبض لكنه لا يلزم فللراهن التصرف فيه ما لم يقبضه المرتهن.

وذهب بعض أهل العلم إلى أن الرهن لازم صحيح بمجرد عقده، وإن لم يقبض، وليس من شرط لزومه؛ ولا من شرط صحته أن يقبض، والتقييد في الآية بقوله: «مقبوضة» لبيان أن التوثيق التام بالرهن يحصل بقبضه، وبخاصة إذا كان العقد في السفر، وليس ثمة كاتب.

60- استدل بعض أهل العلم بقوله تعالى: ﴿ فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ ﴾ أنه إذا اختلف الراهن والمرتهن فالقول قول المرتهن.

61- إذا ائتمن الطرفان بعضهم بعضًا بلا رهن ولا إشهاد ولا كتابة جاز ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ﴾.

وهذه الآية مخصصة لما سبقها من الأمر بالكتابة والإشهاد، والتوثيق بالرهن، ودليل لمن ذهب إلى الاستحباب.

62- وجوب أداء الأمانة على من ائتمن، أداءً لحق الله وامتثالًا لأمره، ووفاءً بحق صاحبه الذي ائتمنه؛ لقوله تعالى: ﴿ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ﴾.

63- يجب على من ائتمنه الناس أن يتقي الله ربه، ويكون عند حسن ظن الناس به، وعليه أن لا يغتر بذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ﴾.

ولله در الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما قال له أحد الرعية: «اتق الله» قال: «لا خير فيكم إذا لم تقولوها لنا، ولا خير فينا إذا لم نقبلها منكم»[10].

64- إثبات اسمين من أسمائه- عز وجل- وهما «الله» و«الرب» وأن له- عز وجل- كمال الألوهية والربوبية؛ لقوله- عز وجل- ﴿ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ﴾.

65- تحريم كتمان الشهادة وإخفائها أو التغيير فيها، وعظم ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ﴾، وإذا أثم القلب أثمت الجوارح كلها.

66- في وصف كاتم الشهادة بأنه آثم قلبه- وهذه عقوبة خاصة- دليل على خطورة كتمان الشهادة، وأن ذلك من الكبائر، وقد قال ﷲ تعالى: ﴿ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 140].

67- إثبات علم الله- عز وجل- وإحاطته بكل أعمال الخلق، قبل أن يعملوها وبعده؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾.

وفي هذا وعد لمن امتثل أمر الله، ووعيد لمن خالفه، لأن مقتضى علمه- عز وجل- بأعمال العباد أن يحاسبهم ويجازيهم عليها.

كما أن فيه ردًا على القدرية الذين ينفون علم الله- عز وجل- بأفعال العباد، ويقولون: لا يعلمها حتى تقع تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.

68- عناية الشرع المطهر بحفظ الأموال وتنميتها وتوثيقها بالكتابة والإشهاد والرهن وغير ذلك، وبما يصلح الناس في أمر معاشهم وحفظ الحقوق والعدل بينهم والقضاء على أسباب المنازعات. مع عنايته في أمر معادهم في منظومة متكاملة تثبت أن الدين الإسلامي هو الدين الصالح، لكل زمان، ولكل مكان، ولكل أمة، كما قال تعالى: ﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ﴾ [الأنعام: 38]، وقال تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾ [المائدة: 3].

[1] سبق تخريجه.

[2] سبق تخريجه.

[3] أخرجه البخاري في المظالم (2442)، ومسلم في البر (2580)، وأبو داود في الأدب (4893)، والترمذي في الحدود (1426)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

[4] أخرجه مسلم في الأقضية (1712)، وأبو داود في الأقضية (3608)، وابن ماجه في الأحكام (2370)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

[5] أخرجه البخاري في المظالم (2443)، والترمذي في الفتن (2255)، من حديث أنس رضي الله عنه.

[6] أخرجه البخاري في الاعتكاف (2035)، ومسلم في السلام (2175)، وأبو داود في الصوم (2470)، وابن ماجه في الصيام (1779)، من حديث صفية رضي الله عنها.

[7] سبق تخريجه.

[8] سبق تخريجه.

[9] أخرجه البخاري في الجهاد والسير (2916)، ومسلم في المساقاة (1603)، والنسائي في البيوع (4609)، وابن ماجه في الأحكام (2436)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

[10] انظر: «الفقه الإسلامي وأدلته» (8/ 332).



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #336  
قديم 01-01-2024, 04:37 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,477
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»





الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم




تفسير قوله الله تعالى:﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ.. ﴾

[البقرة: 284 - 286]


قوله الله تعالى: ﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 284 - 286].

قوله تعالى: ﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾.

قوله: ﴿ لله ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم؛ لإفادة الحصر، أي: لله وحده ﴿ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾ خلقًا وملكًا وتدبيرًا، بلا شريك، ولا منازع.

كما قال تعالى: ﴿ قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ ﴾ [سبأ: 22].

و﴿ مَا ﴾ في قوله: ﴿ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾: موصولة تفيد العموم، وكررت مع قوله: ﴿ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ لتأكيد العموم.

والسماوات: جمع سماء، وهي الأجرام العلوية، وهي كالقبة على الأرض، وكل ما كان منها أعلى فهو أوسع، وهي سبع؛ كما قال تعالى: ﴿ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ [المؤمنون: 86]، وقال تعالى: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ﴾ [الطلاق: 12].

والمراد بالأرض جنس الأرضين، وأفردت في القرآن كله- والله أعلم- لثقل الجمع، وهي سبع أرضين، كما قال تعالى في آية الطلاق: ﴿ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾؛ أي: مثل السماوات في العدد، وفي الحديث: «من ظلم قيد شبر طُوِّقه من سبع أرضين يوم القيامة»[1].

وفيه: «من أخذ من الأرض شيئًا بغير حقه خُسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين»[2].

فهو - عز وجل - خالق السماوات والأرض، وجميع ما فيهما من العوالم، وما بينهما، وجميع ما في الكون، ومالكه ومدبره.

فالخلق خلقه، والملك ملكه، والأمر أمره، كما قال تعالى: ﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ﴾ [الأعراف: 54]، وقال تعالى: ﴿ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ ﴾ [المائدة: 120]، وقال تعالى: ﴿ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ﴾ [الشورى: 49]، وقال تعالى: ﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 26].

فله - عز وجل - الخلق والملك والتدبير، وكمال الربوبية، مما يستلزم أن يكون له كمال الألوهية.

﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ﴾ الواو: عاطفة، و«إن» شرطية، و﴿ تُبْدُوا ﴾: فعل الشرط، و﴿ ما ﴾ موصولة، أي: وإن تظهروا الذي في صدوركم وقلوبكم من المعتقدات، والمضمرات والسرائر.

﴿ أَوْ تُخْفُوهُ ﴾ معطوف على ﴿ تُبْدُوا ﴾ والضمير يعود إلى ﴿ ما ﴾ الموصولة، أي: أو تسروه وتضمروه.

﴿ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ﴾: جواب الشرط «إن»، والضمير في «به» يعود إلى ﴿ ما ﴾ في قوله: ﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ ﴾.

ومعنى ﴿ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ﴾: يُطلعكم عليه ويخبركم به ويظهره لكم ؛ لأنه- عز وجل- لا تخفى عليه خافية، والسر والعلانية عنده سواء.

كما قال تعالى: ﴿ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ﴾ [الحاقة: 18]، وقال تعالى: ﴿ سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ ﴾ [الرعد: 10]، وقال تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 29].

وقال تعالى: ﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴾ [غافر: 19]، وقال تعالى: ﴿ رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ﴾ [إبراهيم: 38]، وقال تعالى: ﴿ وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ﴾ [طه: 7]، وقال تعالى: ﴿ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ [التغابن: 4]، وقال تعالى: ﴿ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ [هود: 5].

قال ابن تيمية في كلامه على الآية: ﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ﴾: «فهذا متضمن لكمال علمه- سبحانه وتعالى- بسرائر عباده وظواهرهم، وأنه لا يخرج شيء من ذلك عن علمه، كما لم يخرج شيء ممن في السماوات والأرض عن ملكه، فعلمه عام، وملكه عام، ثم أخبر تعالى عن محاسبته لهم بذلك، وهي تعريفهم ما أبدوه أو أخفوه، فتضمن ذلك علمه بهم، وتعريفهم إياه»[3].

ولا يلزم من المحاسبة المعاقبة، ولهذا قال تعالى: ﴿ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ﴾، قرأ ابن عامر وعاصم وأبو جعفر ويعقوب برفع الراء والباء منهما، على الاستئناف، وقرأ الباقون بجزمهما عطفًا على جواب الشرط ﴿ يُحَاسِبْكُمْأي: (فَيَغْفِرُ ﴾ برحمته ﴿ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾ من عباده المؤمنين.

والمغفرة: ستر الذنب عن الخلق والتجاوز عن العقوبة- كما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما في تقرير المؤمن بذنوبه وقول الله- عز وجل- له: «أنا سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم»[4].

ومنه سُمي «المغفر» وهو البيضة التي توضع على الرأس حال القتال تستره، وتقيه السهام ونحوها.

﴿ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ﴾ من الكفرة والعصاة بعدله، كما قال تعالى: ﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾ [البقرة: 286].

وفي قوله تعالى: ﴿ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ﴾، دليل على أن المحاسبة لا تستلزم المعاقبة فإنه - عز وجل - قد يحاسب ويغفر، وقد يحاسب ويعاقب، وعليه يدل حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يدنى المؤمن يوم القيامة من ربه - عز وجل - حتى يضع عليه كنفه، فيقرره بذنوبه، فيقول: هل تعرف كذا؟ فيقول: رب أعرف مرتين، حتى إذا بلغ به ما شاء الله أن يبلغ، قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، قال: فيُعطى صحيفة حسناته - أو كتابه - بيمينه، وأما الكفار فينادى بهم على رؤوس الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين»[5].

وهذه الآية كقوله تعالى في سورة آل عمران: ﴿ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [آل عمران: 129].

وقوله تعالى في سورة المائدة: ﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [المائدة: 40].

قوله: ﴿ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾، قدِّم المتعلقين وهما قوله: ﴿ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ﴾ على الخبر ﴿ قدير ﴾ لتأكيد شمول قدرته، وإحاطتها بكل شيء، و«قدير» على وزن «فعيل» صفة مشبهة، يدل على كمال قدرته عز وجل.

فهو - عز وجل - ذو القدرة التامة، وذو القدرة على كل شيء، لا يُعجزه شيء، كما قال عز وجل: ﴿ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا ﴾ [فاطر: 44]، ولا أحد يقدر على كل شيء إلا الله عز وجل.

وناسب ختم الآية بقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾؛ لأن محاسبته - عز وجل - للعباد على ما يبدون وما يخفون، ومغفرته لمن يشاء وتعذيبه لمن يشاء منهم، إنما يحصل ذلك يوم البعث والمعاد الذي هو من أعظم الدلائل على كمال قدرته عز وجل.

قوله تعالى: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾.

ســبب النــزول:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾، فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم - ثم بركوا على الركب، وقالوا: يا رسول الله، كلِّفنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير»، فلما اقترأها القوم وذلت بها ألسنتهم، أنزل الله في إثرها: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾.

فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾، قال: نعم، ﴿ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ﴾، قال: نعم، ﴿ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾، قال: نعم، ﴿ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ قال: نعم»[6].

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لما نزلت هذه الآية: ﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ﴾، قال: دخل قلوبهم منها شيء لم يدخل قلوبهم من شيء. قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا» قال: فألقى الله الإيمان في قلوبهم، فأنزل الله تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾، قال: قد فعلت، ﴿ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ﴾ قال: قد فعلت ﴿ وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا ﴾ قال: قد فعلت»[7].

وعن سالم بن عبدالله بن عمر: «أن أباه قرأ: ﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ﴾، فدمعت عيناه، فبلغ صنيعه ابن عباس، فقال: يرحم الله أبا عبدالرحمن - لقد صنع كما صنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين أنزلت، فنسختها الآية التي بعدها: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾»[8].

فضل هاتين الآيتين:
عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه»[9].

قيل: كفتاه عن قيام الليل، وقيل: كفتاه بركة، وتعوذًا من الشياطين والمضار، وقيل غير ذلك.

وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خواتيم سورة البقرة، من كنز تحت العرش، لم يعطهن نبي قبل»[10].

وفي حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرأ الآيتين من آخر سورة البقرة، فإني أعطيتهما من تحت العرش»[11].

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده جبريل، إذ سمع نقيضًا فوقه، فرفع جبريل بصره إلى السماء، فقال: هذا باب قد فتح من السماء ما فتح قط. قال: فنزل منه ملك، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «أبشر بنورين قد أوتيتهما، لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ حرفًا منهما إلا أوتيته»[12].

قوله تعالى: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾.

قوله: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾ في هذه الآية الكريمة ثناء من الله - عز وجل - على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وامتداح لهم بأنهم صدقوا وأقرُّوا بما أنزل إليهم من ربهم، وانقادوا له بجوارحهم، ظاهرًا وباطنًا.

﴿ الرَّسُولُ ﴾ (أل) للعهد الذهني؛ أي: الرسول المعهود المعروف محمد صلى الله عليه وسلم المرسل من عند الله - عز وجل - قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ﴾ [البقرة: 119]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ﴾ [الأحزاب: 45].

﴿ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ ﴾؛ أي: بالذي أنزل إليه من ربه من الوحي، وهو القرآن الكريم، والسنة المطهرة؛ كما قال تعالى: ﴿ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ﴾ [النساء: 113]؛ أي: القرآن والسنة.

والمراد بالربوبية هنا أخص الربوبية؛ لأن الربوبية أقسام: الربوبية العامة لجميع الخلق، والربوبية الخاصة للمؤمنين، وربوبية خاصة الخاصة للرسل والأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - وربوبية خاصة خاصة الخاصة له - صلى الله عليه وسلم من بين الرسل والأنبياء.

والإيمان بالمنزَّل يستلزم الإيمان بالمنزِّل، فآمن صلى الله عليه وسلم بربه - عز وجل - وبما أنزله إليه من القرآن والسنة، وقال صلى الله عليه وسلم- كما في حديث جابر رضي الله عنه: «أشهد أني رسول الله»[13].

وانقاد لذلك صلوات الله وسلامه عليه تبليغًا له، ودعوة إليه، وعملًا به، فبلغ البلاغ المبين، وقام حتى تفطرت قدماه[14].

﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾ عطف على الرسول، أي: وآمن المؤمنون الذين حققوا الإيمان بما أُنزل إليه صلى الله عليه وسلم من ربه من الوحي، اتباعًا له صلى الله عليه وسلم فآمنوا بالله - عز وجل - وبالرسول صلى الله عليه وسلم، وبما أنزل إليه، وانقادوا لذلك ظاهرًا وباطنًا.

﴿ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ﴾ الآية.

هذا توكيد وتفصيل؛ لقوله قبله: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾.

﴿ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ ﴾؛ أي: كل من الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين آمن بالله وصدق بوجوده وربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته.

والإيمان بالله ركن من أركان الإيمان الستة، وهي: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره- كما جاء في حديث عمر بن الخطاب وأبي هريرة رضي الله عنهما[15].

﴿ وَمَلَائِكَتِهِ﴾ أي: وآمنوا وصدقوا بملائكة الله- عز وجل- على وجه الإجمال والتفصيل- كما جاء في الكتاب والسنة.

والإيمان بهم ركن من أركان الإيمان الستة، وهم عالم غيبي، خلقهم الله من نور، كما قال صلى الله عليه وسلم: «خلق الله الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم»[16].

أعطاهم الله قوة وقدرة على القيام بما يأمرهم الله - عز وجل - بتدبيره من أمر الكون، كما قال تعالى: ﴿ فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ﴾ [النازعات: 5]، وقال تعالى: ﴿ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنبياء: 27]، وقال تعالى: ﴿ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [التحريم: 6].

يعبدون الله - عز وجل - ويسبحون على الدوام؛ كما قال تعالى: ﴿ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ﴾ [الأنبياء: 20].

منهم من وُكِّل بالوحي، وهو جبريل - عليه السلام - ومنهم من وكل بالقطر، وهو ميكائيل، ومنهم ملك الموت الموكل بقبض الأرواح، ومنهم إسرافيل الموكل بالنفخ في الصور، ومنهم الموكل بالجبال، ومنهم الموكلون بالرحم والنطف، ومنهم الموكلون بحفظ العباد وأعمالهم، ومنهم الموكلون بالسؤال في القبر، ومنهم الموكلون بالشمس والقمر والأفلاك، ومنهم الموكلون بالجنة، ومنهم الموكلون بالنار، ومنهم الصافون المسبحون، ومنهم حملة العرش، إلى غير ذلك.

﴿ وَكُتُبِهِ ﴾ قرأ حمزة والكسائي وخلف: «وكتابه» بالإفراد، وقرأ الباقون: ﴿ وَكُتُبِهِ ﴾ بالجمع، والقراءتان بمعنى واحد؛ لأن «كتاب» على قراءة الإفراد مفرد مضاف، والمفرد المضاف يعم - أي: وآمنوا وصدقوا بجميع كتب الله - عز وجل - على وجه الإجمال والتفصيل، كما جاء في الكتاب والسنة:
منها: صحف إبراهيم عليه السلام؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ﴾ [الأعلى: 18، 19].

ومنها: «التوراة والصحف التي أنزلها الله على موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ﴾ [المائدة: 44]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ﴾.

وأكثر أهل العلم على أن المراد «بصحف موسى» التوراة، وقيل: غيرها.

ومنها: «الإنجيل» الذي أنزله الله - عز وجل- على عيسى بن مريم - عليه الصلاة والسلام - كما قال تعالى: ﴿ وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [المائدة: 46].

والمراد بالتوراة والإنجيل الكتابان اللذان أنزلهما الله حقًا، لا ما يوجد اليوم في أيدي اليهود والنصارى مما حرف وبدل.

ومنها: «الزبور» الذي آتاه الله- عز وجل- داود- عليه الصلاة والسلام- كما قال تعالى: ﴿ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ﴾ [النساء: 163].

ومنها: «القرآن» الذي أنزله الله - عز وجل - على محمد- عليه الصلاة والسلام- كما قال تعالى: ﴿ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ﴾ [النساء: 113].

كما آمنوا على وجه الإجمال بجميع الكتب التي أنزلها الله على جميع رسله، كما قال تعالى: ﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [البقرة: 213] وقال تعالى: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ﴾ [الحديد: 25].

آمنوا بأن جميع كتب الله- عز وجل- منزلة من عنده حقًّا وصدقًا، وأنها متفقة في الدعوة إلى عبادة الله - عز وجل - وفي أصول الشرائع من الدعوة إلى الخير وفضائل الأعمال، والنهي عن الشر ومساوئ الأعمال، وأن القرآن الكريم مصدق لجميع الكتب المنزلة قبله، ومهيمن عليها، وناسخ لها، فما وافقه من أحكامها قبلناه وما خالفه منها تركناه، قال تعالى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ﴾ [المائدة: 48].

وأنه كلام الله - عز وجل - حقًّا المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم أخباره صدق، وأحكامه عدل، كما قال تعالى: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [الأنعام: 115].

﴿ وَرُسُلِهِ ﴾؛ أي: وآمنوا وصدقوا برسله- عز وجل- من لدن آدم- عليه السلام- إلى نبينا محمد- عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام، من قصهم الله- عز وجل- في كتابه، ومن لم يقصصهم، كما قال تعالى: ﴿ وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ﴾ [النساء: 164].

والرسول: هو من أوحى الله إليه بشرع، وأمره بتبليغه، وعدد الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر جمًّا غفيرًا، ذكر في القرآن الكريم منهم خمسة وعشرون رسولًا.

منهم ثمانية عشر رسولًا ذكروا في قوله تعالى: ﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 83 - 86].
يتبع


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #337  
قديم 01-01-2024, 04:38 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,477
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله



ومنهم إدريس، وذو الكفل، وهود، وصالح، وشعيب، ومنهم وأولهم آدم، ومنهم وآخرهم وخاتمهم وأفضلهم محمد- عليه وعليهم الصلاة والسلام.

قال البيجوري[17]:
في تلك حجتنا منهم ثمانية
من بعد عشر ويبقى سبعة وهمو
إدريس هود شعيب صالح وكذا
ذو الكفل آدم بالمختار قد ختموا


وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، كم الأنبياء؟ قال: «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا» قلت: يا رسول الله، كم الرسل منهم؟ قال: «ثلاثمائة وثلاثة عشر جم غفير». قلت: يا رسول الله، من كان أولهم؟ قال: «آدم»، قلت: يا رسول الله، نبي مرسل؟ قال: «نعم، خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، ثم سواه قبلًا»، ثم قال: «يا أبا ذر، أربعة سريانيون: آدم وشيث، ونوح، وخنوخ، وهو إدريس، وهو أول من خط بقلم، وأربعة من العرب: هود، وصالح، وشعيب، ونبيك يا أبا ذر، وأول نبي من أنبياء بني إسرائيل موسى، وآخرهم عيسى، وأول النبيين آدم وآخرهم نبيك»[18].

﴿ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ﴾ قرأ يعقوب بالياء «لا يُفَرِّق»، وقرأ الباقون بالنون ﴿ لا نُفَرِّقُ ﴾.

والجملة في محل نصب مقول القول لفعل محذوف، أي: يقولون، وجملة الفعل المقدر «يقولون» في محل نصب على الحال.

وفي الآية التفات من الغيبة إلى التكلم، للتنبيه إلى أن المؤمنين الذين آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله يقولون: لا نفرق بين أحد من رسله، أي: لا نفرق بين أحد من رسله، بل نؤمن ونصدق بهم جميعًا، وبما جاؤوا به من عند الله، من الكتب والرسالات، كما قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 152].

وهذا بخلاف الذين قال الله عنهم: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا ﴾ [النساء: 150].

ولم يذكر الإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالقدر، وهي من أركان الإيمان وأصوله الستة؛ لأن الإيمان بها مما أنزله الله على نبيه صلى الله عليه وسلم، ومما جاء في كتبه وعلى ألسنة رسله.

﴿ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ﴾؛ أي: وقال الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون: ﴿ سَمِعْنَا ﴾ أي: سمعنا ما أمرتنا به، وما نهيتنا عنه، بآذاننا، وفهمناه ووعيناه بقلوبنا.

﴿ وَأَطَعْنَا ﴾؛ أي: وانقدنا لذلك بجوارحنا، فعلًا للمأمورات، وتركًا للمحظورات، فجمعوا بين الإيمان والتصديق بالقلب واللسان، والانقياد بالجوارح. كما قال تعالى عنهم: ﴿ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 51]، وقال عنهم: ﴿ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ ﴾ [آل عمران: 193].

بخلاف المكذبين من اليهود وغيرهم الذين قال الله تعالى عنهم: ﴿ قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ﴾ [البقرة: 93]، وقال تعالى عنهم: ﴿ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ ﴾ [النساء: 46]، وقال تعالى محذرًا المؤمنين منهم ومن مسلكهم: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ﴾ [الأنفال: 21].

قال ابن تيمية في كلامه على قوله تعالى ﴿ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ﴾: «فهذا إقرار منهم بركني الإيمان اللذين لا يقوم إلا بهما، وهما: السمع المتضمن للقبول، لا مجرد سمع الإدراك، المشترك بين المؤمنين والكفار، بل سمع الفهم والقبول. و«الثاني» الطاعة المتضمنة لكمال الانقياد وامتثال الأمر»[19].

﴿ غُفْرَانَكَ﴾ مفعول لفعل محذوف، أي: نسألك غفرانك، أو نرجو غفرانك، والغفران والمغفرة: ستر الذنب، والتجاوز عنه.

﴿ رَبَّنَا﴾؛ أي: يا ربنا. وحذفت ياء النداء اختصارًا، وتبركًا وتيمنًا بالبداءة باسم الرب عز وجل.

﴿ وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ قُدِّم الخبر ﴿ وَإِلَيْكَ ﴾ لإفادة الحصر، أي: وإليك وحدك دون غيرك المرجع والمآل يوم القيامة، كما قال تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 281].

كما أن إليك وحدك مرجع الأمور والأحكام كلها في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: ﴿ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴾ [البقرة: 210].

وقال تعالى: ﴿ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ﴾ [الشورى: 53]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ﴾ [الشورى: 10]، وقال تعالى: ﴿ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [النساء: 141].

فجمعوا بين الإيمان والسمع والطاعة، وبين الخوف من ذنوبهم، والافتقار إلى الله، وسؤاله المغفرة، ولم يدلِّوا على الله بعملهم، إذ لا غنى لأحد عن مغفرته- عز وجل- ورحمته، والاعتراف بأن مصيرهم ومردهم إليه.

ولهذا قال الله - عز وجل - لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ﴾ [محمد: 19].

وقال صلى الله عليه وسلم: «لن يدخل أحدًا منكم عمله الجنة» قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل»[20].

قوله تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾.

قوله: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ ﴿ لَا ﴾ نافية، و﴿ يُكَلِّفُ﴾ بمعنى يُلزم، والتكليف: الإلزام بما فيه كلفة، أي: مشقة.

و﴿ نَفْسًا﴾ نكرة في سياق النفي، فتعم، أي: لا يلزم الله أيَّ نفس ﴿ إِلَّا وُسْعَهَا ﴾، ﴿ إِلَّا﴾ أداة حصر، ﴿ وُسْعَهَا﴾ أي: طاقتها وما تستطيعه وما يسعها، بلا حرج ولا ضيق، كما قال تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ﴾ [الطلاق: 7]، وقال تعالى: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [التغابن: 16].

وقال تعالى: ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [الحج: 78]، وقال تعالى: ﴿ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [المائدة: 6]، وقال تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [البقرة: 185].

وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه»[21].

وهذه الآية مزيلة لما فهمه الصحابة- رضوان الله عليهم- من تكليفهم ما لا يطيقون بقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 284].

فبين الله- عز وجل- في هذه الآية أنه لا يؤاخذ الإنسان ولا يكلفه بما لا يستطيع دفعه من وسوسة النفس وحديثها.

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «هذه الوسوسة مما لا طاقة للمسلمين بها، وصار الأمر إلى أن قضى الله- عز وجل- أن للنفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت في القول والفعل»[22].

وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: «فَتُجوِّزَ لهم من حديث النفس، وأخذوا بالأعمال»[23].

﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ ﴾ ذكر عز وجل أنه لا يكلف نفسًا إلا وسعها، ثم أتبع ذلك بقوله: ﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ ﴾ بيانًا منه أن ثمرة هذا التكليف ومنفعته عائدة إليهم، وهو غني عنهم وعن أعمالهم؛ أي: لها ما عملت من خيرٍ لا ينقص منه شيء؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا ﴾ [طه: 112].

﴿ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾؛ أي: وعليها ما عملت من سوء لا يحمله غيرها، ولا يزاد فيه أو ينقص.

كما قال: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [فصلت: 46]، وقال تعالى: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7، 8]، وقال تعالى: ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران: 30].

وقال تعالى: ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 47]، وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ﴾ [فاطر: 18]، وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ [الأنعام: 164].

وقدم الخبر في الجملتين في قوله: ﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾ لتأكيد الحصر واختصاص كل نفس بجزاء عملها.

و«اكتسبت» أبلغ من «كسبت»؛ لأن زيادة المبنى تدل- غالبًا- على زيادة المعنى.

﴿ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ هذه الجملة، وما عطف عليها إلى قوله: ﴿ فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ في محل نصب مقول القول لفعل محذوف، تقديره: «قولوا»، أي: قولوا: ﴿ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا ﴾، فهو تعليم من الله، وإرشاد لهم أن يدعوه بهذا الدعاء.

ويحتمل أن التقدير: «وقالوا ربنا» فيكون معطوفًا على الدعاء السابق: ﴿ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ﴾.

وقوله: ﴿ رَبَّنَا ﴾؛ أي: يا ربنا ﴿ لَا تُؤَاخِذْنَا ﴾ المؤاخذة مشتقة من الأخذ، بمعنى العقوبة، كما قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ [هود: 102]؛ أي: إذا عاقب القرى وهي ظالمة إن عقابه أليم شديد.

﴿ إِنْ نَسِينَا ﴾ النسيان: ذهول القلب عن شيء معلوم.

﴿ أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ الخطأ: الوقوع في المخالفة من غير قصد، إما لجهل، أو غير ذلك.

والمعنى: ربنا لا تعاقبنا، إن تركنا واجبًا، أو ارتكبنا منهيًا نسيانًا وذهولًا منا، أو خطأً وجهلًا منا، بلا قصد.

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «قال الله: نعم». وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «قال الله: قد فعلت»[24].

ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز لأمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه»[25].

﴿ ربنا ﴾ أي: يا ربنا، وكرر النداء تبركًا بهذا الاسم الكريم.

﴿ وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا ﴾ الواو: عاطفة، والجملة معطوفة على ما قبلها.

﴿ إِصْرًا ﴾ ثقلًا، و«الإصر» و«الإصار» في الأصل: ما تربط وتعقد وتشد به الأشياء.

والمراد به الشيء الثقيل الشاق الذي يعجز الإنسان عن تحمله من الأوامر والنواهي والتكاليف الشرعية؛ كما قال تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [آل عمران: 81].

أي: وأخذتم على ذلكم عهدي بالإيمان بالرسول ونصرته. ومنه قوله تعالى: ﴿ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ﴾ [الأعراف: 157].

كما يطلق «الإصر» على ما يعجز الإنسان عن تحمله من العقوبات والمصائب الكونية.

والمراد بقول المؤمنين هنا: ﴿ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ﴾؛ أي: ما نَعجِز عنه من التكاليف الشرعية.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية[26]: «أي: لا تكلفنا من الآصار التي يثقل حملها ما كلفته من قبلنا، فإنا أضعف أجسادًا، وأقل احتمالًا، وهذا في الأمر والنهي والتكليف».

ويحتمل أن المراد بقوله: ﴿ إِصْرًا ﴾ ما يشمل التكاليف الشرعية، والعقوبات والمصائب الكونية.

﴿ كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ﴾ «الكاف»: للتشبيه، بمعنى: «مثل»، و«ما»: موصولة أي: مثل الذي حملته على الذين من قبلنا، من اليهود والنصارى وغيرهم، من الآصار والأغلال.

من ذلك أن الله جعل من شروط قبول توبة بني إسرائيل قتل أنفسهم، أي: قتل بعضهم بعضًا، حتى إن الرجل يقتل أخاه وابنه وأباه، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 54].

ومن ذلك التشديد عليهم بصفات البقرة التي أمروا بذبحها؛ وذلك بسبب عنادهم ومخالفتهم أمر الله - عز وجل - وتشديدهم على أنفسهم، فشدد الله عليهم.

وقد وضع الله - عز وجل - هذه الآصار والأغلال عن هذه الأمة بما أنزله على نبي الرحمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: 157].

ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «بُعثت بالحنيفية السمحة»[27].

والحكمة من قوله تعالى: ﴿ كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ﴾ تذكير الأمة بعظيم فضل الله عليها، وما ميَّزها به من بين الأمم، وبضدها تتميز الأشياء.

﴿ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾؛ أي: لا تحملنا ما لا نطيقه، ولا قدرة لنا على تحمله من المصائب والأقدار الكونية ولا تبتلنا بما لا قبل لنا به، وعافنا من بلاء الدنيا والآخرة- كما قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية»[28].

قال ابن تيمية[29]: «ثم لما علموا أنهم غير منفكين مما يقضيه ويقدره عليهم، كما أنهم غير منفكين عما يأمرهم به وينهاهم عنه سألوه التخفيف في قضائه وقدره، كما سألوه التخفيف في أمره ونهيه، فقالوا: ﴿ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾، فهذا في القدر والقضاء والمصائب، وقولهم: ﴿ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ﴾ في الأمر والنهي والتكاليف. فسألوه التخفيف في النوعين».

ويحتمل أن المراد بقوله: ﴿ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ ما يشمل الأحكام الكونية والأحكام الشرعية.

﴿ وَاعْفُ عَنَّا ﴾؛ أي: تجاوز عما قصرنا وفرطنا فيه من الواجبات.

﴿ وَاغْفِرْ لَنَا ﴾؛ أي: تجاوز عما ارتكبنا من المنهيات.

وقد يكون المعنى ﴿ وَاعْفُ عَنَّا ﴾ أي: تجاوز عن ذنوبنا ﴿ وَاغْفِرْ لَنَا ﴾ أي: استرها عن الخلق.

﴿ وَارْحَمْنَا﴾؛ أي: وارحمنا برحمتك الواسعة فيما يستقبل، فلا نُفَرِّط في الواجبات، أو نرتكب المحرمات، قال ابن زيد في قوله: ﴿ وَاعْفُ عَنَّا ﴾ قال: «اعف عنا إن قصرنا عن شيء من أمرك، مما أمرتنا به، ﴿ وَاغْفِرْ لَنَا ﴾ إن انتهكنا شيئًا مما نهيتنا عنه، ﴿ وَارْحَمْنَا ﴾ قال: «يقول: لا ننال العمل بما أمرتنا به، ولا نترك ما نهيتنا عنه، إلا برحمتك. قال: ولم ينج أحد إلا برحمتك»[30].

قال ابن كثير[31]: «﴿ وَارْحَمْنَا﴾ أي: فيما يستقبل، فلا توقعنا بتوفيقك في ذنب آخر، ولهذا قالوا: إن المذنب محتاج إلى ثلاثة أشياء: أن يعفو ﷲ عنه فيما بينه وبينه، وأن يستره عن عباده فلا يفضحه به بينهم، وأن يعصمه فلا يوقعه في نظيره».

﴿ أَنْتَ مَوْلَانَا ﴾ كما بدؤوا دعاءهم بالتوسل بربوبية الله- عز وجل- لهم ختموه بالتوسل بولايته عز وجل لهم، فقالوا: ﴿ أَنْتَ مَوْلَانَا ﴾؛ أي: أنت وحدك ولينا وناصرنا، لا مولى لنا سواك.

والمراد بالولاية هنا: الولاية الخاصة، وهي ولاية الله - عز وجل - للمؤمنين؛ كما قال تعالى: ﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [البقرة: 257]، وقال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 68]، وقال تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ ﴾ [محمد: 11].

ولهذا قال صلى الله عليه وسلم- كما حكى الله عنه: ﴿ إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ﴾ [الأعراف: 196].

ولما قال أبو سفيان يوم أحد: «لنا العزى، ولا عزى لكم»، قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «ألا تجيبونه»؟ قالوا: يا رسول الله، ما نقول؟ قال: «قولوا: الله مولانا، ولا مولى لكم»[32].

وهناك الولاية العامة لجميع الخلق؛ كما قال تعالى: ﴿ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ﴾ [الأنعام: 62].

﴿ فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾؛ أي: فأظهرنا على أهل الكفر كلهم من المشركين وأهل الكتاب والمنافقين وغيرهم، بإظهار ما نحن عليه من حق بالحجة والبرهان، والسيف والسنان.

ونعم المولى - عز وجل - ونعم النصير لمن عبده، وتوكل عليه واعتصم به ولاذ بحماه؛ كما قال تعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴾ [الحج: 78]، وقال تعالى: ﴿ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴾ [الأنفال: 40]، وقال تعالى: ﴿ بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ﴾ [آل عمران: 150].

وتقدم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه لما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾، اشتد ذلك على الصحابة رضي الله عنهم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وجثوا على الركب، فأنزل الله: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾، قال: نعم، ﴿ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ﴾، قال: نعم، ﴿ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾، قال: نعم، ﴿ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾، قال: نعم»[33].

وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما فأنزل الله: ﴿ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾، قال: قد فعلت، ﴿ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ﴾، قال: قد فعلت. ﴿ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا ﴾ قال: قد فعلت»[34].

وقد روي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه كان إذا فرغ من هذه السورة ﴿ فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾، قال: «آمين»[35].

وقد أعطى الله - عز وجل - هذه الأمة وتفضل عليها بما لم يعطه أحدًا من الأمم قبلها، فلم يؤاخذها بالنسيان والخطأ، ووضع عنها الآصار والأغلال التي كانت على الأمم قبلها، ولم يحملها ما لا طاقة لها به، وعفا عنها وغفر لها ورحمها ونصرها على الكافرين، وأيَّدها عليهم، ومكن لها دينها، واستخلفها في الأرض يوم أن كانت قائمة بأمر الله عز وجل.

وما أصاب الأمة ما أصابها من الضعف وتسلُّط الأعداء إلا بعد أن بعدت عن دينها، ولن يعود لها مجدها وعزها إلا بالعودة الصحيحة إلى دينها، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، وصدق الله العظيم: ﴿ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾ [الحج: 40، 41].

[1] أخرجه البخاري في المظالم- إثم من ظلم شيئًا من الأرض (2453)، ومسلم في البيوع- تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها (1612)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

[2] أخرجه البخاري (2454)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

[3] انظر: «دقائق التفسير» (1/ 249).

[4] سيأتي قريبًا تخريجه بتمامه.

[5] أخرجه البخاري في التفسير (4685)، ومسلم في التوبة- قبول توبة القاتل (2768)، وابن ماجه في المقدمة (183)، وأحمد (2/ 74).

[6] أخرجه مسلم في الإيمان (125)، وأحمد (2/ 412).

[7] أخرجه مسلم في الإيمان (126)، والترمذي في التفسير (2992)، وأحمد (1/ 233، 332).

[8] أخرجه ابن أبي شيبة في الزهد (14/ 7)، والطبري مطولًا ومختصرًا في «جامع البيان» (5/ 132- 134)، والحاكم في التفسير (2/ 287)، وقال: «صحيح الإسناد ولم يخرجاه»، ووافقه الذهبي، وأخرجه ابن الجوزي في «نواسخ القرآن» (ص 229).

[9] أخرجه البخاري في «فضائل القرآن» (5010)، ومسلم في صلاة المسافرين (807)، وأبو داود في الصلاة (1397)، والترمذي في فضائل القرآن (2881) وابن ماجه في إقامة الصلاة (1368).

[10] أخرجه أحمد (5/ 151)، والطبراني في «المعجم الكبير» (3/ 169)، حديث (3025)، وأبو داود الطيالسي في «مسنده» ص(56) وإسناده صحيح.

[11] أخرجه أحمد (4/ 147)- وقال ابن كثير في «تفسيره» (1/ 506): «هذا إسناد حسن، ولم يخرجوه في كتبهم».

[12] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين- فضل الفاتحة وخواتيم سورة البقرة (806)، والنسائي في الافتتاح- فضل فاتحة الكتاب (912).

[13] أخرجه البخاري في الأطعمة - الرطب والتمر، وقول الله تعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} [مريم: 25].

[14] كما في حديث عائشة رضي الله عنها أخرجه البخاري في التفسير- قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح: 2]، (4837)، ومسلم في صفات المنافقين- الإكثار من الأعمال والاجتهاد في العبادة (2820).

[15] أخرج حديث عمر رضي الله عنه مسلم في الإيمان (8)، وأخرج حديث أبي هريرة رضي الله عنه البخاري في الإيمان (50)، ومسلم في الإيمان (9، 10)، والنسائي في الإيمان (4991)، وابن ماجه في المقدمة (64).

[16] أخرجه مسلم في الزهد والرقائق (2996)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

[17] انظر: «جوهرة التوحيد» (ص185).

[18] ذكره ابن كثير في «تفسيره» (2/ 422-426) من رواية ابن مردويه، ومن رواية الآجرُّي. وأخرجه أحمد (5/ 265-266) بنحوه من حديث طويل عن أبي أمامة رضي الله عنه. وفيه عدد الرسل ثلاث مئة وخمسة عشر جمًّا غفيرًا.

[19] انظر: «دقائق التفسير» (1/ 251).

[20] أخرجه البخاري في المرضى (5673)، ومسلم في صفة القيامة (2816)، وابن ماجه في الزهد (4201)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[21] أخرجه البخاري في الاعتصام (7288)، ومسلم في الحج (1337)، والنسائي في مناسك الحج (2619)، والترمذي في العلم (2679)، وابن ماجه في المقدمة- من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[22] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (5/ 132).

[23] أخرجها أحمد (1/ 332)، والطبري في «جامع البيان» (5/ 133).

[24] سبق تخريجهما.

[25] سيأتي تخريجه.

[26] انظر: «دقائق التفسير» (1/ 253).

[27] أخرجه أحمد (5/ 266)، من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، وأخرجه أيضًا (6/ 116)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

[28] أخرجه البخاري في الجهاد والسير (2966)، ومسلم في الجهاد والسير (1742)، وأبو داود في الجهاد (2631)، من حديث عبدالله بن أبي أوفى رضي الله عنه.

[29] انظر: «دقائق التفسير» (1/ 253).

[30] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (5/ 164- 165).

[31] في «تفسيره» (1/ 506).

[32] أخرجه البخاري في الجهاد والسير (3039)، من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه.

[33] سبق تخريجه.

[34] سبق تخريجه.

[35] أخرجه أبوعبيد في «فضائل القرآن» (ص 125)، وابن أبي شيبة في «المصنف» (2/ 426)، والطبري في «جامع البيان» (5/ 169).




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #338  
قديم 01-01-2024, 04:40 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,477
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»





الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم




فوائـد وأحكـام من قوله تعالى:﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ.... ﴾

[البقرة: 284 - 286]



من قوله تعالى: ﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾[البقرة: 284 - 286].

1- إثبات أن لله - عز وجل - وحده بلا شريك جميع ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما، وتفرده بالربوبية خلقًا وملكًا وتدبيرًا؛ لقوله تعالى: ﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ .


2- وجوب إخلاص العبادة لله وحده؛ لأنه الإله المعبود وحده بحق، ولتفرده- عز وجل- بكمال الربوبية؛ الخلق والملك والتدبير، وهذا يستلزم إفراده بالألوهية؛ لقوله تعالى: ﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ .


3- عموم ملك الله- عز وجل- وسعته وعظمته، مما يدل على عظمة ربوبية الله- عز وجل- وألوهيته، وكمال صفاته.


4- اختيار القرآن الكريم لأحسن التعابير، وأعلاها؛ لقوله تعالى ﴿ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ بذكر السماوات بالجمع والأرض بالإفراد.


وهكذا جاء في القرآن كله- والحكمة - وﷲ أعلم - للثقل في جمع أرض وهو «أرضين» وإلا فهي سبع أرضين، كما دلت عليه الأدلة الأخرى من الكتاب والسنة.


5- إحاطة علم الله- عز وجل- بجميع أعمال العباد، ما أظهروه منها، وما أضمروه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ؛ أي: يعلمه ويحاسبكم عليه فمن لازم محاسبته لهم أن يكون عالمًا بأعمالهم.


6- وجوب مراقبة الله- عز وجل- والحذر من مخالفته في السر والعلن؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ الآية، وهذه الآية محكمة غير منسوخة؛ لأنها خبر من الله، والأخبار لا تنسخ.


7- محاسبة العباد على ما يبدون مما في أنفسهم أو يخفونه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ .


ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا»[1].


أما ما أبدوه وأظهروه مما في أنفسهم بقول أو بفعل، فلا إشكال في محاسبتهم عليه.


وأما ما أخفوه فله حالان:
الحالة الأولى: أن يكون من حديث النفس ووساوسها التي لا يستطيع الإنسان لها دفعًا، بل هي خارجة عن الاستطاعة والوسع، فهذا لا يحاسب عليه، وإن حوسب عليه فلا يؤاخذ به، وليس داخلًا تحت قوله: ﴿ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ؛ لأن الله لا يكلف الإنسان ما لا يستطيع، كما قال تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، وقال تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق: 7]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: «وجدتموه»؟ قال: «ذاك صريح الإيمان»[2].


وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة، قال: «تلك محض الإيمان»[3].


وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة»[4].


والحالة الثانية: أن يهم الإنسان بالمعصية، ويعزم عليها، ثم يتركها، وهذا هو المحاسب، والمثاب أو المعاقب.


فإن تركها لله - عز وجل - فهو مثاب مغفور له، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تعالى قال: «إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بيَّن ذلك، فمن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همَّ بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات، إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن همَّ بسيئة، فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همَّ بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة»[5].


وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «وإن تركها فاكتبوها له حسنة، إنما تركها من جرائي»[6].


وإن تركها لعجزه عنها، وعدم وصوله إليها، مع الحرص عليها، والعزم على فعلها وتمنيها، فهو معاقب بقدر ما وقع في نفسه، ما لم يعف الله عنه.


كما في حديث أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» قالوا: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: «إنه كان حريصًا على قتل صاحبه»[7].


وكما في حديث أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه في حديثه الطويل الذي سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: «وعبد رزقه الله مالًا، ولم يرزقه علمًا فهو يخبط في ماله بغير علم، لا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقًا فهذا بأخبث المنازل، وعبد لم يرزقه الله مالًا، ولا علمًا، فهو يقول: لو أن لي مالًا لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته، فوزرهما سواء»[8].


وإن تركها لا لله، ولا لعجزه عنها، وإنما لعزوف نفسه عنها، فهذا لا يثاب ولا يعاقب؛ لأن الأعمال بالنيات كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى»[9].


وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قال الله: إذاهمَّ عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه، فإن عملها فاكتبوها سيئة، وإذا هم بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة، فإن عملها فاكتبوها عشرًا»[10].


وفي رواية: «قال الله: إذا هم عبدي بحسنة ولم يعملها كتبتها له حسنة، فإن عملها كتبتها عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، وإذا هم بسيئة فلم يعملها لم أكتبها عليه، فإن عملها كتبتها سيئة واحدة»[11].

وعلى هذا أيضًا يحمل ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدَّثت به أنفسها، ما لم تكلم، أو تعمل»[12].


فهذا محمول على ما حدثت به الأنفس مما لم يحصل العزم عليه، فهذا لا مؤاخذة عليه، ما لم يتكلم به أو يعمل.


وبهذا يتضح أن الآية: ﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ محكمة غير منسوخة، وأنها فيما هم به الإنسان وعزم عليه- كما سبق.


وليست في حديث النفس، فتكون منسوخة - كما قيل - بقوله تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا؛ لأن حديث النفس لا يدخل تحت وسع الإنسان وطاقته فلا يرد التكليف به.


وما جاء من الأحاديث والآثار في نسخها[13] فهو محمول على إزالة ما وقع في فهم بعض الصحابة رضي الله عنهم أن في الآية: ﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ تكليف ما لا يطاق، وهو المؤاخذة بحديث النفس، فأنزل الله الآية: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لإزالة هذا المفهوم، وليس ذلك بنسخ للآية.


وأيضًا لبيان أن المحاسبة لا تستلزم المعاقبة، عن علي بن أبي طلحة- عن ابن عباس رضي الله عنهما ﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ، فإنها لم تنسخ، لكن إذا اجتمع الخلائق يوم القيامة يقول: إني أخبركم بما أخفيتم في أنفسكم مما لم يطلع عليه ملائكتي، فأما المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم ما حدثوا به أنفسهم، وهو قوله: ﴿ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ يقول: يخبركم، وأما أهل الشك والريب فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب، وهو قوله: ﴿ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ، وهو قوله: ﴿ لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ [البقرة: 225]؛ أي: من الشك والنفاق»[14].


قال شيخ الإسلام ابن تيمية[15]: «فإن قوله: ﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ الآية، إنما تدل على أن الله يحاسب بما في النفوس، لا على أنه يعاقب على كل ما في النفوس».


وقال ابن القيم: «وللنسخ معنى آخر وهو النسخ من أفهام المخاطبين ما فهموه مما لم يرده، ولا دل اللفظ عليه، وإن أوهمه، كما أطلق الصحابة النسخ على قوله: ﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 284]، قالوا: نسخها قوله: ﴿ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة: 286]، فهذا نسخ من الفهم، لا نسخ للحكم الثابت، فإن المحاسبة لا تستلزم العقاب في الآخرة، ولا في الدنيا أيضًا، ولهذا عمهم بالمحاسبة، ثم أخبر بعدها أنه يغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء، ففهم المؤاخذة التي هي المعاقبة من الآية تحميل لها فوق وسعها، فرفع هذا المعنى من فهمه بقوله: ﴿ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة: 286] »[16].


قال ابن كثير[17]: «أي: هو وإن حاسب وسأل، لكن لا يعذب إلا بما يملك الشخص دفعه، فأما ما لا يمكن دفعه من وسوسة النفس وحديثها، فهذا لا يكلف به الإنسان، وكراهية الوسوسة السيئة من الإيمان».


8- أن المحاسبة لا تستلزم المعاقبة؛ لقوله تعالى: ﴿ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ.


9- مغفرة الله - عز وجل - لمن يشاء بفضله، ما دون الشرك، وتعذيبه من يشاء بعدله؛ لقوله تعالى: ﴿ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ.


10- إثبات المشيئة التامة لله- عز وجل- المقرونة بالحكمة؛ لقوله تعالى: ﴿ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ .


11- إثبات قدرة الله- عز وجل- التامة على كل شيء، وتأكيد ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .


وفي هذا رد على من أخرج شيئًا من المقدورات عن خلقه وقدرته كالفلاسفة والقدرية المجوسية وغيرهم.


12- ثناء الله- عز وجل- على الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وشهادته- عز وجل- له ولهم بإيمانهم بما أنزل الله إليه، وبه وبملائكته وكتبه ورسله، وعدم تفريقهم بين أحد من رسله، وسمعهم وطاعتهم، وسؤالهم مغفرته وإقرارهم بأن إليه- عز وجل- وحده المصير؛ لقوله تعالى: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ الآية.


13- إثبات رسالته صلى الله عليه وسلم، وأنه مكلف كغيره من أفراد الأمة، بالإيمان بما أنزل إليه من ربه، والعمل به، مع تبليغه؛ لقوله تعالى: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ، وهذا يتضمن الشهادة له صلى الله عليه وسلم بالإيمان وصدق الرسالة.


14- أن القرآن كلام الله - عز وجل - أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: ﴿ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ ؛ كما قال تعالى: ﴿ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل: 102]، وقال تعالى: ﴿ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الواقعة: 80].


وفي هذا كله رد على المعتزلة القائلين بخلق القرآن.


15- أن السنة منزلة من عند الله؛ لأن قوله: ﴿ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ يشمل القرآن والسنة، كما قال تعالى: ﴿ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [النساء: 113].


16- إثبات علو الله عز وجل؛ لأن الإنزال يكون من أعلى؛ لقوله تعالى: ﴿ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ، فله - عز وجل - علو الذات، وعلو الصفات.


17- تشريف الرسول صلى الله عليه وسلم- وتكريمه بإضافة اسم الرب إلى ضميره، وربوبيته - عز وجل - له الربوبية الخاصة، بل خاصة الخاصة؛ لقوله تعالى: ﴿ مِنْ رَبِّهِ .


18- أن من شرط صحة الإيمان متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ؛ أي: والمؤمنون آمنوا اتباعًا له صلى الله عليه وسلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به»[18].


19- وجوب الإيمان بالله، وبما أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم، وبملائكته، وكتبه، ورسله، وبكل ما أخبر الله - عز وجل - به في كتبه، وعلى ألسنة رسله، ومن ذلك الإيمان باليوم الآخر، والقدر وغير ذلك من الغيبيات؛ لقوله تعالى: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ.


20- تشريف الله - عز وجل - لملائكته وكتبه ورسله بإضافتهم إليه- عز وجل- بقوله ﴿ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ.


21- لا يجوز التفريق في الإيمان بين أحد من رسل الله- عز وجل- بل يجب الإيمان بهم جميعًا؛ لقوله تعالى: ﴿ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ومن فرق بينهم فليس بمؤمن، بل هو كافر.


كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [النساء: 150، 151].


22- أن من صفات المؤمنين حقًا السمع والطاعة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، فجمعوا بين التصديق بالقلب واللسان، والانقياد بالجوارح، بين الإيمان الظاهر والباطن.


23- جمع المؤمنين حقًّا بين الإحسان بالإيمان والعمل الصالح، وبين الخوف من الله- عز وجل- وطلب مغفرته والافتقار إليه؛ لقولهم: ﴿ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا .


24- إثبات ربوبية الله- عز وجل- الخاصة للمؤمنين، وتوسلهم بها بقولهم: ﴿ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا ، وقولهم: ﴿ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ.


25- إثبات أن إلى الله - عز وجل - وحده المصير والمرجع يوم القيامة، كما أن إليه- عز وجل- مرجع الأمور والأحكام كلها في الدنيا والآخرة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.


26- رحمة الله- عز وجل- بعباده، حيث لا يكلف نفسًا فوق وسعها وطاقتها؛ لقوله تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، وقد قيل: إن هذه الآية ناسخة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ الآية (284) من هذه السورة، وتقدم بيان أن هذه الآية محكمة؛ لأنها خبر، والأخبار لا تنسخ، وإنما غاية ما في ذلك أن بعض الصحابة فهموا من الآية ﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ الآية محاسبتهم على حديث النفس، مما لا يستطيع الإنسان له دفعًا. فنسخ الله- عز وجل- وأزال هذا المفهوم بقوله تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ[19].


يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #339  
قديم 01-01-2024, 04:41 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,477
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله




27- سماحة الدين الإسلامي، ويسر أحكامه ومراعاته أحوال المكلفين، فلا يوجب على المريض ما يوجبه على الصحيح، ولا يوجب على المسافر ما يوجبه على المقيم، ولا يوجب على العاجز ما يوجبه على القادر، وهكذا.


28- إثبات وتقرير القاعدة الشرعية: أنه لا واجب مع العجز؛ لقوله تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا .


فإذا عجز الإنسان عن الواجب وليس له بدل سقط عنه، فمثلًا الحج واجب، بل ركن من أركان الإسلام على المستطيع، فإذا عجز الإنسان عن الحج ببدنه وماله سقط عنه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران: 97].


وإن كان الواجب له بدل وجب الانتقال إلى بدله، فإن عجز عن بدله سقط، فمثلًا كفارة الجماع في نهار رمضان عتق رقبة، فإذا لم يجد، فعليه صيام شهرين متتابعين، فإذا لم يستطع فعليه إطعام ستين مسكينًا، فإن لم يستطع سقطت؛ لما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: «بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم، إذ جاءه رجل، فقال: يا رسول الله، هلكت، قال: «مالك»؟ قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل تجد رقبة تعتقها»؟ قال: لا، قال: «فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين»؟ قال: لا، قال: «فهل تجد إطعام ستين مسكينًا»؟ قال: لا، قال: فمكث النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما نحن على ذلك أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بعَرَق فيه تمر- والعَرَق: المكتل، قال: «أين السائل»؟ فقال: أنا، قال: «خذ هذا فتصدق به»، فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله، فوالله ما بين لابتيها - يريد الحرتين - أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال: «أطعمه لأهلك»[20].


29- إثبات وتقرير القاعدة الشرعية «أنه لا محرم مع الضرورة، وأن الضرورات تبيح المحظورات»، فالميتة مثلًا محرمة؛ كما قال تعالى: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [المائدة: 3]، لكنها تباح عند الضرورة كما إذا لم يجد الإنسان ما يسد به رمقَه غيرها؛ كما قال تعالى: ﴿ فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة: 3].


30- إثبات الاختيار للإنسان فيما يفعل ويكتسب، وأنه ليس مجبورًا على فعله؛ لقوله تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ.


وفي هذا رد على الجبرية الذين يزعمون أن لا اختيار للإنسان[21].


31- أن منفعة التكليف وثمرته للمكلفين، رحمة من الله لهم، وهو سبحانه غني عنهم وعن كسبهم وأعمالهم؛ لقوله تعالى: ﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ.


32- أن لكل نفس ثواب وجزاء عملها لا ينقص منه شيء؛ لقوله تعالى: ﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ، وقال تعالى: ﴿ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم: 39].


ومن ذلك ما كان الإنسان سببًا في كسبه وسعيه كدعاء ولده له ونحو ذلك؛ لأن ولده من كسبه، كما قال صلى الله عليه وسلم: «وإن أولادكم من كسبكم»[22].


ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»[23].


وعن جرير بن عبدالله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من سن في الإسلام سنة حسنة، فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها، ولا ينقص من أجورهم شيء»[24].


وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا»[25].


كما أن دعاء المسلمين له وتصدقهم عنه داخل ضمن ما كان هو سببًا فيه؛ لأنه بإيمانه صار منهم، فشمله دعاؤهم وصدقاتهم.


33- أن على كل نفس ما عملت من سوء وشر، ولا تحمل نفس وزر أخرى؛ لقوله تعالى: ﴿ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام: 164]، لكن الإنسان يؤاخذ بما كان سببًا في فعله، كما قال صلى الله عليه وسلم: «من سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده، كتب عليه مثل وزر من عمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيء»[26].


34- أن كسب الخير غنم للنفس؛ لقوله تعالى: ﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ، وأن اكتساب الشر غرم عليها؛ لقوله تعالى: ﴿ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ .


كما قال تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس: 9، 10].


وقال صلى الله عليه وسلم: «كل الناس يغدو، فمعتق نفسه أو موبقها»[27].


35- كمال عدل الله - عز وجل - حيث يحاسب كل نفس بما كسبت.


36- الترغيب بكسب الحسنات، والترهيب من اكتساب السيئات.


37- الرد على الخوارج ومن تبعهم القائلين بأن مرتكب الكبيرة كافر مخلد في النار؛ لأن الله تعالى قال: ﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ، ولم يجعل اكتسابه مبطلًا لكسبه- كما يقولون[28].


38- أن من أعظم ما يتوسل به في الدعاء من صفات الله- عز وجل- الربوبية؛ لهذا توسل المؤمنون بقولهم: ﴿ ربنا في ثلاثة مواضع في هذه الآية، وهكذا كان جل دعاء الرسل عليهم السلام وأتباعهم بالتوسل بها.


39- إثبات ربوبية الله- عز وجل- الخاصة للمؤمنين؛ لقولهم: ﴿ ربنا .


40- إرشاد الله عز وجل للمؤمنين للدعاء بهذه الدعوات الجامعة واستجابته لهم؛ لقوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا.


ولهذا قال عز وجل كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «قد فعلت» وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «نعم».


41- عدم المؤاخذة والمعاقبة في النسيان والخطأ والجهل؛ لقوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنه قال- عز وجل: «قد فعلت»، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «نعم».


فإذا ترك الإنسان واجبًا أو ارتكب محظورًا نسيانًا أو خطأ أو جهلًا فلا عقوبة عليه ولا إثم. وفي الحديث: «إن الله تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه»[29].


فإن كان النسيان أو الخطأ والجهل في ارتكاب محظور فلا عقوبة عليه ولا تبعة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه»[30].


ومثل هذا لو ارتكب الإنسان أي محظور كان، ناسيًا أو مخطئًا وجاهلًا، كمحظورات الإحرام وغيرها فلا شيء عليه.


وإن كان النسيان أو الخطأ والجهل في ترك واجب فلا عقوبة عليه، لكن عليه فعل هذا الواجب ما دام في وقته، أو قضاؤه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك»[31].


ولأنه صلى الله عليه وسلم لم يعذر المسيء في صلاته لجهله، بل قال له عدة مرات: «ارجع فصل فإنك لم تصل»[32].


فإن فات وقت الواجب، ولا يمكن قضاؤه لزم تقديم فديته إن كان له فدية، كمن ترك المبيت بمزدلفة، أو بمنى، أو رمي الجمار- وفات وقته لزمته الفدية.


أما حقوق الخلق فإنها لا تسقط بالنسيان والخطأ والجهل.


كما يلزم أيضًا في قتل الخطأ دفع الكفارة حقًا لله عز وجل.


42- فضل الله- عز وجل- على هذه الأمة المحمدية برفع الآصار والأغلال عنها، وعدم تحميلها ما لا تطيق من الأحكام الكونية والشرعية، فلم يؤاخذهم بحديث النفس، والنسيان، والخطأ، وغير ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ.


وفي الحديث القدسي: «قال الله: قد فعلت»، وفي لفظ: «قال: نعم»[33].


43- تكليف من قبلنا من الأمم- وبخاصة أهل الكتاب بالآصار والأغلال والتكاليف الثقيلة؛ بسبب تكذيبهم وعنادهم وتشديدهم على أنفسهم؛ لقوله تعالى: (كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا).


44- تميز الأشياء بضدها، فبمقارنة ما خص الله به هذه الأمة من التيسير والتخفيف بما حمله على من قبلها من الآصار والأغلال يظهر عظم فضل الله عليها؛ ولهذا قال: (كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا).


45- ينبغي سؤال الله- عز وجل- العافية، وأن لا يحملنا ما لا طاقة لنا به؛ لقوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ فالعافية لا يعدلها شيء.


وقد قال صلى الله عليه وسلم: «لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية».


46- ينبغي سؤال الله - عز وجل - العفو والتجاوز عما يحصل منا من تقصير وتفريط بحقوقه- عز وجل- وسؤاله المغفرة والتجاوز عما اقترفناه من الذنوب، وأن يرحمنا برحمته الواسعة، فيما يستقبل، فيحفظنا من التفريط في حقه، ومن المعاصي والذنوب.


47- ضعف الإنسان وشدة حاجته إلى ربه في أمور دينه ودنياه، فطاقته وقدرته محدودة، وهو معرّض للنسيان والخطأ والجهل، وهو أحوج ما يكون إلى عفو الله- عز وجل- عن تقصيره، ومغفرته لذنوبه، ورحمته له، مما يوجب عليه التعلق بربه، والالتجاء إليه على الدوام.


48- إثبات ولاية الله- عز وجل- الخاصة للمؤمنين، وأنه لا مولى لهم سواه؛ لقوله تعالى: ﴿ أَنْتَ مَوْلَانَا.


49- جمع المؤمنين بين التوسل بربوبية الله - عز وجل - لهم في أول دعائهم بقولهم: ﴿ رَبَّنَا ، والتوسل بولايته لهم في آخر دعائهم بقولهم: ﴿ أَنْتَ مَوْلَانَا وهذا من أعظم أسباب الاستجابة.


50- يجب على المؤمنين الاستعانة بالله، وطلب النصر منه على الكافرين، مع بذل الأسباب بالجهاد بالحجة والقلم واللسان، والسيف والسنان؛ لقوله تعالى: ﴿ فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ.


51- فضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم على الأمم قبلها حيث خصها الله بالحنيفية السمحة، ورفع عنها الآصار والأغلال التي كانت على الأمم قبلها، وعفا عنها، وغفر لها، ورحمها، ونصرها.

[1] ذكره الترمذي في صفة القيامة- حديث الكيس من دان نفسه- بعد الحديث (2459)، وأخرجه ابن أبي شيبة في الزهد- كلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه (8/ 115)- حديث (3448).

[2] أخرجه مسلم في الإيمان- باب الوسوسة من الإيمان (132)، وأبو داود في الأدب (5111).

[3] أخرجه مسلم في الإيمان (133).

[4] أخرجه أبو داود في الأدب- رد الوسوسة (5112).

[5] أخرجه البخاري في الرقاق- باب من هم بحسنة أو سيئة (6491)، ومسلم في الإيمان (131).

[6] أخرجه مسلم في الإيمان (129).

[7] أخرجه البخاري في الإيمان- {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9] (31)، ومسلم في الفتن- إذا تواجه المسلمان بسيفيهما (2888)، وأبو داود في الفتن والملاحم (4268)، والنسائي في تحريم الدم (4120)، وابن ماجه في الفتن (3965).

[8] أخرجه الترمذي في الزهد- الدنيا سجن المؤمن (2325)، وابن ماجه في الزهد – النية (4228)، وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح».

[9] أخرجه البخاري في بدء الوحي (1)، ومسلم في الإمارة (1907)، وأبو داود في الطلاق (2201)، والنسائي في الطهارة (75)، وابن ماجه في الزهد (4227)، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

[10] أخرجه البخاري في الإيمان (42)، ومسلم في الإيمان (128)، والترمذي في التفسير (3073)..

[11] أخرجها البخاري في التوحيد (7501)، ومسلم في الإيمان (128).

[12] أخرجه البخاري في الطلاق (5269)، ومسلم في الإيمان (127)، وأبو داود في الطلاق (2209)، والنسائي في الطلاق (3433)، والترمذي في الطلاق (1183)، وابن ماجه في الطلاق (2040).

[13] سبق ذكر بعض هذه الأحاديث والآثار في سبب نزول قوله تعالى: ﴿ {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 285، 286]، وانظر في ذكر هذه الآثار والخلاف في نسخ هذه الآية «جامع البيان» (5/ 132- 134)، «الناسخ والمنسوخ» للنحاس (2/ 118- 124).

[14] ذكره ابن كثير في «تفسيره» (1/ 504).

[15] انظر: «مجموع الفتاوى» (14/ 101).

[16] انظر: «بدائع التفسير» (3/ 217- 218).

[17] في «تفسيره» (1/ 508).

[18] أخرجه المقدسي في كتاب «الحجة على تارك المحجة» بإسناد صحيح، كما قال شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب في كتاب التوحيد؛ قال النووي: «حديث رويناه في الحجة بإسناد صحيح»، وقال في «فتح المجيد»: «رواه الطبراني وأبو بكر بن عاصم، والحافظ أبو نعيم في الأربعين التي شرط لها أن تكون من صحيح الأخبار»؛ انظر: «فتح المجيد» ص (331- 332).

[19] انظر: «دقائق التفسير» (1/ 231، 232، 234، 235، 250، 252).

[20] أخرجه البخاري في الصوم (1936)، ومسلم في الصيام (1111)، وأبو داود في الصوم (2390)، والترمذي في الصوم (724)، وابن ماجه في الصيام (1671).

[21] انظر: «دقائق التفسير» (1/ 253).

[22] أخرجه أبو داود في البيوع (3528)، والنسائي في البيوع (4449)، والترمذي في الأحكام (1358)، وابن ماجه في التجارات (2137)، وأحمد (6/ 31)، من حديث عائشة رضي الله عنها، وقال الترمذي: «حسن صحيح».

[23] أخرجه مسلم في الوصية- ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته (1631)، وأبو داود في الوصايا (2880)، والنسائي في الوصايا (3651)، والترمذي في الأحكام (1376)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[24] أخرجه مسلم في العلم (1087)، والنسائي في الزكاة (2554)، وابن ماجه في المقدمة (203)..

[25] أخرجه مسلم في العلم (2674)، وأبو داود في السنة (4609)، والترمذي في العلم (2674)، وأحمد (2/ 380، 397).

[26] هذا بقية حديث جرير بن عبدالله- وقد سبق تخريجه قريبًا.

[27] أخرجه مسلم في الطهارة (223)، من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.

[28] انظر: «دقائق التفسير» (1/ 253).

[29] أخرجه ابن ماجه في الطلاق (2043)، من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه.

[30] أخرجه البخاري في الصوم (1933)، ومسلم في الصيام- أكل الناسي وشربه وجماعه لا يفطر (1115)، وأبو داود في الصوم (2398)، والترمذي في الصوم (721)، وابن ماجه في الصيام (1673)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[31] أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة- من نسي صلاة فليصلها (597)، ومسلم في المساجد- قضاء الصلاة الفائتة (684)، وأبو داود في الصلاة (442)، والنسائي في المواقيت (614)، والترمذي في الصلاة (178)، وابن ماجه في الصلاة (695)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

[32] أخرجه البخاري في الأذان- وجوب القراءة للإمام والمأموم (757)، ومسلم في الصلاة- وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة (397)، وأبو داود في الصلاة (856)، والنسائي في الافتتاح (884)، والترمذي في الصلاة (303)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1060)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[33] سبق تخريجه.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #340  
قديم 01-01-2024, 04:43 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,477
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»





الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم



تفسير قوله الله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا... ﴾ [البقرة: 168، 171].



قوله الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ * وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 168، 171].


قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾.

قوله: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ﴾ «يا»: حرف نداء، وتصدير الخطاب بالنداء للتنبيه والعناية والاهتمام «أي»: منادى مبني على الضم في محل نصب؛ لأن المنادى مفعول به، و«ها» للتنبيه، و﴿ النَّاسُ﴾: صفة لـ«أي».

و﴿ النَّاسُ﴾ هم البشر «بنو آدم»، فالخطاب لجميع الناس مؤمنهم وكافرهم.

و﴿ النَّاسُ أصلها: الأناس، فحذفت الهمزة منها تخفيفًا؛ كما قال الشاعر:
إن المنايا يطلعن
على الأناس الآمنينا




وقد تقدم الكلام على اشتقاقه في أول السورة[1].

﴿ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ﴾ الأمر للإباحة، ﴿ مِمَّا﴾ مكونة من «مِن» التي لبيان الجنس و«ما» الموصولة التي تفيد العموم، أي: كلوا من كل الذي في الأرض، من زروع وثمار وبقول، وحيوان، وغير ذلك، كما قال تعالى ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ﴾ [البقرة: 29].

ويحتمل أن تكون «من» تبعيضية، أي: كلوا من بعض ما في الأرض، والأمر للوجوب فيما يحفظ النفس، وللندب، والإباحة فيما عدا ذلك.

﴿ حلالًا ﴾ حال من «ما» أي: حال كونه حلالًا، أي: حلالًا في كسبه، كما قال تعالى: ﴿ ﭪ ﭫ ﴾ [البقرة: 275].

﴿ طيبًا ﴾ حال ثانية، أي: حال كونه طيبًا في ذاته وعينه، وفي هذا بيان علة تحليله، وهي كونه طيبًا في ذاته، تستطيبه النفوس، وليس بخبيث، كالميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير، والخبائث كلها، مما يضر بالأبدان والعقول، قال تعالى: ﴿ قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الأنعام: 145]، وقال تعالى في الخمر: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [المائدة: 90].

وفي قوله: ﴿ حلالا ﴾ امتنان عليهم، كما أن فيه تعريضًا باعتداء المشركين وافترائهم في تحريم ما أحل الله كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام كما قال تعالى في معرض رده عليهم: ﴿ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ [المائدة: 103].

وقال تعالى: ﴿ وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾ [الأنعام: 138]، وقال تعالى: ﴿ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ﴾ [الأنعام: 140].

﴿ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾، أمر الله عز وجل الناس بالأكل مما في الأرض حلالًا طيبًا، ثم عطف على ذلك بنهيهم عن اتباع خطوات الشيطان في تحريم ما أحل الله لهم، وفي تزيين الكفر والشرك والمعاصي.

قرأ نافع وأبو عمرو وحمزة وخلف وأبو بكر عن عاصم بإسكان الطاء: «خُطْوات»، وقرأ الباقون بضمها: ﴿ خُطُوَاتِ﴾، و«خطوات»: جمع: «خطوة»، وهي في الأصل ما بين قدمي الماشي.

أي: ولا تتبعون خطى الشيطان وطرقه ومسالكه ووساوسه وعمله وتزيينه فيما أضل به أتباعه من تحريم ما أحل الله كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام ونحو ذلك، وفيما يأمر به من الكفر والفسوق والظلم والعصيان كما قال تعالى: ﴿ كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [الأنعام: 142]، وقال تعالى: ﴿ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [يس: 60].

وعن عياض بن حمار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: «كل مال نحلته عبدي حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا...»[2].

و«ال» في ﴿ الشَّيْطَانِ﴾ للعهد، فيكون المراد إبليس لعنه الله، وهو أصل الشياطين ورأسهم، وقد تكون «ال» للجنس.

و﴿ الشَّيْطَانِ﴾ مشتق من شطن بمعنى بعد عن رحمة الله وعن كل الخير؛ ولهذا سمي إبليس؛ لأنه أبلس من رحمة الله –تعالى، وجنته.

وله أتباع من شياطين الإنس والجن، بل ومن الحيوانات، كما قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ﴾ [الأنعام: 112].

وقال صلى الله عليه وسلم: «الكلب الأسود شيطان»[3].

﴿ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ الجملة تعليل للنهي السابق، أي: ﴿ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾؛ لأنه ﴿ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾، و«إنَّ» للتوكيد، فيها توكيد شدة عداوة الشيطان للناس، و«العدو»: ضد «الولي»، كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ ﴾ [الممتحنة: 1].

والعدو من يحب لك الشر ويكره لك الخير، ومن يسر ويفرح بمساءتك وحزنك، ويغتم ويحزن بفرحك وسرورك.

﴿ مُبِينٌ ﴾: بيِّن العداوة ظاهرها، من «أبان» اللازم بمعنى «بان» أي: ظهر، كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [البقرة: 208]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [فاطر: 6]، وقال تعالى: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ﴾ [الكهف: 50].

وعداوته لبني آدم متأصلة وقديمة فهو عدو أبويهما الذي أخرجهما من الجنة، كما قال تعالى: ﴿ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [الأعراف: 22]، وقال تعالى: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 27].

ولهذا فهو ساعٍ ما استطاع لإغواء بني آدم وإهلاكهم، كما قال تعالى: ﴿ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾ [الأعراف: 16، 17]، وقال تعالى: ﴿ لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا * وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ﴾ [النساء: 118 - 120].

وهو في المقابل ولي الكافرين، كما قال تعالى: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 27]، وقال تعالى: ﴿ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الأعراف: 30]، وقال تعالى: ﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 257].

قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾.

استئناف بيان وتعليل لما قبله؛ أي: بيان وتفصيل لخطوات الشيطان، وبيان سبب اعتباره عدوًا لنا.

قوله: ﴿ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ ﴾ «إنما»: أداة حصر، أي: ما يأمركم إلا بالسوء والفحشاء، أي: ما يأمركم الشيطان أيها الناس إلا بالسوء والفحشاء، كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [النور: 21].

و«السوء»: الشر، ويدخل في ذلك جميع المعاصي، وسمي ذلك بالسوء؛ لأنه يسوء صاحبه في الحال والمآل، وقد يسوء غيره، إما مباشرة إذا كان متعديًا، وإما مساءة غير مباشرة؛ لأن للذنوب والمعاصي آثارها السيئة العامة على البلاد والعباد.

كما قال تعالى: ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الروم: 41]، وقال تعالى: ﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا ﴾ [فاطر: 45]، وقال تعالى: ﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [النحل: 61].

و«الفحشاء» معطوف على السوء من عطف الخاص على العام؛ لأن الفحشاء من السوء، وهي ما تناهى قبحه كالزنا والقذف والقتل وشرب الخمر والبخل ونحو ذلك، مما يستفحش في الشرع وعرف المسلمين، ولدى ذوي العقول السليمة والفطر المستقيمة.

ويحتمل أن يكون المراد بالسوء كل ما يسوء من المعاصي والذنوب الصغيرة «السيئات».

و«الفحشاء» المعاصي الكبيرة وما يستفحش في الشرع، وعرف المسلمين كالزنا ونحوه، قال تعالى: ﴿ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا ﴾ [النساء: 31].

وقدم السوء وهو المعاصي الصغيرة لكثرة وقوع الإنسان فيها؛ ولأنها إذا اجتمعت وتراكمت تعظم وتكبر، وقد تؤدي إلى ارتكاب الكبائر؛ ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: «لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار»[4].

﴿ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾، معطوف على قوله: ﴿ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ ﴾ من عطف الخاص على العام؛ لأنه داخل في السوء والفحشاء.

و«أن» والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر، أي: والقول على الله ما لا تعلمون، و«ما»: موصولة، أو نكرة موصوفة.

والتقدير: ويأمركم بالقول على الله الذي لا تعلمون، أو شيئًا لا تعلمونه، بأن تنسبوا لله تعالى ما لا تعلمون أنه من عنده، وأن الله قاله أو أمر به، وذلك يعم القول على الله بلا علم في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه الكونية والشرعية من التحليل والتحريم والإيجاب وعدمه وغير ذلك.

وهو من أعظم المحرمات بل جعله الله في المرتبة العليا منها فقال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 33].

وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النحل: 116، 117].

قال السعدي[5]: «ومن أعظم القول على الله بلا علم أن يتأول المتأول كلامه أو كلام رسوله على معانٍ اصطلح عليها طائفة من طوائف الضلال، ثم يقول: إن الله أرادها، فالقول على الله من أكبر المحرمات وأشملها وأكبر طرق الشيطان التي يدعو إليها».

ومما ينبغي أن يعلم أن الشيطان قد يأمر بما ظاهره الخير أحيانًا؛ لتفويت خير أعظم من ذلك، أو للوصول إلى شر أعظم من ذلك.

قال ابن القيم[6]: «إن الشيطان قد يأمر بسبعين بابًا من أبواب الخير، إما ليتوصل بها إلى باب واحد من الشر، وإما ليفوت بها خيرًا أعظم من تلك السبعين بابًا وأجل وأفضل».

وقد قيل:
وقد يأمر الشيطان بالخير قاصدًا
وصولًا إلى باب من الشر أعظم[7]





فكثير مما أحدث في الدين من الابتداع مما لم ينزل الله به من سلطان هو من قبيل تزيين الشيطان، فيجب الحذر من هذا، فإن الخير كل الخير في الاتباع، والشر كل الشر في الابتداع.

قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ﴾.

أمر الله عز وجل الناس في الآيتين السابقتين بالأكل مما في الأرض حلالًا طيبًا ونهاهم عن اتباع خطوات الشيطان، وبيَّن لهم عداوته الظاهرة، وأنه لا يأمر إلا بالسوء والفاحشة والقول على الله بلا علم، ثم ذم عز وجل المشركين والكفار بمتابعتهم له بتقليد آبائهم من غير حجة.

قوله: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ﴾؛ أي: وإذا قيل لهؤلاء المشركين والكفار المتبعين لخطوات الشيطان ﴿ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ ﴾ «ما»: موصولة تفيد العموم، أي: اتبعوا جميع الذي أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم اعتقادًا وقولًا وعملًا.

والذي أنزل الله يشمل الكتاب والسنة؛ لأن كلًّا منهما وحي من عند الله تعالى، كما قال تعالى: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [النجم: 3، 4].

﴿ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ﴾: «بل» للإضراب الإبطالي فأضربوا عن قول الرسول صلى الله عليه وسلم لهم: ﴿ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ ﴾، وأعرضوا عنه وأبطلوه بلا حجة إلا أنه مخالف لما عليه آباؤهم، ولهذا قالوا: ﴿ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ تعصبًا لآبائهم، وتقليدًا لهم.

و«ما» في قوله: ﴿ مَا أَلْفَيْنَا ﴾: موصولة، و﴿ أَلْفَيْنَا﴾: وجدنا، أي: بل نتبع الذي وجدنا عليه آباءنا وأجدادنا من الشرك وعبادة الأصنام والأنداد، والاعتقاد والقول والعمل حقًّا كان أو باطلًا، كما قال تعالى عنهم: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ﴾ [لقمان: 21]، وقال الله تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ﴾ [المائدة: 104]، وقال تعالى: ﴿ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ * وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ﴾ [الزخرف: 22، 23].

وهذه شبهة واهية لرد الحق، ولهذا قال تعالى ردًّا عليهم:
﴿ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ كقوله تعالى في سورة المائدة: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ﴾ [المائدة: 104].

قوله: ﴿ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ ﴾ الهمزة للاستفهام والإنكار عليهم والتعجب من فعلهم، والواو للحال، أي: أيتبعون ما ألفوا عليه آباءهم والحال أن آباءهم ﴿ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا ﴾ أي: لا يفهمون شيئًا.

و﴿ شَيْئًا﴾: نكرة في سياق النفي فتعم أي شيء، أي: لا يعقلون ولا يفهمون ولا يعلمون أي شيء من أمر الدين، من معرفة الله عز وجل، ومعرفة ما ينفعهم في دينهم وآخرتهم.

فالعقل الذي لا شيء عندهم منه عقل الرشد الذي هو مناط المدح، أما عقل الإدراك الذي يعرفون به النافع والضار في أمر دنياهم فهو موجود لديهم، ولولاه سقط عنهم التكليف.

﴿ وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ أي: ولا يهتدون إلى شيء من العمل بما ينفعهم في أمر دينهم.

فانتفى عنهم الرشد في العلم بنفي العقل عنهم، وانتفى عنهم الرشد في العمل بنفي الهداية عنهم، فصار المعنى: أيتبعون آباؤهم ولو كان آباؤهم أجهل الخلق وأشدهم ضلالًا، لا يعقلون ولا يعلمون شيئًا من الدين، ولا يهتدون للعمل به لا بأنفسهم، ولا باتباع من يهديهم إلى الحق والصواب فيه.

قوله تعالى: ﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾.

ذكر عز وجل في الآية السابقة رد المشركين قول من يدعوهم إلى اتباع ما أنزل الله واستبدال ذلك بالتقليد الأعمى لآبائهم، ثم ذكر مثلهم في هذا فقال: ﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ الآية.

قوله: ﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ أي: شبههم وصفتهم حين يُنادون ويُدعون إلى الإيمان، فيعرضون، ويتبعون ما عليه آباؤهم ﴿ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ ﴾؛ أي: كشبه وصفة الذي ﴿ يَنْعِقُ ﴾ والنعيق: دعاء الراعي الغنم، أي: كمثل الراعي الذي يدعو وينادي.

﴿ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ﴾ «ما»: موصولة، أي: بالذي لا يسمع إلا دعاءً ونداءً، أي: بالغنم التي لا تسمع إلا دعاءه ونداءه، ولا تفقه من ذلك إلا مجرد سماع الصوت أو مجرد الدعاء والنداء لها من غير فهم لما يراد بها، فقد ينادي بها ويدعوها لنحرها وذبحها.

والفرق بين الدعاء والنداء؛ أن الدعاء يكون لشيء معين باسمه كأن يسمي بعض البهائم ويدعوها بأسمائها، فتقبل، والنداء يكون للجميع.

والمعنى: ومثل الذين كفروا في عدم فهمهم من داعي الحق والإيمان إلا مجرد الصوت الذي تقوم به عليهم الحجة ولا ينتفعون بذلك كحال البهائم مع الناعق لها وبئس المثل، وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [النحل: 60].

قال ابن كثير[8]: «﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ أي: فيما هم فيه من الغي والضلال والجهل كالدواب السارحة التي لا تفقه ما يقال لها، بل إذا نعق بها راعيها، أي: دعاها على ما يرشدها، لا تفقه ما يقول ولا تفهمه، بل إنما تسمع صوته فقط».

وقيل المعنى: ومثل هؤلاء الكفار في دعائهم آلهتهم التي لا تفقه دعاءهم كمثل الذي ينعق بما لا يسمع من البهائم إلا أصواتًا مجردة، كما قال الخليل عليه السلام لأبيه: ﴿ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا ﴾ [مريم: 42].

﴿ صُمٌّ﴾: خبر المبتدأ محذوف، أي: هم صم، و﴿ صُمٌّ﴾ جمع أصم، وهو الذي لا يسمع، أي: صم عن سماع الحق، فلا يسمعونه سماع فهم وانتفاع، كما قال تعالى: ﴿ وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ [الأعراف: 179]؛ أي: لا يسمعون بها سماع فهم وانتفاع.

﴿ بكمٌ ﴾: خبر ثان، وهو جمع «أبكم» وهو الذي لا ينطق، أي: بكم وخرس عن النطق بالحق والإقرار به.

(عُمي}: خبر ثالث، وهو جمع، «أعمى» وهو الذي لا يبصر، أي: عُمي عن رؤية الحق والهدى فلا يبصرونه ولا يعقلونه.

﴿ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ أي: لا ينتفعون بعقولهم، فكأنهم لا عقول لهم؛ لأن العقل عقلان؛ عقل هو مناط التكليف، وهذا موجود عندهم، ولولاه ما كلفوا، وعقل هو مناط المدح، وهو الذي ينتفع به صاحبه، فيحمله على فعل الخير ويحجزه عن الشر، كما قال تعالى: ﴿ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ﴾ [الفجر: 5]؛ أي: لذي عقل يحجر صاحبه عما لا ينبغي.

وهذا هو العقل الذي نفاه الله عنهم، كما نفى عنهم قبل ذلك السمع والبصر، وهما وسيلتا وصول العلم إلى العقل، ونفى عنهم النطق، وهو وسيلة الإقرار بالحق وإعلانه.

فشبههم في تقليدهم الأعمى لآبائهم بالبهائم التي تتبع صوت دعاء ونداء الراعي، بلا فهم ولا عقل، فتسير وراءه، حتى لو كان يقودها لحتفها، كما قال الشاعر:
والناس في غفلة عما يراد بهم
كأنهم غنم في بيت جزار[9]




[1] عند تفسير قول الله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 8].

[2] أخرجه مسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2865).

[3] سبق تخريجه.

[4] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (8/ 245)- الأثر (9207) تحقيق شاكر.

[5] في «تيسير الكريم الرحمن» (1/ 200).

[6] انظر: «بدائع التفسير» (5/ 458)، «التفسير القيّم» ص(613).

[7] هذا البيت من قصيدة قلتها في إحدى المناسبات.

[8] في «تفسيره» (1/ 293).

[9] انظر: «الأمثال الواردة» ص (436).







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 48 ( الأعضاء 0 والزوار 48)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 378.64 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 372.79 كيلو بايت... تم توفير 5.85 كيلو بايت...بمعدل (1.54%)]