25-01-2023, 11:06 PM
|
|
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,367
الدولة :
|
|
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السادس
الحلقة( 246)
من صــ 386 الى صـ 400
وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وفي لفظ فأيما رجل أدركته الصلاة من أمتي فعنده مسجده وطهوره وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة. وبعثت إلى الناس عامة}
وفي صحيح مسلم عن حذيفة أنه صلى الله عليه وسلم قال: {فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت لنا الأرض مسجدا وتربتها لنا طهورا}. فقد بين صلى الله عليه وسلم أن الله جعل الأرض لأمته طهورا كما جعل الماء طهورا.
وعن أبي ذر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم {الصعيد الطيب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر سنين فإذا وجدته الماء فأمسسه بشرتك فإن ذلك خير} قال الترمذي حديث حسن صحيح.
فأخبر أن الله جعل الصعيد الطيب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر سنين. فمن قال إن التراب لا يطهر من الحدث فقد خالف الكتاب والسنة. وإذا كان مطهرا من الحدث امتنع أن يكون الحدث باقيا مع أن الله طهر المسلمين بالتيمم من الحدث فالتيمم رافع للحدث مطهر لصاحبه لكن رفع موقت إلى أن يقدر على استعمال الماء فإنه بدل عن الماء فهو مطهر ما دام الماء متعذرا كما أن الملتقط يملك اللقطة ما دام لم يأته صاحبها وكان ملك صاحبها ملكا موقتا إلى ظهور المالك فإنه كان بدلا عن المالك فإذا جاء صاحبها خرجت عن ملك الملتقط إلى ملك صاحبها.
وما ثبت بنص أو إجماع لا يطلب له نظير يقاس به وإنما يطلب النظير لما لا نعلمه إلا بالقياس والاعتبار. فيحتاج أن نعتبره بنظير وأما ما شرعه الله ورسوله فعلينا أن نتبع ما أنزل إلينا من ربنا ولا نطلب لذلك نظيرا مع أن الاعتبار يوافق النص. كما قال أحمد القياس أن تجعل التراب كالماء. وعلى هذا القول الصحيح يتيمم قبل الوقت إن شاء ويصلي ما لم يحدث أو يقدر على استعمال الماء وإذا تيمم لنفل صلى به فريضة.
ويجمع بالتيمم الواحد بين فرضين ويقضي به الفائت. وأصحاب القول الآخر احتجوا بآثار منقولة عن بعض الصحابة وهي ضعيفة لا تثبت. ولا حجة في شيء منها ولو ثبتت. وقول القائل: إنها طهارة ضرورية فتقدر بقدر الحاجة. قيل له: نعم والإنسان محتاج أن لا يزال على طهارة فيتطهر قبل الوقت؛ فإنه محتاج إلى زيادة الثواب؛ ولهذا يصلي النافلة بالتيمم باتفاق المسلمين وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تيمم لرد السلام في الحضر وقال: {إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر} فدل على أن التيمم يكون مستحبا تارة وواجبا أخرى. أي يتيمم في وقت لا يكون التيمم واجبا عليه أن يتيمم وإن كان شرطا للصلاة والتيمم قبل الوقت مستحب كما أن الوضوء قبل الوقت مستحب.
وأصح أقوال العلماء أنه يتيمم لكل ما يخاف فوته كالجنازة وصلاة العيد وغيرهما مما يخاف فوته فإن الصلاة بالتيمم خير من تفويت الصلاة كما أن صلاة التطوع بالتيمم خير من تفويته ولهذا يتيمم للتطوع من كان له ورد في الليل يصليه وقد أصابته جنابة والماء بارد يضره فإذا تيمم وصلى التطوع وقرأ القرآن بالتيمم كان خيرا من تفويت ذلك. فقول القائل: إنه حكم مقيد بالضرورة.
فيقدر بقدرها. إن أراد به أن لا يفعل إلا عند تعذر الماء فهو مسلم. وإن أراد به أنه لا يجوز التيمم إلا إذا كان التيمم واجبا فقد غلط. فإن هذا خلاف السنة وخلاف إجماع المسلمين بل يتيمم للواجب ويتيمم للمستحب كصلاة التطوع وقراءة القرآن المستحبة ومس المصحف المستحب. والله قد جعله طهورا للمسلمين عند عدم الماء فلا يجوز لأحد أن يضيق على المسلمين ما وسع الله عليهم وقد أراد رفع الحرج عن الأمة فليس لأحد أن يجعل فيه حرجا. كما فعله طائفة من الناس. أثبتوا فيه من الحرج ما هو معلوم. ولهذا كان الصواب أنه يجوز التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين ولا يجب فيه ترتيب؛ بل إذا مسح وجهه بباطن راحتيه أجزأ ذلك عن الوجه والراحتين ثم يمسح ظهور الكفين بعد ذلك فلا يحتاج أن يمسح راحتيه مرتين وعلى هذا دلت السنة. وبسط هذه المسائل في موضع آخر. والله أعلم.
فصل:
كل من جاز له الصلاة بالتيمم: من جنب أو محدث جاز له أن يقرأ القرآن خارج الصلاة ويمس المصحف ويصلي بالتيمم النافلة والفريضة ويرقي بالقرآن وغير ذلك.
فإن الصلاة أعظم من القراءة فمن صلى بالتيمم كانت قراءته بالتيمم أولى والقراءة خارج الصلاة أوسع منها في الصلاة فإن المحدث يقرؤه خارج الصلاة وكل ما يفعله بطهارة الماء في الوضوء والغسل يفعله بطهارة التيمم إذا عدم الماء أو خاف الضرر باستعماله. وإذا أمكن الجنب الوضوء دون الغسل فتوضأ وتيمم عن الغسل جاز وإن تيمم ولم يتوضأ ففيه قولان. قيل: يجزيه عن الغسل وهو قول مالك وأبي حنيفة. وقيل: لا يجزيه وهو قول الشافعي وأحمد بن حنبل. وإذا تيمم بالتراب الذي تحت حصير بيته جاز وكذلك إذا كان هناك غبار لاصق ببعض الأشياء وتيمم بذلك التراب اللاصق جاز.
وأما قراءة الجنب والحائض للقرآن فللعلماء فيه ثلاثة أقوال:
قيل: يجوز لهذا ولهذا. وهو مذهب أبي حنيفة والمشهور من مذهب الشافعي وأحمد. وقيل: لا يجوز للجنب ويجوز للحائض. إما مطلقا أو إذا خافت النسيان. وهو مذهب مالك. وقول في مذهب أحمد وغيره. فإن قراءة الحائض القرآن لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه شيء غير الحديث المروي عن إسماعيل بن عياش عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر {لا تقرأ الحائض ولا الجنب من القرآن شيئا} رواه أبو داود وغيره.
وهو حديث ضعيف باتفاق أهل المعرفة بالحديث. وإسماعيل بن عياش ما يرويه عن الحجازيين أحاديث ضعيفة؛ بخلاف روايته عن الشاميين ولم يرو هذا عن نافع أحد من الثقات ومعلوم أن النساء كن يحضن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن ينهاهن عن قراءة القرآن. كما لم يكن ينهاهن عن الذكر والدعاء بل أمر الحيض أن يخرجن يوم العيد فيكبرون بتكبير المسلمين. وأمر الحائض أن تقضي المناسك كلها إلا الطواف بالبيت: تلبي وهي حائض وكذلك بمزدلفة ومنى وغير ذلك من المشاعر.
وأما الجنب فلم يأمره أن يشهد العيد ولا يصلي ولا أن يقضي شيئا من المناسك: لأن الجنب يمكنه أن يتطهر فلا عذر له في ترك الطهارة بخلاف الحائض فإن حدثها قائم لا يمكنها مع ذلك التطهر. ولهذا ذكر العلماء ليس للجنب أن يقف بعرفة ومزدلفة ومنى حتى يطهر وإن كانت الطهارة ليست شرطا في ذلك. لكن المقصود أن الشارع أمر الحائض أمر إيجاب أو استحباب بذكر الله ودعائه مع كراهة ذلك للجنب. فعلم أن الحائض يرخص لها فيما لا يرخص للجنب فيه؛ لأجل العذر. وإن كانت عدتها أغلظ فكذلك قراءة القرآن لم ينهها الشارع عن ذلك.
وإن قيل: إنه نهى الجنب لأن الجنب يمكنه أن يتطهر ويقرأ بخلاف الحائض؛ تبقى حائضا أياما فيفوتها قراءة القرآن تفويت عبادة تحتاج إليها مع عجزها عن الطهارة وليست القراءة كالصلاة فإن الصلاة يشترط لها الطهارة مع الحدث الأكبر والأصغر والقراءة تجوز مع الحدث الأصغر بالنص واتفاق الأئمة. والصلاة يجب فيها استقبال القبلة واللباس واجتناب النجاسة والقراءة لا يجب فيها شيء من ذلك بل {كان النبي صلى الله عليه وسلم يضع رأسه في حجر عائشة رضي الله عنها وهي حائض} وهو حديث صحيح. وفي صحيح مسلم أيضا: {يقول الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم إني منزل عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظان} فتجوز القراءة قائما وقاعدا وماشيا ومضطجعا. وراكبا.
(ياأيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون (8)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
المقصود: أن كل خير فهو داخل في القسط والعدل وكل شر فهو داخل في الظلم. ولهذا كان العدل أمرا واجبا في كل شيء وعلى كل أحد والظلم محرما في كل شيء ولكل أحد فلا يحل ظلم أحد أصلا سواء كان مسلما أو كافرا أو كان ظالما بل الظلم إنما يباح أو يجب فيه العدل عليه أيضا قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن}
أي: لا يحملنكم شنآن أي: بغض قوم - وهم الكفار - على عدم العدل؛ {قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} وقال تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} وقال تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} وقال تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها}. وقد دل على هذا قوله في الحديث: " {يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا} " فإن هذا خطاب لجميع العباد أن لا يظلم أحد أحدا وأمر العالم في الشريعة مبني على هذا وهو العدل في الدماء والأموال؛ والأبضاع والأنساب؛ والأعراض. ولهذا جاءت السنة بالقصاص في ذلك ومقابلة العادي بمثل فعله.
لكن المماثلة قد يكون علمها أو عملها متعذرا أو متعسرا؛ ولهذا يكون الواجب ما يكون أقرب إليها بحسب الإمكان ويقال: هذا أمثل؛ وهذا أشبه. وهذه الطريقة المثلى لما كان أمثل بما هو العدل والحق في نفس الأمر؛ إذ ذاك معجوز عنه ولهذا قال تعالى: {وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها}
فذكر أنه لم يكلف نفسا إلا وسعها حين أمر بتوفية الكيل والميزان بالقسط؛ لأن الكيل لا بد له أن يفضل أحد المكيلين على الآخر ولو بحبة أو حبات وكذلك التفاضل في الميزان قد يحصل بشيء يسير لا يمكن الاحتراز منه فقال تعالى: {لا نكلف نفسا إلا وسعها}.
ولهذا كان القصاص مشروعا إذا أمكن استيفاؤه من غير جنف كالاقتصاص في الجروح التي تنتهي إلى عظم.
وفي الأعضاء التي تنتهي إلى مفصل فإذا كان الجنف واقعا في الاستيفاء عدل إلى بدله وهو الدية؛ لأنه أشبه بالعدل من إتلاف زيادة في المقتص منه وهذه حجة من رأى من الفقهاء أنه لا قود إلا بالسيف في العنق قال: لأن القتل بغير السيف وفي غير العنق لا نعلم فيه المماثلة بل قد يكون التحريق والتغريق والتوسيط ونحو ذلك أشد إيلاما؛ لكن الذين قالوا: يفعل به مثل ما فعل قولهم أقرب إلى العدل؛ فإنه مع تحري التسوية بين الفعلين يكون العبد قد فعل ما يقدر عليه من العدل وما حصل من تفاوت الألم خارج عن قدرته.
(ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون (14)
[فصل: رفض دعواهم وجوب التمسك بدينهم بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم]
قالوا وهذا وغيره أوجب لنا التمسك بديننا وأن لا نهمل ما معنا ولا نرفض مذهبنا ولا نتبع غير السيد المسيح كلمة الله وروحه وحوارييه الذين أرسلهم إلينا.
والجواب أنهم احتجوا بحجتين باطلتين:
إحداهما: أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - لم يرسل إليهم بل إلى العرب وقد تبين أن الاحتجاج بها من أعظم الكذب والافتراء على محمد - صلى الله عليه وسلم - فإنه لم يقل قط إني لم أرسل إلى أهل الكتاب ولا قال قط إني لم أرسل إلا إلى العرب بل نصوصه المتواترة عنه وأفعاله تبين أنه مرسل إلى جميع أهل الأرض أميهم وكتابيهم.
والحجة الثانية: قولهم: أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - أثنى على دين النصارى بعد التبديل والنسخ وهي أيضا أعظم كذبا عليه من التي قبلها كيف يثني عليهم وهو يكفرهم في غير موضع من كتابه ويأمر بجهادهم وقتالهم ويذم المتخلفين عن جهادهم غاية الذم ويصف من لم ير طاعته في قتالهم بالنفاق والكفر ويذكر أنه يدخل جهنم وهذا كله يخبر به عن الله ويذكره تبليغا لرسالة ربه وإنما يضاف إليه ; لأنه بلغه وأداه لا لأنه أنشأه وابتدأه.
كما قال - تعالى -: {إنه لقول رسول كريم} [الحاقة: 40] (40) {وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون} [الحاقة: 41] (41) {ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون} [الحاقة: 42] (42) {تنزيل من رب العالمين} [الحاقة: 43] (43) {ولو تقول علينا بعض الأقاويل} [الحاقة: 44] (44) {لأخذنا منه باليمين} [الحاقة: 45] (45) {ثم لقطعنا منه الوتين} [الحاقة: 46] (46) {فما منكم من أحد عنه حاجزين} [الحاقة: 47] (47) {وإنه لتذكرة للمتقين} [الحاقة: 48] (48) {وإنا لنعلم أن منكم مكذبين} [الحاقة: 49] (49) {وإنه لحسرة على الكافرين} [الحاقة: 50] (50) {وإنه لحق اليقين} [الحاقة: 51] (51) {فسبح باسم ربك العظيم} [الحاقة: 52]
وأما ثناء الله ورسوله على المسيح وأمه وعلى من اتبعه وكان على دينه الذي لم يبدل فهذا حق وهو لا ينافي وجوب اتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - على من بعث إليه فلو قدر أن شريعة المسيح لم تبدل وأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - أثنى على كل من اتبعها وقال مع ذلك إن الله أرسلني إليكم لم يكن ذلك متناقضا وإذا كفر من لم يؤمن به لم يناقض ذلك ثناؤه عليهم قبل أن يكذبوه.
فكيف وهو إنما مدح من اتبع دينا لم يبدل؟ وأما الذين بدلوا دين المسيح فلم يمدحهم بل ذمهم كما قال {ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون} [المائدة: 14] وقد قدمنا أن النصارى كفروا كما كفرت اليهود: كفروا بتبديلهم ما في الكتاب الأول وكفروا بتكذيبهم بالكتاب الثاني.
وأما من لم يبدل الكتاب أو أدرك محمدا - صلى الله عليه وسلم - فآمن به فهؤلاء مؤمنون ومما يبين ذلك أن تعظيم المسيح للتوراة واتباعه لها وعمله بشرائعها أعظم من تعظيم محمد - صلى الله عليه وسلم - للإنجيل ومع هذا فلم يكن ذلك مسقطا عن اليهود وجوب اتباعهم للمسيح فكيف يكون تعظيم محمد - صلى الله عليه وسلم - للإنجيل مسقطا عن النصارى وجوب اتباعه.
[فصل: بيان أن عامة دين النصارى ليس مأخوذا عن المسيح]
وهذا الذي قد ذكره هذا البترك " سعيد بن البطريق " المعظم عند النصارى، المحب لهم، المتعصب لهم في أخبارهم التي بين بها أحوالهم في دينهم، معظما لدينهم، مع ما في بعض الأخبار من زيادة فيها تحسين لما فعلوه، وكثير من الناس ينكر ذلك ويكذبه، مثل ما ذكره من ظهور الصليب، ومن مناظرة " أريوس " وغير ذلك، فإن كثيرا من الناس يخالفه فيما ذكر. ويذكر أن أمر ظهور الصليب كان بتدليس وتلبيس وحيلة ومكر. ويذكر أن " أريوس " لم يقل قط: إن المسيح خالق.
ولكن المقصود أنه إذا صدق هذا فيما ذكره، فإنه بين أن عامة الدين الذي عليه النصارى، ليس مأخوذا عن المسيح، بل هو مما ابتدعه طائفة منهم، وخالفهم في ذلك آخرون، وأنه كان بينهم من العداوة والاختلاف في إيمانهم وشرائعهم ما يصدق قوله تعالى: {ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون} [المائدة: 14]
والنصارى يقرون بما ذكره هذا البترك، أن أول ملك أظهر دين النصارى هو " قسطنطين "، وذلك بعد المسيح بأكثر من ثلاثمائة سنة، وهو نصف الفترة التي بين المسيح ومحمد - صلى الله عليهما وسلم -، فإنها كانت ستمائة سنة أو ستمائة وعشرين.
وإذا كان النصارى مقرين بأن ما هم عليه من الإيمان صنعه طائفة منهم مع مخالفة آخرين لهم فيه ليس منقولا عن المسيح، وكذلك ما هم عليه من تحليل ما حرمه الله ورسوله، وكذلك قتال من خالف دينه وقتل من حرم الخنزير، مع أن شريعة الإنجيل تخالف هذا، وكذلك الختان، وكذلك تعظيم الصليب.
وقد ذكروا مستندهم في ذلك أن " قسطنطين " رأى صورة صليب كواكب.
ومعلوم أن هذا لا يصلح أن ينبني عليه شريعة، فإن مثل هذا يحصل للمشركين عباد الأصنام والكواكب ما هو أعظم منه، وبمثل هذا بدل دين الرسل وأشرك الناس بربهم، وعبدوا الأوثان، فإن الشيطان يخيل هذا وأعظم منه.
وكذلك الإزار الذي رآه من رآه، والصوت الذي سمعه، هل يجوز لعاقل أن يغير شرع الله الذي بعثت به رسله، بمثل هذا الصوت والخيال الذي يحصل للمشركين عباد الكواكب والأصنام ما هو أعظم منه؟ مع أن هذا الذي ذكروه عن " بطرس " رئيس الحواريين، ليس فيه تحليل كل ما حرم، بل قال: (ما طهره الله فلا تنجسه) وما نجسه الله في التوراة، فقد نجسه ولم يطهره، إلا أن ينسخه المسيح. والحواري لم يبح لهم الخنزير وسائر المحرمات إن كان قوله معصوما، كما يظنون.
والمسيح لم يحل كل ما حرمه الله في التوراة، وإنما أحل بعض ما حرم عليهم، ولهذا كان هذا من الأوصاف المؤثرة في قتال النصارى، كما قال تعالى {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} [التوبة: 29]
وقد ذكر من لعن بعض طوائف النصارى لبعض في مجامعهم السبعة وغير مجامعهم ما يطول وصفه، ويصدق قوله تعالى: {فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة} [المائدة: 14]
وحينئذ فقول هؤلاء: (من خالفنا لعناه) كلام لا فائدة فيه، فإن كل طائفة منهم لاعنة ملعونة.
فليس في لعنتهم لمن خالفهم إحقاق حق ولا إبطال باطل، وإنما يحق الحق بالبراهين والآيات التي جاءت بها الرسل، كما قال تعالى: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذينءامنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} [البقرة: 213].
وقد تقدم ما ذكره " سعيد بن البطريق " من أخبارهم، أنه كان يأتي البترك العظيم منهم إلى كنيسة مبنية لصنم من الأصنام يعبده المشركون، فيحتال حتى يجعلهم يعبدون مكان الصنم مخلوقا أعظم منه، كملك من الملائكة أو نبي من الأنبياء، كما كان بالإسكندرية للمشركين كنيسة فيها صنم اسمه " ميكائيل " فجعلها النصارى كنيسة باسم " ميكائيل الملك " وصاروا يعبدون الملك بعد أن كانوا يعبدون الصنم ويذبحون له.
وهذا نقل لهم من الشرك بمخلوق إلى الشرك بمخلوق أعلى منه، أولئك كانوا يبنون الهياكل ويجعلون فيها الأصنام بأسماء الكواكب، كالشمس والزهرة وغير ذلك.
فنقلهم المبتدعون من النصارى إلى عبادة بعض الملائكة، أو بعض الأنبياء ولهذا قال تعالى: {ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون - ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون} [آل عمران: 79 - 80].
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|