|
|||||||
| ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم |
![]() |
|
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
|
|
#1
|
||||
|
||||
![]() فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية. سُورَةُ النساء المجلد السادس الحلقة( 223) من صــ 81 الى صـ 90 سمعت الناس يقولون شيئا فقلته} فلهذا قال {إلا من شهد بالحق وهم يعلمون}. وقد تقدم قول ابن عباس: يعني من قال " لا إله إلا الله " يعني: خالصا من قلبه. والأحاديث الصحيحة الواردة في الشفاعة كلها تبين: أن الشفاعة إنما تكون في أهل " لا إله إلا الله ". وقد ثبت في صحيح البخاري. {أن أبا هريرة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: يا أبا هريرة لقد ظننت أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث. أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة: من قال لا إله إلا الله خالصا من قبل نفسه}. فبين أن المخلص لها من قبل نفسه: هو أسعد بشفاعته صلى الله عليه وسلم من غيره ممن يقولها بلسانه وتكذبها أقواله وأعماله. فهؤلاء هم الذين شهدوا بالحق شهدوا " أن لا إله إلا الله " كما شهد الله لنفسه بذلك وملائكته وأولو العلم {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم}. فإذا شهدوا - وهم يعلمون - كانوا من أهل الشفاعة شافعين ومشفوعا لهم. فإن المؤمنين أهل التوحيد يشفع بعضهم في بعض كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة. كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: - في الحديث الطويل حديث التجلي والشفاعة - {حتى إذا خلص المؤمنون من النار. فوالذي نفسي بيده ما منكم من أحد بأشد مناشدة لله في استيفاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار. يقولون: ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون. فيقال لهم: أخرجوا من عرفتم. فتحرم صورهم على النار} - وذكر تمام الحديث ". وسبب نزول الآية - على ما ذكروه - مؤيد لما ذكره. قال أبو الفرج ابن الجوزي: سبب نزولها: أن النضر بن الحارث ونفرا معه قالوا " إن كان ما يقول محمد حقا. فنحن نتولى الملائكة. فهم أحق بالشفاعة من محمد. فنزلت هذه الآية " قاله مقاتل. وعلى هذا: فيقصد أن الملائكة وغيرهم لا يملكون الشفاعة. فليس توليكم إياهم واستشفاعكم بهم: بالذي يوجب أن يشفعوا لكم. فإن أحدا ممن يدعى من دون الله لا يملك الشفاعة. ولكن {من شهد بالحق وهم يعلمون} فإن الله يشفع فيه. فالذي تنال به الشفاعة: هي الشهادة بالحق. وهي شهادة أن لا إله إلا الله. لا تنال بتولي غير الله. لا الملائكة ولا الأنبياء ولا الصالحين. فمن والى أحدا من هؤلاء ودعاه وحج إلى قبره أو موضعه ونذر له وحلف به وقرب له القرابين ليشفع له: لم يغن ذلك عنه من الله شيئا. وكان من أبعد الناس عن شفاعته وشفاعة غيره. فإن الشفاعة إنما تكون: لأهل توحيد الله وإخلاص القلب والدين له. ومن تولى أحدا من دون الله فهو مشرك. فهذا القول والعبادة الذي يقصد به المشركون الشفاعة: يحرم عليهم الشفاعة. فالذين عبدوا الملائكة والأنبياء والأولياء والصالحين - ليشفعوا لهم - كانت عبادتهم إياهم وإشراكهم بربهم الذي به طلبوا شفاعتهم: به حرموا شفاعتهم وعوقبوا بنقيض قصدهم. لأنهم أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا. وكثير من أهل الضلال: يظن أن الشفاعة تنال بهذه الأمور التي فيها شرك أو هي شرك خالص كما ظن ذلك المشركون الأولون. وكما يظنه النصارى ومن ضل من المنتسبين إلى الإسلام. الذين يدعون غير الله ويحجون إلى قبره أو مكانه وينذرون له ويحلفون به. ويظنون: أنه بهذا يصير شفيعا لهم. قال تعالى {قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا} {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا}. قال طائفة من السلف: كان أقوام يعبدون المسيح والعزير والملائكة فبين الله أنهم لا يملكون كشف الضر عنهم ولا تحويله. كما بين أنهم لا يملكون الشفاعة. وهذا لا استثناء فيه وإن كان الله يجيب دعاءهم ثم قال {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا} فبين أن هؤلاء المزعومين الذين يدعونهم من دون الله كانوا يرجون رحمة الله ويخافون عذابه ويتقربون إليه بالأعمال الصالحة كسائر عباده المؤمنين وقد قال تعالى {ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون}. وللناس في الشفاعة أنواع من الضلال قد بسطت في غير هذا الموضع. فكثير منهم: يظن أن الشفاعة هي بسبب اتصال روح الشافع بروح المشفوع له كما ذكر ذلك أبو حامد الغزالي وغيره. ويقولون: من كان أكثر صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كان أحق بالشفاعة من غيره. وكذلك من كان أحسن ظنا بشخص وأكثر تعظيما له: كان أحق بشفاعته. وهذا غلط. بل هذا هو قول المشركين الذين قالوا: نتولى الملائكة ليشفعوا لنا. يظنون أن من أحب أحدا - من الملائكة والأنبياء والصالحين وتولاه - كان ذلك سببا لشفاعته له. وليس الأمر كذلك. بل الشفاعة: سببها توحيد الله وإخلاص الدين والعبادة بجميع أنواعها له فكل من كان أعظم إخلاصا كان أحق بالشفاعة كما أنه أحق بسائر أنواع الرحمة. فإن الشفاعة: من الله مبدؤها وعلى الله تمامها فلا يشفع أحد إلا بإذنه. وهو الذي يأذن للشافع. وهو الذي يقبل شفاعته في المشفوع له. وإنما الشفاعة سبب من الأسباب التي بها يرحم الله من يرحم من عباده. وأحق الناس برحمته: هم أهل التوحيد والإخلاص له فكل من كان أكمل في تحقيق إخلاص " لا إله إلا الله " علما وعقيدة وعملا وبراءة وموالاة ومعاداة: كان أحق بالرحمة. والمذنبون - الذين رجحت سيئاتهم على حسناتهم فخفت موازينهم فاستحقوا النار -: من كان منهم من أهل " لا إله إلا الله " فإن النار تصيبه بذنوبه. ويميته الله في النار إماتة. فتحرقه النار إلا موضع السجود. ثم يخرجه الله من النار بالشفاعة. ويدخله الجنة كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة. فبين أن مدار الأمر كله: على تحقيق كلمة الإخلاص وهي " لا إله إلا الله " لا على الشرك بالتعلق بالموتى وعبادتهم كما ظنه الجاهليون. وهذا مبسوط في غير هذا الموضع. والمقصود هنا: {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الحمد الذي هو رأس الشكر وبين التوحيد والاستغفار إذا رفع رأسه من الركوع فيقول ربنا ولك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد. أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد - وكلنا لك عبد -: لا مانع لما أعطيت. ولا معطي لما منعت. ولا ينفع ذا الجد منك الجد ثم يقول اللهم طهرني بالثلج والبرد والماء البارد. اللهم طهرني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس} كما رواه مسلم في الصحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذا رفع رأسه من الركوع - قال: اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد. أحق ما قال العبد - وكلنا لك عبد - لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت. ولا ينفع ذا الجد منك الجد}. وروى مسلم أيضا عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذا رفع رأسه من الركوع - قال: سمع الله لمن حمده. اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد. اللهم طهرني بالثلج والبرد والماء البارد. اللهم طهرني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الوسخ}. وقد روى مسلم في صحيحه أيضا {عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول اللهم لك الحمد وقال وملء الأرض وملء ما بينهما}. ولم يذكر في بعض الروايات. لأن " السموات والأرض " قد يراد بهما: العلو والسفل مطلقا. فيدخل في ذلك الهواء وغيره. فإنه عال بالنسبة إلى ما تحته وسافل بالنسبة إلى ما فوقه. فقد يجعل من السماء. كما يجعل السحاب سماء والسقف سماء. وكذا قال في القرآن {هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش} ولم يقل " وما بينهما " كما يقول {الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع}. فتارة يذكر قوله وما بينهما فيما خلقه في ستة أيام. وتارة لا يذكره. وهو مراد. فإن ذكره كان إيضاحا وبيانا وإن لم يذكره دخل في لفظ " السموات والأرض " ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم تارة يقول {ملء السموات وملء الأرض} ولا يقول " وما بينهما " وتارة يقول " وما بينهما " وفيها كلها {وملء ما شئت من شيء بعد} وفي رواية أبي سعيد {أحق ما قال العبد} إلى آخره. وفي رواية ابن أبي أوفى " الدعاء بالطهارة من الذنوب ". ففي هذا الحمد رأس الشكر والاستغفار. فإن ربنا غفور شكور. فالحمد بإزاء النعمة. والاستغفار: بإزاء الذنوب. وذلك تصديق قوله تعالى {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك}. ففي {سيد الاستغفار أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي} وفي حديث أبي سعيد {الحمد رأس الشكر والتوحيد} كما جمع بينهما في أم القرآن. فأولها تحميد وأوسطها: توحيد وآخرها: دعاء. وكما في قوله {هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين}. وفي حديث الموطأ {أفضل ما قلت. أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد. وهو على كل شيء قدير. من قالها: كتب الله له ألف حسنة. وحط عنه ألف سيئة وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك. ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل قال مثلها أو زاد عليه. ومن قال في يوم مائة مرة: سبحان الله وبحمده حطت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر}. وفضائل هذه الكلمات في أحاديث كثيرة: وفيها: التوحيد والتحميد. فقوله {لا إله إلا الله وحده لا شريك له} توحيد. وقوله {له الملك وله الحمد} تحميد. وفيها معان أخرى شريفة. وقد جاء الجمع بين التوحيد والتحميد والاستغفار في مواضع مثل حديث كفارة المجلس {سبحانك اللهم وبحمدك. أشهد أن لا إله إلا أنت. أستغفرك وأتوب إليك} فيه: التسبيح والتحميد والتوحيد والاستغفار. من قالها في مجلس إن كان مجلس لغط كانت كفارة له وإن كان مجلس ذكر: كانت كالطابع له. وفي حديث أيضا " إن هذا يقال عقب الوضوء ". ففي الحديث الصحيح في مسلم وغيره من حديث عقبة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية. يدخل من أيها شاء} وفي حديث آخر أنه يقول {سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك}. وقد روي عن طائفة من السلف في الكلمات التي تلقاها آدم من ربه نحو هذه الكلمات. روى ابن جرير عن مجاهد أنه قال " اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك. رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي. إنك خير الغافرين. اللهم لا إله إلا أنت. سبحانك وبحمدك. رب إني ظلمت نفسي فارحمني. فأنت خير الراحمين. لا إله إلا أنت. سبحانك وبحمدك. رب إني ظلمت نفسي فتب علي. إنك أنت التواب الرحيم ".
__________________
|
|
#2
|
||||
|
||||
![]() فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية. سُورَةُ النساء المجلد السادس الحلقة( 224) من صــ 91 الى صـ 100 فهذه الكلمات من جنس خاتمة الوضوء. وخاتمة الوضوء: فيها التسبيح والتحميد والتوحيد والاستغفار. فالتسبيح والتحميد والتوحيد لله. فإنه لا يأتي بالحسنات إلا هو. والاستغفار من ذنوب النفس التي منها تأتي السيئات. وقد قرن الله في كتابه بين التوحيد والاستغفار في غير موضع كقوله {فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات} وفي قوله {ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير} {وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه} وفي قوله {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه}. وفي حديث رواه ابن أبي عاصم وغيره {يقول الشيطان: أهلكت الناس بالذنوب وأهلكوني بالاستغفار وبلا إله إلا الله فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الأهواء. فهم يذنبون ولا يستغفرون. لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا}. و " لا إله إلا الله " تقتضي الإخلاص والتوكل. والإخلاص يقتضي الشكر. فهي أفضل الكلام. وهي أعلى شعب الإيمان. كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال {الإيمان بضع وستون - أو بضع وسبعون - شعبة. أعلاها: قول لا إله إلا الله. وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان}. ف " لا إله إلا الله " هي قطب رحى الإيمان وإليها يرجع الأمر كله. والكتب المنزلة: مجموعة في قوله تعالى {إياك نعبد وإياك نستعين} وهي معنى " لا إله إلا الله " و " لا حول ولا قوة إلا بالله " هي من معنى " لا إله إلا الله " و " الحمد لله " في معناها و " سبحان الله والله أكبر " من معناها. لكن فيها تفصيل بعد إجمال. فصل: وقد ظن بعض المتأخرين: أن معنى قوله {فمن نفسك} أي أفمن نفسك؟ وأنه استفهام على سبيل الإنكار ومعنى كلامه: أن الحسنات والسيئات كلها من الله لا من نفسك. وهذا القول يباين معنى الآية. فإن الآية بينت أن السيئات من نفس الإنسان. أي بذنوبه. وهؤلاء يقولون: ليست السيئات من نفسه. وممن ذكر ذلك: أبو بكر بن فورك. فإنه قال: معناه: أفمن نفسك؟ يدل عليه قول الشاعر: ثم قالوا: تحبها؟ قلت: بهرا ... عدد الرمل والحصى والتراب قلت: وإضمار الاستفهام - إذا دل عليه الكلام - لا يقتضي جواز إضماره في الخبر المخصوص من غير دلالة. فإن هذا يناقض المقصود. ويستلزم أن كل من أراد أن ينفي ما أخبر الله به يقدر أن ينفيه بأن يقدر في خبره استفهاما. ويجعله استفهام إنكار. وهذا من جهة العربية نظير ما زعمه بعضهم في قول إبراهيم عليه السلام " هذا ربي " أهذا ربي؟ قال ابن الأنباري: هذا القول شاذ. لأن حرف الاستفهام لا يضمر إذا كان فارقا بين الإخبار والاستخبار. وهؤلاء استشهدوا بقوله {أفإن مت فهم الخالدون}. وهذا لا حجة فيه. لأنه قد تقدم الاستفهام في أول الجملة في الجملة الشرطية {وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد} فلم يحتج إلى ذكره ثانية. بل ذكره يفسد الكلام. ومثله قوله {أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم} وقوله {أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم} وقوله {أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم} وهذا من فصيح الكلام وبليغه. واستشهدوا بقوله: لعمرك لا أدري وإن كنت داريا ... بسبع رمين الجمر أم بثمان؟ وقوله: كذبتك عينك أم رأيت بواسط ... غلس الظلام من الرباب خيالا؟ تقديره: أكذبتك عينك؟ . وهذا لا حجة فيه. لأن قوله فيما بعد " أم بثمان " و " أم رأيت " يدل على الألف المحذوفة في البيت الأول. وأما الثاني: فإن كانت " أم " هي المتصلة فكذلك. وإن كانت هي المنفصلة. فالخبر على بابه. وهؤلاء مقصودهم: أن النفس لا تأثير لها في وجود السيئات. وليست سببا فيها. بل قد يقولون: إن المعاصي علامة محضة على العقوبة لاقترانها بها. لا أنها سبب لها. وهذا مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف وللعقل. والقرآن يبين في غير موضع: أن الله لم يهلك أحدا ولم يعذبه إلا بذنب. فقال هنا {وما أصابك من سيئة فمن نفسك} وقال لهم في شأن أحد {أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم} وقال تعالى {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} وقال تعالى في سورة الشورى أيضا {وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور}. وقال تعالى {قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون} وقال تعالى {وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون} {ذكرى وما كنا ظالمين} وقال تعالى {وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون} وقال تعالى {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون} وقال تعالى {ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون} وقال تعالى {أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير} وقال تعالى في سورة القلم عن أهل الجنة الذين ضرب بهم المثل لما أهلكها بذلك العذاب {ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون} وقال تعالى {مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون}. وقال تعالى عن أهل سبأ {فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم} - إلى قوله - {ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور} وقال تعالى {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد} وقال تعالى {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} وفي الحديث الصحيح الإلهي {يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها. فمن وجد خيرا: فليحمد الله. ومن وجد غير ذلك: فلا يلومن إلا نفسه}. وفي سيد الاستغفار {أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي} وقال تعالى {وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون}. والحمد لله وحده وصلى الله على عبد الله ورسوله محمد وآله وصحبه وسلم. ورضي الله عن الصحابة أجمعين وعن التابعين وتابعي التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. سئل الشيخ الإمام العلامة أبو العباس أحمد ابن تيمية - رضي الله عنه -: عن قول علي رضي الله عنه لا يرجون عبد إلا ربه، ولا يخافن إلا ذنبه ما معنى ذلك؟ فأجاب: الحمد لله، هذا الكلام يؤثر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه وهو من أحسن الكلام وأبلغه وأتمه؛ فإن الرجاء يكون للخير والخوف يكون من الشر والعبد إنما يصيبه الشر بذنوبه كما قال تعالى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} وقال تعالى: {أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا} {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك}. فإن كثيرا من الناس يظن أن المراد بالحسنات والسيئات في هذه الآية الطاعات والمعاصي. ثم " المثبتة للقدر " يحتجون بقوله: {كل من عند الله} فيعارضهم قوله: {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك}. و " نفاة القدر " يحتجون بهذه الثانية مع غلطهم في ذلك؛ فإن مذهبهم: أن العبد يخلق جميع أعماله ويعارضهم قوله: {كل من عند الله}. وإنما غلط كلا الفريقين؛ لما تقدم من ظنهم أن الحسنات والسيئات هي الطاعات والمعاصي وإنما الحسنات والسيئات في هذه الآية النعم والمصائب كما في قوله تعالى {وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون} وقوله تعالى {فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه} وقوله تعالى {إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها} وقوله تعالى {وقهم السيئات} ونحو ذلك. وهذا كثير. وهذه الآية ذم الله بها المنافقين الذين ينكلون عما أمر الله به من الجهاد وغيره فإذا نالهم رزق ونصر وعافية قالوا: {هذا من عند الله} وإن نالهم فقر وذل ومرض قالوا: {هذه من عندك} - يا محمد - بسبب الدين الذي أمرتنا به كما قال قوم فرعون لموسى: وذكر الله ذلك عنهم بقوله تعالى: {فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه} وكما قال الكفار لرسل عيسى: {إنا تطيرنا بكم}. فالكفار والمنافقون إذا أصابتهم المصائب بذنوبهم تطيروا بالمؤمنين فبين الله سبحانه أن الحسنة من الله ينعم بها عليهم وأن السيئة إنما تصيبهم بذنوبهم ولهذا قال تعالى: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} فأخبر أنه لا يعذب مستغفرا؛ لأن الاستغفار يمحو الذنب الذي هو سبب العذاب فيندفع العذاب كما في سنن أبي داود وابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من أكثر الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ورزقه من حيث لا يحتسب} وقد قال تعالى: {ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير} {وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله}. فبين أن من وحده واستغفره متعه متاعا حسنا إلى أجل مسمى ومن عمل بعد ذلك خيرا زاده من فضله وفي الحديث: {يقول الشيطان: أهلكت الناس بالذنوب وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار. فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الأهواء فهم يذنبون ولا يتوبون؛ لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا}. ولهذا قال تعالى: {فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون} {فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا} أي فهلا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا فحقهم عند مجيء البأس التضرع وقال تعالى: {ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون} قال عمر بن عبد العزيز: ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة ولهذا قال تعالى: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} {فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم} {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين}. فنهى المؤمنين عن خوف أولياء الشيطان وأمرهم بخوفه وخوفه يوجب فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه والاستغفار من الذنوب وحينئذ يندفع البلاء وينتصر على الأعداء فلهذا قال علي رضي الله عنه لا يخافن عبد إلا ذنبه. وإن سلط عليه مخلوق فما سلط عليه إلا بذنوبه فليخف الله وليتب من ذنوبه التي ناله بها ما ناله كما في الأثر {يقول الله: أنا الله مالك الملوك قلوب الملوك ونواصيهم بيدي من أطاعني جعلتهم عليه رحمة ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة فلا تشتغلوا بسب الملوك وأطيعوني أعطف قلوبهم عليكم}.
__________________
|
|
#3
|
||||
|
||||
![]() فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية. سُورَةُ النساء المجلد السادس الحلقة( 225) من صــ 101 الى صـ 110 وأما قوله: لا يرجون عبد إلا ربه. فإن الراجي يطلب حصول الخير ودفع الشر ولا يأتي بالحسنات إلا الله ولا يذهب السيئات إلا الله {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله} {ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده} والرجاء مقرون بالتوكل فإن المتوكل يطلب ما رجاه من حصول المنفعة ودفع المضرة والتوكل لا يجوز إلا على الله كما قال تعالى: {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين} وقال: {وعلى الله فليتوكل المتوكلون} وقال تعالى: {إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون} وقال تعالى: {ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون} وقال تعالى: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل}. فهؤلاء قالوا: حسبنا الله أي كافينا الله في دفع البلاء وأولئك أمروا أن يقولوا: حسبنا في جلب النعماء فهو سبحانه كاف عبده في إزالة الشر وفي إنالة الخير أليس الله بكاف عبده ومن توكل على غير الله ورجاه خذل من جهته وحرم {مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت}. {واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا} {كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا} {ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق} {لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا}. وقال الخليل: {فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون}. فمن عمل لغير الله رجاء أن ينتفع بما عمل له كانت صفقته خاسرة قال الله تعالى: {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب} وقال تعالى: {مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء} وقال تعالى: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا} وقال تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه} كما قيل في تفسيرها كل عمل باطل إلا ما أريد به وجهه فمن عمل لغير الله ورجاه بطل سعيه والراجي يكون راجيا تارة بعمل يعمله لمن يرجوه وتارة باعتماد قلبه عليه والتجائه إليه وسؤاله فذاك نوع من العبادة له وهذا نوع من الاستعانة به وقد قال تعالى: {إياك نعبد وإياك نستعين} وقال: {فاعبده وتوكل عليه} وقال: {قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب}. ومما يوضح ذلك أن كل خير ونعمة تنال العبد فإنما هي من الله وكل شر ومصيبة تندفع عنه أو تكشف عنه فإنما يمنعها الله؛ وإنما يكشفها الله وإذا جرى ما جرى من أسبابها على يد خلقه فالله سبحانه هو خالق الأسباب كلها سواء كانت الأسباب حركة حي باختياره وقصده كما يحدثه تعالى بحركة الملائكة والجن والإنس والبهائم أو حركة جماد بما جعل الله فيه من الطبع أو بقاسر يقسره كحركة الرياح والمياه ونحو ذلك فالله خالق ذلك كله فإنه لا حول ولا قوة إلا به وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فالرجاء يجب أن يكون كله للرب والتوكل عليه والدعاء له فإنه إن شاء ذلك ويسره كان وتيسر ولو لم يشأ الناس وإن لم يشأه ولم ييسره لم يكن؛ وإن شاءه الناس. وهذا واجب لو كان شيء من الأسباب مستقلا بالمطلوب فإنه لو قدر مستقلا بالمطلوب - وإنما يكون بمشيئة الله وتيسيره - لكان الواجب أن لا يرجى إلا الله ولا يتوكل إلا عليه ولا يسأل إلا هو ولا يستعان إلا به ولا يستغاث إلا هو فله الحمد وإليه المشتكى وهو المستعان وهو المستغاث ولا حول ولا قوة إلا به فكيف وليس شيء من الأسباب مستقلا بمطلوب بل لا بد من انضمام أسباب أخر إليه ولا بد أيضا من صرف الموانع والمعارضات عنه حتى يحصل المقصود. فكل سبب فله شريك وله ضد فإن لم يعاونه شريكه ولم يصرف عنه ضده لم يحصل سببه فالمطر وحده لا ينبت النبات إلا بما ينضم إليه من الهواء والتراب وغير ذلك ثم الزرع لا يتم حتى تصرف عنه الآفات المفسدة له والطعام والشراب لا يغذي إلا بما جعل في البدن من الأعضاء والقوى ومجموع ذلك لا يفيد إن لم تصرف المفسدات والمخلوق الذي يعطيك أو ينصرك فهو - مع أن الله يخلق فيه الإرادة والقوة والفعل - فلا يتم ما يفعله إلا بأسباب كثيرة خارجة عن قدرته تعاونه على مطلوبه ولو كان ملكا مطاعا ولا بد أن يصرف عن الأسباب المعاونة ما يعارضها ويمانعها فلا يتم المطلوب إلا بوجود المقتضي وعدم المانع وكل سبب معين فإنما هو جزء من المقتضي فليس في الوجود شيء واحد هو مقتضيا وإن سمي مقتضيا وسمي سائر ما يعينه شروطا فهذا نزاع لفظي. وحينئذ فيقال: لا بد من وجود المقتضي والشروط وانتفاء الموانع وإما أن يكون في المخلوقات علة تامة تستلزم معلولها فهذا باطل. ومن عرف هذا حق المعرفة انفتح له باب توحيد الله وعلم أنه لا يستحق لأن يدعى غيره فضلا عن أن يعبد غيره ولا يتوكل على غيره ولا يرجى غيره وهذا مبرهن بالشرع والعقل ولا فرق في ذلك بين الأسباب العلوية والسفلية وأفعال الملائكة والأنبياء والمؤمنين وشفاعتهم وغير ذلك من الأسباب فإن من توكل في الشفاعة أو الدعاء على ملك أو نبي أو رجل صالح أو نحو ذلك قيل له: هذا أيضا سبب من الأسباب فهذا الشافع والداعي لا يفعل ذلك إلا بمشيئة الله وقدرته بل شفاعة أهل طاعته لا تكون إلا لمن يرضاه. كما قال تعالى: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى}. فليس أحد يشفع عنده إلا بإذنه الإذن القدري الكوني فإن شفاعته من جهة أفعال العباد لا تكون إلا بمشيئته وقدرته فليس كالمخلوق الذي يشفع إليه شافع تكون شفاعته بغير حول المشفوع إليه وقوته بل هو سبحانه خالق شفاعة الشافع كسائر التحولات ولا حول ولا قوة إلا به. (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا (82) [الرد على النصارى في دعواهم أن كلام الرسول متناقض] وإن قالوا: كلامه متناقض ونحن نحتج بما يوافق قولنا، إذ مقصودنا بيان تناقضه. قيل لهم عن هذا أجوبة: أحدها: أنه في الكتب المتقدمة مما يظن أنه متعارض أضعاف ما في القرآن وأقرب إلى التناقض، فإذا كانت تلك الكتب متفقة لا تناقض فيها، وإنما يظن تناقضها من يجهل معانيها ومراد الرسل فيكون كما قيل: وكم من عائب قولا صحيحا ... وآفته من الفهم السقيم فكيف القرآن الذي هو أفضل الكتب؟ الثاني: أنهم متمسكون بالمتشابه في تلك الكتب، ومخالفون المحكم منها كما فعلوه بالقرآن وأبلغ. الثالث: أنه إذا كان ما جاء به متناقضا لم يكن رسول الله، فإن ما جاء به من عند الله لا يكون مختلفا متناقضا، وإنما يتناقض ما جاء من عند غير الله، قال تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} [النساء: 82]. فكل كتاب ليس من عند الله لا بد أن يكون فيه تناقض، وما كان من عند الله لا يتناقض، وحينئذ فإن كان متناقضا لم يجز لهم الاحتجاج بشيء منه ; فإنه ليس من عند الله، وإن لم يكن متناقضا ثبت أن ما فيه من عموم رسالته، وأنه رسول إليهم، فليس فيه شيء يناقضه، فإن ما جاء من عند الله لا يتناقض. الرابع: أنا نبين أن ما فيه من عموم رسالته لا ينافي ما فيه من أنه أرسل إلى العرب، كما أن ما فيه من إنذار عشيرته الأقربين، وأمر قريش لا ينافي ما فيه من دعوة سائر العرب ; فإن تخصيص بعض العام بالذكر إذا كان له سبب يقتضي التخصيص لم يدل على أن ما سوى المذكور مخالفة، وهذا الذي يسمى مفهوم المخالفة ودليل الخطاب. والناس كلهم متفقون على أن التخصيص بالذكر متى كان له سبب يوجب الذكر غير الاختصاص بالحكم لم يكن للاسم اللقب مفهوم، بل ولا للصفة كقوله تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق} [الإسراء: 31]. فإنه نهاهم عن ذلك ; لأنه هو الذي كانوا يفعلونه، وقد حرم في موضع آخر قتل النفس بغير الحق، سواء كان ولدا، أو غيره، ولم يكن ذلك مناقضا لتخصيص الولد بالذكر. الخامس: أنه في ذلك أسوة بالمسيح عليه السلام فإن المسيح خص أولا بالدعوة، ثم عم، كما قيل في الإنجيل: ما بعثت وأرسلت إلا لبني إسرائيل. وقال أيضا في الإنجيل: ما بعثت إلا لهذا الشعب الخبيث. ثم عم، فقال لتلامذته حين أرسلهم كما في الإنجيل: كما بعثني أبي أبعث بكم، فمن قبلكم فقد قبلني. وقال: أرسلني أبي، وأنا أرسلكم. وقال: كما أفعل أنا بكم، كذلك افعلوا أنتم بعباد الله فسيروا في البلاد، وعمدوا الناس باسم الأب والابن والروح القدس، ولا يكون لأحدكم ثوبان، ولا يحمل معه فضة ولا ذهبا ولا عصا ولا حرابة ونحو ذلك مما هو في الأناجيل التي بين أيديهم من تخصيص الدعوة ثم تعميمها، وهو صادق في ذلك كله، فكيف يسوغ لهم إنكار ما في الإنجيل عن المسيح نظيره؟ ثم يقال في بيان الحال: إن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم، كما بعث المسيح وغيره، وإن كانت رسالته أكمل وأشمل كما نذكر في موضعه، فأمره بتبليغ رسالته بحسب الإمكان إلى طائفة بعد طائفة، وأمر بتبليغ الأقرب منه مكانا ونسبا، ثم بتبليغ طائفة بعد طائفة ; حتى تبلغ النذارة إلى جميع أهل الأرض، كما قال تعالى: {وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ} [الأنعام: 19]. أي من بلغه القرآن فكل من بلغه القرآن فقد أنذره محمد صلى الله عليه وسلم. ونبين هنا أن النذارة ليست مختصة بمن شافههم بالخطاب، بل ينذرهم به وينذر من بلغهم القرآن، فأمره الله تبارك وتعالى أولا بإنذار عشيرته الأقربين وهو قريش، فقال تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين} [الشعراء: 214]. ولما أنزل الله عليه هذه الآية انطلق صلى الله عليه وسلم إلى مكان عال فعلا عليه، ثم جعل ينادي: «يا بني عبد مناف إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو فانطلق يريد أهله فخشي أن يسبقوه، فجعل يهتف يا صباحاه يا صباحاه». وهذه القصة رواها ابن عباس وأبو هريرة وعائشة وغيرهم في الصحيحين وغيرهما من كتب السنن والمسانيد والتفسير. قال ابن عباس: لما «نزلت هذه الآية: {وأنذر عشيرتك الأقربين} [الشعراء: 214]. ورهطك منهم المخلصين، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا، فجعل ينادي: يا بني فهر، يا بني عدي لبطون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو؟ فاجتمعوا إليه فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقا، ما جربنا عليك كذبا. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. وقال أبو هريرة: لما نزلت هذه الآية: {وأنذر عشيرتك الأقربين} [الشعراء: 214]. دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا، فاجتمعوا، فعم وخص، فقال: يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار،فإني لا أملك لكم من الله شيئا غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها». وقالت عائشة رضي الله عنها لما نزلت هذه الآية: {وأنذر عشيرتك الأقربين} [الشعراء: 214]. «قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا، فقال: يا فاطمة بنت محمد، يا صفية عمة رسول الله، يا عباس عم رسول الله لا أملك لكم من الله شيئا». وقال ابن إسحاق: «لما نزلت هذه الآية جعل النبي صلى الله عليه وسلم ينادي: يا بني عبد المطلب، يا بني عبد مناف، يا بني زهرة حتى عدد الأفخاذ من قريش، ثم قال: إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، وإني لا أملك لكم من الله شيئا إلا أن تقولوا لا إله إلا الله»، فقال أبو لهب: ألهذا جمعتنا؟
__________________
|
|
#4
|
||||
|
||||
![]() فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية. سُورَةُ النساء المجلد السادس الحلقة( 226) من صــ 111 الى صـ 120 تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ - مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ - سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ - وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ - فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد: 1 - 5]. وَدَعَا قُرَيْشًا إِلَى اللَّهِ، وَأَمَرَهُمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنْزَلَ تَعَالَى: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ - إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ - فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ - الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 1 - 4]. وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَمْرَ جَمِيعِ الْخَلْقِ بِعِبَادَتِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21]. وَقَوْلِهِ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. وَقُرَيْشٌ هُمْ قَوْمُهُ الَّذِينَ كَذَّبَهُ جُمْهُورُهُمْ أَوَّلًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} [الأنعام: 66]. كما أن جمهور بني إسرائيل وهم قوم المسيح كذبوه أولا. ثم أمره الله تعالى أن يدعو سائر العرب، فكان يخرج بنفسه ومعه أبو بكر صديقه إلى قبائل العرب قبيلة قبيلة، وكانت العرب لم تزل تحج البيت من عهد إبراهيم الخليل عليه السلام، فكان صلى الله عليه وسلم يأتيهم في منازلهم بمنى، وعكاظ، ومجنة، وذي المجاز، فلا يجد أحدا إلا دعاه إلى الله، ويقول: «يا أيها الناس، إني رسول الله آمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وأن تخلعوا ما يعبد من دونه من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا بي وتصدقوني وتمنعوني ; حتى أبين عن الله ما بعثني به، يا أيها الناس إن قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي فمن يمنعني أن أبلغ كلام ربي إلا رجل يحملني إلى قومه، فإن قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي، يا أيها الناس، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، وتملكوا بها العرب، وتذل لكم بها العجم» فيقولون: يا محمد أتريد أن تجعل الآلهة إلها واحدا؟ إن أمرك هذا لعجب. وما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلن دعوته، ويظهر رسالته، ويدعو الخلق إليها، وهم يؤذونه ويجادلونه ويكلمونه، ويردون عليه بأقبح الرد، وهو صابر على أذاهم، ويقول: «اللهم لك الحمد لو شئت لم يكونوا هكذا». فلما اشتد عليه أمر قريش خرج إلى الطائف وهي مدينة معروفة شرقي مكة بينهما نحو ليلتين ومعه زيد بن حارثة، ومكث بها عشرة أيام لا يدع أحدا من أشرافهم إلا جاءه في منزله وكلمه ودعاه إلى التوحيد، فلم يجبه أحد منهم، وخافوه على أحداثهم، وأغروا به سفهاءهم فجعلوا يرمونه بالحجارة إذا مشى حتى أن رجليه لتدميان، وزيد مولاه يقيه بنفسه حتى ألجئوا إلى ظل كرمة في حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة فرجع عنه ما كان تبعه من سفهائهم، فدعا، فقال: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك». فلما رأى ابنا ربيعة ما صنع به رثيا له، وقالا لغلام لهما يقال له عداس - وكان نصرانيا -: خذ قطفا من عنب، ثم اجعله في طبق، ثم اذهب إلى ذلك الرجل يأكله، ففعل عداس وأقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده، قال: بسم الله، ثم أكل فنظر عداس إلى وجهه، ثم قال له: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أي البلاد أنت؟ وما دينك؟ فقال عداس: أنا نصراني، وأنا رجل من أهل نينوى، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟ فقال له عداس: وما يدريك ما يونس بن متى؟ والله لقد خرجت من نينوى، وما فيها عشرة يعرفون متى، من أين عرفت أنت متى وأنت أمي وفي أمة أمية؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو أخي كان نبيا وأنا نبي، فأكب عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل رأسه ويديه ورجليه، فلما رجع عداس فقالا: ويلك يا عداس، مالك تقبل رأس هذا الرجل ويديه ورجليه، فقال: يا سيدي، ما في الأرض خير من هذا الرجل، لقد خبرني بأمر لا يعلمه إلا نبي. ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف راجعا إلى مكة وهو محزون، إذ لم يستجب له رجل واحد ولا امرأة، فقال له زيد بن حارثة: كيف تدخل عليهم يا رسول الله وقد فعلوا وفعلوا، فقال: يا زيد، إن الله عز وجل جاعل لما ترى فرجا ومخرجا، وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه. ثم ذكر ابن إسحاق دخوله إلى مكة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما لقي من أهل مكة والطائف ما لقي ودعا بالدعاء المتقدم نزل عليه جبريل ومعه ملك الجبال - كما في صحيح البخاري - أن عائشة رضي الله عنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: «هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال: لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت، فإذا فيها جبريل فناداني: إن الله قد سمع قول قومك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. قال: فناداني ملك الجبال وسلم علي، ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال قد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا شريك له». وأخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة: أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: «ادع الله على المشركين، فقال: إني لم أبعث لعانا، وإنما بعثت رحمة». وفي الصحيحين: عن خباب بن الأرت، أنه قال: «لما اشتد البلاء علينا من المشركين أتينا النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: ألا تدعو الله لنا؟ ألا تستنصر الله لنا؟ فقال: لقد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، ثم يجاء بالمنشار فيجعل فوق رأسه حتى يجعل فرقتين، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم وعصب، ما يصرفه عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله ولكنكم تستعجلون». وذكر ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من قومه من الأذى والاستهزاء والإغراء وهو صابر محتسب، مظهر لأمر الله بتبليغ رسالته، لا تأخذه في الله لومة لائم، مواجه لقومه بما يكرهون من عيب دينهم وآلهتهم، وتضليل آبائهم، وتسفيه أحلامهم، وإظهار عداوته، وقتاله إياهم ما بلغ مبلغ القطع. قال عكرمة، عن ابن عباس: «ولما رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة فلما حضر الموسم حج نفر من الأنصار، فانتهى النبي صلى الله عليه وسلم إلى فريق منهم، فقرأ عليهم القرآن، ودعاهم إلى الله، وأخبرهم بالذي آتاه الله فأيقنوا واطمأنت قلوبهم إلى دعوته، وعرفوا ما كانوا يسمعون من أهل الكتاب من ذكرهم إياه بصفته، وما يدعوهم إليه فصدقوه وآمنوا به، وكان من أسباب الخير الذي ساق الله للأنصار إلى ما كانوا يسمعون من الأخبار في صفته، فلما رجعوا إلى قومهم جعلوا يدعونهم سرا، ويخبرونهم بأقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي بعثه الله به من النور والهدى والقرآن، فأسلموا حتى قل أن يوجد دار من دورهم إلا أسلم فيها ناس لا محالة». وقد ذكر الله ذلك في القرآن، وأخبر أن أهل الكتاب كانوا يخبرون العرب به ويستفتحون به عليهم، فكان أهل الكتاب مقرين بنبوته مخبرين بها مبشرين بها قبل أن يبعث، فقال تعالى فيما يخاطب به أهل الكتاب: {ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون - وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون - ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين - بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين - وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين} [البقرة: 87 - 91]. فقد أخبر تعالى أن أهل الكتاب كانوا يستفتحون على العرب بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث - أي يستنصرون به - وكانوا هم والعرب يقتتلون فيغلبهم العرب، فيقولون: سوف يبعث النبي الأمي من ولد إسماعيل فنتبعه ونقتلكم معه شر قتلة، وكانوا ينعتونه بنعوته. وأخبارهم بذلك كثيرة متواترة، وكما قال تعالى: {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين} [البقرة: 89]. وأخبر بما كانت عليه اليهود من أنه كلما جاءهم رسول الله بما لا تهوى أنفسهم كذبوا بعضهم وقتلوا بعضهم، وأخبر أنهم باءوا بغضب على غضب ; فإنهم ما زالوا يفعلون ما يغضب الله عليهم، فإما أن يراد بالتثنية تأكيد غضب الله عليهم، وإما أن يراد به مرتان، والغضب الأول: تكذيبهم المسيح والإنجيل، والغصب الثاني: لمحمد والقرآن. (فصل في أن نفي علم التأويل ليس نفيا لعلم المعنى) ونزيده تقريرا أن الله سبحانه يقول: {ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون} {قرءانا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون} وقال تعالى: {الر تلك آيات الكتاب المبين} {إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون} فأخبر أنه أنزله ليعقلوه وأنه طلب تذكرهم. وقال أيضا: {وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون} فحض على تدبره وفقهه وعقله والتذكر به والتفكر فيه ولم يستثن من ذلك شيئا؛ بل نصوص متعددة تصرح بالعموم فيه مثل قوله {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} وقوله {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} ومعلوم أن نفي الاختلاف عنه لا يكون إلا بتدبره كله وإلا فتدبر بعضه لا يوجب الحكم بنفي مخالفه ما لم يتدبر لما تدبر. وقال علي رضي الله عنه لما قيل له: هل ترك عندكم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا؟ فقال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه وما في هذه الصحيفة. فأخبر أن الفهم فيه مختلف في الأمة والفهم أخص من العلم والحكم قال الله تعالى: {ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما} وقال النبي صلى الله عليه وسلم {رب مبلغ أوعى من سامع} وقال {بلغوا عني ولو آية}. وأيضا فالسلف من الصحابة والتابعين وسائر الأمة قد تكلموا في جميع نصوص القرآن آيات الصفات وغيرها وفسروها بما يوافق دلالتها وبيانها ورووا عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة توافق القرآن وأئمة الصحابة في هذا أعظم من غيرهم مثل عبد الله بن مسعود الذي كان يقول: لو أعلم أعلم بكتاب الله مني تبلغه آباط الإبل لأتيته. وعبد الله بن عباس الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم وهو حبر الأمة وترجمان القرآن كانا هما وأصحابهما من أعظم الصحابة والتابعين إثباتا للصفات ورواية لها عن النبي صلى الله عليه وسلم ومن له خبرة بالحديث والتفسير يعرف هذا وما في التابعين أجل من أصحاب هذين السيدين بل وثالثهما في علية التابعين من جنسهم أو قريب منهم ومثلهما في جلالته جلالة أصحاب زيد بن ثابت؛ لكن أصحابه مع جلالتهم ليسوا مختصين به بل أخذوا عن غيره مثل عمر وابن عمر وابن عباس. ولو كان معاني هذه الآيات منفيا أو مسكوتا عنه لم يكن ربانيو الصحابة أهل العلم بالكتاب والسنة أكثر كلاما فيه. ثم إن الصحابة نقلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يتعلمون منه التفسير مع التلاوة ولم يذكر أحد منهم عنه قط أنه امتنع من تفسير آية. قال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل قالوا فتعلمنا القرآن والعلم والعمل.
__________________
|
|
#5
|
||||
|
||||
![]() فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية. سُورَةُ النساء المجلد السادس الحلقة( 227) من صــ 121 الى صـ 120 وسئل شيخ الإسلام: عن رجل سمع كتب الحديث والتفسير وإذا قرئ عليه " كتاب الحلية " لم يسمعه فقيل له: لم لا تسمع أخبار السلف؟ فقال: لا أسمع من كتاب أبي نعيم شيئا. فقيل: هو إمام ثقة شيخ المحدثين في وقته فلم لا تسمع ولا تثق بنقله؟ فقيل له: بيننا وبينك عالم الزمان وشيخ الإسلام ابن تيمية في حال أبي نعيم؟ فقال: أنا أسمع ما يقول شيخ الإسلام وأرجع إليه. فأرسل هذا السؤال من دمشق فأجاب فيه الشيخ: الحمد لله رب العالمين، أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني صاحب كتاب " حلية الأولياء " " وتاريخ أصبهان " " والمستخرج على البخاري ومسلم " و " كتاب الطب " " وعمل اليوم والليلة " و " فضائل الصحابة " و " دلائل النبوة " و " صفة الجنة " و " محجة الواثقين " وغير ذلك من المصنفات: من أكبر حفاظ الحديث ومن أكثرهم تصنيفات وممن انتفع الناس بتصانيفه وهو أجل من أن يقال له: ثقة؛ فإن درجته فوق ذلك وكتابه " كتاب الحلية " من أجود الكتب المصنفة في أخبار الزهاد والمنقول فيه أصح من المنقول في رسالة القشيري ومصنفات أبي عبد الرحمن السلمي شيخه ومناقب الأبرار لابن خميس وغير ذلك؛ فإن أبا نعيم أعلم بالحديث وأكثر حديثا وأثبت رواية ونقلا من هؤلاء ولكن كتاب الزهد للإمام أحمد والزهد لابن المبارك وأمثالهما أصح نقلا من الحلية. وهذه الكتب وغيرها لا بد فيها من أحاديث ضعيفة وحكايات ضعيفة بل باطلة وفي الحلية من ذلك قطع ولكن الذي في غيرها من هذه الكتب أكثر مما فيها؛ فإن في مصنفات أبي عبد الرحمن السلمي؛ ورسالة القشيري؛ ومناقب الأبرار؛ ونحو ذلك من الحكايات الباطلة بل ومن الأحاديث الباطلة: ما لا يوجد مثله في مصنفات أبي نعيم ولكن " صفوة الصفوة " لأبي الفرج ابن الجوزي نقلها من جنس نقل الحلية والغالب على الكتابين الصحة ومع هذا ففيهما أحاديث وحكايات باطلة وأما الزهد للإمام أحمد ونحوه فليس فيه من الأحاديث والحكايات الموضوعة مثل ما في هذه؛ فإنه لا يذكر في مصنفاته عمن هو معروف بالوضع بل قد يقع فيها ما هو ضعيف بسوء حفظ ناقله وكذلك الأحاديث المرفوعة ليس فيها ما يعرف أنه موضوع قصد الكذب فيه كما ليس ذلك في مسنده لكن فيه ما يعرف أنه غلط غلط فيه رواته ومثل هذا يوجد في غالب كتب الإسلام فلا يسلم كتاب من الغلط إلا القرآن. وأجل ما يوجد في الصحة " كتاب البخاري " وما فيه متن يعرف أنه غلط على الصاحب لكن في بعض ألفاظ الحديث ما هو غلط وقد بين البخاري في نفس صحيحه ما بين غلط ذلك الراوي كما بين اختلاف الرواة في ثمن بعير جابر وفيه عن بعض الصحابة ما يقال: إنه غلط كما فيه عن ابن عباس: {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم} والمشهور عند أكثر الناس أنه تزوجها حلالا. وفيه عن أسامة: {أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل في البيت}. وفيه عن بلال: أنه صلى فيه وهذا أصح عند العلماء. وأما مسلم ففيه ألفاظ عرف أنها غلط كما فيه: {خلق الله التربة يوم السبت} وقد بين البخاري أن هذا غلط وأن هذا من كلام كعب وفيه أن {النبي صلى الله عليه وسلم صلى الكسوف بثلاث ركعات في كل ركعة} والصواب: أنه لم يصل الكسوف إلا مرة واحدة وفيه أن أبا سفيان سأله التزوج بأم حبيبة وهذا غلط. وهذا من أجل فنون العلم بالحديث يسمى: علم " علل الحديث " وأما كتاب حلية الأولياء فمن أجود مصنفات المتأخرين في أخبار الزهاد وفيه من الحكايات ما لم يكن به حاجة إليه والأحاديث المروية في أوائلها أحاديث كثيرة ضعيفة بل موضوعة. وسئل: عمن نسخ بيده صحيح البخاري ومسلم والقرآن وهو ناو كتابة الحديث وغيره وإذا نسخ لنفسه أو للبيع هل يؤجر؟ إلخ. فأجاب: وأما كتب الحديث المعروفة: مثل البخاري ومسلم. فليس تحت أديم السماء كتاب أصح من البخاري ومسلم بعد القرآن وما جمع بينهما: مثل الجمع بين الصحيحين للحميدي ولعبد الحق الإشبيلي وبعد ذلك كتب السنن: كسنن أبي داود؛ والنسائي؛ وجامع الترمذي؛ والمساند: كمسند الشافعي؛ ومسند الإمام أحمد. وموطأ مالك فيه الأحاديث والآثار وغير ذلك وهو من أجل الكتب حتى قال الشافعي: ليس تحت أديم السماء بعد كتاب الله أصح من موطأ مالك يعني بذلك ما صنف على طريقته؛ فإن المتقدمين كانوا يجمعون في الباب بين المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين ولم تكن وضعت كتب الرأي التي تسمى " كتب الفقه " وبعد هذا جمع الحديث المسند في جمع الصحيح للبخاري ومسلم والكتب التي تحب ويؤجر الإنسان على كتابتها سواء كتبها لنفسه أو كتبها ليبيعها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {إن الله يدخل بالسهم الواحد الجنة ثلاثة: صانعه؛ والرامي به؛ والممد به} فالكتابة كذلك؛ لينتفع به أو لينفع به غيره. كلاهما يثاب عليه. (من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مقيتا (85) والشافع الذي يعين غيره فيصير معه شفعا بعد أن كان وترا؛ ولهذا فسرت " الشفاعة الحسنة " بإعانة المؤمنين على الجهاد و " الشفاعة السيئة " بإعانة الكفار على قتال المؤمنين كما ذكر ذلك ابن جرير وأبو سليمان. وفسرت " الشفاعة الحسنة " بشفاعة الإنسان للإنسان ليجتلب له نفعا أو يخلصه من بلاء كما قال الحسن ومجاهد وقتادة وابن زيد؛ فالشفاعة الحسنة إعانة على خير يحبه الله ورسوله؛ من نفع من يستحق النفع ودفع الضر عمن يستحق دفع الضرر عنه. و " الشفاعة السيئة " إعانته على ما يكرهه الله ورسوله كالشفاعة التي فيها ظلم الإنسان أو منع الإحسان الذي يستحقه. وفسرت الشفاعة الحسنة بالدعاء للمؤمنين والسيئة بالدعاء عليهم، وفسرت الشفاعة الحسنة بالإصلاح بين اثنين وكل هذا صحيح. فالشافع زوج المشفوع له إذ المشفوع عنده من الخلق إما أن يعينه على بر وتقوى وإما أن يعينه على إثم وعدوان. وكان {النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه طالب حاجة قال لأصحابه: اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء}. (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما (93) ولم يذكر: (أبدا). وقد قيل: إن لفظ " التأبيد " لم يجئ إلا مع الكفر. وسئل - رحمه الله -: عن رجلين اختلفا في قتل النفس عمدا. فقال أحدهما: إن هذا ذنب لا يغفر وقال الآخر: إذا تاب تاب الله عليه؟ فأجاب: أما حق المظلوم فإنه لا يسقط باستغفار الظالم القاتل؛ لا في قتل النفس؛ ولا في سائر مظالم العباد؛ فإن حق المظلوم لا يسقط بمجرد الاستغفار؛ لكن تقبل توبة القاتل وغيره من الظلمة؛ فيغفر الله له بالتوبة الحق الذي له. وأما حقوق المظلومين فإن الله يوفيهم إياها: إما من حسنات الظالم وإما من عنده. والله أعلم. وسئل - رحمه الله تعالى -: عن القاتل عمدا أو خطأ: هل يدفع الكفارة المذكورة في القرآن {فصيام شهرين متتابعين}؟ أو يطالب بدية القتل؟ فأجاب: " قتل الخطأ " لا يجب فيه إلا الدية والكفارة ولا إثم فيه. وأما القاتل عمدا فعليه الإثم فإذا عفى عنه أولياء المقتول أو أخذوا الدية: لم يسقط بذلك حق المقتول في الآخرة. وإذا قتلوه ففيه نزاع في مذهب أحمد. والأظهر أن لا يسقط؛ لكن القاتل إذا كثرت حسناته أخذ منه بعضها ما يرضى به المقتول أو يعوضه الله من عنده إذا تاب القاتل توبة نصوحا. وقاتل الخطأ تجب عليه الدية بنص القرآن واتفاق الأمة والدية تجب للمسلم والمعاهد كما قد دل عليه القرآن وهو قول السلف والأئمة؛ ولا يعرف فيه خلاف متقدم؛ لكن بعض متأخري الظاهرية زعم أنه الذي لا دية له. وأما " القاتل عمدا " ففيه القود فإن اصطلحوا على الدية. جاز ذلك بالنص والإجماع فكانت الدية من مال القاتل؛ بخلاف الخطأ فإن ديته على عاقلته. وأما " الكفارة " فجمهور العلماء يقولون: قتل العمد أعظم من أن يكفر كذلك قالوا في اليمين الغموس. هذا مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه كما اتفقوا كلهم على أن الزنى أعظم من أن يكفر؛ فإنما وجبت الكفارة بوطء المظاهر والوطء في رمضان. وقال الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى: بل تجب الكفارة في العمد واليمين الغموس. واتفقوا على أن الإثم لا يسقط بمجرد الكفارة. وسئل - رحمه الله تعالى -: عن جماعة اشتركوا في قتل رجل وله ورثة صغار وكبار: فهل لأولاده الكبار أن يقتلوهم؛ أم لا؟ وإذا وافق ولي الصغار - الحاكم أو غيره - على القتل مع الكبار: فهل يقتلون أم لا؟ فأجاب: إذا اشتركوا في قتله وجب القود على جميعهم باتفاق الأئمة الأربعة وللورثة أن يقتلوا ولهم أن يعفوا. فإذا اتفق الكبار من الورثة على قتلهم فلهم ذلك عند أكثر العلماء: كأبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين. وكذا إذا وافق ولي الصغار الحاكم أو غيره على القتل مع الكبار فيقتلون. وسئل - رحمه الله -: عن الإنسان يقتل مؤمنا متعمدا أو خطأ وأخذ منه القصاص في الدنيا أولياء المقتول والسلطان: فهل عليه القصاص في الآخرة أم لا؟ وقد قال تعالى: {النفس بالنفس}. فأجاب: الحمد لله رب العالمين، أما القاتل خطأ فلا يؤخذ منه قصاص؛ لا في الدنيا ولا في الآخرة؛ لكن الواجب في ذلك الكفارة ودية مسلمة إلى أهل القتيل إلا أن يصدقوا. وأما " القاتل عمدا " إذا اقتص منه في الدنيا: فهل للمقتول أن يستوفي حقه في الآخرة؟ فيه قولان في مذهب أحمد وكذلك غيره فيما أظن من يقول: لا حق له عليه؛ لأن الذي عليه استوفي منه في الدنيا. ومنهم من يقول: بل عليه حق؛ فإن حقه لم يسقط بقتل الورثة كما لم يسقط حق الله بذلك؛ وكما لا يسقط حق المظلوم الذي غصب ماله وأعيد إلى ورثته؛ بل له أن يطالب الظالم بما حرمه من الانتفاع به في حياته. والله أعلم. وسئل - رحمه الله -: عن رجل قتل رجلا عمدا؛ وللمقتول بنت عمرها خمس سنين وزوجته حامل منه وأبناء عم: فهل يجوز أن يقتص منه قبل بلوغ البنت ووضع الحمل؛ أم لا؟ فأجاب: الحمد لله، ليس لسائر الورثة قبل وضع الحمل أن يقتصوا منه؛ إلا عند مالك فإن عنده للعصبة أن يقتصوا منه قبل ذلك. أما إن وضعت بنتا أو بنتين بحيث يكون لبني العم نصيب من التركة: كان للعصبة أن يقتصوا قبل بلوغ البنات عند أبي حنيفة ومالك وأحمد في رواية؛ ولم يجز لهن القصاص في المشهور عنه؛ وهو قول الشافعي. وهل لولي البنات كالحاكم أن يقوم مقامهن في الاستيفاء والصلح على مال؟ روايتان عن أحمد. " إحداهما " وهو قول جمهور العلماء جواز ذلك. و " الثانية " لا يجوز القصاص؛ كقول الشافعي؛ لكن إذا كانت البنات محاويج هل لوليهن المصالحة على مال لهن؟ فيه خلاف مشهور في مذهب الشافعي.
__________________
|
|
#6
|
||||
|
||||
![]() فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية. سُورَةُ النساء المجلد السادس الحلقة( 228) من صــ 131 الى صـ 140 (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما (95) درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما (96) فالله تعالى نفى المساواة بين المجاهد والقاعد الذي ليس بعاجز؛ ولم ينف المساواة بين المجاهد وبين القاعد العاجز؛ بل يقال: دليل الخطاب يقتضي مساواته إياه. ولفظ الآية صريح. استثنى أولو الضرر من نفي المساواة فالاستثناء هنا هو من النفي وذلك يقتضي أن أولي الضرر قد يساوون القاعدين وإن لم يساووهم في الجميع ويوافقه ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في غزوة تبوك: {إن بالمدينة رجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم. قالوا: وهم بالمدينة. قال: وهم بالمدينة حبسهم العذر} فأخبر أن القاعد بالمدينة الذي لم يحبسه إلا العذر هو مثل من معهم في هذه الغزوة. ومعلوم أن الذي معه في الغزوة يثاب كل واحد منهم ثواب غاز على قدر نيته فكذلك القاعدون الذين لم يحبسهم إلا العذر. ومن هذا الباب ما ثبت في الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل وهو صحيح مقيم} فإنه إذا كان يعمل في الصحة والإقامة عملا ثم لم يتركه إلا لمرض أو سفر ثبت أنه إنما ترك لوجود العجز والمشقة لا لضعف النية وفتورها فكان له من الإرادة الجازمة التي لم يتخلف عنها الفعل إلا لضعف القدرة ما للعامل والمسافر وإن كان قادرا مع مشقة كذلك بعض المرض إلا أن القدرة الشرعية هي التي يحصل بها الفعل من غير مضرة راجحة كما في قوله تعالى {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} وقوله: {فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا}ونحو ذلك ليس المعتبر في الشرع القدرة التي يمكن وجود الفعل بها على أي وجه كان بل لا بد أن تكون المكنة خالية عن مضرة راجحة بل أو مكافئة. ومن هذا الباب ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من جهز غازيا فقد غزا ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا} وقوله: {من فطر صائما فله مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء} فإن الغزو يحتاج إلى جهاد بالنفس وجهاد بالمال فإذا بذل هذا بدنه وهذا ماله مع وجود الإرادة الجازمة في كل منهما كان كل منهما مجاهدا بإرادته الجازمة ومبلغ قدرته وكذلك لا بد للغازي من خليفة في الأهل فإذا خلفه في أهله بخير فهو أيضا غاز وكذلك الصيام لا بد فيه من إمساك ولا بد فيه من العشاء الذي به يتم الصوم وإلا فالصائم الذي لا يستطيع العشاء لا يتمكن من الصوم. وكذلك قوله في الحديث الصحيح: {إذا أنفقت المرأة من مال زوجها غير مفسدة كان لها أجرها بما أنفقت ولزوجها مثل ذلك لا ينقص بعضهم من أجور بعض شيئا} وكذلك قوله في حديث أبي موسى: {الخازن الأمين الذي يعطي ما أمر به كاملا موفرا طيبة به نفسه أحد المتصدقين} أخرجاه. وذلك أن إعطاء الخازن الأمين الذي يعطي ما أمر به موفرا طيبة به نفسه لا يكون إلا مع الإرادة الجازمة الموافقة لإرادة الآمر وقد فعل مقدوره وهو الامتثال فكان أحد المتصدقين. ومن هذا الباب حديث أبي كبشة الأنماري الذي رواه أحمد وابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إنما الدنيا لأربعة: رجل آتاه الله علما ومالا فهو يعمل فيه بطاعة الله فقال رجل: لو أن لي مثل فلان لعملت بعمله فقال النبي صلى الله عليه وسلم فهما في الأجر سواء} وقد رواه الترمذي مطولا وقال حديث حسن صحيح فهذا التساوي مع " الأجر والوزر " هو في حكاية حال من قال ذلك وكان صادقا فيه وعلم الله منه إرادة جازمة لا يتخلف عنها الفعل إلا لفوات القدرة؛ فلهذا استويا في الثواب والعقاب. وليس هذه الحال تحصل لكل من قال: " لو أن لي ما لفلان لفعلت مثل ما يفعل " إلا إذا كانت إرادته جازمة يجب وجود الفعل معها إذا كانت القدرة حاصلة وإلا فكثير من الناس يقول ذلك عن عزم لو اقترنت به القدرة لانفسخت عزيمته كعامة الخلق يعاهدون وينقضون وليس كل من عزم على شيء عزما جازما قبل القدرة عليه وعدم الصوارف عن الفعل تبقى تلك الإرادة عند القدرة المقارنة للصوارف كما قال تعالى: {ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون} وكما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون} وكما قال: {ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين} {فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون}. (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا (101) قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: وأما قوله تعالى {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} فهنا علق القصر بسببين: الضرب في الأرض والخوف من فتنة الذين كفروا؛ لأن القصر المطلق يتناول قصر عددها وقصر عملها وأركانها. مثل الإيماء بالركوع والسجود فهذا القصر إنما يشرع بالسببين كلاهما كل سبب له قصر. فالسفر يقتضي قصر العدد والخوف يقتضي قصر الأركان. ولو قيل: إن القصر المعلق هو قصر الأركان فإن صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر لكان وجيها. ولهذا قال: {فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة}. فقد ظهر بهذا أن القصر لا يسوى بالجمع فإنه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرعته لأمته بل الإتمام في السفر أضعف من الجمع في السفر. فإن الجمع قد ثبت عنه أنه كان يفعله في السفر أحيانا وأما الإتمام فيه فلم ينقل عنه قط وكلاهما مختلف فيه بين الأئمة فإنهم مختلفون في جواز الإتمام: وفي " جواز الجمع متفقون على جواز القصر وجواز الإفراد. فلا يشبه بالسنة المتواترة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يداوم عليه في أسفاره وقد اتفقت الأمة عليه، فلا يصار إلى أن ما فعله في سفره مرات متعددة متفق عليه وقد تنازعت فيه الأمة. وقال - رحمه الله تعالى -: وأما قوله تعالى {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} فإن نفي الجناح لبيان الحكم وإزالة الشبهة لا يمنع أن يكون القصر هو السنة. كما قال: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} نفى الجناح لأجل الشبهة التي عرضت لهم من الطواف بينهما؛ لأجل ما كانوا عليه في الجاهلية من كراهة بعضهم للطواف بينهما والطواف بينهما مأمور به باتفاق المسلمين وهو إما ركن وإما واجب وإما سنة مؤكدة. وهو سبحانه ذكر الخوف والسفر لأن القصر يتناول قصر العدد وقصر الأركان فالخوف يبيح قصر الأركان والسفر يبيح قصر العدد فإذا اجتمعا أبيح القصر بالوجهين وإن انفرد السفر أبيح أحد نوعي القصر والعلماء متنازعون في المسافر: هل فرضه الركعتان؟ ولا يحتاج قصره إلى نية؟ أم لا يقصر إلا بنية؟ على قولين: (ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما (107) وقال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: فصل: في قوله تعالى {ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما} فقوله: {يختانون أنفسهم} مثل قوله في سورة البقرة {علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم} قال ابن قتيبة وطائفة من المفسرين: معناه تخونون أنفسكم. زاد بعضهم: تظلمونها. فجعلوا الأنفس مفعول {تختانون} وجعلوا الإنسان قد خان نفسه أي ظلمها بالسرقة كما فعل ابن أبيرق - أو بجماع امرأته ليلة الصيام كما فعل بعض الصحابة - وهذا القول فيه نظر؛ فإن كل ذنب يذنبه الإنسان فقد ظلم فيه نفسه سواء فعله سرا أو علانية. وإذا كان اختيان النفس هو ظلمها أو ارتكاب ما حرم عليها كان كل مذنب مختانا لنفسه وإن جهر بالذنوب وكان كفر الكافرين وقتالهم للأنبياء وللمؤمنين اختيانا لأنفسهم وكذلك قطع الطريق والمحاربة وكذلك الظلم الظاهر وكان ما فعله قوم نوح وهود وصالح وشعيب اختيانا لأنفسهم. ومعلوم أن هذا اللفظ لم يستعمل في هذه المعاني كلها وإنما استعمل في خاص من الذنوب مما يفعل سرا وحتى قال ابن عباس في قوله: {تختانون أنفسكم} عنى بذلك فعل عمر فإنه روي أنه {لما جاء الأنصاري فشكى أنه بات تلك الليلة ولم يتعش لما نام قبل العشاء وكان من نام قبل الأكل حرم عليه الأكل فيستمر صائما فأصبح يتقلب ظهرا لبطن فلما شكا حاله إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال عمر: يا رسول الله إني أردت أهلي الليلة فقالت إنها قد نامت فظننتها لم تنم فواقعتها فأخبرتني أنها كانت قد نامت قالوا: فأنزل الله في عمر: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم}. وقد قيل: إن الجماع ليلة الصيام كانوا منهيين عنه مطلقا بخلاف الأكل فإنه كان مباحا قبل النوم. وقد روي {أن عمر جامع امرأته بعد العشاء قبل النوم وأنه لما فعل أخذ يلوم نفسه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أعتذر إلى الله من نفسي هذه الخائنة إني رجعت إلى أهلي بعدما صليت العشاء فوجدت رائحة طيبة فسولت لي نفسي فجامعت أهلي فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما كنت جديرا بذلك يا عمر} وجاء طائفة من الصحابة فذكروا مثل ذلك فأنزل الله هذه الآية. فهذا فيه أن نفسه الخاطئة سولت له ذلك ودعته إليه وأنه أخذ يلومها بعد الفعل فالنفس هنا هي الخائنة الظالمة والإنسان تدعوه نفسه في السر إذا لم يره أحد إلى أفعال لا تدعو إليها علانية وعقله ينهاه عن تلك الأفعال ونفسه تغلبه عليها. ولفظ الخيانة حيث استعمل لا يستعمل إلا فيما خفي عن المخون كالذي يخون أمانته فيخون من ائتمنه إذا كان لا يشاهده ولو شاهده لما خانه. قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون} وقال تعالى: {ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم} وقالت امرأة العزيز: {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين} وقال تعالى: {يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور}. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لما قام: {أما فيكم رجل يقوم إلى هذا فيضرب عنقه؟ فقال له رجل: هلا أومضت إلي؟ فقال: ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين} قال تعالى: {ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما}{يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول} وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان} وفي حديث آخر {على كل خلق يطبع المؤمن إلا الخيانة والكذب} ومثل هذا كثير. وإذا كان كذلك فالإنسان كيف يخون نفسه. وهو لا يكتمها ما يقوله ويفعله سرا عنها؟ كما يخون من لا يشهده من الناس؟ كما يخون الله والرسول إذا لم يشاهده فلا يكون ممن يخاف الله بالغيب ولم خصت هذه الأفعال بأنها خيانة للنفس دون غيرها؟ فالأشبه - والله أعلم - أن يكون قوله: {تختانون أنفسكم} مثل قوله: {إلا من سفه نفسه}. والبصريون يقولون في مثل هذا: إنه منصوب على أنه مفعول له ويخرجون قوله: {سفه} عن معناه في اللغة فإنه فعل لازم؛ فيحتاجون أن ينقلوه من اللزوم إلى التعدية بلا حجة. وأما الكوفيون - كالفراء وغيره ومن تبعهم - فعندهم أن هذا منصوب على التمييز وعندهم أن المميز قد يكون معرفة كما يكون نكرة وذكروا لذلك شواهد كثيرة من كلام العرب مثل قولهم: ألم فلان رأسه ووجع بطنه ورشد أمره. وكان الأصل سفهت نفسه ورشد أمره. ومنه قولهم: غبن رأيه وبطرت نفسه فقوله تعالى: {بطرت معيشتها} من هذا الباب فالمعيشة نفسها بطرت فلما كان الفعل. . . (1) نصبه على التمييز قال تعالى: {ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس} فقوله: {سفه نفسه} معناه إلا من سفهت نفسه أي كانت سفيهة فلما أضاف الفعل إليه نصبها على التمييز كما في قوله: {واشتعل الرأس شيبا} ونحو ذلك. وهذا اختيار ابن قتيبة وغيره؛ لكن ذاك نكرة وهذا معرفة. وهذا الذي قاله الكوفيون أصح في اللغة والمعنى؛ فإن الإنسان هو السفيه نفسه: كما قال تعالى: {سيقول السفهاء من الناس} {ولا تؤتوا السفهاء} فكذلك قوله: {تختانون أنفسكم} أي تختان أنفسكم فالأنفس هي التي اختانت كما أنها هي السفيهة. وقال: اختانت ولم يقل خانت؛ لأن الافتعال فيه زيادة فعل على ما في مجرد الخيانة قال عكرمة: والمراد بالذين يختانون أنفسهم ابن أبيرق الذي سرق الطعام والقماش وجعل هو وقومه يقولون: إنما سرق فلان لرجل آخر. __________ Q (1) بياض بالأصل
__________________
|
|
#7
|
||||
|
||||
![]() فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية. سُورَةُ النساء المجلد السادس الحلقة( 229) من صــ 141 الى صـ 150 فهؤلاء اجتهدوا في كتمان سرقة السارق ورمي غيره بالسرقة كما قال تعالى: {يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول} فكانوا خائنين للصاحب والرسول وقد اكتسبوا الخيانة. وكذلك الذين كانوا يجامعون بالليل وهم يجتهدون في أن ذلك لا يظهر عنهم حين يفعلونه وإن أظهروه فيما بعد عند التوبة أما عند الفعل فكانوا يحتاجون من ستر ذلك وإخفائه ما لا يحتاج إليه الخائن وحده أو يكون قوله: {تختانون أنفسكم} أي يخون بعضكم بعضا كقوله: {فاقتلوا أنفسكم} وقوله: {ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم} وقوله: {لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا} فإن السارق وأقواما خانوا إخوانهم المؤمنين. والمجامع إن كان جامع امرأته وهي لا تعلم أنه حرام فقد خانها والأول أشبه. والصيام مبناه على الأمانة فإن الصائم يمكنه الفطر ولا يدري به أحد فإذا أفطر سرا فقد خان أمانته والفطر بالجماع المستور خيانة كما أن أخذ المال سرا وإخبار الرسول والمظلوم ببراءة السقيم وسقم البريء خيانة فهذا كله خيانة والنفس هي التي خانت؛ فإنها تحب الشهوة والمال والرئاسة وخان واختان مثل كسب واكتسب فجعل الإنسان مختانا. ثم بين أن نفسه هي التي تختان كما أنها هي التي تضر؛ لأن مبدأ ذلك من شهوتها ليس هو مما يأمر به العقل والرأي ومبدأ السفه منها لخفتها وطيشها والإنسان تأمره نفسه في السر بأمور ينهاها عنه العقل والدين فتكون نفسه اختانته وغلبته وهذا يوجد كثيرا في أمر الجماع والمال؛ ولهذا لا يؤتمن على ذلك أكثر الناس ويقصد بالائتمان من لا تدعوه نفسه إلى الخيانة في ذلك. قال سعيد بن المسيب: لو ائتمنت على بيت مال لأديت الأمانة ولو ائتمنت على امرأة سوداء لخفت أن لا أؤدي الأمانة فيها. وكذلك المال لا يؤتمن عليه أصحاب الأنفس الحريصة على أخذه كيف اتفق. وهذا كله مما يبين أن النفس تخون أمانتها وإن كان الرجل ابتداء لا يقصد الخيانة فتحمله على الخيانة بغير أمره وتغلبه على رأيه ولهذا يلوم المرء نفسه على ذلك ويذمها ويقول هذه النفس الفاعلة الصانعة؛ فإنها هي التي اختانت. فصل: ودل قوله: {ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم} أنه لا يجوز الجدال عن الخائن ولا يجوز للإنسان أن يجادل عن نفسه إذا كانت خائنة: لها في السر أهواء وأفعال باطنة تخفى على الناس فلا يجوز المجادلة عنها قال تعالى: {يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور} وقال تعالى: {وذروا ظاهر الإثم وباطنه} وقال تعالى: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن} وقد قال تعالى: {بل الإنسان على نفسه بصيرة} {ولو ألقى معاذيره} فإنه يعتذر عن نفسه بأعذار ويجادل عنها وهو يبصرها بخلاف ذلك وقال تعالى: {كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا} وقال تعالى: {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام}. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم {أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم} فهو يجادل عن نفسه بالباطل وفيه لدد: أي ميل واعوجاج عن الحق وهذا على نوعين: أحدهما أن تكون مجادلته وذبه عن نفسه مع الناس و " الثاني " فيما بينه وبين ربه بحيث يقيم أعذار نفسه ويظنها محقة وقصدها حسنا وهي خائنة ظالمة لها أهواء خفية قد كتمتها حتى لا يعرف بها الرجل حتى يرى وينظر قال شداد بن أوس: إن أخوف ما أخاف عليكم الشهوة الخفية قال أبو داود: هي حب الرياسة. وهذا من شأن النفس حتى إنه يوم القيامة يريد أن يدفع عن نفسه ويجادل الله بالباطل قال تعالى: {يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون} {استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون} وقال تعالى: {ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون} {ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين} {انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون}. وقد جاءت الأحاديث بأن الإنسان يجحد أعماله يوم القيامة حتى يشهد عليه سمعه وبصره وجوارحه. وقال تعالى: {وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون}. ومن عادة المنافقين المجادلة عن أنفسهم بالكذب والأيمان الفاجرة وصفهم الله بذلك في غير موضع. {وفي قصة تبوك لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم وجاء المنافقون يعتذرون إليه فجعل يقبل علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله فلما جاء كعب قال: والله يا رسول الله لو قعدت بين يدي ملك من ملوك الأرض لقدرت أن أخرج من سخطه: إني أوتيت جدلا؛ ولكن أخاف إن حدثتك حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي؛ ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عفو الله لا والله ما كان لي من عذر والله ما كنت أقوى قط ولا أيسر مني حين تخلفت عنك فقال النبي صلى الله عليه وسلم أما هذا فقد صدق يعني والباقي يكذبون ثم إنه هجره مدة ثم تاب الله عليه ببركة صدقه}. فالاعتذار عن النفس بالباطل والجدال عنها لا يجوز؛ بل إن أذنب سرا بينه وبين الله اعترف لربه بذنبه وخضع له بقلبه وسأله مغفرته وتاب إليه فإنه غفور رحيم تواب وإن كانت السيئة ظاهرة تاب ظاهرا وإن أظهر جميلا وأبطن قبيحا تاب في الباطن من القبيح فمن أساء سرا أحسن سرا ومن أساء علانية أحسن علانية {إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين}. (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا (115) قال العلماء: من لم يكن متبعا سبيلهم كان متبعا غير سبيلهم فاستدلوا بذلك على أن اتباع سبيلهم واجب فليس لأحد أن يخرج عما أجمعوا عليه. (فصل في أن الآية تدل على أن إجماع المؤمنين حجة) قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: وهذه " الآية " تدل على أن إجماع المؤمنين حجة من جهة أن مخالفتهم مستلزمة لمخالفة الرسول وأن كل ما أجمعوا عليه فلا بد أن يكون فيه نص عن الرسول؛ فكل مسألة يقطع فيها بالإجماع وبانتفاء المنازع من المؤمنين؛ فإنها مما بين الله فيه الهدى، ومخالف مثل هذا الإجماع يكفر كما يكفر مخالف النص البين. وأما إذا كان يظن الإجماع ولا يقطع به فهنا قد لا يقطع أيضا بأنها مما تبين فيه الهدى من جهة الرسول، ومخالف مثل هذا الإجماع قد لا يكفر؛ بل قد يكون ظن الإجماع خطأ. والصواب في خلاف هذا القول وهذا هو فصل الخطاب فيما يكفر به من مخالفة الإجماع وما لا يكفر. و " الإجماع " هل هو قطعي الدلالة أو ظني الدلالة؟. فإن من الناس من يطلق الإثبات بهذا أو هذا، ومنهم من يطلق النفي لهذا ولهذا. والصواب التفصيل بين ما يقطع به من الإجماع ويعلم يقينا أنه ليس فيه منازع من المؤمنين أصلا؛ فهذا يجب القطع بأنه حق؛ وهذا لا بد أن يكون مما بين فيه الرسول الهدى؛ كما قد بسط هذا في موضع آخر. ومن جهة أنه إذا وصف الواجب بصفات متلازمة؛ دل على أن كل صفة من تلك الصفات متى ظهرت وجب اتباعها وهذا مثل {الصراط المستقيم} الذي أمرنا الله بسؤال هدايته؛ فإنه قد وصف بأنه الإسلام ووصف بأنه اتباع القرآن ووصف بأنه طاعة الله ورسوله ووصف بأنه طريق العبودية؛ ومعلوم أن كل اسم من هذه الأسماء يجب اتباع مسماه، ومسماها كلها واحد وإن تنوعت صفاته؛ فأي صفة ظهرت وجب اتباع مدلولها فإنه مدلول الأخرى. وكذلك أسماء الله تعالى وأسماء كتابه وأسماء رسوله هي مثل أسماء دينه. وكذلك قوله تعالى. {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا} قيل: حبل الله هو دين الإسلام وقيل: القرآن وقيل: عهده وقيل: طاعته وأمره وقيل جماعة المسلمين؛ وكل هذا حق. وكذلك إذا قلنا: الكتاب والسنة والإجماع فمدلول الثلاثة واحد فإن كل ما في الكتاب فالرسول صلى الله عليه وسلم موافق له والأمة مجمعة عليه من حيث الجملة فليس في المؤمنين إلا من يوجب اتباع الكتاب وكذلك كل ما سنه الرسول صلى الله عليه وسلم فالقرآن يأمر باتباعه فيه والمؤمنون مجمعون على ذلك. وكذلك كل ما أجمع عليه المسلمون فإنه لا يكون إلا حقا موافقا لما في الكتاب والسنة؛ لكن المسلمون يتلقون دينهم كله عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأما الرسول صلى الله عليه وسلم فينزل عليه وحي القرآن ووحي آخر هو الحكمة كما قال صلى الله عليه وسلم {ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه}. وقال حسان بن عطية: {كان جبريل ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالسنة فيعلمه إياها كما يعلمه القرآن}. فليس كل ما جاءت به السنة يجب أن يكون مفسرا في القرآن؛ بخلاف ما يقوله أهل الإجماع؛ فإنه لا بد أن يدل عليه الكتاب والسنة فإن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الواسطة بينهم وبين الله في أمره ونهيه وتحليله وتحريمه؛ والمقصود ذكر الإيمان. ومن هذا الباب قول النبي صلى الله عليه وسلم {لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر}. وقوله: {آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار}. فإن من علم ما قامت به الأنصار من نصر الله ورسوله من أول الأمر وكان محبا لله ولرسوله؛ أحبهم قطعا فيكون حبه لهم علامة الإيمان الذي في قلبه ومن أبغضهم لم يكن في قلبه الإيمان الذي أوجبه الله عليه. وكذلك من لم يكن في قلبه بغض ما يبغضه الله ورسوله من المنكر الذي حرمه الله ورسوله من الكفر والفسوق والعصيان؛ لم يكن في قلبه الإيمان الذي أوجبه الله عليه فإن لم يكن مبغضا لشيء من المحرمات أصلا؛ لم يكن معه إيمان أصلا كما سنبينه إن شاء الله تعالى. وكذلك من لا يحب لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه؛ لم يكن معه ما أوجبه الله عليه من الإيمان فحيث نفى الله الإيمان عن شخص؛ فلا يكون إلا لنقص ما يجب عليه من الإيمان ويكون من المعرضين للوعيد ليس من المستحقين للوعد المطلق. (فصل آخر) قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -: وقال تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا}. وكان عمر بن عبد العزيز يقول كلمات كان مالك يأثرها عنه كثيرا قال: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سننا الأخذ بها تصديق لكتاب الله واستعمال لطاعة الله ومعونة على دين الله ليس لأحد تغييرها ولا النظر في رأي من خالفها فمن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله تعالى ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا. والشافعي رضي الله عنه لما جرد الكلام في أصول الفقه احتج بهذه الآية على الإجماع كما كان هو وغيره ومالك ذكر عن عمر ابن عبد العزيز والآية دلت على أن متبع غير سبيل المؤمنين مستحق للوعيد كما أن مشاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى مستحق للوعيد ومعلوم أن هذا الوصف يوجب الوعيد بمجرده فلو لم يكن الوصف الآخر يدخل في ذلك لكان لا فائدة في ذكره. وهنا للناس ثلاثة أقوال: قيل: اتباع غير سبيل المؤمنين هو بمجرد مخالفة الرسول المذكورة في الآية. وقيل: بل مخالفة الرسول مستقلة بالذم فكذلك اتباع غير سبيلهم مستقل بالذم وقيل: بل اتباع غير سبيل المؤمنين يوجب الذم كما دلت عليه الآية لكن هذا لا يقتضي مفارقة الأول بل قد يكون مستلزما له فكل متابع غير سبيل المؤمنين هو في نفس الأمر مشاق للرسول وكذلك مشاق الرسول متبع غير سبيل المؤمنين وهذا كما في طاعة الله والرسول فإن طاعة الله واجبة وطاعة الرسول واجبة وكل واحد من معصية الله ومعصية الرسول موجب للذم وهما متلازمان فإنه من يطع الرسول فقد أطاع الله. وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من أطاعني فقد أطاع الله؛ ومن أطاع أميري فقد أطاعني؛ ومن عصاني فقد عصى الله؛ ومن عصى أميري فقد عصاني} وقال: {إنما الطاعة في المعروف} يعني: إذا أمر أميري بالمعروف فطاعته من طاعتي وكل من عصى الله فقد عصى الرسول؛ فإن الرسول يأمر بما أمر الله به بل من أطاع رسولا واحدا فقد أطاع جميع الرسل ومن آمن بواحد منهم فقد آمن بالجميع ومن عصى واحدا منهم فقد عصى الجميع ومن كذب واحدا منهم فقد كذب الجميع؛ لأن كل رسول يصدق الآخر ويقول: إنه رسول صادق ويأمر بطاعته فمن كذب رسولا فقد كذب الذي صدقه ومن عصاه فقد عصى من أمر بطاعته. ولهذا كان دين الأنبياء واحدا كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد}. وقال تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} وقال تعالى: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم} {وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون} {فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون} وقال تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} {منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين} {من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون}. ودين الأنبياء كلهم الإسلام كما أخبر الله بذلك في غير موضع.
__________________
|
|
#8
|
||||
|
||||
![]() فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية. سُورَةُ النساء المجلد السادس الحلقة( 230) من صــ 151 الى صـ 160 (فصل) وقال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: والآية المشهورة التي يحتج بها على الإجماع قوله: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى} ومن الناس من يقول: إنها لا تدل على مورد النزاع؛ فإن الذم فيها لمن جمع الأمرين وهذا لا نزاع فيه؛ أو لمن اتبع غير سبيل المؤمنين التي بها كانوا مؤمنين وهي متابعة الرسول وهذا لا نزاع فيه؛ أو أن سبيل المؤمنين هو الاستدلال بالكتاب والسنة وهذا لا نزاع فيه؛ فهذا ونحوه قول من يقول: لا تدل على محل النزاع. وآخرون يقولون: بل تدل على وجوب اتباع المؤمنين مطلقا وتكلفوا لذلك ما تكلفوه كما قد عرف من كلامهم ولم يجيبوا عن أسئلة أولئك بأجوبة شافية. والقول الثالث الوسط: أنها تدل على وجوب اتباع سبيل المؤمنين وتحريم اتباع غير سبيلهم ولكن مع تحريم مشاقة الرسول من بعد ما تبين له الهدى وهو يدل على ذم كل من هذا وهذا كما تقدم لكن لا ينفي تلازمهما كما ذكر في طاعة الله والرسول. وحينئذ نقول: الذم إما أن يكون لاحقا لمشاقة الرسول فقط؛ أو باتباع غير سبيلهم فقط؛ أو أن يكون الذم لا يلحق بواحد منهما بل بهما إذا اجتمعا؛ أو يلحق الذم بكل منهما وإن انفرد عن الآخر؛ أو بكل منهما لكونه مستلزما للآخر. والأولان باطلان؛ لأنه لو كان المؤثر أحدهما فقط كان ذكر الآخر ضائعا لا فائدة فيه وكون الذم لا يلحق بواحد منهما باطل قطعا؛ فإن مشاقة الرسول موجبة للوعيد مع قطع النظر عمن اتبعه؛ ولحوق الذم بكل منهما وإن انفرد عن الآخر لا تدل عليه الآية؛ فإن الوعيد فيها إنما هو على المجموع. بقي القسم الآخر وهو أن كلا من الوصفين يقتضي الوعيد لأنه مستلزم للآخر كما يقال مثل ذلك في معصية الله والرسول ومخالفة القرآن والإسلام فيقال: من خالف القرآن والإسلام أو من خرج عن القرآن والإسلام فهو من أهل النار ومثله قوله: {ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا} فإن الكفر بكل من هذه الأصول يستلزم الكفر بغيره فمن كفر بالله كفر بالجميع ومن كفر بالملائكة كفر بالكتب والرسل فكان كافرا بالله إذ كذب رسله وكتبه وكذلك إذا كفر باليوم الآخر كذب الكتب والرسل فكان كافرا. وكذلك قوله: {يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون} ذمهم على الوصفين وكل منهما مقتض للذم وهما متلازمان؛ ولهذا نهى عنهما جميعا في قوله: {ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون} فإنه من لبس الحق بالباطل فغطاه به فغلط به لزم أن يكتم الحق الذي تبين أنه باطل؛ إذ لو بينه زال الباطل الذي لبس به الحق. فهكذا مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين ومن شاقه فقد اتبع غير سبيلهم وهذا ظاهر ومن اتبع غير سبيلهم فقد شاقه أيضا؛ فإنه قد جعل له مدخلا في الوعيد فدل على أنه وصف مؤثر في الذم فمن خرج عن إجماعهم فقد اتبع غير سبيلهم قطعا والآية توجب ذم ذلك. وإذا قيل: هي إنما ذمته مع مشاقة الرسول. قلنا: لأنهما متلازمان وذلك لأن كل ما أجمع عليه المسلمون فإنه يكون منصوصا عن الرسول فالمخالف لهم مخالف للرسول كما أن المخالف للرسول مخالف لله ولكن هذا يقتضي أن كل ما أجمع عليه قد بينه الرسول؛ وهذا هو الصواب. فلا يوجد قط مسألة مجمع عليها إلا وفيها بيان من الرسول ولكن قد يخفى ذلك على بعض الناس ويعلم الإجماع. فيستدل به كما أنه يستدل بالنص من لم يعرف دلالة النص وهو دليل ثان مع النص كالأمثال المضروبة في القرآن وكذلك الإجماع دليل آخر كما يقال: قد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع وكل من هذه الأصول يدل على الحق مع تلازمها؛ فإن ما دل عليه الإجماع فقد دل عليه الكتاب والسنة وما دل عليه القرآن فعن الرسول أخذ فالكتاب والسنة كلاهما مأخوذ عنه ولا يوجد مسألة يتفق الإجماع عليها إلا وفيها نص. وقد كان بعض الناس يذكر مسائل فيها إجماع بلا نص كالمضاربة وليس كذلك بل المضاربة كانت مشهورة بينهم في الجاهلية لا سيما قريش؛ فإن الأغلب كان عليهم التجارة وكان أصحاب الأموال يدفعونها إلى العمال ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد سافر بمال غيره قبل النبوة كما سافر بمال خديجة والعير التي كان فيها أبو سفيان كان أكثرها مضاربة مع أبي سفيان وغيره فلما جاء الإسلام أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أصحابه يسافرون بمال غيرهم مضاربة ولم ينه عن ذلك والسنة: قوله وفعله وإقراره. فلما أقرها كانت ثابتة بالسنة. والأثر المشهور فيها عن عمر الذي رواه مالك في الموطأ ويعتمد عليه الفقهاء لما أرسل أبو موسى بمال أقرضه لابنيه واتجرا فيه وربحا وطلب عمر أن يأخذ الربح كله للمسلمين لكونه خصهما بذلك دون سائر الجيش فقال له أحدهما: لو خسر المال كان علينا فكيف يكون لك الربح وعلينا الضمان؟ فقال له بعض الصحابة: اجعله مضاربا فجعله مضاربة وإنما قال ذلك لأن المضاربة كانت معروفة بينهم والعهد بالرسول قريب لم يحدث بعده فعلم أنها كانت معروفة بينهم على عهد الرسول كما كانت الفلاحة وغيرها من الصناعات كالخياطة والجزارة. وعلى هذا فالمسائل المجمع عليها قد تكون طائفة من المجتهدين لم يعرفوا فيها نصا فقالوا فيها باجتهاد الرأي الموافق للنص لكن كان النص عند غيرهم. وابن جرير وطائفة يقولون: لا ينعقد الإجماع إلا عن نص نقلوه عن الرسول مع قولهم بصحة القياس. ونحن لا نشترط أن يكونوا كلهم علموا النص فنقلوه بالمعنى كما تنقل الأخبار لكن استقرأنا موارد الإجماع فوجدناها كلها منصوصة وكثير من العلماء لم يعلم النص وقد وافق الجماعة كما أنه قد يحتج بقياس وفيها إجماع لم يعلمه فيوافق الإجماع وكما يكون في المسألة نص خاص. وقد استدل فيها بعضهم بعموم كاستدلال ابن مسعود وغيره بقوله: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} وقال ابن مسعود: سورة النساء القصرى نزلت بعد الطولى أي: بعد البقرة؛ وقوله: {أجلهن أن يضعن حملهن} يقتضي انحصار الأجل في ذلك فلو أوجب عليها أن تعد بأبعد الأجلين لم يكن أجلها أن تضع حملها وعلي وابن عباس وغيرهما أدخلوها في عموم الآيتين وجاء النص الخاص في قصة سبيعة الأسلمية بما يوافق قول ابن مسعود. وكذلك لما تنازعوا في المفوضة إذا مات زوجها: هل لها مهر المثل؟ أفتى ابن مسعود فيها برأيه أن لها مهر المثل ثم رووا حديث بروع بنت واشق بما يوافق ذلك وقد خالفه علي وزيد وغيرهما فقالوا: لا مهر لها. فثبت أن بعض المجتهدين قد يفتي بعموم أو قياس ويكون في الحادثة نص خاص لم يعلمه فيوافقه ولا يعلم مسألة واحدة اتفقوا على إنه لا نص فيها؛ بل عامة ما تنازعوا فيه كان بعضهم يحتج فيه بالنصوص أولئك احتجوا بنص كالمتوفى عنها الحامل وهؤلاء احتجوا بشمول الآيتين لها والآخرين قالوا: إنما يدخل في آية الحمل فقط وأن آية الشهور في غير الحامل كما أن آية القروء في غير الحامل. وكذلك لما تنازعوا في الحرام احتج من جعله يمينا بقوله: {لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم} {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم}. (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا (123) قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: وما يحصل للمؤمن في الدنيا والبرزخ والقيامة من الألم التي هي عذاب فإن ذلك يكفر الله به خطاياه كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه}.. وفي المسند {لما نزلت هذه الآية: {من يعمل سوءا يجز به} قال أبو بكر: يا رسول الله جاءت قاصمة الظهر وأينا لم يعمل سوءا فقال: يا أبا بكر ألست تحزن ألست يصيبك الأذى} فإن الجنة طيبة لا يدخلها إلا طيب، كما قال تعالى: {طبتم فادخلوها خالدين} وفي الحديث الصحيح: {أنهم إذا عبروا على الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة}. (ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا (125) قال المفسرون وأهل اللغة: معنى الآية: أخلص دينه وعمله لله وهو محسن في عمله. وقال الفراء في قوله: {فقل أسلمت وجهي لله} [سورة آل عمران: 20] أخلصت عملي. وقال الزجاج: قصدت بعبادتي إلى الله. وهو كما قالوا، كما قد ذكر توجيهه في موضع آخر. وهذا المعنى يدور عليه القرآن ; فإن الله تعالى أمر أن لا يعبد إلا إياه، وعبادته فعل ما أمر، وترك ما حظر. والأول هو إخلاص الدين والعمل لله. والثاني هو الإحسان، وهو العمل الصالح. ولهذا كان عمر يقول في دعائه: " اللهم اجعل عملي كله صالحا، واجعله لوجهك خالصا، ولا تجعل لأحد فيه شيئا ". وهذا هو الخالص الصواب، كما قال الفضيل بن عياض في قوله: {ليبلوكم أيكم أحسن عملا}. قال أخلصه وأصوبه. قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل: حتى يكون خالصا صوابا. والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة. والأمر بالسنة والنهي عن البدعة هو أمر بمعروف ونهي عن منكر، وهو من أفضل الأعمال الصالحة، فيجب أن يبتغي به وجه الله، وأن يكون مطابقا للأمر. وفي الحديث: " «من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فينبغي أن يكون عليما بما يأمر به ; عليما بما ينهى عنه، رفيقا فيما يأمر به، رفيقا فيما ينهى عنه، حليما فيما يأمر به، حليما فيما ينهى عنه» ". فالعلم قبل الأمر، والرفق مع الأمر، والحلم بعد الأمر ; فإن لم يكن عالما لم يكن له أن يقفو ما ليس له به علم، وإن كان عالما ولم يكن رفيقا، كان كالطبيب الذي لا رفق فيه، فيغلظ على المريض فلا يقبل منه، وكالمؤدب الغليظ الذي لا يقبل منه الولد. وقد قال تعالى لموسى وهارون: {فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى} [سورة طه: 44]. ثم إذا أمر ونهى فلا بد أن يؤذى في العادة، فعليه أن يصبر ويحلم. كما قال تعالى: {وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور} [سورة: لقمان 17]. وقد أمر الله نبيه بالصبر على أذى المشركين في غير موضع، وهو إمام الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر. فإن الإنسان عليه أولا أن يكون أمره لله، وقصده طاعة الله فيما أمره به. وهو يحب صلاح المأمور، أو إقامة الحجة عليه فإن فعل ذلك لطلب الرياسة لنفسه ولطائفته، وتنقيص غيره كان ذلك حمية لا يقبله الله، وكذلك إذا فعل ذلك لطلب السمعة والرياء كان عمله حابطا. ثم إذا رد عليه ذلك وأوذي أو نسب إلى أنه مخطئ وغرضه فاسد، طلبت نفسه الانتصار لنفسه، وأتاه الشيطان، فكان مبدأ عمله لله، ثم صار له هوى يطلب به أن ينتصر على من آذاه، وربما اعتدى على ذلك المؤذي. وهكذا يصيب أصحاب المقالات المختلفة، إذا كان كل منهم يعتقد أن الحق معه، وأنه على السنة ; فإن أكثرهم قد صار لهم في ذلك هوى أن ينتصر جاههم أو رياستهم وما نسب إليهم، لا يقصدون أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله، بل يغضبون على من خالفهم، وإن كان مجتهدا معذورا لا يغضب الله عليه، ويرضون عمن يوافقهم، وإن كان جاهلا سيئ القصد، ليس له علم ولا حسن قصد، فيفضي هذا إلى أن يحمدوا من لم يحمده الله ورسوله. ويذموا من لم يذمه الله ورسوله. وتصير موالاتهم ومعاداتهم على أهواء أنفسهم لا على دين الله ورسوله. وهذا حال الكفار الذين لا يطلبون إلا أهواءهم، ويقولون: هذا صديقنا وهذا عدونا، وبلغة المغل: هذا بال، هذا باغ، لا ينظرون إلى موالاة الله ورسوله، ومعاداة الله ورسوله. ومن هنا تنشأ الفتن بين الناس. قال الله تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} [سورة الأنفال: 39]، فإذا لم يكن الدين كله لله كانت فتنة. وقال شيخ الإسلام - قدس الله روحه -: فصل: قال الله تعالى: {ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا} فنفى أن يكون دين أحسن من هذا الدين وأنكر على من أثبت دينا أحسن منه؛ لأن هذا استفهام إنكار وهو إنكار نهي وذم لمن جعل دينا أحسن من هذا. قال قتادة والضحاك وغيرهما: إن المسلمين وأهل الكتاب افتخروا فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم ونحن أولى بالله منكم. وقال المسلمون: نحن أولى بالله تعالى منكم ونبينا خاتم النبيين وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبله فأنزل الله تعالى: {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب} الآية.
__________________
|
|
#9
|
||||
|
||||
![]() فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية. سُورَةُ النساء المجلد السادس الحلقة( 231) من صــ 161 الى صـ 170 وروى سفيان عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال: لما نزلت هذه الآية: {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به} قال أهل الكتاب: نحن وأنتم سواء حتى نزلت {ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن} الآية. ونزلت فيهم أيضا {ومن أحسن دينا} الآية. وقد روي عن مجاهد قال قالت قريش: لا نبعث أو لا نحاسب وقال أهل الكتاب: {لن تمسنا النار إلا أياما معدودة} فأنزل الله عز وجل: {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب} وهذا يقتضي أنها خطاب للكفار من الأميين وأهل الكتاب؛ لاعتقادهم أنهم لا يعذبون العذاب الدائم والأول أشهر في النقل وأظهر في الدليل؛ لأن السورة مدنية بالاتفاق فالخطاب فيها مع المؤمنين كسائر السور المدنية. وأيضا: فإنه قد استفاض من وجوه متعددة أنه لما نزل قوله تعالى {من يعمل سوءا يجز به} شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حتى بين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن مصائب الدنيا من الجزاء وبها يجزى المؤمن؛ فعلم أنهم مخاطبون بهذه الآية لا مجرد الكفار. وأيضا قوله بعد هذا: {ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن} الآية. وقوله: {ومن أحسن دينا}يدل على أن هناك تنازعا في تفضيل الأديان لا مجرد إنكار عقوبة بعد الموت. وأيضا: فما قبلها وما بعدها خطاب مع المؤمنين وجواب لهم فكان المخاطب في هذه الآية هو المخاطب في بقية الآيات. فإن قيل: الآية نص في نفي دين أحسن من دين هذا المسلم لكن من أين أنه ليس دين مثله؟ فإن الأقسام ثلاثة: إما أن يكون ثم دين أحسن منه. أو دونه أو مثله وقد ثبت أنه لا أحسن منه فمن أين في الآية أنه لا دين مثله؟ ونظيرها قوله: {ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين} قيل: لو قلنا في هذا المقام: إن الآية لم تدل إلا على نفي الأحسن لم يضر هذا؛ فإن الخطاب له مقامات قد يكون الخطاب تارة بإثبات صلاح الدين إذا كان المخاطب يدعي أو يظن فساده ثم في مقام بأن يقع النزاع في التفاضل فيبين أن غيره ليس أفضل منه. ثم في مقام ثالث يبين أنه أفضل من غيره. وهكذا إذا تكلمنا في أمر الرسول ففي مقام نبين صدقه وصحة رسالته. وفي مقام بأن نبين أن غيره ليس أفضل منه وفي مقام ثالث نبين أنه سيد ولد آدم؛ وذلك أن الكلام يتنوع بحسب حال المخاطب. ثم نقول: يدل على أن هذا الدين أحسن وجوه: " أحدها " أن هذه الصيغة وإن كانت في أصل اللغة لنفي الأفضل لدخول النفي على أفعل فإنه كثيرا ما يضمر بعرف الخطاب يفضل - المذكور المجرور بمن مفضلا عليه في الإثبات فإنك إذا قلت: هذا الدين أحسن من هذا كان المجرور بمن مفضلا عليه والأول مفضلا فإذا قلت لا أحسن من هذا أو من أحسن من هذا؟ أو ليس فيهم أفضل من هذا أو ما عندي أعلم من زيد أو ما في القوم أصدق من عمرو أو ما فيهم خير منه فإن هذا التأليف يدل على أنه أفضلهم وأعلمهم وخيرهم؛ بل قد صارت حقيقة عرفية في نفي فضل الداخل في أفعل وتفضيل المجرور على الباقين وأنها تقتضي نفي فضلهم وإثبات فضله عليهم وضمنت معنى الاستثناء كأنك قلت: ما فيهم أفضل إلا هذا أو ما فيهم المفضل إلا هذا كما أن (إن) إذا كفت بما النافية صارت متضمنة للنفي والإثبات. وكذلك الاستثناء. وإن كان في الأصل للإخراج من الحكم فإنه صار حقيقة عرفية في مناقضة المستثنى منه فالاستثناء من النفي إثبات،ومن الإثبات نفي واللفظ يصير بالاستعمال له معنى غير ما كان يقتضيه أصل الوضع. وكذلك يكون في الأسماء المفردة تارة ويكون في تركيب الكلام أخرى ويكون في الجمل المنقولة كالأمثال السائرة جملة فيتغير الاسم المفرد بعرف الاستعمال عما كان عليه في الأصل إما بالتعميم وإما بالتخصيص وإما بالتحويل؛ كلفظ الدابة والغائط والرأس. ويتغير التركيب بالاستعمال عما كان يقتضيه نظائره كما في زيادة حرف النفي في الجمل السلبية وزيادة النفي في كاد وبنقل الجملة عن معناها الأصلي إلى غيره كالجمل المتمثل بها كما في قولهم: " يداك أوكتا وفوك نفخ " و " عسى الغوير أبؤسا ". " الوجه الثاني " أنه إذا كان لا دين أحسن من هذا فالغير إما أن يكون مثله أو دونه ولا يجوز أن يكون مثله؛ لأن الدين إذا ماثل الدين وساواه في جميع الوجوه كان هو إياه وإن تعدد الغير لكن النوع واحد فلا يجوز أن يقع التماثل والتساوي بين الدينين المختلفين فإن اختلافهما يمنع تماثلهما؛ إذ الاختلاف ضد التماثل فكيف يكونان مختلفين متماثلين؟ واختلافهما اختلاف تضاد لا تنوع؛ فإن أحد الدينين يعتقد فيه أمور على أنها حق واجب والآخر يقول إنها باطل محرم. فمن المحال استواء هذين الاعتقادين. وكذلك الاقتصادان فإن هذا يقصد المعبود بأنواع من المقاصد والأعمال والآخر يقصده بما يضاد ذلك وينافيه وليس كذلك تنوع طرق المسلمين ومذاهبهم؛ فإن دينهم واحد كل منهم يعتقد ما يعتقده الآخر ويعبده بالدين الذي يعبده ويسوغ أحدهما للآخر أن يعمل بما تنازع فيه من الفروع فلم يختلفا؛ بل نقول أبلغ من هذا أن القدر الذي يتنازع فيه المسلمون من الفروع لا بد أن يكون أحدهما أحسن عند الله فإن هذا مذهب جمهور الفقهاء الموافقين لسلف الأمة على أن المصيب عند الله واحد في جميع المسائل فذاك الصواب هو أحسن عند الله وإن كان أحدهما يقر الآخر. فالإقرار عليه لا يمنع أن يكون مفضولا مرجوحا وإنما يمنع أن يكون محرما. وإذا كان هذا في دق الفروع فما الظن بما تنازعوا فيه من الأصول؟ فإنه لا خلاف بين المسلمين ولا بين العقلاء أن المصيب في نفس الأمر واحد وإنما تنازعوا في المخطئ هل يغفر له أو لا يغفر وهل يكون مصيبا بمعنى أداء الواجب؟ وسقوط اللوم لا بمعنى صحة الاعتقاد؟ فإن هذا لا يقوله عاقل: أن الاعتقادين المتناقضين من كل وجه يكون كل منهما صوابا. فتلخيص الأمر أن هذا المقام إنما فيه تفضيل قول وعمل على قول وعمل فالأقوال والأعمال المختلفة لا بد فيها من تفضيل بعضها على بعض عند جمهور الأمة؛ بل ومن قال بأن كل مجتهد مصيب قد لا ينازع أن أحدهما أحسن وأصوب ولا يدعي تماثلهما. وإن ادعاه فلم يدعه إلا في دق الفروع مع أن قوله ضعيف مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف. وأما الحل فلم يدع مدع تساوي الأقسام فيه وهذا بخلاف التنوع المحض مثل قراءة سورة وقراءة سورة أخرى وصدقة بنوع وصدقة بنوع آخر. فإن هذا قد يتماثل؛ لأن الدين واحد في ذلك من كل وجه وإنما كلامنا في الأديان المختلفة وليس هنا خلاف بحال. وإذا ثبت أن الدينين المختلفين لا يمكن تماثلهما لم يحتج إلى نفي هذا في اللفظ لانتفائه بالعقل. وكذلك لما سمعوا قوله: {ولا تكن كصاحب الحوت} كان في هذا ما يخاف انتقاصهم إياه. هذا مع أن نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة شاهدة بتفضيل بعض النبيين على بعض وبعض الرسل على بعض قاضية لأولي العزم بالرجحان شاهدة بأن محمدا صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم وأكرم الخلق على ربه؛ لكن تفضيل الدين الحق أمر لا بد من اعتقاده؛ ولهذا ذكره الله في الآية. وأما تفضيل الأشخاص فقد لا يحتاج إليه في كل وقت فالدين الواجب لا بد من تفضيله؛ إذ الفضل يدخل في الوجوب وإذا وجب الدين به دون خلافه فلأن يجب اعتقاد فضله أولى. وأما الدين المستحب فقد لا يشرع اعتقاد فعله إلا في حق من شرع له فعل ذلك المستحب وإلا فمن الناس من يضره إذا سلك سبيلا من سبل السلام الإسلامية أن يرى غيره أفضل منها؛ لأنه يتشوف إلى الأفضل فلا يقدر عليه والمفضول يعرض عنه. وكما أنه ليس من مصلحته أن يعرف أفضل من طريقته إذا كان يترك طريقته ولا يسلك تلك فليس أيضا من الحق أن يعتقد أن طريقته أفضل من غيرها؛ بل مصلحته أن يسلك تلك الطريقة المفضية به إلى رحمة الله تعالى فإن بعض المتفقهة يدعون الرجل إلى ما هو أفضل من طريقته عندهم وقد يكونون مخطئين فلا سلك الأول ولا الثاني وبعض المتصوفة المريد يعتقد أن شيخه أكمل شيخ على وجه الأرض وطريقته أفضل الطرق. وكلاهما انحراف؛ بل يؤمر كل رجل أن يأتي من طاعة الله ورسوله بما استطاعه ولا ينقل من طاعة الله ورسوله بطريقته وإن كان فيها نوع نقص أو خطأ ولا يبين له نقصها إلا إذا نقل إلى ما هو أفضل منها وإلا فقد ينفر قلبه عن الأولى بالكلية حتى يترك الحق الذي لا يجوز تركه ولا يتمسك بشيء آخر. وهذا باب واسع ليس الغرض هنا استقصاؤه وهو مبني على أربعة أصول: " أحدها " معرفة مراتب الحق والباطل والحسنات والسيئات والخير والشر؛ ليعرف خير الخيرين وشر الشرين. " الثاني " معرفة ما يجب من ذلك وما لا يجب وما يستحب من ذلك وما لا يستحب ". الثالث " معرفة شروط الوجوب والاستحباب من الإمكان والعجز وأن الوجوب والاستحباب قد يكون مشروطا بإمكان العلم والقدرة. " الرابع " معرفة أصناف المخاطبين وأعيانهم؛ ليؤمر كل شخص بما يصلحه أو بما هو الأصلح له من طاعة الله ورسوله وينهى عما ينفع نهيه عنه ولا يؤمر بخير يوقعه فيما هو شر من المنهي عنه مع الاستغناء عنه. وهذا القدر الذي دلت عليه هذه الآية - من أن دين من أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم هو أحسن الأديان أمر متفق عليه بين المسلمين - معلوم بالاضطرار من دين الإسلام؛بل من يتبع غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين. ولكن كتاب الله هو حاكم بين أهل الأرض فيما اختلفوا فيه ومبين وجه الحكم؛ فإنه بين بهذه الآية وجه التفضيل بقوله: {أسلم وجهه لله} وبقوله: {وهو محسن} فإن الأول بيان نيته وقصده ومعبوده وإلهه وقوله: {وهو محسن} فانتفى بالنص نفي ما هو أحسن منه وبالعقل ما هو مثله فثبت أنه أحسن الأديان. " الوجه الثالث " أن النزاع كان بين الأمتين أي الدينين أفضل؟ فلم يقل لهما: إن الدينين سواء ولا نهوا عن تفضيل أحدهما؛ لكن حسمت مادة الفخر والخيلاء والغرور الذي يحصل من تفضيل أحد الدينين؛ فإن الإنسان إذا استشعر فضل نفسه أو فضل دينه يدعوه ذلك إلى الكبر والخيلاء والفخر؛ فقيل للجميع: {من يعمل سوءا يجز به} سواء كان دينه فاضلا أو مفضولا؛ فإن النهي عن السيئات والجزاء عليها واقع لا محالة، قال تعالى {والذاريات ذروا} إلى قوله: {لواقع}.
__________________
|
|
#10
|
||||
|
||||
![]() فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية. سُورَةُ النساء المجلد السادس الحلقة( 232) من صــ 171 الى صـ 180 فلما استشعر المؤمنون أنهم مجزيون على السيئات ولا يغني عنهم فضل دينهم وفسر لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن الجزاء قد يكون في الدنيا بالمصائب بين بعد ذلك فساد دين الكفار من المشركين وأهل الكتاب بقوله: {ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى} الآية. فبين أن العمل الصالح إنما يقع الجزاء عليه في الآخرة مع الإيمان وإن كان قد يجزى به صاحبه في الدنيا بلا إيمان فوقع الرد على الكفار من جهة جزائهم بالسيئات ومن جهة أن حسناتهم لا يدخلون بها الجنة إلا مع الإيمان ثم بين بعد هذا فضل الدين الإسلامي الحنفي بقوله: {ومن أحسن دينا} فجاء الكلام في غاية الإحكام. ومما يشبه هذا من بعض الوجوه نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يفضل بين الأنبياء التفضيل الذي فيه انتقاص المفضول والغض منه كما قال صلى الله عليه وسلم {لا تفضلوا بين الأنبياء} وقال: {لا تفضلوني على موسى} بيان لفضله وبهذين يتم الدين. فإذا كان الله هو المعبود وصاحبه قد أخلص له وانقاد وعمله فعل الحسنات فالعقل يعلم أنه لا يمكن أن يكون دين أحسن من هذا؛ بخلاف دين من عند غير الله وأسلم وجهه له أو زعم أنه يعبد الله لا بإسلام وجهه؛ بل يتكبر كاليهود ويشرك كالنصارى أو لم يكن محسنا بل فاعلا للسيئات دون الحسنات وهذا الحكم عدل محض وقياس وقسط دل القرآن العقلاء على وجه البرهان فيه. وهكذا غالب ما بينه القرآن فإنه يبين الحق والصدق ويذكر أدلته وبراهينه؛ ليس يبينه بمجرد الإخبار عن الأمر كما قد يتوهمه كثير من المتكلمة والمتفلسفة أن دلالته سمعية خبرية وأنها واجبة لصدق المخبر؛ بل دلالته أيضا عقلية برهانية وهو مشتمل من الأدلة والبراهين على أحسنها وأتمها بأحسن بيان لمن كان له فهم وعقل؛ بحيث إذا أخذ ما في القرآن من ذلك وبين لمن لم يعلم أنه كلام الله أو لم يعلم صدق الرسول أو يظن فيه ظنا مجردا عن ما يجب من قبول قول المخبر كان فيه ما يبين صدقه وحقه ويبرهن عن صحته. (فصل في معنى الخليل) والخليل هو الذي تخللت محبة خليله قلبه، فلم يكن فيه مسلك لغيره كما قيل: قد تخللت مسلك الروح مني ... وبذا سمي الخليل خليلا وقد قيل: إنه مأخوذ من الخليل، وهو الفقير، مشتق من الخلة بالفتح. كما قيل: وإن أتاه خليل يوم مسغبة ... يقول لا غائب مالي ولا حرم والصواب أنه من الأول، وهو مستلزم للثاني فإن كمال حبه لله هو محبة عبودية وافتقار، ليست كمحبة الرب لعبده، فإنها محبة استغناء وإحسان. ولهذا قال - تعالى -: {وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا} [سورة الإسراء: 111]. فالرب لا يوالي عبده من ذل، كما يوالي المخلوق لغيره، بل يواليه إحسانا إليه، والولي من الولاية، والولاية ضد العداوة. وأصل الولاية الحب، وأصل العداوة البغض، وإذا قيل: هو مأخوذ من الولي، وهو القرب. فهذا جزء معناه، فإن الولي يقرب إلى وليه، والعدو يبعد عن عدوه. ولما كانت الخلة تستلزم كمال المحبة واستيعاب القلب، لم يصلح للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يخالل مخلوقا، بل قال: " «لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن صاحبكم خليل الله» ". (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن ... (127) وسئل شيخ الإسلام - رحمه الله -: عن صغيرة دون البلوغ مات أبوها: هل يجوز للحاكم أو نائبه أن يزوجها أم لا؟ وهل يثبت لها الخيار إذا بلغت أم لا؟ فأجاب: إذا بلغت تسع سنين فإنه يزوجها الأولياء - من العصبات والحاكم ونائبه - في ظاهر مذهب أحمد وهو مذهب أبي حنيفة وغيرهما كما دل على ذلك الكتاب والسنة في مثل قوله تعالى {ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن} وأخرجا في الصحيحين عن عروة بن الزبير أنه سأل عائشة عن قول الله عز وجل: {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} قالت؛ يا ابن أختي هذه اليتيمة في حجر وليها تشاركه في ماله فيعجبه مالها وجمالها؛ فيريد وليها أن يتزوجها من غير أن يقسط في صداقها؛ فيعطيها مثل ما يعطيها غيره فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا بهن على سنتهن في الصداق وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن. قال عروة: قالت عائشة: ثم إن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فيهن؛ فأنزل الله عز وجل: {ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن} الآية. قالت عائشة والذي ذكر الله أنه {يتلى عليكم في الكتاب} الآية الأولى التي قالها الله عز وجل؛ {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء} قالت عائشة: وقول الله عز وجل في الآية الأخرى: {وترغبون أن تنكحوهن} رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره حيث تكون قليلة المال والحال. وفي لفظ آخر: إذا كانت ذات مال وجمال رغبوا في نكاحها في إكمال الصداق؛ وإذا كانت مرغوبا عنها في قلة المال والجمال رغبوا عنها؛ وأخذوا غيرها من النساء. قال: فكما يتركونها حتى يرغبوا عنها؛ فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها؛ إلا أن يقسطوا لها ويعطوها حقها من الصداق. فهذا يبين أن الله أذن لهم أن يزوجوا اليتامى من النساء إذا فرضوا لهن صداق مثلهن؛ ولم يأذن لهم في تزويجهن بدون صداق المثل؛ لأنها ليست من أهل التبرع؛ ودلائل ذلك متعددة. ثم الجمهور الذين جوزوا إنكاحها لهم قولان: " أحدهما " وهو قول أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين: أنها تزوج بدون إذنها؛ ولها الخيار إذا بلغت. و " الثاني " وهو المشهور في مذهب أحمد وغيره: أنها لا تزوج إلا بإذنها؛ ولا خيار لها إذا بلغت. وهذا هو الصحيح الذي دلت عليه السنة كما روى أبو هريرة؛ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {تستأذن اليتيمة في نفسها؛ فإن سكتت فهو إذنها؛ وإن أبت فلا جواز عليها} رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي. وعن أبي موسى الأشعري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {تستأمر اليتيمة في نفسها فإن سكتت فقد أذنت؛ وإن أبت فلا جواز عليها}. فهذه السنة نص في القول الثالث الذي هو أعدل الأقوال أنها تزوج؛ خلافا لمن قال: إنها لا تزوج حتى تبلغ فلا تصير " يتيمة ". والكتاب والسنة صريح في دخول اليتيمة قبل البلوغ في ذلك؛ إذ البالغة التي لها أمر في مالها يجوز لها أن ترضى بدون صداق المثل؛ ولأن ذلك مدلول اللفظ وحقيقته ولأن ما بعد البلوغ وإن سمي صاحبه يتيما مجازا فغايته أن يكون داخلا في العموم. وأما أن يكون المراد باليتيمة البالغة دون التي لم تبلغ: فهذا لا يسوغ حمل اللفظ عليه بحال. والله أعلم. (فصل: الظلم نوعان) قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -: والظلم نوعان: تفريط في الحق وتعد للحد. فالأول ترك ما يجب للغير مثل ترك قضاء الديون وسائر الأمانات وغيرها من الأموال. والثاني الاعتداء عليه مثل القتل وأخذ المال وكلاهما ظلم؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: {مطل الغني ظلم وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع} فجعل مجرد المطل الذي هو تأخير الأداء مع القدرة ظلما فكيف بالترك رأسا. وقد قال تعالى: {ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن} إلى قوله: {وأن تقوموا لليتامى بالقسط}. قالت عائشة رضي الله عنها هي اليتيمة تكون في حجر وليها فيريد أن يتزوجها بدون أن يقسط لها في مهرها. فسمى الله تكميل المهر قسطا؛ وضده الظلم. وهذا في الجملة ظاهر متفق عليه بين المسلمين: أن العدل قد يكون أداء واجب وقد يكون ترك محرم وقد يجمع الأمرين وأن الظلم أيضا قد يكون ترك واجب وقد يكون فعل محرم وقد يجمع الأمرين. فإذا عرف هذا؛ وقد عرف أن العدل والظلم يكون في حق نفس الإنسان ويكون في حقوق الناس - كما تقدم وقد كتبت فيما تقدم من " القواعد " وفي آخر " مسودة الفقه " كلاما كليا في أن جميع الحسنات تدخل في العدل وجميع السيئات تدخل في الظلم. (ياأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا ... (135) يقال: لوى يلوي لسانه: فيخبر بالكذب. والإعراض: أن يكتم الحق؛ فإن الساكت عن الحق شيطان أخرس. ومن مال مع صاحبه - سواء كان الحق له أو عليه - فقد حكم بحكم الجاهلية وخرج عن حكم الله ورسوله والواجب على جميعهم أن يكونوا يدا واحدة مع المحق على المبطل فيكون المعظم عندهم من عظمه الله ورسوله والمقدم عندهم من قدمه الله ورسوله والمحبوب عندهم من أحبه الله ورسوله والمهان عندهم من أهانه الله ورسوله بحسب ما يرضي الله ورسوله لا بحسب الأهواء؛ فإنه من يطع الله ورسوله فقد رشد؛ ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه. فهذا هو الأصل الذي عليهم اعتماده. وحينئذ فلا حاجة إلى تفرقهم وتشيعهم؛ فإن الله تعالى يقول: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء}. وقال تعالى: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات}. (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا (145) وقد اتفق العلماء على أن اسم المسلمين في الظاهر يجري على المنافقين لأنهم استسلموا ظاهرا؛ وأتو بما أتوا به من الأعمال الظاهرة بالصلاة الظاهرة والزكاة الظاهرة والحج الظاهر والجهاد الظاهر كما كان النبي يجري عليهم أحكام الإسلام الظاهر واتفقوا على أنه من لم يكن معه شيء من الإيمان فهو كما قال تعالى: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} وفيها قراءتان (درك ودرك قال أبو الحسين ابن فارس: الجنة درجات والنار دركات. قال الضحاك: الدرج: إذا كان بعضها فوق بعض. والدرك: إذا كان بعضها أسفل من بعض فصار المظهرون للإسلام بعضهم في أعلى درجة في الجنة وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال في الحديث الصحيح: {إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة} وقوله: صلى الله عليه وسلم {وأرجو أن أكون} مثل قوله: {إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بحدوده} ولا ريب أنه أخشى الأمة لله وأعلمهم بحدوده. وكذلك قوله: {اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئا}. وقوله: {إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة} وأمثال هذه النصوص وكان يستدل به أحمد وغيره على الاستثناء في الإيمان كما نذكره في موضعه. والمقصود أن خير المؤمنين في أعلى درجات الجنة والمنافقون في الدرك الأسفل من النار وإن كانوا في الدنيا مسلمين ظاهرا تجري عليهم أحكام الإسلام الظاهرة؛ فمن كان فيه إيمان ونفاق يسمى مسلما إذ ليس هو دون المنافق المحض وإذا كان نفاقه أغلب لم يستحق اسم الإيمان بل اسم المنافق أحق به فإن ما فيه بياض وسواد وسواده أكثر من بياضه هو باسم الأسود أحق منه باسم الأبيض كما قال تعالى: {هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان} وأما إذا كان إيمانه أغلب ومعه نفاق يستحق به الوعيد لم يكن أيضا من المؤمنين الموعودين بالجنة وهذا حجة لما ذكره محمد بن نصر عن أحمد ولم أره أنا فيما بلغني من كلام أحمد ولا ذكره الخلال ونحوه. وقال محمد بن نصر: وحكى غير هؤلاء عن أحمد أنه قال: من أتى هذه الأربعة: الزنا والسرقة وشرب الخمر والنهبة التي يرفع الناس فيها أبصارهم إليه أو مثلهن أو فوقهن فهو مسلم ولا أسميه مؤمنا ومن أتى دون الكبائر نسميه مؤمنا ناقص الإيمان فإن صاحب هذا القول يقول: لما نفى عنه النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان نفيته عنه كما نفاه عنه الرسول صلى الله عليه وسلم والرسول لم ينفه إلا عن صاحب كبيرة وإلا فالمؤمن الذي يفعل الصغيرة هي مكفرة عنه بفعله للحسنات واجتنابه للكبائر لكنه ناقص الإيمان عمن اجتنب الصغائر فما أتى بالإيمان الواجب ولكن خلطه بسيئات كفرت عنه بغيرها ونقصت بذلك درجته عمن لم يأت بذلك. (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما (148) وقد نزلت فيمن ضاف قوما فلم يقروه، لأن قرى الضيف واجب، كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، فلما منعوه حقه كان له ذكر ذلك، وقد أذن له النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعاقبهم بمثل قراه في زرعهم ومالهم، وقال: " نصره واجب على كل مسلم " لأنه قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: " «انصر أخاك ظالما أو مظلوما " قلت: يا رسول الله، أنصره مظلوما فكيف أنصره ظالما؟ قال: تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه» ". وأما الحاجة فمثل استفتاء هند بنت عتبة، كما ثبت في الصحيح أنها «قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني وبني ما يكفيني بالمعروف. فقال: النبي - صلى الله عليه وسلم: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» " أخرجاه في الصحيحين من حديث عائشة، فلم ينكر عليها قولها، وهو من جنس قول المظلوم. وأما النصيحة فمثل «قوله - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة بنت قيس لما استشارته فيمن خطبها فقالت: خطبني أبو جهم ومعاوية. فقال: " أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه " وفي لفظ: " يضرب النساء "، " انكحي أسامة» " فلما استشارته حتى تتزوج ذكر ما تحتاج إليه. وكذلك من استشار رجلا فيمن يعامله. والنصيحة مأمور بها ولو لم يشاوره ; فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: " «الدين النصيحة، الدين النصيحة» " ثلاثا. قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ". وكذلك بيان أهل العلم لمن غلط في رواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو تعمد الكذب عليه، أو على من ينقل عنه العلم. وكذلك بيان من غلط في رأي رآه في أمر الدين من المسائل العلمية والعملية ; فهذا إذا تكلم فيه الإنسان بعلم وعدل، وقصد النصيحة، فالله تعالى يثيبه على ذلك، لا سيما إذا كان المتكلم فيه داعيا إلى بدعة، فهذا يجب بيان أمره للناس، فإن دفع شره عنهم أعظم من دفع شر قاطع الطريق. وحكم المتكلم باجتهاده في العلم والدين حكم أمثاله من المجتهدين. ثم قد يكون مجتهدا مخطئا أو مصيبا، وقد يكون كل من الرجلين المختلفين باللسان أو اليد مجتهدا يعتقد الصواب معه، وقد يكونان جميعا مخطئين مغفورا لهما، كما ذكرنا نظير ذلك مما كان يجري بين الصحابة. ولهذا ينهى عما شجر بين هؤلاء سواء كانوا من الصحابة أو ممن بعدهم، فإذا تشاجر مسلمان في قضية، ومضت ولا تعلق للناس بها، ولا يعرفون حقيقتها، كان كلامهم فيها كلاما بلا علم ولا عدل يتضمن أذاهما بغير حق، ولو عرفوا أنهما مذنبان أو مخطئان، لكان ذكر ذلك من غير مصلحة راجحة من باب الغيبة المذمومة. لكن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين أعظم حرمة، وأجل قدرا، وأنزه أعراضا. وقد ثبت من فضائلهم خصوصا وعموما ما لم يثبت لغيرهم، فلهذا كان الكلام الذي فيه ذمهم على ما شجر بينهم أعظم إثما من الكلام في غيرهم. فإن قيل: فأنتم في هذا المقام تسبون الرافضة وتذمونهم وتذكرون عيوبهم. قيل: ذكر الأنواع المذمومة غير ذكر الأشخاص المعينة ; فإنه قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن أنواعا كثيرة، كقوله: " «لعن الله الخمر وشاربها، وعاصرها ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إليه، وبائعها وآكل ثمنها» " و " «لعن الله آكل الربا وموكله، وكاتبه وشاهديه» "، و " «لعن الله من غير منار الأرض» " وقال: " «المدينة حرم ما بين عير إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثا، أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا» ". وقال: " «لعن الله من عمل عمل قوم لوط» " وقال: " «لعن الله المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء» " وقال: " «من ادعى إلى غير أبيه،أو تولى غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا» ". وقال الله تعالى في القرآن: {أن لعنة الله على الظالمين - الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا} [سورة الأعراف: 44 - 45]. فالقرآن والسنة مملوءان من ذم الأنواع المذمومة وذم أهلها ولعنهم، تحذيرا من ذلك الفعل، وإخبارا بما يلحق أهله من الوعيد. ثم المعاصي التي يعرف صاحبها أنه عاص يتوب منها، والمبتدع الذي يظن أنه على حق كالخوارج والنواصب الذي نصبوا العداوة والحرب لجماعة المسلمين فابتدعوا بدعة، وكفروا من لم يوافقهم عليها، فصار بذلك ضررهم على المسلمين أعظم من ضرر الظلمة، الذين يعلمون أن الظلم محرم، وإن كانت عقوبة أحدهم في الآخرة لأجل التأويل قد تكون أخف، لكن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتالهم، ونهى عن قتال الأمراء الظلمة، وتواترت عنه بذلك الأحاديث الصحيحة. فقال: في الخوارج: " «يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وقراءته مع قراءتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم» ". وقال في بعضهم: " «يقتلون أهل الإيمان: ويدعون أهل الأوثان» ". (إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا (150) أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا (151) قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -: والأنبياء كلهم دينهم واحد وتصديق بعضهم مستلزم تصديق سائرهم وطاعة بعضهم تستلزم طاعة سائرهم وكذلك التكذيب والمعصية: لا يجوز أن يكذب نبي نبيا بل إن عرفه صدقه وإلا فهو يصدق بكل ما أنزل الله مطلقا وهو يأمر بطاعة من أمر الله بطاعته. ولهذا كان من صدق محمدا فقد صدق كل نبي؛ ومن أطاعه فقد أطاع كل نبي ومن كذبه فقد كذب كل نبي؛ ومن عصاه فقد عصى كل نبي قال تعالى: {إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا} {أولئك هم الكافرون حقا} وقال تعالى: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون}. ومن كذب هؤلاء تكذيبا بجنس الرسالة فقد صرح بأنه يكذب الجميع؛ ولهذا يقول تعالى: {كذبت قوم نوح المرسلين} ولم يرسل إليهم قبل نوح أحدا وقال تعالى: {وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم}. وكذلك من كان من الملاحدة والمتفلسفة طاعنا في جنس الرسل كما قدمنا بأن يزعم أنهم لم يعلموا الحق أو لم يبينوه فهو مكذب لجميع الرسل كالذين قال فيهم: {الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون} {إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون} {في الحميم ثم في النار يسجرون} وقال تعالى: {فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون} {فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين} {فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون} وقال تعالى عن الوليد: {إنه فكر وقدر} {فقتل كيف قدر} {ثم قتل كيف قدر} {ثم نظر} {ثم عبس وبسر} {ثم أدبر واستكبر} {فقال إن هذا إلا سحر يؤثر} {إن هذا إلا قول البشر}.
__________________
|
![]() |
| الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |