الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال - الصفحة 21 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 194 - عددالزوار : 118964 )           »          حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 202 - عددالزوار : 136806 )           »          الشرق والغرب منطلقات العلاقات ومحدداتها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 59 - عددالزوار : 27295 )           »          وجوب نصرة الدين والسعي في نصرة الأمة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          الصبر على الدعاء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          حصر الواقع ! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          حديث عجيب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          فمِنكَ وحدَك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          علة حديث: (من غسَّل واغتسل) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العام > ملتقى الحوارات والنقاشات العامة
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الحوارات والنقاشات العامة قسم يتناول النقاشات العامة الهادفة والبناءة ويعالج المشاكل الشبابية الأسرية والزوجية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #201  
قديم 16-08-2025, 03:29 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,716
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (199) دعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم أباه إلى التوحيد وترك الشرك (15)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -عز وجل-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا . يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا . يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا . يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا . قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا . قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا . وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا . فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا . وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (مريم: 41-50).
الفائدة العشرون:
قوله -تعالى-: (قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا): فيه فضيلة الإحسان في المعاملة مع الخلق، وهذا من أسباب هدايتهم لمن أراد الله -عز وجل- له الهداية.
ومن القصص العظيمة في فضل الإحسان، وتسببه في هداية مَن شاء الله هدايته: قصة إسلام ثمامة ابن أثال وهو سيد بني حنيفة، وقد أسرته خيل المسلمين؛ فربطة النبي -صلى الله عليه وسلم- في المسجد ثلاثة أيام متتابعة، ثم أتاه النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال له: (مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟)، فَقَالَ: عِنْدِي خَيْرٌ يَا مُحَمَّدُ، إِنْ تَقْتُلْنِي تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ، فَسَلْ مِنْهُ مَا شِئْتَ حَتَّى كَانَ الْغَدُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: (مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟)، قَالَ: مَا قُلْتُ لَكَ: إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، فَتَرَكَهُ حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْغَدِ، فَقَالَ: (مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟)، فَقَالَ: عِنْدِي مَا قُلْتُ لَكَ، فَقَالَ: (أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ)، فَانْطَلَقَ إِلَى نَجْلٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَاغْتَسَلَ ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، يَا مُحَمَّدُ، وَاللهِ مَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ وَجْهٌ ‌أَبْغَضَ ‌إِلَيَّ ‌مِنْ وَجْهِكَ؛ فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ إِلَيَّ، وَاللهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ ‌أَبْغَضُ ‌إِلَيَّ ‌مِنْ دِينِكَ؛ فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيَّ، وَاللهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ ‌أَبْغَضُ ‌إِلَيَّ ‌مِنْ بَلَدِكَ، فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلَادِ إِلَيَّ، وَإِنَّ خَيْلَكَ أَخَذَتْنِي، وَأَنَا أُرِيدُ الْعُمْرَةَ، فَمَاذَا تَرَى؟ فَبَشَّرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ، فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ قَالَ لَهُ قَائِلٌ: صَبَوْتَ، قَالَ: لَا، وَلَكِنْ أَسْلَمْتُ مَعَ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَلَا وَاللهِ، لَا يَأْتِيكُمْ مِنَ الْيَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم-. (رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه).
تركه النبي -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة أيام متتالية، وهو في ذلك يسمع القرآن من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويشاهد المسلمين في الصلاة، ويشهد تعاملهم مع بعضهم، ويشهد السكينة والطمأنينة في هذه البقعة العجيبة؛ مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- التي تأخذ بقلوب الخلق حبًّا لها، ورغبة فيها عن غيرها!
فيتغير ثمامة من داخله، ويبقى أمر الأسر؛ الذي يؤلمه أن يعلن التغيُّر الذي حصل له، والإيمان وهو في ظل الأسر، فيظن الناس أنه أسلم ليُطلَق سراحه، ولا شك أن النفوس الأَبِيَّة العالية تأبى ذلك أن يُقَال عنها، وقد عَلِم النبي -صلى الله عليه وسلم- من وجهه ذلك؛ فأمر بإطلاقه مجانًا، بغير قتلٍ، وبغير فداء رغم حاجة المسلمين، فقال: (أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ).
فينطلق ثمامة وقد تحوَّل فصار إنسان آخر، فينطلق وهو سيد قومه؛ من حقه أن ينصرف إلى وجهته إن شاء، فينطلق إلى أقرب ماء -أي: أقرب بئر في حديقة-، فيغتسل ويرجع إلى مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيشهد الشهادتين، ويقول تلك الكلمات الرائعة في شِدَّة حبِّ دين الإسلام، وحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وحب المدينة؛ فانظر كيف يثمر الإحسان؟ وكيف يثمر العفو والصفح عن الناس؟ وكيف تثمر هذه المعاملة الحسنة الطيبة في أن تعود القلوب إلى الإيمان بفضل الله -عز وجل-، فيمن شاء الله -عز وجل- هدايته.
وفي قصة يوسف -صلى الله عليه وسلم- من أنواع الإحسان إلى مَن أساء إليه: ما يدلك على هذا الخُلُق العالي الرفيع؛ الذي ورثَّه الأنبياء لأبنائهم وأحفادهم، ثم ورثوه لأتباعهم؛ فكذلك كُن -أيها المسلم- محسنًا لمَن أساء إليك؛ فأنت -بإذن الله- تكسب أعظم المكاسب بدعوتك، وتنتصر بهذا الخلق العالي الرفيع على هؤلاء الذين لا يعرفون إلا الإساءة، والظلم والعدوان والبغي؛ فالله -سبحانه وتعالى- يحب المحسنين؛ فأحسنوا عباد الله إلى كلِّ مَن حولكم، وأعظم ذلك: الإحسان إلى الوالدين، وهو متأكد تأكد شديدًا؛ قال الله -تعالى-: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا . وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) (الإسراء: 23، 24).
وقال سبحانه و-تعالى-: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ . وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (لقمان: 14، 15).
وقال سبحانه و-تعالى-: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (الأحقاف: 15).
وهذا قد قام به إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- مع أبيه خير قيام؛ رغم الأذى الذي سبَّبه له أبوه، وسوء المعاملة التي هدَّده بها؛ من: الرجم والطرد، والسب، ومع ذلك لم يجد منه إلا السلام، وإلا الإحسان؛ ولذلك قال العلماء: إن أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يخصص الوالدان من درجات التعنيف والتغليظ، بل لا يزال في الدرجة الأولى من التعريف والنصح، والتخويف بالله دون التعنيف والتغليظ والضرب؛ كما قال -سبحانه وتعالى-: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا)؛ فلم يجعل الكفر سببًا لإلغاء الإحسان إلى الوالدين، بل الإحسان باقٍ ومستمر؛ حتى مع كفر الوالدين؛ فضلًا عن فسقهما.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #202  
قديم 16-08-2025, 03:30 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,716
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (200) دعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم أباه إلى التوحيد وترك الشرك (16)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -عز وجل-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا . يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا . يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا . يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا . قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا . قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا . وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا . فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا . وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (مريم: 41-50).
الفائدة الحادية والعشرون:
قوله -تعالى-: (قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا) دليل على وجوب بر الوالدين على جميع الأحوال؛ فليعلم كل ابن وبنت وجوب بر الوالدين على الدوام، ووجوب الإحسان إليهما حتى ولو كانا كافرين أو فاسقين، ولو أمرا بمنكرٍ فإنك لا تستجيب لهما طاعة لله -عز وجل- وتعظيم لأمره، ولكنك في نفس الوقت لا تسئ المعاملة، بل تحسن إليهما؛ قال -تعالى-: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا . وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) (الإسراء: 23، 24).
وأما الاستغفار للمشرك الذي لم يمت على الشرك ولا يزال حيًّا؛ فالآية تدل على جواز الاستغفار له كما قال إبراهيم: (سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا)؛ فإنه لم يجابه السيئة بالسيئة، بل بالحسنة، بل زاده أنه يستغفر له، ويجوز الاستغفار للكافر طالما كان حيًّا، وذلك أن الله إنما يغفر له بأن يهديه؛ ولذا قال إبراهيم -عليه السلام-: (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي)، وظل يستغفر له إلى أن مات على الكفر؛ كما قال ربنا -سبحانه وتعالى-: (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (التوبة: 114)، وذلك لأنه مات كافرًا؛ فهذا ليس فيه الأسوة في الاستغفار للمشركين؛ لأن قول إبراهيم لأبيه كان عن موعدة وعدها إياه، وكان في فترة حياته، فكان وفاءً بالوعد، فيجوز الاستغفار لغير الأب من المشركين والكافرين ما داموا أحياءً؛ كما قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، ‌ضَرَبَهُ ‌قَوْمُهُ ‌فَأَدْمَوْهُ، فَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ، وَيَقُولُ: رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ" (متفق عليه).
فيجوز الدعاء للكفار وإن آذوا الأنبياء وإن جرحوهم، وذلك من سعة الرحمة التي جعلها الله -عز وجل- في قلوب الأنبياء، وهذا الاستغفار لا ينفع الكافر إلا إذا تاب واهتدى؛ فإنما يُغفر للكافر بأن يتوب من الشرك، وأن يرزقه الله الدخول في الإسلام؛ قال الله -عز وجل-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (النساء: 48)، فأما إذا مات مشركًا لم يجز الاستغفار له، ولم يجز الاسترحام له، ولا يشرع طلب الرحمة للكافر، وهو على كفره ولو كان حيًّا، ولكن الذي يشرع هو الاستغفار وطلب المغفرة له، وهو بمعنى طلب الهداية؛ كما ثبت في الحديث عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-: كَانَ ‌اليَهُودُ ‌يَتَعَاطَسُونَ عِنْدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- يَرْجُونَ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: يَرْحَمُكُمُ اللَّهُ، فَيَقُولُ: (يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وذلك أن طلب المغفرة فيه إقرار بأنه على ذنب عظيم، وفيه بيان أنه على خلاف الهدى؛ ولذا يُدعَى له بالهداية، ويدعى له بالمغفرة بأن يتوب الله عليه، ومن هذا قول إبراهيم -عليه السلام-: (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (إبراهيم: 36).
وهذا لا يعني منع الدعاء على من زاد ظلمه وكفره، وصار ممَّن يصد عن سبيل الله؛ فإن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد دعا على مَن جرحوه مدة من الزمن؛ حتى أنزل الله: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) (آل عمران: 128)، ودعا على رعل وذكوان، وعصية عصت الله ورسوله -قبائل من المشركين قتلوا أصحابه-، وإن كان الأفضل ترك الدعاء على أعيانهم؛ أما الدعاء على المجموع: فهذا هدي الصحابة -رضي الله تعالى عنهم-، كما كان أُبَي بن كعب -رضي الله عنه- في تراويح رمضان -في النصف الأخير من رمضان- يدعو على الكفرة من أهل الكتاب الذين يقاتلون المسلمين، فكان يقول: "اللهم قاتل كفرة أهل الكتاب الذين يصدون عن سبيلك، ويكذبون رسلك، ولا يؤمنون بوعدك، وخالف بين كلمتهم، وألقِ في قلوبهم الرعب، وألقِ عليهم رجزك وعذابك إله الحق"، وهذا مأخوذ من هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- كذلك؛ فهذا جائز، وهذا جائز، والأفضل الدعاء لهم بالهداية بأن يتوب عليهم من الشرك.
الفائدة الثانية والعشرون:
في قوله -عز وجل-: (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا): نجد في هذه الآية الكريمة استشعار إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لمعاني أسماء الله وصفاته، واستحضاره لنعمه عليه؛ خاصة في قوله (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) ولم يقل: "ربك"، أو "ربكم"، أو "ربنا"، أو "رب العالمين"، وإنما قال: (رَبِّي)؛ يستغفر ربه -عز وجل- بهذه الخصوصية التي بينه وبينه: (إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا) أي: عوَّده الإجابة دائمًا.
والمؤمن إذا تذكر إجابة الله لدعوته التي دعا بها؛ كان ذلك من أسباب مزيد الرجاء، وكان ذلك من أسباب طلب مزيد الفضل من الله -عز وجل-؛ فإنه -عز وجل- حفي بعباده المؤمنين، وهو -سبحانه- حفي بأنبيائه أعظم من غيرهم؛ فقد عوَّدهم أن يجيبهم، وعوَّدهم أن يصلح شأنهم، وعودهم أن يتولى أمرهم بنفسه، وهو -سبحانه- الذي امتن على عباده المؤمنين بذلك.
وهذا الاستحضار لمعاني الأسماء والصفات من أعظم أسباب إجابة الدعاء، وكثرة الدعاء بأسماء الله وصفاته في أدعية الكتاب والسنة من أعظم ما يبيِّن لك أهمية أن يكون العبد متعلقًا بأسماء الله وصفاته العليا، متذكرًا نعمته، مثنيًا عليه بها، مستحضرًا خصوصية العبودية لله التي امتن الله عليه بها دون غيره، وامتن عليه بدين الإسلام وغيره من أهل الملل على الكفر، مع أنهم اقترنوا به في نفس الزمان، وربما في نفس المكان.
والعبد المؤمن بينه وبين الله ما لا يعلمه الناس؛ كما قال يعقوب -عليه الصلاة والسلام-: (إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (يوسف: 96)، وهكذا يتكرر هذا المعنى كثيرًا في أدعية الأنبياء؛ لأنهم يعلمون من الله ما لا يعلمه الناس، ويستحضرون من معاني أسمائه وصفاته ما يطهِّر قلوبهم بين يديه -عز وجل- مستشعرين عظمته وقوته، وتدبيره لهذا الكون بكلِّ ما فيه علويه وسفليه، ظاهره وباطنه، ويستحضرون أن الأمر من عنده -سبحانه-؛ لا من عند الناس.
وفي الآية دليل على إثبات اسم الله الحفي -سبحانه-؛ المجيب لعباده المؤمنين على الدوام.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #203  
قديم 23-08-2025, 01:00 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,716
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (201) دعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم أباه إلى التوحيد وترك الشرك (17)




كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -عز وجل-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا . يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا . يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا . يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا . قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا . قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا . وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا . فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا . وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (مريم: 41-50).
الفائدة الثالثة والعشرون:
في قوله -تعالى-: (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا): فيه اعتزال أهل الكفر والشرك، وكذا الفسوق والعصيان إذا وصلت الدعوة إلى الله إلى مداها، وبلغت القريب والبعيد، وبلغت القاصي والداني، وعندما تُقَام الحجج ويستمر الكفرة وكذا الفسقة على إعراضهم؛ فعند ذلك تُشرَع المفارقة والانشغال بوجوه أخرى من العبودية لله -عز وجل- في مكان آخر.
وإبراهيم -عليه الصلاة والسلام- دعا إلى الله -عز وجل- حتى وَصَل إلى هذه الغاية؛ فعند ذلك شُرِع له الاعتزال. (وَأَعْتَزِلُكُمْ) أي: أفارقكم. وهذا مثل قوله -عز وجل-: (وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ) (الصافات: 99)، وقوله -سبحانه وتعالى- عنه: (وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (العنكبوت: 26)، وكان ذلك بعد أن ألقوه في النار ونجَّاه الله -عز وجل- منها، فإبراهيم -عليه السلام- دعا أباه ودعا قومه، وبيَّن لهم وأقام عليهم الحجج؛ فما وجد منهم إلا التكذيب والأذى والاضطهاد الشديد، وألقوه في النار، فكانت نجاته بأمر الله -عز وجل- بكلمته -سبحانه-: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ) (الأنبياء: 69).
فلما اكتمل هذا الأمر هاجر إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- واعتزل أهل الباطل، واعتزل باطلهم، وهذا الاعتزال سنة ماضية طالما وصلت الدعوة إلى الله إلى غايتها، وظل أهل الباطل على إعراضهم.
وهذه العزلة يجب منها قَدْرٌ في كلِّ وقت على كلِّ مسلم، وهو ما يلزمه من اعتزال فعل الباطل، ومن اعتزال عقائد الباطل، ومن اعتزال سلوك وأخلاق أهل الباطل؛ هذا قَدْرٌ واجب على مرِّ الزمان، فلا يسمح له لأجل قرابته ولا مواطنته، ولا قوميته: أن يشارك أقاربه، أو مواطنيه، أو قومه في باطلهم، وإنما أباح الله -عز وجل- موافقة ظاهرة لأهل الباطل عند الإكراه فقط -ومثله التقية-؛ قال الله -عز وجل: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (النحل: 106).
وقال الله -عز وجل-: (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (النور: 33). وقال -سبحانه-: (لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) (آل عمران: 28).
قال غير واحد من العلماء: إلا أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم؛ فتداروهم باللسان، مع طمأنينة القلب بالإيمان، من غير أن يستحل مالًا حرامًا، ولا دمًا حرامًا، ولا يدلهم على عورات المسلمين، بالقدر الذي يدفع به شرهم.
وما أباح الله ذلك لمجاملة، ولا لمداهنة، ولا لأمورٍ متوهَّمَة يظنها البعض مصالح، وهي مفاسد؛ فإن التضحية بالعقيدة والإيمان من أجل ما يظنه البعض مصلحة هو أعظم مفسدة.
وكذلك لا تحل هذه الموافقة لمجرد علاقات عائلية، أو روابط وطنية، أو قومية، أو عاطفية، أو غير ذلك؛ ما أجاز الله للإنسان أن يوافق أهل الكفر والباطل والمعاصي إلا لمَن أكره وقلبه مطمئن بالإيمان؛ فلا يجوز لمسلمٍ أن يوافق أهل الباطل بزعم أنه يعيش وسطهم.
إن مَن عاش وسط قوم فلا بد أن يحترم قوانينهم وأوضاعهم، وعاداتهم وتقاليدهم لا يجوز ذلك إلا عند الإكراه المعتبر شرعًا بشروطه المعتبرة، وليس مجرد وجود الإنسان في مكان يجعله مضطرًا لموافقتهم على أمورٍ قرَّروها تخالف الشرع، بل لا بد أن يكون هناك إكراه مادي معتبر بأن يوجد تهديد بقتل أو قطع عضو من الأعضاء، أو تعذيب أو حبس، أو قيد أو إتلاف مال عظيم، ونحو ذلك، مع تفاوت ما يكره عليه؛ خاصة إذا كان الإنسان إنما يقيم هناك لدنيا يصيبها من أجل مصالح مادية وتحسين مستوى المعيشة، وتحصيل أموال ليس هو مضطرًا إلى ذلك، وإنما يريد شيئًا من متاع الدنيا؛ فهذا يؤكِّد عدم جواز الموافقة.
وليس الإكراه المعتبر في نطق كلمة الكفر كالإكراه المعتبر في قبول هدية، أو غيرها، وإنما يعتبر ذلك بالنظر في أدلة الكتاب والسُّنة؛ فلا يعتبر -مثلًا- السجن إكراهًا على الزنا في حقِّ الرجل، ولا في حق المرأة؛ فلو حُبِس سنين على أن يزني -مثلًا- ما كان ذلك معتبرًا شرعًا، وأما القتل والتهديد به مع غلبة الظن على حصول ذلك، أو التعذيب الشديد كما وقع لعمار؛ فهذا إكراه معتبر شرعًا.
وإذا لم يستطع العبد أن يقيم دينه إلا بأن يعتزل أهل الباطل ويفارقهم، ويفارق ديارهم؛ وجب عليه ذلك، وهي الهجرة في سبيل الله، إذا كان لا بد من مفارقتهم حتى لا يتأثر هو وأولاده في سلوكه وعمله وعقيدته.
فصحبة أهل الشر تجلب على الإنسان موافقتهم ومشابهتهم فيما هم فيه، وهذا واقع مشهود في كثيرٍ من الناس؛ لأن مصاحبته للكفرة والظلمة، والعصاة، والفسقة، والمجرمين تهيِّئه وتقوده إلى فعل أفعالهم، وإلى موافقتهم في باطنه بعد أن يكون في ظاهره -والعياذ بالله من ذلك-.
وكثيرٌ مِن الناس يحب أهلَ الباطل؛ لكثرة معاشرتهم! فمن وجد نفسه في خلطة لقرناء السوء، ووجد أن هذه الخلطة تقوده لموافقتهم؛ وجب عليه مفارقتهم على الفور.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #204  
قديم 23-08-2025, 01:02 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,716
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (202) دعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم أباه إلى التوحيد وترك الشرك (18)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -عز وجل-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا . يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا . يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا . يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا . قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا . قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا . وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا . فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا . وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (مريم: 41-50).
في قوله -تعالى-: (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا): أن العبد إذا لم يستطع أن يُقيم دينه إلا بأن يُفارق أهل الباطل ودارهم؛ وَجَب عليه ذلك.
وكذا لا بد من مفارقتهم حتى لا يتأثر بهم في سلوكه وعمله، فصحبة أهل الشر والسوء تجلب على الإنسان موافقتهم ومشابهتهم فيما هم فيه، وهذا واقع مشهود في كثيرٍ من الناس؛ أن مصاحبته للكفرة والظلمة، والعصاة والفسقة، والمجرمين تهيِّئه وتقوده إلى فعل أفعالهم، وإلى موافقتهم في باطنه قبل أن يكون في ظاهره -والعياذ بالله من ذلك-؛ فكثير من الناس يحب أهل الباطل لكثرة معاشرتهم، فمن وجد نفسه في خلطة لقرناء السوء، ووجد أن هذه الخلطة تقوده إلى موافقتهم وجب عليه مفارقتهم على الفور، فلا يجوز له أن يُقيم وسطهم إلا مع الإنكار عليهم ودعوتهم إلى الله؛ ولهذا أقام الأنبياء في بلاد الكفر يدعون إلى الله، ويُنكرون الكفر والشرك والفسوق والعصيان.
ولا يجوز لمسلم أن يقيم في أرض يفعل فيها الكفر والفسوق والعصيان؛ إلا لغرض شرعي صحيح كالإنكار عليهم، أو إنقاذ مسلم من هلكة، أو مصلحة شرعية أخرى، وأما أن يكون مقيمًا لأجل دنيا يُصيبها أو أهل أو مال أو ولد؛ فهذا ممَّن يُقال له: (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا) (النساء: ??)، فطالما كان عاجزًا عن إقامة دينه متأثرًا بحالهم -ولا شك أنه يتأثر- لزمه التحول عنهم؛ فإن الإنسان إنما يتأثر بأصحابه وأصدقائه أعظم تأثير، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرُ أَحَدُكُم مَنْ يُخَالِلُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وقال: (لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا، وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيُّ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
والصداقة من معاني الموالاة فلا تصح لكافر، بل لا يجوز أن يُصادق الفسقة والفجرة والظلمة، ولا أن يسكت عليهم حين يجلس معهم في مجالسهم، قال -تعالى-: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا) (النساء: ???).
وقال -تعالى-: (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ) (هود: ???).
فأنجى الله الذين كانون ينهون عن السوء وقال: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) (الأعراف: ???).
ومَن لم يتمعَّر وجهه في الله وهو يرى المنكرات أمامه، ولا يقيم لغرض شرعي صحيح؛ فهذا يُبدأ به في العقاب؛ فإنه لم يتمعر ولم يتغير وجهه في الله، ولا يكون صالحًا وإن كان يُظهر الصلاح أو يفعل في نفسه الصلاح.
فليوطن كل مسلم نفسه على أن يعتزل الباطل وأهله؛ يعتزل الباطل فلا يفعله، ولا يعتقده، ولا يرضى به، ولا يُقر به، وكذلك لا يُصاحب أهل الباطل، بل يعتزلهم، ويُفارقهم إلا لغرض شرعي صحيح.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #205  
قديم 23-08-2025, 01:03 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,716
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (203) دعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم أباه إلى التوحيد وترك الشرك (19)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -عز وجل-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا . يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا . يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا . يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا . قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا . قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا . وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا . فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا . وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (مريم: 41-50).
في قوله -تعالى-: (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) أي: ما تدعون من دون الله من آلهة باطلة.
(وَأَدْعُو رَبِّي): أفرده بالدعاء الذي هو العبادة، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الدُّعَاءُ ‌هُوَ ‌العِبَادَةُ) (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني).
(عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا) فالدعاء من أعظم أسباب السعادة؛ فمن دعا الله -عز وجل- إلهًا واحدًا لا شريك له، ودعاه لقضاء حوائجه، وأثنى عليه بما هو أهله؛ فهذا يسعد في الدنيا والآخرة.
و(عَسَى) من الله واجبة، وهي على ألسنة أنبيائه منه -سبحانه وتعالى-؛ فلذا قال: (عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا) فلا يشقى إنسان بالدعاء، فالدعاء من أعظم أسباب الراحة، ومن أعظم أسباب النجاة والسعادة والفوز فلا يتركه إلا جاهل؛ هذا السلاح الأعظم هو ما ننصر به، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (‌هَلْ ‌تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ) (رواه البخاري)، أي: بدعائهم، وتضرعهم وانكسارهم.
ومن حكم تقدير الله -عز وجل- البلاء على المؤمنين: أن تنكسر قلوبهم لله -تعالى-، ويستشعروا فقرهم وعجزهم، وحاجتهم إلى الله -سبحانه وتعالى-، فيُكثروا من الدعاء وهم مستشعرون أنهم ليس لهم إلا الله، ولا سبيل لهم إلا التوجه إليه -سبحانه وتعالى-، وما لهم من دونه من والٍ، وأنه -سبحانه- هو مولاهم، ما لهم مولى سواه، وأهل الأرض جميعًا قد تركوهم، بل قد اجتمعوا عليهم، ورموهم عن قوس واحدة؛ قدَّر الله ذلك لتلتجئ القلوب إليه، وتصعد الأدعية إليه، ولا يشقى مع الدعاء أحد إلا مَن حُرِمَه، نسأل الله ألا يحرمنا دعاءه، والإجابة من فضله -سبحانه وتعالى-.
لقد جعل الله -عز وجل- أنبياءه ورسله الأسوة الحسنة في البذل والتضحية في سبيل الله -سبحانه وتعالى-، وفي اللجوء إلى الله -عز وجل- والرضا به مدبرًا معينًا، وجعلهم قدوة للعباد في الصبر على ما يصيبهم في سبيل الله، وبيَّن الله -عز وجل- للعباد ما فعل لهم من الكرامة في الدنيا والآخرة.
قال -تعالى- عن إبراهيم -عليه السلام- في محاورته لأبيه: (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا . وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا).
هاجر إبراهيم -عليه السلام- بعد أن استنفد أغراض الدعوة إلى الله في قومه بأن أقام عليهم الحجة، وهدى الله -عز وجل- به من شاء؛ فهدى به لوطًا -عليه السلام-، قال -تعالى-: (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) (العنكبوت: 26)، وهدى به امرأته سارة، وكانت فيما يذكرون ابنة أحد ملوكهم أو أمرائهم، أو كانت ابنة عمه، فالله -عز وجل- أعلى وأعلم، لكنها مع ذلك آثرت أن تهجر قومها وأن تهاجر في سبيل الله مع إبراهيم -عليه السلام- حين ترك الأهل والمال والوطن لله، وذهب إلى ربه -عز وجل-، وذهب إلى الأرض المقدسة، وسكن في ديارٍ لم يسكنها من قبل، وقال: (إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ) (الصافات: 99).
ومن ترك شيئًا لله أعطاه الله -عز وجل- خيرًا منه، ومن ضحى بشيء في سبيل الله؛ فلا بد أن يجزيه الله حياة طيبة في الدنيا، وثوابًا آجلًا يوم القيامة؛ قال -تعالى-: (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ) لما فارق أهله لله -عز وجل-؛ عوضه الله خيرًا منهم، وأي صحبة أحسن من صحبة الأنبياء؟! فهذه هي الصحبة الحسنة التي عوضه الله -عز وجل- بها عن مفارقته لقومه.
وكذلك كل من يترك شيئًا لله، فإن الله يأتيه بما هو خير منه، والله -عز وجل- يعطي من فارق أهل السوء الخير الكثير في صحبة أهل الخير والإيمان، وصحبة الأنبياء سعادة بالغة عظيمة؛ فالنبي -صلى الله عليه سلم- وهو بالمحل الأعلى، وهو أفضل خلق الله -عز وجل-؛ قال -وهو في مرض موته-: (اللَّهُمَّ ‌فِي ‌الرَّفِيقِ ‌الْأَعْلَى) (رواه البخاري).
والله -تعالى- قد أمر بمصاحبة الصالحين؛ فقال لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) (الكهف: 28).
فلما اعتزل إبراهيم -عليه السلام- أهله وقومه، وترك كل ذلك لله -عز وجل-؛ آتاه الله الذرية الصالحة -إسحاق ويعقوب-، ولم يذكر الله -عز وجل- في هذا الموضع إسماعيل مع أنه الابن الأكبر لإبراهيم؛ وذلك لأنه إنما ذكر ذلك في مقام الامتنان عليه بالصحبة، ولقد كان إسماعيل -عليه السلام- بعيدًا- عن صحبته؛ إذ جعله الله -عز وجل- مع أبيه إبراهيم سببًا لتعمير بيت الله الحرام، فكان في مكة المكرمة مع أمه هاجر.
وإنما ذكر الله -عز وجل- إسحاق وابنه يعقوب -عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام-؛ لأنهما اللذان صحبا إبراهيم -عليه السلام-.
ولا شك أن هذا فيه من المِنَّة على إبراهيم -عليه السلام- ما يجعلنا ننتبه إلى هذه المسألة المهمة؛ وهي: نعمة صحبة أهل الخير والإيمان، ونعمة صحبة الصالحين والبحث عنهم، ومفارقة أهل السوء واعتزالهم ومخالفتهم؛ رضًا بما قسم الله -سبحانه وتعالى-.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #206  
قديم 23-08-2025, 01:04 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,716
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (204) دعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم أباه إلى التوحيد وترك الشرك (20)




كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -عز وجل-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا . يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا . يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا . يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا . قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا . قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا . وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا . فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا . وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (مريم: 41-50).
وإذا علمنا أن إبراهيم -عليه السلام- إنما وهب ذلك الولد، وولد الولد بعد عمر طويل؛ كما قال -عز وجل- عنه: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ) (إبراهيم: 39)؛ نتبيَّن أن الله قد يؤخِّر إجابة دعوة عبده المؤمن وهو قد قضاها وأجابها، ولكنه يؤخر ظهورها في حياة المؤمن على وجه الأرض لحِكَمٍ بالغةٍ.
وليوقن المؤمن رغم مرور الزمن بأن الله -عز وجل- يجيب دعوته؛ فإبراهيم -عليه السلام- لم يقنط من رحمة ربه أبدًا رغم أنه قد بلغه الكبر، وتعجب حين بلغه نبأ وبشارة ولادة إسحاق -عليه السلام-، وقالت له الملائكة في بشارتهم: (قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ . قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) (الحجر: 55، 56)، فهو على الكبر لم ييأس من رحمة الله، وكان يعلم أن الله -عز وجل- يجيب دعوته؛ فقد قال: (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) (الصافات: 100)، فبشَّره الله بإسماعيل أولًا، ثم بإسحاق ثانيًا، وبعد إسحاق يعقوب بن إسحاق، وكل ذلك من فضل الله -سبحانه وتعالى-.
فلا نستعجل في الدعاء، ونقول: دعونا فلم يُستجب لنا؛ فإن الله -عز وجل- لم يجعل للمؤمن شقاءً مع الدعاء: (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) (مريم: 4)؛ فإذا دعا العبد ربه فقد ربح في دنياه وآخرته، وقد حصل على ما يريد أو أفضل مما يريد؛ فإما أن يستجيب الله دعوته، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها، وإما أن يدخر له يوم القيامة من الثواب ما يتمنى معه أن لم يكن قد استُجيب شيء من دُعائه في الدنيا، وإلا فكل دعواته مجابة؛ قال -سبحانه-: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر: 60)، وقال -عز وجل-: (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) (الشورى: 26)، فهو -عز وجل- يستجيب للمؤمنين، ولكن بما هو خير لهم، بما لا يحسن المؤمن تصوره، وربما ظن خيرًا في أمر، ويجعل الله غيره خيرًا منه لعبده المؤمن.
فالله -عز وجل- يدبر أمر عباده المؤمنين بعلمه وحكمته، وفضله ورحمته -سبحانه وتعالى-؛ فعلى العبد أن يرضى بما قضاه الله -عز وجل-، ويوقن بوعد الله، ويوقن بإجابة الدعوات، وعليه أن يظل متضرعًا منكسرًا لله، ولا يشك في وعد الله، فإن الله لا يخلف الميعاد؛ قال -تعالى-: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر: 60)، وقال -تعالى-: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة: 186).
والله وعد عباده المؤمنين بالإجابة وهو أكبر وأكثر فضلًا، وإذا أكثر العباد من الدعاء أكثر الله لهم من العطاء، وكلما تضرع الإنسان إلى الله -عز وجل- وانكسر له؛ جَبَرَه الجبار -سبحانه وتعالى- بفضله ورحمته؛ فعلينا أن نكثر من الدعاء دائمًا ولا نستعجل، ولا نقول: دعونا فلم يستجب لنا؛ فإبراهيم -عليه السلام- هاجر بعد دعوته إلى الله -عز وجل- وبقي في أرض فلسطين مدة طويلة من الزمن إلى أن وهبه الله عز وجل إسحاق ويعقوب.
قال الله -تعالى-: (وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا . وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (مريم: 50،51)، فالله -عز وجل- وهب لهم من رحمته بالهداية للإيمان وبالتوفيق للعمل الصالح بأن جعلهم أئمة يهدون بأمره، وهذه الرحمة الخاصة -الرحمة بالدين، والرحمة بالعمل الصالح- هي أكبر وأعظم أثرًا من الرحمة العامة التي يرحم بها المؤمن والكافر بالطعام والشراب، والنَّفَس، والنِّعم الدنيوية؛ فإن أعظم الرحمة هي الرحمة التي سببها عطاء الله -عز وجل- وتوفيقه للعمل بطاعته، كما قال -تعالى-: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ ? وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) (الأنبياء: 73)، فهذا معنى: (وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا)، فهي الرحمة التي يخص الله -عز وجل- بها عباده المؤمنين، وهي التي تبقى وتستمر معهم، (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) (الأعراف: 156).
وذلك أنه إذا رحمهم الله -عز وجل- بطاعته، كان ذلك سببًا لرحمته المستمرة المستقرة التي لا عذاب معها ولا شقاء أبدًا، وذلك بأن تكتب لهم الرحمة في الآخرة؛ فكل من وهبه الله -عز وجل- نعمة الإيمان، ووهبه له نعمة العمل الصالح ووفقه للعمل بطاعته؛ فقد قَسَم الله له من رحمته ما لم يقسم لغيره، فليشكر نعمة الله بالثبات، وليشكر نعم الله بمزيد الطاعة والخير، وهداية الناس إلى صراط الله المستقيم، ومزيد من العبودية لله -عز وجل-، (وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) (الأنبياء: 73).
قال -تعالى-: (وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (مريم: 50)؛ جعل الله لإبراهيم وإسحاق ويعقوب، ولآل إبراهيم جميعًا -عليهم جميعًا وعلى نبينا الصلاة والسلام- لسان صدق في الآخرين؛ وذلك أن الناس تثني عليهم، واجتمعت الأمم على مباركتهم والدعاء والثناء لهم؛ كما أخبر الله عن دعوة إبراهيم: (رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ . وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) (الشعراء: 83، 84). وذلك اللسان الصدق هو: الثناء الحسن من أهل الإيمان، وهذا هو المقصود باللسان العلي؛ أي: رفيع القَدْر؛ لأن أهل الإيمان إذا أثنوا على أحدٍ؛ فإن الله يوجب له الخير.
وليس هناك اعتبار إلا بثناء أهل الخير والإيمان، فإنهم شهداء الله -عز وجل- في أرضه: كما في الحديث عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: ‌مَرُّوا ‌بِجَنَازَةٍ، ‌فَأَثْنَوْا ‌عَلَيْهَا ‌خَيْرًا، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (وَجَبَتْ)، ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا، فَقَالَ: (وَجَبَتْ)، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: مَا وَجَبَتْ؟ قَالَ: (هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا، فَوَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا، فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الْأَرْضِ) (متفق عليه).
فأهل الخير والإيمان هم المعتبَرون في الثناء، وفي المديح، وفي الذِّكْر الحَسَن، وأما أهل الباطل فمدحهم وذمهم لا قيمة له، (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) (الفرقان: 44)، فهم يمدحون الباطل ويذمون الحق؛ فلا اعتبار لهم، ولا تقبل شهادتهم عند الله -عز وجل-.
فقوله -تعالى-: (وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ) (مريم: 50)؛ أي: ثناءً حسنًا، (عَلِيًّا): عليّ القدر، مرتفعًا في الناس؛ وذلك لأن أهل الإيمان هم الذين يشهدون لهم بالخير والسبق.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #207  
قديم 23-08-2025, 01:05 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,716
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (205) تحطيم إبراهيم صلى الله عليه وسلم للأصنام وإنجاء الله له من النار (1)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
(وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ . قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ . قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ . قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ . قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ . وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ . فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ . قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ . قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ . قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ . قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ . قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ . فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ . ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ . قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ . أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ . قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ . قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ . وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ . وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ . وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ. وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) (الأنبياء: 51-73).
الدعوة إلى الله لها صور عديدة تتنوع حسب الظروف والأحوال؛ فمنها ما يكون باللسان، ومنها ما يكون باليد عند وجود ضوابطها، ولقد قام نبي الله إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- بأنواع الدعوة، وإقامة الحجة على قومه، وكان من ذلك: تحطيمه الأصنام بيده؛ وذلك لإقامة الحجة عليهم، ولو كان الغرض مجرد إزالة المنكر الموجود، لكان البدء بتحطيم الصنم الكبير، وإنما كان الغرض إزالة المنكر في القلوب الضالة الجاهلة التي تعظِّم الأصنام رغم علمها أنها لا تنطق، وبالأولى لا تنفع ولا تضر.
ولقد تضمنت قصة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- في سورة الأنبياء أنواعًا من العِبَر والعِظَات نذكرها -إن شاء الله- بعد تفسير الآيات.
قال ابن كثير -رحمه الله-: "يخبر -تعالى- عن خليله إبراهيم -عليه السلام- أنه آتاه رشده من قبل؛ أي: ‌من ‌صغره ‌ألهمه ‌الحق ‌والحجة ‌على ‌قومه، كما قال -تعالى-: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ) (الأنعام: 83)، وما يذكر من الأخبار عنه في إدخال أبيه له في السرب وهو رضيع، وأنه خرج بعد أيام فنظر إلى الكوكب والمخلوقات فتبصَّر فيها، وما قصَّه كثير من المفسرين وغيرهم فعامَّتها أحاديث بني إسرائيل، فما وافق منها الحق مما بأيدينا عن المعصوم، قبلناه لموافقته الصحيح، وما خالف شيئًا من ذلك رددناه، وما ليس فيه موافقة ولا مخالفة لا نصدقه ولا نكذبه؛ بل نجعله وقفًا، وما كان من هذا الضرب منها فقد رخصَّ كثير من السلف في روايته، وكثير من ذلك مما لا فائدة فيه ولا حاصل له مما لا ينتفع به في الدين، ولو كانت فائدته تعود على المكلفين في دينهم لبينته هذه الشريعة الكاملة الشاملة، والذي نسلكه في هذا التفسير الإعراض عن كثير من الأحاديث الإسرائيلية؛ لما فيها من تضييع الزمان، ولما اشتمل عليه كثير منها من الكذب المروَج عليهم، فإنهم لا تفرقة عندهم بين صحيحها وسقيمها، كما حرَّره الأئمة الحفاظ المتقنون من هذه الأُمة.
والمقصود ههنا: أن الله -تعالى- أخبر أنه قد آتى إبراهيم رشده من قبل؛ أي: من قبل ذلك.
وقوله: (وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ) أي: وكان أهلًا لذلك.
ثم قال: (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ) هذا هو الرشد الذي أوتيه من صغره؛ الإنكار على قومه في عبادة الأصنام من دون الله -عز وجل-، فقال: (مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ) أي: معتكفون على عبادتها.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد الصباح، حدثنا أبو معاوية الضرير، حدثنا سعيد بن طريف، عن الأصبغ بن نباتة قال: مَرَّ عليٌّ -رضي الله عنه- على قوم يلعبون بالشطرنج، فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟ لأن يَمسَّ أحدكم جمرًا حتى يطفأ، خير له من أن يمسَّها.‌
‌‌(قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ) لم يكن لهم حجة سوى صنيع آبائهم الضلال؛ ولهذا قال: (لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) أي: الكلام مع آبائكم الذي احتججتم بصنيعهم كالكلام معكم، فأنتم وهم في ضلال على غير الطريق المستقيم، فلما سفه أحلامهم وضلل آباءهم واحتقر آلهتهم.
‌‌(قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ) يقولون: هذا الكلام الصادر عنك تقوله لاعبًا أم محقًا فيه، فإنا لم نسمع به قبلك. ‌‌(قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ) أي: ربكم الذي لا إله غيره، وهو الذي خلق السماوات والأرض وما حوت من المخلوقات الذي ابتدأ خلقهن، وهو الخالق لجميع الأشياء (وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) أي: وأنا أشهد أنه لا إله غيره ولا رب سواه، ‌(وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ).
ثم أقسم الخليل قسمًا أسمعه بعض قومه ليكيدنَّ أصنامهم؛ أي: ليحرصنَّ على أذاهم وتكسيرهم بعد أن يولوا مدبرين؛ أي: إلى عيدهم، وكان لهم عيد يخرجون إليه.
قال السدي: لما اقترب وقت ذلك العيد قال أبوه: يا بني لو خرجت معنا إلى عيدنا لأعجبك ديننا، فخرج معهم، فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه إلى الأرض، وقال: إني سقيم فجعلوا يمّرون عليه وهو صريع فيقولون: مه، فيقول: إني سقيم، فلما جاز عامتهم وبقي ضعفاؤهم قال: (وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ) فسمعه أولئك.
وقال أبو إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال: لما خرج قوم إبراهيم إلى عيدهم مرّوا عليه، فقالوا: يا إبراهيم ألا تخرج معنا؟ قال: إني سقيم، وقد كان بالأمس، قال: (وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) فسمعه ناس منهم.
‌‌وقوله: (فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا) أي: حطامًا كسرها كلَّها، إلا كبيرًا لهم؛ يعني: إلا الصنم الكبير عندهم، كما قال: (فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ) (الصافات: 93).
وقوله: (لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ): ذكروا أنه وضع القدوم في يد كبيرهم لعلهم يعتقدون أنه هو الذي غار لنفسه، وأنفَ أن تعبد معه هذه الأصنام الصغار فكسَّرها. (قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ) أي: حين رجعوا وشاهدوا ما فعله الخليل بأصنامهم من الإهانة والإذلال الدال على عدم إلهيتها وعلى سخافة عقول عابديها.
‌‌(قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ) أي: في صنيعه هذا، ‌‌(قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ) أي: قال مَن سمعه يحلف إنه ليكيدنهم: (سَمِعْنَا فَتًى)؛ أي: شابًا، (يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ).
قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عوف، حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا جرير بن عبد الحميد، عن قابوس، (عن أبيه)، عن ابن عباس قال: ما بعث الله نبيًا إلا شابًا ولا أوتي العلم عالم إلا وهو شاب، وتلا هذه الآية: (قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ).
‌‌وقوله: (قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ) أي: على رؤوس الأشهاد في الملأ الأكبر بحضرة الناس كلِّهم، وكان هذا هو المقصود الأكبر لإبراهيم -عليه السلام-؛ أن يبيَّن في هذا المحفل العظيم كثرة جهلهم وقلة عقلهم في عبادة هذه الأصنام، التي لا تدفع عن نفسها ضرًا، ولا تملك لها نصرًا، فكيف يُطلب منها شيء من ذلك؟!
‌‌(قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ . قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا) يعني: الذي تركه لم يكسره (فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ)، وإنما أراد بهذا أن يبادروا من تلقاء أنفسهم فيعترفوا أنهم لا ينطقون، وأن هذا لا يصدر عن هذا الصنم لأنه جماد.
وفي الصحيحين من حديث هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن إبراهيم -عليه السلام- لم يكذب غير ثلاث: ثنتين في ذات الله، قوله: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا)، وقوله: (إِنِّي سَقِيمٌ) (الصافات: 89) قال: وبينا هو يسير في أرض جبار من الجبابرة ومعه سارة، إذ نزل منزلًا فأتى الجبار رجل فقال: إنه قد نزل ههنا رجل بأرضك معه امرأة أحسن الناس، فأرسل إليه فجاء، فقال: ما هذه المرأة منك؟ قال: أختي. قال: فاذهب فأرسل بها إلي، فانطلق إلى سارة فقال: إن هذا الجبار قد سألني عنك، فأخبرته أنك أختي، فلا تكذبيني عنده، فإنك أختي في كتاب الله، وإنه ليس في الأرض مسلم غيري وغيرك، فانطلق بها إبراهيم ثم قام يصلي، فلما أن دخلت عليه فرآها أهوى إليها فتناولها فأُخذ أخذًا شديدًا، فقال: ادعي الله لي ولا أضرك، فدعت له، فأرسل فأهوى إليها، فتناولها فأخذ بمثلها أو أشد، ففعل ذلك الثالثة، فأُخذ فذكر مثل المرتين الأوليين، فقال: ادعي الله فلا أضرك، فدعت له فأرسل، ثم دعا أدنى حجابه فقال: إنك لم تأتني بإنسان، ولكنك أتيتني بشيطان، أخرجها وأعطها هاجر. فأخرجت وأعطيت هاجر فأقبلت، فلما أحسَّ إبراهيم بمجيئها، انفتل من صلاته، وقال: مهيم؟ قالت: كفى الله كيد الكافر الفاجر وأخدمني هاجر". قال محمد بن سيرين: فكان أبو هريرة إذا حدث بهذا الحديث قال: تلك أمكم يا بني ماء السماء" (انتهى من تفسير ابن كثير).
وللحديثة بقية -إن شاء الله-.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #208  
قديم 30-08-2025, 01:24 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,716
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (206) تحطيم إبراهيم صلى الله عليه وسلم للأصنام وإنجاء الله له من النار (2)




كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال -تعالى-: (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ . قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ . قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ . قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ . قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ . وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ . فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ . قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ . قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ . قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ . قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ . قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ . فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ . ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ . قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ . أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ . قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ . قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ . وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ . وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ . وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ. وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) (الأنبياء: 51-73).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "‌قوله -تعالى-: ‌(فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ . ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ . قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ . أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ).
يقول -تعالى- مخبرًا عن قوم إبراهيم حين قال لهم ما قال: (فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ) أي: بالملامة في عدم احترازهم وحراستهم لآلهتهم، فقالوا: (إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) أي: في ترككم لها مهملة لا حافظ عندها.
‌‌(ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ) أي: ثم أطرقوا في الأرض، فقالوا: (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ)، قال قتادة: أدركت القوم حيرة سوء، فقالوا: (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ).
وقال السدي: (ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ) أي: في الفتنة.
وقال ابن زيد: أي: في الرأي، وقول قتادة أظهر في المعنى؛ لأنهم إنما فعلوا ذلك حيرة وعجزًا، ولهذا قالوا له: (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ)؛ فكيف تقول لنا: سلوهم إن كانوا ينطقون، وأنت تعلم أنها لا تنطق؟ فعندها قال لهم إبراهيم لما اعترفوا بذلك: (أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ) أي: إذا كانت لا تنطق وهي لا تنفع ولا تضر، فلم تعبدونها من دون الله؟
‌‌(أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) أي: أفلا تتدبرون ما أنتم فيه من الضلال والكفر الغليظ الذي لا يروج إلا على جاهل ظالم فاجر؟ فأقام عليهم الحجة وألزمهم بها؛ ولهذا قال -تعالى-: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ) (الأنعام: 83).
‌‌(قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ . قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ . وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ).
لما دحضت حجتهم وبان عجزهم، وظهر الحق واندفع الباطل، عدلوا إلى استعمال جاه ملكهم، فقالوا: (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ) فجمعوا حطبًا كثيرًا جدًّا، قال السدي: حتى إن كانت المرأة تمرض فتنذر إن عوفيت أن تحمل حطبًا لحريق إبراهيم، ثم جعلوه في جوبَة من الأرض وأضرموها نارًا، فكان لها شرر عظيم ولهب مرتفع لم توقد نار قط مثلها، وجعلوا إبراهيم -عليه السلام- في كفة المنجنيق بإشارة رجل من أعراب فارس من الأكراد.
قال شعيب الجبائي: اسمه هيزن: فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، فلما ألقوه قال: حسبي الله ونعم الوكيل. كما رواه البخاري، عن ابن عباس: أنه قال: حسبي الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (آل عمران: 173).
وروى الحافظ أبو يعلى: حدثنا أبو هشام، حدثنا إسحاق بن سليمان، عن أبي جعفر، عن عاصم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لما ألقي إبراهيم -عليه السلام- في النار، قال: اللهم إنك في السماء واحد، وأنا في أرض واحد أعبدك". ويروى: أنه لما جعلوا يوثقونه قال: لا إله إلا أنت، سبحانك لك الحمد، ولك الملك لا شريك لك. وقال شعيب الجبائي: كان عمره إذ ذاك ست عشرة سنة. فالله أعلم.
وذكر بعض السلف: أنه عرض له جبريل وهو في الهواء فقال: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، وأما من الله فبلى.
وقال سعيد بن جبير -ويروى عن ابن عباس أيضًا- قال: لما ألقي إبراهيم، جعل خازن المطر يقول: متى أومر بالمطر فأرسله؟ قال: فكان أمر الله أسرع من أمره، قال الله: (يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ) قال: لم يبق نار في الأرض إلا طفئت.
وقال كعب الأحبار: لم ينتفع أحد يومئذٍ بنار، ولم تحرق النار من إبراهيم سوى وثاقه.
وقال (الثوري)، عن الأعمش، عن شيخ، عن علي بن أبي طالب (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ) قال: بردت عليه حتى كادت تقتله، حتى قيل: "وسلامًا" قال: لا تضريه. وقال ابن عباس وأبو العالية: لولا أن الله عز وجل قال: (وَسَلَامًا) لَآذى إبراهيم بردها.
وقال جويبر عن الضحاك: (كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ)، قالوا: صنعوا له حظيرة من حطب جزل، وأشعلوا فيه النار من كل جانب، فأصبح ولم يصبه منها شيء حتى أخمدها الله، قال: ويذكرون أن جبريل كان معه يمسح وجهه من العرق، فلم يصبه منها شيء غير ذلك.
وقال السدي: كان معه فيها ملك الظل.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا مهران، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن المنهال بن عمرو قال: أُخبرت أن إبراهيم ألقي في النار، فقال: كان فيها إما خمسين وإما أربعين، قال: ما كنت أيامًا وليالي قط أطيب عيشًا إذ كنت فيها وددت أن عيشي وحياتي كلها مثل عيشي إذ كنت فيها.
وقال أبو زرعة بن عمرو بن جرير، عن أبي هريرة قال: إن أحسن شيء قال أبو إبراهيم لما رفع عنه الطبق وهو في النار: وجده يرشح جبينه، قال عند ذلك: نعم الرب ربك يا إبراهيم.
وقال قتادة: لم يأت يومئذٍ دابة إلا أطفأت عنه النار، إلا الوزغ.
وقال الزهري: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله، وسماه فويسقًا.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عبيد الله ابن أخي ابن وهب، حدثني عمي، حدثنا جرير بن حازم أن نافعًا حدثه قال: حدثتني مولاة الفاكه بن المغيرة المخزومي قالت: دخلت على عائشة، فرأيت في بيتها رمحًا، فقلت: يا أم المؤمنين ما تصنعين بهذا الرمح؟ فقالت: نقتل به هذه الأوزاغ، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم قال: "إن إبراهيم حين ألقي في النار لم يكن في الأرض دابة إلا تطفئ النار غير الوزغ، فإنه كان ينفخ على إبراهيم" فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله.
‌‌وقوله: (وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ) أي: المغلوبين الأسفلين؛ لأنهم أرادوا بنبي الله كيدًا، فكادهم الله ونجاه من النار، فغلبوا هنالك.
وقال عطية العوفي: لما ألقي إبراهيم في النار، جاء ملكهم لينظر إليه، فطارت شرارة فوقعت على إبهامه، فأحرقته مثل الصوفة.
‌‌(وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ . وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ . وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ . وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ . وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ).
يقول -تعالى- مخبرًا عن إبراهيم أنه سلمه الله من نار قومه وأخرجه من بين أظهرهم مهاجرًا إلى بلاد الشام، إلى الأرض المقدسة منها. كما قال الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أُبي بن كعب في قوله: (إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ) قال: الشام وما من ماء عذب إلا يخرج من تحت الصخرة، وكذا قال أبو العالية أيضًا.
وقال قتادة: كان بأرض العراق، فأنجاه الله إلى الشام، وكان يقال للشام: عماد دار الهجرة، وما نقص من الأرضي زيد في الشام، وما نقص من الشام زيد في فلسطين، وكان يقال: هي أرض المحشر والمنشر، وبها ينزل عيسى ابن مريم عليه السلام، وبها يهلك المسيح الدجال.
وقال كعب الأحبار في قوله: (إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ): إلى حران.
وقال السدي: انطلق إبراهيم ولوط قبل الشام، فلقي إبراهيم سارة وهي ابنة ملك حران وقد طعنت على قومها في دينهم، فتزوجها على ألا يغيرها، رواه ابن جرير، وهو غريب، والمشهور: أنها ابنة عمه، وأنه خرج بها مهاجرًا من بلاده.
وقال العوفي، عن ابن عباس: إلى مكة، ألا تسمع إلى قوله: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ . فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) (آل عمران: 96، 97).
‌‌وقوله: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً) قال عطاء ومجاهد: عطية.
وقال ابن عباس وقتادة والحكم بن عُتيبة: النافلة: ولد الولد؛ يعني: أن يعقوب ولد إسحاق، كما قال: (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ) (هود: 71).
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: سأل واحدًا، فقال: (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) (الصافات: 100).
فأعطاه الله إسحاق وزاده يعقوب نافلة.
(وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ) أي: الجميع أهل خير وصلاح
‌‌(وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً) أي: يقتدى بهم، (يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا) أي: يدعون إلى الله بإذنه؛ ولهذا قال: (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ) من باب عطف الخاص على العام (وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) أي: فاعلين لما يأمرون الناس به.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #209  
قديم 30-08-2025, 01:25 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,716
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (207) تحطيم إبراهيم صلى الله عليه وسلم للأصنام وإنجاء الله له من النار (3)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال -تعالى-: (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ . قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ . قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ . قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ . قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ . وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ . فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ . قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ . قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ . قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ . قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ . قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ . فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ . ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ . قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ . أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ . قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ . قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ . وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ . وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ . وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ. وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) (الأنبياء: 51-73).
في الآيات فوائد:
الفائدة الأولى: دَلَّت الآيات على أهمية الالتزام بالدين الحق في الصغر؛ قال الله -عز وجل-: (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ) على الوجه الذي رجَّحه ابن كثير؛ أي: مِن أول نشأته. والقول الثاني: أي: مِن قَبْل موسى وهارون -صلى الله عليهما وسلم-، والأول أظهر. والله أعلم.
وإبراهيم -صلى الله عليه وسلم- قد آتاه الله رشده، وفهَّمه وعلَّمه من أول نشأته، وهذه فضيلة لمَن نشأ مِن صغره في طاعة الله -عز وجل-، وعلى دينه؛ كما قال أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لما تناظروا في صفة السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقال بعضهم: فلعلهم الذين وُلِدوا في الإسلام ولم يشركوا بالله شيئًا، وذكروا أشياءً؛ فدل ذلك على فضيلة مَن وُلِد في الإسلام؛ لأن الله -عز وجل- قد أتم عليه نعمته، وجعله من أول نشأته على الهداية، وعلى الفطرة المستقيمة.
فهذه نعمة لا يقدرها كثيرٌ من المسلمين، ولا يرون فضل الله -عز وجل- العظيم عليهم؛ لأجل أنهم لم يقارنوا بينهم وبين غيرهم ممَّن لم يأتهم الله رشدهم، ولم يهدهم الصراط المستقيم من أول نشأتهم، مع أنهم قارنوهم في نفس الزمان، بل وكثيرًا ما يكونون معهم في نفس الأوطان، وقد نشأوا يعبدون الأوثان، ويعبدون الأبقار، ويعبدون الصلبان، مع تناقض ذلك مع الفطرة السوية؛ فهي من أعظم نعم الله على عبادة المسلمين: أنه عصمهم من السجود للصنم، وقضى لله بقَدَم الصدق في القِدَم، وهذا يوجب عليهم أن يتضرَّعوا إليه، وأن يسألوه أن يتم عليهم نعمة؛ هو ابتدأها عليهم بلا سببٍ منهم.
والله -عز وجل- يحب الشاب الذي ينشأ في عبادة الله كما هو في الحديث الصحيح في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله؛ فذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- منهم الشاب الذي نشأ في عبادة الله.
ويدل على صحة التفسير بأن إبراهيم -عليه السلام- أوتي رشده من قبل -أي: في صغره، ومن أول نشأته-: قوله -تعالى- في الآيات: (قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ)؛ فيا أيها الشباب فرصة عظيمة أنكم قد نشأتم في هذا الدِّين -بفضل الله-، وأمامكم التزام ميسَّر بدعوة الحق، ومنهج الحق -بفضل الله-، والسُّنة -بفضل الله- ميسرة لمن طلبها، ولمن يسلك سبيل تعلمها والتزامها، فما أكثر من يعرض عن نعمة الله ولا يشكرها؛ فلا تكن من هؤلاء أيها الشاب، واعلم أن فضل الله عليك بسرعة الالتزام في أول النشأة، أو أن تنشأ في أسرة ملتزمة من أعظم ما يهيئ لك الاستمرار على الالتزام ويُهَيِّئُكَ لأنواع الخير مِن: العِلْم النافع، والعمل الصالح في مستقبل العمر؛ فإن مَن حَفِظ جوارحه لله -عز وجل- في شبابه، حفظها الله -عز وجل- عليه في آخر عمره؛ قال الله -عز وجل-: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ . ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ . إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) (التين: 4-6)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس -رضي الله عنهما- في وصيته له: (‌يَا ‌غُلَامُ ‌إِنِّي ‌أُعَلِّمُكَ ‌كَلِمَاتٍ: ‌احْفَظِ ‌اللَّهَ ‌يَحْفَظْكَ، ‌احْفَظِ ‌اللَّهَ ‌تَجِدْهُ ‌تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).
فبيَّن الله -تعالى- أنه آتى إبراهيم -عليه السلام- رُشْدَه، وهذا يردُّ على مَن يزعم أو مَن يفسِّر نظر إبراهيم في النجوم على أنه كان يبحث عن الله -سبحانه وتعالى-؛ فإبراهيم -عليه السلام- على الفطرة السوية المستقيمة من أول نشأته، وكيف يتسنى له أن يبحث عن الله وهو يجزم لأبيه وقومه أنهم في ضلال مُبِين؟! وإنما كان إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- مناظرًا لقومِه -كما سبق بيانه في قصة إبراهيم صلى الله عليه وسلم من سورة الأنعام-.
ومما يدل على أنه كان مناظِرًا لقومه -وليس ناظرًا في البحث عن الله-: قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه: (‌لَمْ ‌يَكْذِبْ ‌إِبْرَاهِيمُ عليه السلام إِلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ ثِنْتَيْنِ مِنْهُنَّ فِي ذَاتِ اللهِ...) وذكر منها قوله عن الكوكب: (هَذَا رَبِّي) (الأنعام: 76)؛ فجعله النبي -صلى الله عليه وسلم- مِن الكذبات؛ أي: مِن أنواع التعريض في ذات الله؛ إذًا كان ذلك إقامة للحجة، وليس أنه كان يبحث عن ربِّه -سبحانه وتعالى-.
فالله -عز وجل- عليم بإبراهيم، وهو الذي يضع الأشياء في مواضعها؛ يضع الهدى فيمَن يستحق الهدى، ويضع الشكر في الشاكرين الذين يقبلون نعمة الله -عز وجل-؛ قال -سبحانه وتعالى-: (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) (الأنعام: 53)، وقال -عز وجل-: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (القصص: 56).
والله -عز وجل- وحده هو الذي قسَّم الأرزاق بعلمه وحكمته، وقسَّم الأخلاق كذلك، وقسَّم الأعمال والأقوال، وهو الذي يقسم رحمته؛ كلُّ ذلك بعلمه وحكمته؛ قال الله -عز وجل-: (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ . أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (الزخرف: 31، 32).
فالله هو الذي وضع بذر الإيمان الطيب في أرض قلوب المؤمنين الطيبة، ووضع البذر الخبيث في قلوب الخبثاء وأرضهم الفاسدة، وهو أعلم بالشاكرين، وأعلم بالظالمين، وأعلم حيث يجعل رسالته.
وهو -سبحانه وتعالى- يقسِّم فضله على عبادة المؤمنين بعلمه السابق، وبرحمته وحكمته وعدله؛ فلا يعترض عليه أحدٌ؛ فهو لا يُسأَل عما يفعل وهم يسألون؛ لأنه لا يفعل شيئًا إلا بعلمه وحكمته -سبحانه وبحمده-.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #210  
قديم 30-08-2025, 01:26 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,716
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (208) تحطيم إبراهيم صلى الله عليه وسلم للأصنام وإنجاء الله له من النار (4)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال -تعالى-: (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ . قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ . قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ . قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ . قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ . وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ . فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ . قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ . قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ . قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ . قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ . قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ . فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ . ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ . قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ . أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ . قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ . قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ . وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ . وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ . وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ . وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) (الأنبياء: 51-73).
فيه فوائد:
الفائدة الثانية: قوله -سبحانه وتعالى- عن إبراهيم: (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ)، يسألهم سؤال استنكار واستقباح لما يفعلونه، أنهم يعكفون -أي: يلازمون- عبادة التماثيل، وهي إفك مصنوع باطل، كما قال -تعالى- في الآية الأخرى عنه: (أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ . فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (الصافات: 86، 87).
فدلَّ ذلك على أنه يعرف الله -عز وجل- بأنه الحق، وأن ما يُدْعَى من دونه هو الباطل، وأن هذه الأصنام التي كانوا يصنعونها ترمز عندهم لأنواع النجوم؛ التي كانوا يتخذون هذه الأصنام رموزًا لعبادتها، فصاروا يعبدون هذه الأوثان من دون الله، والأصنام قد أضلت كثيرًا من الناس، وإن كانت الأصنام لا تفعل شيئًا، ولكن كبار عُبَّادها هم الذين شَرَعوا لهم عبادتها، ولكن يصح نسبة الإضلال إليها؛ إذ كانت محلًّا لهذا الضلال، وسببًا للشرك بالله.
وعبادة الأصنام في البشر قديمة جدًّا من عهد نوحٍ -عليه الصلاة والسلام-، وهو أول شرك وقع في هذه الأرض من بني آدم؛ وذلك بسبب الغلو والإفراط في محبة بعض الصالحين.
وكذلك في إعطاء الأصنام معنى رمزيًّا حول عبادة نجوم أو كائنات مخترعة في أذهان الناس، وذلك بسبب ضلال الناس في تفسير الواقع الذي يعيشونه؛ حيث ينسبون إلى الأصنام النفع والضر، والرزق، وأنواع التصرف على حسب فساد اعتقادهم؛ فبعضهم يعلم أن الله -عز وجل- وحده هو الذي يفعل ما يرونه من أفعالٍ في الكون؛ مِن: إحياء وإماتة، وإتيان بالشمس من المشرق وتوجيهها إلى المغرب، ومع ذلك فإنهم يصرفون العبادة لغير الله، فيصير الشرك في الألوهية، وإن كان عندهم جزءٌ من توحيد الربوبية.
وأشدهم كفرًا: مَن يجمع شركَ الربوبية وشرك الألوهية، وكل ذلك بسبب بُعد الناس عن الوحي المنزَّل من عند الله.
وأن هؤلاء المخلوقات؛ سواء البشر من الصالحين، أو النجوم وغيرها من الأجرام العلوية، أو الملائكة، أو الأنبياء؛ كل هؤلاء خلقٌ مِن خلق الله -سبحانه وتعالى-، وهذا يدل على أنهم لا يملكون ضرًّا ولا نفعًا، ولا يملكون موتًا، ولا حياة ولا نشورًا؛ فكيف يصح أن يُعْتقَدَ فيهم شيء من ذلك؟ ثم كيف يصح أن تُصْرَفَ لهم عبادة من دون الله -عز وجل-؟!
فكان قوم إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- يعبدون هذه الأصنام والتماثيل على أنها ترمز للنجوم التي جعلوها وسائط بينهم وبين ربهم، يعبدونها من دون الله، أو مع الله -سبحانه وتعالى-، ومِن الناس مَن يعبد الأوثان فقط، ومنهم مَن يعبدها مع الله كمشركي قريش، وكل ذلك من الشرك الذي لا يرضاه الله -عز وجل- ولا يغفره لمن ارتكبه.
الفائدة الثالثة: في قوله -سبحانه وتعالى-: (قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ)، فيها ذَمُّ التقليد الأعمى للآباء والمشايخ والأسلاف، وليس عند أهل الباطل إلا التقليد؛ ليس عندهم حجة بينة من عقل ولا نقل، فإن الشرك لا تقبله الفطرة ولا تسلِّم به العقول، ولا ترضاه النفوس إذا بقيت على فطرتها، بل هو مُرٌّ وبيءٌ سيئ، لا يمر بسهولة إلى قلب الإنسان، ومع ذلك فهو أكثر انتشارًا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
مِن أين أُوتي الناس؟!
أُوتوا من التقليد الأعمى، من أنهم وجدوا آباءهم على أُمَةٍ وهم على آثارهم مقتدون، ويحسبون أنهم مهتدون (الأمة في هذا الموضع بمعنى: الملة والدِّين والطريقة).
ولو تأملتَ عقائد البشر في المشارق والمغارب؛ لوجدتها لا يمكن أن يقبلها أيُّ عاقل سليم؛ لمخالفتها دين التوحيد الذي جاءت به الرُّسُل، ومع ذلك تجد ملايين البشر، بل مليارات يعتقدون هذه الاعتقادات الفاسدة، ويربون أبناءهم عليها، وتنشأ على ذلك أجيالٌ تلو أجيالٍ.
وتتعجب كيف قَبِل البشر أن يعبدوا حجرًا صنعوه بأنفسهم، أو تمثالًا نحتوه بأيديهم؟!
كيف قَبِل الإنسان أن يعبد حيوانًا بهيمًا؛ لا ينطق، ولا يملك لنفسه في العالم كله ضرًّا ولا نفعًا، ولا يمنع عن نفسه ذبحًا ولا حَلْبًا؟! إلا في بلادهم حيث يقدِّسونه ويعظِّمونه، ويتبركون ببوله وروثه!
وأيضًا: كيف يعبد الإنسان العاقل إنسانًا مثله، عَلِم أنه كان عدمًا في وقتٍ من الأوقات، ولم يكن شيئًا مذكورًا، ويراه يأكل الطعام ويدخل الخلاء لإخراج الفضلات؟!
وكيف يؤلِّه البشر أنفسهم وهم يعلمون أنهم وُلِدوا بعد أن لم يكونوا على وجه الأرض، وأنهم ولدوا لا يعلمون شيئًا، ولا يملكون شيئًا، ثم بعد ذلك يَدَّعون الألوهية؟! سبحان الله!
لكن الجواب دائمًا تجده: في أن التقليد الأعمى هو الذي يدفع الناس إلى ذلك؛ كما قال -عز وجل- عن مَلِكَة سبأ قبل إسلامها: (وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ) (النمل: 43)، وقال الله -عز وجل- مخاطبًا نبيه -صلى الله عليه وسلم-: (فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ) (هود: 109).
وهذا يدفع المؤمن دائمًا إلى: الحذر من التقليد المجرد عن الدليل في عقيدة أو عمل أو سلوك، وأنه لا بد أن ينظر فيما نشأ عليه من قِيَم اجتماعية أو عادات أو تقاليد، أو اتباع لمذهب عقدي أو فقهي أو طريقة صوفية، ولا بد أن يزنها بميزان الشرع، ولا بد أن يكون مستعدًّا لمخالفة ما يعلم أنه خلاف الدليل، ولا يقبل إلا ما جاء به الكتاب والسُّنة، وإجماع السلف، وما يُقَاس على ذلك من قياس صحيح، ولا يكون مقلدًا أعمى للآباء والأجداد، ولا يكون كمن قال الله عنهم ذمًّا لهم: (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ) (الزخرف: 22).
وللحديث بقية -إن شاء الله-.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 176.40 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 170.56 كيلو بايت... تم توفير 5.84 كيلو بايت...بمعدل (3.31%)]