الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال - الصفحة 20 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         صلاة ركعتين عند الإحساس بالضيق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          زكاة الأرض المعدة للتجارة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          أسباب تقوية الإيمان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          من أحكام اليمين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          براءة كل من صحب النبي في حجة الوداع من النفاق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          الثمرات اليانعات من روائع الفقرات .. (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 23 - عددالزوار : 5896 )           »          ميتٌ يمشي على الأرض! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          احفظ الله يحفظك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          كلمات فواصل في استخدام وسائل التواصل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العام > ملتقى الحوارات والنقاشات العامة
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الحوارات والنقاشات العامة قسم يتناول النقاشات العامة الهادفة والبناءة ويعالج المشاكل الشبابية الأسرية والزوجية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #191  
قديم 21-07-2025, 07:14 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,720
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (189) دعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم أباه إلى التوحيد وترك الشرك (5)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -عز وجل-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا . يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا . يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا . يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا . قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا . قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا . وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا . فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا . وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (مريم: 41-50).
الفائدة الرابعة:
في قول إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لِأَبِيهِ: (يَا أَبَتِ)، فائدة أن الدعوة تكون بهذا الأسلوب الرفيع الراقي، الرفيق الشفيق؛ فهو يذكِّره بالعلاقة بينهما التي تقتضي كمال الشفقة؛ فهو يذكره بها بلفظ الأبوة، مع حذف ياء المتكلم وإبدالها بالتاء.
هذه الرابطة العظيمة التي هي من آيات الله في خلقه والتي تقتضي في هذا الموضع كمال الحرص على الخير، وكمال حب الهداية له، والرغبة في نجاته من هاوية الكفر المؤدي إلى الجحيم، وهذه التاء التي بدل ياء المتكلم وقد أعطيت حركتها من الكسر تدل على خصوصية العلاقة المقتضية الحنان الخاص، والشفقة الخاصة، وكل ذلك ترغيبًا له في اتباع دين الحق وترك الدين الباطل الذي هو عليه، وهذا كما قال الله -عز وجل-: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) (الإسراء: 24).
وهذا الانكسار الذي لا يقع من كثير من الأبناء يترتب على تركه العقوق، ومن القطيعة للأرحام ما لا يرضاه الله؛ فإن الله شرع للابن أن يرفق بأبيه وأمه، وأمه مقدَّمة على أبيه في البر والإحسان، وحسن الصحبة، والرفق واللين؛ كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- مَن سأله: مَنْ ‌أَحَقُّ ‌النَّاسِ ‌بِحُسْنِ ‌صَحَابَتِي؟ قَالَ: (أُمُّكَ). قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (ثُمَّ أُمُّكَ). قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (ثُمَّ أُمُّكَ). قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (ثُمَّ أَبُوكَ) (متفق عليه).
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (‌أُمَّكَ، ‌وَأَبَاكَ، ‌وَأُخْتَكَ، ‌وَأَخَاكَ، وَمَوْلَاكَ الَّذِي يَلِي ذَاكَ) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني)، وفي رواية: (‌أُمَّكَ ‌وَأَبَاكَ، ‌وَأُخْتَكَ ‌وَأَخَاكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ) (رواه النسائي، وصححه الألباني)، فينبغي أن يكون المرء في أتمِّ الحرص على إظهار هذا الرفق وهذا اللين، فإذا كان الله -سبحانه- قد أمر موسى وهارون -صلى الله عليهما وسلم- أن يقولا لفرعون الطاغية قولًا لينًا لعله يتذكر أو يخشى؛ فإن أولى الناس بالرفق والقول اللين، أهل بيتك وأقاربك؛ خصوصًا والداك، كما قال -سبحانه وتعالى-: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل: 125).
وكما ذكرنا، ليس علينا هداية أحد، لكن علينا أن نحسن الأسلوب، ولنعلم أن الفظاظة وغلظة القلب؛ خصوصًا مع الأقارب، ومع الآباء والأمهات من أعظم أسباب نفور الناس عن الالتزام بالكتاب والسُّنة.
ومن أعظم أسباب سوء الفهم الذي يقع مِن الذين يصدقون وسائل الإفساد التي تشوِّه صورة الإسلام؛ حيث يجد الآباء في سلوك أبنائهم الذين ابتعدوا عن تعاليم الشرع، مسوغًا لتصديق ما يروجه أهل الباطل عن دعوة الحق وتشويه صورتها؛ فلا بد أن تكون رفيقًا شفيقًا في الأمر كله، فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا ‌لَا ‌يُعْطِي ‌عَلَى ‌الْعُنْفِ، وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ) (رواه مسلم).
ولا نعني بذلك المداهنة في العقيدة، وقول الباطل والسكوت عن الحق، وإنما نعني الأسلوب الطيب في توصيل كلمة الحق وإظهارها، والبدء بدعوة الأقارب لا يعني ترك دعوة الأباعد والأغراب، ولكن نبدأ بالسعي في إصلاح الأسرة والأقارب؛ لأننا رعاة ومسئولون عن رعيتنا كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم-: (‌كُلُّكُمْ ‌رَاعٍ، ‌وَكُلُّكُمْ ‌مَسْؤُولٌ ‌عَنْ ‌رَعِيَّتِهِ) (متفق عليه)؛ فندعو الكبير والصغير، وندعو الآباء والإخوان والأقارب، والأبناء، وندعو كلَّ مَن حولنا إلى الله -عز وجل- بالرفق واللين.
وأما قضية المداهنة: فقد كان نفيها واضحًا تمام الوضوح في دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- مع ملازمة الرفق في الدعوة وأسلوبها، قال الله -عز وجل-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (الأنعام: 74)، وكذا قوله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ . إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) (الزخرف: 26، 27)؛ فليس هذا من باب السب، ولا من باب الطعن، ولكن من باب بيان الحق.
وكثيرًا ما يشتبه الأمر على الناس حين يصفون الباطل ظلمًا وزورًا بأنه حق، وأنه لا بأس به، ويزعمون أنه حسن أسلوب ودبلوماسية في الدعوة؛ نعوذ بالله، بل هذا هو الضلال! وهو الذي يحصل به الانحراف، وإنما الأمر في طريقة العرض، وفي استغلال العلاقة الأسرية، وعلاقة البنوة والأبوة والإخوة، والقرابة، في بيان الحق وإظهار الشفقة، وإظهار إرادة الرحمة والخير بمن تدعوه، وفي نفس الوقت تبيِّن له البيان الكافي الشافي ولا تتركه.
ولا بد أن يشعر المدعو منك بصدق مشاعرك في إرادة الخير له، وحبك الخير له؛ فأنت تحبه ذلك الحب الفطري الذي يتحول في قلبك -إذا لم يكن القريب على الهدى- إلى حبِّ الخير له، وإرادة الخير به؛ كما قال أبو بكر -رضي الله عنه- عن إسلام أبي طالب: "والله لقد كان إسلام أبي طالب لو أسلم أحبُّ إليَّ من إسلام أبي قحافة؛ لأن إسلامه كان أحب إلى رسول الله"؛ أي: إلى قلب النبي -صلى الله عليه وسلم-، فهو يحب إسلام أبيه وقد حقَّقه الله له، وكان الأحب إلى قلبه إسلام أبي طالب؛ لأنه أحب إلى قلب النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولكن سبحان الله لم يتحقق! فهو -سبحانه وتعالى- أعلم بالمهتدين.
والغرض المقصود: أن تكون محبًّا لهداية أهلك وأقاربك، مؤثِّرًا فيهم بحسن العشرة والسلوك الطيب، والخُلُق الحسن الذي يجعلهم يحبونك، ويصدقون كلامك، وإن أظهروا التكذيب والرد؛ فبرك بوالديك وإحسانك إلى جيرانك دعوة إلى الله، وأنت إذا عققت والديك وقطعت رحمك، وأسأت إلى جيرانك؛ فهذا من أعظم الصدِّ عن سبيل الله؛ وإن ظننت أنك تدعو إلى الله، وإن ادعيت الالتزام بالشرع؛ فلا بد أن تجتهد في إظهار الإحسان إلى الخلق.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #192  
قديم 21-07-2025, 07:14 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,720
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (190) دعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم أباه إلى التوحيد وترك الشرك (6)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -عز وجل-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا . يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا . يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا . يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا . قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا . قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا . وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا . فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا . وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (مريم: 41-50).
الفائدة الخامسة:
دعوة الحق تبدأ بهدم الباطل: فقد بدأ إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- في دعوة أبيه، بهدم الباطل الذي عليه أبوه، ولكن بأرق صيغة داعية إلى التفكير؛ وهي: صيغة الاستفهام: (لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا
وهدم الباطل أساس دعوة التوحيد "لا إله إلا الله"؛ فإنها براءة من الشرك وإثبات الألوهية لله وحده، وبدون هدم الشرك وعبادة غير الله لا يقوم التوحيد؛ فتبًّا لدعاة وحدة الأديان، ووحدة المعبودات، ووحدة الوجود!
إن هذه الدعوة التي يقوم عليها "الدِّين الإبراهيمي الجديد" الذي صنعه اليهود، هي دعوة لهدم دين إبراهيم الحق -صلى الله عليه وسلم-؛ فكيف يكون من يعبد غير الله كمن يعبد الله؟! (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ . مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (القلم: 35-36)، وقال -تعالى-: (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) (ص: 28)، وقال الله -عز وجل-: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) (الجاثية: 21).
ثم استعمل إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- الأسلوب العقلي الصحيح الموقِظ للفطرة الإنسانية من سُبات التقليد الأعمى؛ الذي يغلق العقل والفطرة معًا؛ فكيف تصح عبادة مَن لا يسمع ولا يبصر، ولا يغني شيئًا عن عابده؟!
ومَن تأمل كلَّ المعبودات الباطلة حتى مِن غير الأصنام -كعبادة البشر- وجدها كذلك؛ فالجمادات: كالشمس والقمر، والأشجار والأحجار؛ لا تسمع ولا تبصر، ولا تغني عن نفسها ولا عن غيرها شيئًا، ولولا الضلالات والأوهام التي جعلوها اعتقادات راسخة؛ لأدرك كلُّ عاقل بطلان عبادتها، وأما الحيوانات والأشخاص فرغم أنها تسمع وتبصر في حال من أحوالها؛ إلا أنها مَرَّ عليها مرحلة النطفة، والعلقة، والمضغة، وما بعدها في مرحلة الجنين؛ لا تسمع ولا تبصر، ولا تغني عن نفسها شيئًا؛ فضلًا عن غيرها، ثم في مرحلة الموت هي لا تسمع ولا تبصر، ولا تغني عن عابدها شيئًا، بل عن نفسها لا تملك دفع الموت عن نفسها؛ فلماذا يعبدها الإنسان الذي كرَّمه الله -عز وجل- بالعقل والفطرة، وأرسل إليه رسله ليخاطبوه بمقتضى هذا العقل، وهذه الفطرة.
فقول إبراهيم -عليه السلام- لأبيه: (يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا): بيان لعجز كل ما يعبد من دون الله، وفقره وحاجته، فإنما هو فقير؛ فكيف يغني الفقير عن غيره وهو في نفسه عاجز؟!
وهذه الجملة: (مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ) متضمنة لإثبات صفات الكمال لله -عز وجل- السميع البصير، الغني الحميد؛ فتبيَّن أن ما يُعبَد من دون الله، لا يملك شيئًا؛ لا سمع ولا بصر، ولا يغني عن عُبَّاده شيئًا، وحتى البشر الذين يعيشون مدة يسمعون ويبصرون؛ ليس سمعهم بالسمع المحيط، ولا بصرهم بالبصر المحيط؛ لذا فالاعتقاد في الأموات كما يعتقد غلاة الصوفية الخرافيون: أن لهم السمع والبصر المحيط، وسؤالهم على ذلك، هو اعتقاد أنهم يرون ويجيبون، ويغنون عن المرء شئيًا؛ فهذا -والعياذ بالله- شركًا بالله العظيم في أسمائه وصفاته، وكذلك في ربوبيته، وسؤالهم إياهم: شرك في الإلهية، فيُقَال لهم: لِمَ تعبدون ما لا يسمع ولا يبصر، ولا يغني عنكم شيئًا؟!
فهذه الحجة تُقَال لجميع عُبَّاد القبور، وعباد الأشخاص، وعباد الأموات، وعباد الأوثان التي جعلت رموزًا لهذه الإلهة الباطلة؛ فهي نفس الحجة التي يجب أن نكرِّرها دائمًا عليهم؛ لو استحضرتها عقولهم لنفروا مِن عبادة مَن لا يسمع ولا يبصر، ولا يغني عن عابده شيئًا.
الفائدة السادسة:
قول الله -عز وجل- عن إبراهيم -عليه السلام-: (يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا): فيه شرف العلم، وأن شرفه عظيم؛ به يعلو الصغير على الكبير، ويرتفع الابن على الأب، ويكون الإنسان فوق غيره؛ لأن الله يرفع الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات، وقال -تعالى-: (نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ ? وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (يوسف: 76).
وقول إبراهيم -عليه السلام-: (يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا): علاج لمرض ينتشر في كثيرٍ من الناس؛ أنهم لا يقبلون الحق من الصغير، أو ممَّن هو دونهم في السنِّ أو المنزلة، فإبراهيم -عليه السلام- يذكِّر أباه بأنه قد جاءه من عند الله من العلم ما لم يأتِه هو؛ فليست العبرة بكبر السن، ولا بالمنزلة الاجتماعية لدى الناس.
وهنا أمر يستفيده المؤمن في دعوته إلى الله ليبيِّن للناس: أن الواجب اتباع مَن جاءه العلم مِن عند الله؛ الذي هو العلم بالوحي المنزَّل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فمن كان عنده هذا العلم وجب اتباعه؛ سواء كان صغيرًا أو كبيرًا، كما كان عمر -رضي الله عنه- يدني القُرَّاء، وكانوا أصحاب مجلس عمر -رضي الله عنه- ومشورته شيوخًا كانوا أو شبانًا، وكان منهم ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- رغم صغر سنه، وكان منهم الحر بن قيس -رضي الله عنه-، ولم يكن يقدِّم أحدًا لكبر سنه، وإنما لمنزلته وعلمه، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (‌يَؤُمُّ ‌الْقَوْمَ ‌أَقْرَؤُهُمْ ‌لِكِتَابِ ‌اللهِ ‌فَإِنْ ‌كَانُوا ‌فِي ‌الْقِرَاءَةِ ‌سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِنًّا) (رواه مسلم).
والتقديم بالسن فيما إذا استوى الإنسان مع غيره في الفضائل، وأما احترام الكبير؛ فهو واجب، لكن لا يلزم منه أن يكون متبعًا على أي حال، وإنما يحترم ويعرف قدره؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا، ‌وَيَعْرِفْ ‌لِعَالِمِنَا ‌حَقَّهُ) (رواه أحمد والحاكم، وحسنه الألباني).
وللحديث بقية -إن شاء الله-.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #193  
قديم 02-08-2025, 10:03 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,720
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (191) دعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم أباه إلى التوحيد وترك الشرك (7)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -عز وجل-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا . يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا . يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا . يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا . قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا . قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا . وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا . فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا . وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (مريم: 41-50).
الفائدة السابعة:
في قوله -تعالى- عن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-: (يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا): المقصود بالهداية في هذه الآية: هداية التبيين والإرشاد، وأما هداية القلب بالتوفيق والإسعاد فهي لا يملكها إلا الله -عز وجل-، ولذا لم يهتدِ أبوه؛ فالله أعلم حيث يجعل رسالته وهدايته، وهو أعلم بالشاكرين وأعلم بالظالمين؛ يضع الهدى في مواضعه، ويضع الضلال في مواضعه، يهدي مَن يشاء ويعافي فضلًا، ويضل مَن يشاء ويبتلي عدلًا.
وجعل -عز وجل- العباد يفعلون بإرادتهم التي خلقها الله لهم وقدرتهم، ما قدَّره -سبحانه وتعالى- بعلمه وحكمته وعدله؛ لم يظلم الناس شيئًا، وقال -سبحانه وتعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (القصص: 56).
يعلم -سبحانه- مَن يستحق الهدى وينبت أنواع الطاعات، ونور الخيرات في قلبه؛ لأن الأرض قابلة والمعدن قابل لهذا الخير، ويضل من يشاء -سبحانه-؛ لأنه يعلم أن أرض هذا القلب أرض خبيثة لا يصلح فيها البذر الطيب، ولو وضعه فيها لأماته، وما أنبتت أرض قلبه شيئًا: (وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ) (الأنفال: 23).
وقوله -سبحانه وتعالى-: (صِرَاطًا سَوِيًّا) أي: مستقيمًا معتدلًا قصدًا، وهو الذي يوصل إلى الله -عز وجل-، وهو أقرب الطرق وأقصرها على المكلَّف؛ ولذا هذا الصراط المستقيم السوي هو دين الإسلام والتوحيد، واتباع كل الرسل كلٌّ في زمنه -صلوات الله عليهم أجمعين-، وهو صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين؛ غير صراط المغضوب عليهم الذين علموا الحق وأعرضوا عنه "واليهود على رأسهم"، ولا صراط الضالين الذين لم يعلموا الحق وضلوا عنه فلم يريدوه "وعلى رأسهم النصارى"، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الْيَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ، ‌وَالنَّصَارَى ‌ضَالُّونَ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).
الفائدة الثامنة:
في قوله -تعالى- عن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-: (يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا): أكثر الخلق يعبدون الشيطان وإن كانوا لا يظهرون ذلك، وربما لا يستشعرونه، فلا يوجد إلا قلة هي كالأنعام، بل هم أسوأ من ذلك يقرون بعبادة الشيطان صراحة، وتوجد منهم طائفة تنتسِب زورًا وبهتانًا إلى الإسلام، وهي كافرة بإجماع المسلمين، وهي الطائفة اليزيدية التي بدأت بعدم جواز لعن يزيد، ثم تطوروا إلى عدم جواز لعن أحد، ثم تطوروا إلى عدم لعن الشيطان، ثم تطوروا إلى عبادة الشيطان، وأن مَن قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم كَفَر عندهم، نعوذ بالله، ولهم خرافات وخزعبلات فظيعة، وسبحان الله! لا تزال طائفة منهم موجودة في العراق وغيرها، ولكن أكثر أهل الأرض يعبدون الشيطان بطاعته في الكفر، بعبادة ما يأمر بعبادته من دون الله من الأوثان والأحجار، والأشجار والقبور، والأشخاص الأحياء والأموات، وسائر الآلهة الباطنة من دون الله أو مع الله، تعالى الله عن شركهم علوًّا كبيرًا.
وقوله: (يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ): أي: لا تطعه في الكفر بالله وكل من عبد غير الله، فقد عبد الشيطان في الحقيقة؛ قال الله -عز وجل-: (إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِن يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَّرِيدًا . لَّعَنَهُ اللَّهُ) (النساء)، فهم يعبدون الشيطان حين أطاعوه فيما شرع لهم من الكفر والشرك وكل عابد لغير الله وكل مكذب لأنبياء الله ورسوله عليهم الصلاة والسلام، وكل مكذب بكتب الله فهو عابد للشيطان، إذ هو الذي أمر بعبادة غير الله وأمر بتكذيب الرسل؛ ولذا كان كل كافر مشرك، وكل مشرك كافر؛ لأن المشرك قد عبد الشيطان من دون الله عز وجل، وهو في نفس الوقت ستر فطرة التوحيد التي فطر الله الناس عليها، وكل كافر ستر فطرة التوحيد فقد عبد الشيطان فهو أيضًا مشرك خلاف لمن يقول: هناك كفار ليسوا مشركين كما يظن البعض في اليهود والنصارى، أو في بعضهم، وقد قال سبحانه وتعالى عنهم: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ? ذَ?لِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ ? يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ ? قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ? أَنَّى? يُؤْفَكُونَ . اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَ?هًا وَاحِدًا ? لَّا إِلَ?هَ إِلَّا هُوَ ? سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (التوبة: 30، 31).
فنص على شركهم، وكل من كذب الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كافر مشرك لا نزاع في ذلك وكذلك كل من كذب نبيًّا من الأنبياء، نعوذ بالله فهناك تلازم بين الشرك والكفر، والمقصود بذلك الأكبر منهما، ولا بد أن ننبِّه هنا على الفرق بين طاعة الشيطان في المعصية وبين طاعته في الكفر والشرك، وتكذيب الرسل؛ فإن طاعته في غير الشرك لا يطلق عليها أنها عبادة له إلا مع بيان أنها من الشرك الأصغر، وأما إذا أطلق عبادة الشيطان فالمقصود بها الشرك الأكبر بطاعته في الكفر -والعياذ بالله- إلا والخوارج يحتجون على تكفير العصاة بذلك.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #194  
قديم 02-08-2025, 10:04 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,720
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (192) دعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم أباه إلى التوحيد وترك الشرك (8)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -عز وجل-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا . يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا . يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا . يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا . قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا . قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا . وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا . فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا . وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (مريم: 41-50).
الفائدة التاسعة:
ذكرنا في المقال السابق: أن طاعة الشيطان في الكفر والشرك هي العبادة له، وأما طاعته في غير الشرك، فإنها لا تطلق أنها عبادة له؛ إلا مع بيان أنها من الشرك الأصغر.
ويُلَاحظ: أن كثيرًا من الناس يسب الشيطان ويلعنه، ولكنه مع ذلك مطيع له وعابد له، كما أن أكثر الناس إذا اتبعوا أهواءهم ينفون عن أنفسهم عبادة الهوى، لكنهم طالما اتبعوا الهوى في الكفر، كان ذلك عبادة للهوى؛ قال الله -تعالى-: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَ?هَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا) (الفرقان: 43).
وكما يعبدون الدرهم والدينار والقطيفة والخميصة، وذلك إذا باعوا دينهم من أجل هذه الأعراض من أعراض الدنيا، وأما مَن يقدِّم حب الدرهم والدينار، والقطيفة والخميصة على طاعة الله، ولكنه لا يرضى أن يقدمها على توحيد الله -عز وجل-؛ فهذا نوع عبادة، وهي شرك أصغر.
وكذلك يذمون طالب الرياسة، وهم في أنفسهم طالبون لها، كما ذمَّ قوم فرعون موسى وهارون -عليها السلام- بالباطل؛ حيث قالوا: (وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ) (يونس: 78)، فنسبوا إليهما على وجه الذم أنهما يريدان الكبرياء، مع أن قوم فرعون وأشباههم من أهل الرياسة والمُلك هم الذين يريدون الكبرياء، ويتهالكون في سبيل ذلك، ثم هم يذمون مَن يريد الملك والرياسة، ويزعمون أنهم لا يريدونها إلا لمصلحة الناس، وإلا للمحافظة على الطريقة المثلى، ووالله ما هي بمثلى.
وطلب الرياسة والملك والجاه قد يكون شركًا أكبر إذا كان صاحبه يكفر ويبيع دينه من أجل الرياسة والجاه والملك، ويكون شركًا أصغر إذا كان يعصي الله -سبحانه وتعالى- في المحافظة على المُلك والجاه أو في طلبهما.
وعلى الرغم من أن هؤلاء الذين يعبدون الشياطين، وفي الوقت نفسه يذمونها، ويعبدون الأهواء ويزعمون التبرؤ منها، ويعبدون الدرهم والدينار، والقطيفة والخميصة وهم يذمون مَن يريد المال، ويقولون: هذا يشترى بالمال! يذمون ذلك... مع أنهم يَقْتُلون ويُقتَلون من أجله!
وهذا التبرؤ لا يغني عنهم شيئًا، فكونهم لا يسمونها عبادة -مع أنها في الحقيقة عبادة-؛ لا يغني عنهم شيئًا.
وكذلك مَن يعبد غير الله من الأموات، ويصرف لهم أنواع العبادات من الدعاء والاستغاثة والاستعانة، وطلب المدد، وطلب قضاء الحاجات وكشف الكربات، والأرزاق والأولاد، وهو في كل ذلك لا يسمي ذلك عبادة، وهي شاء أم أبى عبادة لهذا الميت، وإن أجازها أهل الباطل والضلال؛ بزعم أنها على سبيل السببية، أن طلب قضاء الحاجات من الأموات على سبيل السببية جائز -ونعوذ بالله-، فما كان شرك المشركين إلا بذلك (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ) (يونس: 18)، وقال الله -سبحانه وتعالى-: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) (الزمر: 3).
والحقيقة -التي لا شك فيها-: أن قلب الإنسان يتعلَّق بهؤلاء، ويتطور به الحال إلى أن يعتقد أنهم يملكون الأرزاق، ويدبرون الكون، ويملكون العطاء والمنع -نعوذ بالله من ذلك-.
وكذلك من يعبد غير الله من الكبراء والسادة، والأحبار والرهبان، ممَّن يقبل تشريعه من دون الله مخالفًا لما شرع الله وإن لم يسمها عبادة، كما قال عدي بن حاتم -رضي الله عنه- عن حال النصارى قبل أن يتم إسلامه عندما سَمِع قولَ النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) (التوبة: 31)، قال: قلتُ: يا رسول الله، إنا لسنا نعبدُهم! فقال: (أَلَيْسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللهُ فَتُحَرِّمُونَهُ؟ وَيُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَتَسْتَحِلُّونَهُ؟)، قال: قُلتُ: بَلَى! قال: (‌فَتِلْكَ ‌عِبَادَتُهُمْ!) (رواه الترمذي والطبراني، وحسنه الألباني).
فعدم تسمية العبادة عبادة لا ينفع صاحبه إذا قامت عليه الحجة ووصلت إليه؛ لأن هذه عبادة لهؤلاء من دون الله، كما أن طاعة الشيطان في الكفر طاعة له من دون الله، ولو ظل عابده يلعنه بالليل والنهار!
وتأمل في تعليم إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه في قوله: (يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا) فهذا التعليل؛ لبيان أن طاعة الشيطان في معصية الرحمن مع تجويز هذه المعصية وتصحيحها، هو من الكفر -والعياذ بالله-.
ولذلك نقول: إن طاعة الشيطان في المعصية معصية، بشرط اعتقاد أنها معصية، بعد بلوغ الحجة الرسالية، وأما طاعته مع تصحيحها وتصويبها كما يفعل أهل الغرب في زندقتهم في استباحة الفواحش والمحرمات بزعم أنها حرية؛ فإن ذلك -والعياذ بالله- كفر، وعبادة للأهواء، وعبادة للشيطان.
ثم ذَكَّر إبراهيم -عليه السلام- أباه بصفة الرحمة الظاهرة في الكون ظهورًا واضحًا جليًّا لكلِّ مَن يتأمل، فآثار هذه الرحمة العامة فيما خلقه الله للبشر، وفيما خلق في قلوبهم من أنواع الشفقة والرحمة على ذويهم وعلى أولادهم، بل بجعلها -سبحانه وتعالى- في الدواب، لا تخفى على أحدٍ.
وآثار رحمة الله لأهل الأرض من أنهار وأمطار بالليل والنهار، وأنواع الرحمات، أمر ظاهر لا ينكره متأمل.
يذكِّر إبراهيم أباه بأن الرحمن يريد لنا الرحمة، والشيطان عاصٍ له؛ فهل تعبده بطاعته في الكفر -والعياذ بالله-، فتفقد أسباب الرحمة الربانية؟!
وللحديث بقية -إن شاء الله-.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #195  
قديم 02-08-2025, 10:06 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,720
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (193) دعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم أباه إلى التوحيد وترك الشرك (9)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -عز وجل-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا . يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا . يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا . يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا . قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا . قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا . وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا . فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا . وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (مريم: 41-50).
الفائدة العاشرة:
في قوله -سبحانه- عن إبراهيم -عليه السلام-: (يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا) هذا التعليل في قوله: (لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا) أي: لأن الشيطان كان للرحمن عصيًا؛ فهذه العلة تقتضي أن كل مَن كان للرحمن عصيًّا لا تجوز طاعته ولا متابعته، فالشيطان عاصٍ للرحمن، وشياطين الإنس كذلك عصاة للرحمن، وكل مَن عصى الله -عز وجل- لا يُطاع في معصية الله، ولا يُتابَع؛ وإلا كان على سبيل عبادته أو مؤديًا إليها -نعوذ بالله من ذلك-.
إن الإنسان لا بد أن يعلم لمن تكون طاعته ومتابعته، فإنما يُتبع الحق، ويتابَع مَن يأمر به، ويتابع من يأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، وأما من يطيع غيره ممَّن عصى الرحمن؛ فإنما يصير إلى الشقاء ومنع الرحمة، نسأل الله العافية من ذلك.
وإنما الشقاء في هذا العالم بسبب طاعة مَن كان للرحمن عصيًّا، وأعظمه: إبليس؛ فلا تجوز طاعة الآثمين والكفرة؛ قال الله -عز وجل-: (وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا) (الإنسان: 24)، فلم يجعل الله -عز وجل- للكافر طاعة على مؤمن، بل ولا آثمًا ظاهر الإثم، وإن كان هذا فيه تفصيل، إن كان مسلمًا وأمر بطاعة الله في أمرٍ أطيع في ذلك وأجيب إليه، وإن كان آمرًا بالإثم والمعصية؛ فلا يُطاع في ذلك باتفاق أهل العلم.
والظالمون لا يصلحون أن يكونوا أئمة للناس؛ قال الله -عز وجل- لإبراهيم -عليه السلام- مجازاة له على إتمامه الكلمات التي أمره الله -عز وجل- بها؛ قال الله -تعالى-: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة: 124)، فليس الظالمون داخلين فيمَن أُمِر الناس باتباعهم وطاعتهم، وإذا كان لا تُقبَل شهادة الظالم في باقة بقلٍ؛ فلا يجوز أن يُطَاع، وأن يوسد الأمر إليه فيما هو أكثر من ذلك؛ فلا يكون الظالم إمامًا؛ لا في الإمامة العامة إلا أن يتغلب عليها، وهو مسلم، ويحكم بما أنزل الله في الجملة فيُطَاع فيما فيه طاعة الله -عز وجل-، ومصلحة المسلمين، وأما أن يطاع طاعة مطلقة فلا يجوز ذلك، ولا يصح أن يجعل كالخلفاء الراشدين الذين يجمعون بين صفة العدالة وصفة العِلْم.
فالإمام لا بد وأن يكون في شرع الله -عز وجل- عدلًا عالمًا، وأما مَن لم يكن عالمًا، أو لم يكن عادلًا، أو من لم يكن لا عالمًا ولا عادلًا؛ فإنما تجب طاعته فقط فيما عُرِف أنه طاعة؛ تشرع طاعته وجوبًا في الواجبات، ومستحبًا في المستحبات، ولا يصح أن يكون له دون أهل العلم الثِّقَات العدول، العلماء بشرع الله -عز وجل- كتابًا وسنة، أن يقيد المباحات، أو أن يوازن بين الحسنات والسيئات، والمصالح والمفاسد، فإن عدم علمه أو عدم عدالته يقدح في هذه الصلاحيات.
ولذا فإن ولاية الناس يجب أن تكون فيمن اتقى الله، ولا يجوز في ولاية القضاء أن يولَّى من ليس بعالم ولا عادل، ولا في الفتيا ولا في تعليم الناس الدِّين، ولا في الشهادة في الخصومات؛ فإن ذلك كله داخل في قوله: (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)؛ لأن كلًّا مِن هؤلاء يُؤم -أي: يقصد-، فيكون إمامًا -أي: متبعًا- فيما يقول فيه.
ولا يجوز أن يُولَّى على الناس مَن يأمرهم بعبادة غير الله من الكفرة والمنافقين الذين ظهر نفاقهم الأكبر، ومَن يأمرهم بمخالفة شرع الله لاتباع أمر شياطين الإنس والجن، الذين يأمرون بمعصية الرحمن؛ فكيف يقال للناس: يلزمكم أن تطيعوا طالما أنكم في سلطان الكفرة الذين ينهونكم عن طاعة الله وأن هذا هو حقهم حتى ولو كانوا كفارًا؟!
فكيف يكون الباطل سببًا لرد الحق؟!
وكيف يكون الكفر سببًا يخول للإنسان أن ينهى غيره عن عبادة الله؟!
أكانت الأرض أرض الكفرة والظلمة والمجرمين أم هي أرض الله؟!
بل الأرض لله، والعباد عباده؛ فلا بد أن يطيعوا ربهم.
ولنقل لكل المؤمنين في الأرض: لا تطيعوا مَن كان للرحمن عصيًّا، ولا تطيعوا مَن يأمر بمخالفة شرع الله -سبحانه وتعالى-.
وإن كان لا بد أن نفرِّق في قضية ولاية الكفار على المسلمين وبطلانها بين مَن هو كافر نوعًا وعينًا، وبين من قال أو فعل كفرًا بجهل أو تأويل، أو إكراه، أو أي عذر من أعذار المكلَّف التي تمنع تكفيره حتى ولو كان آثمًا، فإن ذلك لا بد من مراعاته، فقبل أن نحكم على شخص نطق الشهادتين، وأظهر شعائر الإسلام؛ لا بد أن نستوفي الشروط وتنتفي الموانع قبل أن يحكم على شخصه بالكفر، لا بمجرد وجود مخالفة تحتمل تأويلات، يبادر الناس إلى التكفير؛ فهذا انحراف خطير لا بد من الحذر منه.
ثم نقول: وإن غُلِب الإنسان على أمرٍ فلا يستجيب للمكرِه من أول وهلة، بل لا بد للإكراه أن يكون مع طمأنينة القلب بالإيمان، وليس لمجرد المصالح الوقتية الدنيوية التي يستغني الإنسان عنها، وليس لمجرد الحاجة؛ إنما يرخَّص للإنسان عند المخمصة والمهلكة والضرورة التي تعجزه عن الحياة، أو تفقده حياته وضروراته؛ أما أن يترخص لمجرد نيل شيء من حُطَام الدنيا عند الناس؛ فلتذهب الدنيا إن كانت في معصية الله.
ونسأل الله أن يوفقنا لما يحب ويرضى.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #196  
قديم 02-08-2025, 10:08 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,720
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (194) دعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم أباه إلى التوحيد وترك الشرك (10)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -عز وجل-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا . يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا . يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا . يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا . قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا . قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا . وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا . فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا . وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (مريم: 41-50).
الفائدة الحادية عشرة:
قوله -تعالى- عن إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- في دعوته لأبيه: (يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا) فيه: أنه ينبغي على الداعي إلى الله -عز وجل- أن يكون في قلبه الشفقة والخوف على مَن يدعوه إلى الله -عز وجل-، وأن يظهر ذلك له، وهكذا كانت الرسل دائمًا يخافون على أقوامهم ويظهرون ذلك لهم؛ لأن ذلك من أسباب إيقاظ العلاقة الطيبة التي يريد الشيطان ألا يشعر الإنسان بها؛ حتى لا تستجيب الفطرة للدعوة الحق التي هي تطابق الفطرة السليمة؛ العلاقة الطيبة التي بها يستجيب هذا الأب لابنه لأنه مشفق عليه وخائف عليه، ورحيم به، وقد قال مؤمن آل فرعون نفس هذه الكلمة قال الله: (وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ . مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ . وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ . يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (غافر: 30-33).
والأنبياء قبل ذلك قالوا هذه الكلمة: قال الله -عز وجل- عن نوح -عليه السلام-: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (الأعراف: 59)، وقال هود -عليه السلام-: (وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ . أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ . وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ . إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (الشعراء: 132-135)، وقال شعيب -عليه الصلاة والسلام-: (قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) (هود: 84).
وقال الله -عز وجل- مخاطبًا نبيه -صلى الله عليه وسلم-: (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) (هود: 3).
فلا بد أيها الداعي إلى الله أن تكون أولًا خائفًا على الناس؛ لا يكون همك أن تدخلهم النار، أو تحكم عليهم بها، أو تحكم عليهم بأنواع العقوبات، أو تنالهم بها، وإنما تريد لهم الخير والنجاة، وتخاف عليهم فعلًا، وتشفق عليهم؛ فالدعاة إلى الله أتباع الأنبياء يخافون على الناس ويرفقون بهم، وهذا الرفق وهذه الشفقة تحيي في القلوب الفطرة السليمة في اتباع مَن هذا شأنه، فإذا أظهرتَ صفات الرب الذي هو أرحم بعباده من الأم بولدها، بذكر اسم الرحمن متكررًا في الآيات السابقة: (يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا . يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا)، وإذا أظهرت شفقتك على الناس بأنواع مختلفة من الأساليب، كان ذلك من أعظم أسباب قبول الدعوة، وحصول الخير في قلب المدعو.
الفائدة الثانية عشرة:
قوله -تعالى-: (يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا): تأمل في قوله: (أَنْ يَمَسَّكَ)؛ فإبراهيم -عليه السلام- يخاف على أبيه من مجرد المسيس؛ أن يمسه شيء من العذاب، هو لا يخاف فقط أن يُلقى في النار، بل هو يخاف مجرد أن يمسه أدنى شيء من العذاب؛ فلو كان قلب أبيه يتحرك لتحرك، لكن (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (القصص: 56)، وهو -عز وجل- كما قال: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) (الأنعام: 58)؛ فيضع الظلم في موضعه، والشكر في موضعه (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) (الأنعام: 53)، ويضع الهداية في موضعها (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)، وهكذا فليكن هذا أسوة حسنة في الدعوة إلى الله، وليكن أسوة حسنة في الصبر والاحتمال حتى ولو لم يجد الداعي أثر لذلك.
قوله -عز وجل-: (يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ): إذا عذبك الرحمن فمَن يرحمك؟! الرحمن الذي صفته اللازمة له الرحمة، فإذا عذَّب فلا يوجد مَن يرحم، الله إذا لم يرحم عبده لم يرحمه أحدٌ غيره؛ فهو الرحمن، وإنما استوجب العبد العذاب لما فعله واقترفه، وليس لأن الله لم يعطه ما يستحقه، إنما العبد هو الذي فعل ما استوجب به عذاب الله، وعذاب الرحمن؛ فالرحمة أحب إليه -سبحانه- من العذاب، ورحمته تغلب غضبه؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ ‌اللهَ ‌كَتَبَ ‌كِتَابًا ‌قَبْلَ ‌أَنْ ‌يَخْلُقَ ‌الْخَلْقَ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي، فَهُوَ مَكْتُوبٌ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ) (متفق عليه)، والله كتب على نفسه الرحمة كما قال -تعالى-: (كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ) (الأنعام: 12)، ورحمته وسعت كل شيء، فإذا عذَّب الإنسان فقد خرج من أي رحمة محتملة؛ لذا لا ترحمه الملائكة، ولا يرحمه المؤمنون، ولا يرحمه شركاؤه في النار، ولا يرحمه أحدٌ، ولا ترحمه النار، ويمقت نفسه ويبغضها، وأهل النار يسترحمون خزنة النار: (وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ . قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ) (غافر: 49، 50).
وكذلك يسترحمون مالكًا فلا يرحمهم: (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ) (الزخرف: 77)، فيسترحمون المؤمنين فلا يرحمونهم: (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ? قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ) (الأعراف: 50).
فإذا كان الإنسان قد خرج من رحمة الرحمن الرحيم فلن يرحمه أحد، فهذا الذي ينبغي أن يُدعَى به إلى الله، أن يريد أن يرحمنا بالإيمان وبالإسلام والإحسان، فإذا لم نفعل استحققنا عذاب الرحمن، وإذا عذَّب الرحمن فلن يجد الإنسان رحمة عند غيره.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #197  
قديم 02-08-2025, 10:09 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,720
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (195) دعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم أباه إلى التوحيد وترك الشرك (11)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -عز وجل-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا . يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا . يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا . يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا . قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا . قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا . وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا . فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا . وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (مريم: 41-50).
الفائدة الثالثة عشرة:
في قوله -تعالى-: (يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا) أي: تكون من أولياء الشيطان، ومن المقرَّبين منه؛ فتشقى شقاءً لا نعيم بعده أبدًا، وإنما يشقى الإنسان بقربه من الشيطان، وإنما يتنعم بقربه من الرحمن، وإنما صارت الجنة جنة؛ لأنها قريبة، وأهلها مقرَّبون إلى الله، وإنما يتنعم الإنسان في الدنيا إذا تقرب إلى الله، وعلى قَدْر قربه يكون نعيمه في الدنيا والآخرة، وإن كان لا يمكنه أن يتقرَّب ببدنه، وإنما يتقرب بروحه؛ أما في الآخرة فإنه يكون قريبًا بروحه وبدنه معًا في الجنة، وقال الله -عز وجل-: (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) (العلق: 19)؛ فلذا يسجد المقرَّبون لله، ومن سجد تقرب إلى الله، والله يقترب منه؛ إثابة منه لتقربه إليه كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه -عز وجل-: (أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي ‌أَتَيْتُهُ ‌هَرْوَلَةً) (متفق عليه).
فمَن قرب مِن الله سعد واستراح، وسكنت نفسه، ومن قرب من الشيطان تعس وشقي وبعُد عن الله؛ لأن الشطان مطرود ومُبْعَد عن الله -عز وجل-؛ كما قال -تعالى-: (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ) (ص: 78)؛ أي: عليه الإبعاد من رحمة الله، والبعد عن الله أعظم شقاء للإنسان، وإنما المعاصي هي سبب البُعد، وأعظمها: الكفر، وإنما يشقى الإنسان بالمعصية والكفر؛ لأنه بعد عن الله وقرب من الشيطان، فالشياطين تأوي إلى كل قبيح؛ ولذا كانت مخالطة شياطين الإنس والجن في مجالس الفسوق والعصيان عذابًا للإنسان -نعوذ بالله من ذلك، ونعوذ بالله من ولاية الشيطان-.
والقرب من الشيطان وطاعة الشيطان متلازمان، ومَن أطاع الشيطان كان معذبًا في دنياه قبل أخراه؛ لضيق صدره وعدم انشراح قلبه، قال الله -عز وجل-: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) (الأنعام: 125).
وقال الله -عز وجل- عن قوم نوح: (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (هود: 44)، وقال -سبحانه وتعالى-: (أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ) (هود: 60).
وقال -سبحانه وتعالى-: (أَلَا بُعْدًا لِّثَمُودَ) (هود: 68)، وقال -سبحانه وتعالى-: (أَلَا بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ) (هود: 95)، وقال -عز وجل-: (فَبُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (المؤمنون: 41)، وقال -سبحانه وتعالى-: (فَبُعْدًا لِّقَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ) (المؤمنون: 44)، وكل هذا لأنهم اقتربوا من الشيطان، فبعدوا عن الرحمن -نعوذ بالله من ولاية الشيطان-.
الفائدة الرابعة عشرة:
الدعوة إلى الله سبيل الأنبياء، وهذه الدعوة إلى الله لا بد أن تكون بطريقتهم وعلى منهاجهم، ومع ذلك؛ فعلى الداعي أن يكون مستعدًا في نفسه لعدم قبول دعوته فإن القلوب لا يملكها إلا الله، فهذا الخليل إبراهيم -عليه السلام- استعمل أربعة أساليب؛ استعمل الحجج العقلية: (لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا)، واستعمل المؤثرات الوجدانية التي تربط بين الابن وأبيه، واستعمل أحسن الأدب مع أبيه، وترفَّق له أعظم الترفق، وأحسن إليه، فناداه مرات بـ(يَا أَبَتِ)، ووعده بالاستغفار له، وأبوه آذر قد صُدَّ عن ذلك كله، وقلبه مغلق لم ينفتح؛ لا لحجة عقلية، ولا لوجدان عاطفي، ولا لرفقه به وخوفه عليه (إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ)؛ حين يذكِّره برحمة الله، ويخوفه من عقاب الله؛ يرجيه ويخوفه، ومع ذلك لا يتذكر! يخوفه من عاقبة طاعته للشيطان في الكفر التي هي عبادة له، وأنه يقترب بذلك منه، ويكون له وليًّا، وبذلك يشقى الشقاء الذي لا سعادة بعده أبدًا، ومع ذلك فالقلب مغلق، فالقلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ ‌مِنْ ‌أَصَابِعِ ‌الرَّحْمَنِ، كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ) (رواه مسلم)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَا مِنْ ‌قَلْبٍ إِلَّا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، إِنْ شَاءَ أَقَامَهُ، وَإِنْ شَاءَ ‌أَزَاغَهُ) (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني).
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكثر أن يقول: (يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ‌ثَبِّتْ قَلْبِي ‌عَلَى ‌دِينِكَ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)؛ فليست ثمرة الدعوة بالضرورة تظهر في استجابة المدعو مباشرة، ولا حتى بعد حين -ولو كان من الأقربين-؛ فالنور الذي عند إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- نور يكفي البشرية عبر الزمان والمكان، وبهذا النور انتشرت دعوة التوحيد التي جعلها الله منسوبة إليه؛ قال -تعالى-: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل: 123)، ومع ذلك لم يصل هذا النور إلى قلب أبيه، والله له الحكمة البالغة، وهو يجعل في إبراهيم الأسوة الحسنة، وكم من حكمة بالغة في عدم إيمان أبي إبراهيم؛ وذلك ليعلم العِبَاد: أن الله -عز وجل- يهدي مَن يشاء ويضل مَن يشاء، وأن القلوب بيده يصرِّفها كيف يشاء، وأنه لا ينفع نسب ما لم يكن عمل؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ ‌لَمْ ‌يُسْرِعْ ‌بِهِ ‌نَسَبُهُ) (رواه مسلم)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَلَا ‌إِنَّ ‌آلَ أَبِي - يَعْنِي فُلَانًا - لَيْسُوا لِي بِأَوْلِيَاءَ؛ إِنَّمَا وَلِيِّيَ اللهُ، ‌وَصَالِحُ ‌الْمُؤْمِنِينَ) (متفق عليه).
وللحديث بقية -إن شاء الله-.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 4 ( الأعضاء 0 والزوار 4)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 129.30 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 124.83 كيلو بايت... تم توفير 4.47 كيلو بايت...بمعدل (3.46%)]