|
الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#11
|
||||
|
||||
![]() وقال السعدي رحمه الله: لما ذكر تعالى تصرف المشركين في كثير مما أحله الله لهم ، من الحروث والأنعام ، ذكر تبارك وتعالى ، نعمته عليهم بذلك ، ووظيفتهم اللازمة عليهم ، في الحروث والأنعام فقال : ( وهو الذي أنشأ جنات ) أي : بساتين ، فيها أنواع الأشجار المتنوعة ، والنباتات المختلفة . (معروشات وغير معروشات ) أي : بعض تلك الجنات ، مجعول لها عرش ، تنتشر عليه الأشجار ، ويعاونها في النهوض عن الأرض . وبعضها خال من العروش ، تنبت على ساق ، أو تنفرش في الأرض . وفي هذا تنبيه على كثرة منافعها ، وخيراتها ، وأنه تعالى ، علم العباد كيف يعرشونها ، وينمونها . ( و) أنشأ تعالى ( النخل والزرع مختلفا أكله ) أي : كله في محل واحد ، ويشرب من ماء واحد ، ويفضل الله بعضه على بعض في الأكل . وخص تعالى ، النخل ، والزرع على اختلاف أنواعه ، لكثرة منافعها ، ولكونها هي القوت لأكثر الخلق . ( و ) أنشأ تعالى( الزيتون والرمان متشابها ) في شجره ( وغير متشابه ) في ثمره وطعمه . كأنه قيل : لأي شيء أنشأ الله هذه الجنات ، وما عطف عليها ؟ فأخبر أنه أنشأها لمنافع العباد ، فقال : (كلوا من ثمره ) أي : النخل والزرع ( إذا أثمر)...( وآتوا حقه يوم حصاده ) أي : أعطوا حق الزرع ، وهو الزكاة ذات الأنصباء المقدرة في الشرع . أمرهم أن يعطوها يوم حصاده ، وذلك لأن حصاد الزرع ، بمنزلة حولان الحول . لأنه الوقت ، الذي تتشوف إليه نفوس الفقراء ، ويسهل حينئذ إخراجه على أهل الزرع ، ويكون الأمر فيها ظاهرا ، لمن أخرجها ، حتى يتميز المخرج ممن لا يخرج . وقوله ![]() 13- (يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (الأعراف : 31-32 ) قال ابن كثير رحمه الله : هذه الاَية الكريمة رد على المشركين فيما كانوا يعتمدونه, من الطواف بالبيت عراة كما رواه مسلم والنسائي وابن جرير, واللفظ له من حديث شعبة عن سلمة بن كهيل عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: قال: كانوا يطوفون بالبيت عراة الرجال والنساء, الرجال بالنهار والنساء بالليل, وكانت المرأة تقول: اليوم يبدو بعضه أو كلهُ وما بدا منه فلا أحله فقال الله تعالى (خذوا زينتكم عند كل مسجد) وقال العوفي: عن ابن عباس في قوله (خذوا زينتكم عند كل مسجد) , قال: كان رجال يطوفون بالبيت عراة فأمرهم الله بالزينة, والزينة اللباس وهو ما يواري السوأة وما سوى ذلك من جيد البز والمتاع, فأُمِروا أن يأخذوا زينتهم عند كل مسجد, وهكذا قال مجاهد وعطاء وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير وقتادة والسدي والضحاك ومالك, عن الزهري وغير واحد من أئمة السلف في تفسيرها أنها نزلت في طواف المشركين بالبيت عراة, وقد روى الحافظ بن مردويه من حديث سعيد بن بشير والأوزاعي, عن قتادة, عن أنس مرفوعاً, أنها نزلت في الصلاة في النعال, ولكن في صحته نظر, والله أعلم... ولهذه الاَية وما ورد في معناها من السنة يستحب التجمل عند الصلاة, ولا سيما يوم الجمعة ويوم العيد, والطيب لأنه من الزينة والسواك لأنه من تمام ذلك. ومن أفضل اللباس البياض كما قال الإمام أحمد: حدثنا علي بن عاصم, حدثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم, عن سعيد بن جبير وصححه عن ابن عباس مرفوعاً, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم, وكفنوا فيها موتاكم وإن خير أكحالكم الإثمد فإنه يجلو البصر وينبت الشعر» هذا حديث جيد الإسناد, رجاله على شرط مسلم ، ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث عبد الله بن عثمان بن خثيم به, وقال الترمذي: حسن صحيح... وللإمام أحمد أيضاً وأهل السنن بإسناد جيد عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «عليكم بثياب البياض فالبسوها فإنها أطهر وأطيب وكفنوا فيها موتاكم» وروى الطبراني بسند صحيح عن قتادة عن محمد بن سيرين: أن تميماً الداري اشترى رداء بألف وكان يصلي فيه, وقوله تعالى ![]() وقال البخاري قال ابن عباس: كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأَتْك خصلتان = سرف ومخيلة,... وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الأعلى, حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال: أحل الله الأكل والشرب مالم يكن سرفاً أو مخيلة, إسناده صحيح, وقال الإمام أحمد: حدثنا بهز, حدثنا همام عن قتادة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا من غير مخيلة ولا سرف, فإن الله يحب أن يرى نعمته على عبده» ورواه النسائي وابن ماجه من حديث قتادة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «كلوا وتصدقوا والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة» وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو المغيرة, حدثنا سليمان بن سليم الكلبي, حدثنا يحيى بن جابر الطائي سمعت المقدام بن معديكرب الكندي, قال: سمعت رسول اللهصلى الله عليه وسلم يقول «ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه حسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه فإن كان فاعلاً لا محالة, فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه» .. ورواه النسائي والترمذي من طرق عن يحيى بن جابر به, وقال الترمذي: حسن وفي نسخة حسن صحيح. وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده: حدثنا سويد بن عبد العزيز, حدثنا بقية عن يوسف بن أبي كثير عن نوح بن ذكوان عن الحسن عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت» ورواه الدارقطني في الأفراد, وقال: هذا حديث غريب تفرد به بقية, وقال السدي: كان الذين يطوفون بالبيت عراة يحرمون عليهم الودك ما أقاموا في الموسم, فقال الله تعالى لهم: (وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ),, يقول لا تسرفوا في التحريم, وقال مجاهد: أمرهم أن يأكلوا ويشربوا مما رزقهم الله, وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ![]() ![]() ![]() قوله تعالى : (قُلْ مَنْ حَرّمَ زِينَةَ اللّهِ الّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطّيّبَاتِ مِنَ الرّزْقِ قُلْ هِي لِلّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصّلُ الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) يقول تعالى رداً على من حرم شيئاً من المآكل أو المشارب أو الملابس من تلقاء نفسه من غير شرع من الله (قل) يا محمد لهؤلاء المشركين, الذين يحرمون ما يحرمون بآرائهم الفاسدة وابتداعهم (مَنْ حَرّمَ زِينَةَ اللّهِ الّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطّيّبَاتِ مِنَ الرّزْقِ قُلْ هِي لِلّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصّلُ الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ )أي هي مخلوقة لمن آمن بالله وعبده في الحياة الدنيا, وإن شركهم فيها الكفار حباً في الدنيا فهي لهم خاصة (لِلّذِينَ آمَنُواْ) يوم القيامة, ولا يشركهم فيها أحد من الكفار, فإن الجنة محرمة على الكافرين, قال أبو القاسم الطبراني: حدثنا أبو حصين محمد بن الحسين القاضي, حدثنا يحيى الحماني, حدثنا يعقوب القمي عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كانت قريش يطوفون بالبيت وهم عراة يصفرون ويصفقون, فأنزل الله (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده) فأمروا بالثياب وقوله تعالى ![]() قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية, حدثنا الأعمش عن شقيق عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا أحد أغير من الله فلذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن, ولا أحد أحب إليه المدح من الله» أخرجاه في الصحيحين من حديث سليمان بن مهران الأعمش, عن شقيق عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود... وقوله (والإثم والبغي بغير الحق) قال السدي: أما الإثم فالمعصية والبغي أن تبغي على الناس بغير الحق, وقال مجاهد, الإثم المعاصي كلها وأخبر أن الباغي بغيه على نفسه, وحاصل ما فسر به الإثم أنه الخطايا المتعلقة بالفاعل نفسه, والبغي هو التعدي إلى الناس فحرم الله هذا وهذا, وقوله تعالى: (وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً) أي تجعلوا له شركاء في عبادته (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) من الافتراء والكذب من دعوى أن له ولداً ونحو ذلك مما لا علم لكم به, كقوله ![]() وقال القرطبي رحمه الله : قوله تعالى: (يا بني آدم) هو خطاب لجميع العالم، وإن كان المقصود بها من كان يطوف من العرب بالبيت عريانا؛ فإنه عام في كل مسجد للصلاة. لأن العبرة للعموم لا للسبب. ومن العلماء من أنكر أن يكون المراد به الطواف؛ لأن الطواف لا يكون إلا في مسجد واحد، والذي يعم كل مسجد هو الصلاة. وهذا قول من خفي عليه مقاصد الشريعة. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة وتقول: من يعيرني تِطوافا؟ تجعله على فرجها. وتقول:اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله فنزلت هذه الآية: (خذوا زينتكم عند كل مسجد). التِّطواف (بكسر التاء). وهذه المرأة هي ضباعة بنت عامر بن قرط؛ قاله القاضي عياض. وفي صحيح مسلم أيضا عن هشام بن عروة عن أبيه قال: كانت العرب تطوف بالبيت عراة إلا الحمس، والحمس قريش وما ولدت، كانوا يطوفون بالبيت عراة إلا أن تعطيهم الحمس ثيابا فيعطي الرجال الرجال والنساء النساء. وكانت الحمس لا يخرجون من المزدلفة، وكان الناس كلهم يقفون بعرفات. في غير مسلم: ويقولون نحن أهل الحرم، فلا ينبغي لأحد من العرب أن يطوف إلا في ثيابنا، ولا يأكل إذا دخل أرضنا إلا من طعامنا. فمن لم يكن له من العرب صديق بمكة يعيره ثوبا ولا يسار يستأجره به كان بين أحد أمرين: إما أن يطوف بالبيت عريانا، وإما أن يطوف في ثيابه؛ فإذا فرغ من طوافه ألقى ثوبه عنه فلم يمسه أحد. وكان ذلك الثوب يسمى اللقى؛ قال قائل من العرب: كفى حزنا كري عليه كأنه لقى بين أيدي الطائفين حريم فكانوا على تلك الجهالة والبدعة والضلالة حتى بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ؛ فأنزل الله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍة ) وأذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألَّا يطوف بالبيت عريان. قلت: ومن قال بأن المراد الصلاة فزينتها النعال؛ لما رواه كرز بن وبرة عن عطاء عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ذات يوم: خذوا زينة الصلاة ؛ قيل: وما زينة الصلاة؟ قال: البسوا نعالكم فصلوا فيها. دلت الآية على وجوب ستر العورة كما تقدم. وذهب جمهور أهل العلم إلى أنها فرض من فروض الصلاة. وقال الأبهري هي فرض في الجملة، وعلى الإنسان أن يسترها عن أعين الناس في الصلاة وغيرها. وهو الصحيح؛ لقوله صلى الله عليه وسلم للمسور بن مخرمة: أرجع إلى ثوبك فخذه ولا تمشوا عراة. أخرجه مسلم. وذهب إسماعيل القاضي إلى أن ستر العورة من سنن الصلاة، واحتج بأنه لو كان فرضا في الصلاة لكان العريان لا يجوز له أن يصلي؛ لأن كل شيء من فروض الصلاة يجب الإتيان به مع القدرة عليه، أو بدله مع عدمه، أو تسقط الصلاة جملة، وليس كذلك. قال ابن العربي: وإذا قلنا إن ستر العورة فرض في الصلاة فسقط ثوب إمام فانكشف دبره وهو راكع فرفع رأسه فغطاه أجزأه؛ قاله ابن القاسم. وقال سحنون: وكل من نظر إليه من المأمومين أعاد. وروي عن سحنون أيضا: أنه يعيد ويعيدون؛ لأن ستر العورة شرط من شروط الصلاة، فإذا ظهرت بطلت الصلاة. أصله الطهارة. قال القاضي ابن العربي: أما من قال، إن صلاتهم لا تبطل فإنهم لم يفقدوا شرطا، وأما من قال إن أخذه مكانه صحت صلاته وتبطل صلاة من نظر إليه فصحيفة يجب محوها ولا يجوز الاشتغال بها. وفي البخاري والنسائي عن عمرو بن سلمة قال: لما رجع قومي من عند النبي صلى الله عليه وسلم قالوا قال: ليؤمكم أكثركم قراءة للقرآن. قال: فدعوني فعلموني الركوع والسجود؛ فكنت أصلي بهم وكانت علي بردة مفتوقة، وكانوا يقولون لأبي: ألا تغطي عنا إست ابنك. لفظ النسائي. وثبت عن سهل بن سعد قال: لقد كانت الرجال عاقدي أزرهم في أعناقهم من ضيق الأزر خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة كأمثال الصبيان؛ فقال قائل: يا معشر النساء، لا ترفعن رؤوسكن حتى ترفع الرجال. أخرجه البخاري والنسائي وأبو داود. واختلفوا إذا رأى عورة نفسه؛ فقال الشافعي: إذا كان الثوب ضيقا يزره أو يخلله بشيء لئلا يتجافى القميص فترى من الجيب العورة، فإن لم يفعل ورأى عورة نفسه أعاد الصلاة. وهو قول أحمد. ورخص مالك في الصلاة في القميص محلول الأزرار، ليس عليه سراويل. وهو قول أبي حنيفة وأبي ثور. وكان سالم يصلي محلول الأزرار. وقال داود الطائي: إذا كان عظيم اللحية فلا بأس به. وحكى معناه الأثرم عن أحمد. فإن كان إماما فلا يصلي إلا بردائه؛ لأنه من الزينة. وقيل: من الزينة الصلاة في النعلين؛ رواه أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصح. وقيل: زينة الصلاة رفع الأيدي في الركوع وفي الرفع منه. قال أبو عمر: لكل شيء زينة وزينة الصلاة التكبير ورفع الأيدي. وقال عمر رضي الله عنه: إذا وسع الله عليكم فأوسعوا على أنفسكم، جمع رجل عليه ثيابه، صلى في إزار ورداء، في إزار وقميص، في إزار وقباء، في سراويل ورداء، في سراويل وقميص، في سراويل وقباء - وأحسبه قال: في تبان وقميص - في تبان ورداء، في تبان وقباء. رواه البخاري والدارقطني. قوله تعالى: (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا) قال ابن عباس: أحل الله في هذه الآية الأكل والشرب ما لم يكن سرفا أو مخيلة. فأما ما تدعو الحاجة إليه، وهو ما سد الجوعة وسكن الظمأ، فمندوب إليه عقلا وشرعا، لما فيه من حفظ النفس وحراسة الحواس؛ ولذلك ورد الشرع بالنهي عن الوصال؛ لأنه يضعف الجسد ويميت النفس، ويضعف عن العبادة، وذلك يمنع منه الشرع ويدفعه العقل. وليس لمن منع نفسه قدر الحاجة حظ من بر ولا نصيب من زهد؛ لأن ما حرمها من فعل الطاعة بالعجز والضعف أكثر ثوابا وأعظم أجرا. وقد اختلف في الزائد على قدر الحاجة على قولين: فقيل حرام، وقيل مكروه. قال ابن العربي: وهو الصحيح؛ فإن قدر الشبع يختلف باختلاف البلدان والأزمان والأسنان والطعمان. ثم قيل: في قلة الأكل منافع كثيرة؛ منها أن يكون الرجل أصح جسما وأجود حفظا وأزكى فهما وأقل نوما وأخف نفسا. وفي كثرة الأكل كظ المعدة ونتن التخمة، ويتولد منه الأمراض المختلفة، فيحتاج من العلاج أكثر مما يحتاج إليه القليل الأكل. وقال بعض الحكماء: أكبر الدواء تقدير الغذاء. وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى بيانا شافيا يغني عن كلام الأطباء فقال: ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه. خرجه الترمذي من حديث المقدام بن معدي كرب. قال علماؤنا: لو سمع بقراط هذه القسمة لعجب من هذه الحكمة. ويذكر أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق فقال لعلي بن الحسين: ليس في كتابكم من علم الطب شيء، والعلم علمان: علم الأديان وعلم الأبدان. فقال له علي: قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابنا. فقال له: ما هي؟ قال قوله عز وجل: (وكلوا وأشربوا ولا تسرفوا). فقال النصراني: ولا يؤثر عن رسولكم شيء من الطب. فقال علي: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الطب في ألفاظ يسيرة. قال: ما هي؟ قال: المعدة بيت الأدواء والحمية رأس كل دواء وأعط كل جسد ما عودته. فقال النصراني: ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طبا. قلت: ويقال إن معالجة المريض نصفان: نصف دواء ونصف حمية: فإن اجمعا فكأنك بالمريض قد برأ وصح. وإلا فالحمية به أولى؛ إذ لا ينفع دواء مع ترك الحمية. ولقد تنفع الحمية مع ترك الدواء. ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أصل كل دواء الحمية. والمعني بها - والله أعلم - أنها تغني عن كل دواء؛ ولذلك يقال: إن الهند جل معالجتهم الحمية، يمتنع المريض عن الأكل والشراب والكلام عدة أيام فيبرأ ويصح. روى مسلم عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الكافر يأكل في سبعة أمعاء والمؤمن يأكل في مِعىً واحد. وهذا منه صلى الله عليه وسلم حض على التقليل من الدنيا والزهد فيها والقناعة بالبلغة. وقد كانت العرب تمتدح بقلة الأكل وتذم بكثرته. كما قال قائلهم: تكفيه فلذة كبد إن ألم بها من الشواء ويروي شربه الغمر وقالت أم زرع في ابن أبي زرع: ويشبعه ذراع الجفرة. وقال حاتم الطائي يذم بكثرة الأكل: فإنك إن أعطيت بطنك سؤله وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا وقال الخطاب: معنى قولهصلى الله عليه وسلم : المؤمن يأكل في معى واحد ؛ أنه يتناول دون شبعه، ويؤثر على نفسه ويبقي من زاده لغيره؛ فيقنعه ما أكل. والتأويل الأول أولى والله أعلم. وقيل في قوله صلى الله عليه وسلم : والكافر يأكل في سبعة أمعاء ؛ ليس على عمومه؛ لأن المشاهدة تدفعه، فإنه قد يوجد كافر أقل أكلا من مؤمن، ويسلم الكافر فلا يقل أكله ولا يزيد. وقيل: هو إشارة إلى معين. ضاف النبي صلى الله عليه وسلم ضيف كافر يقال: إنه الجهجاه الغفاري. وقيل: ثمامة بن أثال. وقيل: نضلة بن عمرو الغفاري. وقيل: بصرة بن أبي بصرة الغفاري. فشرب حلاب سبع شياه، ثم إنه أصبح فأسلم فشرب حلاب شاة فلم يستتمه؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. فكأنه قال: هذا الكافر. والله أعلم. وقيل: إن القلب لما تنور بنور التوحيد نظر إلى الطعام بعين التقوي على الطاعة، فأخذ منه قدر الحاجة، وحين كان مظلما بالكفر كان أكله كالبهيمة ترتع حتى تثلط. واختلف في هذه الأمعاء، هل هي حقيقة أم لا؟ فقيل: حقيقة، ولها أسماء معروفة عند أهل العلم بالطب والتشريح. وقيل: هي كنايات عن أسباب سبعة يأكل بها النهم: يأكل للحاجة والخبر والشم والنظر واللمس والذوق ويزيد استغناما. وقيل: المعنى أن يأكل أكل من له سبعة أمعاء. والمؤمن بخفة أكله يأكل أكل من ليس له إلا معى واحد؛ فيشارك الكافر بجزء من أجزاء أكله، ويزيد الكافر عليه بسبعة أمثال. والمعى في هذا الحديث هو المعدة. وإذا تقرر هذا فاعلم أنه يستحب للإنسان غسل اليد قبل الطعام وبعده؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : الوضوء قبل الطعام وبعده بركة. وكذا في التوراة. رواه زاذان عن سلمان. وكان مالك يكره غسل اليد النظيفة. والاقتداء بالحديث أولى. ولا يأكل طعاما حتى يعرف أحارا هو أم باردا؟ فإنه إن كان حارا فقد يتأذى. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: أبردوا بالطعام فإن الحار غير ذي بركة ؛ حديث صحيح. ولا يشمه فإن ذلك من عمل البهائم، بل إن اشتهاه أكله، وإن كرهه تركه، ويصغر اللقمة ويكثر مضغها لئلا يعد شرها. ويُسمي اللهَ تعالى في أوله ويحمدُه في آخره. ولا ينبغي أن يرفع صوته بالحمد إلا أن يكون جلساؤه قد فرغوا من الأكل؛ لأن في رفع الصوت منعا لهم من الأكل. وآداب الأكل كثيرة، هذه جملة منها .... وللشراب أيضا آداب معروفة، تركنا ذكرها لشهرتها. وفي صحيح مسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه ، وإذا شرب فليشرب بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشمال ويشرب بشماله. قوله تعالى: (ولا تسرفوا) أي في كثرة الأكل، وعنه يكون كثرة الشرب، وذلك يثقل المعدة، ويثبط الإنسان عن خدمة ربه، والأخذ بحظه من نوافل الخير. فإن تعدى ذلك إلى ما فوقه مما يمنعه القيام الواجب عليه حرم عليه، وكان قد أسرف في مطعمه ومشربه. روى أسد بن موسى من حديث عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال: أكلت ثريدا بلحم سمين، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أتجشأ؛ فقال: اكفف عليك من جشائك أبا جحيفة فإن أكثر الناس شبعافي الدنيا أطولهم جوعا يوم القيامة.... فما أكل أبو جحيفة بملء بطنه حتى فارق الدنيا، وكان إذا تغدى لا يتعشى، وإذا تعشى لا يتغدى. قلت: وقد يكون هذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم : المؤمن يأكل في معى واحد.. أي التام الإيمان؛ لأن من حسن إسلامه وكمل إيمانه كأبي جحيفة تفكر فيما يصير إليه من أمر الموت وما بعده؛ فيمنعه الخوف والإشفاق من تلك الأهوال من استيفاء شهواته. والله أعلم. وقال ابن زيد: معنى (ولا تسرفوا) لا تأكلوا حراما. وقيل: من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت. رواه أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، خرجه ابن ماجة في سننه. وقيل: من الإسراف الأكل بعد الشبع. وكل ذلك محظور. وقال لقمان لابنه: يا بني لا تأكل شبعا فوق شبع، فإنك إن تنبذه للكلب خير من أن تأكله. وسأل سمرة بن جندب عن ابنه ما فعل؟ قالوا: بشم البارحة. قال: بشم! فقالوا: نعم. قال: أما إنه لو مات ما صليت عليه. وقيل: إن العرب في الجاهلية كانوا لا يأكلون دسما في أيام حجهم، ويكتفون باليسير من الطعام، ويطوفون عراة. فقيل لهم: (خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا) في تحريم ما لم يحرم عليكم.
__________________
|
#12
|
||||
|
||||
![]() قوله تعالى : (قُلْ مَنْ حَرّمَ زِينَةَ اللّهِ الّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطّيّبَاتِ مِنَ الرّزْقِ قُلْ هِي لِلّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصّلُ الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) قوله تعالى: (قل من حرم زينة الله) بين أنهم حرموا من تلقاء أنفسهم ما لم يحرمه الله عليهم. والزينة هنا الملبس الحسن، إذا قدر عليه صاحبه. وقيل: جميع الثياب؛ كما روي عن عمر: إذا وسع الله عليكم فأوسعوا. وقد تقدم. وروي عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب شيخ مالك رضي الله عنهم أنه كان يلبس كساء خز بخمسين دينارا، يلبسه في الشتاء، فإذا كان في الصيف تصدق به، أو باعه فتصدق بثمنه، وكان يلبس في الصيف ثوبين من متاع بمصر ممشقين ويقول: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق). وإذا كان هذا فقد دلت الآية على لباس الرفيع من الثياب، والتجمل بها في الجمع والأعياد، وعند لقاء الناس ومزاورة الإخوان. قال أبو العالية: كان المسلمون إذا تزاوروا تجملوا. وفي صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب أنه رأى حلة سيراء تباع عند باب المسجد، فقال: يا رسول الله، لو اشتريتها ليوم الجمعة وللوفود إذا قدموا عليك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما يلبس هذا من لا خلاق له في الآخرة. فما أنكر عليه ذكر التجمل، وإنما أنكر عليه كونها سيراء. وقد اشترى تميم الداري حلة بألف درهم كان يصلي فيها. وكان مالك بن دينار يلبس الثياب العدنية الجياد. وكان ثوب أحمد بن حنبل يشترى بنحو الدينار. أين هذا ممن يرغب عنه ويؤثر لباس الخشن من الكتان والصوف من الثياب. ويقول: (ولباس التقوى ذلك خير)(الأعراف: 26) هيهات! أترى من ذكرنا تركوا لباس التقوى، لا والله! بل هم أهل التقوى وأولو المعرفة والنهى، وغيرهم أهل دعوى، وقلوبهم خالية من التقوى. قال خالد بن شوذب: شهدت الحسن وأتاه فرقد، فأخذه الحسن بكسائه فمده إليه وقال: يا فريقد، يا ابن أم فريقد، إن البر ليس في هذا الكساء، إنما البر ما وقر في الصدر وصدقه العمل. ودخل أبو محمد ابن أخي معروف الكرخي على أبي الحسن بن يسار وعليه جبة صوف، فقال له أبو الحسن: يا أبا محمد، صوفت قلبك أو جسمك؟ صوف قلبك والبس القوهي على القوهي. وقال رجل للشبلي: قد ورد جماعة من أصحابك وهم في الجامع، فمضى فرأى عليهم المرقعات والفوط، فأنشأ يقول: أما الخيام فإنها كخيامهم وأرى نساء الحي غير نسائه قال أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله: وأنا أكره لبس الفوط والمرقعات لأربعة أوجه: أحدها: أنه ليس من لبس السلف، وإنما كانوا يرقعون ضرورة. والثاني: أنه يتضمن ادعاء الفقر، وقد أمر الإنسان أن يظهر أثر نعم الله عليه. والثالث: إظهار التزهد؛ وقد أمرنا بستره. والرابع: أنه تشبه بهؤلاء المتزحزحين عن الشريعة. ومن تشبه بقوم فهو منهم وقال الطبري: ولقد أخطأ من أثر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان مع وجود السبيل إليه من حله. ومن أكل البقول والعدس واختاره على خبز البر. ومن ترك أكل اللحم خوفا من عارض شهوة النساء. وسئل بشر بن الحارث عن لبس الصوف، فشق عليه وتبينت الكراهة في وجهه ثم قال: لبس الخزز والمعصفر أحب إلي من لبس الصوف في الأمصار. وقال أبو الفرج: وقد كان السلف يلبسون الثياب المتوسطة، لا المترفعة ولا الدون، ويتخيرون أجودها للجمعة والعيد وللقاء الإخوان، ولم يكن تخير الأجود عندهم قبيحا. وأما اللباس الذي يزري بصاحبه فإنه يتضمن إظهار الزهد وإظهار الفقر، وكأنه لسان شكوى من الله تعالى، ويوجب احتقار اللابس؛ وكل ذلك مكروه منهي عنه. فإن قال قائل: تجويد اللباس هوى النفس وقد أمرنا بمجاهدتها، وتزين للخلق وقد أمرنا أن تكون أفعالنا لله لا للخلق. فالجواب ليس كل ما تهواه النفس يذم، وليس كل ما يتزين به للناس يكره، وإنما ينهي عن ذلك إذا كان الشرع قد نهى عنه أو على وجه الرياء في باب الدين. فإن الإنسان يجب أن يرى جميلا. وذلك حظ للنفس لا يلام فيه. ولهذا يسرح شعره وينظر في المرآة ويسوي عمامته ويلبس بطانة الثوب الخشنة إلى داخل وظهارته الحسنة إلى خارج. وليس في شيء من هذا ما يكره ولا يذم. وقد روى مكحول عن عائشة قالت: كان نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرونه على الباب، فخرج يريدهم، وفي الدار ركوة فيها ماء؛ فجعل ينظر في الماء ويسوي لحيته وشعره. فقلت: يا رسول الله، وأنت تفعل هذا؟ قال: نعم إذا خرج الرجل إلى إخوانه فليهيئ من نفسه فإن الله جميل يحب الجمال. وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر. فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة. قال: إن الله جميل يحب الجمال.. الكبر بطر الحق وغمط الناس. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، تدل كلها على النظافة وحسن الهيئة. وقد روى محمد بن سعد أخبرنا الفضل بن دكين قال حدثنا مندل عن ثور عن خالد بن معدان قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسافر بالمشط والمرآة والدهن والسواك والكحل. وعن ابن جريج: مشط عاج يمتشط به. قال ابن سعد: وأخبرنا قبيصة بن عقبة قال حدثنا سفيان عن ربيع بن صبيح عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر دهن رأسه ويسرح لحيته بالماء. أخبرنا يزيد بن هارون حدثنا عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس قال: كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم مكحلة يكتحل بها عند النوم ثلاثا في كل عين. قوله تعالى: (والطيبات من الرزق) الطيبات اسم عام لما طاب كسبا وطعما. قال ابن عباس وقتادة: يعني بالطيبات من الرزق ما حرم أهل الجاهلية من البحائر والسوائب والوصائل والحوامي. وقيل: هي كل مستلذ من الطعام. وقد اختلف في ترك الطيبات والإعراض عن اللذات؛ فقال قوم: ليس ذلك من القربات، والفعل والترك يستوي في المباحات. وقال آخرون: ليس قربة في ذاته، وإنما هو سبيل إلى الزهد في الدنيا، وقصر الأمل فيها، وترك التكلف لأجلها؛ وذلك مندوب إليه، والمندوب قربة. وقال آخرون: ونقل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: لو شئنا لاتخذنا صلاء وصلائق وصنابا، ولكني سمعت الله تعالى يذم أقواما فقال: (أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا)(الأحقاف: 20). ويروى "صرائق" بالراء، وهما جميعا الجرادق. والصلائق (باللام): ما يلصق من اللحوم والبقول. والصلاء (بكسر الصاد والمد): الشواء: والصناب: الخردل بالزبيب. وفرق آخرون بين حضور ذلك كله بكلفة وبغير كلفة. قال أبو الحسن علي بن المفضل المقدسي شيخ أشياخنا: وهو الصحيح إن شاء الله عز وجل؛ فإنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه امتنع من طعام لأجل طيبه قط، بل كان يأكل الحلوى والعسل والبطيخ والرطب، وإنما يكره التكلف لما فيه من التشاغل بشهوات الدنيا عن مهمات الآخرة. والله تعالى أعلم. قلت: وقد كره بعض الصوفية أكل الطيبات؛ واحتج بقول عمر رضي الله عنه: إياكم واللحم فإن له ضراوة كضرواة الخمر. والجواب أن هذا من عمر قول خرج على من خشي منه إيثار التنعم في الدنيا، والمداومة على الشهوات، وشفاء النفس من اللذات، ونسيان الآخرة والإقبال على الدنيا، ولذلك كان يكتب عمر إلى عماله: إياكم والتنعم وزي أهل العجم، واخشوشنوا. ولم يرد رضي الله عنه تحريم شيء أحله الله، ولا تحظير ما أباحه الله تبارك اسمه. وقول الله عز وجل أولى ما امتثل واعتمد عليه. قال الله تعالى: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق). وقال صلى الله عليه وسلم : سيد آدام الدنيا والآخرة اللحم. وقد روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأكل الطبيخ بالرطب ويقول: يكسر حر هذا برد هذا .. وبرد هذا حر هذا. والطبيخ لغة في البِطيخ، وهو من المقلوب... وقوله تعالى: (قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا) يعني بحقها من توحيد الله تعالى والتصديق له؛ فإن الله ينعم ويرزق، فإن وحده المنعَم عليه وصدقه فقد قام بحق النعمة، وإن كفر فقد أمكن الشيطان من نفسه. وفي صحيح الحديث : لا أحد أصبر على أذى من الله يعافيهم ويرزقهم وهم يدعون له الصاحبة والولد. وتم الكلام على (الحياة الدنيا). ثم قال ( خالصةٌ ) بالرفع وهي قراءة ابن عباس ونافع. (خالصة يوم القيامة) أي يخلص الله الطيبات في الآخرة للذين آمنوا، وليس للمشركين فيها شيء كما كان لهم في الدنيا من الاشتراك فيها. ومجاز الآية: قل هي للذين آمنوا مشتركة في الدنيا مع غيرهم، وهي للمؤمنين خالصة يوم القيامة. فخالصة مستأنف على خبر مبتدأ مضمر. وهذا قول ابن عباس والضحاك والحسن وقتادة والسدي وابن جريج وابن زيد. وقيل: المعنى أن هذه الطيبات الموجودات في الدنيا هي خالصة يوم القيامة، للمؤمنين في الدنيا؛ وخلوصها أنهم لا يعاقبون عليها ولا يعذبون فقوله: (في الحياة الدنيا) متعلق بـ (آمنوا ). وإلى هذا يشير تفسير سعيد بن جبير. وقرأ الباقون بالنصب( خالصةً ) على الحال والقطع؛ لأن الكلام قد تم دونه. ولا يجوز الوقف على هذه القراءة على (الدنيا)؛ لأن ما بعده متعلق بقول (للذين آمنوا) حال منه؛ بتقدير قل هي ثابتة للذين آمنوا في الحياة الدنيا في حال خلوصها لهم يوم القيامة؛ قاله أبو علي. وخبر الابتداء (للذين آمنوا). والعامل في الحال ما في اللام من معنى الفعل في قوله: (للذين) واختار سيبويه النصب لتقدم الظرف. (كذلك نفصل الآيات) أي كالذي فصلت لكم الحلال والحرام أفصل لكم ما تحتاجون إليه.... قوله تعالى ![]() قال الكلبي: لما لبس المسلمون الثياب وطافوا بالبيت غيرهم المشركون؛ فنزلت هذه الآية. والفواحش: الأعمال المفرطة في القبح، ما ظهر منها وما بطن. وروى روح بن عبادة عن زكريا بن إسحاق عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: ( ما ظهر منها ) نكاح الأمهات في الجاهلية. (وما بطن) الزنى. وقال قتادة: سرها وعلانيتها. وهذا فيه نظر؛ فإنه ذكر الإثم والبغي فدل أن المراد بالفواحش. بعضها، وإذا كان كذلك فالظاهر من الفواحش الزنى. والله أعلم. (والإثم) قال الحسن: الخمر. قال الشاعر: شربت الإثم حتى ضل عقلي كذاك الإثم تذهب بالعقول وقال آخر: نشرب الإثم بالصواع جهارا وترى المسك بيننا مستعارا (والبغي) الظلم وتجاوز الحد فيه. وقد تقدم. وقال ثعلب: البغي أن يقع الرجل في الرجل فيتكلم فيه، ويبغي عليه بغير الحق؛ إلا أن ينتصر منه بحق. وأخرج الإثم والبغي من الفواحش وهما منه لعظمهما وفحشهما؛ فنص على ذكرهما تأكيدا لأمرهما وقصدا للزجر عنهما. وكذا وقد أنكر جماعة أن يكون الإثم بمعنى الخمر. قال الفراء: الإثم ما دون الحد والاستطالة على الناس. قال النحاس: فأما أن يكون الإثم الخمر فلا يعرف ذلك، وحقيقة الإثم أنه جميع المعاصي؛ كما قال الشاعر: إني وجدت الأمر أرشده تقوى الإله وشره الإثم قلت: وأنكره ابن العربي أيضا وقال: ولا حجة في البيت؛ لأنه لو قال: شربت الذنب أو شربت الوزر لكان كذلك، ولم يوجب قول أن يكون الذنب والوزر اسما من أسماء الخمر كذلك، الإثم. والذي أوجب التكلم بمثل هذا الجهل باللغة وبطريق الأدلة في المعاني". قلت: وقد ذكرناه عن الحسن. وقال الجوهري في الصحاح: وقد يسمى الخمر إثما، وأنشد: شربت الإثم حتى ضل عقلي كذاك الإثم تذهب بالعقول وأنشده الهروي في غريبيه، على أن الخمر الإثم. فلا يبعد أن يكون الإثم يقع على جميع المعاصي وعلى الخمر أيضا لغة، فلا تناقض. والبغي: التجاوز في الظلم، وقيل: الفساد. وقال السعدي رحمه الله : قوله تعالى : ( يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) يقول تعالى ـ بعدما أنزل على بني آدم لباسا يواري سوءاتهم وريشا: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (الأعراف : 26 ) ـ يقول : ( يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد ) أي : استروا عوراتكم عند الصلاة كلها ، فرضها ونفلها ، فإن سترها زينة للبدن ؛ كما أن كشفها يدع البدن قبيحا مشوها . ويحتمل أن المراد بالزينة هنا ، ما فوق ذلك ، من اللباس النظيف الحسن ، ففي هذا ، الأمر بستر العورة في الصلاة ، وباستعمال التجميل فيها ، ونظافة السترة من الأدناس والأنجاس . ثم قال : (وكلوا واشربوا ) أي : مما رزقكم الله من الطيبات ( ولا تسرفوا ) في ذلك . والإسراف ، إما أن يكون بالزيادة على القدر الكافي ، ولشره في المأكولات التي تضر بالجسم ؛ وإما أن يكون بزيادة الترفه والتنوق في المآكل ، والمشارب ، واللباس ؛ وإما بتجاوز الحلال إلى الحرام ... ( إنه لا يحب المسرفين ) فإن السرف يبغضه الله ، ويضر بدن الإنسان ومعيشته ، حتى إنه ربما أدت به الحال إلى أن يعجز عما يجب عليه من النفقات ، ففي هذه الآية الكريمة ، الأمر بتناول الأكل والشرب ، والنهي عن تركهما ، وعن الإسراف فيهما . ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون) قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون " يقول تعالىـ منكرا على من تعنت ، وحرم ما أحل الله من الطيبات ـ ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده)" من أنواع اللباس ، على اختلاف أصنافه ، والطيبات من الرزق ، من مأكل ، ومشرب ، بجميع أنواعه ، أي : من هذا الذي يقدم على تحريم ما أنعم الله على العباد ، ومن ذا الذي يُضيق عليهم ، ما وسعه الله ؟ وهذا التوسيع من الله لعباده ، بالطيبات ، جعله لهم ليستعينوا به على عبادته ، فلم يبحه إلا لعباده المؤمنين ، ولهذا قال : " قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة " أي : لا تبعة عليهم فيها . ومفهوم الآية ، أن من لم يؤمن بالله ، بل استعان بها على معاصيه ، فإنها غير خالصة له ولا مباحة ، بل يعاقب عليها ، وعلى التنعم بها ، ويسأل عن النعيم يوم القيامة ( كذلك نفصل الآيات) أي : نوضحها ونبينها (لقوم يعلمون) لأنهم الذين ينتفعون بما فصله الله من الآيات ، ويعلمون أنها من عند الله ، فيعقلونها ويفهمونها . ثم ذكر المحرمات ، التي حرمها الله في كل شريعة من الشرائع فقال : ( قل إنما حرم ربي الفواحش ) أي : الذنوب الكبار ، التي تستفحش تستقبح ، لشناعتها وقبحها ، وذلك ، كالزنا ، واللواط ، ونحوهما . وقوله : " ما ظهر منها وما بطن " أي : الفواحش التي تتعلق بحركات البدن ، والتي تتعلق بحركات القلوب ، كالكبر ، والعجب والرياء ، والنفاق ، ونحو ذلك . ( والإثم والبغي بغير الحق ) أي : الذنوب التي تؤثم ، وتوجب العقوبة في حقوق الله ، والبغي على الناس ، في دمائهم ، وأموالهم ، وأعراضهم ، فدخل في هذا ، الذنوب المتعلقة بحق الله ، والمتعلقة بحق العباد . ( وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ) أي : حجة ، بل أنزل الحجة والبرهان على التوحيد ... والشرك ، هو : أن يشرك مع الله في عبادته ، أحد من الخلق . وربما دخل في هذا ، الشرك الأصغر ، كالرياء ، والحلف بغير الله ، ونحو ذلك . ( وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) في أسمائه وصفاته وأفعاله ، وشرعه . فكل هذه قد حرمها الله ، ونهى العباد عن تعاطيها ، لما فيها من المفاسد الخاصة والعامة ، ولما فيها من الظلم والتجرؤ على الله ، والاستطالة على عباد الله ، وتغيير دين الله وشرعه ... 14-(ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ*وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (الأعراف : 55-56 )
__________________
|
#13
|
||||
|
||||
![]() قال ابن كثير رحمه الله : أرشد تبارك وتعالى عباده إلى دعائه الذي هو صلاحهم في دنياهم وأخراهم فقال ![]() وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال رفع الناس أصواتهم بالدعاء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إن الذي تدعون سميع قريب» الحديث, وقال ابن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله تعالى :( تضرعاً وخفية) قال: السِّر... وقال ابن جرير( تضرعاً) أي تذللاً واستكانة لطاعته(وخفية) يقول: بخشوع قلوبكم وصحة اليقين بوحدانيته وربوبيته فيما بينكم وبينه لا جهراً مراءاة وقال عبد الله بن المبارك بن فضالة عن الحسن قال: إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزوار وما يشعرون به، ولقد أدركنا أقوماً ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر فيكون علانية أبداً ، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت إن كان إلا همساً بينهم وبين ربهم وذلك أن الله تعالى يقول:(ادعوا ربكم تضرعاً وخفية) وذلك أن الله ذكر عبداً صالحاً رضي فعله فقال ![]() وقال ابن جريج يكره رفع الصوت والنداء والصياح في الدعاء ويؤمر بالتضرع والاستكانه. ثم روي عن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله تعالى :(إنه لا يحب المعتدين) في الدعاء ولا في غيره وقال أبو مجلز في قوله تعالى :(إنه لا يحب المعتدين) قال : لا يسأل منازل الأنبياء, وقال أحمد حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا شعبة عن زياد بن مخراق سمعت أبا نعامة عن مولى لسعد أن سعداً سمع ابناً له يدعو وهو يقول: اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها وإستبرقها ونحواً من هذا وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها فقال لقد سألت الله خيراً كثيراً وتعوذت به من شر كثير وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء ـ وفي لفظ ـ يعتدون في الطهور والدعاء ـ وقرأ هذه الاَية (ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) ـ وإن بحسبك أن تقول: اللهم إني أسألك الجنة وما قرّب إليها من قول أو عمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل» ورواه أبو داود من حديث شعبة عن زياد بن مخراق عن أبي نعامة عن مولى لسعد عن سعد فذكره والله أعلم... وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا الحريري عن أبي نعامة أن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها فقال يا بني سل الله الجنة وعُذْ به من النار فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «يكون قوم يعتدون في الدعاء والطهور» وهكذا رواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عفان به وأخرجه أبو داود عن موسى بن إسماعيل عن حماد بن سلمة عن سعيد بن إياس الجُريْري عن أبي نعامة واسمه قيس بن عباية الحنفي البصري وهو إسناد حسن لا بأس به والله أعلم. وقوله تعالى ![]() وقال البغوي رحمه الله : قوله تعالى ![]() ![]() (إنه لا يحب المعتدين) قيل: المعتدين في الدعاء. وقال أبو مجلز هم الذين يسألون منازل الأنبياء عليهم السلام... أخبرنا محمد بن عبد العزيز القاشاني، أنبأنا القاسم بن جعفر الهاشمي، أنبأنا أبو علي محمد بن أحمد اللؤلؤي ، ثنا أبو داود السجستاني ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد يعني ابن سلمة،أنبأنا الجريري ، عن أبي نعامة أن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها، فقال: يا بني سل الله الجنة وتعوذ من النار، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء". وقيل: أراد به الاعتداء بالجهر والصياح ... قال ابن جريج : من الاعتداء رفع الصوت والنداء بالدعاء والصياح. وروينا عن أبي موسى قال لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر أشرف الناس على واد فرفعوا أصواتهم بالتكبير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ": اربعوا على أتفسكم، إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إنكم تدعون سميعًا قريبًا". وقال عطية هم الذين يدعون على المؤمنين فيما لا يحل، فيقولون: اللهم أخزهم اللهم العنهم. وقوله تعالى : (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها)، أي لا تفسدوا فيها بالمعاصي والدعاء إلى غير طاعة الله بعد إصلاح الله ببعث الرسل وبيان الشريعة، والدعاء إلى طاعة الله وهذا معنى قول الحسن والسدي والضحاك والكلبي. قال عطية: لا تعصوا في الأرض فيُمسك اللهُ المطر ويهلك الحرث بمعاصيكم. فعلى هذا معنى قوله:(بعد إصلاحها )أي بعد إصلاح الله إياها بالمطر والخصب.(وادعوه خوفًا وطمعًا)أي خوفًا مما عنده من أليم عذابه، وطمعاً فيما عنده من مغفرته وثوابه... وقال ابن جريج : خوف العدل وطمع الفضل. (إن رحمة الله قريب من المحسنين) ولم يقل قريبة، قال سعيد بن جبير: الرحمة هاهنا الثواب فرجع النعت إلى المعنىدون اللفظ كقوله تعالى ![]() وقال السعدي رحمه الله : ولما ذكر من عظمته وجلاله ، ما يدل ذوي الألباب على أنه وحده ، المعبود المقصود في الحوائج كلها بقوله تعالى (إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (الأعراف : 54 ) أمر بما يترتب على ذلك فقال : (ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ*وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (الأعراف : 55 ) . الدعاء : يدخل فيه ، دعاء المسألة ، ودعاء العبادة ، فأمر بدعائه (تضرعا ) أي : إلحاحا في لمسألة ، ودؤوبا في العبادة ،( وخفية) أي : لا جهراً أو علانية ، يخاف منه الرياء ، بل خفية ، وإخلاصا لله تعالى . (إنه لا يحب المعتدين ) أي : المتجاوزين للحد في كل الأمور ، ومن الاعتداء : كون العبد يسأل الله مسائل ، لا تصلح له ، أو ينقطع في السؤال ، أو يبالغ في رفع صوته بالدعاء ، فكل هذا داخل في الاعتداء المنهي عنه ... ( ولا تفسدوا في الأرض ) بعمل المعاصي (بعد إصلاحها) بالطاعات ، فإن المعاصي ، تفسد الأخلاق والأعمال والأرزاق ، كما قال تعالى : ( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم : 41 ) كما أن الطاعات ، تصلح بها الأخلاق ، والأعمال ، والأرزاق ، وأحوال الدنيا والآخرة .. ( وادعوه خوفا وطمعا ) أي : خوفا من عقابه ، وطمعا في ثوابه ، طمعا في قبولها ، وخوفا من ردها ، لا دعاء عبد مدل على ربه ، قد أعجبته نفسه ، ونزَّل نفسه فوق منزلته ، أو دعاء من هو غافل لاهٍ . وحاصل ما ذكر الله من آداب الدعاء : الإخلاص فيه لله وحده ، لأن ذلك يتضمنه الخفية . وإخفاؤه وإسراره ، أن يكون القلب خائفا طامعا ، لا غافلا ، ولا آمنا ولا غير مبال بالإجابة ، وهذا من إحسان الدعاء ، فإن الإحسان في كل عبادة ، بذل الجهد فيها ، وأداؤها كاملة لا نقص فيها بوجه من الوجوه ، ولهذا قال ![]() 15-(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ*الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ*فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ*وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ*وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ*وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ*وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ *َوَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ*وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ *) (الأنفال : 55-64)
__________________
|
#14
|
||||
|
||||
![]() قال البغوي رحمه الله : قوله تعالى إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون )، قال الكلبي و مقاتل : يعني يهود بني قريظة ، منهم كعب بن الأشرف وأصحابه . ( الذين عاهدت منهم ) ، يعني عاهدتهم ؛ وقيل : عاهدت معهم ؛ وقيل أدخل ( من ) لأن معناه: أخذت منهم العهد ،( ثم ينقضون عهدهم في كل مرة ) ، وهم بنو قريظة ، نقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأعانوا المشركين بالسلاح على قتال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ثم قالوا : نسينا وأخطأنا فعاهدهم الثانية ، فنقضوا العهد ومالؤوا الكفار على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق ، وركب كعب بن الأشرف إلى مكة ، فوافقهم على مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم ،.. ( وهم لا يتقون) ، لا يخافون الله تعالى في نقض العهد . ( فإما تثقفنهم )، تجدنَّهم ، ( في الحرب ) ، قال مقاتل : إن أدركتهم في الحرب وأسرتهم ، ( فشرد بهم من خلفهم ) ، قال ابن عباس : فنكِّل بهم من وراءهم .وقال سعيد بن جبير: أنذر بهم مَن خلفهم . وأصل التشريد : التفريق والتبديد ، معناه فرق بهم جمع كل ناقض ، أي : افعل بهؤلاء الذي نقضوا عهدك و جاؤوا لحربك فعلاً من القتل والتنكيل ، يَفْـرَقُ منك ويخافلُـك مَن خلفهم من أهل مكة واليمن. ( لعلهم يذكرون) ، يتذكرون ويعتبرون فلا ينقضون العهد . ( وإما تخافنَّ ) أي : تعلمن يا محمد ،( من قوم ) ، معاهدين ، ( خيانةً )، نقض عهد بما يظهر لكم منهم من آثار الغدر كما ظهر من قريظة والنضير ، ( فانبذ إليهم ) ، فاطرح إليهم عهدهم ،( على سواء) ، يقول أعلمهم قبل حربك إياهم أنك قد فسخت العهد بينك وبينهم حتى تكون أنت وهم في العلم بنقض العهد سواءً ، فلا يتهموا أنك نقضت العهد بنصب الحرب معهم ،( إن الله لا يحب الخائنين ) . أخبرنا محمد بن الحسن المروزي ، أنا أبو سهل محمد بن عمر بن طرفة السجزي ، أنا أبو سليمان الخطابي أنا أبو بكر محمد بن بكر بن محمد بن عبد الرزاق بن داسة التمار ، ثنا أبو داود سليما بن الأشعث السجستاني ، ثنا حفص بن عمر النمري ، ثنا شعبة عن أبي الفيض عن سليم بن عامر عن رجل من حمير قال : كان بين معاوية و بين الروم عهد ، وكان يسير نحو بلادهم ،حتى إذا انقضى العهد غزاهم ، فجاء رجل على فرس وهو يقول : الله أكبر... الله أكبر ، وفاء لا غدر ،فنظر فإذا هو عمرو بن عبسة ، فأرسل إليه معاوية فسأله فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء " . فرجع معاوية رضي الله عنه . وقوله عز وجل ![]() وقوله تعالى : ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) ، الإعداد : اتخاذ الشيء لوقت الحاجة .( من قوة )، أي : من الآلات التي تكون لكم قوة عليهم من الخيل والسلاح . أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر أنبأنا عبد الغافر بن محمد ، أنا محمد بن عيسى الجلودي ، ثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، عن مسلم بن الحجاج ثنا هارون بن معروف ثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث ، عن أبي علي ، ثمامة بن شفي أنه سمع عقبة بن عامر يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، وهو على المنبر : ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) : ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي " . وبهذا الإسناد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ستفتح عليكم الروم ويكفيكم الله عز وجل فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه " . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا أبو نعيم ، ثنا عبد الرحمن بن الغسيل ، عن حمزة بن أبي أسيد عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر حين صففنا لقريش وصفوا لنا : " إذا أكثبوكم فعليكم بالنبل " . أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان ، ثنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، ثنا حميد بن زنجويه ، ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، ثنا هشام الدستوائي عن قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة عن أبي نجيح السلمي قال : حاصرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم الطائف فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " من بلغ بسهم في سبيل الله فهو له درجة في الجنة " ، قال :فبلغت يومئذ ستة عشر سهماً . وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" من رمى بسهم في سبيل الله فهو عدل محرر " . أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أبو الحسين علي بن محمد بن بشران ، أنا إسماعيل بن محمد الصفار ، ثنا أحمد بن منصور الرمادي ، ثنا عبد الرزاق ، أنا معمر ، عن يحيى بن كثير ، عن زيد بن سلام ، عن عبد الله بن زيد الأزرق عن عقبة بن عامر الجهني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إن الله يدخل بالسهم الواحد الجنة ثلاثة: صانعه ، والممد به ، والرامي به في سبيل الله " . وروي عن خالد بن زيد عن عقبة بن عامر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر في الجنة :صانعه يحتسب في صنعته الخير ، والرامي به ومنبله ، وارموا واركبوا ، وإن ترموا أحب إلي من أن تركبوا ، كل شيء يلهو به الرجل باطل إلا رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته امرأته فإنهن من الحق . ومن ترك الرمي بعدما علمه رغبة عنه فأنه نعمة تركها أو قال كفرها " . وقوله تعالى : : (ومن رباط الخيل ) ، يعني : ربطها واقتناؤها للغزو . قال عكرمة : القوة الحصون ومن رباط الخيل الإناث . وروي عن خالد بن الوليد أنه كان لا يركب في القتال إلا الإناث لقلة صهيلها . وعن أبي محيريز قال : كان الصحابة رضي الله عنهم يستحبون ذكور الخيل عن الصفوف وإناث الخيل عند البيات والغارات . أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ،ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا أبو نعيم ، ثنا زكريا عن عامر ، ثنا عروة البارقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة ، الأجر والمغنم " . أخبرنا عبد الواحد المليحي أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا علي بن حفص ، ثنا ابن المبارك ، ثنا طلحة بن أبي سعيد قال : سمعت سعيداً المقبري يحدث أنه سمع أبا هريرة يقول :قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من احتبس فرساً في سبيل الله إيماناً بالله وتصديقاً بوعده ، فأن شبعه ،وريه ، وروثه ، وبوله في ميزانه يوم القيامة " . أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنبأنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنبأنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الخيل ثلاثة : لرجل أجر ، ولرجل ستر ،وهي لرجل وزر ، فأما التي هي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله ، فأطال لها في مرج أو روضة فما أصابت في طيلها من ذلك المرج أو الروضة كان له حسنات ، ولو أنها قطعت طيلها ذلك فاستنت شرفاً أو شرفين ، كانت آثارها وأرواثها حسنات له ، ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ، ولم يرد أن يسقيها كان ذلك له حسنات ، فهي لذلك الرجل أجر ، وأما التي هي له ستر : فرجل ربطها تغنياً وتعففاً ، ثم لم ينس حق الله في ظهورها ولا رقابها ، فيه له ستر ، وأما التي هي له وزر : فرجل ربطها فخراً ورياءً ، ونواءً لأهل الإسلام ، فهي على ذلك وزر " وسُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمر فقال : ما أنزل علي فيها شيء إلا هذه الآية الجامعة الفاذة : ( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) (الزلزلة : 7- 8 ) . ( ترهبون به ) ، تخوفون به .. ( عدو الله وعدوكم وآخرين ) ، أي : وتُرهبون به آخرين ،( من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم ) ، قال مجاهد ومقاتل وقتادة : هم بنو قريظة . وقال السدي : هم أهل فارس . وقال الحسن و ابن زيد :هم المنافقون ( لا تعلمونهم ) لأنهم معكم يقولون : لا إله إلا الله .وقيل :هم كفار الجن . ( وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم ) ، يُوَفَّ لكم أجره ،( وأنتم لا تظلمون) ، لا تنقص أجوركم ... وقوله تعالى : (وإن جنحوا للسلم )، أي : مالوا إلى الصلح ،( فاجنح لها) ، أي : مِلْ إليها وصالحهم . روي عن قتادة و الحسن : أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : ( فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (التوبة : 5 )... ( وتوكل على الله ) أي : ثِقْ بالله ، ( إنه هو السميع العليم )... (وإن يريدوا أن يخدعوك) ، يغدروا بك . قال مجاهد : يعني بني قريظة . (فإن حسبك الله) ، كافيك الله ،(هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين) ، أي : بالأنصار..(وألف بين قلوبهم) ، أي : بين الأوس والخزرج ، كانت بينهم إحن وثارات في الجاهلية ، فصيرهم الله إخواناً بعد أن كانوا أعداء ، (لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم . إنه عزيز حكيم). وقوله تعالى :( يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين)، قال سعيد بن جبير : أسلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة وثلاثون رجلاً وست نسوة ، ثم أسلم عمر بن الخطاب فتم به الأربعون ، فنزلت هذه الآية . واختلفوا في محل ( من ) فقال أكثر المفسرين محله خفض ، عطفاً على الكاف في قوله : (حسبك الله)وحسب من اتبعك ، وقال بعضهم : هو رفع عطفاً على اسم الله معناه : حسبك الله ومتبعوك من المؤمنين وقال السعدي رحمه الله : قوله تعالى : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ*الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ*فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ* ) ( إن ) هؤلاء الذين جمعوا هذه الخصال الثلاث : الكفر ، وعدم الإيمان ، والخيانة ـ بحيث لا يثبتون على عهد عاهدوه ، ولا قول قالوه ، هم( شر الدواب عند الله) فهم شر من الحمير والكلاب وغيرها ، لأن الخير معدوم منهم ، والشر متوقع فيهم . فإذهاب هؤلاء ومحقهم ، هو المتعين ، لئلا يسري داؤهم لغيرهم ولهذا قال ![]() وقوله تعالى : (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ*وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ) (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ) أي : وإذا كان بينك وبين قوم ، عهد وميثاق على ترك القتال فخفت منهم خيانة بأن ظهر من قرائن أحوالهم ما يدل على خيانتهم من غير تصريح منهم بالخيانة .( فانبذ إليهم ) عهدهم ، أي : ارمه عليهم ، وأخبرهم أنه لا عهد بينك وبينهم .( على سواء ) أي : حتى يستوي علمك وعلمهم بذلك ، ولا يحل لك أن تغدرهم ، أو تسعى في شيء مما منعه ، موجب العهد ، حتى تخبرهم بذلك . (إن الله لا يحب الخائنين) بل يبغضهم أشد البغض ، فلا بد من أمر بيِّن ، يبرئكم من الخيانة . ودلت الآية على أنه إذا وجدت الخيانة المحققة منهم لم يحتج أن ينبذ إليهم عهدهم ، لأنه لم يخف منهم ، بل علم ذلك ، ولعدم الفائدة ولقوله : ( على سواء) ، وهنا قد كان معلوما عند الجميع غدرهم . ودل مفهومها أيضا ، أنه إذا لم يخف منهم خيانة ، بأن لم يوجد منهم ما يدل على ذلك ، أنه لا يجوز نبذ العهد إليهم ، بل يجب الوفاء إلى أن تتم مدته .( ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون) أي : لا يحسب الكافرون بربهم ، المكذبون بآياته ، أنهم سبقوا الله وفاتوه ، فإنهم لا يعجزونه ، والله لهم بالمرصاد . وله تعالى الحكمة البالغة ، في إمهالهم ، وعدم معاجلتهم بالعقوبة ، التي من جملتها ، ابتلاء عباده المؤمنين ، وامتحانهم ، وتزودهم من طاعته ومراضيه ، ما يصلون به المنازل العالية ، واتصافهم بأخلاق وصفات لم يكونوا بغيره بالغيها ، فلهذا قال لعباده المؤمنين ![]() وقوله تعالى : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ*َوَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ*وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ *) يقول تعالى : ( وإن جنحوا) أي : الكفار المحاربون ، أي : مالوا( للسلم ) أي : الصلح وترك القتال .( فاجنح لها وتوكل على الله) أي : أجبهم إلى ما طلبوا ، متوكلا على ربك ، فإن في ذلك فوائد كثيرة . منها : أن طلب العافية مطلوب كل وقت ، فإذا كانوا هم المبتدئين في ذلك ، كان أولى لإجابتهم . ومنها : أن في ذلك استجماعاً لقواكم ، واستعداداً منكم لقتالهم في وقت آخر ، إن احتيج إلى ذلك . ومنها : أنكم إذا أصلحتم وأمن بعضكم بعضا ، وتمكن كل من معرفة ما عليه الآخر ، فإن الإسلام يعلو ، ولا يُعلى عليه . فكل من له عقل وبصيرة ، إذا كان معه إنصاف ، فلا بد أن يؤثره على غيره من الأديان ، لحسنه في أوامره ونواهيه ، وحسنه في معاملته للخلق ، والعدل فيهم ، وأنه لا جوْر فيه ولا ظلم بوجه ، فحينئذ يكثر الراغبون فيه ، والمتبعون له . فصار هذا السلم عونا للمسلمين على الكافرين ، ولا يخاف من السلم إلا خصلة واحدة ، وهي أن يكون الكفار قصدهم بذلك خدع المسلمين ، وانتهاز الفرصة فيهم . فأخبرهم الله ، أنه حسبهم وكافيهم خداعهم ، وأن ذلك يعود عليهم ضرره فقال ![]() ثم قال تعالى ![]() 16- (إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاَخِرَةِ قُلُوبُهُم مّنكِرَةٌ وَهُم مّسْتَكْبِرُونَ*لاَ جَرَمَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ *وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مّاذَآ أَنْزَلَ رَبّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأوّلِينَ * لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الّذِينَ يُضِلّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ قَدْ مَكَرَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُمْ مّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرّ عَلَيْهِمُ السّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ * ثُمّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقّونَ فِيهِمْ قَالَ الّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسّوَءَ عَلَى الْكَافِرِينَ*الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ*فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ*) (النحل :22- 29 ) يخبر تعالى أنه لا إله هو الواحد الأحد الفرد الصمد, وأخبر أن الكافرين تنكر قلوبهم ذلك, كما أخبر عنهم متعجبين من ذلك (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) (صـ : 5 ) وقال تعالى: (وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (الزمر : 45 ) وقوله: (وهم مستكبرون) أي عن عبادة الله مع إنكار قلوبهم لتوحيده كما قال: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) (غافر : 60 ) ولهذا قال ههنا ( لا جرم ) أي حقاً ( أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون )أي وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء (إنه لا يحب المستكبرين) وقوله تعالى : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مّاذَآ أَنْزَلَ رَبّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأوّلِينَ * لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الّذِينَ يُضِلّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ ) يقول تعالى: وإذا قيل لهؤلاء المكذبين (ماذا أنزل ربكم؟) ( قالوا) معرضين عن الجواب (أساطير الأوّلين) أي لم ينزل شيئاً, إنما هذا الذي يتلى علينا أساطير الأولين, أي مأخوذ من كتب المتقدمين, كما قال تعالى: (وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (الفرقان : 5 ) أي يفترون على الرسول صلى الله عليه وسلم ويقولون أقوالاً متضادة مختلفة كلها باطلة, كما قال تعالى: (انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً) (الإسراء : 48 ) وذلك أن كل من خرج عن الحق فمهما قال أخطأ, وكانوا يقولون: ساحر، وشاعر، وكاهن ، ومجنون... ثم استقر أمرهم إلى ما اختلقه لهم شيخهم الوحيد المسمى بالوليد بن المغيرة المخزومي الذي قال فيه الله تعالى : (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ *فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ *سَأُصْلِيهِ سَقَرَ...) (المدثر 18- 26 )أي ينقل ويحكى, فتفرقوا عن قوله ورأيه قبحهم الله... قال تعالى: ( ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم) أي إنما قدرنا عليهم أن يقولوا ذلك ليتحملوا أوزارهم ومن أوزار الذين يتبعونهم ويوافقونهم أي يصير عليهم خطيئة ضلالهم في أنفسهم, وخطيئة إغوائهم لغيرهم واقتداء أولئك بهم, كما جاء في الحديث:"من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه, لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً, ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه, لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً" وقال تعالى: (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ) (العنكبوت : 13 ) وهكذا روى العوفي عن ابن عباس في الاَية (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم) أنها كقوله: ( وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم) وقال مجاهد: يحملون أثقالهم ذنوبهم وذنوب من أطاعهم, ولا يخفف عمن أطاعهم من العذاب شيئاً. وقوله تعالى : ( قَدْ مَكَرَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُمْ مّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرّ عَلَيْهِمُ السّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ * ثُمّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقّونَ فِيهِمْ قَالَ الّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسّوَءَ عَلَى الْكَافِرِينَ) قال العوفي عن ابن عباس في قوله: (قد مكر الذين من قبلهم) قال: هو النمرود الذي بنى الصرح, قال ابن أبي حاتم وروي عن مجاهد نحوه. وقال عبد الرزاق عن معمر, عن زيد بن أسلم: أول جبار كان في الأرض النمرود, فبعث الله عليه بعوضة فدخلت في منخره, فمكث أربعمائة سنة يضرب رأسه بالمطارق, وأرحم الناس به من جمع يديه فضرب بهما رأسه وكان جباراً أربعمائة سنة, فعذبه الله أربعمائة سنة كملكه, ثم أماته, وهو الذي بنى الصرح إلى السماء الذي قال الله تعالى: (فأتى الله بنيانهم من القواعد) وقال آخرون: بل هو بختنصر, وذكروا من المكر الذي حكاه الله ههنا كما قال في سورة إبراهيم (وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) (46 ) وقال آخرون: هذا من باب المثل لإبطال ما صنعه هؤلاء الذين كفروا بالله وأشركوا في عبادته غيره, كما قال نوح عليه السلام: ((وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً) (نوح : 22 ) أي احتالوا في إضلال الناس بكل حيلة وأمالوهم إلى شركهم بكل وسيلة, كما يقول لهم أتباعهم يوم القيامة: (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (سبأ : 33 )
__________________
|
#15
|
||||
|
||||
![]() وقوله:( فأتى الله بنيانهم من القواعد) أي اجتثه من أصله وأبطل عملهم, كقوله تعالى: ( كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (المائدة : 64 ), وقوله: ( فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) (الحشر : 2 ), وقال الله ههنا: (فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ثم يوم القيامة يخزيهم) أي يظهر فضائحهم, وما كانت تجنه ضمائرهم فيجعله علانية, كقوله تعالى: {يوم تبلى السرائر} أي تظهر وتشتهر كما في الصحيحين عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند أسته بقدر غدرته, فيقال هذه غدرة فلان بن فلان» وهكذا يظهر للناس ما كانوا يسرونه من المكر ويخزيهم الله على رؤوس الخلائق ويقول لهم الرب تبارك وتعالى مقرعاً لهم وموبخاً (أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم) تحاربون وتعادون في سبيلهم أين هم عن نصركم وخلاصكم ههنا ؟ (هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ) (الشعراء : 93 )...(فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ) (الطارق : 10 ) فإذا توجهت عليهم الحجة وقامت عليهم الدلالة, وحقت عليهم الكلمة وسكتوا عن الاعتذار حين لا فرار؛(قال الذين أوتوا العلم) وهم السادة في الدنيا والاَخرة, والمخبرون عن الحق في الدنيا والاَخرة, فيقولون حينئذ: (إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين) أي الفضيحة والعذاب محيط اليوم بمن كفر بالله وأشرك به ما لا يضره وما لا ينفعه. وقوله تعالى : (الّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السّلَمَ مَا كُنّا نَعْمَلُ مِن سُوَءٍ بَلَىَ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * فَادْخُلُوَاْ أَبْوَابَ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبّرِينَ) يخبر تعالى عن حال المشركين الظالمين أنفسهم عند احتضارهم ومجيء الملائكة إليهم لقبض أرواحهم الخبيثة (فألقوا السلم) أي أظهروا السمع والطاعة والانقياد قائلين:(ما كنا نعمل من سوء) كما يقولون يوم المعاد (وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) (الأنعام : 23 )؛ (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ) (المجادلة : 18 ) .. قال الله مكذباً لهم في قيلهم ذلك:(بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون * فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين) أي ب ئس المقيل والمقام والمكان من دار هوان لمن كان متكبراً عن آيات الله واتباع رسله, وهم يدخلون جهنم من يوم مماتهم بأرواحهم, وينال أجسادهم في قبورها من حرها وسمومها, فإذا كان يوم القيامة سلكت أرواحهم في أجسادهم وخلدت في نار (لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) (فاطر : 36 ) كما قال الله تعالى: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) (غافر : 46 ). وقال السعدي رحمه الله : قوله تعالى : (إلهكم إله واحد )= هو الله الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد . فأهل الإيمان والعقول ، أحلته قلوبهم وعظمته ، وأحبته حبا عظيما ، وصرفوا له كل ما استطاعوا من القربات البدنية والمالية ، وأعما*ل القلوب وأعمال الجوارح ، وأثنوا عليه بأسمائه الحسنى ، وصفاته وأفعاله المقدسة ، (فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة ) لهذا الأمر العظيم الذي لا ينكره إلا أعظم الخلق جهلا وعنادا ...، وهو : توحيد الله ...( وهم مستكبرون ) عن عبادته .( لا جرم ) أي : حقا .. لا بُـد ( أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ) من الأعمال القبيحة .. ( إنه لا يحب المستكبرين) بل يبغضهم أشد البغض ، وسيجازيهم من جنس عملهم ( إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ).. (وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم ) أي : إذا سئلوا عن القرآن والوحي ، الذي هو أكبر نعمة أنعم الله بها على العباد . فماذا قولكم به ؟ وهل تشكرون هذه النعمة وتعترفون بها ، أم تكفرون وتعاندون ؟ فيكون جوابهم أقبح جواب وأسمجه ، فيقولون عنه : إنه (أساطير الأولين ) أي : كذب اختلقه محمد على الله ، وما هو إلا قصص الأولين التي يتناقلها الناس ، جيلا بعد جيل ، منها الصدق ومنها الكذب ، فقالوا هذه المقالة ، ودعوا أتباعهم إليها ، وحملوا وزرهم ، ووزر من انقاد لهم إلى يوم القيامة . وقوله : وقوله : ( ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم) أي : من أوزار المقلدين الذين لا علم عندهم ، إلا ما دعوهم إليه ، فيحملون إثم ما دعوهم إليه ، وأما الذين يعلمون ، فكل مستقل بجرمه ، لأنه عرف ما عرفوا ..( ألا ساء ما يزرون) أي : بئس ما حملوا من الوزر المثقل لظهورهم ، من وزرهم ، ووزر من أضلوه . (قد مكر الذين من قبلهم )برسلهم ، واحتالوا بأنواع الحيل ، على رد ما جاؤوهم به ، وبنوا من مكرهم ، قصورا هائلة ،( فأتى الله بنيانهم من القواعد ) أي : جاءها الأمر من أساسها وقاعدتها ، ( فخر عليهم السقف من فوقهم ) فصار ما بنوه عذابا ، عذبوا به ، ( وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ) وذلك أنهم ظنوا أن هذا البنيان سينفعهم ، ويقيهم العذاب ، فصار عذابهم فيما بنوه وأصلوه . وهذا من أحسن الأمثال ، في إبطال الله مكر أعدائه . فإنهم فكروا وقدروا فيما جاءت به الرسل لما كذبوهم ، وجعلوا لهم أصولا وقواعد من الباطل ، يرجعون إليها ، ويردون بها ما جاءت به الرسل ، واحتالوا أيضا على إيقاع المكروه والضرر بالرسل ومن تبعهم ، فصار مكرهم وبالاً عليهم ، فصار تديبرهم فيه تدميرهم ، وذلك لأن مكرهم سيىء ( وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ) (فاطر : 43 )، هذا في الدنيا، ولعذاب الآخرة أخزى ، ولهذا قال ![]() ![]() (قال الذين أوتوا العلم ) أي : العلماء الربانيون (إن الخزي اليوم )أي : يوم القيامة (والسوء ) أي : سوء العذاب (على الكافرين ) . وفي هذا فضيلة أهل العلم ، وأنهم الناطقون بالحق في هذه الدنيا ، ويوم يقوم الأشهاد ، وأن لقولهم ، اعتبارا عند الله وعند خلقه . ثم ذكر ما يفعل بهم ،أي بالكافرين ،عند الوفاة ،وفي القيامة فقال ![]() ![]() ![]() 17-(إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) (الحج : 38 )
__________________
|
#16
|
||||
|
||||
![]() قال الطبري رحمه الله : القول فـي تأويـل قوله تعالـى: (إِنّ اللّهَ يُدَافِعُ عَنِ الّذِينَ آمَنُوَاْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ كُلّ خَوّانٍ كَفُورٍ). يقول تعالـى ذكره: إن الله يدفع غائلة الـمشركين عن الذين آمنوا بـالله وبرسوله, إن الله لا يحبّ كلّ خوان يخون الله فـيخالف أمره ونهيه ويعصيه ويطيع الشيطان ؛ كَفُورٍ ، يقول: جَحود لنعمه عنده, لا يعرف لـمنعمها حقه فـيشكره علـيها. وقـيـل: إنه عنـي بذلك دفع الله كفـار قريش عمن كان بـين أظهرهم من الـمؤمنـين قبل هجرتهم. وقال القرطبي رحمه الله : روي أنها نزلت بسبب المؤمنين لما كثروا بمكة وآذاهم الكفار وهاجر من هاجر إلى أرض الحبشة؛ أراد بعض مؤمني مكة أن يقتل من أمكنه من الكفار ويغتال ويغدر ويحتال؛ فنزلت هذه الآية ![]() *** قال عند تفسيره لقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) (الأنفال : 27 )روي أنها نزلت في أبي لبابة بن عبدالمنذر حين أشار إلى بني قريظة بالذبح. قال أبو لبابة: والله ما زالت قدماي حتى علمت أني قد خنت الله ورسوله؛ فنزلت هذه الآية. فلما نزلت شد نفسه إلى سارية من سواري المسجد، وقال: والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت، أو يتوب الله علي. الخبر مشهور. وعن عكرمة قال: لما كان شأن قريظة بعث النبي صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه فيمن كان عنده من الناس؛ فلما انتهى إليهم وقعوا في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجاء جبريل عليه السلام على فرس أبلق فقالت عائشة رضي الله عنها: فلكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح الغبار عن وجه جبريل عليهما السلام؛ فقلت: هذا دحية يا رسول الله ؟ فقال: "هذا جبريل عليه السلام". قال: "يا رسول الله ما يمنعك من بني قريظة أن تأتيهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "فكيف لي بحصنهم"؟ فقال جبريل: "فإني أدخل فرسي هذا عليهم". فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا معروري؛ فلما رآه علي رضي الله عنه قال: يا رسول الله، لا عليك ألا تأتيهم، فإنهم يشتمونك. فقال: "كلا إنها ستكون تحية". فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا إخوة القردة والخنازير فقالوا: يا أبا القاسم، ما كنت فحاشا! فقالوا: لا ننزل على حكم محمد، ولكنا ننزل على حكم سعد بن معاذ؛ فنزل. فحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بذلك طرقني الملك سحرا". فنزل فيهم ( يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون). نزلت في أبي لبابة، أشار إلى بني قريظة حين قالوا: ننزل على حكم سعد بن معاذ، لا تفعلوا فإنه الذبح، وأشار إلى حلقه. وقيل: نزلت الآية في أنهم يسمعون الشيء من النبي صلى الله عليه وسلم فيلقونه إلى المشركين ويفشونه. وقيل: المعنى بغلول الغنائم. ونسبتها إلى الله؛ لأنه هو الذي أمر بقسمتها. وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه المؤدي عن الله عز وجل والقيم بها. والخيانة: الغدر وإخفاء الشيء؛ ومنه:(يعلم خائنة الأعين)(غافر: 19) وكان عليه السلام يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع ومن الخيانة فإنها بئست البطانة). خرجه النسائي عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول؛ فذكره. (وتخونوا أماناتكم) في موضع جزم، نسقا على الأول. وقد يكون على الجواب؛ كما يقال: لا تأكل السمك وتشرب اللبن. والأمانات: الأعمال التي ائتمن الله عليها العباد. وسميت أمانة لأنها يؤمن معها من منع الحق؛ مأخوذة من الأمن ... (وأنتم تعلمون) أي ما في الخيانة من القبح والعار. وقيل: تعلمون أنها أمانة. *** وقال عند تفسيره لقوله تعالى : ((وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ) (الأنفال : 58 ) قوله تعالى: (وإما تخافن من قوم خيانة) أي غشا ونقضا للعهد. (فانبذ إليهم على سواء) وهذه الآية نزلت في بني قريظة وبني النضير. وحكاه الطبري عن مجاهد. قال ابن عطية: والذي يظهر في ألفاظ القرآن أن أم بني قريظة انقضى عند قول (فشرد بهم من خلفهم) ثم ابتدأ تبارك وتعالى في هذه الآية بأمره فيما يصنعه في المستقبل مع من يخاف منه خيانة، فتترتب فيهم هذه الآية. وبنو قريظة لم يكونوا في حد من تخاف خيانته، وإنما كانت خيانتهم ظاهرة مشهورة. قال ابن العربي: فإن قيل كيف يجوز نقض العهد مع خوف الخيانة، والخوف ظن لا يقين معه، فكيف يسقط يقين العهد مع ظن الخيانة. فالجواب من وجهين: أحدهما - أن الخوف قد يأتي بمعنى اليقين، كما قد يأتي الرجاء بمعنى العلم، قال الله تعالى: (مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً) (نوح : 13 ) الثاني - إذا ظهرت آثار الخيانة وثبتت دلائلها، وجب نبذ العهد لئلا يوقع التمادي عليه في الهلكة، وجاز إسقاط اليقين هنا ضرورة. وأما إذا علم اليقين فيستغنى عن نبذ العهد إليهم، وقد سار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة عام الفتح، لما إذا اشتهر منهم نقض العهد من غير أن ينبذ إليهم عهدهم. والنبذ: الرمي والرفض. وقال الأزهري: معناه إذا عاهدت قوما فعلمت منهم النقض بالعهد فلا توقع بهم سابقا إلى النقض حتى تلقي إليهم أنك قد نقضت العهد والمواعدة، فيكونوا في علم النقض مستويين، ثم أوقع بهم. قال النحاس: هذا من معجز ما جاء في القرآن مما لا يوجد في الكلام مثله على اختصاره وكثرة معانيه. والمعنى: وإما تخافن من قوم بينك وبينهم عهد خيانة فأنبذ إليهم العهد، أي قل لهم قد نبذت إليكم عهدكم، وأنا مقاتلكم، ليعلموا ذلك فيكونوا معك في العلم سواء، ولا تقاتلهم وبينك وبينهم عهد وهم يثقون بك، فيكون ذلك خيانة وغدرا. ثم بين هذا بقوله:(إن الله لا يحب الخائنين). قلت: ما ذكره الأزهري والنحاس من إنباذ العهد مع العلم بنقضه يرده فعل النبي صلى الله عليه وسلم في فتح مكة، فإنهم لما نقضوا لم يوجه إليهم بل قال: "اللهم اقطع خبري عنهم" وغزاهم. وهو أيضا معنى الآية، لأن في قطع العهد منهم ونكثه مع العلم به حصول نقض عهدهم والاستواء معهم. فأما مع غير العلم بنقض العهد منهم فلا يحل ولا يجوز. روى الترمذي وأبو داود عن سليم بن عامر قال: كان بين معاوية والروم عهد وكان يسير نحو بلادهم ليقرب حتى إذا انقضى العهد غزاهم، فجاءه رجل على فرس أو برذون وهو يقول: الله أكبر، الله أكبر، وفاء لا غدر، فنظروا فإذا هو عمرو بن عنبسة، فأرسل إليه معاوية فسأل فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء) فرجع معاوية بالناس. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. والسواء: المساواة والاعتدال. وقال الراجز :فاضرب وجوه الغدر الأعداءحتى يجيبوك إلى السواء وقال الكسائي: السواء العدل. وقد يكون بمعنى الوسط، ومنه قوله تعالى:(فِي سَوَاء الْجَحِيمِ) (الصافات : 55 ). ومنه قول حسان: يا ويح أصحاب النبي ورهطه بعد المغيب في سواء الملحد الفراء: ويقال (فانبذ إليهم على سواء) جهرا لا سرا. روى مسلم عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدره ألا ولا غادر أعظم غدرا من أمير عامة). قال علماؤنا رحمة الله عليهم: إنما كان الغدر في حق الإمام أعظم وأفحش منه في غيره لما في ذلك من المفسدة، فإنما إذا غدروا وعلم ذلك منهم ولم ينبذوا بالعهد لم يأمنهم العدو على عهد ولا صلح، فتشتد شوكته ويعظم ضرره، ويكون ذلك منفرا عن الدخول في الدين، وموجبا لذم أئمة المسلمين. فأما إذا لم يكن للعدو عهد فينبغي أن يتحيل عليه بكل حيلة، وتدار عليه كل خديعة. وعليه يحمل قوله صلى الله عليه وسلم : "الحرب خدعة". وقد اختلف العلماء هل يجاهد مع الإمام الغادر، على قولين. فذهب أكثرهم إلى أنه لا يقاتل معه، بخلاف الخائن والفاسق. وذهب بعضهم إلى الجهاد معه. والقولان في مذهبنا. وقال البغوي رحمه الله : قوله تعالى: (إن الله يدافع عن الذين آمنوا)، قرأ ابن كثير وأهل البصرة: (يدفع) وقرأ الآخرون: (يدافع) بالألف، يريد: يدفع غائلة المشركين عن المؤمنين ويمنعهم عن المؤمنين. (إن الله لا يحب كل خوان كفور)، أي: خوان في أمانة الله ، كفور لنعمته ؛ قال ابن عباس: خانوا الله فجعلوا معه شريكاً وكفروا نعمه. قال الزجاج : من تقرب إلى الأصنام بذبيحته وذكر عليها اسم غير الله فهو خوان كفور. وقال السعدي رحمه الله : قوله تعالى : (إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور ) هذا إخبار ، ووعد ، وبشارة من الله ، للذين آمنوا ، أن الله يدفع عنهم كل مكروه . ويدفع عنهم ـ بسبب إيمانهم ـ كل شر من شرور الكفار ، وشرور وسوسة الشيطان ، وشرور أنفسهم ، وسيئات أعمالهم ويحمل عنهم عند نزول المكاره ، ما لا يتحملون ، فيخفف عنهم غاية التخفيف . كل مؤمن ، له من هذه المدافعة والفضيلة ، بحسب إيمانه ، فمستقل ، ومستكثر .( إن الله لا يحب كل خوان ) أي : خائن في أمانته ، التي حمله الله إياها ، فيبخس حقوق الله عليها ، ويخونها ، ويخون الخلق .( كفور ) لنعم الله ، يوالي الله عليه الإحسان ،ويتوالى منه الكفر والعصيان .فهذا لا يحبه الله ، بل يبغضه ويمقته ، وسيجازيه على كفره وخيانته ، ومفهوم الآية ، أن الله يحب كل أمين قائم بأمانته ، شكور لمولاه . 18-( إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ) (القصص : 76 ) قال القرطبي رحمه الله : قوله تعالى:(إن قارون كان من قوم موسى) لما قال تعالى:(وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ)(القصص: 60) بين أن قارون أوتيها واغتر بها ولم تعصمه من عذاب الله كما لم تعصم فرعون، ولستم أيها المشركون بأكثر عددا ومالا من قارون وفرعون، فلم ينفع فرعون جنوده وأمواله ولم ينفع قارون قرابته من موسى ولا كنوزه... قال النخعي وقتادة وغيرهما: كان ابن عم موسى لحا؛ وهو قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب؛ وموسى بن عمران بن قاهث وقال ابن إسحاق: كان عم موسى لأب وأم وقيل: كان ابن خالته ولم ينصرف للعجمة والتعريف وما كان على وزن فاعول أعجميا لا يحسن فيه الألف واللام لم ينصرف في المعرفة وانصرف في النكرة، فإن حسنت فيه الألف واللام انصرف إن كان اسما لمذكر نحو طاوس وراقود قال الزجاج: ولو كان قارون من قرنت الشيء لانصرف. قوله تعالى: (فبغى عليهم) بغيه أنه زاد في طول ثوبه شبرا؛ قاله شهر بن حوشب وفي الحديث :"لا ينظر الله إلى من جر إزاره بطرا"ـ وقيل: بغيه كفره بالله عز وجل؛ قاله الضحاك ـ وقيل: بغيه استخفافه بهم بكثرة مال وولده؛ قاله قتادة ـ وقيل: بغيه نسبته ما آتاه الله من الكنوز إلى نفسه بعلمه وحيلته؛ قاله ابن بحر ـ وقيل: بغيه قوله : إذا كانت النبوة لموسى والمذبح والقربان في هارون فمالي ! فروى أنه لما جاوز بهم موسى البحر وصارت الرسالة لموسى والحبورة لهارون؛ يقرب القربان ويكون رأسا فيهم، وكان القربان لموسى فجعله موسى إلى أخيه، وجد قارون في نفسه وحسدهما ، فقال لموسى: الأمر لكما وليس لي شيء، إلى متى أصبر ؟ قال موسى: هذا صنع الله ..قال: والله لا أصدقنك حتى تأتي بآية؛ فأمر رؤساء بني إسرائيل أن يجيء كل واحد منهم بعصاه، فحزمها وألقاها في القبة التي كان الوحي ينزل عليه فيها، وكانوا يحرسون عصيهم بالليل فأصبحوا وإذا بعصا هارون تهتز ولها ورق أخضر - وكانت من شجر اللوز - فقال قارون: ما هو بأعجب مما تصنع من السحر ..(فبغى عليهم)من البغي وهو الظلم وقال يحيى بن سلام وابن المسيب: كان قارون غنيا عاملا لفرعون على بني إسرائيل فتعدى عليهم وظلمهم وكان منهم وقول سابع: روي عن ابن عباس قال: لما أمر الله تعالى برجم الزاني عمد قارون إلى امرأة بغي وأعطاها مالا، وحملها على أن ادعت على موسى أنه زنى بها وأنه أحبلها؛ فعظم على موسى ذلك وأحلفها بالله الذي فلق البحر لبني إسرائيل، وأنزل التوراة على موسى إلا صدقت فتداركها الله فقالت: أشهد أنك بريء، وأن قارون أعطاني مالا، وحملني على أن قلت ما قلت، وأنت الصادق، وقارون الكاذب... فجعل الله أمر قارون إلى موسى، وأمر الأرض أن تطيعه... فجاءه وهو يقول للأرض: يا أرض خذيه؛ يا أرض خذيه ..وهي تأخذه شيئا فشيئا .. وهو يستغيث : يا موسى..! إلى أن ساخ في الأرض، هو وداره وجلساؤه الذين كانوا على مذهبه .. وروي أن الله تعالى أوحى إلى موسى: استغاث بك عبادي فلم ترحمهم، أما أنهم لو دعوني لوجدوني قريبا مجيبا ابن جريج: بلغنا أنه يخسف بهم كل يوم قامة، فلا يبلغون إلى أسفل الأرض إلى يوم القيامة، وذكر ابن أبي الدنيا في كتاب الفرج: حدثني إبراهيم بن راشد قال حدثني داود بن مهران عن الوليد بن مسلم عن مروان بن جناح عن يونس بن ميسرة بن حلبس قال: لقي قارون يونس في ظلمات البحر، فنادى قارون يونس، فقال: يا يونس تب إلى الله ، فإنك تجده عند أول قدم ترجع بها إليه.. فقال يونس: ما منعك من التوبة ؟ فقال: إن توبتي جعلت إلى ابن عمي فأبى أن يقبل مني .. وفي الخبر: إذا وصل قارون إلى قرار الأرض السابعة نفخ إسرافيل في الصور.. والله أعلم... قال السدي: وكان اسم البغي سبرتا، وبذل لها قارون ألفي درهم ـ وقال قتادة: وكان قطع البحر مع موسى وكان يسمى المنور من حسن صورته في التوراة، ولكن عدو الله نافق كما نافق السامري. قوله تعالى: (وآتيناه من الكنوز) قال عطاء: أصاب كثيرا من كنوز يوسف عليه السلام ...وقال الوليد بن مروان: إنه كان يعمل الكيمياء...(ما إن مفاتحه) = "إن" واسمها وخبرها في صلة "ما" و"ما" مفعولة "آتيناه" قال النحاس: وسمعت علي بن سليمان يقول ما أقبح ما يقول الكوفيون في الصلات؛ إنه لا يجوز أن تكون صلة الذي وأخواته "إن" وما عملت فيه، وفي القرآن (ما إن مفاتحه) وهو جمع مفتح بالكسر وهو ما يفتح به ، ومن قال مفتاح قال مفاتيح ، ومن قال هي الخزائن فواحدها مفتح بالفتح (لتنوء بالعصبة) أحسن ما قيل فيه أن المعنى لتنيء العصبة أي تميلهم بثقلها، فلما انفتحت التاء دخلت الباء كما قالوا هو يذهب بالبؤس ومذهب البؤس فصار (لتنوء بالعصبة) فجعل العصبة تنوء أي تنهض متثاقلة؛ كقولك قم بنا أي أجعلنا نقوم يقال: ناء ينوء نوءا إذا نهض بثقل قال الشاعر:تنوء بأخراها فلايا قيامـــها وتمشي الهوينى عن قريب فتبهر وقال آخـر:أخذت فلم أملك ونوت فلم أقم كأني من طول الزمان مقيد وأناءني إذا أثقلني؛ عن أبي زيد وقال أبو عبيدة: قوله: (لتنوء بالعصبة) مقلوب، والمعنى لتنوء بها العصبة أي تنهض بها، وقال أبو زيد: نؤت بالحمل إذا نهضت قال الشاعر: إنا وجدنا خلفا بئس الخلف عبدا إذا ما ناء بالحمل وقف والأولى معنى قول ابن عباس وأبي صالح والسدي وهو قول الفراء واختاره النحاس كما يقال: ذهبت به وأذهبته وجئت به وأجأته ونؤت به وأنأته؛ فأما قولهم: له عندي ما ساءه وناءه فهو إتباع كان يجب أن يقال وأناءه ومثله هنأني الطعام ومرأني، وأخذه ما قدم وما حدث وقيل: هو مأخوذ من النأي وهو البعد ومنه قول الشاعر: ينأون عنا وما تنأى مودتهم فالقلب فيهم رهين حيثما كانوا وقرأ بديل بن ميسرة: "لينوء" بالياء؛ أي لينوء الواحد منها أو المذكور فحمل على المعنى وقال أبو عبيدة: قلت لرؤبة بن العجاج في قوله: فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق إن كنت أردت الخطوط فقل كأنها، وإن كنت أردت السواد والبلق فقل كأنهما فقال: أردت كل ذلك واختلف في العصبة وهي الجماعة التي يتعصب بعضهم لبعض على أحد عشر قولا: الأول: ثلاثة رجال؛ قاله ابن عباس وعنه أيضا من الثلاثة إلى العشرة وقال مجاهد: العصبة هنا ما بين العشرين إلى خمسة عشر وعنه أيضا: ما بين العشرة إلى الخمسة عشر وعنه أيضا: من عشرة إلى خمسة ذكر الأول الثعلبي، والثاني القشيري والماوردي، والثالث المهدوي وقال أبو صالح والحكم بن عتيبة وقتادة والضحاك: أربعون رجلا. السدي ما بين العشرة إلى الأربعين وقاله قتادة أيضا وقال عكرمة: منهم من يقول أربعون، ومنهم من يقول سبعون وهو قول أبي صالح إن العصبة سبعون رجلا؛ ذكره الماوردي والأول ذكره عنه الثعلبي وقيل: ستون رجلا وقال سعيد بن جبير: ست أو سبع وقال عبدالرحمن بن زيد: ما بين الثلاثة والتسعة وهو النفر وقال الكلبي: عشرة لقول إخوة يوسف (ونحن عصبة)(يوسف: 8) وقاله مقاتل وقال خيثمة: وجدت في الإنجيل أن مفاتيح خزائن قارون وقر ستين بغلا غراء محجلة، وأنها لتنوء بها ثقلها، وما يزيد مفتح منها على إصبع، لكل مفتح منها كنز مال، لو قسم ذلك الكنز على أهل البصرة لكفاهم قال مجاهد: كانت المفاتيح من جلود الإبل وقيل: من جلود البقر لتخف عليه، وكانت تحمل معه إذا ركب على سبعين بغلا فيما ذكره القشيري وقيل: على أربعين بغلا وهو قول الضحاك وعنه أيضا: إن مفاتحه أوعيته وكذا قال أبو صالح: إن المراد بالمفاتح الخزائن؛ فالله أعلم قوله تعالى: (إذ قال له قومه) أي المؤمنون من بني إسرائيل، قاله السدي وقال يحيى بن سلام: القوم هنا موسى وقال الفراء وهو جمع أريد به واحد كقوله: (الذين قال لهم الناس)(آل عمران: 173) وإنما هو نعيم ابن مسعود على ما تقدم. ( لا تفرح ) أي لا تأشر ولا تبطر قال الشاعر: ولست بمفراح إذا الدهر سرني ولا ضارع في صرفه المتقلب وقال الزجاج: المعنى لا تفرح بالمال فإن الفرح بالمال لا يؤدي حقه... وقال مبشر بن عبدالله: لا تفرح أي لا تفسد قال الشاعر: إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانة وتحمل أخرى أفرحتك الودائع أي أفسدتك وقال أبو عمرو: أفرحه الدين أثقله وأنشده: إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانة وتحمل أخرى أفرحتك الودائع وأفرحه سره فهو مشترك قال الزجاج: والفرحين والفارحين سواء وفرق بينهما الفراء فقال: معنى الفرحين الذين هم في حال فرح، والفارحين الذين يفرحون في المستقبل وزعم أن مثله طمع وطامع وميت ومائت ويدل على خلاف ما قال قول الله عز وجل: (إنك ميت وإنهم ميتون)(الزمر: 30) ولم يقل مائت وقال مجاهد أيضا: معنى ( لا تفرح) لا تبغ. (إن الله لا يحب الفرحين) أي البطرين؛ قاله مجاهد والسدي (إن الله لا يحب الفرحين) أي الباغين وقال ابن بحر: لا تبخل إن الله لا يحب الباخلين...
__________________
|
#17
|
||||
|
||||
![]() شوقال ابن كثير رحمه الله : قوله تعالى: (إِنّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىَ فَبَغَىَ عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَآ إِنّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِي الْقُوّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ الْفَرِحِينَ * ) قال الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال (إن قارون كان من قوم موسى) قال: كان ابن عمه, وهكذا قال إبراهيم النخعي وعبد الله بن الحارث بن نوفل وسماك بن حرب وقتادة ومالك بن دينار وابن جريج وغيرهم أنه كان ابن عم موسى عليه السلام. قال ابن جريج: هو قارون بن يصهر بن قاهث وموسى بن عمران بن قاهث. وزعم محمد بن إسحاق بن يسار أن قارون كان عم موسى بن عمران عليه السلام, قال ابن جريج: وأكثر أهل العلم على أنه كان ابن عمه, والله أعلم. وقال قتادة بن دعامة: كنا نحدث أنه كان ابن عم موسى, وكان يسمى المنور لحسن صوته بالتوراة, ولكن عدو الله نافق كما نافق السامري, فأهلكه البغي لكثرة ماله. وقال شهر بن حوشب: زاد في ثيابه شبراً طولاً ترفعاً على قومه. وقولهتعالى : (وآتيناه من الكنوز) أي الأموال (ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة) أي ليثقل حملها الفئام من الناس لكثرتها. قال الأعمش عن خيثمة: كانت مفاتيح كنوز قارون من جلود, كل مفتاح مثل الإصبع, كل مفتاح على خزانة على حدته, فإذا ركب حملت على ستين بغلاً أغر محجلاً, وقيل غير ذلك, والله أعلم. وقوله: (إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين) أي وعظه فيما هو فيه صالحو قومه, فقالوا على سبيل النصح والإرشاد: لا تفرح بما أنت فيه, يعنون لا تبطر بما أنت فيه من المال, (إن الله لا يحب الفرحين) قال ابن عباس: يعني المرحين. وقال مجاهد: يعني الأشرين البطرين الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم. وقال السعدي رحمه الله : قوله عالى : (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ) ( إن قارون كان من قوم موسى ) أي : من بني إسرائيل ،الذين فضلوا على العالمين ، وفاقوهم في زمانهم ، وامتن الله عليهم بما امتن به ، فكانت حالهم مناسبة للاستقامة . ولكن قارون هذا ، انحرف عن سبيل قومه ( فبغى عليهم ) وطغى ، بما أوتيه من الأمور العظيمة المطغية . ( وآتيناه من الكنوز ) أي : كنوز الأموال شيئا كثيرا . ( ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة ) والعصبة ، من العشرة إلى التسعة إلى السبعة ، ونحو ذلك . أي : حتى إن مفاتح خزائن أمواله ، تثقل الجماعة القوية عن حملها ... هذه المفاتيح ، فما ظنك بالخزائن ؟( إذ قال له قومه ) ناصحين له محذرين له عن الطغيان ![]() 19-(وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (القصص : 77 ) قال القرطبي رحمه الله : قوله تعالى ![]() وقال الحسن وقتادة: معناه لا تضيع حظك من دنياك في تمتعك بالحلال وطلبك إياه،ونظرك لعاقبة دنياك ؛ فالكلام على هذا التأويل فيه بعض الرفق به وإصلاح الأمر الذي يشتهيه وهذا مما يجب استعماله مع الموعوظ خشية النبْوة من الشدة؛ قاله ابن عطية .. قلت: وهذان التأويلان قد جمعهما ابن عمر في قوله: احرث لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا....وعن الحسن: قدم الفضل، وأمسك ما يبلغ.... وقال مالك: هو الأكل والشرب بلا سرف وقيل: أراد بنصيبه الكفن فهذا وعظ متصل؛ كأنهم قالوا: لا تنس أنك تترك جميع مالك إلا نصيبك هذا الذي هو الكفن ونحو هذا قول الشاعر: نصيبك مما تجمع الدهر كله رداءان تلوى فيهما وحنوط وقـــال آخر: وهي القناعة لا تبغي بها بدلا فيها النعيم وفيها راحــة البدن انظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير القطن والكفن قال ابن العربي: وأبدع ما فيه عندي قول قتادة: ولا تنس نصيبك الحلال، فهو نصيبك من الدنيا.. وما أحسن هذا. (وأحسن كما أحسن الله إليك) أي أطع الله وأعبده كما أنعم عليك... ومنه الحديث: ما الإحسان ؟ قال: "أن تعبد الله كأنك تراه" ... وقيل: هو أمر بصلة المساكين. قال ابن العربي: فيه أقوال كثيرة جماعها استعمال نعم الله في طاعة الله ...وقال مالك: الأكل والشرب من غير سرف... قال ابن العربي: أرى مالكا أراد الرد على الغالين في العبادة والتقشف؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الحلواء، ويشرب العسل، ويستعمل الشواء، ويشرب الماء البارد ... (ولا تبغ الفساد في الأرض) أي لا تعمل بالمعاصي (إن الله لا يحب المفسدين). وقال ابن كثير رحمه الله : قوله تعالى : : (وابتغ فيما آتاك الله الدار الاَخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا) أي استعمل ما وهبك الله من هذا المال الجزيل والنعمة الطائلة في طاعة ربك والتقرب إليه بأنواع القربات, التي يحصل لك بها الثواب في الدنيا والاَخرة ... (ولا تنس نصيبك من الدنيا) أي مما أباح الله فيها من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح, فإن لربك عليك حقاً, ولنفسك عليك حقاً, ولأهلك عليك حقاً, ولزورك عليك حقاً, فآت كل ذي حق حقه (وأحسن كما أحسن الله إليك) أي أحسن إلى خلقه, كما أحسن هو إليك...(ولا تبغ الفساد في الأرض) أي لا تكن همتك بما أنت فيه أن تفسد به في الأرض, وتسيء إلى خلق الله (إن الله لا يحب المفسدين). وقال السعدي رحمه الله : (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ) أي : قد حصل عندك من وسائل الآخرة ، ما ليس عند غيرك من الأموال فابتغ بها ما عند الله ، وتصدق ولا تقتصر على مجرد نيل الشهوات ، وتحصيل اللذات . ( ولا تنس نصيبك من الدنيا ) أي : لا نأمرك أن تتصدق بجميع مالك ، وتبقى ضائعا ، بل أنفق لآخرتك ، واستمتع بدنياك ، استمتاعا لا يثلم دينك ، ولا يضر بآخرتك .( وأحسن كما أحسن الله إليك ) أي أحسن إلى عباد الله بهذه الأموال . ( ولا تبغ الفساد في الأرض) بالتكبر ، والعمل بمعاصي الله والاشتغال بالنعم عن المنعم . (إن الله لا يحب المفسدين ) بل يعاقبهم على ذلك ، أشد العقوبة . 20-( قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ * فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ * مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ * لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ) (الروم :42- 45 ) قال الطبري رحمه الله : القول فـي تأويـل قوله تعالـى: (قُلْ سِيرُواْ فِي الأرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مّشْرِكِينَ). يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم : قل يا مـحمد لهؤلاء الـمشركين بـالله من قومك: سِيروا فـي البلاد, فـانظروا إلـى مساكن الذين كفروا بـالله من قبلكم, وكذّبوا رسلَه, كيف كان آخر أمرهم, وعاقبة تكذيبهم رسُلَ الله وكفرهم .. ألـم نهلكْهم بعذاب منا, ونـجعلهم عبرة لـمن بعدهم؟...(كان أكثرهم مشركين)، يقول: فَعَلنا ذلك بهم, لأن أكثرهم كانوا مشركين بـالله مثلَهم. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينَ الْقِيّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاّ مَرَدّ لَهُ مِنَ اللّهِ يَوْمَئِذٍ يَصّدّعُونَ). يقول تعالـى ذكره: فوجّه وجْهَك يا مـحمد نـحوَ الوجه الذي وجّهك إلـيه ربك للدّينِ القَـيّـمِ لطاعة ربك, والـمِلةِ الـمستقـيـمةِ التـي لا اعوجاج فـيها عن الـحقّ.(مِنْ قَبْلِ أنْ يَأتِـيَ يَوْمٌ لا مَرَدّ لَهُ مِنَ اللّهِ) يقول تعالـى ذكره: من قبل مـجيءِ يومٍ من أيام الله لا مردّ له لـمـجيئه, لأن الله قد قضى بـمـجيئه فهو لا مـحالة جاءٍ..(يَوْمَئِذٍ يَصّدّعُونَ) يقول: يوم يجيء ذلك الـيومُ يصدّع الناسُ, يقول: يتفرّق الناس فرقتـين من قولهم: صَدَعتُ الغنـم صدعتـين: إذا فرقتها فرقتـين: فريق فـي الـجنة, وفريق فـي السعير... القول فـي تأويـل قوله تعالـى: (مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ). يقول تعالـى ذكره:(من كفر) بـالله ، (فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) أي أوزار كفره, وآثام جحوده نِعَمَ ربه...(وَمَنْ عَمِلَ صَالِـحا) يقول: ومن أطاع الله, فعمل بـما أمره به فـي الدنـيا, وانتهى عما نهاه عنه فـيها (فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) يقول: فلأنفسهم يستعدون, ويسوّون الـمضجع لـيسلـموا من عقاب ربهم, وينـجوا من عذابه, كما قال الشاعر:امْهَدْ لنَفْسِكَ حانَ السّقْمُ والتّلَفُوَلا تُضِيعَنّ نَفْسا ما لَهَا خَـلَفُ القول فـي تأويـل قوله تعالـى: (لِيَجْزِيَ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ إِنّهُ لاَ يُحِبّ الْكَافِرِينَ). يقول تعالـى ذكره: يومئذ يصّدّعون... لِـيَجزيَ الّذِينَ آمَنُوا بـالله ورسوله وعَمِلُوا الصّالِـحاتِ يقول: وعملوا بـما أمرهم الله مِنْ فَضْلِهِ الذي وعد من أطاعه فـي الدنـيا أن يجزيه يوم القـيامة إنّهُ لا يُحِبّ الكافِرِينَ يقول تعالـى ذكره: إنـما خصّ بجزائه من فضله الذين آمنوا وعملوا الصالـحات دون من كفر بـالله, إنه لا يحبّ أهل الكفر به. واستأنف الـخبر بقوله إنّه لا يُحِبّ الكافِرِينَ وفـيه الـمعنى الذي وصفت. قال القرطبي رحمه الله : قوله تعالى:( قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ) (قل سيروا في الأرض) أي قل لهم ، يا محمد ، سيروا في الأرض.. ليعتبروا بمن قبلهم، وينظروا كيف كان عاقبة من كذب الرسل..( كان أكثرهم مشركين) أي كافرين فأُهلِكوا.... قوله تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) (فأقم وجهك للدين القيم) قال الزجاج: أي أقم قصدك، واجعل جهتك اتباع الدين القيم؛ يعني الإسلام. وقيل: المعنى أوضح الحق وبالغ في الإعذار، واشتغل بما أنت فيه ولا تحزن عليهم...(من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله) أي لا يرده الله عنهم، فإذا لم يرده لم يتهيأ لأحد دفعه ... والمراد يوم القيامة. (يومئذ يصدعون) قال ابن عباس: معناه يتفرقون. وقال الشاعر:وكنا كنَدْمانَي جَذيمة حقبة من الدهر حتى قيل لن يتصدعا أي لن يتفرقا؛.. نظيره قوله تعالى: (يومئذ يتفرقون)(الروم: 149) :فريق في الجنة ، وفريق في السعير. والأصل يتصدعون؛ ويقال: تصدع القوم إذا تفرقوا؛ ومنه اشتق الصداع، لأنه يفرق شعب الرأس. قوله تعالى ![]() (من كفر فعليه كفره) أي جزاء كفره. ( ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون) أي يوطئون لأنفسهم في الآخرة فراشا ومسكنا وقرارا بالعمل الصالح؛.. ومنه: مهد الصبي. والمهاد الفراش، وقد مهدت الفراش مهدا: بسطته ووطأته. وتمهيد الأمور: تسويتها وإصلاحها. وتمهيد العذر: بسطه وقبوله. والتمهد: التمكن. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى :(فلأنفسهم يمهدون) قال: في القبر. قوله تعالى ![]() (ليجزي الذين آمنوا) أي يمهدون لأنفسهم ليجزيهم الله من فضله. وقيل يصدعون ليجزيهم الله؛ أي ليتميز الكافر من المسلم....(إنه لا يحب الكافرين). قال البغوي رحمه الله : قوله تعالى : ( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل)، لتروا منازلهم ومساكنهم خاوية، (كان أكثرهم مشركين) ، أي: كانوا مشركين بالله، فأهلكهم بكفرهم...(فأقم وجهك للدين القيم) ؛أي الدين المستقيم ، وهو دين الإسلام...(من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله)، يعني: يوم القيامة، لا يقدر أحد على رده من الله...(يومئذ يصدعون)، أييتفرقون: فريق في الجنة ، وفريق في السعير... (من كفر فعليه كفره)، أي وبال كفره...(ومن عمل صالحاً فلأنفسهم يمهدون)، يوطئون المضاجع ويسوونها في القبور.. (ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله)، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ليثيبهم الله أكثر من ثواب أعمالهم، (إنه لا يحب الكافرين). وقال السعدي رحمه الله : قوله تعالى : ( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين) والأمر بالسير في الأرض ، يدخل فيه السير بالأبدان ، والسير بالقلوب للنظر والتأمل ، في عواقب المتقدمين ... (كان أكثرهم مشركين ) تجدون عاقبتهم شر العواقب ، ومآلهم شر مآل . عذاب استأصلهم ، وذم ولعن من خلق الله يتبعهم ، وخزي متواصل . فاحذروا أن تفعلوا أفعالهم ، لئلا يحذى بكم حذوهم ، فإن عدل الله وحكمته في كل زمان ومكان ( فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله يومئذ يصدعون من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله إنه لا يحب الكافرين )أي : أقبل بقلبك ، وتوجه بوجهك ، واسع ببدنك ، لإقامة الدين القيم المستقيم . فنفذ أوامره ونواهيه ، بجد واجتهاد ، وقم بوظائفه الظاهرة والباطنة . وبادر زمانك ، وحياتك ، وشبابك ، ( من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ) وهو يوم القيامة ، الذي إذا جاء ، لا يمكن رده ، ولا يرجأ العاملون ليستأنفوا العمل ، بل فرغ من الأعمال ، لم يبق إلا جزاء العمال ( يومئذ يصدعون) أي : يتفرقون عن ذلك اليوم ، ويصدرون أشتاتا متفاوتين ، ليروا أعمالهم . ( من كفر ) منهم ( فعليه كفره ) ويعاقب هو بنفسه ، لا تزر وازرة وزر أخرى . ( ومن عمل صالحا ) من الحقوق التي لله ، والتي للعباد ، الواجبة والمستحبة .( فلأنفسهم ) لا لغيرهم ( يمهدون) أي : يهيئون ، ولأنفسهم يعمرون آخرتهم ، ويستعدون للفوز بمنازلها وغرفاتها . ومع ذلك ، جزاؤهم ليس مقصورا على أعمالهم ، بل يجزيهم الله من فضله الممدود ، وكرمه غير المحدود ، ما لا تبلغه أعمالهم . وذلك لأنه أحبهم ، وإذا أحب الله عبدا ، صب عليه الإحسان صبا ، وأجزل له العطايا الفاخرة ، وأنعم عليه بالنعم الظاهرة والباطنة . وهذا بخلاف الكافرين ، فإن الله لما أبغضهم ومقتهم ،عاقبهم وعذبهم ، ولم يزدهم كما زاد من قبلهم ، فلهذا قال : (إنه لا يحب الكافرين).. 21- (و- (فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ *وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ * وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ*وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَاء يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ *) (الشورى :36- 46 )
__________________
|
#18
|
||||
|
||||
![]() قال ابن كثير رحمه الله : قوله تعالى ![]() اختلف السلف في لقمان: هل كان نبياً أو عبداً صالحاً من غير نبوة ؟ على قولين, الأكثرون على الثاني.وقال سفيان الثوري عن الأشعث عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان لقمان عبداً حبشياً نجاراً. وقال قتادة عن عبد الله بن الزبير: قلت لجابر بن عبد الله: ما انتهى إليكم من شأن لقمان ؟ قال: كان قصيراً أفطس من النوبة. وقال يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب قال: كان لقمان من سودان مصر, ذا مشافر, أعطاه الله الحكمة ومنعه النبوة. وقال الأوزاعي: حدثني عبد الرحمن بن حرملة قال: جاء أسود إلى سعيد بن المسيب يسأله, فقال له سعيد بن المسيب: لا تحزن من أجل أنك أسود, فإنه كان من أخير الناس ثلاثة من السودان: بلال, ومهجع مولى عمر بن الخطاب, ولقمان الحكيم كان أسود نوبياً ذا مشافر. وقال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع, حدثنا أبي عن أبي الأشهب عن خالد الربعي قال: كان لقمان عبداً حبشياً نجاراً, فقال له مولاه: اذبح لنا هذه الشاه, فذبحها, قال: أخرج أطيب مضغتين فيها, فأخرج اللسان والقلب, ثم مكث ما شاء الله, ثم قال: اذبح لنا هذه الشاة, فذبحها, قال: أخرج أخبث مضغتين فيها فأخرج اللسان والقلب, فقال له مولاه: أمرتك أن تخرج أطيب مضغتين فيها, فأخرجتهما, وأمرتك أن تخرج أخبث مضغتين فيها, فأخرجتهما ؟ فقال لقمان:إنه ليس من شيء أطيب منهما إذا طابا, ولا أخبث منهما إذا خبثا. وقال شعبة عن الحكم عن مجاهد: كان لقمان عبداً صالحاً ولم يكن نبياً. وقال الأعمش: قال مجاهد: كان لقمان عبداً أسود عظيم الشفتين, مشقق القدمين. وقال حكام بن سالم عن سعيد الزبيدي عن مجاهد: كان لقمان الحكيم عبداً حبشياً, غليظ الشفتين, مصفح القدمين, قاضياً على بني إسرائيل, وذكر غيره أنه كان قاضياً على بني إسرائيل في زمان داود عليه السلام. وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد, حدثنا الحكم, حدثنا عمرو بن قيس قال: كان لقمان عبداً أسود, غليظ الشفتين, مصفح القدمين, فأتاه رجل وهو في مجلس ناس يحدثهم, فقال له: ألست الذي كنت ترعى معي الغنم في مكان كذا وكذا ؟ قال: نعم, قال: فما بلغ بك ما أرى ؟ قال: صدق الحديث والصمت عما لا يعنيني. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا صفوان, حدثنا الوليد, حدثنا عبد الرحمن بن يزيد عن جابر قال: إن الله رفع لقمان الحكيم بحكمته, فرآه رجل كان يعرفه قبل ذلك, فقال له: ألست عبد بني فلان الذي كنت ترعى بالأمس ؟ قال: بلى, قال: فما بلغ بك ما أرى ؟ قال: قدر الله, وأداء الأمانة, وصدق الحديث, وتركي ما لا يعنيني, فهذه الاَثار منها ما هو مصرح فيه بنفي كونه نبياً, ومنها ما هو مشعر بذلك, لأن كونه عبداً قد مسه الرق ينافي كونه نبياً, لأن الرسل كانت تبعث في أحساب قومها, ولهذا كان جمهور السلف على أنه لم يكن نبياً, وإنما ينقل كونه نبياً عن عكرمة إن صح السند إليه, فإنه رواه ابن جرير وقال ابن أبي حاتم من حديث وكيع عن إسرائيل عن جابر عن عكرمة, قال: كان لقمان نبياً, وجابر هذا هو ابن يزيد الجعفي, وهو ضعيف, والله أعلم. وقال عبد الله بن وهب: أخبرني عبد الله بن عياش القتباني عن عمر مولى غفرة, قال: وقف رجل على لقمان الحكيم, فقال: أنت لقمان, أنت عبد بني الحسحاس ؟ قال: نعم, قال: أنت راعي الغنم ؟ قال: نعم, قال: أنت الأسود ؟ قال: أما سوادي فظاهر, فما الذي يعجبك من أمري ؟ قال: وطء الناس بساطك, وغشيهم بابك, ورضاهم بقولك. قال: يا ابن أخي إن صَغيت إلى ما أقول لك كنت كذلك, قال لقمان: غَضي بصري وكَفي لساني, وعفة طعمتي وحفظي فرجي, وقولي بصدق, ووفائي بعهدي, وتكرمتي ضيفي, وحفظي جاري وتركي ما لا يعنيني, فذاك الذي صيرني إلى ما ترى. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا ابن نفيل, حدثنا عمرو بن واقد, عن عبدة بن رباح, عن ربيعة عن أبي الدرداء أنه قال يوماً وذكر لقمان الحكيم, فقال: ما أوتي ما أوتي عن أهل ولا مال ولا حسب ولا خصال, ولكنه كان رجلاً صمصامة سكيتاً, طويل التفكر, عميق النظر, لم ينم نهاراً قط, ولم يره أحد قط يبزق ولا يتنخع, ولا يبول ولا يتغوط, ولا يغتسل, ولا يعبث ولا يضحك, وكان لا يعيد منطقاً نطقه إلا أن يقول حكمة يستعيدها إياه أحد, وكان قد تزوج وولد أولاد, فماتوا فلم يبك عليهم, وكان يغشى السلطان ويأتي الحكام لينظر ويتفكر ويعتبر, فبذلك أوتي ما أوتي. وقد ورد أثر غريب عن قتادة رواه ابن أبي حاتم فقال: حدثنا أبي, حدثنا العباس بن الوليد, حدثنا زيد بن يحيى بن عبيد الخزاعي, حدثنا سعيد عن ابن بشير قتادة قال: خير الله لقمان الحكيم بين النبوة والحكمة, فاختار الحكمة على النبوة, قال: فأتاه جبريل وهو نائم, فذر عليه الحكمة, أو رش عليه الحكمة, قال: فأصبح ينطق بها, قال سعيد: فسمعت عن قتادة يقول: قيل للقمان: كيف اخترت الحكمة على النبوة, وقد خيرك ربك ؟ فقال: إنه لو أرسل إلي بالنبوة عزمة لرجوت فيه الفوز منه, ولكنت أرجو أن أقوم بها, ولكنه خيرني فخفت أن أضعف عن النبوة, فكانت الحكمة أحب إلي. فهذا من رواية سعيد بن بشير, وفيه ضعف قد تكلموا فيه بسببه, فالله أعلم, والذي رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله تعالى: (ولقد آتينا لقمان الحكمة) أي الفقه في الإسلام,ولم يكن نبياً ولم يوح إليه... وقوله تعالى: (ولقد آتينا لقمان الحكمة) أي الفهم والعلم والتعبير (أن أشكر لله) أي أمرناه أن يشكر الله عز وجل على ما آتاه الله ومنحه ووهبه من الفضل الذي خصصه به عمن سواه من أبناء جنسه وأهل زمانه, ثم قال تعالى: (ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه) أي إنما يعود نفع ذلك وثوابه على الشاكرين لقوله تعالى: ( وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) (الروم : 44 ). وقوله {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) (لقمان : 12 } أي غني عن العباد لا يتضرر بذلك ولوكفر أهل الأرض كلهم جميعاً, فإنه الغني عما سواه, فلا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه. قوله تعالى : ( وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَبُنَيّ لاَ تُشْرِكْ بِاللّهِ إِنّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ *وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُوهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ* وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىَ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتّبِعْ سَبِيلَ مَن ْ أَنَابَ إِلَيّ ثُمّ إِلَيّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ*) يقول تعالى مخبراً عن وصية لقمان لولده, وهو لقمان بن عنقاء بن سدون, واسم ابنه ثاران في قول حكاه السهيلي, وقد ذكره الله تعالى بأحسن الذكر, وأنه آتاه الحكمة, وهو يوصي ولده الذي هو أشفق الناس عليه وأحبهم إليه, فهو حقيق أن يمنحه أفضل ما يعرف ولهذا أوصاه أولاً بأن يعبد الله ولا يشرك به شيئاً, ثم قال محذراً له (إن الشرك لظلم عظيم) أي هو أعظم الظلم. قال البخاري: حدثنا قتيبة, حدثنا جرير عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: لما نزلت : (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) (الأنعام : 82 ) شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: أينا لم يلبس إ يمانه بظلم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنه ليس بذاك, ألا تسمع إلى قول لقمان {(يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم)}» ورواه مسلم من حديث الأعمش به, ثم قرن بوصيته إياه بعبادة الله وحده البر بالوالدين, كما قال تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ) (الإسراء : 23 ) وكثيراً ما يقرن تعالى بين ذلك في القرآن, وقال ههنا (ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن) قال مجاهد: مشقة وهن الولد, وقال قتادة جهداً على جهد, وقال عطاء الخراساني ضعفاً على ضعف. وقوله (وفصاله في عامين) أي تربيته وإرضاعه بعد وضعه في عامين, كما قال تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (البقرة : 233 ), ومن ههنا استنبط ابن عباس وغيره من الأئمة أن أقل مدة الحمل ستة أشهر, لأنه قال في الاَية الأخرى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (الأحقاف : 15 ) وإنما يذكر تعالى تربية الوالدة وتعبها ومشقتها في سهرها ليلاً ونهاراً, ليذكر الولد بإحسانها المتقدم إليه, كما قال تعالى: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً) (الإسراء : 24 ) ولهذا قال (أن اشكر لي ولوالديك إليّ المصير) أي فإني سأجزيك على ذلك أوفر جزاء. قال ابن حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا عبد الله بن أبي شيبة ومحمود بن غيلان قالا: حدثنا عبيد الله, أخبرنا إسرائيل عن أبي اسحاق عن سعيد بن وهب قال: قدم علينا معاذ بن جبل, وكان بعثه النبي صلى الله عليه وسلم فقام فحمد الله وأثنى عليه, ثم قال: إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً, وأن تطيعوني لا آلوكم خيراً, وإن المصير إلى الله إلى الجنة أو إلى النار إقامة فلا ظعن, وخلود فلا موت. وقوله تعالى : ( وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما ) أي إن حرصا عليك كل الحرص على أن تتابعهما على دينهما فلا تقبل منهما ذلك, ولا يمنعك ذلك من أن تصاحبهما في الدنيا معروفاً, أي محسناً إليهما, (واتبع سبيل من أناب إلى) يعني المؤمنين, ( ثم إِلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعلمون) قال الطبراني في كتاب العشرة: حدثنا أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل, حدثنا أحمد بن أيوب بن راشد, حدثنا مسلمة بن علقمة عن داود بن أبي هند أن سعد بن مالك قال: أنزلت في هذه الاَية (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَلَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ), قال: كنت رجلاً براً بأمي, فلما أسلمت قالت: يا سعد ما هذا الذي أراك قد أحدثت لتدعن دينك هذا أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت فتعير بي , فيقال: يا قاتل أمه, فقلت: لا تفعلي يا أمه, فإني لا أدع ديني هذا لشيء. فمكثت يوماً وليلة لم تأكل, فأصبحت قد جهدت, مكثت يوماً وليلة أخرى لا تأكل, فأصبحت قد اشتد جهدها, فلما رأيت ذلك قلت: يا أمه تعلمين والله لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفساً نفساً ما تركت ديني هذا لشيء, فإن شئت فكلي وإن شئت لا تأكلي, فأكلت... ** (يَبُنَيّ إِنّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأرْضِ يَأْتِ بِهَا اللّهُ إِنّ اللّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَبُنَيّ أَقِمِ الصّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىَ مَآ أَصَابَكَ إِنّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الاُمُورِ * وَلاَ تُصَعّرْ خَدّكَ لِلنّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحاً إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ كُلّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنّ أَنكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ) هذه وصايا نافعة قد حكاها الله سبحانه عن لقمان الحكيم, ليمتثلها الناس ويقتدوا بها, فقال (يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل) أي إن المظلمة أو الخطيئة لو كانت مثقال حبة من خردل, وجوز بعضهم أن يكون الضمير في قوله إنها ضمير الشأن والقصة, وجوز على هذا رفع مثقال, والأول أولى. وقوله عز وجل ( يأت بها الله) أي أحضرها الله يوم القيامة حين يضع الموازين القسط, وجازى عليها إن خيراً فخير, وإن شراً فشر, كما قال تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) (الأنبياء : 47 ). وقال تعالى ![]() وقد زعم بعضهم أن المراد بقوله: ( فتكن في صخرة ) أنها صخرة تحت الأرضين السبع, وذكره السدي بإسناده ذلك المطروق عن ابن مسعود وابن عباس وجماعة من الصحابة إن صح ذلك, ويروى هذا عن عطية العوفي وأبي مالك والثوري والمنهال بن عمرو وغيرهم, وهذا ـ والله أعلم ـ كأنه متلقى من الإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب, والظاهر ـ والله أعلم ـ أن المراد أن هذه الحبة في حقارتها لو كانت داخل صخرة, فإن الله سيبديها ويظهرها بلطيف علمه. كما قال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى, حدثنا ابن لهيعة, حدثنا دراج عن أبي الهيثم, عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لخرج عمله للناس كائناً ما كان». ثم قال (يا بني أقم الصلاة) أي بحدودها وفروضها وأوقاتها.. (وأمر بالمعروف وانه عن المنكر) أي بحسب طاقتك وجهدك ..(واصبر على ما أصابك) علم أن الاَمر بالمعروف والناهي عن المنكر لا بد أن يناله من الناس أذى, فأمره بالصبر… وقوله: (إن ذلك من عزم الأمور) أي إن الصبر على أذى الناس لمن عزم الأمور… وقوله (ولا تصعر خدك للناس) يقول لا تعرض بوجهك عن الناس إذا كلمتهم أو كلموك احتقاراً منك لهم, واستكباراً عليهم, ولكن ألِن جانبك وابسط وجهك إليهم, كما جاء في الحديث : «ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط, وإياك وإسبال الإزار فإنها من المخيلة, والمخيلة لا يحبها الله». قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : (ولا تصعر خدك للناس) يقول لا تتكبر فتحقر عباد الله, وتعرض عنهم بوجهك إذا كلموك, وكذا روى العوفي وعكرمة عنه. وقال مالك عن زيد بن أسلم ( ولا تصعر خدك للناس) لا تتكلم وأنت معرض, وكذا روي عن مجاهد وعكرمة ويزيد بن الأصم وأبي الجوزاء وسعيد بن جبير والضحاك وابن زيد وغيرهم. وقال إبراهيم النخعي: يعني بذلك التشديق في الكلام. والصواب القول الأول. وقال ابن جرير: وأصل الصعر داء يأخذ الإبل في أعناقها أو رؤوسها, حتى تلفت أعناقها عن رؤوسها, فشبه به الرجل المتكبر, ومنه قول عمرو بن حيي التغلبي. وكنا إذا الجبار صعر خده أقمنا له من ميله فتقوما وقال أبو طالب في شعره: وكنا قديماً لا نقر ظلامةإذا ما ثنوا صعر الرؤوس نقيمها وقوله (ولا تمش في الأرض مرحا) أي خيلاء متكبراً جباراً عنيداً, لا تفعل ذلك يبغضك الله, ولهذا قال (إن الله لا يحب كل مختال فخور) أي مختال معجب في نفسه, فخور أي على غيره. وقال تعالى: ( وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً) (الإسراء : 37 ) …. وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي, حدثنا محمد بن عمران بن أبي ليلى, حدثنا أبي عن ابن أبي ليلى عن عيسى عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن ثابت بن قيس بن شماس قال: ذكر الكبر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فشدد فيه, فقال «(إن الله لا يحب كل مختال فخور)» فقال رجل من القوم: والله يا رسول الله ، إني لأغسل ثيابي فيعجبني بياضها, ويعجبني شراك نعلي, وعلاقة سوطي, فقال «ليس ذلك الكبر, إنما الكبر أن تسفه الحق وتغمط الناس» ورواه من طريق أخرى بمثله, وفيه قصة طويلة, ومقتل ثابت ووصيته بعد موته. وقوله : (واقصد في مشي ) أي امش مقتصداً مشياً ليس بالبطيء المتثبط, ولا بالسريع المفرط, بل عدلاً وسطا بين بين. وقوله : (واغضض من صوتك) أي لا تبالغ في الكلام ولا ترفع صوتك فيما لا فائدة فيه, ولهذا قال: (إن أنكر الأصوات لصوت الحمير) قال مجاهد وغير واحد: إن أقبح الأصوات لصوت الحمير, أي غاية من رفع صوته أنه يشبه بالحمير في علوه ورفعه, ومع هذا هو بغيض إلى الله تعالى, وهذا التشبيه في هذا بالحمير, يقتضي تحريمه وذمه غاية الذم, لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس لنا مثل السوء العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه». وقال النسائي عند تفسير هذه الاَية: حدثنا قتيبة بن سعيد , حدثنا الليث عن جعفر بن ربيعة عن الأعرج, عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله, وإذا سمعتم نهيق الحمير فتعوذوا بالله من الشيطان, فإنها رأت شيطاناً» وقد أخرجه بقية الجماعة سوى ابن ماجه من طرق عن جعفر بن ربيعة به, وفي بعض الألفاظ: بالليل, فالله أعلم. فهذه وصايا نافعة جداً, وهي من قصص القرآن عن لقمان الحكيم, وقد روي عنه من الحكم والمواعظ أشياء كثيرة, فلنذكر منها أنموذجاً ودستوراً إلى ذلك. قال الإمام أحمد: حدثنا علي بن إسحاق, أخبرنا ابن المبارك, أخبرنا سفيان, أخبرني نهشل بن مجمع الضبي عن قزعة عن ابن عمر قال: أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن لقمان الحكيم كان يقول: إن الله إذا استودع شيئاً حفظه». وروى ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا عيسى بن يونس عن الأوزاعي عن موسى بن سليمان, عن القاسم يحدث عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «قال لقمان لابنه وهو يعظه: يا بني إياك والتقنع, فإنه مخوفة بالليل مذمة بالنهار». وقال: حدثنا أبي حدثنا عمرو بن عثمان عن ضمرة, حدثنا الثري بن يحيى قال: قال لقمان لابنه: يا بني إن الحكمة أجلست المساكين مجالس الملوك. وقال أيضاً: حدثنا أبي, حدثنا عبدة بن سليمان , أخبرنا ابن المبارك, حدثنا عبد الرحمن المسعودي عن عون بن عبد الله قال: قال لقمان لابنه: يا بني إذا أتيت نادي قوم فارمهم بسهم الإسلام, يعني السلام, ثم اجلس في ناحيتهم فلا تنطق حتى تراهم قد نطقوا, فإن أفاضوا في ذكر الله, فأجل سهمك معهم, وإن أفاضوا في غير ذلك فتحول عنهم إلى غيرهم. وقال أيضاً: حدثنا أبي, حدثنا عمرو بن سعيد بن كثير بن دينار, حدثنا ضمرة عن حفص بن عمر قال: وضع لقمان جرابا من خردل إلى جانبه, وجعل يعظ ابنه وعظة ويخرج خردلة حتى نفذ الخردل, فقال: يا بني لقد وعظتك موعظة لو وعظها جبل تفطر, قال: فتفطر ابنه. وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا يحيى بن عبد الباقي المصيصي, حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الحراني, حدثنا عثمان بن عبد الرحمن الطرائفي, حدثنا أنس بن سفيان المقدسي عن خليفة بن سلام عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«اتخذوا السودان, فإن ثلاثة منهم من سادات أهل الجنة: لقمان الحكيم, والنجاشي, وبلال المؤذن» قال أبو القاسم الطبراني أراد الحبش. فصل في الخمول والتواضع وذلك متعلق بوصية لقمان عليه السلام لابنه. وقد جمع في ذلك الحافظ أبو بكر بن أبي الدنيا كتاباً مفرداً, ونحن نذكر منه مقاصده, قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر, حدثنا عبد الله بن موسى المدني عن أسامة بن زيد بن حفص بن عبد الله بن أنس عن جده أنس بن مالك, سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «رب أشعث ذي طمرين يصفح عنأبواب الناس إذا أقسم على الله لأبره» ثم رواه من حديث جعفر بن سليمان عن ثابت, وعلي بن زيد عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره, وزاد «منهم البراء بن مالك». وقال أبو بكر بن سهل التميمي: حدثنا ابن أبي مريم, حدثنا نافع بن زيد عن عياش بن عباس عن عيسى بن عبد الرحمن, عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر رضي الله عنه أنه دخل المسجد, فإذا هو بمعاذ بن جبل يبكي عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: ما يبكيك يا معاذ ؟ قال: حديث سمعته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: سمعته يقول «إن اليسير من الرياء شرك, وإن الله يحب الأتقياء الأخفياء الأثرياء, الذين إذا غابوا لم يفتقدوا, وإذا حضروا لم يعرفوا, قلوبهم مصابيح الهدى, ينجون من كل غبراء مظلمة». حدثنا الوليد بن شجاع, حدثنا عفان بن علي عن حميد بن عطاء الأعرج عن عبد الله بن الحارث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «رب ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره, لو قال: اللهم إني أسألك الجنة لأعطاه الجنة, ولم يعطه من الدنيا شيئاً». وقال أيضاً: حدثنا إسحاق بن إبراهيم, حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن سالم بن أبي الجعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن من أمتي من لو أتى باب أحدكم يسأله ديناراً أو درهماً أو فلساً لم يعطه, ولو سأل الله الجنة لأعطاه إياها, ولو سأله الدنيا لم يعطه إياها, ولم يمنعها إياه لهوانه عليه, ذو طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره» وهذا مرسل من هذا الوجه. وقال أيضاً: حدثنا إسحاق ابن إبراهيم, أخبرنا جعفر بن سليمان, حدثنا عوف قال: قال أبو هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن من ملوك الجنة من هو أشعث أغبر ذو طمرين لا يؤبه له الذين إذا استأذنوا على الأمراء لم يؤذن لهم, وإذا خطبوا النساء لم ينكحوا, وإذا قالوا لم ينصت لهم, حوائج أحدهم تتجلجل في صدره, لو قسم نوره يوم القيامة بين الناس لوسعهم». قال: وأنشدني عمر بن شبة عن ابن عائشة قال: قال عبد الله بن المبارك: ألا رب ذي طمرين في منزل غدا زرابيه مبثوثة ونمارقـه قد اطردت أنهاره حول قصر هو أشرق والتفت عليه حدائقه وروي أيضاً من حديث عبيد الله بن زحر عن علي بن زيد عن القاسم, عن أبي أمامة مرفوعاً «قال الله: من أغبط أوليائي عندي مؤمن خفيف الحاذ, ذو حظ من صلاة, أحسن عبادة ربه وأطاعه في السر, وكان غامضاً في الناس لا يشار إليه بالأصابع إن صبر على ذلك» قال: ثم أنفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده, وقال «عجلت منيته, وقل تراثه, وقلت بواكيه» وعن عبد الله بن عمرو قال: أحب عباد الله إلى الله الغرباء, قيل: ومن الغرباء ؟ قال: الفرارون بدينهم يجمعون يوم القيامة إلى عيسى بن مريم. وقال الفضيل بن عياض: بلغني أن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: ألم أنعم عليك, ألم أعطك, ألم أسترك ؟ ألم... ألم... ألم أُخمل ذكرك. ثم قال الفضيل: إن استطعت ألا تُعْـرَف فافعـل, وما عليك أن لا يثنى عليك, وما عليك أن تكون مذموماً عند الناس محموداً عند الله. وكان ابن محيريز يقول: اللهم إني أسألك ذكراً خاملاً. وكان الخليل بن أحمد يقول: اللهم اجعلني عندك من أرفع خلقك, واجعلني في نفسي من أوضع خلقك. وعند الناس من أوسط خلقك. باب ما جاء في الشهرة ثم قال: حدثنا أحمد بن عيسى المصري, حدثنا ابن وهب عن عمر بن الحارث وابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب, عن سنان بن سعد عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: حسب امرىء من الشر إلا من عصم الله أن يشير الناس إليه بالإصابع في دينه ودنياه, وإن الله لاينظر إلى صوركم, ولكن إلى قلوبكم وأعمالكم» وروي مثله عن إسحاق بن البهلول عن ابن أبي فديك, عن محمد بن عبد الواحد الأخنسي, عن عبد الواحد بن أبي كثير عن جابر بن عبد الله مرفوعاً مثله, وروي عن الحسن مرسلاً نحوه فقيل للحسن: فإنه يشار إليك بالأصابع, فقال: إنما المراد من يشار إليه في دينه بالبدعة وفي دنياه بالفسق. وعن علي رضي الله عنه قال: لاتبدأ لأن تشتهر, ولا ترفع شخصك لتذكر, وتعلم واكتم, واصمت تسلم, تسر الأبرار وتغيظ الفجار. وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: ما صدق الله من أحب الشهرة. وقال أيوب: ما صدق الله عبد إلا سره أن لا يشعر بمكانه. وقال محمد بن العلاء: من أحب الله أحب أن لا يعرفه الناس. وقال سماك بن سلمة: إياك وكثرة الأخلاء وقال أبان بن عثمان: إن أحببت أن يسلم إليك دينك فأقل من المعارف. كان أبو العالية إذا جلس إليه أكثر من ثلاثة نهض وتركهم. وقال: حدثنا علي بن الجعد, أخبرنا شعبة عن عوف عن أبي رجاء قال: رأى طلحة قوماً يمشون معه فقال: ذباب طمع وفراش النار. وقال ابن إدريس عن هارون بن ابن عنترة عن سليم بن حنظلة قال: بينا نحن حول أبي إذ علاه عمر بن الخطاب بالدرة وقال: إنها مذلة للتابع وفتنة للمتبوع. وقال ابن عون عن الحسن: خرج ابن مسعود فاتبعه أناس, فقال: والله لو تعلمون ما أغلق عليه بابي ما اتبعني منكم رجلان. وقال حماد بن زيد: كنا إذا مررنا على المجلس ومعنا أيوب فسلم, ردوا رداً شديداً, فكان ذلك يغمه. وقال عبد الرزاق عن معمر: كان أيوب يطيل قميصه, فقيل له في ذلك, فقال: إن الشهرة فيما مضى كانت في طول القميص, واليوم في تشميره. واصطنع مرة نعلين على حذو نعلي النبي صلى الله عليه وسلم , فلبسهما أياماً ثم خلعهما, وقال: لم أر الناس يلبسونهما. وقال إبراهيم النخعي: لا تلبس من الثياب ما يشهر في الفقهاء ولا ما يزدريك السفهاء. وقال الثوري: كانوا يكرهون من الثياب الجياد التي يشتهر بها ويرفع الناس إليه فيها أبصارهم. والثياب الرديئة التي يحتقر فيها ويستذل دينه. وحدثنا خالد بن خداش, حدثنا حماد عن أبي حسنة صاحب الزيادي قال: كنا عند أبي قلابة إذ دخل عليه رجل عليه أكسية فقال: إياكم وهذا الحمار النهاق. وقال الحسن رحمه الله: إن قوماً جعلوا الكبر في قلوبهم والتواضع في ثيابهم, فصاحب الكساء بكسائه أعظم من صاحب المطرف بمطرفه ما لهم تفاقدوا. وفي بعض الأخبار أن موسى عليه السلام قال لبني إسرائيل: ما لكم تأتوني عليكم ثياب الرهبان, وقلوبكم قلوب الذئاب, البسوا ثياب الملوك, وألينوا قلوبكم بالخشية.
__________________
|
#19
|
||||
|
||||
![]() فصل في حسن الخلق قال أبو التياح عن أنس رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقاً وعن عطاء عن ابن عمر: قيل يا رسول الله ، أي المؤمنين أفضل ؟ قال «أحسنهم خلقاً». وعن نوح بن عباد عن ثابت عن أنس مرفوعاً «إن العبد ليبلغ بحسن خلقه درجات الاَخرة وشرف المنازل, وإنه لضعيف العبادة, وإنه ليبلغ بسوء خلقه درك جهنم وهو عابد» وعن سيار بن هارون عن حميد عن أنس مرفوعاً «ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والاَخرة» وعن عائشة مرفوعاً «إن العبد ليبلغ بحسن خلقه درجة قائم الليل صائم النهار». وقال ابن أبي الدنيا: حدثني أبو مسلم عبد الرحمن بن يونس, حدثنا عبد الله بن إدريس, أخبرني أبي وعمي عن جدي عن أبي هريرة رضي الله عنه سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة, فقال «تقوى الله وحسن الخلق». وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار, فقال «الأجوفان: الفم والفرج» وقال أسامة بن شريك: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءته الأعراب من كل مكان, فقالوا: يا رسول الله ما خير ما أعطي الإنسان ؟ قال «حسن الخلق». وقال يعلى بن سماك عن أم الدرداء عن أبي الدرداء يبلغ به قال: ما شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق, وكذا رواه عطاء عن أم الدرداء به. وعن مسروق عن عبد الله مرفوعاً «إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً». حدثنا عبد الله بن أبي بدر, حدثنا محمد بن عيسى عن محمد بن أبي سارة عن الحسن بن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله ليعطي العبد على الثواب من حسن الخلق, كما يعطي المجاهد في سبيل الله يغدو عليه الأجر ويروح». وعن مكحول عن أبي ثعلبة مرفوعاً «إن أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً أحاسنكم أخلاقاً, وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني منزلاً في الجنة مساويكم أخلاقاً الثرثارون المتشدقون المتفيهقون» وعن أبي أويس عن محمد بن المنكدر عن جابر مرفوعاً «ألا أخبركم بأكملكم إيماناً أحاسنكم أخلاقاً الموطؤون أكنافاً الذين يؤلفون ويألفون». وقال الليث عن يزيد بن عبد الله بن أسامة عن بكر ابن أبي الفرات قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما حسن الله خلق رجل وخلقه فتطعمه النار». وعن عبد الله بن غالب الحداني عن أبي سعيد مرفوعاً «خصلتان لا تجتمعان في مؤمن: البخل وسوء الخلق». وقال ميمون بن مهران عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما من ذنب أعظم عند الله من سوء الخلق» وذلك أن صاحبه لا يخرج من ذنب إلا وقع في آخر. قال: حدثنا علي بن الجعد, حدثنا أبو المغيرة الأحمسي, حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق عن رجل من قريش قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما من ذنب أعظم عند الله من سوء الخلق, إن الخلق الحسن ليذيب الذنوب. كما تذيب الشمس الجليد, وإن الخلق السيء ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل». وقال عبد الله بن إدريس عن أبيه عن جده عن أبي هريرة مرفوعاً «إنكم لا تسعون الناس بأموالكم, ولكن يسعهم منكم بسط وجوه وحسن خلق». وقال محمد بن سيرين: حسن الخلق عون على الدين. فصل في ذم الكبر قال علقمة عن ابن مسعود رفعه «لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال حبة من كبر, ولا يدخل النار من في قلبه مثقال حبة من إيمان» وقال إبراهيم بن أبي عبلة عن أبي سلمة عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً «من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر, أكبه الله على وجهه في النار» حدثنا إسحاق بن إسماعيل, حدثنا أبو معاوية عن عمر بن راشد عن إياس بن سلمة عن أبيه مرفوعاً «لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب عند الله من الجبارين, فيصيبه ما أصابهم من العذاب». وقال مالك بن دينار: ركب سليمان بن داود عليهما السلام ذات يوم البساط في مائتي ألف من الإنس ومائتي ألف من الجن, فرفع حتى سمع تسبيح الملائكة في السماء, ثم خفضوه حتى مست قدمه ماء البحر, فسمعوا صوتاً : لو كان في قلب صاحبكم مثقال ذرة من كبر لخسف به أبعد مما رفع .. قال: حدثنا أبو خيثمة, حدثنا يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال: كان أبو بكر يخطبنا فيذكر بدء خلق الإنسان حتى إن أحدنا ليقذر نفسه فيقول: خرج من مجرى البول مرتين. وقال الشعبي: من قتل اثنين فهو جبار, ثم تلا (َتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) (القصص : 19 ) وقال الحسن: عجباً لابن آدم يغسل الخرء بيده في اليوم مرتين, ثم يتكبر يعارض جبار السموات. قال: حدثنا خالد بن خداش, حدثنا حماد بن زيد عن علي بن الحسن عن الضحاك بن سفيان, فذكر حديث ضرب مثل الدنيا بما يخرج من ابن آدم وقال الحسن عن يحيى عن أبي قال: إن مطعم بن آدم ضرب مثلا للدنيا وإن قزحه وملحه. وقال محمد بن الحسين بن علي ـ من ولد علي رضي الله عنه ـ ما دخل قلب رجل شيء من الكبر, إلا نقص من عقله بقدر ذلك. وقال يونس بن عبيد: ليس مع السجود كبر, ولا مع التوحيد نفاق. ونظر طاوس إلى عمر بن عبد العزيز وهو يختال في مشيته, وذلك قبل أن يستخلف, فطعن طاوس في جنبه بأصبعه, وقال: ليس هذا شأن من في بطنه خرء ؟ فقال له كالمعتذر إليه: يا عم لقد ضرب كل عضو مني على هذه المشية حتى تعلمتها قال أبو بكر بن أبي الدنيا: كانت بنو أمية يضربون أولادهم حتى يتعلمون هذه المشية. فصل في الإختيال عن أبي ليلى عن ابن بريدة عن أبيه مرفوعاً «من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه» ورواه عن إسحاق بن إسماعيل عن سفيان بن زيد بن أسلم عن ابن عمر مرفوعاً مثله. وحدثنا محمد بن بكار, حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعاً «لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره, وبينما رجل يتبختر في برديه أعجبته نفسه خسف الله به الأرض, فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة» وروى الزهري عن سالم عن أبيه بينما رجل إلى آخره. وقال السعدي رحمه الله : قوله تعالى : ( وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ*وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ *وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ*وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَلَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ *يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ*يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ*وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ*) ( لقمان 12-19 ) قال: يخبر تعالى عن امتنانه على عبده الفاضل لقمان ، بالحكمة ، وهي العلم بالحق على وجهه وحكمته ، فهي العلم بالأحكام ، ومعرفة ما فيها ، من الأسرار والإحكام . فقد يكون الإنسان عالما ، ولا يكون حكيما . وأما الحكمة ، فهي مستلزمة للعلم ، بل وللعمل ، ولهذا فسرت الحكمة بالعلم النافع ، والعمل الصالح . ولما أعطاه الله هذه المنة العظيمة ، أمره أن يشكره على ما أعطاه ،ليبارك له فيه ،وليزيده من فضله ، وأخبره أن شكر الشاكرين يعود نفعه عليهم ، وأن من كفر فلم يشكر لله ، عاد وبال ذلك عليه . (والله غني ) عنه( حميد ) فيما يقدره ويقضيه ، على من خالف أمره . فغناه تعالى ، من لوازم ذاته ، وكونه حميدا في صفات كماله ، حميدا في جميل صنعه ، من لوازم ذاته ، وكل واحد من الوصفين ، صفة كمال ، واجتماع أحدهما إلى الآخر ، زيادة كمال إلى كمال . واختلف المفسرون : هل كان لقمان نبيا ، أو عبدا صالحا ؟ والله تعالى لم يذكر عنه إلا أنه آتاه الحكمة ، وذكر بعض ما يدل على حكمته ، في وعظه لابنه . فذكر أصول الحكمة وقواعدها الكبار فقال ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ( يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل ) التي هي أصغر الأشياء وأحقرها .( فتكن في صخرة ) أي : في وسطها ( أو في السماوات أو في الأرض )في أي : جهة من جهاتهما( يأت بها الله ) سعة علمه ، وتمام خبرته وكمال قدرته . ولهذا قال ![]() ( يا بني أقم الصلاة ) حثه عليها ، وخصها لأنها أكبر العبادات البدنية .( وأمر بالمعروف وانه عن المنكر) وذلك يستلزم العلم بالمعروف ، ليأمر به ، والعلم بالمنكر ، لينهى عنه . والأمر بما لا يتم الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر إلا به ، من الرفق ، والصبر ، وقد صرح به في قوله : ( واصبر على ما أصابك ) ومن كونه فاعلا لما يأمر به ، كافا لما ينهى عنه ، فتضمن هذا تكميل نفسه بفعل الخير وترك الشر ، وتكميل غيره بذلك ، بأمره ونهيه . ولما علم أنه لا بد أن يبتلى إذا أمر ونهى وأن في الأمر والنهي مشقة على النفوس ، أمره بالصبر على ذلك فقال: ( واصبر على ما أصابك إن ذلك ) الذي وعظ به لقمان ابنه ( من عزم الأمور ) أي : من الأمور التي يعزم عليها ، ويهتم بها ، ولا يوفق لها إلا أهل العزائم .( ولا تصعر خدك للناس ) أي : لا تمله وتعبس بوجهك للناس ، تكبرا عليهم ، وتعاظما .( ولا تمش في الأرض مرحا) أي : بطرا ، فخرا بالنعم ناسيا المنعم ، معجبا بنفسك .( إن الله لا يحب كل مختال ) في نفسه وهيئته وتعاظمه ( فخور) بقوله . (واقصد في مشيك ) أي : امش متواضعا مستكينا ، لا مشي البطر والتكبر، ولا مشي التماوت .( واغضض من صوتك ) أدبا مع الناس ومع الله .( إن أنكر الأصوات ) أي : أفظعها وأبشعها ( لصوت الحمير ) . فلو كان في رفع الصوت البليغ فائدة ومصلحة ، لما اختص بذلك الحمار ، الذي قد علمت خسته وبلادته . ***وهذه الوصايا ، التي وصى بها لقمان ابنه ، تجمع أمهات الحكم ، وتستلزم ما لم يذكر منها . وكل وصية يقرن بها ، ما يدعو إلى فعلها إن كانت أمرا ، وإلى تركها إن كانت نهيا . وهذا يدل على ما ذكرنا في تفسير الحكمة ، أنها العلم بالأحكام ، وحكمها ومناسباتها . فأمره بأصل الدين ، وهو التوحيد ، ونهاه عن الشرك ، وبين له الموجب لتركه . وأمره ببر الوالدين ، وبين له السبب الموجب لبرهما ، وأمره بشكره وشكرهما ، ثم احترز بأن محل برهما وامتثال أوامرهما ، ما لم يأمرا بمعصية ، ومع ذلك ، فلا يعقهما ، بل يحسن إليهما ، وإن كان لا يطيعهما إذا جاهداه على الشرك . وأمره بمراقبة الله ، وخوفه القدوم عليه . وأنه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من الخير والشر ، إلا أتى بها . ونهاه عن التكبر ، وأمره بالتواضع ، ونهاه عن البطر والأشر ، والمرح ، وأمره بالسكون في الحركات والأصوات ، ونهاه عن ضد ذلك . وأمره بالأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وإقامة الصلاة وبالصبر اللذين يسهل بهما كل أمر ، كما قال تعالى : ( وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ ) (البقرة : 45 )) . فحقيق بمن أوصى بهذه الوصايا ، أن يكون مخصوصا بالحكمة ، مشهورا بها . ولهذا من منة الله على عباده ، أن قص عليهم من حكمته ، ما يكون لهم به أسوة حسنة .*** 22- (فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ* وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ *وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ * وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ*وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَاء يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ *) (الشورى :36- 46 ) قال القرطبي رحمه الله : قوله تعالى : (فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون) (فما أوتيتم من شيء) يريد من الغنى والسعة في الدنيا. (فمتاع الحياة الدنيا) أي فإنما هو متاع في أيام قليلة تمضى وتذهب؛ فلا ينبغي أن يتفاخر به. والخطاب للمشركين...(وما عند الله خير وأبقى) يريد من الثواب على الطاعة ( للذين آمنوا) صدقوا ووحدوا ( وعلى ربهم يتوكلون ) نزلت في أبي بكر الصديق حين أنفق جميع ماله في طاعة الله فلامه الناس. وجاء في الحديث أنه: أنفق ثمانين ألفا. وقوله تعالى : (والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون) ( والذين يجتنبون)الذين في موضع جر معطوف على قوله: (خير وأبقى للذين آمنوا ) أي وهو للذين يجتنبون (كبائر الإثم)... وقرأ حمزة والكسائي ( كبائر الإثم ) والواحد قد يراد به الجمع عند الإضافة؛ كقوله تعالى: ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها)(النحل: 18)، وكما جاء في الحديث: "منعت العراق درهمها وقفيزها".وقرأ الباقون بالجمع هنا وفي سورة النجم...(والفواحش) قال السدي: يعني الزنى... وقاله ابن عباس... وقال: كبير الإثم الشرك. وقال قوم: كبائر الإثم ما تقع على الصغائر مغفورة عند اجتنابها. والفواحش داخلة في الكبائر، ولكنها تكون أفحش وأشنع كالقتل بالنسبة إلى الجرج، والزنى بالنسبة إلى المراودة. وقيل: الفواحش والكبائر بمعنى واحد، فكرر لتعدد اللفظ؛ أي يجتنبون المعاصي لأنها كبائر وفواحش. وقال مقاتل: الفواحش موجبات الحدود. (وإذا ما غضبوا هم يغفرون) أي يتجاوزون ويحملون عمن ظلمهم. قيل: نزلت في عمر حين شتم بمكة. وقيل: في أبي بكر حين لامه الناس على إنفاق مال كله وحين شتم فحلم. وعن علي رضي الله عنه قال: اجتمع لأبي بكر مال مرة، فتصدق به كله في سبيل الخير؛ فلامه المسلمون وخطأه الكافرون فنزلت: (فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ* وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ). وقال ابن عباس: شتم رجل من المشركين أبا بكر فلم يرد عليه شيئا؛ فنزلت الآية. وهذه من محاسن الأخلاق؛ يشفقون على ظالمهم ويصفحون عمن جهل عليهم؛ يطلبون بذلك ثواب الله تعالى وعفوه؛ لقوله تعالى في آل عمران: (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس)( 134). وهو أن يتناولك الرجل فتكظم غيظك عنه. وأنشد بعضهم: إني عفوت لظالمي ظلمي ووهبت ذاك لـه على علمي مازال يظلمني وأحرمـه حتى بكيت لــه من الظلم وقوله تعالى : ( والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون) (والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة) قال عبدالرحمن بن زيد: هم الأنصار بالمدينة؛ استجابوا إلى الإيمان بالرسول حين أنفذ إليهم اثنى عشر نقيبا منهم قبل الهجرة. (وأقاموا الصلاة) أي أدوها لمواقيتها بشروطها وهيئاتها. (وأمرهم شورى بينهم) أي يتشاورون في الأمور. والشورى مصدر شاورته؛ مثل البشرى والذكرى ونحوه. فكانت الأنصار قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إليهم إذا أرادوا أمراً تشاوروا فيه ثم عملوا عليه؛ فمدحهم الله تعالى به؛ قاله النقاش. وقال الحسن: أي إنهم لانقيادهم إلى الرأي في أمورهم متفقون لا يختلفون؛ فمدحوا باتفاق كلمتهم. قال الحسن: ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمورهم. وقال الضحاك: هو تشاورهم حين سمعوا بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وورد النقباء إليهم حتى اجتمع رأيهم في دار أبي أيوب على الإيمان به والنصرة له. وقيل تشاورهم فيما يعرض لهم؛ فلا يستأثر بعضهم بخبر دون بعض. وقال ابن العربي: الشورى ألفة للجماعة ومسبار للعقول وسبب إلى الصواب، وما تشاور قوم إلا هدوا. وقد قال الحكيم: إذا بلغ الرأي المشورة فاستعـن برأي لبيب أومشورة حازم ولا تجعل الشورى عليك غضاضةفـإن الخوافي قوة للقوادم فمدح الله المشاورة في الأمور بمدح القوم الذين كانوا يمتثلون ذلك. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه في الآراء المتعلقة بمصالح الحروب؛ وذلك في الآراء كثير. ولم يكن يشاورهم في الأحكام؛ لأنها منزلة من عند الله على جميع الأقسام من الفرض والندب والمكروه والمباح والحرام. فأما الصحابة بعد استئثار الله تعالى به علينا فكانوا يتشاورون في الأحكام ويستنبطونها من الكتاب والسنة. وأول ما تشاور فيه الصحابة الخلافة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينص عليها حتى كان فيها بين أبي بكر والأنصار ما كان... وقال عمر رضي الله عنه: نرضى لدنيانا من رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا... وتشاوروا في أهل الردة فاستقر رأي أبي بكر على القتال.... وتشاوروا في الجد وميراثه، وفي حد الخمر وعدده ... وتشاوروا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحروب؛ حتى شاور عمر الهرمزان حين وفد عليه مسلما في المغازي، فقال له الهرمزان: مثلها ومثل من فيها من الناس من عدو المسلمين مثل طائر له ريش وله جناح فإن كسر أحد الجناحين نهضت الرجلان بجناح والرأس وإن كسر الجناح الآخر نهضت الرجلان والرأس وإن شدخ الرأس ذهب الرجلان والجناحان. والرأس كسرى والجناح الواحد قيصر والآخر فارس؛؛ فمر المسلمين فلينفروا إلى كسرى... وذكر الحديث. وقال بعض العقلاء: ما أخطأت قط ! إذا حزبني أمر شاورت قومي ففعلت الذي يرون؛ فإن أصبت فيهم المصيبون، وإن أخطأت فهم المخطئون. والمشورة بركة. والمشورة: الشورى، وكذلك المشورة بضم الشين؛ تقول منه: شاورته في الأمر واستشرته بمعنى. وروى الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا كان أمراؤكم خياركم وأغنياؤكم سمحاءكم وأمركم شورى بينكم فظهر الأرض خير لكم من بطنها وإذا كان أمراؤكم شراركم وأغنياؤكم بخلاءكم وأموركم إلى نسائكم فبطن الأرض خير لكم من ظهرها". قال حديث غريب.
__________________
|
#20
|
||||
|
||||
![]() وقوله تعالى : (ومما رزقناهم ينفقون) أي ومما أعطيناهم يتصدقون. وقوله تعالى : (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون، وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين، ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل، إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم، ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور) (والذين إذا أصابهم البغي) أي أصابهم بغي المشركين. قال ابن عباس: وذلك أن المشركين بغوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه وآذوهم وأخرجوهم من مكة فأذن الله لهم بالخروج ومكن لهم في الأرض ونصرهم على من بغى عليهم؛ وذلك قوله في سورة الحج: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِير*الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج : 39-40 ) وقيل: هو عام في بغي كل باغ من كافر وغيره، أي إذا نالهم ظلم. من ظالم لم يستسلموا لظلمه. وهذه إشارة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحدود. قال ابن العربي: ذكر الله الانتصار في البغي في معرض المدح، وذكر العفو عن الجرم في موضع آخر في معرض المدح؛ فاحتمل أن يكون أحدهما رافعا للأخر، واحتمل أن يكون ذلك راجعا إلى حالتين؛ إحداهما أن يكون الباغي معلنا بالفجور؛ وقحا في الجمهور، مؤذيا للصغير والكبير؛ فيكون الانتقام منه أفضل. وفي مثله قال إبراهيم النخعي: كانوا يكوهون أن يذلوا أنفسهم فتجترئ عليهم الفساق. الثانية: أن تكون الفلتة، أو يقع ذلك ممن يعترف بالزلة ويسأل المغفرة؛ فالعفو ها هنا أفضل، وفي مثله نزلت: (وأن تعفوا أقرب للتقوى)(البقرة: 237). وقوله: (فمن تصدق به فهو كفارة له)(المائدة: 45). وقوله: (وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم) [النور: 22]. قلت: هذا حسن، وهكذا ذكر الكيا الطبري في أحكامه قال: قوله تعالى: (والذين إذا أصابهم البغي ينتصرون) يدل ظاهره على أن الانتصار في هذا الموضع أفضل؛ ألا ترى أنه قرنه إلى ذكر الاستجابة لله سبحانه وتعالى وإقام الصلاة؛ وهو محمول على ما ذكر إبراهيم النخعي أنهم كانوا يكرهون للمؤمنين أن يذلوا أنفسهم فتجترئ عليهم الفساق؛ فهذا فيمن تعدى وأصر على ذلك. والموضع المأمور فيه بالعفو إذا كان الجاني نادما مقلعا. وقد قال عقيب هذه الآية: (ولمن أنتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل). ويقتضي ذلك إباحة الانتصار لا الأمر به، وقد عقبه بقوله: (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور). وهو محمول على الغفران عن غير المصر، فأما المصر على البغي والظلم فالأفضل الانتصار منه بدلالة الآية التي قبلها. وقيل: أي إذا أصابهم البغي تناصروا عليه حتى يزيلوه عنهم ويدفعوه؛ قال ابن بحر. وهو راجع إلى العموم على ما ذكرنا. قوله تعالى: (وجزاء سيئة سيئة مثلها) قال العلماء: جعل الله المؤمنين صنفين؛ صنف يعفون عن الظالم فبدأ بذكرهم في قوله(وإذا ما غضبوا هم يغفرون)(الشورى: 37). وصنف ينتصرون من ظالمهم. ثم بين حد الانتصار بقول: (وجزاء سيئة سيئة مثلها) فينتصر ممن ظلمه من غير أن يعتدي. قال مقاتل وهشام بن حجير: هذا في المجروج ينتقم من الجارج بالقصاص دون غيره من سب أوشتم. وقاله الشافعي وأبو حنيفة وسفيان. قال سفيان: وكان ابن شبرمة يقول: ليس بمكة مثل هشام. وتأول الشافعي في هذه الآية أن للإنسان أن يأخذ من مال من خانه مثل ما خانه من غير علمه؛ واستشهد في ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم لهند زوج أبي سفيان: "خذي من ماله ما يكفيك وولدك" فأجاز لها أخذ ذلك بغير إذنه... وقال ابن أبي نجيح: إنه محمول على المقابلة في الجراح. وإذا قال: أخزاه الله أو لعنه الله أن يقول مثله. ولا يقابل القذف بقذف ولا الكذب بكذب. وقال السدي: إنما مدح الله من انتصر ممن بغى عليه من غير اعتداء بالزيادة على مقدار ما فعل به؛ يعني كما كانت العرب تفعله. وسمي الجزاء سيئة لأنه في مقابلتها؛ فالأول ساء هذا في مال أو بدن، وهذا الاقتصاص يسوءه بمثل ذلك أيضا؛ ... قوله تعالى: (فمن عفا وأصلح) قال ابن عباس: من ترك القصاص وأصلح بينه وبين الظالم بالعفو ( فأجره على الله) أي إن الله يأجره على ذلك. قال مقاتل: فكان العفو من الأعمال الصالحة .... وذكر أبو نعيم الحافظ عن علي بن الحسين رضي الله عنهم قال: إذا كان يوم القيامة نادى مناد أيكم أهل الفضل ؟ فيقوم ناس من الناس؛ فيقال: انطلقوا إلى الجنة فتتلقاهم الملائكة؛ فيقولون إلى أين ؟ فيقولن إلى الجنة؛ قالوا قبل الحساب ؟ قالوا من أنتم ؟ قالوا أهل الفضل؛ قالوا وما كان فضلكم ؟ قالوا كنا إذا جهل علينا حلمنا ، وإذا ظلمنا صبرنا ، وإذا سيء إلينا عفونا؛.. قالوا ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين. وذكر الحديث. (إنه لا يحب الظالمين) أي من بدأ بالظلم؛ قاله سعيد بن جبير. وقيل: لا يحب من يتعدى في الاقتصاص ويجاوز الحد؛ قاله ابن عيسى. وقوله تعالى: (ولمن انتصر بعد ظلمه) أي المسلم إذا انتصر من الكافر فلا سبيل إلى لومه، بل يحمد على ذلك مع الكافر. ولا لوم إن أنتصر الظالم من المسلم؛ فالانتصار من الكافر حتم، ومن المسلم مباح، والعفو مندوب ( فأولئك ما عليهم من سبيل) دليل على أن له أن يستوفي ذلك بنفسه. وهذا ينقسم ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون قصاصا في بدن يستحقه آدمي، فلا حرج عليه إن استوفاه من غير عدوان وثبت حقه عند الحكام، لكن يزجره الإمام في تفوته بالقصاص لما فيه من الجرأة على سفك الدم. وإن كان حقه غير ثابت عند الحاكم فليس عليه فيما بينه وبين الله حرج؛ وهو الظاهر مطالب وبفعله مؤاخذ ومعاقب. القسم الثاني: أن يكون حد الله تعالى لاحق لآدمي فيه كحد الزنى وقطع السرقة؛ فإن لم يثبت ذلك عند حاكم أخذ به وعوقب عليه، وإن ثبت عند حاكم نظر، فإن كان قطعا في سرقة سقط به الحد لزوال العضو المستحق قطعه، ولم يجب عليه في ذلك حق لأن التعزير أدب، وإن كان جلدا لم يسقط به الحد لتعديه مع بقاء محله فكان مأخوذا بحكمه. القسم الثالث: أن يكون حقا في مال؛ فيجوز لصاحبه أن يغالب على حقه حتى يصل إليه إن كان ممن هو عالم به، لان كان غير عالم نظر، فإن أمكنه الوصول إليه عند المطالبة لم يكن له الاستسرار بأخذه. لان كان لا يصل إليه بالمطالبة لجحود من هو عليه من عدم بينة تشهد له ففي جواز استسراره بأخذه مذهبان: أحدهما: جوازه؛ وهو قول مالك والشافعي. الثاني: المنع؛ وهو قول أبي حنيفة. وقال السعدي رحمه الله : قوله تعالى ![]() ( والذين استجابوا لربهم ) أي : انقادوا لطاعته ، ولبوا دعوته ،وصار قصدهم رضوانه ، وغايتهم الفوز بقربه.. ومن الاستجابة لله ، إقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة . فلذلك عطفها على ذلك ، من باب عطف العام على الخاص ، الدال على شرفه وفضله فقال : ( وأقاموا الصلاة ) أي : ظاهرها وباطنها ، فرضها ونفلها . ( ومما رزقناهم ينفقون ) من النفقات الواجبة ، كالزكاة ، والنفقة على الأقارب ونحوهم ، والمستحبة ، كالصدقات على عموم الخلق . ( وأمرُهم ) الديني والدنيوي( شورى بينهم) أي : لا يستبد أحد منهم برأيه ، في أمر من الأمور المشتركة بينهم ، وهذا لا يكون إلا فرعا عن إجتماعهم ، وتوالفهم ، وتواددهم ، وتحاببهم . فمن كمال عقولهم أنهم إذا أرادوا أمرا من الأمور ، التي تحتاج إلى إعمال الفكر والرأي فيها ، اجتمعوا لها ، وتشاوروا ، وبحثوا فيها ، حتى إذا تبينت لهم المصلحة ، انتهزوها وبادروها . وذلك كالرأي في الغزو ، والجهاد ، وتولية الموظفين لإمارة ، أو قضاء ، أو غيرهما . وكالبحث في المسائل الدينية عموما ، فإنها من الأمور المشتركة ، والبحث فيها لبيان الصواب مما يحبه الله ، وهو داخل في هذه الآية ... (والذين إذا أصابهم البغي ) أي : وصل إليهم من أعدائهم ( هم ينتصرون ) لقوتهم وعزتهم ، ولم يكونوا أذلاء عاجزين عن الانتصار . فوصفهم بالإيمان ، والتوكل على الله ، واجتناب الكبائر والفواحش الذي تكفَّر به الصغائر ، والانقياد التام ، والاستجابة لربهم ، وإقامة الصلاة ، والإنفاق في وجوه الإحسان ،والمشاورة في أمورهم ،والقوة والانتصار على أعدائهم . فهذه خصال الكمال قد جمعوها ، ويلزم من قيامها فيهم ، فعل ما هو دونها ، وانتفاء ضدها . ( وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ) ذكر الله في هذه الآيات ، مراتب العقوبات ، وأنها على ثلاث مراتب : عدل ، وفضل ، وظلم . فمرتبة العدل : جزاء السيئة بسيئة مثلها ، لا زيادة ولا نقص . فالنفس بالنفس ، وكل جارحة بالجارحة المماثلة لها ، والمال يضمن بمثله . ومرتبة الفضل : العفو عن المسيء والإصلاح له ، ولهذا قال : ( فمن عفا وأصلح فأجره على الله ) يجزيه أجرا عظيما ، وثوابا كثيرا . وشرط الله في العفو الإصلاح فيه ، ليدل ذلك على أنه إذا كان الجاني لا يليق بالعفو عنه ، وكانت المصلحة الشرعية تقتضي عقوبته ، فإنه في ـ هذه الحال ـ لا يكون مأمورا به . وفي جعل أجر العافي على الله ، ما يهيج على العفو ، وأن يعامل العبد الخلق بما يحب أن يعامله الله به . فكما يحب أن يعفو الله عنه ، فليعف عنهم ، وكما يحب أن يسامحه الله ، فليسامحهم ، فإن الجزاء من جنس العمل . وأما مرتبة الظلم : فقد ذكرها بقوله : ( إنه لا يحب الظالمين ) الذين يجنون على غيرهم ابتداء ،أو يقابلون الجاني بأكثر من جنايته ، فالزيادة ظلم..( ولمن انتصر بعد ظلمه ) أي : انتصر ممن ظلمه بعد وقوع الظلم عليه( فأولئك ما عليهم من سبيل ) أي : لا حرج عليهم في ذلك . ودل قوله : (والذين إذا أصابهم البغي )وقوله ![]() أي : الأمور التي حث الله عليها وأكدها وأخبر أنه لا يلقاها إلا أهل الصبر والحظوظ العظيمة ، ومن الأمور التي لا يوفق لها إلا أولو العزائم والهمم ، وذوو الألباب والبصائر . فإن ترك الانتصار للنفس ، بالقول أو الفعل ، من أشق شيء عليها . والصبر على الأذى ، والصفح عنه ، ومغفرته ، ومقابلته بالإحسان ، أشق وأشق . ولكنه يسير على من يسره الله عليه وجاهد نفسه على الاتصاف به ، واستعان الله على ذلك . ثم إذا ذاق العبد حلاوته ، ووجد آثاره ، تلقاه برحب الصدر ، وسعة الخلق ، والتلذذ فيه .* 23- (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ *سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ * مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ* لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور*الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) (الحديد 20- 24 ) قال ابن كثير رحمه الله : يقول تعالى موهناً أمر ا لحياة الدنيا ومحقراً لها: (إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد) أي إنما حاصل أمرها عند أهلها هذا, كما قال تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (آل عمران : 14 ).... ثم ضرب تعالى مثل الحياة الدنيا في أنها زهرة فانية ونعمة زائلة فقال: (كمثل غيث) وهو المطر الذي يأتي بعد قنوط الناس كما قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) (الشورى : 28 ) ... وقوله تعالى: (أعجب الكفار نباته) أي يعجب الزراع نبات ذلك الزرع الذي نبت بالغيث, وكما يعجب الزراع ذلك ، كذلك تعجب الحياة الدنيا الكفار, فإنهم أحرص شيء عليها وأميل الناس إليها... (ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً) أي يهيج ذلك الزرع فتراه مصفراً بعد ما كان خضراً نضراً, ثم يكون بعد ذلك كله حطاماً أي يصير يبساً متحطماً, هكذا الحياة الدنيا تكون أوّلاً شابة ، ثم تكتهل ، ثم تكون عجوزاً شوهاء, والإنسان يكون كذلك في أول عمره وعنفوان شبابه غضاً طرياً لين الأعطاف, بهي المنظر, ثم إنه يشرع في الكهولة فتتغير طباعه ويفقد بعض قواه, ثم يكبر فيصير شيخاً كبيراً ضعيف القوى, قليل الحركة يعجزه الشيء اليسير كما قال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) (الروم : 54 )... ولما كان هذا المثل دالاً على زوال الدنيا وانقضائها وفراغها لا محالة, وأن الاَخرة كائنة لا محالة, حذر من أمرها ورغب فيما فيها من الخير فقال: ( وفي الاَخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان * وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) أي وليس في الاَخرة الاَتية القريبة إلا إما هذا وإما هذا: إما عذاب شديد, وإما مغفرة من الله ورضوان. وقوله تعالى: (وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) أي هي متاع فانٍ غارٌّ لمن ركَن إليه, فإنه يغتر بها وتعجبه حتى يعتقد أنه لا دار سواها ولا معاد وراءها, وهي حقيرة قليلة بالنسبة إلى دار الاَخرة. قال ابن جرير: حدثنا علي بن حرب الموصلي, حدثنا المحاربي, حدثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها, اقرءوا ![]()
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |