المسيح ابن مريم عليه السلام - الصفحة 2 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         شرح صحيح مسلم الشيخ مصطفى العدوي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 336 - عددالزوار : 55732 )           »          بتضايق وتتنرفز من أقل حاجة.. 5 أسباب حقيقية وراء غضبك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          وصفات طبيعية لنفخ الخدود بخطوات بسيطة.. مش هتحتاجى لفيلر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          7 طرق هتخلى ريحة دولابك منعشة.. مش هتاخد منك وقت كتير (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          4 خطوات لإزالة مكياج العيون دون تلطيخ الوجه.. لو بتستخدمى أنواع مقاومة للماء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          4 ألوان طلاء تتوافق مع البرجندى.. جددى بيتك بشكل مختلف وعصرى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          طريقة عمل لفائف التوست بالزعتر والجبن المشوي.. فطار شرقي بنكهة لذيذة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          أسرار وحيل بسيطة لترطيب الشفاه فى الصيف.. من زيت جوز الهند للزيتون (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          4 ألوان آيشادو مناسبة للعيون البنية.. اظهرى جمال عينيكى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          إزاى علاقتك مع والدتك تبقى أكتر من مجرد بيست فريند؟ 3 خطوات هتفرق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث > ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم قسم يختص بالمقاطعة والرد على اى شبهة موجهة الى الاسلام والمسلمين

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #11  
قديم 23-07-2025, 09:50 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,508
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المسيح ابن مريم عليه السلام

المسيح ابن مريم عليه السلام (11)



الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد





ذكر الله تبارك وتعالى في تَعْدادِ جرائم اليهود أنهم قالوا لموسى: أَرِنَا اللهَ جهرةً، وأنهم اتخذوا العجلَ من بعد ما جاءتهم البيِّنات، وأنهم عَدَوْا في السبت، وأنهم نقضوا الميثاق، وأنهم كفروا بآيات الله، وأنهم قتلوا الأنبياءَ بغير حقٍّ، وأنهم قالوا: قلوبنا غلف، ثم قال تعالى: ﴿ وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا * وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ ﴾ [النساء: 156، 157] وقوله تعالى هنا: ﴿ رَسُولَ اللَّهِ ﴾ بنصب رسول يحتمل أن يكون مِن تمام مقالة اليهود؛ وقالوا ذلك تهكُّمًا؛ على حد قول مشركي مكة في حق محمد صلى الله عليه وسلم فيما حكى الله ذلك عنهم: ﴿ وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ﴾ [الحجر: 6] وقول فرعون في موسى عليه السلام: ﴿ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ﴾ [الشعراء: 27]، ويجوز أن يكون قوله: ﴿ رَسُولَ اللَّهِ ﴾ ليس من مقالة اليهود، وإنما ذكره عز وجل ونصبه على الاختصاص والمدح؛ للإشارة إلى فظاعة عملهم، ودرجة جهلهم وشناعة زعمهم وسوء حقدهم وبُغضهم للأنبياء والمرسلين، ولا شكَّ في أن الحواريين قاموا بعد رفع المسيح عليه السلام بنشر دعوة توحيد الله عز وجل، وأنه لا إله إلا الله، وأن عيسى عبدُ اللهِ ورسولُه، وكلمتُه ألقاها إلى مريم، وروحٌ منه، وقد تعرضوا لصنوف من التعذيب على أيدي اليهود والرومان، ولم يدَّعِ واحدٌ منهم أن عيسى إله أو ابن إله، أو أن الله ثالث ثلاثة، وقد استمرت دعوة التوحيد التي جاء بها عيسى عليه السلام صافية وقتًا من الزمان ليس بطويل؛ فقد وقع على أتباعه اضطهادٌ عظيمٌ، فَشُرِّدوا وعُذِّبوا وقتلوا وصلبوا حتى كادت تختفي معالم المسيحيَّة من الأرض بسبب تلك الاضطهادات التي كان يتولَّاها أباطرةُ الرومان وعمَّالهم وكذلك اليهود.

وأشدُّ ما نزل بهم من الأذى كان في عهد الإمبراطور نيرون (64م)، ثم في عهد الإمبراطور تراجان (106م)، ثم الإمبراطور ديسيوس (251م)، ثم في عهد الإمبراطور دقلديانوس (284م)؛ فأما نيرون فقد اتَّهمهم بأنهم هم الذين أحرقوا مدينة روما، وتفنَّن في تعذيبهم؛ إذ كان يأمر أتباعه بوضع أتباع عيسى في جلود الحيوانات ثم يطرحونهم للكلاب فتنهشهم، كما كانوا يُلْبِسُون بعض هؤلاء المسيحيين ثيابًا مطلية بالقار، ثم يجعلونهم مشاعلَ يستضيئون بنارها، كما كتب بطريرك الإسكندرية يصف بعضَ ما عاين من ديسيوس إذ يقول: عَمَّ الخوفُ الجميعَ، وفرَّ بعضُهم بدينهم، وقد أبعد كل مسيحي من خدمة الدولة مهما يكن ذكاؤه، وكل مسيحي يُرشد عنه يؤتى به على عجل ويقدم إلى هيكل الأوثان، ويطلب منه تقديم ذبيحة للصنم، وعقاب من يرفض تقديم الذبيحة أن يكون هو الذبيحة، بعد أن يجتهدوا في حمله بالترهيب، ثم يقول البطريرك: ومن ضعاف الإيمان من أنكر مسيحيته واقتدى به البعض، ومنهم من تمسَّك بأذيال الفرار أو من زُجَّ به في غياهب السجون؛ اهـ.

أما دقلديانوس فقد جاء إلى مصر وأنزل بها البلاء، وأمر بهدم الكنائس وإحراق الكتب، وأصدر أمرًا بالقبض على الأساقفة وزجهم في غياهب السجون، وقهر المسيحيين على إنكار دينهم، وقتل منهم حوالي ثلاثمائة ألف.

وقد أُطلق على أتباع المسيح عليه السلام اسم النصارى، نسبة إلى نصرانة قرية المسيح عليه السلام من أرض الجليل بفلسطين، وهذه القرية تسمَّى أيضًا الناصرة والنصورية، ولا أعرف على التحديد متى صارت النصرانيَّة علَمًا على دين أهل الإنجيل، وقد وجدت هذه اللفظة بهذا المعنى في أوائل القرن الثاني الميلادي؛ إذ كتب (بلين) وكان واليًا في آسيا إلى الإمبراطور تراجان الموجود عام (106م) كتابًا يشرح فيه طريقة تعذيبه للمسيحيين، فقال: "جربت مع من اتهموا بأنهم نصارى على الطريقة الآتية: وهي أني أسألهم إذا كانوا مسيحيين، فإذا أقروا أُعيد عليهم السؤال ثانية وثالثة، مهددًا بالقتل، فإذا أصرُّوا أنفذ عقوبة الإعدام فيهم"، ثم يقول بلين: "وقد وجَّهت التهمة إلى كثيرين بكتب لم تُذيل بأسماء أصحابها فأنكروا أنهم نصارى"؛ اهـ.

وقد يُفهم من القرآن الكريم أنهم أحدثوا هذا الاسم؛ إذ يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ﴾ [المائدة: 82]، ولا يقتضي لفظ النصرانية في الأصل مدحًا ولا ذمًّا؛ لأنها نسبة إلى وطن، والنسبة إلى الأوطان لا تقتضي مدحًا ولا ذمًّا، فإن الوطن الواحد يشتمل على صالحين وطالحين، أما المسيحيَّة فإنها إنما يصحُّ إطلاقها على المتَّبعين بحق دين المسيح عليه السلام، وبعد بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نَسَخَ الله بشريعته كلَّ شريعة سوى شريعته، فإنه لا ينبغي إطلاق المسيحيَّة على النصارى؛ لأن هؤلاء في الواقع لا يتبعون المسيح عليه السلام؛ إذ لو اتَّبعوه لسارعوا إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك لا نجد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تسميتهم مسيحيين، وقد أطلق عليهم القرآن والسنة أنهم نصارى وأهل الكتاب، كما سمَّاهم القرآن أهل الإنجيل.

هذا، وقد كان اليهودُ أشدَّ الناس عداوة لدين المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، وبذلوا كلَّ سبيل للقضاء عليه وعلى أتباعه، وقد رأوا بتفكيرهم الشيطاني أن يتظاهر بعضهم بالدخول في هذا الدين ليحرِّفَه ويبعد الناس عن دين المسيح عليه السلام، وقد قام بهذه الحيلة شاؤول اليهودي، وقد كان من المغرمين المولعين بتعذيب النصارى وفتنتهم عن دينهم، ويجمع علماء النصرانيَّة على أنه كان راضيًا بقتل المسيحيين، وكان يسطو على الكنيسة ويدخل البيوت ويجرُّ الرجال والنساء ويسلمهم إلى السجن، وقد وصف في رسالة (أعمال الرسل) بأنه الممتلئ كلَّ غش وكلَّ خبث، وأنه ابن إبليس، وأنه عدوُّ كلِّ بر، وأنه يفسد سُبل الله المستقيمة كما جاء في الإصحاح الثالث عشر من هذه الرسالة في الفقرة العاشرة من هذا الإصحاح.

وقد زعم شاؤول أنه تقدَّم إلى رئيس الكهنة اليهودي وطلب منه رسائل إلى دمشق إلى الجماعات، حتى إذا وَجَدَ أناسًا من الطريق رجالًا أو نساء يسوقهم موثَّقين إلى أورشليم، وقد كان ذلك في السنة الثامنة والثلاثين من الميلاد، أي: بعد وقت قصير من رفع المسيح عليه السلام، ويقول شاؤول عن نفسه: سمعتم بسيرتي قبلًا في الديانة اليهودية أني كنت أضطهد كنيسة الله بإفراط وأتلفها، وكنت أتقدم في الديانة اليهودية على كثيرين مِن أترابي في جنسي؛ إذ كنت أوفر غيرة في تقليدات آبائي... ثم يزعم شاؤول أنه وهو في طريقه إلى دمشق رأى يسوع، وأنه آمن به، وأنه تسمَّى بولس، ويذكر لوقا صاحب الإنجيل المسمَّى باسمه في رسالته التي سماها أعمال الرسل قصة شاؤول هذه على ما زعمه شاؤول، فيقول في الإصحاح التاسع من هذه الرسالة عن شاؤول: فتقدم إلى رئيس الكهنة وطلب منه رسائل إلى دمشق إلى الجماعات، حتى إذا وجد أناسًا من الطريق رجالًا أو نساء يسوقهم موثقين إلى أورشليم، وفي ذهابه حدث أنه اقترب إلى دمشق، فبغتة أبرق حوله نور من السماء، فسقط على الأرض وسمع صوتًا قائلًا له: شاؤول شاؤول لماذا تضطهدني؟! فقال: من أنت يا سيد؟ فقال الرب: أنا يسوع الذي أنت تضطهده، ثم يقول: فقال وهو مرتعد ومتحيِّر: يا رب، ماذا تريد أن أفعل؟ ثم يقول: وللوقت جعل يركِّز في المجامع بالمسيح أن هذا هو ابن الله، ولم تكن فكرة ألوهية عيسى أو بنوَّته لله معروفة من قبلُ للمسيحيين؛ فهم لا يعلمون إلا أنه عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، ولما جاء شاؤول الذي تسمَّى بولس بهذه الدعوى أنكرها الحواريُّون وتشكَّكُوا في هذه القصة التي اخترعها شاؤول، ولم ينسوا أنه أكبر أعدائهم في اليهود، غير أن برنابا نَصَحَ الحواريين ألا يعجلوا على شاؤول، وأحسن تقديمه إلى هؤلاء، بيد أن برنابا كذلك لم يستقم على موالاة شاؤول، فلم يمضِ قليلُ وقتٍ حتى انفصلت عُرى المودة بينهما، بلْ نَفَرَ من شاؤول عامةُ التلاميذ، ولم يبقَ على صحبته له سوى لوقا الذي اعتبر نفسه أخص تلاميذ بولس، وكان طبيبًا ولم يكن من الحواريين، وكان شاؤول (بولس) يلقبه بعد ذلك بالطبيب الحبيب.

وصار بولس يبشِّر بمسيحيَّة لم يعرفْها الحواريون؛ إذ لم يتلقَّ أيَّ نوع من التعليم من عيسى عليه السلام أو من الحواريين، ثم صار يزعُم أن يسوعَ يعلِّمه من السماء مباشرة وبلا واسطة، ويقول: لا يجوز لأحد أن يقبل تعليمًا آخر من غيري، وحرَّم على تلاميذه أن يستمعوا أو يأخذوا شيئًا عن الحواريين.

وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #12  
قديم 23-07-2025, 09:53 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,508
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المسيح ابن مريم عليه السلام

المسيح ابن مريم عليه السلام (12)



الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد






ذكرْتُ في ختام الفصل السابق أن شاؤولَ الذي سمَّى نفسه بولس أراد القضاء على جميع التعاليم التي تلقَّاها الحواريون عن المسيح عليه السلام، وكان يقول: لا يجوز لأحد أن يقبل تعليمًا آخر من غيري، وحرَّم على تلاميذه أن يستمعوا أو يأخذوا شيئًا عن الحواريين، وفي ذلك يقول في كتاب بعث به إلى تلميذه تيموثاوس: طلبت إليك أن تمكث في إفسس إذ كنتُ أنا ذاهبًا إلى مكدونية لكي توصي قومًا ألا يعلموا تعليمًا آخر، ولا يصغوا إلى خرافات وأنساب لا حدَّ لها تُسبب مباحثات دون بنيان الله الذي في الإيمان، وأما غاية الوصية فهي المحبة من قلب طاهر وضمير صالح وإيمان بلا رياء، الأمور التي إذا زاغ قوم عنها انحرفوا إلى كلام باطل يريدون أن يكونوا معلمي الناموس وهم لا يفهمون ما يقولون ولا ما يقررون، ويقول: إن كان أحدٌ يُعلِّم تعليمًا آخر فقد تصلَّفَ وهو لا يفهم شيئًا.

وهكذا بدأ شاؤول اليهودي هذا الذي زعم أنه تنصَّر وتسمَّى بولس، بدأ يُجَهِّل كلَّ الحواريين ويصفهم بعدم الفهم، وراح يدَّعِي أنه معلم المسيحيَّة الوحيد، وصار ينشر تعاليم يستمدُّها من مذاهب الهندوس والبوذيين وفلاسفة الإغريق وبعض تعاليم اليهود؛ فقد جاء لأول مرة بفكرة التثليث، وبفكرة أن المسيح ابن الله، وأنه نزل ليضحِّيَ بنفسه تكفيرًا عن خطيئة البشر، وأنه صعد ليجلسَ عن يمين أبيه ليحكم ويدين البشر، تعالى الله عمَّا يقول علوًّا كبيرًا.

ولا شكَّ في أن اليهود من آبائه قالوا: العُزير ابن الله، فهو لم يبعد في دعوته "أن عيسى ابن الله" عن دعوى آبائه الضالين المحرفين، وقد ضم إلى ذلك ما أخذه عما دُوِّن عند الهندوس عن كرشنا، وما دُوِّن عند بعض البوذيين عن بوذا؛ فكرشنا يلقَّب عند معتقديه من الهندوس بالمُخَلِّصِ والفَادِي والمُعَزِّي والرَّاعِي الصَّالِحِ والوسِيط وابن الله والأقنوم الثاني من الثالوث المقدس؛ وهو الأب والابن والروح القدس، كما لقب بوذا عند بعض أتباعه بنفس هذه الألقاب، وهي بعينها التي أطلقها بولس على المسيح عليه السلام، كما قال أصحاب كرشنا: إنه وُلد من العذراء (ديفاكي) التي اختارها الله والدة لابنه بسبب طهارتها وعفتها، وقال بعض أصحاب بوذا عن بوذا: إنه وُلد من العذراء (مايا) التي اختارها الله والدة لابنه بسبب طهارتها وعفتها، وهذه العبارة بعينها أطلقها شاؤول (بولس) على والدة المسيح وولدها عليه السلام، ويقول أصحاب كرشنا عن كرشنا: إن النَّاس عرفوا ولادته من نجمه الذي ظهر في السماء، وكذلك قال بعضُ أصحاب بوذا عن بوذا، وكذلك قالت تعاليم شاؤول (بولس): لما ولد المسيح ظهر نجمه في المشرق، وبواسطة ظهور نجمه عَرَفَ الناسُ محلَّ ولادته، كما زعم أصحاب كرشنا أن أمه (ديفاكي) كانت مخطوبة لناندا، وأنها لما ولدت كرشنا سمع ناندا نداءً من السماء يقول له: قم خذِ الصبيَّ وأمَّه وفرَّ بهما إلى كاكول واقطع نهر جمنة؛ لأن الملك طالبٌ إهلاكَه، وفي تعاليم شاؤول التي نشرها: أنه لما ولد يسوع كان يوسف النَّجار خطيبُ أمِّه غائبًا؛ وأنذرَ يوسف النجار خطيب مريم والدة يسوع بحلم كي يأخذ الصبيَّ وأمَّه ويفرَّ بهما إلى مصر؛ لأن الملكَ طلبَ إهلاكَه، كما أن اسم المدينة التي ولد فيها كرشنا وعمل فيها الآيات العجيبة هي مطر، وكذلك نشر شاؤول أن اسم المدينة التي هاجر إليها يسوع المسيح وأمه وخطيبها يوسف النجَّار هي المطريَّة من أرض مصر، وقد عمل فيها الآيات العجيبة لما ترك أرض اليهوديَّة.

علمًا بأن كرشنا كان موجودًا حوالي سنة 950 ق م، وبوذا كان موجودًا حوالي منتصف القرن السادس قبل الميلاد، وقد انتشرت تعاليم وأفكار بولس في الغرب بين الوثنيين واليونان في الوقت الذي حوربت فيه بالمشرق، وفي ذلك يقول بولس في رسالة إلى تلميذه تيموثاوس: أنت تعلم أن جميع الذين في آسيا ارتدُّوا عني، ومع ذلك فقد أخذ بولس في التَّطْوافِ في الأقاليم ينشئ الكنائسَ، ويُلقِي الخطبَ ويبعث بالرسائل التي صارت عماد المسيحيَّة المحرَّفة، حتى قتل في اضطهادات نيرون سنة 66 أو 67م، غير أنَّ بعضَ الحواريين ومنهم برنابا الذي كان يُحْسِنُ الظنَّ في (بولس) قاوموا هذه التعاليم التي جاء بها بولس، وألَّف برنابا إنجيلًا أشار في مقدمته إلى السبب الذي دعاه إلى تأليفه؛ وأنه إنما ألَّفه ليردَّ على أولئك الذين يدَّعون ألوهية المسيح؛ أو أنه ابن الله، وفي ذلك يقول برنابا في مطلع إنجيله: أيها الأعزاء، إن الله العجيب العظيم قد افتقدنا في هذه الأيام بنبيِّهِ يسوع المسيح برحمة عظيمة للتعليم، والآيات التي اتخذها الشيطان ذريعةً لتضليل كثيرين بدعوى التقوى، مبشِّرين بتعليم شديد الكفر، داعين المسيح ابن الله، ورافضين الختان الذي أمر الله به دائمًا، مجوِّزين كلَّ لحم نجس الذي ضلَّ في عدادهم أيضًا بولس (شاؤول اليهودي) الذي لا أتكلم عنه إلا مع الأسى، وهو السبب الذي لأجله أسطِّرُ هذا الحق الذي رأيت؛ اهـ.

وقد أجمع مؤرِّخو النصرانيَّة على أنه كانت في العصور الغابرة أناجيلُ شتى قد أخذت بها فرق مسيحيَّة قديمة، وأن كلَّ فرقة من هذه الفرق لم تكن تتمسَّك إلا بإنجيلها، وأن الكنيسة قامت في أوائل القرن الثالث الميلادي بالإبقاء على أربعة أناجيل فقط؛ وهي إنجيل متَّى وإنجيل مرقص وإنجيل لوقا وإنجيل يوحنا، وحرَّمت الكنسية ما عداها من الأناجيل، على أنه قد ذكر بعضُ المؤرخين أن هذه الأناجيل الأربعة لا ذِكر لها قبل آخر القرن الثاني الميلادي، وأول مَن ذكر هذه الأناجيل الأربعة هو أرينيوس سنة 209م، ثم جاء من بعده كليمنس إسكندريانوس في سنة 216م، وأظهر أن هذه الأناجيل الأربعة واجبة التسليم، علمًا بأن جميع هذه الأناجيل أشبه بكتب السيرة النبويَّة التي تسوق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيرتَه، وتشتمل على الصحيح والحسن والضعيف والموضوع من الأخبار، ولم يدَّعِ أحدٌ من النصارى أنها تشتمل على الإنجيل المنزَّل على عيسى عليه السلام، وإن كانت تسوق أحيانًا بعضَ فقرات لا شكَّ في أنها توافق ما عُرف عن المسيح عليه السلام من توحيد الله تعالى، وأن عيسى رسول الله ونبي من الأنبياء؛ ففي إنجيل متَّى في الإصحاح العاشر في الفقرة الأربعين في خطاب عيسى مع الحواريين يقول: "من يَقْبَلْكم، يقبلْني، ومن يقبلني يقبل الذي أرسلني"، وفي الإصحاح التاسع عشر من متَّى في الفقرة الثامنة عشرة: "لا تقتل، لا تزنِ، لا تسرق، لا تشهدْ بالزور، أكرم أباك وأمَّك، وأحب قريبك كنفسك"، وفي الفقرة الواحدة والثلاثين والثانية والثلاثين من الإصحاح الثاني والعشرين من متَّى: "أفما قرأتم ما قيل لكم من قبل الله القائل: أنا إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب"، وفي الفقرة السابعة والثلاثين والثامنة والثلاثين والتاسعة والثلاثين من الإصحاح الثالث والعشرين من متَّى يقول: "يا أورشليم، يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين، إليها كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا، هو ذا بيتكم يُترك لكم خرابًا؛ لأني أقول لكم: إنكم لا ترونني من الآن حتى تقولوا: مبارك الآتي باسم الرب"، وفي إنجيل مرقص في الإصحاح العاشر في الفقرة التاسعة عشرة: "أنت تعرف الوصايا، لا تزن، لا تقتل، لا تسرق، لا تشهد بالزور، لا تسلب، أكرم أباك وأمك"، وفي الإصحاح الثاني عشر منه في الفقرة السادسة والعشرين: "أفما قرأتم في كتاب موسى في أمر العُليقة كيف كان الله قائلًا: أنا إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب"، وفي الفقرة الثامنة والعشرين إلى الثانية والثلاثين منه: "فجاء واحد من الكَتَبَةِ وسمعهم يتحاورون، فلما رأى أنه أجابهم حسنًا سأله: أية وصية هي أول الكل؟ فأجابه يسوع أن أول كل الوصايا هي: اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا رب واحد، وتحب الرب إلهك من كلِّ قلبك ومن كلِّ نفسك ومن كلِّ فكرك ومن كلِّ قدرتك، هذه هي الوصية الأولى، وثانية مثلها هي تُحب قريبك كنفسك، ليس وصيَّة أخرى أعظم من هاتين، فقال له الكاتب: جيدًا يا معلم، بالحقِّ قلت؛ لأنه الله واحد وليس آخر سواه"، وفي إنجيل يوحنا التقرير بأن الله واحد، وأن عيسى رسول الله حيث جاء في الفقرة الثانية من الإصحاح السابع عشر منه: "وهذه هي الحياة الأبديَّة أن يعرفوك، أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته".

ولا شكَّ في أن هذه هي وصايا الأنبياء، لم يتمكَّن شاؤول ولا المحرفون من اليهود والنصارى من طمسها، وهي المطابقة لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وعليها وعلى نحوها يحمل قوله تعالى: ﴿ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ﴾ [المائدة: 43]، وقوله تعالى: ﴿ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ ﴾ [المائدة: 47].

وفي نحوها يقول الله عز وجل في الوصايا العشر: ﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام: 151 - 153].

وقد أُثِرَ عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: من أراد أن ينظر إلى وصيَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه فليقرأ هؤلاء الآيات: ﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ ﴾ إلى قوله: ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾.

وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #13  
قديم 23-07-2025, 09:54 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,508
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المسيح ابن مريم عليه السلام

المسيح ابن مريم عليه السلام (13)



الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد




ذكرْتُ في الفصل السابق أنه كانت هناك أناجيلُ كثيرة، وكان لكل فرقة من فرق النصارى إنجيلها الخاص بها، حتَّى قامت الكنيسة في أوائل القرن الثالث الميلادي بالإبقاء على أربعة أناجيل فقط، وهي: متَّى ومرقص ولوقا ويوحنا؛ وإليكم نبذة تبيِّن أن هذه الأناجيل مختلَفٌ في تاريخ تدوينها وفي اللغة التي كتبت بها، وفي البلد الذي أُلِّفَتْ فيه، وفي الذي قام بترجمتها، كما اشتملت على جملة من التناقضات فيما بينها؛ فإنجيل متَّى منسوب لمتَّى الحواريِّ أحد تلاميذ المسيح الاثني عشر، ويعرف بمتَّى العشَّار؛ إذ كان قبل اتصاله بالمسيح عليه السلام من جباة الضرائب للرومان، وكان جباة الضرائب يعرفون آنذاك بالعشَّارين، وقد كان عمله في كفر ناحوم من أرض الجليل بفلسطين، وقد ذكر متَّى في إنجيله كيفية دخوله في دين المسيح؛ إذ يقول في الإصحاح التاسع من إنجيله: وفيما يسوع مجتاز من هناك رأى إنسانًا جالسًا عند مكان الجباية اسمه متى، فقال له: اتَّبعني فقام وتبعه، وبينما هو متكئ في البيت إذا عشَّارون وخطاة كثيرون قد جاؤوا واتَّكؤوا مع يسوع وتلاميذه، فلما نظر الفريسيون قالوا لتلاميذه: لماذا يأكل معلمكم مع العشارين والخطاة؟ فلما سمع يسوع قال لهم: لا يحتاج الأصحَّاء إلى طبيب بل المرضى، اذهبوا وتعلَّموا ما هو؟ إني أُريد رحمة لا ذبيحة، لأني لم آت لأدعو أبرارًا بل خطاة إلى التوبة.

وقد اختلف النصارى في تاريخ تدوين هذا الإنجيل؛ فبعضُهم يدَّعي أنه أُلِّف عام 39م، وبعضهم يدَّعي أنه أُلِّف عام 41م، وبعضهم يقول: إنه أُلف في عهد الإمبراطور قلوديوس ولم يحدد السنة التي أُلف فيها، علمًا بأن قلوديوس حكم أربع عشرة سنة، ويقول هورن: إنه أُلِّف عام 37 و38 أو 41 أو 43 أو 48 أو 61 أو 62 أو 63 أو 64م.

وقد تَنَازع النصارَى كذلك في اللغةِ التي كُتِبَ بها هذا الإنجيل، وفي البلد الذي أُلِّف فيه؛ فمنهم من يقول: إنه كُتِب بالعبرية، ومنهم من يقول: إنه كُتِب بالسريانيَّة، ومنهم من يقول: إنه كتب في أورشليم، ومنهم من يقول: إنه كتب باليونانية، وأجمعوا على أنه لم يعرف إلا باليونانية، واختلفوا في مُتَرْجِمِه إلى اليونانيَّة، والمعروف أن متَّى لم يبقَ طويلًا في فلسطين بعد رفع المسيح عليه السلام، بل جالَ في بلاد كثيرة يبشِّر بالمسيحيَّة، واستقرَّ بأرض الحبشة حتى مات عام 70م ببلاد الحبشة، على إثر ضربٍ مبرح أنزله به أحد أعوان ملك الحبشة، وبعضهم يقول: إنه طُعِن برمحٍ بأرض الحبشة بعد أن قضى بها نحو ثلاثٍ وعشرين سنة.

أما إنجيلُ مرقص فمؤلفه أصلُه من اليهود أيضًا، وكانت أسرتُه تقيمُ بأورشليم في وقت ظهور المسيح عليه السلام، لكنَّه ليس من الحواريين، بل هو تلميذٌ لبطرس كبيرِ الحواريين، كما أنه تتلمذ على خالِه برنابا أحد الحواريين كذلك، وقد كتب هذا الإنجيل باللغة اليونانيَّة بطلبٍ من أهالي روميَّة، في عهد الإمبراطور نيرون، وقد ذكر سعيد بن البطريق النصراني في تاريخه أن هذا الإنجيل كتبه بطرس رئيس الحواريين عن مرقص في مدينة رومية ونَسَبه إلى مرقص، وهذا أمر عجيب غريب؛ إذ كيف يروي رئيس الحواريين عن تلميذه هذا الإنجيل، ثم ينسبه إلى التلميذ؟!

على أن بعضَ الرواة يقررون أن مرقص ما كتب إنجيله إلا بعد وفاة بطرس، وقد ذكر كتاب "مروج الأخبار في تراجم الأبرار": أن مرقص كان يُنكر ألوهية المسيح، هو وأستاذه بطرس الحواري، وقد جاء في هذا الكتاب عن مرقص أنه صنَّف إنجيلَه بطلب من أهالي رومية وكان ينكر ألوهية المسيح، وقد انتقل مرقص من بلدٍ إلى بلدٍ يبشِّر بالمَسِيحيَّة حتى دخلَ مصر في منتصف القرن الأول من الميلاد، فأقام بها، وأخذ يدعو إلى المَسِيحيَّة، فدخل فيها عدد كبير من المصريين، وقد كان يسافر من مصر أحيانًا إلى رومية، وأحيانًا إلى شمال إفريقيَّة، غير أنه آثر الاستقرار في مصر إلى أن ائتمر به الوثنيون فسجنوه وعذَّبوه، ثم قتلوه في عام 62م.

أما إنجيلُ لوقا فمؤلفه ليس من الحواريين كذلك ولا من تلاميذ الحواريين، وإنما تتلمذ لبولس (شاؤول اليهودي) وأخلَصَ له، وصار أخصَّ أصدقائه، وقد اختلف فيه فقيل: إنه أنطاكي ولد بأنطاكية، وقيل: بل روماني نشأ في إيطاليا، وبعضهم يقول: إنه كان طبيبًا، وبعضهم يقول: إنه كان مصورًا.

وقد أشار لوقا إلى سبب تأليفِه إنجيلَه، فبدأ هذا الإنجيل بقوله: إذ كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصَّة في الأمور المتيقنة عندنا كما سلَّمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين وخدامًا للكلمة، رأيت أنا أيضًا - إذ قد تتبعت كلَّ شيء من الأول بتدقيق - أن أكتب على التوالي إليك أيها العزيز ثاوفيلس لتعرف صحةَ الكلام الذي علمت به، وقد تنازع مؤرخو النصرانيَّة في تاريخ تدوين هذا الإنجيل فقيل: إنه أُلِّف عام 53 أو 63 أو 84م، وقيل غير ذلك.

أما إنجيل يوحنا فمؤلفه محلُّ نزاعٍ شديدٍ عميقٍ بين علماء النصارى؛ فالكثير منهم يدَّعي أنه أحد الحواريين وهو يوحنا بن زيدي الصياد، وبعضهم يدَّعِي أنه يوحنا آخر لا يَمُتُّ إلى الأوَّلِ بِصِلة، وقد أنكر بعض علماء النصارى آخر القرن الثاني الميلادي نسبة هذا الإنجيل إلى يوحنا الحواري في الوقت الذي كان يعيش فيه أرينيوس تلميذ بوليكارب تلميذ يوحنا الحواري، ولم ينقلْ أحدٌ أن أرينيوس سمع من أستاذه صحة تلك النسبة، وقد قال علماء النصارى: إن كافة إنجيل يوحنا من تصنيف طالب من طلبة مدرسة الإسكندرية، كما جاء في دائرة المعارف البريطانية التي اشترك في تأليفها خمسمائة من علماء النصارى النصُّ التالي: أما إنجيل يوحنا فإنه لا مرية ولا شكَّ كتابٌ مزوَّر أراد صاحبُه مضادة اثنين من الحواريين بعضهما لبعض وهما القديسان يوحنا ومتى، وقد ادَّعى هذا الكاتب المزور في متن الكتاب أنه هو الحواري الذي يحبه المسيح، فأخذت الكنيسة هذه الجملة على علاتها، وجزمت بأن الكاتب هو يوحنا الحواري، ووضعت اسمه على الكتاب نصًّا، مع أن صاحبه غير يوحنا يقينًا، ولا يخرج هذا الكتاب عن كونه مثلَ بعض كتب التوراة التي لا رابطة بينها وبين مَن نُسبتْ إليه، وإنا لنرأف ونشفق على الذين يبذلون منتهى جهدهم ليربطوا ولو بِأَوْهَى رابطة ذلك الرجل الفلسفي الذي أَلَّفَ هذا الكتاب في الجيل الثاني بالحواري يوحنا الصياد الجليل، فإن أعمالهم تضيع عليهم سُدًى، لِخَبْطِهم على غير هدًى؛ اهـ.

وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #14  
قديم 23-07-2025, 09:56 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,508
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المسيح ابن مريم عليه السلام

المسيح ابن مريم عليه السلام (14)



الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد



ذكرْتُ في الفصل السابق إنكارَ دائرة المعارف البريطانيَّة أن يكون إنجيلُ يوحنا من تأليف يوحنا الحواري، وتقريرها أنه من تأليف كاتب مزوِّر من الجيل الثاني، وقد اختُلِفَ في تاريخ كتابة هذا الإنجيل؛ فبعضهم يرى أنه كتب سنة 95م أو 96م أو 98م، وقيل غير ذلك.

وعامةُ مؤرِّخي النصرانية يقررون أن إنجيل يوحنا هو وحده الذي نصَّ على ألوهية المسيح، مما يدلُّ على أنه أُلِّف لتقرير هذه الألوهية، وهذا يؤكد مذهب من يقول: إن مؤلفه أحد طلبة مدرسة الإسكندرية التي كانت تتزعَّم القولَ بألوهيَّة المسيح، مقررة لما آثرته عن بولس "شاؤول اليهودي".

وهذه الأناجيلُ الأربعة: متَّى ومرقص ولوقا ويوحنا، متناقضة في شكلها وموضوعها، فمن صور اختلافها في مظهرها العام أن إصحاحات (فصول) إنجيل متى: 28 إصحاحًا، ومرقص: 16 إصحاحًا، ولوقا: 24 إصحاحًا، ويوحنا: 21 إصحاحًا.

أما تناقضُ هذه الأناجيل في حقيقة المسألة الواحدة فيظهر فيما يأتي:
إنجيل متَّى يقرِّر أن عيسى من أولاد سليمان بن داود، وإنجيل لوقا يقرر أن عيسى من أولاد ناثان بن داود، وإنجيل متَّى يقرِّر أن سلتائيل بن يكينا، وإنجيل لوقا يقرر أن سلتائيل بن نيري، وإنجيل متى يقرِّر أن من داود إلى يسوع ستة وعشرين جيلًا، وإنجيل لوقا يقرر أن من داود إلى يسوع واحدًا وأربعين جيلًا، كما أن إنجيل متى يقرر أن المرأة التي لحقت يسوع عند انصرافه إلى نواحي صور وصيدا كانت كنعانيَّة كما جاء في الإصحاح الخامس عشر منه، وإنجيل مرقص يقرر أن هذه المرأة كانت أممية، وفي جنسها فينيقيَّة سوريَّة كما جاء في الإصحاح السابع منه، والعجيب أن يدَ التلموديين اليهود ظاهرة في صياغة هذه الأناجيل؛ إذ إن التلمود اليهودي يقرر أن الناس قسمان يهود وأمميُّون، وأن اليهود يَفْضُلون الأمميين، كما يَفْضُل الإنسانُ البهيمةَ، وأن الأمميين جميعًا كلاب وخنازير، وهذه التعاليم الخبيثة التي يأباها مَن له أدنى مسكة من عقل تنسب الأناجيل التي بيد النصارى إلى عيسى عليه السلام أنه كان يعتقدها - برَّأَهُ اللهُ مما قالوا.

ففي قصة المرأة التي لحقت عيسى عليه السلام عند انصرافه إلى صور وصيدا تفوح هذه الرائحة الخبيثة التلموديَّة منه؛ ففي الإصحاح الخامس عشر من إنجيل متى في الفقرة الحادية والعشرين إلى 28: ثم خرج يسوع من هناك وانصرف إلى نواحي صور وصيدا، وإذا امرأة كنعانيَّة خارجة من تلك التخوم صرخت إليه قائلة: ارحمني يا سيد يا ابن داود، ابنتي مجنونة جدًّا، فلم يجبْها بكلمة، فتقدم تلاميذُه وطلبوا إليه قائلين: اصرفْها؛ لأنها تصيح وراءنا، فأجاب وقال: لم أُرْسَلْ إلا إلى خِرَافِ بني إسرائيل الضالة، فأتت وسجدت له قائلة: يا سيد أَعِنِّي، فأجاب وقال: ليس حسنًا أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب؛ فقالت: نعم يا سيد، والكلاب أيضًا تأكل من الفتات الذي يسقط من مائدة أربابها، حينئذ أجاب يسوع وقال لها: يا امرأة، عظيم إيمانك ليكن لك كما تريدين، فشفيت ابنتها من تلك الساعة، ثم انتقل يسوع من هناك وجاء إلى جانب بحر الجليل، وصعد إلى الجبل وجلس هناك، فجاء إليه جموع كثيرة معهم عُرْجٌ وعُمْيٌ وخُرْسٌ وشلٌّ وآخرون كثيرون، وطرحوهم عند قدمَيْ يسوع فشفاهم، حتى تعجب الجموع إذ رأوا الخُرس يتكلمون، والشل يصيحون، والعرج يمشون، والعُمي يبصرون، ومجَّدُوا إله إسرائيل.

ففي هذا النص يزعمون أن عيسى وصف غير بني إسرائيل بأنهم كلاب، ونفس هذا الوصف موجود في الإصحاح السابع من إنجيل مرقص، وإن تعجب فعجب أن يصدِّقَ عاقلٌ يؤمن بالأنبياء والمرسلين أن عيسى يصف مَنْ سوى الإسرائيليين بأنهم كلاب، نزَّهه الله وبرَّأه مما قالوا.

وبالرغم من أنه بعد أن قامت الكنيسة في أوائل القرن الثالث الميلادي بالإبقاء على هذه الأناجيل الأربعة فقط، فإن النزاع لم ينقطع بين أصحاب هذه الأناجيل الأربعة وبين أصحاب الأناجيل الأخرى حتى دخلَ الإمبراطور قسطنطين في النصرانية، وقد رأى النصارى في غاية التنازع؛ فمنهم من يعتقد أن المسيحَ عبدُ الله ورسوله، ومنهم مَن يدَّعي أنه ابن الله له صفة الأزلية، ومنهم من يدَّعي أن الله ثالث ثلاثة؛ فقرر عقد مؤتمر في نيقية، وقد كان في مصر رجلٌ ليبي الأصل يقال له: آريوس، وكان داعية قويًّا يدعو إلى توحيد الله عز وجل، ويقرر أن عيسى عبدُ الله ورسوله، وقد أخذ يقاوم كنيسة الإسكندرية التي كانت تنشُر بين الناس القولَ بألوهية المسيح، فأخذ آريوس يحارب هذه الكنيسة.

قالت الكاتبة الإنجليزية "ا - ل - بتشر" في كتابها (تاريخ الأمة القبطية) الذي ترجمه إلى العربية رجلٌ من الأقباط اسمه إسكندر تادرس، وتولَّى طبعه وأشرف عليه تادرس شنودة المنقبادي صاحب جريدة مصر، وطبع في مطبعة مصر بالفجالة سنة 1901م، تقول هذه الكاتبة الإنجليزية في ص 191 - 192 جـ1: "وقد ظهر في الإسكندرية بعد ذلك صديق وظهير لميليتيوس هو آريوس الهرطوقي المشهور وأصله من ليبيا، وقد سَامَه بطرس شماسًا في الكنيسة"، وتقول في ص 201: "أما الحوادث التي أوجبت انعقاد مجمع نيقية وما تمَّ في هذا المجمع فمعروفة عند الكثيرين؛ إذ أتى على ذكرها جماعة من علماء اللاهوت وشرحوها بالإسهاب، فلا حاجة لسردها الآن، ولم تأتِ سنة 319م حتى زاد تذمُّر الإسكندرانيين وكثُر لغطُهم ضد البدعة التي كان آريوس يسعى في نشرها وتعليمها للآخرين، مما دعا البطريك إسكندر أن يهتمَّ لأخذ الاحتياط اللازم لصدِّها".

ثم تقول في ص 202: "وأخيرًا كتب البطريك رسالة رعوية إلى آريوس وأتباعه ينذرهم بترك طريق الضلالة التي ساروا فيها والرجوع إلى الطريق السوي، ولكنه عبثًا حاول إقناعهم، ولا بد أن بعض الباحثين يعرفون أن نقطة الخلاف هذه كانت فيما يختص بألوهية المسيح".

ثم تقول: "إذًا فالذنب ليس على آريوس بل على فئات أخرى سبقته في إيجاد هذه البدع، فأخذ هو عنها، ولكن تأثير تلك الفئات لم يكن شديدًا، كما كان تأثير آريوس الذي جعل الكثيرين ينكرون سر الألوهية حتى انتشر هذا التعليم وعمَّ".

ثم تقول في ص 203: وكانت نتيجة هذا كله أن البطريرك إسكندر شكَّل مجمعًا في سنة 320م حكم فيه على آريوس بالحرمان من عضوية الكنيسة، وهو ثالث حكم صدرَ ضده في حياته، أما آريوس فلم يخضع لهذا الحكم ولم يَعْبَأْ به، بل غادر الإسكندرية قاصدًا فلسطين حيثما جمع إليه أصدقاء أَثَّرَ فيهم تأثيرًا شديدًا؛ إذ استمالهم إليه بكليتهم، حتى إن يوساب أسقف نيكومديا الذي كان رفيقًا لآريوس في المدرسة اعتنق مذهب زميله كما هو، ومن ثم سعى بعد ذلك في استمالة الإمبراطور قسطنطين إلى هذا المذهب، وقد كان الإمبراطور المذكور صديقًا ليوساب يميل إليه كثيرًا".

وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #15  
قديم 23-07-2025, 09:57 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,508
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المسيح ابن مريم عليه السلام

المسيح ابن مريم عليه السلام (15)



الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد




أشرتُ في ختام الفصل السابق إلى ما ذكرته المؤلفة الإنجليزية "بتشر" في كتابها تاريخ الأمة القبطيَّة من أن آريوس كان داعية قويًّا إلى أن عيسى عبدُ الله ورسوله، ليس إلهًا ولا ابن إله، وتستمر قائلة في بيان أسباب انعقاد مؤتمر نيقية: "ولما غرس آريوس غرسه هذا في يوساب أسقف نيكومديا آبَ إلى فلسطين؛ حيث سمح له يوسيبوس أسقف قيصرية وأساقفة آخرون بأن يَعْقِدَ جمعيَّات دينيَّة في أبروشيات مختلفة ليعظ فيها"، ثم تشير المؤلِّفة في ص 204 و205 إلى انتشار دعوة آريوس، وأن الإمبراطور أرسلَ مكتوبًا إلى البطريرك إسكندر وآريوس معًا لمحاولة إيقاف النزاع، وأنه لم يفلحْ في إيقاف هذا الشقاق عند حدِّه، فأصدر قسطنطين أوامره باجتماع جميع الأساقفة في نيقية ليفحصوا هذا المشكل ويبتُّوا فيه حكمًا قاطعًا بكلِّ صراحة وإمعانٍ، وبناء على ذلك الْتَأَمَ هذا المجمع الشهير سنة 325م، وفيه كُتب أولُ نسخة من قانون الإيمان النيقاوي.

ثم تقول في ص 207: "وقد يظنُّ البعضُ أن شقاق آريوس قد انتهى عند هذا الحدِّ، والحقيقة أنه بدأ يستفحل"، ثم تقول في ص 215: "أما ميليتيوس وآريوس فلم يكونا يرضخان لحكم المجمع النيقاوي؛ ولذلك بدأت اضطرابات جديدة تقع في الكنيسة المصرية. اهـ"، ويقول المعلِّقُ على هذا الكتاب وهو تادرس شنودة في هامش قرارات مؤتمر نيقية: "جاء في القانون الذي وضعه المجمع النيقاوي أنه قرَّر أن يصلِّي النصارى قائمين بدل ما كانوا يصلون راكعين. اهـ".

هذا، وقد كانت كنيسة الإسكندرية قائمة على قدمٍ وساق للقضاء على آريوس ومذهبه، وزعم البطريرك بطرس أن المسيح لَعَنَ آريوس، وأنه يحذرهم منه، وقال بطرس: "إني رأيت المسيح في النوم مشقوقَ الثوب، فقلت له: يا سيدي، من شَقَّ ثوبَك؟ فقال لي: آريوس، فاحذروا أن تدخلوه معكم".

هذا، وقد ساق سعيد بن البطريق الطبيب النصراني المؤرخ الشهير وكان من أهل فسطاط مصر ومولده في يوم الأحد لثلاث بقين من ذي الحجة سنة 263هـ، وعُيِّن بطريرك للإسكندرية في 8 من صفر سنة 321هـ، وتوفي في رجب سنة 328هـ - ساق ابن البطريق هذا في تاريخه في وصف المجتمعين في مؤتمر نيقية وعددهم ومذاهبهم، يقول ابن البطريق: بَعَثَ الملك قسطنطين إلى جميع البلدان، فجمع البطاركة والأساقفة فاجتمع في مدينة نيقية ثمانية وأربعون وألفان من الأساقفة، وكانوا مختلفين في الآراء والأديان، فمنهم من كان يقول: إن المسيح وأمه إلهان من دون الله، ومنهم من كان يقول: إن المسيح من الأب بمنزلة شعلة نار انفصلت من شعلة نار، فلم تنقص الأولى بانفصال الثانية عنها، ومنهم من كان يقول: لم تحبل به مريم تسعة أشهر وإنما مرَّ في بطنها كما يمر الماء في الميزاب؛ لأن الكلمة دخلت في أذنها وخرجت من حيث يخرج الولد من ساعتها، ومنهم من كان يقول: إن المسيح إنسان خلق من اللاهوت كواحد منَّا في جوهره، وأن ابتداء الابن من مريم، وأنه اصطفي ليكون مخلصًا للجوهر الإنسي، صحبته النعمة الإلهية، وحلَّت فيه بالمحبة والمشيئة؛ ولذلك سُمِّي ابن الله، ويقولون: إن الله جوهر قديم واحد، وأقنوم واحد، ويسمونه بثلاثة أسماء، ولا يؤمنون بالكلمة ولا بروح القدس، ومنهم من كان يقول: إنهم ثلاثة آلهة لم تزل: صالح وطالح وعدل بينهما، ومنهم من كان يقول بألوهية المسيح، وهي مقالة بولس الرسول، يعني: شاؤول اليهودي.

وهكذا أورد ابن البطريق صورة واضحة لعدد ومذاهب المجتمعين في مؤتمر نيقية عام 325م لتقرير الديانة النصرانية، وقد نَصَرَ المذهبَ الأخيرَ - وهو القول بألوهية المسيح الذي كان ابتدعه شاؤول (بولس) - ثمانية عشر وثلاثمائة أسقف، وخالفهم ثلاثون وسبعمائة وألف أسقف، والعجيب الغريب أن الإمبراطور قسطنطين لم يلتفت إلا لقول القائلين بألوهية المسيح، وعقد مجلسًا خاصًّا لأصحاب هذا الرأي يصفُه ابن البطريق إذ يقول: وضع الملك للثلاثمائة والثمانية عشر أسقفًا مجلسًا خاصًّا عظيمًا، وجلس في وسطهم وأخذ خاتمه وسيفه وقضيبه فدفعه إليهم، وقال لهم: قد سلطتكم اليوم على مملكتي لتصنعوا ما ينبغي لكم أن تصنعوا مما فيه قوام الدين وصلاح المؤمنين، فباركوا الملك، وقلَّدوه سيفَه وقالوا له: أظهر دينَ النصرانية وذبَّ عنه، ووضعوا له أربعين كتابًا فيها السنن والشرائع منها ما يصلح للملك أن يعلمه ويعمل به، ومنها ما يصلح للأساقفة أن يعملوا به. اهـ".

ومن هذا التاريخ حُرمت مخالفة هذا المذهب وحورب مخالفوه وحُرِّم العمل بأي إنجيل عدا الأناجيل الأربعة: متَّى ومرقص ولوقا ويوحنا.

وقد أشار الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم إلى هذه المذاهب النصرانية المنحرفة عن دين المسيح عليه السلام حيث يقول عز وجل في سورة مريم: ﴿ ذَلِكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ * أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [مريم: 34 - 38].

ويقول عز وجل في سورة الزخرف: ﴿ وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ ﴾ [الزخرف: 63 - 65].

على أنَّ اليهود والنصارى مع إقرارهم في كتبهم بإله إبراهيم وإسحاق ويعقوب الإله الواحد الحق، فإن اليهودَ عبدوا العُزيرَ واتَّخذوا أحبارَهم أربابًا من دون الله، وعبدَ النصارى المسيحَ واعتقدوه إلهًا وابن إله، كما اتخذوا رهبانَهم أربابًا من دون الله.

وفي ذلك يقول تبارك وتعالى في سورة التوبة: ﴿ قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ * وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة: 29 - 33].

وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #16  
قديم 26-07-2025, 06:57 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,508
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المسيح ابن مريم عليه السلام

المسيح ابن مريم عليه السلام (16)



الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد



ذكرْتُ في ختامِ المقال السابق ما ذكره الله عز وجل في كتابه الكريم عن اتِّخاذ اليهود والنصارى أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله، وأنهم ما أُمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا لا إله إلا هو سبحانه عمَّا يُشركون.

وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اليهودَ والنصارى كانوا إذا كان فيهم الرجلُ الصالحُ فمات بنوا على قبره مسجدًا وصوَّروا فيه صورًا، مشيرًا إلى أن ذلك أوصلهم إلى عبادة غير الله؛ ولذلك حذَّر المسلمين من مثل عملِ هؤلاء اليهود والنصارى، وحرَّم اتِّخاذ المساجد على القبور، ولم تشغله سكرات الموت صلى الله عليه وسلم عن التحذير من هذا العمل غير الصالح؛ فقد روى البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أن أمَّ حبيبة وأمَّ سلمة ذكرتا كنيسةً رأيْنَها بالحبشة فيها تصاوير، فذكرتا للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا وصوَّروا فيه تلك الصور، فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة))، وفي رواية للبخاري ومسلم واللفظ للبخاري من حديث عائشة وابن عباس رضي الله عنهما قالا: لمَّا نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصةً له على وجهه فإذا اغتمَّ بها كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك: ((لعنة الله على اليهود والنصارى اتَّخذوا قبور أنبيائهم مساجد))؛ يحذِّر ما صنعوا، وفي رواية للبخاري ومسلم، واللفظ للبخاري من حديث عائشة رضي الله عنها أن أم سلمة ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسةً رأَتْها بأرض الحبشة يقال لها: مارية، فذكرت له ما رأت فيها من الصور، فقال رسول الله: ((أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا وصوَّروا فيه تلك الصور؛ أولئك شِرار الخلق عند الله))، كما روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((قاتلَ اللهُ اليهودَ اتَّخذوا قبور أنبيائهم مساجد))، كما روى البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي مات فيه: ((لعن الله اليهودَ والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))، قالت: ولولا ذلك لأبرزُوا قبرَه، غير أني أخشى أن يُتَّخَذَ مسجدًا، وفي لفظ مسلم: "فلولا ذاك أبرز قبره، غير أنه خُشي أن يتخذ مسجدًا"، كما روى مسلم في صحيحه، من حديث جندب رضي الله عنه قال: سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: ((إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل؛ فإن الله تعالى قد اتَّخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا، ولو كُنْتُ متخذًا من أمتي خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتَّخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجدَ، فلا تتخذوا القبورَ مساجد، إني أنهاكم عن ذلك)).

وقد شنع الله تبارك وتعالى على من اعتقد أن لله ولدًا، وبشَّع مقالتهم، وسَفَّهَ عقيدتهم، وأقامَ الأدلَّة القاطعة على بطلان مذهبهم، وفساد مقولتهم في مواضع كثيرة من كتابه الكريم، وأنه تعالى: ﴿ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 3، 4]، وأن جميع من زُعم أنه ابن الله هو عبدٌ من عبيده، والعبدُ لا يكون ولدًا لسيده وخالقه ورازقه وإلهه، وأن ادِّعاء أن لله ولدًا قول فظيع ومنكر شنيع، تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخرُّ الجبال هدًّا.

وأشار تبارك وتعالى إلى سخافة عقول بعض مشركي العرب؛ إذ كانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله، ولما سئلوا: من أمهات الملائكة؟ فقالوا: سروات الجن؛ أي: شريفات الجن، مع أن الواحد من هؤلاء كان إذا أنجب بنتًا اسودَّ وجهه وصار كظيمًا يتوَارى من القوم من سوء ما بُشِّر به، أيُمسِكُه على هُونٍ أم يدسُّه في التراب، فكيف ينسبون البنتَ إلى الله وهم لا يفرحون بها إذا ولدوها، وهذا من أقبح أخلاقهم وأسوأ معتقداتهم، وقد جعلوا بهذا المعتقد الفاسد بين الجِنَّة وبين الله نَسَبًا، ولقد علمت الجنة إنهم لَمُحضرون؛ أي: لو كانوا أنسباء الله ما عذبهم، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا.

وفي ذلك كلِّه يقول الله عز وجل في سورة البقرة: ﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ﴾ [البقرة: 116].

ويقول في سورة يونس: ﴿ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ﴾ [يونس: 68، 69].

ويقول عز وجل في ختام سورة الإسراء: ﴿ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ﴾ [الإسراء: 111].

ويقول في مطلع سورة الكهف: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا * وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا ﴾ [الكهف: 1 - 5].

ويقول تعالى في سورة مريم: ﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ﴾ [مريم: 88 - 95].

ويقول في سورة الأنبياء: ﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 26 - 29].

ويقول في مطلع سورة الفرقان: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا * وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا ﴾ [الفرقان: 1 - 3].

ويقول تعالى في سورة الزمر: ﴿ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ [الزمر: 4].

ويقول تعالى في سورة الجن: ﴿ وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا ﴾ [الجن: 3].

ويقول في سورة الإخلاص: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص: 1 - 4].


ويقول في سورة الصافات: ﴿ فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ * أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ * فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ [الصافات: 149 - 159].

وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #17  
قديم 26-07-2025, 06:58 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,508
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المسيح ابن مريم عليه السلام

المسيح ابن مريم عليه السلام (17)



الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد



قد أشرْتُ في الفصل السَّابق إلى ما قصَّ الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم مما يثبت سخافةَ عقولِ من يتَّخِذ لله ولدًا، وقد سُقْتُ جملةً كبيرةً من هذه الآيات المندِّدَة بفساد تصوُّر هؤلاء، وأنهم قد انحدروا إلى الدرك الأسفل في التصوُّر، وقد أشار الله تبارك وتعالى كذلك إلى أن من زعم أن لله ولدًا فقد اتخذ لله شريكًا، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا، وتنزَّه عن الشريك والنِّدِّ والنظير والولد والصاحبة.

وفي ذلك يقول الله عز وجل في سورة الأنعام: ﴿ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾؛ (أي اختلقوا له أولادًا وبنات بغير بيِّنة ولا برهان) ﴿ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الأنعام: 100 - 103].

ويقول تعالى في سورة النحل: ﴿ وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ * وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ * وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ * ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ * وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ * وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ * وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ ﴾ [النحل: 51 - 62].

ويقول تعالى في سورة الزخرف: ﴿ وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ * أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ * وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ * وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ﴾ [الزخرف: 15 - 19].

ويقول تعالى في سورة الطور: ﴿ أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ ﴾ [الطور: 39].

وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربِّه في الحديث القدسي أن من ادَّعى أن لله ولدًا فقد سبَّ الله وشتمه، ويا ويل من سبَّ الله وشتمه، وأنه لولا حِلم الله لعاجلهم بالعقوبة؛ فقد روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله: شتمني ابن آدم وما ينبغي له أن يشتمني، وكذَّبني وما ينبغي له، أما شتمه فقوله: إن لي ولدًا، وأما تكذيبه فقوله: ليس يعيدني كما بدأني))، كما روى البخاري في صحيحه من حديث حبر الأمة وترجمان القرآن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قال الله: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك؛ فأما تكذيبه إياي فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي فقوله: لي ولد، فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولدًا!))، كما روى مسلم في صحيحه من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال سول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا أحدَ أصبر على أذًى يسمعه من الله عز وجل، إنه يُشرَك به ويُجعَل له الولد ثم هو يعافيهم ويرزقهم))، وفي لفظ لمسلم من حديث أبي موسى الأشعري عبدالله بن قيس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أحدٌ أصبر على أذى يسمعه من الله تعالى، إنهم يجعلون له ندًّا ويجعلون له ولدًا، وهو مع ذلك يرزقهم ويعافيهم ويعطيهم)).

ومع هذه الأدلَّة الكثيرة الصريحة المحكمة في كتاب الله تعالى مكيَّةً ومدنيًّةً، وفي أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة الثابتة بأن الله تعالى منزَّهٌ عن الولد والصاحبة، فإن نصارى نجران عندما وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة التاسعة من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم حاولوا الاستدلالَ على أن عيسى ابن الله ببعض ألفاظ في كتاب الله، حاملين لها على غير ما أُريد بها، بسبب زيغ في قلوبهم ابتغاء الفتنة والصدِّ عن سبيل الله، فزعموا أنَّ في القرآن دليلًا على أن عيسى ابن الله في قوله تعالى: ﴿ وَرُوحٌ مِنْهُ ﴾ [النساء: 171]؛ إذ حملوا لفظ (مِن) في هذه الآية على التبعيض، فيكون عيسى بعضًا من الله وجزءًا منه، وتجاهلوا أن (من) في هذا المقام لا يُراد بها التبعيض، وإنما يُراد بها ابتداءُ الغاية؛ أي: إن عيسى روح من الأرواح التي ابتدأ الله خلقها، وتعاموا عن الآيات الكثيرة الصريحة في أن عيسى عبدُ الله وخَلقٌ من خلقه، والعبد لا يكون ولدًا، وأن الله ﴿ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 3، 4].

ولا شكَّ في أن العرب يستعملون كلمة "مِن" في معانٍ كثيرة: منها ابتداء الغاية كهذه، ومنها بيانُ الجنس كقوله تعالى: ﴿ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ﴾ [الحج: 30]؛ أي: اجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان، ومن معانيها التبعيض كقولك: أكلت مِن هذا الرغيف؛ أي: أكلت بعضَه... إلى معانٍ كثيرة، فنصارى نجران تركوا المعنى الظاهر المتبادر المحكم ولجؤوا إلى المعنى غير المُراد مستغلِّين تشابه اللفظ، وقد أنزل الله تبارك وتعالى في شأنهم من أول سورة آل عمران إلى الآية الرابعة والثمانين منها، ردَّ فيها باطلَهم وأَدْحَضَ شُبهتَهم، وبيَّن أنهم بسببِ زيغ قلوبهم يتَّبعون ما تشابه من القرآن ويتعامون عن المُحكم الصريح الجَلِيِّ المثبت أن الله لم يتَّخذ ولدًا؛ إذ إن الله تبارك وتعالى جعل من القرآن محكمًا وجعل منه متشابهًا، والمحكم الواضح الجلي الذي لا يَخفى علم المراد منه على العامة والخاصة، وأما المتشابه فهو اللفظ الذي يحتمل أكثر من معنى كلفظ (مِنْ) في قوله تعالى: ﴿ وَرُوحٌ مِنْهُ ﴾، فأما أهل الإيمان فيردُّون متشابهه إلى محكمه، ويحملون معنى (مِن) هنا على ما أُريد منها، وهو ابتداء الغاية، وأما الذين في قلوبهم زيغ فيحملونه على المعنى غير المراد، ﴿ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ﴾ [آل عمران: 7]، فكلامه لا يتناقض ولا يتضارب، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.

وقد ذَكَرَ اللهُ تبارك في هذا المقام من سورة آل عمران أدلةً جليَّةً بأنه ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ [آل عمران: 2]، وأنه أنزل على محمدٍ صلى الله عليه وسلم القرآنَ بالحقِّ، كما أنزل التوراةَ على موسى والإنجيل على عيسى ﴿ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ * إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ * هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [آل عمران: 4 - 6].

وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #18  
قديم 26-07-2025, 06:59 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,508
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المسيح ابن مريم عليه السلام

المسيح ابن مريم عليه السلام (18)



الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد



بعد أن قَرَّرَ الله تبارك وتعالى في صدر سورة آل عمران أنه ربُّ كلِّ شيء وأنه ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ [البقرة: 255]، وقَرَّرَ رسالة موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم وهو يقتضي أن عيسى عبدٌ من عبيد الله ورسول من رسله ليس إلهًا ولا ابن إله؛ حيث يقول عز وجل:
﴿ الم * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ * إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ * هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [آل عمران: 1 - 6].

شرعَ في إبطالِ شبهة نصارى نجران ومَن على شاكلتهم مِن الذين يتركون المحكَم الجليَّ الواضح القطعيَّ الدلالة الذي لا يحتمل إلا معنًى واحدًا، ويستدلون بالألفاظ المتشابهة المحتملة لمعانٍ كثيرة، ويتعلَّقون ببعض المعاني غير المرادة منها، مع أن هذه المعاني المتشابهة لا يمتاز بعضها عن بعض في الأصل لو كانت هذه الألفاظ مفردة غير واردة في سياق الكلام؛ لأنها إذا كانت واردة في سياق كلام فإن هذا السياق يحدِّد المراد منها؛ وهذا أمر معروف في معاني الحروف، لكن الذي في قلبه زيغ ومَيل عن الحق إلى الباطل يتتبع المتشابهات ويترك الواضحات الجليَّات، وفي ذلك يقول الله عز وجل: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾؛ (أي: هنَّ الأصول والقواعد التي يُرجع إليها عند الاختلافِ والاشتباهِ لقطعية دلالتها، وعدم احتمالها إلا لمعنى واحد)، ﴿ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ﴾؛ (أي: تحتمل أكثر من معنى ابتلاء واختبارًا، وإن كان سياق الكلام يحدد المراد منها) ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ﴾ [آل عمران: 7]؛ (أي فأمَّا الذين في قلوبهم ميلٌ عن الحق والاستقامة إلى الأهواء الباطلة، المنحرفون عن سنن الرشاد، المُصِرُّون على الشرِّ والفساد والعناد، فإنهم لا يتعلقون بالمحكمات الجليَّات، وإنما يتعمدون الألفاظ المشتبهات لا تحريًا للحق بل لطلب فتنة الناس عن دينهم بالتشكيك والتلبيس والتأويل الباطل حسبما يشتهون من التأويلات الفاسدة، والآراء الزائغة، وهم ليسوا أهلًا لتأويل كتاب الله، فتأويله يعلمه الله عز وجل ومن وَفَّقَهُ من عباده الراسخين في العلم الذين ثبتوا على الحقِّ وتمكَّنوا فيه ولم يتزلزلوا عن الهدى؛ ولذلك يقول الله عز وجل: ﴿ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [آل عمران: 7]؛ أي: والثابتون على الحق المستقرُّون على العلم والهدى، يسارعون إلى الإيمان بمحكم الكتاب ومتشابهه، ويردُّون متشابهه إلى محكمه ويقولون: المحكم والمتشابه من القرآن كله من عند الله منزَّل بالحق لا يتناقض ولا يتعارض ولا يتضارب ولا يتضاد ولا يختلف)، ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82].

وعندما لم يسارعْ نصارى نجران إلى الإيمان بالحقِّ والتصديق بأن عيسى عبدُ الله ورسوله، ليس إلهًا ولا ابن إله، طلب الله تعالى من رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن يباهلهم، بعد أن بيَّن لهم أن ﴿ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ﴾ [آل عمران: 59]، فكما أن الله خلق آدم من غير أب ولا أم، بل من تراب، فقد خلق عيسى من غير أب للدلالة على أن الله على كل شيء قدير، لا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض، فقال عز وجل: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ * قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 59 - 64].

وعندما طلب اللهُ تعالى من رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن يباهلهم بادر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إليهم، وقرأ عليهم آيةَ المباهلة، فخافوا أن يباهلوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وأيقنوا أن ما جاء به هو الحق؛ فقد روى البخاري في صحيحه من حديث حذيفة رضي الله عنه قال: جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن يلاعناه، قال: فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل، فوالله لئن كان نبيًّا فَلَاعَنَنَا لا نفلحُ نحن ولا عقبُنا من بعدنا، قالا: إنا نعطيك ما سألتنا وابعث معنا رجلًا أمينًا ولا تبعث معنا إلا أمينًا، فقال: ((لأبعثنَّ معكم رجلًا أمينًا حقَّ أمينٍ))، فاستشرف له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((قُمْ يا أبا عبيدة بن الجراح))، فلما قام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هذا أمين هذه الأمة))، وفي لفظ للبخاري من حديث حذيفة رضي الله عنه قال: جاء أهل نجران إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ابعث لنا رجلًا أمينًا، فقال: ((لأبعثنَّ إليكم رجلًا أمينًا حقَّ أمين))، فاستشرف له الناس، فبعث أبا عبيدة بن الجراح، وقد روى مسلم في صحيحه من حديث حذيفة رضي الله عنه قال: جاء أهل نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، ابعث إلينا رجلًا أمينًا فقال: ((لأبعثنَّ إليكم رجلًا أمينًا حقَّ أمينٍ، حقَّ أمينٍ))، قال: فاستشرف لها الناس، قال: فبعث أبا عبيدة بن الجراح، وفي رواية لمسلم من حديث أنس رضي الله عنه أن أهل اليمن قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ابعث معنا رجلًا يعلمنا السُّنَّةَ والإسلامَ، قال: فأخذ بيد أبي عبيدة فقال: ((هذا أمين هذه الأمة)).

هذا، وقوله تعالى لعيسى عليه السلام: ﴿ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ [آل عمران: 55] يفيدُ أن الله تبارك وتعالى قضى أنَّ مَنْ آمنَ بعيسى عليه السلام وصدَّقه وأقرَّ أنه عبدُ الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، يُعِزُّه اللهُ تعالى ويرفعُ منزلتَه فوق كلِّ كافر في الحياة الدنيا، فما بالك بما أعدَّه الله للمؤمنين في الآخرة؟! وهذا كقوله تعالى: ﴿ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ﴾ [النساء: 141]، وكقوله تعالى: ﴿ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الروم: 47]، وكقوله تعالى: ﴿ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ﴾ [غافر: 51]، وكقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ﴾ [الصف: 14].

ولا شكَّ في أنه بعد إرسال محمد صلى الله عليه وسلم فقد نَسَخَ الله بشريعته الشرائعَ السابقة، ولا يقبل من أحدٍ إلا أن يتبع محمدًا صلى الله عليه وسلم، كما أثر في الحديث القدسي: ((وعزَّتِي وجلالي، لو جاؤوا من كل طريق واستفتحوا من كل باب ما فتحت لهم إلا أن يجيئوا من طريقك))؛ كما ذكره ابن القيم.

ولا شكَّ في أن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم يقتضي الإيمان بعيسى وجميع الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، على حد قوله تعالى: ﴿ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 136].

وكقوله تعالى: ﴿ قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 84، 85].

وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #19  
قديم 26-07-2025, 07:00 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,508
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المسيح ابن مريم عليه السلام

المسيح ابن مريم عليه السلام (19)



الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد





أشرْتُ في ختام الفصل السابق إلى قوله تعالى لعيسى عليه السلام: ﴿ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ [آل عمران: 55]، وسُقْتُ نظائرها من كتاب الله تعالى، ولا يتنافى ذلك مع ما قد يحدث للمؤمنين من أن يُهْزَمُوا في حرب، أو أن يمسَّهم قرحٌ، فإن الله تبارك وتعالى قد يبتلي عبادَه المؤمنين ليُمَحِّصَ ﴿ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ﴾ [آل عمران: 141]، فإن المؤمن عزيز بالله في حالة النصر وفي حالة الهزيمة؛ ولذلك كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفرحون إذا نالوا من عدوِّهم، ولا يجزعون إن نال منهم عدوُّهم، وفي ذلك يقول كعب بن زهير في قصيدته "بانت سعاد" وهو يصف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ليسوا مَفَارِيحَ إنْ نَالَتْ رماحُهمُ
قومًا، وليسوا مجازيعًا إذا نِيلُوا




وكقول حسان رضي الله عنه:
نَسْمُوا إذا الحَرْبُ نالتْنَا مخلابها
إذا الزعانفُ من أظفارِها خَشَعُوا
لا يفخَرُون إذا نالُوا عدوَّهمُ
وإن أصيبُوا فلا خورٌ ولا هلعُ
كأنهمْ في الوغَى، والموتُ مكتنعٌ
أُسْدٌ بِحلبة في أرْسَاغِها فدَعُ


وقوله: والموت مكتنعٌ، أي: قريب مشاهد، فإنهم لا يهابون أسباب المنايا، ولم يعرف أن واحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قُتِلَ وهو مدبِر؛ ولذلك يقول كعب بن زهير:
لا يقعُ الطعنَ إلا في نحورِهم
وما لهم عنْ حِيَاضِ الموتِ تهليلُ




وقوله: وما لهم عن حياضِ الموت تهليل، أي: لا يفرون من مَوَاردِ الهلاك وساحات القتال ولا يتأخرون عنها، ونصر الله لعباده المؤمنين وإعزازه لهم حاصل على كل حال.

ولنضرب لذلك مثلًا من قصة أصحاب الرجيع رضي الله عنهم؛ فقد روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سريَّةً عينًا، وأمَّر عليهم عاصمَ بن ثابت، فانطلقوا حتى إذا كانوا بين عُسفان ومكة ذكروا لحي من هذيل يقال لهم: بنو لحيان؛ فتبعوهم بقريب من مائة رام فاقتصوا آثارهم حتى أتوا منزلًا نزلوه، فوجدوا فيه نوى تمر تزودوه من المدينة، فقالوا: هذا تمر يثرب، فتبعوا آثارهم حتى لحقوهم، فلما انتهى عاصم وأصحابه لجؤوا إلى فدفد (أي: رابية مشرفة)، وجاء القوم فأحاطوا بهم فقالوا: لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا ألا نقتل منكم رجلًا، فقال عاصم: أما أنا فلا أنزل في ذمَّةِ كافرٍ، اللهمَّ أخبر عنَّا نبيَّك، فرموهم حتى قتلوا عاصمًا في سبعة نفرٍ بالنبل، وبقي خُبيب وزيد ورجل آخر، فأعطوهم العهد والميثاق، فلما أعطوهم العهد والميثاق نزلوا إليهم، فلما استمكنوا منهم حلوا أوتار قسيِّهم فربطوهم بها، فقال الرجل الثالث الذي معهما: هذا أول الغدر، فأبى أن يصحبهم، فجرروه وعالجوه على أن يصحبهم فلم يفعل، فقتلوه، وانطلقوا بخُبيب وزيد حتى باعوهما بمكة، فاشترى خُبيبًا بنو الحارث بن عامر بن نوفل، وكان خُبيب هو قتل الحارث يوم بدر؛ فمكث عندهم أسيرًا حتى إذا أجمعوا قتله، استعار موسًى من بعض بنات الحارث ليستحدَّ بها؛ "أي ليستطيب بها، ويزيل شعر عانته"، فأعارته، قالت: فغفلت عن صبيٍّ لي، فدَرَجَ إليه حتى أتاه، فوضعه على فخذِه، فلما رأيتُه فزعتُ فزعةً عرف ذلك منِّي، وفي يدِه الموسى، فقال: أتخشين أن أقتله؟! ما كنتُ لأفعل ذلك إن شاء الله، وكانت تقول: ما رأيت أسيرًا قطُّ خيرًا من خبيب، لقد رأيتُه يأكل من قطف عنب، وما بمكة يومئذ ثمرةٌ، وإنه لموثق في الحديدِ، وما كان إلا رزقًا رزقه الله، فخرجوا به من الحرم ليقتلوه، فقال: دعوني أصلي ركعتين، ثم انصرف إليهم، فقال: لولا أن تروا أن ما بي جزعٌ من الموت لزدتُ، فكان أولَ مَن سنَّ الركعتين عند القتل، ثم قال: اللهمَّ أحصهم عددًا ثم قال:
ولستُ أبالي حين أُقتل مسلمًا
على أيِّ شقٍّ كان لله مَصرعي
وذلك في ذاتِ الإلهِ وإن يشأ
يبارِك على أوصالِ شلو ممزَّعِ


ثم قام إليه عقبة بن الحارث فقتله، وبعثت قريش إلى عاصم ليؤتوا بشيء من جسده يعرفوه، وكان عاصم قَتَل عظيمًا من عظمائهم يوم بدر، فبعث الله عليه مثل الظُّلة من الدَّبر؛ "أي: مثل السحابة من الزنابير أو ذكور النحل لحمايته من أن يمثِّلوا بشيء من جسده"، فحمته من رسلهم فلم يقدروا منه على شيء.

وقد زعم بعض الناس أن المراد من قوله تعالى: ﴿ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ [آل عمران: 55] أن المراد من الذين اتبعوه هم النصارى والذين كفروا هم اليهود؛ وهذا قول غير سديد، فإن من زعم أن عيسى إله أو ابن إله أو أن الله ثالث ثلاثة لا يكون من أتباع عيسى عليه السلام، بل يكون من أعدائه، فمن أفرط في عيسى من النصارى كمن فرَّط فيه من اليهود، فكلهم أعداء الله، وأعداء المرسلين؛ ولذلك حذَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يغلوا في رسول الله صلى الله عليه وسلم كما غلت النصارى في المسيح ابن مريم؛ فقد روى البخاري في صحيحه من طريق ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول على المنبر: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبدٌ فقولوا: عبدُ الله ورسوله)).

وبيَّن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن الجنة لا يدخلها أحد ممَّن جاء بعد عيسى عليه السلام إلا إذا أقرَّ بأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه؛ فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عُبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق - أدخله الله الجنة على ما كان من العمل)).

وقد حكم الله تعالى وقضى أن من ادَّعى أن عيسى إله أو ابن إله أو أن الله ثالث ثلاثة فهو كافر مشرك يُحرم الله عليه الجنة؛ حيث يقول عز وجل: ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [المائدة: 17].

وقال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [المائدة: 72، 73].

وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #20  
قديم 26-07-2025, 07:01 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,508
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المسيح ابن مريم عليه السلام

المسيح ابن مريم عليه السلام (20)



الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد





ذكرتُ في ختام الفصل السابق أن الله تعالى حكمَ بكفر من ادَّعى أن المسيح ابن الله، أو أنه الله، أو أن الله ثالث ثلاثة، وسقت صريحَ القرآن الكريم في ذلك، وقد بيَّن الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم مشهدًا من مشاهد الحقِّ يَسأل فيه عيسى ابن مريم للتنديد بمن عبده وأمه مع الله عز وجل، حيث يقول: ﴿ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ﴾ [المائدة: 109].

ثم يقول تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [المائدة: 116 - 118].

وليس في قوله تعالى هنا: ﴿ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [المائدة: 118] ما يفهم أنه مَن مات على الشرك قد يغفر له؛ لأن الكلام منصب على جملة من جاءهم عيسى عليه السلام، وفيهم من آمن به على أنه عبد الله ورسوله، ومنهم من كفر به في حياته بينهم، ومنهم من كفر به بعد رفعه؛ إذ زعم أنه إله أو ابن إله، والمقصود من السياق يفيد أن عيسى عليه السلام ما قال لهم إلا ما أمره الله عز وجل به أن اعبدوا الله وحده لا شريك له، وأنه يشهد لمن أجابه مدة حياته بينهم، ويشهد على من عصاه مدة حياته كذلك، فلما رفعه الله إليه ارتفع علمه عن أحوالهم، وكان اللهُ وحدَه هو الرقيب عليهم، لا يعلم عيسى من أمرهم شيئًا سواء في ذلك من اتبعه على الهدى أو ضل عن سواء السبيل، فمردُّ الجميع إلى الله يعذب من يشاء من العصاة عدلًا، ويثيب ويغفر لمن يشاء فضلًا؛ لأن الجميع عباده وهو العزيز الحكيم، وقد روى مسلم في صحيحه من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم: ﴿ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [إبراهيم: 36]، وقال عيسى عليه السلام: ﴿ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [المائدة: 118] فرفع يديه وقال: ((اللهم أمَّتي أمَّتي))، وبكى، فقال الله عز وجل: ((يا جبريل، اذهب إلى محمد - وربُّك أعلم - فَسَلْهُ: ما يبكيك؟))، فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فسأله، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال، وهو أعلم، فقال الله: ((يا جبريل، اذهب إلى محمدٍ فقل: إنا سنرضيك في أمَّتك ولا نسوؤك)).

ولا شكَّ في أنه بقي إلى زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم مَن كان يعرف من النصارى أن عيسى عبد الله ورسوله بسبب امتداد دعوة آريوس ومن تبعه؛ ولذلك لما قرأ جعفر بن أبي طالب على النجاشي ملك الحبشة بعضَ سورةِ مريم مما اشتمل على قصة ولادة المسيح وكلامه في المهد بأنه عبد الله آتاه الكتابَ وجعله نبيًّا - بكى النجاشي حتى اخضلَّتْ لحيته، وصرَّح بأن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم في توحيد الله يخرج هو والذي جاء به عيسى من مشكاة واحدة.

فقد قال ابن إسحاق في السيرة النبوية: حدثني محمد بن مسلم الزهري عن أبي بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي عن أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: "لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي، أمِنِّا على ديننا، وعبدنا الله تعالى لا نؤذى ولا نَسمع شيئًا نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشًا، ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين منهم جلدين، وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يُستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها الأدم، فجمعوا له أدمًا كثيرًا، ولم يتركوا من بطارقته بطريقًا إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك عبدالله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص، وأمروهما بأمرهم، وقالوا لهما: ادفعا إلى كلِّ بطريق هديته قبل أن تكلما النجاشي فيهم، ثم قدما إلى النجاشي هداياه ثم سلاه أن يسلمهم إليكما قبل أن يكلمهم، قالت: فخرجا حتى قدما على النجاشي ونحن عنده بخير دار عند خير جارٍ، فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي، وقالا لكلِّ بطريق منهم إنه قد ضوى إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم، وجاؤوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردوهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم، فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم، فإن قومهم أعلى بهم عينًا، وأعلم بما عابوا عليهم، فقالوا لهما: نعم، ثم إنهما قدما هداياهما إلى النجاشي فقبلها منهما، ثم كلماه فقالا له: أيها الملك، إنه قد ضوى إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عينًا، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه، قالت: ولم يكن شيء أبغض إلى عبدالله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع كلامهم النجاشي، قالت: فقالت بطارقته حوله: صدقًا أيها الملك، قومهم أعلى بهم عينًا، وأعلم بما عابوا عليهم، فأسلِمهم إليهما فيرداهم إلى بلادهم وقومهم، قالت: فغضب النجاشي، ثم قال: لاها الله! إذًا لا أسلمهم إليهما، ولا يكاد قوم جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على مَن سواي حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما وأحسنت جوارهم ما جاوروني، قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول والله ما علمنا وما أمرَنا به نبيُّنا صلى الله عليه وسلم كائنًا في ذلك ما هو كائن، فلما جاؤوا وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله سألهم فقال لهم: ما هذا الدِّين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الملل؟ قالت: فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب، فقال له: أيها الملك، كنَّا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنامَ، ونأكل الميتةَ، ونأتي الفاحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القويُّ منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولًا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحِّده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصِدق الحديث وأداء الأمانة وصِلة الرَّحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقولِ الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد اللهَ وحده لا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، قالت: فعدَّدَ عليه أمورَ الإسلام، فصدقناه وآمنا به واتَّبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا اللهَ وحده، فلم نشرك به شيئًا، وحرمنا ما حرَّم علينا، وأحللنا ما أحلَّ لنا، فعدا علينا قومُنا فعذَّبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحلَّ من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيَّقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك واخترناك على مَن سواك، ورغبنا في جوارك ورجونا ألا نُظلم عندك أيها الملك، قالت: فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ فقال له جعفر: نعم، فقال له النجاشي فاقرأه عليَّ، فقرأ عليه صدرًا من سورة مريم، قالت: فبكى واللهِ النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج مِن مشكاة واحدة، انطلِقا فلا والله لا أسلمهم إليكما ولا يكادون..."؛ إلخ الحديث.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 172.01 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 166.16 كيلو بايت... تم توفير 5.85 كيلو بايت...بمعدل (3.40%)]