معارك حربية مهمة فى التاريخ الاسلامى ...يوميا فى رمضان - الصفحة 2 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         شرح صحيح مسلم الشيخ مصطفى العدوي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 269 - عددالزوار : 54215 )           »          طريقة عمل صينية بطاطس مهروسة بالكفتة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          7 علامات تدل على أنك تنمو داخليًا.. تتحمل المسؤولية ولا تهرب من المواجهات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 23 )           »          4 خطوات لحفظ الحبوب والبقوليات بطريقة صحيحة وحمايتها من التلف (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »          طريقة عمل طاسة سجق بالجبنة.. لذيذة ومش بتاخد وقت (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          وصفات طبيعية لتطويل الشعر بخطوات بسيطة.. مش هتاخد وقت كتير (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          طريقة عمل رقائق الجبنة بخطوات بسيطة.. مقرمشة وطعمها لذيذ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          5 عادات يومية تتسبب فى ظهور البثور وخطوط التجاعيد.. أبرزها الهاتف المحمول (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          رجعتى من المصيف ولونك اتغير.. 4 خطوات لتفتيح البشرة وتوحيد لونها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          كيف تجعل ابنك المراهق يثق بك ويتحدث إليك بحرية؟.. كُن قدوة في الصراحة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث > ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم قسم يختص بالمقاطعة والرد على اى شبهة موجهة الى الاسلام والمسلمين

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #11  
قديم 01-04-2023, 12:30 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,180
الدولة : Egypt
افتراضي رد: معارك حربية مهمة فى التاريخ الاسلامى ...يوميا فى رمضان





معارك الدردنيل (1654 - 1657)[عدل]




خريطة للدردنيل والمنطقة المُجاورة.


قام العثمانيون بتنظيم قواتهم عام 1654، حيث أنتجت ترسانتهم الواقعة في القرن الذهبي (مرسى إسطنبول) سفناً حربيةً جديدةً، ووصلت تعزيزات للعاصمة من طرابلس وتونس لتقوية الأسطول العثماني.[50] عاد العثمانيون إلى الدردنيل في مايو بأسطول ضخم قوامه 79 سفينة (40 سفينة شراعية، و33 قادس، و6 سفن ضخمة)، بالإضافة إلى انضمام 22 قادس جديد في بحر إيجة و14 سفينة من الساحل البربري بهدف تعزيز موقف العثمانيين في الدردنيل.[51] فاق الأسطول العثماني الأسطول البندقي المُحاصِر للدردنيل بفارق كبير، حيث كان الأسطول البندقي مُكوّناً من 26 سفينة فقط بقيادة جوزيبي دولفين.[52] نتج عن لقاء الطرفين معركةٌ انتهت بانتصار العثمانيين، لكنّ البنادقة نجحوا في الفرار بأسطولهم وإلحاق خسائر كبيرة بالعثمانيين ليُحققوا انتصاراً معنوياً.[53] تبع ذلك هجوم الأسطول العثماني على جزيرة تينوس، لكنهم تراجعوا بعد وقوع مُناوشات صغيرة مع البنادقة في 21 يونيو. نجح مراد باشا في تجنب مُلاقاة البنادقة لما تبقى من العام، فكانت أساطيل الجانبين تُبحر ذهاباً وإياباً في بحر إيجة قبل العودة إلى الدردنيل في سبتمبر بسبب مشاكل أحدثها الانكشارية في الأسطول العثماني.[54] توفي في نهاية العام قائد الأساطيل البندقية ألفيز موتشينيغو في كاندية، وخلفه فرانسيسكو موروسيني الذي كان قد بزغ اسمه في معارك الجمهورية السابقة.[55]
اتبع موروسيني نهجاً أكثر حيويةً في تعامل البنادقة مع مُجريات الحرب، فهاجم مستودعات الإمدادات العثمانية في أجانيطس في ربيع 1655، ودمّر مدينة فولوس الساحلية في هجوم ليلي وقع في 23 مارس من العام نفسه. أبحر موروسيني بعد ذلك إلى الدردنيل في مطلع شهر يونيو مُنتظراً قدوم الأسطول العثماني، لكنّ العثمانيين تأخروا في الوصول بسبب الاضطرابات السياسية التي واجهتها الحكومة العثمانية.[55] ترك موروسيني نصف أسطوله (36 سفينة) في الدردنيل بقيادة لازارو موتشينيغو وقفل عائداً إلى كيكلادس.[56] وصل الأسطول العثماني المُكوّن من 143 سفينة بقيادة مصطفى باشا بعد أسبوع فقط من رحيل موروسيني، أي في 21 يونيو،[57] ووقعت معركةٌ بين الجانبين أسفرت عن انتصار البنادقة. تجنب الأسطول العثماني مُلاقاة البنادقة لما تبقى من العام قبل أن ينسحبوا إلى مُعسكراتهم الشتوية، مُفسحين المجال لموروسيني لفرض حصاره على جزيرة مالفاسيا ذات الأهمية الاستراتيجية والواقعة قبالة الساحل الجنوبي الشرقي للبيلوبونيز، لكنّ الحصار فشل في نهاية المطاف.[58] عُيّن موروسيني حاكماً جديداً على كريت في سبتمبر وبات لورينزو مارسيلو قائد أسطول البنادقة الجديد.[59]
على الرغم من أنّ الكلمة الفصل كانت للبنادقة في مُعظم مواجهاتهم السابقة مع العثمانيين، ونجاحهم في فرض سيطرتهم على بحر إيجة ومُهاجمتهم جزرها،[60] إلا أنّ هذا التفوق لم يُترجم إلى نتائج ملموسة على أرض الواقع. أمّا العثمانيين فإنهم على الرغم من خسائرهم كانوا قادرين على التجوّل في البحار وإمداد قواتهم بما يحتاجونه في كريت،[61] خصوصاً عبر الأساطيل الخارجة من الإسكندرية، ورودس، وخيوس وغيرها.[62] وفي يونيو 1656 تلاقى الأسطول العثماني بقيادة كنان باشا مع الأسطول البندقي المالطي المُشترك بقيادة مارسيلو، وكانت نتيجة المعركة أن ألحق البنادقة والمالطيّون بالعثمانيين أسوأ هزيمة بحرية منذ معركة ليبانتو،[59][63] حيث دُمّرت 60 سفينة عثمانية ووقعت 24 سفينةً أخرى في أيدي البنادقة والمالطيين. لكنّ الخسائر لم تكن مُقتصرةً على العثمانيين، حيث عانى البنادقة والمالطيّون من بعض الخسائر أيضاً، بما في ذلك فقدانهم للقائد مارسيلو.[64] غادرت الفرقة المالطية في أعقاب هذا النصر، ونجح البنادقة في الاستيلاء على تندوس في 8 يوليو، ثمّ ليمنوس في 20 أغسطس،[65] ليمتلكوا بذلك جزيرتين استراتيجيتين واقعتين بالقرب من مدخل الدردنيل تُشكلان قاعدتين أماميتين، ممّا زاد من فاعلية الحصار المفروض على العثمانيين. قُطعت الإمدادات العثمانية عن كريت نتيجةً لذلك كُليّاً، حتى أنّ العاصمة إسلام بول نفسها عانت من نقصٍ في الغذاء خلال فصل الشتاء التالي.[66]


معركة الدردنيل الرابعة (1657), بريشة بيتر كاستلين


نجح العثمانيون في تغيير مُجريات الحرب عام 1657 بعد تولي محمد باشا الكوبريللي منصب الصدر الأعظم، الذي عُيّن في سبتمبر 1656 وأُعطي صلاحيات واسعة، فنجح في تغيير مسار الحرب لصالح العثمانيين.[67][68] قام القبطان باشا الجديد توبال محمد بتعزيز الأسطول العثماني،[67] فنجح العثمانيون في مارس في الإفلات من حصار البنادقة للدردنيل مُبحرين تجاه تندوس، مع أنّهم لم يُهاجموها لأنّ حاميتها كانت قويةً جداً.[69] أبحر موتشينيغو إلى الدردنيل بأسطول مُعزز بسفن بابوية ومالطية مُنتظراً قدوم الأسطول العثماني، الذي وصل إلى هناك في 17 يوليو. تمكّن العثمانيون من عبور المضيق، وذلك بسبب الخلافات التي نشبت بين قادة الأساطيل المسيحية ممّا حال دون اكتمال جاهزيتهم.[70] تألفت المعركةُ من سلسلة من الاشتباكات على مدار ثلاثة أيّام، وانتهت مساء 19 يوليو حين دمّر انفجارٌ سفينة القائد مودياً بحياة موتشينيغو ومُجبراً الأساطيل المسيحية المُتحالفة على الانسحاب. وعلى الرغم من أنّ العثمانيين تعرضوا لخسائر أكبر من البنادقة في هذه المعركة، إلا أنهم نجحوا في تحقيق هدفهم وهو كسر الحصار الذي كان قد طال أمده،[71] بإشرافٍ شخصي من الصدر الأعظم وبمساندة سفن ورجال قدموا من الولايات البربرية.[72] باشر الأسطول العثماني بعد هذه المعركة في استعادة ما فقده قبلاً، فاستردّ ليمنوس في 31 أغسطس، ثمّ تندوس في 12 نوفمبر، ليقضي العثمانيون بذلك تماماً على أيّ آمال مُستقبلية للبنادقة في فرض حصار على العثمانيين بشدّة ذاك الحصار الذي كانوا قد فرضوه في النصف الأول من الحرب.[73][74]
فترة الجمود (1658 - 1666)[عدل]




حصار كاندية، بريشة فيشر (1680).


اتجهت القوات العثمانية شمالاً لمواجهة جورج الثاني أمير ترانسيلفانيا، الأمر الذي تطوّر إلى صراع طويل مع ملكية هابسبورغ.[74] حاول الأسطول البندقي - الذي بات بقيادة موروسيني من جديد - خلال هذه الفترة فرض الحصار مُجدداً على الدردنيل لكن دون جدوى. اتخذ موروسيني من مُهاجمة المعاقل العثمانية تكتيكاً له، فحاصر جزيرة ليفكادا في أغسطس 1658، لكن الحصار باء بالفشل. وعلى الرغم من نجاح البنادقة في نهب بعض الأراضي العثمانية مثل كالاماتا، وكاريستو عام 1659، إلا أنهم لم يمتلكوا قوات كافية تُمكنهم من احتلال هذه المناطق، ولم تُكسبهم هذه الغارات مكاسب فعلية.[73] كان رد العثمانيين بأن أمر الصدر الأعظم محمد باشا ببناء حصنين جديدين على الشاطئ الأوروبي المُطلّ على مدخل الدردنيل، هُما: سد البحر وكِليد البحر (مفتاح البحر)، وذلك لمنع البنادقة من دخول المضيق مرةً أخرى.[75]
أنهكت هذه الحرب البنادقة كثيراً، خصوصاً بسبب تعطيلها للتجارة التي يعتمد عليها اقتصاد الجمهورية كُليّاً. لذا أرسل البنادقة سفراءهم للعثمانيين، لكنهم لم يستطيعوا قبول ما اشترطه عليهم العثمانيون لإحلال السلام، ألا وهو التخلي عن كريت.[74][76] لكنّ بصيصاً من الأمل عاد إلى نفوس البنادقة بعد انتهاء الحرب بين فرنسا وإسبانيا هابسبورغ، فتأمّلوا الحصول على المزيد من المساعدات من الجانب الفرنسي على وجه الخصوص، حيث أنّ العلاقات بين الفرنسيين والباب العالي كانت قد توترت في الآونة الأخيرة بعد أن كان الطرفان مُرتبطين بعلاقات وثيقة لفترة طويلة.[73]
تحقق الأملُ الذي عوّل عليه البنادقة بالفعل، حيث تطوع أفرادٌ وجماعاتٌ من الرجال قادمين من مُختلف أنحاء أوروبا الغربية للانخراط في جيش الجمهورية، كما شعر الحُكّام المسيحيون أنّهم مُجبرون على تقديم المُساعدات من رجالٍ وسفنٍ وإمداداتٍ.[62][77] أمّا أولى البعثات الفرنسية فوصلت في أبريل 1660، وكانت بعثةً مُكونةً من 4,200 رجل بقيادة الأمير ألميريغو ديست، كما وصلت فرقٌ من المرتزقة الألمان، وقواتٌ من سافوي، بالإضافة إلى السفن المُرسلة من مالطا، وتوسكانا، وفرنسا.[68] ولكن على الرغم من جُلّ المُساعدات التي قُدمّت للبنادقة، فشلت العمليات التي قام بها موروسيني عام 1660. حاول البنادقة في ذلك العام استرداد خانية، فهاجموها في شهر أغسطس واستولوا على بعض تحصيناتها الخارجية لكنهم فشلوا في السيطرة على المدينة نفسها، كما هاجموا الخطوط العثمانية المُحاصرة لكاندية في سبتمبر مُحققين بعض النجاحات، لكنهم فشلوا في كسر الحصار المفروض عليها.[68] توفي الأمير ديست بعد ذلك بفترة وجيزة في ناكسوس وعادت الكتيبة الفرنسية إلى بلادها، تلا ذلك عزل موروسيني عن منصبه وتسليم القيادة لقريبه جورجيو موروسيني.[78] حقق جورجيو بعض النجاحات الطفيفة عام 1661، حيث كسر الحصار العثماني على تينوس، وهزم الأسطول العثماني قبالة ميلوس. انخفضت وتيرةُ الحرب بعد ذلك حتى صارت هادئةً نسبياً، فعلى الرغم من انشغال العثمانيين الشديد مع النمساويين في بلاد المجر، إلا أنّ البنادقة فشلوا في اقتناص الفرصة ولم يقوموا بأي عملية حقيقية باستثناء اعتراضهم لقافلة الإمدادات القادمة من الإسكندرية قبالة كوس عام 1662.[79]



المرحلة الأخيرة (1666 - 1669)[عدل]



الصدر الأعظم
فاضل أحمد باشا الكوبريللي.


وقّعت الدولة العثمانية معاهدة فسفار مع النمساويين عام 1664، ممّا سمح لها بحصر تركيزها على كريت بعد أن كانت تُحارب على عدة جبهات. بدأ الصدر الأعظم فاضل أحمد الكوبريللي يُجهز لحملةٍ ضخمةٍ في شتاء 1665/1666، وأرسل تسعة آلاف رجل لتعزيز القوات العثمانية في كريت.[80] وقبل البدء، عرض العثمانيون على البنادقة اقتراحاً يُبقي كاندية في حوزة البنادقة مُقابل دفع جزية سنوية، لكنّ البنادقة رفضوا.[81] خرج الجيش العثماني بقيادةٍ شخصيةٍ من الصدر الأعظم في مايو 1666 من تراقيا إلى جنوب اليونان، بحيث يخرجوا إلى كريت في فصل الشتاء. على الجانب الآخر، تلقّى البنادقةُ في فبراير 1667 تعزيزات كبيرة من فرنسا وسافوي بلغت 21 سفينة حربية وحوالي ستة آلاف رجل، ولكنّ المشاكل بين القادة عادت من جديد حول الأسبقية بين الدول المُختلفة المُشاركة (فرنسا، الولايات البابوية، مالطا، نابولي، صقلية)، الأمر الذي أثر سلباً عليهم.[82] سعى البنادقة بقيادة العائد فرانسيسكو موروسيني إلى الاشتباك مع العثمانيين، لكنّهم تجنبوا ذلك، واستغلوا أفضليتهم من حيث الموارد والقواعد بإمداد قواتهم في كريت بشكل مُستمر. ولم تُحقق القوات المسيحية المُتحالفة أي نجاح يُذكر في عام 1667 باستثناء صدهم لغارة عثمانية شُنّت على سيريغو إحدى الجزر الواقعة جنوب اليونان.[83] وفي 8 مارس 1668 خرج البنادقة مُنتصرين بشق الأنفس من معركة ليلية قبالة ساحل جزيرة سانت بيلاجيا، حينما حاولت قوة عثمانية مؤلفة من 12 سفينة وألفي جندي الاستيلاء على سرب من السفن البندقية. علم موروسيني بنوايا العثمانيين قبل وصولهم فعزز من قوة هذا السرب حتى يكون مُستعداً للمواجهة، وبالفعل انتصر البنادقة على العثمانيين، لكنّ هذا الانتصار كان غالي الثمن، وكان الانتصار البحري الأخير الذي يُحرزه البنادقة في هذه الحرب.[84] حافظ البنادقة على حصارهم لخانية قاعدة الإمداد العثمانية الرئيسية خلال الصيف مُعززين بسفن بابوية واستبارية، كما هاجمت القوات المُتحالفة جزيرة سانت مارينا لتأمين مرساهم قبالة جزيرة سانت توديرو،[85] لكنّ هذا النجاح لم يمنع الأسطول العثماني المُحمّل بالقوات والإمدادات من الوصول إلى خانية في سبتمبر بعد أن كانت السفن البابوية والاستبارية قد غادرت.[86]
يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #12  
قديم 01-04-2023, 12:30 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,180
الدولة : Egypt
افتراضي رد: معارك حربية مهمة فى التاريخ الاسلامى ...يوميا فى رمضان

سقوط كاندية[عدل]


وصلت الحملة العثمانية الجديدة إلى الجزيرة خلال شتاء عام 1666/1667، وبدأت المرحلة الأخيرة من الحصار في شهر مايو بإشراف شخصي من الصدر الأعظم. استمرت هذه المرحلة لمدة 28 شهراً، وكلّفت العثمانيين أرواح 70,000 جُندي، و38,000 من المُجندين والرقيق الكريتيين الذين اشتغلوا في الحصار لصالح العثمانيين و29,088 من المسيحيين المُدافعين عن المدينة.[38] نظر البنادقة بعين الخوف إلى الحملة العثمانية الجديدة خصوصاً وأنّ حالتهم الاقتصادية كانت تزداد سوءاً، فتأمّلوا التوصل إلى تسوية سلمية مع الدولة العثمانية عام [87] 1668 مُستغلين إمكانية وصول تعزيزات كبيرة من أوروبا الغربية للضغط على العثمانيين على تقديم تنازلات لصالحهم في هذه التسوية.[88] عُيّن الأميرال أندريا فالير سفيراً للبنادقة في البداية، لكنّه استُبدل سريعاً بألفيس دا مولين بسبب مرضه.[89] توجّه مولين برفقة سفارته إلى لاريسا حيث كان السلطان وحكومته هناك في رحلة صيد.[90] اقترح العثمانيون بأن تحتفظ البندقية بنصف كريت، لكنّ البنادقة رفضوا العرض مُعتمدين على تعهدات الدول الأوروبية وبخاصة فرنسا بتقديم المُساعدات لهم، بالإضافة إلى علمهم بتجدد الاضطرابات في البلاط العثماني وفي أرجاء الدولة.[91] وتلقّى مولين في غضون ذلك أوامراً بمواصلة المُفاوضات ومُراقبة قوّة العثمانيين ونواياهم دون أن يُلزم نفسه أو الجمهورية بشيءٍ ملموس.[92]


مُخطط يُظهر الخنادق والألغام العثمانية في كاندية.


وصلت الوحدةُ الأولى من الكتيبة الفرنسية التي طال انتظارها إلى كاندية في 19 يونيو. بلغ قوام هذه الوحدة ستة آلاف رجل وواحد وثلاثين سفينة بقيادة فرانسوا دوق بوفور، في حين وصلت الوحدة الثانية من الكتيبة في 3 يوليو.[93] كان العثمانيون قد أحرزوا تقدماً مُطّرداً في حصارهم للمدينة على مدار السنوات الماضية حتى استطاعوا الوصول إلى حصونها الخارجية، في حين كان المُدافعون في حالةٍ يُرثى لها وباتت مُعظم أجزاء المدينة مُدمرةً تماماً.[94] شنّ الفرنسيون هجومهم الأول على العثمانيين في 25 يونيو على حين غرّة، وبدا أنهم كانوا مُنتصرين في البداية، لكنّ العثمانيين شنّوا هجوماً مُضاداً دحروا فيه القوات الفرنسية التي عانت من قلة التنظيم. وبذلك انتهى الهجومُ الذي خطط لها الفرنسيون بنتائج كارثية عليهم، مُكلفاً إيّاهُم 800 قتيل من بينهم دوق بوفور نفسه، الذي قُتل من رصاصة وتُرك على أرض المعركة.[95] أحيا وصول الوحدة الفرنسية الثانية في 3 يوليو معنويات المُدافعين، وتمّ الاتفاق على شنّ هجومٍ مُشتركٍ آخر يتضمّن قصف خطوط الحصار العثماني مُعتمدين على قوة أساطيلهم. بدأ هذه الهجوم الضخم في 25 يوليو، وقيل أنّ الأسطول وحده أطلق ما يصل إلى 15,000 قذيفة مدفعيّة،[96] لكنّ العثمانيين كانوا محميين بفعل أعمال الحفريات العميقة التي كانوا قد قاموا بها ولم يتعرضوا سوى لأضرار بسيطة. عاد هذا الهجوم على الأساطيل المسيحية بالوبال مرةً أخرى، حيث وقع حادثٌ أدى إلى انفجار السفينة الفرنسية "تيريز" ممّا تسبب بخسائر كبيرة في صفوف السفن الفرنسية والبندقية القريبة منها.[96]



توترت العلاقات بين الفرنسيين والبنادقة بعد استمرار الخسائر والكوارث، وغاب التفاهم بين الجانبين في العمليات التي قاما بها في الأسابيع التالية، وزاد من هذه الفجوة قلة الإمدادات، وانتشار الأمراض بين الجنود، والاستنزاف اليومي للجنود أثناء قتالهم في كاندية، ممّا شجّع الفرنسيين على الرحيل.[97] وبالفعل قفل الفرنسيون عائدين إلى بلادهم في 20 أغسطس تاركين البنادقة وحدهم في وجه العثمانيين، الذين شنّوا هجمتين بعد انسحاب الفرنسيين بخمسة أيام لكنّ المُدافعين نجحوا في الصد. كان من الواضح لموروسيني أنّ المدينة ما عادت تتحمل وطأة الحصار،[98] فعقد اجتماعاً في 27 أغسطس تقرر فيه استسلام المدينة دون التشاور مع البندقية، وسُلّمت المدينة للعثمانيين في 5 سبتمبر 1669، وأُجلي الناجون من الجنود والمدنيين بأموالهم من كاندية.[99][100] توصّل موروسيني إلى اتفاقية سلام دائم مع العثمانيين، وكانت هذه الاتفاقية كريمةً نسبياً في ظل الظروف التي مرّ بها البنادقة، حيث سُمح للبندقية بالاحتفاظ ببعض الجزر الصغيرة في بحر إيجة مثل تينوس، وسبينالونغا، وغرامفوسا، وسودا الواقعة قبالة ساحل كريت، فضلاً عن المكاسب التي تحققت للبنادقة في دالماسيا.[60][99]

الحرب في دالماسيا[عدل]



حصن كليس.


كانت دالماسيا مسرحاً مُنفصلاً للعمليات العسكرية مُنذ المرحلة الأولى من الحرب، لكنّ المُجريات هناك كانت مُغايرةً تماماً لما كان يحدث في كريت، حيث كانت دالماسيا بعيدةً جداً بالنسبة للعثمانيين ولم تُمثل لهم أهميةً حقيقيةً، بينما كانت مُجاورةً لقواعد إمدادات البنادقة الذين كانوا الطرف المُسيطر على البحار دون مُنازع، وبالتالي فإنهم كانوا قادرين على تعزيز معاقلهم هناك بسهولة تامّة.[101] وبالإضافة إلى ذلك كلّه، حظي البنادقة بدعم قطاع كبير من السكان المحليين على النقيض من علاقتهم بسكان كريت حينها.[60] شنّ العثمانيون هجوماً واسع النطاق على المنطقة عام 1646 مُحرزين عدداً من المكاسب المُهمّة مثل الاستيلاء على جزر كرك، وباغ، وكرس،[102] والأهم من ذلك كُلّه استسلام حصن نوفيغراد المنيع في الرابع من يوليو بعد أن صمد يومين فقط أمام القصف العثماني.[103] وبذلك بات العثمانيون قادرين على تهديد زادار وسبليت معقليّ البنادقة الرئيسيين في دالماسيا.[104] لكنّ الدفّة تحولت لصالح البنادقة في العام التالي، حيث نجحوا في الاستيلاء مؤقتاً على عدة حصون مثل كنين وكليس بالإضافة إلى استعادة السيطرة على حصن نوفيغراد،[22][29] في حين فشل الحصار العثماني الذي دام شهراً على مدينة شيبينيك.[46] توقفت العمليات العسكرية في مسرح دالماسيا بعد ذلك نتيجة تفشّي المجاعة والطاعون في صفوف البنادقة في زادار، حيث كان الطرفان يصبّان جمّ تركيزهما على المسرح الرئيسي للحرب، ألا وهو جزيرة كريت وبحر إيجة.[105] ولم تحدث أي عمليات أخرى في دالماسيا نتيجة انشغال العثمانيين في جبهات أخرى ذات أولوية بالنسبة إليهم.[75] حصلت جمهورية البندقية بموجب اتفاقية السلام التي وقعتها مع العثمانيين على مكاسب كبيرة في دالماسيا، حيث تضاعفت مساحة أراضيها فيها ثلاث مرات لتؤمّن بذلك استمرار سيطرتها على البحر الأدرياتيكي.[60]
ما بعد الحرب[عدل]


أنهى استسلام كاندية أربعة قرون ونصف من سيطرة البندقية على جزيرة كريت، في حين وصلت الدولة العثمانية إلى أوج اتساعها الإقليمي في تلك الفترة.[106] لكنّ التكاليف والخسائر الناتجة عن هذه الحرب الطويلة ساهمت إلى حد كبير في تراجع الدولة العثمانية في أواخر القرن السابع عشر،[40] بينما فقدت البندقية جراء هذه الحرب أكبر مُستعمراتها وأكثرها ازدهاراً، وتضاءلت مكانتها التجارية في البحر المتوسط بشكل كبير،[107] واستُنفدت خزينتها، بعد أن أنفقت حوالي 4,253,000 دوقت في الدفاع عن كاندية وحدها.[30] حوكم موروسيني بتهمتي العصيان والخيانة بعد عودته إلى البندقية عام 1570، لكنّه بُرئ فيما بعد، ليقود القوات البندقية بعد 15 عاماً في الحرب المورية أمام العثمانيين من جديد، حيث حاولت الجمهورية للمرة الأخيرة إعادة ترسيخ نفسها كواحدة من القوى الكُبرى في شرق المُتوسط.[38][108] حاول الأسطول البندقي خلال تلك الحرب، وبالتحديد عام 1692، استعادة كاندية لكنّه فشل، قبل أن تسقط آخر معاقل البنادقة المُتبقيّة قبالة كريت في الحرب العثمانية البندقية السابعة عام 1715.[30] بقيت جزيرة كريت تحت سيطرة العثمانيين حتى عام 1897 عندما باتت دولةً مُستقلةً تحت سيادة الدولة العثمانية، واستمر هذا الوضع حتى اندلاع حروب البلقان، حيث تخلّت الدولة العثمانية في أعقاب هذه الحروب عن الجزيرة، قبل أن تُضم في 1 ديسمبر 1913 رسمياً إلى اليونان.[109][110]

مراجع[عدل]




فهرس المراجع
^ Lord Byron, Childe Harold, Canto IV.14
تعدى إلى الأعلى ل: أب Faroqhi (2006), p. 51
^ Setton (1991), pp. 107–108
^ Greene (2000), p. 17
تعدى إلى الأعلى ل: أب Finkel (2006), p. 222
^ Setton (1991), pp. 104–106
^ Lane (1973), p. 408
^ Setton (1991), pp. 108–109
^ Parry & **** (1976), p. 152
^ Setton (1991), p. 111
^ Finkel (2006), p. 225
تعدى إلى الأعلى ل: أب Finkel (2006), p. 226
تعدى إلى الأعلى ل: أب Finlay (1856), p. 128
^ Setton (1991), p. 124
تعدى إلى الأعلى ل: أبت Setton (1991), p. 126
^ Setton (1991), p. 120
^ Setton (1991), p. 107
^ Setton (1991), p. 121
^ Finlay (1856), p. 130
^ Setton (1991), p. 127
تعدى إلى الأعلى ل: أب Setton (1991), pp. 128–129
تعدى إلى الأعلى ل: أبتث Finkel (2006), p. 227
^ Setton (1991), pp. 131–132
^ Setton (1991), pp. 131,137–138
^ Setton (1991), p. 129
^ Setton (1991), p. 140
^ Setton (1991), p. 141
^ Setton (1991), p. 147
تعدى إلى الأعلى ل: أب Setton (1991), p. 148
تعدى إلى الأعلى ل: أبت Miller, p. 196
تعدى إلى الأعلى ل: أبت Setton (1991), p. 150
^ Setton (1991), pp. 151–153
تعدى إلى الأعلى ل: أب Setton (1991), p. 158
^ غالباً ما يُشار إلى حصار كاندية على أنّه "أطول حصار سُجّل في التاريخ"، حيث تذكر الموسوعة البريطانية 1911 ذلك مثلاً. إلا أنّ حصار سبتة الذي دام حتى عام 1720 أو حتى وفاة إسماعيل عام 1727 باختلاف المصادر هو أطول حصارات التاريخ.نسخة محفوظة 26 يونيو 2013 على موقع واي باك مشين.
تعدى إلى الأعلى ل: أب Setton (1991), p. 159
^ Setton (1991), p. 167
تعدى إلى الأعلى ل: أب Turnbull, p. 85
تعدى إلى الأعلى ل: أبت The War for Candia, VENIVA consortium, 1996, مؤرشف من الأصل في 29 سبتمبر 2018 CS1 maint: ref=harv (link)
^ Cooper (1979), p. 231
تعدى إلى الأعلى ل: أب Holt, Lambton & Lewis (1978), p. 631
^ Setton (1991), p. 139
^ Setton (1991), pp. 139–140
^ Setton (1991), pp. 140–141
^ Setton (1991), p. 146
^ Setton (1991), pp. 147–148
تعدى إلى الأعلى ل: أب Setton (1991), p. 149
^ Setton (1991), p. 155
^ Setton (1991), pp. 163–164
^ Setton (1991), pp. 164–169
^ Setton (1991), p. 170
^ Setton (1991), p. 172
^ Setton (1991), p. 173
^ Setton (1991), pp. 174–177
^ Setton (1991), p. 178
تعدى إلى الأعلى ل: أب Setton (1991), p. 179
^ Setton (1991), pp. 179–180
^ Setton (1991), p. 180
^ Setton (1991), pp. 181–182
تعدى إلى الأعلى ل: أب Setton (1991), p. 182
تعدى إلى الأعلى ل: أبتث Lane (1973), p. 409
^ Finkel (2006), p. 247
تعدى إلى الأعلى ل: أب Lane (1973), p. 410
^ Finkel (2006), p. 248
^ Setton (1991), p. 183
^ Setton (1991), pp. 183–184
^ Finkel (2006), pp. 251–252
تعدى إلى الأعلى ل: أب Shaw (1976), p. 209
تعدى إلى الأعلى ل: أبت Setton (1991), p. 190
^ Setton (1991), p. 185
^ Setton (1991), p. 186
^ Setton (1991), pp. 186–188
^ Shaw (1976), p. 210
تعدى إلى الأعلى ل: أبت Setton (1991), p. 189
تعدى إلى الأعلى ل: أبت Finkel (2006), p. 256
تعدى إلى الأعلى ل: أب Duffy (1979), pp. 196–197
^ Setton (1991), pp. 188–189
^ Setton (1991), pp. 214–216
^ Setton (1991), pp. 190–191
^ Setton (1991), pp. 192–193
^ Setton (1991), p. 193
^ Finkel (2006), p. 270
^ Setton (1991), p. 194
^ Setton (1991), p. 195
^ Setton (1991), pp. 196–197
^ Setton (1991), pp. 199–200
^ Setton (1991), p. 205
^ Setton (1991), p. 206
^ Setton (1991), p. 214
^ Setton (1991), pp. 206–209
^ Setton (1991), p. 212
^ Setton (1991), pp. 216–218
^ Setton (1991), pp. 217–219
^ Setton (1991), pp. 223–224
^ Setton (1991), pp. 224–225
^ Setton (1991), p. 225
تعدى إلى الأعلى ل: أب Setton (1991), p. 226
^ Setton (1991), pp. 226–227
^ Setton (1991), pp. 227–228
تعدى إلى الأعلى ل: أب Finkel (2006), p. 271
^ Finlay (1856), p. 132
^ Nile (1989), p. 40
^ Setton (1991), p. 143
^ Setton (1991), p. 142
^ Setton (1991), p. 144
^ Setton (1991), p. 162
^ Faroqhi (2006), p. 22
^ Cooper (1979), p. 232
^ Faroqhi (2006), pp. 58, 115
^ Detorakis (1986), pp. 438–456
^ تاريخ الإسلام في جزيرة كريت نسخة محفوظة 01 فبراير 2014 على موقع واي باك مشين.[وصلة مكسورة]

معلومات المراجع كاملةًCooper, J. P. (1979), The New Cambridge Modern History, Volume IV: The Decline of Spain and the Thirty Years War, 1609–48/59, CUP Archive, ISBN 978-0-521-29713-4 CS1 maint: ref=harv (link)
Detorakis, Theocharis E. (1986), Ιστορία της Κρήτης (باللغة اليونانية), Athens, OCLC 17550333 CS1 maint: ref=harv (link)
Duffy, Christopher (1979), Siege Warfare, Routledge, ISBN 978-0-7100-8871-0 CS1 maint: ref=harv (link)
Faroqhi, Suraiya (2006), The Ottoman Empire and the World Around It, I.B. Tauris, ISBN 978-1-84511-122-9 CS1 maint: ref=harv (link)
Finkel, Caroline (2006), Osman's Dream: The Story of the Ottoman Empire 1300–1923, London: John Murray, ISBN 978-0-7195-6112-2 CS1 maint: ref=harv (link)
Finlay, George (1856), The History of Greece under Othoman and Venetian Domination, London: William Blackwood and Sons CS1 maint: ref=harv (link)
Fleet, Kate; Faroqhi, Suraiya; Kasaba, Reşat (2006), The Cambridge history of Turkey: the later Ottoman Empire, 1603-1839, Cambridge University Press, ISBN 978-0-521-62095-6, مؤرشف من الأصل في 11 فبراير 2020 CS1 maint: ref=harv (link)
Greene, Molly (2000), A Shared World: Christians and Muslims in the Early Modern Mediterranean, Princeton University Press, ISBN 978-0-691-00898-1 CS1 maint: ref=harv (link)
Holt, P. M. (1978), The Central Islamic Lands from Pre-Islamic Times to the First World War, Cambridge University Press, ISBN 978-0-521-29135-4 CS1 maint: ref=harv (link)
Lane, Frederic Chapin (1973), Venice, a Maritime Republic, JHU Press, ISBN 978-0-8018-1460-0, مؤرشف من الأصل في 11 فبراير 2020 CS1 maint: ref=harv (link)
Miller, William, Essays on the Latin Orient, Cambridge University Press Archive, مؤرشف من الأصل في 11 فبراير 2020 CS1 maint: ref=harv (link)
Murphey, Rhoads; Black, Jeremy (1999), Ottoman warfare, 1500–1700, Routledge, ISBN 978-1-85728-389-1 CS1 maint: ref=harv (link)
Nile, David (1989), The Venetian Empire, 1200–1670, Osprey Publishing, ISBN 978-0-85045-899-2 CS1 maint: ref=harv (link)
Parry, Vernon J.; ****, M. A. (1976), A History of the Ottoman Empire to 1730: Chapters from the Cambridge History of Islam and the New Cambridge Modern History, CUP Archive, ISBN 978-0-521-09991-2 CS1 maint: ref=harv (link)
Setton, Kenneth Meyer (1991), Venice, Austria, and the Turks in the Seventeenth Century, DIANE Publishing, ISBN 0-87169-192-2 CS1 maint: ref=harv (link)
Shaw, Stanford Jay; Shaw, Ezel Kural (1976), History of the Ottoman Empire and Modern Turkey: Empire of the Gazis - The Rise and Decline of the Ottoman Empire, 1280–1808, Cambridge University Press, ISBN 978-0-521-29163-7 CS1 maint: ref=harv (link)
Turnbull, Stephen (2003), The Ottoman Empire 1326–1699, Routledge, ISBN 978-0-415-96913-0 CS1 maint: ref=harv (link)
Tzompanaki, Chrysoula (2008), Ο Κρητικός Πόλεμος 1645–1669: Η Μεγάλη Πολιορκία και η Εποποιϊα του Χάνδακα [The Cretan War 1645–1669: The Great Siege and Epopee of Chandax], Heraklion, ISBN 978-960-92052-4-5 CS1 maint: ref=harv (link)
Vakalopoulos, Apostolos E. (1968), Ιστορία του νέου ελληνισμού, Τόμος Γ′: Τουρκοκρατία 1453–1669 [History of modern Hellenism, Volume III: Turkish rule 1453–1669], Thessaloniki: Emm. Sfakianakis & Sons CS1 maint: ref=harv (link)

منقول بتصرف








__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #13  
قديم 01-04-2023, 11:07 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,180
الدولة : Egypt
افتراضي رد: معارك حربية مهمة فى التاريخ الاسلامى ...يوميا فى رمضان







فتح القسطنطينية.. بشارة نبوية
(في ذكرى فتحها 20 من جمادى الأولى 857هـ)


سمير حلبي
(11)


محمد الفاتح
انتظر المسلمون أكثر من ثمانية قرون حتى تحققت البشارة النبوية بفتح القسطنطينية، وكان حلمًا غاليا وأملا عزيزا راود القادة والفاتحين لم يُخب جذوته مر الأيام وكر السنين، وظل هدفا مشبوبا يثير في النفوس رغبة عارمة في تحقيقه حتى يكون صاحب الفتح هو محل ثناء النبي (صلى الله عليه وسلم) في قوله: “لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش”.
وقد بدأت المحاولات الجادة في عهد معاوية بن أبي سفيان وبلغ من إصراره على فتح القسطنطينية أن بعث بحملتين الأولى سنة 49 هـ = 666، والأخرى كانت طلائعها في سنة 54 هـ = 673م، وظلت سبع سنوات وهي تقوم بعمليات حربية ضد أساطيل الروم في مياه القسطنطينية، لكنها لم تتمكن من فتح المدينة العتيدة، وكان صمود المدينة يزيد المسلمين رغبة وتصميما في معاودة الفتح؛ فنهض “سليمان بن عبد الملك” بحملة جديدة سنة (99 هـ = 719م) ادخر لها زهرة جنده وخيرة فرسانه، وزودهم بأمضى الأسلحة وأشدها فتكا، لكن ذلك لم يعن على فتحها فقد صمدت المدينة الواثقة من خلف أسوارها العالية وابتسمت ابتسامة كلها ثقة واعتداد أنها في مأمن من عوادي الزمن وغوائل الدهر، ونامت ملء جفونها رضى وطمأنينة.

الدولة العثمانية والدول والإمارات المحيطة بها سنة 1450م، أي قبل تربّع مُحمَّد الثاني على العرش بسنة واحدة.

ثم تجدد الأمل في فتح القسطنطينية في مطلع عهود العثمانيين، وملك على سلاطينهم حلم الفتح، وكانوا من أشد الناس حماسا للإسلام وأطبعهم على حياة الجندية؛ فحاصر المدينة العتيدة كل من السلطان بايزيد الأول ومراد الثاني، ولكن لم تكلل جهودهما بالنجاح والظفر، وشاء الله أن يكون محمد الثاني بن مراد الثاني هو صاحب الفتح العظيم والبشارة النبوية الكريمة.
محمد الفاتح

ولد السلطان محمد الفاتح في (27 من رجب 835 هـ= 30 من مارس 1432م)، ونشأ في كنف أبيه السلطان مراد الثاني سابع سلاطين الدولة العثمانية، الذي تعهده بالرعاية والتعليم؛ ليكون جديرا بالسلطنة والنهوض بتبعاتها؛ فحفظ القرآن وقرأ الحديث وتعلم الفقه ودرس الرياضيات والفلك، وأتقن فنون الحرب والقتال، وأجاد العربية والفارسية واللاتينية واليونانية، واشترك في الحروب والغزوات، وبعد وفاة أبيه في (5 من المحرم 855هـ = 7 من فبراير 1451م) تولى الفاتح السلطنة فتى في الثانية والعشرين من عمره وافر العزم شديد الطموح.
بناء قلعة رومللي حصار



قلعة رومللي حصار

كان السلطان بايزيد الأول قد أنشأ على ضفة البوسفور الآسيوية في أثناء حصاره للقسطنطينية حصنا تجاه أسوارها عُرف باسم قلعة الأناضول، وكانت تقوم على أضيق نقطة من مضيق البوسفور، وعزم محمد الفاتح أن يبني قلعة على الجانب الأوروبي من البوسفور في مواجهة الأسوار القسطنطينية، وقد جلب لها مواد البناء وآلاف العمال، واشترك هو بنفسه مع رجال دولته في أعمال البناء، وهو ما ألهب القلوب وأشعل الحمية في النفوس، وبدأ البناء في الارتفاع شامخ الرأس في الوقت الذي كان فيه الإمبراطور قسطنطين لا يملك وقف هذا البناء، واكتفى بالنظر حزنا وهو يرى أن الخطر الداهم سيحدق به دون أن يملك مندفعه شيئا.
ولم تمض ثلاثة شهور حتى تم بناء القلعة على هيئة مثلث سميك الجدران، في كل زاوية منها برج ضخم مغطى بالرصاص، وأمر السلطان بأن ينصب على الشاطئ مجانيق ومدافع ضخمة، وأن تصوب أفواهها إلى الشاطئ، لكي تمنع السفن الرومية والأوروبية من المرور في بوغاز البوسفور، وقد عرفت هذه القلعة باسم “رومللي حصار”، أي قلعة الروم.

خارطة تُظهرُ الحصار العُثماني للمدينة، وانتشار الفرق العسكريَّة المُحاصرة وتلك المُدافعة.

بوادر الحرب

توسل الإمبراطور قسطنطين إلى محمد الفاتح بالعدول عن إتمام القلعة التي تشكل خطرًا عليه، لكنه أبي ومضى في بنائه، وبدأ البيزنطيون يحاولون هدم القلعة والإغارة على عمال البناء، وتطورت الأحداث في مناوشات، ثم لم يلبث أن أعلن السلطان العثماني الحرب رسميا على الدولة البيزنطية، وما كان من الإمبراطور الرومي إلا أن أغلق أبواب مدينته الحصينة، واعتقل جميع العثمانيين الموجودين داخل المدينة، وبعث إلى السلطان محمد رسالة يخبره أنه سيدافع عن المدينة لآخر قطرة من دمه.
وأخذ الفريقان يتأهب كل منهما للقاء المرتقب في أثناء ذلك بدأ الإمبراطور قسطنطين في تحصين المدينة وإصلاح أسوارها المتهدمة وإعداد وسائل الدفاع الممكنة، وتجميع المؤن والغلال، وبدأت تردد على المدينة بعض النجدات خففت من روح الفزع التي سيطرت على الأفئدة، وتسربت بعض السفن تحمل المؤن والغذاء، ونجح القائد الجنوبي “جون جستنياني” مع 700 مقاتل محملين بالمؤن والذخائر في الوصول إلى المدينة المحاصرة؛ فاستقبله الإمبراطور قسطنطين استقبالا حسنًا وعينه قائدًا عامًا لقواته، فنظم الجيش وأحسن توزيعهم ودرب الرهبان الذي يجهلون فن الحرب تمامًا، وقرر الإمبراطور وضع سلسلة لإغلاق القرن الذهبي أمام السفن القادمة، تبدأ من طرف المدينة الشمالي وتنتهي عند حي غلطة.

استعدادات محمد الفاتح

كان السلطان محمد الثاني يفكر في فتح القسطنطينية ويخطط لما يمكن عمله من أجل تحقيق الهدف والطموح، وسيطرت فكرة الفتح على عقل السلطان وكل جوارحه، فلا يتحدث إلا في أمر الفتح ولا يأذن لأحد من جلسائه بالحديث في غير الفتح الذي ملك قلبه وعقله وأرقه وحرمه من النوم الهادئ.

السُلطان مُحمَّد الفاتح يُشرف على جرّ السُفن من البوسفور وسحبها على البر وصولًا إلى مضيق القرن الذهبي.

وساقت له الأقدار مهندس مجري يدعى “أوربان”، عرض على السلطان أن يصنع له مدفعا ضخما يقذف قذائف هائلة تكفي لثلم أسوار القسطنطينية؛ فرحب به السلطان وأمر بتزويده بكل ما يحتاجه من معدات، ولم تمض ثلاثة أشهر حتى تمكن أوربان من صنع مدفع عظيم لم يُر مثله قط، فقد كان يزن 700 طن، ويرمي بقذائف زنة الواحدة منها 12 ألف رطل، ويحتاج جره إلى 100 ثور يساعدها مائة من الرجال، وعند تجربته سقطت قذيفته على بعد ميل، وسمع دويه على بعد 13 ميلا، وقد قطع هذا المدفع الذي سُمي بالمدفع السلطاني الطريق من أدرنة إلى موضعه أمام أسوار القسطنطينية في شهرين.

بدء الحصار

وصل السلطان العثماني في جيشه الضخم أمام الأسوار الغربية للقسطنطينية المتصلة بقارة أوروبا يوم الجمعة الموافق (12 من رمضان 805هـ= 5 من إبريل 1453م) ونصب سرادقه ومركز قيادته أمام باب القديس “رومانويس”، ونصبت المدافع القوية البعيدة المدى، ثم اتجه السلطان إلى القبلة وصلى ركعتين وصلى الجيش كله، وبدأ الحصار الفعلي وتوزيع قواته، ووضع الفرق الأناضولية وهي أكثر الفرق عددًا عن يمينه إلى ناحية بحر مرمرة، ووضع الفرق الأوروبية عن يساره حتى القرن الذهبي، ووضع الحرس السلطاني الذي يضم نخبة الجنود الانكشارية وعددهم نحو 15 ألفًا في الوسط.
وتحرك الأسطول العثماني الذي يضم 350 سفينة في مدينة “جاليبولي” قاعدة العثمانيين البحرية في ذلك الوقت، وعبر بحر مرمرة إلى البوسفور وألقى مراسيه هناك، وهكذا طوقت القسطنطينية من البر والبحر بقوات كثيفة تبلغ 265 ألف مقاتل، لم يسبق أن طُوقت بمثلها عدة وعتادًا، وبدأ الحصار الفعلي في الجمعة الموافق (13 من رمضان 805هـ = 6 من إبريل 1453م)، وطلب السلطان من الإمبراطور “قسطنطين” أن يسلم المدينة إليه وتعهد باحترام سكانها وتأمينهم على أرواحهم ومعتقداتهم وممتلكاتهم، ولكن الإمبراطور رفض؛ معتمدًا على حصون المدينة المنيعة ومساعدة الدول النصرانية له.

وضع القسطنطينية

تحتل القسطنطينية موقعا منيعا، حبته الطبيعة بأبدع ما تحبو به المدن العظيمة، تحدها من الشرق مياه البوسفور، ويحدها من الغرب والجنوب بحر مرمرة، ويمتد على طول كل منها سور واحد. أما الجانب الغربي فهو الذي يتصل بالقارة الأوروبية ويحميه سوران طولهما أربعة أميال يمتدان من شاطئ بحر مرمرة إلى شاطئ القرن الذهبي، ويبلغ ارتفاع السور الداخلي منهما نحو أربعين قدمًا ومدعم بأبراج يبلغ ارتفاعها ستين قدما، وتبلغ المسافة بين كل برج وآخر نحو مائة وثمانين قدما.
أما السور الخارجي فيبلغ ارتفاعه خمسة وعشرين قدما، ومحصن أيضا بأبراج شبيهة بأبراج السور الأول، وبين السورين فضاء يبلغ عرضه ما بين خمسين وستين قدما، وكانت مياه القرن الذهبي الذي يحمي ضلع المدينة الشمالي الشرقي يغلق بسلسلة حديدية هائلة يمتد طرفاها عند مدخله بين سور غلطة وسور القسطنطينية، ويذكر المؤرخون العثمانيون أن عدد المدافعين عن المدينة المحاصرة بلغ أربعين ألف مقاتل.
اشتعال القتال

بعد ما أحسن السلطان ترتيب وضع قواته أمام أسوار القسطنطينية بدأت المدافع العثمانية تطلق قذائفها الهائلة على السور ليل نهار لا تكاد تنقطع، وكان دوي اصطدام القذائف بالأسوار يملأ قلوب أهل المدينة فزعا ورعبا، وكان كلما انهدم جزء من الأسوار بادر المدافعون عن المدينة إلى إصلاحه على الفور، واستمر الحال على هذا الوضع.. هجوم جامح من قبل العثمانيين، ودفاع مستميت يبديه المدافعون، وعلى رأسهم جون جستنيان، والإمبراطور البيزنطي.

الروم يرمون العُثمانين بالقذائف المُلتهبة والنار الإغريقيَّة أثناء مُحاولتهم اقتحام الأسوار.

وفي الوقت الذي كانت تشتد فيه هجمات العثمانيين من ناحية البر حاولت بعض السفن العثمانية تحطيم السلسلة على مدخل ميناء القرن الذهبي واقتحامه، ولكن السفن البيزنطية والإيطالية المكلفة بالحراسة والتي تقف خلف السلسلة نجحت في رد هجمات السفن العثمانية، وصبت عليها قذائفها وأجبرتها على الفرار.
وكانت المدينة المحاصرة تتلقى بعض الإمدادات الخارجية من بلاد المورة وصقلية، وكان الأسطول العثماني مرابطا في مياه البوسفور الجنوبية منذ (22 من رمضان 805هـ = 15 من إبريل 1453م)، ووقفت قطعة على هيئة هلال لتحول دون وصول أي مدد ولم يكد يمضي 5 أيام على الحصار البحري حتى ظهرت 5 سفن غربية، أربع منها بعث بها البابا في روما لمساعدة المدينة المحاصرة، وحاول الأسطول العثماني أن يحول بينها وبين الوصول إلى الميناء واشتبك معها في معركة هائلة، لكن السفن الخمس تصدت ببراعة للسفن العثمانية وأمطرتها بوابل من السهام والقذائف النارية، فضلا عن براعة رجالها وخبرتهم التي تفوق العثمانيين في قتال البحر، الأمر الذي مكنها من أن تشق طريقها وسط السفن العثمانية التي حاولت إغراقها لكن دون جدوى ونجحت في اجتياز السلسلة إلى الداخل.
السفن العثمانية تبحر على اليابسة!!

السُفن العُثمانيَّة ترسو في مضيق القرن الذهبي وتُطبق الحصار على المدينة.

إنزال السفن في الخليج


كان لنجاح السفن في المرور أثره في نفوس أهالي المدينة المحاصرة؛ فانتعشت آمالهم وغمرتهم موجة من الفرح بما أحرزوه من نصر، وقويت عزائمهم على الثبات والصمود، وفي الوقت نفسه أخذ السلطان محمد الثاني يفكِّر في وسيلة لإدخاله القرن الذهبي نفسه وحصار القسطنطينية من أضعف جوانبها وتشتيت قوى المدينة المدافعة.
واهتدى السلطان إلى خطة موفقة اقتضت أن ينقل جزءًا من أسطوله بطريق البر من منطقة غلطة إلى داخل الخليج؛ متفاديا السلسلة، ووضع المهندسون الخطة في الحال وبُدئ العمل تحت جنح الظلام وحشدت جماعات غفيرة من العمال في تمهيد الطريق الوعر الذي تتخلله بعض المرتفعات، وغُطي بألواح من الخشب المطلي بالدهن والشحم، وفي ليلة واحدة تمكن العثمانيون من نقل سبعين سفينة طُويت أشرعتها تجرها البغال والرجال الأشداء، وذلك في ليلة (29 من رمضان 805هـ = 22 من إبريل 1453م).
وكانت المدافع العثمانية تواصل قذائفها حتى تشغل البيزنطيين عن عملية نقل السفن، وما كاد الصبح يسفر حتى نشرت السفن العثمانية قلوعها ودقت الطبول وكانت مفاجأة مروعة لأهل المدينة المحاصرة.
وبعد نقل السفن أمر السلطان محمد بإنشاء جسر ضخم داخل الميناء، عرضه خمسون قدما، وطوله مائة، وصُفَّت عليه المدافع، وزودت السفن المنقولة بالمقاتلين والسلالم، وتقدمت إلى أقرب مكان من الأسوار، وحاول البيزنطيون إحراق السفن العثمانية في الليل، ولكن العثمانيين علموا بهذه الخطة فأحبطوها، وتكررت المحاولة وفي كل مرة يكون نصيبها الفشل والإخفاق.

الهجوم الكاسح وسقوط المدينة

العُثمانيّون يقتحمون المدينة، ويبدو في الأعلى حسن الألوباطلي وهو يغرز الرَّاية العُثمانيَّة.

استمر الحصار بطيئا مرهقا والعثمانيون مستمرون في ضرب الأسوار دون هوادة، وأهل المدينة المحاصرة يعانون نقص المؤن ويتوقعون سقوط مدينتهم بين يوم وآخر، خاصة وأن العثمانيين لا يفتئون في تكرار محاولاتهم الشجاعة في اقتحام المدينة التي أبدت أروع الأمثلة في الدفاع والثبات، وكان السلطان العثماني يفاجئ خصمه في كل مرة بخطة جديدة لعله يحمله على الاستسلام أو طلب الصلح، لكنه كان يأبى، ولم يعد أمام السلطان سوى معاودة القتال بكل ما يملك من قوة.
وفي فجر يوم الثلاثاء (20 من جمادى الأولى 857هـ= 29 من مايو 1453م)، وكان السلطان العثماني قد أعد أهبته الأخيرة، ووزَّع قواته وحشد زهاء 100 ألف مقاتل أمام الباب الذهبي، وحشد في الميسرة 50 ألفًا، ورابط السلطان في القلب مع الجند الإنكشارية، واحتشدت في الميناء 70 سفينة _بدأ الهجوم برًا وبحرًا، واشتد لهيب المعركة وقذائف المدافع يشق دويها عنان السماء ويثير الفزع في النفوس، وتكبيرات الجند ترج المكان فيُسمع صداها من أميال بعيدة، والمدافعون عن المدينة يبذلون كل ما يملكون دفاعا عن المدينة، وما هي إلا ساعة حتى امتلأ الخندق الكبير الذي يقع أمام السور الخارجي بآلاف القتلى.
وفي أثناء هذا الهجوم المحموم جرح “جستنيان” في ذراعه وفخذه، وسالت دماؤه بغزارة فانسحب للعلاج رغم توسلات الإمبراطور له بالبقاء لشجاعته ومهارته الفائقة في الدفاع عن المدينة، وضاعف العثمانيون جهدهم واندفعوا بسلالمهم نحو الأسوار غير مبالين بالموت الذي يحصدهم حصدا، حتى وثب جماعة من الانكشارية إلى أعلى السور، وتبعهم المقاتلون وسهام العدو تنفذ إليهم، ولكن ذلك كان دون جدوى، فقد استطاع العثمانيون أن يتدفقوا نحو المدينة، ونجح الأسطول العثماني في رفع السلاسل الحديدية التي وُضعت في مدخل الخليج، وتدفق العثمانيون إلى المدينة التي سادها الذعر، وفر المدافعون عنها من كل ناحية، وما هي إلا ثلاث ساعات من بدء الهجوم حتى كانت المدينة العتيدة تحت أقدام الفاتحين.
محمد الفاتح في المدينة

السُلطان مُحمَّد يدخل القسطنطينيَّة.

ولما دخل محمد الفاتح المدينة ظافرا ترجل عن فرسه، وسجد لله شكرا على هذا الظفر والنجاح، ثم توجه إلى كنيسة “أيا صوفيا”؛ حيث احتشد فيها الشعب البيزنطي ورهبانه، فمنحهم الأمان، وأمر بتحويل كنيسة “أيا صوفيا” إلى مسجد، وأمر بإقامة مسجد في موضع قبر الصحابي الجليل “أبي أيوب الأنصاري”، وكان ضمن صفوف الحملة الأولى لفتح القسطنطينية، وقد عثر الجنود العثمانيون على قبره فاستبشروا خيرًا بذلك.
وقرر الفاتح الذي لُقِّب بهذا اللقب بعد الفتح اتخاذ القسطنطينية عاصمة لدولته، وأطلق عليها اسم “إسلام بول” أي “دار الإسلام”، ثم حُرفت واشتهرت بـ “إستانبول”، وانتهج سياسة سمحة مع سكان المدينة، وكفل لهم حرية ممارسة عبادتهم، وسمح بعودة الذين غادروا المدينة في أثناء الحصار والرجوع إلى منازلهم، ومنذ ذلك الحين صارت إستانبول عاصمة للبلاد حتى فتح القسطنطينية بين الحلم والحقيقة
المصادر:

محمد فريد: تاريخ الدولة العلية العثمانية – تحقيق إحسان حقي – دار النفائس – بيروت – (1403هـ = 1983م).
علي حسون – تاريخ الدولة العثمانية – المكتب الإسلامي بيروت – (1414هـ= 1994م)
عبد العزيز محمد الشناوي- الدولة العثمانية دولة مفترى عليها – مكتبة الأنجلو المصري- القاهرة – 1984م.
عبد السلام عبد العزيز فهمي – السلطان محمد الفاتح – دار القلم – دمشق – (1413 هـ= 1993م).
محمد صفوت مصطفى – السلطان محمد الفاتح – دار الفكر العربي – القاهرة – 1948م.
محمد عبد الله عنان – مواقف حاسمة في تاريخ الإسلام – مؤسسة الخانجي – القاهرة – (1382هـ = 1962م).

منقول بتصرف











__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #14  
قديم 03-04-2023, 12:28 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,180
الدولة : Egypt
افتراضي رد: معارك حربية مهمة فى التاريخ الاسلامى ...يوميا فى رمضان





معركة الزلَّاقة(
479 هـ / مـ1086)
د. راغب السرجانى
(12)


الزلاقة على خريطة إسبانيا
دخول المرابطين الأندلس


يدخل يوسف بن تاشفين والمرابطون أرض الأندلس، ويدخل إلى إشبيلية والناس يستقبلونه استقبال الفاتحين، ثم يقصد إلى بطليوس حيث كانت على مقربة من الزلاقة التي كان قد نزلها ألفونسو السادس، فتوجَّه إليه أمير المسلمين بجيوشه[1]. واجتمع بالمعتمد بن عباد بإشبيلية، وكان المعتمد قد جمع عساكره أيضًا، وخرج من أهل قرطبة عسكر كثير، وقصده المطوِّعة من سائر بلاد الأندلس، ووصلت الأخبار إلى ألفونسو فجمع عساكره، وحشد جنوده، وسار من طليطلة[2].
وبدأ يلحق بركب يوسف بن تاشفين المجاهدون المتطوعة من قرطبة وإشبيلية وبطليوس، وهكذا حتى وصل الجيش إلى الزلاقة في شمال البلاد الإسلامية، وعدده يربو على الثلاثين ألف رجل.
ولا نعجب فهذه هي أهمية القدوة وفِعْلِها في المسلمين، وصورتها كما يجب أن تكون، تحرَّكت مكامن الفطرة الطيبة، وعواطف الأُخُوَّة الصادقة، والغَيْرَة على الدين الخاتِم، تلك الأمور التي تُوجَد لدى عموم المسلمين بلا استثناء، وتحتاج فقط إلى مَنْ يُحَرِّكها من سُباتها.
التحرك نحو الزلاقة

تحرَّك الثلاثون ألف رجل بقيادة يوسف بن تاشفين ليصلوا إلى الزلاقة، وهو ذلك المكان الذي دارت فيه موقعة هي من أشهر المواقع الإسلامية في التاريخ.
كان النصارى قد استعدُّوا لقدوم يوسف بن تاشفين فجمعوا عددًا ضخمًا من المقاتلين، بلغ في بعض التقديرات أكثر من ثلاثمائة ألف مقاتل[3]، على رأسهم ألفونسو السادس بعد أن جاءه العون من الممالك النصرانية فرنسا وإيطاليا وغيرها، وقَدِمَ ألفونسو السادس يحمل الصلبان وصور المسيح، وهو يقول: بهذا الجيش أقاتل الجنَّ والإنس، وأقاتل ملائكة السماء. فهو يعرف تمامًا أنها حرب صليبية ضد الإسلام[4].
الرسائل والحرب الإعلامية:

رسالة ألفونسو إلى يوسف بن تاشفين



رسمة للملك الفونسو لحظة دخوله طليطلة.

كان ألفونسو السادس من قبل هذا أرسل إلى يوسف بن تاشفين رسالة كلها غرور واستعلاء، وهذا نصها:
باسمك اللهمَّ فاطر السموات والأرض، وصلى الله على السيد المسيح روح الله وكلمته، الرسول الفصيح، أما بعدُ: فإنه لا يخفى على ذي ذهنٍ ثاقب، ولا ذي عقل لازب، أنك أمير الملة الحنيفية كما أني أمير الملة النصرانية، وقد علمتَ الآن ما عليه رؤساء أهل الأندلس من التخاذل والتواكل وإهمال الرعية، وإخلادهم إلى الراحة، وأنا أسومهم بحُكم القهر وجلاء الديار، وأسبي الذراري وأُمَثِّل بالرجال، ولا عذر لك في التخلُّف عن نصرهم إذا أمكنتك يد القدرة، وأنتم تزعمون أن الله تعالى فرض عليكم قتال عشرة منَّا بواحد منكم، فالآن خَفَّف الله عنكم، وعلم أن فيكم ضعفًا، ونحن الآن نقاتل عشرة منكم بواحد منا، لا تستطيعون دفاعًا ولا تملكون امتناعًا، وقد حُكِيَ لي عنك أنك أخذتَ في الاحتفال، وأشرفت على ربوة القتال، وتماطل نفسك عامًا بعد عام، تُقَدِّم رِجْلاً وتؤخِّر أخرى، فلا أدري أكان الجُبن أبطأ بك أم التكذيب بما وعد ربُّك، ثم قيل لي: إنك لا تجد إلى جواز البحر سبيلاً لعلَّةٍ لا يسوغ لك التقحُّم معها، وها أنا أقول لك ما فيه الراحة لك، وأعتذر لك وعنك، على أن تفي بالعهود والمواثيق والاستكثار من الرهان، وتُرسل إليَّ جملة من عبيدك بالمراكب والشواني والطرائد والمسطحات، وأجوز بجملتي إليك، وأقاتلك في أعزِّ الأماكن لديك، فإن كانت لك فغنيمة كبيرة جُلبت إليك، وهدية عظيمة مَثَلَتْ بين يديك، وإن كانت لي كانت يدي العليا عليك، واستحقيت إمارة الملَّتَيْنِ والحُكم على البرَّيْنِ، والله تعالى يُوَفِّقُ للسعادة ويُسَهِّل الإرادة، لا ربَّ غيره، ولا خير إلاَّ خيره، إن شاء الله تعالى[5].
رسالة يوسف بن تاشفين إلى ألفونسو

فلما تمَّ عبور جيش المرابطين إلى الأندلس أرسل يوسف بن تاشفين برسالة إلى ألفونسو السادس يقول له فيها: بلغنا يا أذفونش أنك دعوت إلى الاجتماع بنا، وتمنيت أن تكون لك سفن تعبر بها البحر إلينا، فقد عبرنا إليك، وقد جمع الله تعالى في هذه الساحة بيننا وبينك، وسترى عاقبة دعائك {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [الرعد: 14، غافر: 50] وخيَّره يوسف بن تاشفين بين الإسلام والجزية والحرب[6].
تَسَلَّم ألفونسو السادس الرسالة وما أن قرأها حتى استشاط غضبًا و«جاش بحر غيظه، وزاد في طغيانه وكفره، وقال: أبمثل هذه المخاطبة يخاطبني، وأنا وأبي نغرم الجزية لأهل مِلَّته منذ ثمانين سنة؟!» ثم أرسل ليوسف بن تاشفين متوعِّدًا ومُهَدِّدًا: فإني اخترت الحرب، فما ردُّك على ذلك؟ وعلى الفور أخذ يوسف بن تاشفين الرسالة، وقلبها وكتب على ظهرها: الجواب ما تراه بعينك لا ما تسمعه بأُذنك، والسلام على مَنِ اتَّبع الهدى. فلما وقف ألفونسو على هذا الجواب ارتاع له، وعلم أنه بُلي برجل لا طاقة له به[7].

دولة المرابطين في اقصى اتساع لها.

قال صاحب (الروض المعطار): «ولما تحقق ابن فرذلند[8] -ألفونسو السادس- جواز يوسف استنفر جميع أهل بلاده وما يليها وما وراءها، ورفع القسيسون والرهبان والأساقفة صلبانهم، ونشروا أناجيلهم، فاجتمع له من الجلالقة والإفرنجة وما يليهم ما لا يُحصى عدده، وجعل يُصغي إلى أنباء المسلمين متغيِّظًا على ابن عباد، حانقًا ذلك عليه، متوعِّدًا له، وجواسيس كل فريق تتردَّد بين الجميع، وبعث -ألفونسو السادس- إلى ابن عباد أن صاحبكم يوسف قد تعنى من بلاد بعيدة وخاض البحور، وأنا أكفيه العناء فيما بقي، ولا أُكَلِّفكم تعبًا، أنا أمضي إليه وألقاكم في بلادكم؛ رفقًا بكم وتوفيرًا عليكم. وقال لأهل ودِّه ووزرائه: إني رأيت إن أمكنتهم من الدخول إلى بلادي فناجزوني[9] بين جدرها ربما كانت الدائرة عليَّ؛ فيكتسحون البلاد، ويحصدون مَنْ فيها في غداة واحدة، لكن أجعل يومهم معي في حوز بلادهم، فإن كانت عليَّ اكتفوا بما نالوه، ولم يجعلوا الدروب وراءهم إلاَّ بعد أهبة أخرى، فيكون في ذلك صونٌ لبلادي، وجبرٌ لمكاسري، وإن كانت الدائرة عليهم كان مني فيهم وفي بلادهم ما خِفْتُ أنا أن يكون منهم فيَّ وفي بلادي إذا ناجزوني في وسطها[10].

الطراز المعمارى للاندلس

محاولة ماكرة من ألفونسو السادس


وفي محاولة ماكرة لخديعة المسلمين أرسل ألفونسو السادس يُحَدِّدُ يوم المعركة، فأرسل أن: غدًا الجمعة، ولا نُحِبُّ مقاتلتكم فيه؛ لأنه عيدكم، وبعده السبت يوم عيد اليهود، وهم كثيرون في محلَّتنا، ونحن نفتقر إليهم، وبعده الأحد عيدنا، فلنحترم هذه الأعياد، ويكون اللقاء يوم الاثنين[11].
تَسَلَّم يوسف بن تاشفين الرسالة، وكاد ينخدع بها لأنه كان يعتقد أن الملوك لا تغدر[12]، ولقد كانت هذه أولى جولاته مع النصارى، إلاَّ أن المعتمد بن عباد فهم الخديعة ونبَّه يوسف بن تاشفين إلى ما قد يكون فيها من الغدر[13].
رؤيا ابنرميلة

بحذر تامٍّ لم يلتفت يوسف بن تاشفين إلى ما جاء في رسالة ألفونسو السادس، وقام بتعبئة الجيش وتجهيزه يوم الخميس، ووضعه على أتمِّ الاستعداد.
إنها لحظة لم يتذوَّقها الأندلسيون منذ سنوات وسنوات في أرض الأندلس، يقوم جيش مسلم ويستعد لحرب النصارى من بعد سنوات الذل والهزيمة والجزية، ولا شكَّ أنها لحظات تتلقاها قلوب المؤمنين باشتياق، كاشتياقها إلى الشهادة، ويأمر يوسف بن تاشفين بقراءة سورة الأنفال، ويأمر الخطباء بتحفيز الناس على الجهاد، ويمرُّ هو بنفسه –رحمه الله- على الفصائل ينادي ويقول: طوبى لمن أحرز الشهادة، ومَنْ بقي فله الأجر والغنيمة. وجاء في الروض المعطار: ووعظ يوسف وابن عباد أصحابهما، وقام الفقهاء والعُبَّاد يعظون الناس ويحضُّونهم على الصبر، ويُحَذِّرُونهم الفرار[14].
وفي ليلة الجمعة كان ينام مع الجيش شيخ كبير من شيوخ المالكية في قرطبة، وهو الفقيه الناسك أبو العباس أحمد ابن رميلة القرطبي، والذي قال عنه ابن بشكوال في الصلة: كان معتنيًا بالعلم، وصُحبة الشيوخ، وله شعر حسن في الزهد، وكان كثير الصدقة وفعل المعروف، وكان أبو العباس هذا من أهل العلم والورع والفضل والدين[15].
لم تكن مهمَّة الشيخ يومها هي مجرَّد الجلوس في المسجد، أو إلقاء الدروس، أو تعليم القرآن فقط، فقد كان هذا الشيخ يَفْقَه أمور دينه، ويعلم أن هذا الجهاد هو ذروة سنام هذا الدين، وفي هذه الليلة يرى ابن رُمَيْلَة هذا رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول له: «يَا ابْنَ رُمَيْلَةَ، إِنَّكُمْ مَنْصُورُونَ، وَإِنَّكَ مُلاقِينَا».
يستيقظ ابنُ رُمَيْلَة من نومه وهو الذي يعلم أن رؤية الرسول -صلى الله عليه وسلم- في المنام حقٌّ؛ لأن الشيطان لا يتمثَّل به صلى الله عليه وسلم؛ ففي البخاري بسنده عن أنسٍ -رضي الله عنه- قال: قال النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم: «مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لاَ يَتَخَيَّلُ بِي، وَرُؤْيَا الْمُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ»[16].
يقوم الشيخ فرحًا مسرورًا، لا يستطيع أن يملك نفسه، فقد بشَّره الرسول -صلى الله عليه وسلم، وسيموت في سبيل الله، فالْحُسْنَيَيْن أمام عينيه، نصر للمؤمنين وشهادة تناله، فيا لها من فرحة! ويا له من أجر!
وعلى الفور يذهب ابن رميلة –رحمه الله- في جنح الليل فيُوقظ قادة المسلمين حتى أيقظ المعتمد بن عباد، وقصَّ عليهم رؤيا رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن هذه الرؤيا قد هزَّت ابن عباد فأرسل بخبرها إلى يوسف بن تاشفين وكلِّ قوَّاد الجيش، وقاموا من شدَّة فرحهم وفي منتصف الليل وأيقظوا الجيش كله على صوت: رأى ابن رُمَيْلَة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول له: «إِنَّكُمْ مَنْصُورُونَ، وَإِنَّكَ مُلاقِينَا»[17].

مخابرات المعتمد بن عباد

كان المعتمد بن عباد يراقب –فيما يراقب- معسكر المرابطين أيضًا «خوفًا عليهم من مكائد ابن فرذلند؛ إذ هم غرباء لا عِلْمَ لهم بالبلاد، وجعل يتولَّى ذلك بنفسه؛ حتى قيل: إن الرجل من الصحراويين -المرابطين- كان يخرج عن طرق محلاتهم لبعض شأنه أو لقضاء حاجته فيجد ابن عباد بنفسه مطيفًا بالمحلَّة بعد ترتيب الكراديس –وهي كتائب الخيل- من خيل على أفواه طرق محلاتهم، فلا يكاد الخارج منهم عن المحلة يُخطئ ذلك من لقاء ابن عباد لكثرة تطوافه عليهم»[18].
ثم جاء في الليل فارسان من طلائع المعتمد يخبران أنهما أشرفا على محلة ألفونسو وسمعا ضوضاء الجيوش واضطراب الأسلحة، ثم تلاحقت بقية الطلائع محقِّقين بتحرُّك ألفونسو، ثم جاءت الجواسيس من داخل معسكر ألفونسو يقولون: «استرقنا السمع الساعة، فسمعنا ابن فرذلند يقول لأصحابه: ابن عباد مسعر هذه الحروب، وهؤلاء الصحراويون وإن كانوا أهل حفاظ وذوي بصائر في الجهاد، غير عارفين بهذه البلاد، وإنما قادهم ابن عباد، فاقصدوه واهجموا عليه، وإن انكشف لكم هان عليكم هؤلاء الصحراويون بعده، ولا أرى ابن عباد يصبر لكم إن صدقتموه الحملة». وعند ذلك بعث ابن عباد كاتبه أبا بكر ابن القصيرة إلى يوسف يُعَرِّفه بإقبال ألفونسو ويستحثُّ نُصرته، فمضى ابن القصيرة يطوي الأرض طيًّا حتى جاء يوسف بن تاشفين فعَرَّفه جلية الأمر[19].

جامع قرطبة.

الجيش الإسلامي وخطة الإعداد والهجوم

أعد ترتيب الجيش وصلاة فجر يوم الجمعة الموافق 12 من شهر رجب 479هـ=23 من أكتوبر 1086م، نقض ألفونسو السادس عهده، وبدأ بالهجوم في ذلك اليوم؛ إذ الغدر والخيانة ومخالفة العهود هو الأصل عندهم.
ولقد صُدم الجيش الإسلامي، وفوجئ بالفعل -كما ستؤكد الرسالة التي كتبها يوسف بن تاشفين نفسه فيما بعد- وانحطَّ عليه جيش النصارى بكتائب «تملأ الآفاق»، وبدت الصدمة الأولى صدمة هائلة حقًّا!
كان الجيش الإسلامي قد انقسم إلى ثلاث فرق رئيسة:

الأولى: فرقة الأندلسيين



وتضم الجيش الأندلسي وعلى رأسه المعتمد بن عباد ومعه ملوك الأندلس؛ ابن صمادح صاحب ألمرية، وعبد الله بن بلقين صاحب غرناطة، وابن مسلمة صاحب الثغر الأعلى، وابن ذي النون، وابن الأفطس.. وغيرهم، وقد أمرهم يوسف أن يكونوا مع المعتمد[20]، كان المعتمد في القلب والمتوكل بن الأفطس في ميمنتها، وأهل شرق الأندلس في ميسرتها، وسائر أهل الأندلس الآخرين في مؤخرة هذه الفرقة[21]، وقد اختار المعتمد أن يكون في المقدمة وأول مَنْ يصادم الجيش الصليبي[22].
يُريد بذلك أن يغسل عار السنين السابقة وما رآه من ذل وهوان، أو لعله كان يُريد أن يحوز القدر الأعلى من النصر إن تم؛ فيُنسب الأمر له، والله أعلم بالنوايا.
وقيل في روايات أخرى بأن يوسف بن تاشفين خشي ألا يثبت المعتمد بن عباد، وألا يبذل جهده في الحرب، فكان وضعه في المقدمة بطلب من يوسف بن تاشفين[23].
الثانية: فرقة من جيش المرابطين


الجزيرة الخضراء مقر معسكر المرابطين.

وعلى رأسهم البطل المرابطي الكبير داود ابن عائشة، وكانت هذه الفرقة خلف الجيش الأندلسي.
الثالثة: جيش المرابطين الرئيسي

بقيادة يوسف بن تاشفين يختفي خلف أحد التلال على مسافة من الجيش، بحيث لا يُرى هذا الجيش، فيُظَنُّ أن كل جيش المسلمين هو الفرقتان الأوليان: جيش الأندلسيين وجيش المرابطين الذي يقوده داود ابن عائشة[24].
وقد أراد يوسف بن تاشفين من وراء ذلك أن تحتدم الموقعة فتُنْهك قوى الطرفين حتى لا يستطيعا القتال، وكما يحدث في سباق الماراثون فيقوم هو ويتدخَّل بجيشه ليَعدل الكِفَّة لصالح صفِّ المسلمين[25].
لم تكن خطَّة يوسف بن تاشفين -رحمه الله- جديدة في حروب المسلمين؛ فقد كانت هي الخطة نفسها التي استعملها خالد بن الوليد t في موقعة الولجة في فتوح فارس، وهي -أيضًا- الخطة نفسها التي استعملها النعمان بن مقَرِن في موقعة نهاوند في فتوح فارس أيضًا، فكان يوسف بن تاشفين –رحمه الله- رجلاً يقرأ التاريخ ويعرف رجالاته ويعتبر بهم.
معركة الزلاقة:


المضيق الذي عبر منه المرابطون.

هجوم ألفونسو على المعتمد

لما كان يوم الجمعة الموافق 12 من شهر رجب 479هـ= 23 من أكتوبر 1086م هجم ألفونسو السادس بجيشه الضخم على الجيش الأول للمسلمين (الجيش الأندلسي)، مال ألفونسو السادس على المعتمد بجموعه وأحاطوا به من كل جهة فاستحر القتل فيهم، وصبر ابن عباد –وجيشه الأندلسي- صبرًا لم يُعهد مثله لأحد، واستبطأ يوسف وهو يلاحظ طريقه، وعَضَّته الحرب، واشتدَّ البلاء، وأبطأ عليه الصحراويون، وساءت ظنون أصحابه، وانكشف بعضهم وفيهم ابنه عبد الله، وأُثْخِنَ ابن عباد جراحات وضُرِبَ على رأسه ضربة فلقت هامته حتى وصلت إلى صدغه، وجرحت يمنى يديه، وطُعن في أحد جانبيه، وعُقرت تحته ثلاثة أفراس، كلما هلك واحد قُدِّمَ له آخر، وهو يقاسي حياض الموت يضرب يمينًا وشمالاً، وتَذَكَّر في تلك الحال ابنًا له صغيرًا كان مغرمًا به، كان تركه بإشبيلية عليلاً اسمه المعلى وكنيته أبو هاشم، فقال: [المتقارب]
ابَا هَاشِمٍ هَشَّمَتْنِي الشِّفَارُ *** فَلِلَّهِ صَبْرِي لِذَاكَ الأُوَارُ[26]
ذَكَرْتُ شَخِيصَكَ تَحْتَ الْعَجَاجِ[27] *** فَلَمْ يُثْنِنِي ذِكْرُهُ لِلْفِرَارِ
ثم ما هو إلا أن انضم إليه القسم الأول من جيش المرابطين وقائده داود ابن عائشة، وكان بطلاً شهمًا فنَفَّس بمجيئه عن ابن عباد[28].
إلا أن ألفونسو كان قد قسَّم هو الآخر جيشه إلى قسمين، فانهال بالقسم الآخر على جيش المرابطين الذي يقوده داود ابن عائشة بأعداد ضخمة، «فاقتتلوا قتالاً عظيمًا، وصبر المرابطون صبرًا جميلاً، وداسهم اللعين بكثر جنوده حتى كاد يستأصلهم، وكانت بينهم مضاربة تفلَّلت فيها السيوف، وتكسَّرت الرماح، وسارت الفرقة الثانية من عسكر اللعين مع البرهانس وابن رذمير نحو ملحة (لعله يقصد محلة) ابن عباد، فداسوها، واستمرَّت الهزيمة على رؤساء الأندلس إلى جهة بطليوس، ولم يثبت منهم غير ابن عباد وجيشه، فإنهم ثبتوا في ناحية يُقاتلون لم ينهزموا، وقاتلوا قتالاً شديدًا، وصبروا صبر الكرام لحرب اللئام...» [29]. وبدا المعسكر الإسلامي مرة أخرى في حالة الهزيمة.
تحرك يوسف بن تاشفين


مسير جيش المرابطين من المغرب حتى الزلاقة.



وهنا بدأ تحرك الجيش المرابطي الرئيسي الذي يقوده ابن تاشفين، وذلك بعد أن كانت قد أُنهكت قوى الطرفين من المسلمين والنصارى، وبعد طول صبر ينزل يوسف بن تاشفين بالقسم الرئيسي من جيش المرابطين الذين كانوا معه، وهم في كامل قوتهم، فيحاصرون الجيش النصراني.
قسَّم يوسف بن تاشفين الجيش الذي كان معه إلى قسمين: فالأول وقائده سير ابن أبي بكر - في قبائل المغرب وزناتة والمصامدة وغمارة وسائر قبائل البربر- يساعد جيش المسلمين الذي يقوده داود ابن عائشة والمعتمد بن عباد، والقسم الثاني بقيادته هو ومعه باقي قبائل صنهاجة والمرابطين يلتفُّ خلف جيش النصارى، ويقصد مباشرة إلى معسكرهم، «فأضرمها نارًا وأحرقها، وقتل مَنْ كان بها من الأبطال والرجال والفرسان، الذين تركهم ألفونسو بها يحرسونها ويحمونها، وفرَّ الباقون منهزمين نحو ألفونسو، فأقبلت عليهم خيله من محلته فارِّين، وأمير المسلمين يوسف في أثرهم بساقته وطبوله وبنوده، وجيوش المرابطين بين يديه يحكمون في الكفرة سيوفهم، ويروونها من دمائهم، فقال ألفونسو السادس: ما هذا؟! فأُخبر الخبر بحرق محلته ونهبها، وقتل حماتها، وسبي حريمها، فردَّ وجهه إلى قتاله، وصمم أمير المسلمين نحوه، فانتشبت الحروب بينهما، فكانت بينهما حروب عظيمة لم يُسمع قط بمثلها...» [30].
وحين علم النصارى أن المسلمين من ورائهم، وأنهم محاصَرون «ارتاعت قلوبهم، وتجلجلت أفئدتهم، ورأوا النار تشتعل في محلتهم، وأتاهم الصريخ بهلاك أموالهم، وأخبيتهم، فسُقط في أيديهم، فثَنَوْا أعنَّتهم، ورجعوا قاصدين محلتهم، فالتحمت الفئتان، واختلطت الملتان، واشتدت الكَرَّات، وعظمت الهجمات، والحروب تدور على اللعين، وتطحن رءوس رجاله، ومشاهير أبطاله، وتقذف بخيلهم عن يمينه وشماله، وتداعى الأجناد والحشم والعبيد للنزال، والترجُّل عن ظهور الخيل، ودخول المعترك، فأمدَّ الله المسلمين بنصره، وقذف الرعب في قلوب المشركين»[31].

موقع سهل الزلاقة على الخريطة.

اضطراب جيش النصارى

وهكذا حوصر جيش النصارى بين الجيش الأندلسي من الأمام، وجيش المرابطين من الخلف، وبالفعل بدأ الاضطراب والتراجع في صفوف النصارى، وقد التفَّ جنود النصارى حول ألفونسو السادس يحمونه، ثم حدثت خلخلة عظيمة في جيشهم.
يقول الحميري: «فبادر إليه يوسف، وصدمهم بجمعه، فردَّهم إلى مركزهم، وانتظم به شمل ابن عباد، ووجد ريح الظفر، وتباشر بالنصر، ثم صدقوا جميعًا الحملة، فتزلزلت الأرض بحوافر خيولهم، وخاضت الخيل في الدماء، وصبر الفريقان صبرًا عظيمًا، ثم تراجع ابن عباد إلى يوسف، وحمل معه حملة نزل معها النصر، وتراجع المنهزمون من أصحاب ابن عباد حين علموا بالتحام الفئتين فصدقوا الحملة»[32].

نهر يانة الذي عسكر بجانبه الجيشان.


تقسيم دويلات ملوك الطوائف قبل دخول المرابطين الأندلس.

انتصار المسلمين

تزداد شراسة الموقعة حتى قُبيل المغربِ، ثم ومن بعيدٍ يُشير يوسف بن تاشفين إلى أربعة آلاف فارسٍ من رجال السودان المهرة، وهم حرسه الخاص فيترجلون عن خيولهم، ليقتحموا –فيما يشبه المهمة الخاصة- قلب جيش النصارى وينفذون إلى ملكهم، وبالفعل نفذ أربعة آلاف مقاتل إلى قلب المعمعة، واستطاع أحدهم أن يصل إلى ملك قشتالة، وأن يطعنه بخنجره في فخذه طعنة نافذة [33].
يصف صاحب الحلل الموشية هذه اللحظات من المعركة بقوله: «واشتدت الكَرَّات، وعظمت الهجمات، والحروب تدور على اللعين، وتطحن رءوس رجاله، ومشاهير أبطاله، وتقذف بخيلهم عن يمينه وشماله، وتداعى الأجناد والحشم والعبيد للنزال، والترجُّل عن ظهور الخيل، ودخول المعترك فأمدَّ الله المسلمين بنصره... وفي أثناء ذلك، تلاقى بالطاغية أذفنش غلام أسود بيده خنجر يدعوه البرابر بالأفطس، قطع جرز درعه، وطعنه في فخذه مع مدار سرجه، فكان أذفنش يقول بعد ذلك: التحق بي غلام أسود فضربني في الفخذ بمنجل أراق دمي. فتخيل له الأفطس أنه منجل لكونه رآه معوجًا»[34].
ويقول لسان الدين بن الخطيب: «ولم تزل الكَرَّات بين المحلات تتعاقب، والهجمات سجالاً تداول، والحرب تدور، وأَمَرَ الأميرُ يوسف العبيدَ فترجَّلوا عن الخيل في نحو ألف، ودخلوا المعرك بالمزارق (الرماح القصيرة الخفيفة) لعجز السلاح عن الخيل الدارعة، فأثرت فيها بالطعن، وجعلت ترمح بفرسانها، ولصق منهم بالأذفونش عبد قبض على عنانه، وضربه بخنجر...» [35]. وبقي أثر الطعنة مع ألفونسو بقية عمره، فكان يعرج منها[36].

ثم لجأ ألفونسو إلى تل يحتمي به كان قريبًا من معسكره ومعه نحو الخمسمائة فارس كلهم مكلوم، وأباد القتل والأسر مَنْ عداهم من أصحابهم... ولما جاء الليل تسلل وهو لا يلوي على شيء، وأصحابه يتساقطون في الطريق واحدًا بعد واحد من أثر جراحهم، فلم يدخل طُلَيْطلَة إلا في دون المائة[37]، وبعض الروايات تقول بأن الذين نجوا أقل من الثلاثين[38]. وغنم المسلمون كل ما لهم من مال وسلاح ودواب وغير ذلك[39]. واستشهد من المسلمين فيها حوالي ثلاثة آلاف رجل[40].
وبذلك كانت الزلاقة دون مبالغة كمعركتي اليرموك والقادسية.
كان رأي المعتمد بن عباد أن يواصل الجيش مطاردته لألفونسو المنحسب حتى يقضي عليه نهائيًّا، ولكن ابن تاشفين كان يرى أن الضغط عليهم وإرهاقهم يجعلهم يستبسلون في القتال، فيقاتلون قتال مَنْ لا يرى حياته إلا بموت خصمه، وفي هذا ضرر على المسلمين، لا سيما وأن مطاردة ألفونسو وهو على هذا الحال قد تُوقع في طريقه بعض المسلمين المنسحبين، الذين يتواصل عودتهم إلى الجيش مع انقلاب كفة المعركة، وهم بالنسبة له أقل قوة وهو أقدر على الإيقاع بهم، فإن انتظروا هذا اليوم فتكامل عدد المسلمين برجوع الذين انسحبوا، هان عليهم أن يقاتلوه في اليوم الثاني، وردَّ عليه ابن عباد بقوله: إن فرَّ أمامنا لقيه أصحابنا المنهزمون فلا يعجزون عنه. إلا أن يوسف أصرَّ على الامتناع وقال: الكلب إذا أُرهق لا بُدَّ أن يعضَّ[41].
ونحن إذ نقرأ التاريخ الآن نرى أن ابن عباد كان أصوب رأيًّا من ابن تاشفين في هذا الأمر، فلقد استمر ألفونسو يقاتل المسلمين بعدها عشرين سنة ولم يضعف ولم يتوانَ، ويُتوقع أن لو كان قُضي عليه في يوم الزلاقة لكنا نكتب الآن تاريخًا آخر، ولكان المسلمون استطاعوا أن يستعيدوا طُلَيْطلَة مرة أخرى.. إلاَّ أنه لا يسعنا أن نعترف بأننا نقول الرأي الآن بعدما انتهت الأحداث وانقشعت المعارك، وما ندري لو كنا في ذلك الموقف ماذا قد يكون الاختيار.
واستشهد في ذلك اليوم جماعة من الفضلاء والعلماء وأعيان الناس؛ مثل: ابن رميلة صاحب الرؤية المذكورة، وقاضي مَرَّاكُش أبي مروان عبد الملك المصمودي.. وغيرهما، رحمهم الله تعالى[42].
وما أن تنتهي أحداث الزلاقة حتى يصل إلى يوسف بن تاشفين نبأ مُفزع من بلاده بالمغرب، إنه يحمل مصيبة قد حَلَّت به وبداره، فابنه الأكبر قد مات، فيعجل هذا برجوع ابن تاشفين إلى المغرب[43].
زهد وورع يوسف بن تاشفين


مخطوطة باسم يوسف بن تاشفين.

بعد هذه المعركة جمع المسلمون من الغنائم الكثير، لكن يوسف بن تاشفين وفي صورة مشرقة ومشرِّفة من صور الإخلاص والتجرُّد، وفي درس عملي بليغ لأهل الأندلس عامَّة، ولأمرائهم خاصَّة يترك كل هذه الغنائم لأهل الأندلس، ويرجع في زُهدٍ عجيب وورع صادق إلى بلاد المغرب، لسان حاله: {لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا} [الإنسان: 9].
قال المقري في نفح الطيب: وأقامت العساكر بالموضع أربعة أيام؛ حتى جمعت الغنائم، واستُؤْذِن في ذلك السلطان يوسف، فعفَّ عنها، وآثر بها ملوك الأندلس، وعَرَّفهم أن مقصدَه الجهاد والأجر العظيم، وما عند الله في ذلك من الثواب المقيم، فلمَّا رأتْ ملوك الأندلس إيثار يوسف لهم بالغنائم استكرموه، وأحبُّوه وشكروا له ذلك[44].
عودة إلى المغرب


قبر المعتمد وزوجته الرميكية

يعود يوسف بن تاشفين –رحمه الله- إلى بلاد المغرب بعد أن جمع ملوك الأندلس وأَمَرَهم بالاتفاق، وإطراح التنابذ والتخاصم؛ حتى لا يُضيعوا بحماقاتهم ثمار هذا النصر[45]، وعاد يوسف بن تاشفين البطل الإسلامي المغوار وعمره آنذاك تسع وسبعون سنة!
كان من الممكن ليوسف بن تاشفين –رحمه الله- أن يُرسل قائدًا من قوَّاده إلى أرض الأندلس، ويبقى هو في بلاد المغرب، بعيدًا عن تخطِّي القفار وعبور البحار، وبعيدًا عن ويلات الحروب وإهلاك النفوس، وبعيدًا عن أرض غريبة وأناس أغرب؛ لكنه –رحمه الله- وهو الشيخ الكبير يتخطَّى تلك الصعاب، ويركب فرسه، ويحمل رُوحه بين يديه، لسان حاله: أذهبُ إلى أرض الجهاد لعلِّي أموتُ في سبيل الله.
شعاره هو: [الوافر]
إِذَا غَامَرْتَ فِي شَرَفٍ مَرُومٍ *** فَلاَ تَقْنَعُ بِمَا دُونَ النُّجُومِ
فَطَعْمُ الْمَوْتِ فِي أَمْرٍ حَقِيرٍ *** كَطَعْمِ الْمَوْتِ فِي أَمْرٍ عَظِيمِ[46]
لكن يوسف بن تاشفين –رحمه الله- لم يمت هناك، فلا نامت أعين الجبناء.
المعتمد على الله بن عباد وشرف الجهاد
ولما دخل ابن عباد إشبيلية جلس للناس وهُنِّئ بالفتح، وقَرَأت القرَّاء، وقامت على رأسه الشعراء فأنشدوه، يقول عبد الجليل بن وهبون: حضرتُ ذلك اليوم وأعددتُ قصيدة أُنشده إياها، فقرأ القارئ: {إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ} [التوبة: 40]. فقلتُ: بُعْدًا لي ولشعري، واللهِ! ما أبقت لي هذه الآية معنى أحضره وأقوم به، وطار ذكر ابن عباد بهذه الوقيعة وشهر مجده، ومالت إليه القلوب، وسالمته ملوك الطوائف، وخاطبوه جميعًا بالتهنئة، ولم يزل ملحوظًا معظَّمًا إلى أن كان من أمره مع يوسف ما كان[47].
[1] ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 8/447، وابن الأبار: الحلة السيراء، 2/100، وابن خلكان: وفيات الأعيان، 7/116، وتاريخ ابن خلدون، 6/186، والحميري: الروض المعطار، ص92، والمقري: نفح الطيب، 4/364، والسلاوي: الاستقصا، 2/43، وابن أبي زرع: روض القرطاس، ص146.
[2] المقري: نفح الطيب، 4/361.
[3] تُعَبِّر المصادر التاريخية عن عدد الروم بالعبارات التي تفيد الكثرة والضخامة، وأما مَنْ ذكروا العدد فمنهم من قال: إنهم كانوا ثمانين ألف فارس، ومائتي ألف راجل. ومنهم من قال: إنهم كانوا ثمانين ألف فارس لابسين الدروع دون غيرهم. وهذه هي رواية صاحب الحلل الموشية الذي يعود ويقول بعد ذلك: إنه قُتل في هذه الغزوة من النصارى ثلاثمائة ألف. ومنهم من يقول: إنهم كانوا خمسين ألف مقاتل. ومنهم من يقول: إن أقل تقدير لهم أنهم كانوا أربعين ألف دارع، ولكل دارع أتباع.
[4] الحميري: الروض المعطار، ص289، والمقري: نفح الطيب، 4/363، والسلاوي: الاستقصا، 2/42.
[5] ذكرت بعض المصادر أن هذه الرسالة إنما أرسلها ألفونسو الثامن إلى يعقوب المنصور الموحدي بعد هذا بحوالي قرن من الزمان، إلا أن التحقيق يؤدي إلى أنها مرسلة من ألفونسو السادس إلى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين. انظر: ابن الأثير: الكامل 10/237، وابن خلكان: وفيات الأعيان 7/6، 7، ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 5/198.
[6] ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص146، والحميري: الروض المعطار، ص290، والحلل الموشية، ص53، والمقري: نفح الطيب، 4/363، والسلاوي: الاستقصا، 2/42.
[7] ابن الأثير: الكامل، 8/446، ومجهول: الحلل الموشية، ص53.
[8] فرذلند: هو التعريب لاسم فرناندو، أول من بدأ بحرب الاسترداد وأخذ الجزية من المسلمين، وابنه هو ألفونسو السادس، والذي يعرب اسمه إلى: ألفُنش ألفونش وأذفونش.
[9] ناجزه: نازله وقاتله. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة نجز 5/413، والمعجم الوسيط 2/903.
[10] الحميري: الروض المعطار، ص298، وما بعدها.
[11] ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص146، والحلل الموشية، ص57.
[12] عبد الواحد المراكشي: المعجب 194، 195.
[13] ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص147.
[14] الحميري: الروض المعطار، ص290.
[15] ابن بشكوال: الصلة، 1/118 144.
[16] البخاري: كتاب التعبير، باب من رأى النبي r في المنام، 6593 واللفظ له، ومسلم: كتاب الرؤيا، باب قول النبي عليه الصلاة والسلام: «مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي» 2266.
[17] الحميري: الروض المعطار، ص290، والمقري: نفح الطيب، 4/365، والسلاوي: الاستقصا، 2/45.
[18] ابن أبي زرع: روض القرطاس ص147، والحميري: الروض المعطار، ص290.
[19] الحميري: الروض المعطار، ص290، والمقري: نفح الطيب، 2/365، والسلاوي: الاستقصا، 2/45.
[20] ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص146، والسلاوي: الاستقصا، 2/44، 45.
[21] مجهول: الحلل الموشية ص59.
[22] ابن خلكان: وفيات الأعيان، 7/117.
[23] ابن الأثير: الكامل، 8/447.
[24] ابن الأثير: الكامل 8/447، وابن أبي زرع: روض القرطاس، ص146، وابن الخطيب: أعمال الأعلام القسم الثالث، ص242، 243.
[25] ابن خلكان: وفيات الأعيان، 7/118.
[26] الأوار: شدَّة الشيء وقوته. ابن منظور: لسان العرب، مادة أور 4/35.
[27] العجاج: الغبار. الجوهري: الصحاح، باب الجيم فصل العين 1/327، وابن منظور: لسان العرب، مادة عجج 2/318.
[28] انظر: ابن الأثير: الكامل 8/477، وعبد الواحد المراكشي: المعجب ص194، 195، والحميري: الروض المعطار، ص291، والمقري: نفح الطيب، 4/366، والسلاوي: الاستقصا، 2/46.
[29] ابن أبي زرع: روض القرطاس ص147.
[30] ابن الأثير: الكامل 8/477، وابن أبي زرع: روض القرطاس ص147 وما بعدها.
[31] مجهول: الحلل الموشية ص59.
[32] الحميري: الروض المعطار ص290 وما بعدها.
[33] ابن خلكان في وفيات الأعيان، 7/118، والسلاوي: الاستقصا، 2/47، ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 5/325.
[34] مجهول: الحلل الموشية ص61.
[35] ابن الخطيب: أعمال الأعلام، القسم الثالث، ص243.
[36] الحميري: الروض المعطار، ص290.
[37] المصدر السابق، ص290 وما بعدها.
[38] ابن خلكان: وفيات الأعيان، 7/117.
[39] ابن الأثير: الكامل 8/477، وابن خلكان: وفيات الأعيان 7/117.
[40] ابن أبي زرع: روض القرطاس ص148.
[41] الحميري: الروض المعطار ص290 وما بعدها، ومجهول: الحلل الموشية ص59.
[42] الحميري: الروض المعطار، ص292، والمقري: نفح الطيب، 4/369، والسلاوي: الاستقصا، 2/48.
[43] ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص152، والحلل الموشية، ص66، والحميري: الروض المعطار، ص292، والمقري: نفح الطيب، 4/370، والسلاوي: الاستقصا، 2/49.
[44] المقري: نفح الطيب، 4/369.
[45] انظر: عبد الله بن بلقين: التبيان، ص339، نقلاً عن حسن أحمد محمود: قيام دولة المرابطين، ص282، وسعدون عباس نصر الله: دولة المرابطين، ص97.
[46] ديوان المتنبي، ص195.
[47] الحميري: الروض المعطار، ص292، والمقري: نفح الطيب، 4/370، والسلاوي: الاستقصا، 2/50.
منقول بتصرف




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #15  
قديم 03-04-2023, 11:43 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,180
الدولة : Egypt
افتراضي رد: معارك حربية مهمة فى التاريخ الاسلامى ...يوميا فى رمضان




حروب الردة (1)
جهاد الصديق لأهل الردة
علي بن محمد الصلابي
(13)

الردة التي قامت بها القبائل بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لها أسباب، منها: الصدمة بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورقة الدين والسقم في فهم نصوصه، والحنين إلى الجاهلية ومقارفة موبقاتها، والتفلت من النظام والخروج على السلطة الشرعية..

أولاً: الردة اصطلاحًا، وبعض الآيات التي حذرت من الردة:

1- الردة اصطلاحًا:
عرف النووي الردة بأنها: قطع الإسلام بنية أو قول كفر أو فعل، سواء قاله استهزاء أو عنادا أو اعتقادا، فمن نفى الصانع أو الرسل أو كذّب رسولاً أو حلل محرما بالإجماع كالزنا وعكسه، أو نفى وجوب مجمع عليه أو عكسه، أو عزم على الكفر أو تردد فيه كفر.
وعرفها عليش المالكي بأنها: كفر المسلم بقول صريح أو لفظ يقتضيه أو بفعل يتضمنه.
وعرف ابنُ حزم الظاهري (المرتدَ) بأنه: كل من صح عنه أنه كان مسلما متبرئا من كل دين حاشا دين الإسلام، ثم ثبت عنه أنه ارتد عن الإسلام وخرج إلى دين كتابي أو غير كتابي أو إلى غير دين.
وعرفه عثمان الحنبلي: بأنه لغة: الراجع، قال تعالى: {وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ} [المائدة: 21]، وشرعا: من أتى بما يوجب الكفر بعد إسلامه.
ومعنى هذا أن المرتد هو كل من أنكر معلوما من الدين بالضرورة كالصلاة والزكاة والنبوة وموالاة المؤمنين، أو أتى بقول أو فعل لا يحتمل تأويلاً غير الكفر.


2- بعض الآيات التي أشارت إلى المرتدين:
أطلق الله -سبحانه وتعالى- على المرتدين عن دينه عبارات تشير إلى هذا المرتكس الوبيل الذي تحولوا إليه، منها الردة على الأعقاب أو على الأدبار والانقلاب بالخسران وطمس الوجوه، ورد الأيدي في الأفواه والارتياب والتردد واسوداد الوجوه ، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [آل عمران: 149]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولا} [النساء: 47]، وجاء في تفسير ابن كثير: وطمسها أن تعمى وقوله: فنردها على أدبارها أي: تجعل لأحدهم عينين من قفاه، وهذا أبلغ في العقوبة والنكال، وهذا مثل ضربه الله لهم في صرفهم عن الحق وردهم إلى الباطل ورجوعهم عن المحجة البيضاء إلى سبيل الضلالة يهرعون ويمشون القهقري على أدبارهم.
وقال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [آل عمران: 106].
نقل القرطبي فيها جملة آراء منها رأي قتادة أنها في المرتدين، كما نقل حديثا لأبي هريرة وقال عنه: يستشهد به بأن الآية في الردة وهو: «يرد على الحوض يوم القيامة رهط من أصحابي فيجلون عن الحوض فأقول: يا رب أصحابي! فيقول: إنك لا علم لك ما أحدثوا بعدك، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقري». وفي رواية أخرى لهذا الحديث عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات اليمين فأقول: أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح: وكنت عليهم شهيدًا ما دمت فيهم، فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم، فيقال: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم».

ثانيًا: أسباب الردة وأصنافها:

مواطن أهمُّ القبائل العربيَّة في شبه الجزيرة. ارتدَّت أغلب تلك القبائل عن الإسلام بعد وفاة النبيّ عدا قلَّةٌ قليلة مثل قُريش وثقيفوالأوسوالخزرج ومن جاور ديارها في مكَّة والمدينة والطائف.
إن الردة التي قامت بها القبائل بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لها أسباب، منها: الصدمة بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورقة الدين والسقم في فهم نصوصه، والحنين إلى الجاهلية ومقارفة موبقاتها، والتفلت من النظام والخروج على السلطة الشرعية، والعصبية القبلية والطمع في الملك، والتكسب بالدين والشح بالمال، والتحاسد، والمؤثرات الأجنبية كدور اليهود والنصارى والمجوس، وسنتحدث عن كل سبب بإذن الله تعالى.

وأما أصنافها: فمنهم من ترك الإسلام جملة وتفصيلاً وعاد إلى الوثنية وعبادة الأصنام، ومنهم من ادعى النبوة، ومنهم من دعا إلى ترك الصلاة، ومنهم من بقي يعترف بالإسلام ويقيم الصلاة ولكنه امتنع عن أداء زكاته، ومنهم من شمت بموت الرسول وعاد أدراجه يمارس عاداته الجاهلية، ومنهم من تحير وتردد وانتظر على من تكون الدبرة، وكل ذلك وضحه علماء الفقه والسير.
قال الخطابي: إن أهل الردة كانوا صنفين: صنفا ارتدوا عن الدين ونابذوا الملة وعادوا إلى الكفر، وهذه الفرقة طائفتان: إحداهما أصحاب مسيلمة من بني حنيفة وغيرهم الذين صدقوه على دعواه في النبوة، وأصحاب الأسود العنسي ومن كان من مستجيبيه من أهل اليمن وغيرهم، وهذه الفرقة بأسرها منكرة لنبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مدعية النبوة لغيره، والطائفة الأخرى ارتدوا عن الدين وأنكروا الشرائع وتركوا الصلاة والزكاة وغيرها من أمور الدين وعادوا إلى ما كانوا عليه في الجاهلية، والصنف الآخر هم الذين فرقوا بين الصلاة والزكاة فأقروا بالصلاة وأنكروا فرض الزكاة ووجوب أدائها إلى الإمام ... وقد كان ضمن هؤلاء المانعين للزكاة من كان يسمح (بها) ولا يمنعها إلا أن رؤساءهم صدوهم عن ذلك، وقبضوا أيديهم على ذلك.
وقريب من هذا التقسيم لأصناف المرتدين تقسيم القاضي عياض غير أنهم عنده ثلاثة: صنف عادوا إلى عبادة الأوثان، وصنف تبعوا مسيلمة والأسود العنسي، وكل منهما ادعى النبوة، وصنف ثالث استمروا على الإسلام ولكنهم جحدوا الزكاة، وتأولوا بأنها خاصة بزمن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقسم الدكتور عبد الرحمن بن صالح المحمود المرتدين إلى أربعة أصناف: صنف عادوا إلى عبادة الأوثان والأصنام، وصنف اتبعوا المتنبئين الكذبة الأسود العنسي ومسيلمة وسجاح، وصنف أنكروا وجوب الزكاة وجحدوها، وصنف لم ينكروا وجوبها ولكنهم أبوا أن يدفعوها إلى أبي بكر .

ثالثًا: الردة أواخر عصر النبوة:
بدأت هذه الردة منذ العام التاسع للهجرة المسمى بعام الوفود، وهو العام الذي أسلمت فيه الجزيرة العربية قيادها للرسول صلى الله عليه وسلم ممثلة بزعمائها الذين قدموا عليه من أصقاعها المختلفة، وكانت حركة الردة في هذه الأثناء لما تستعلن بشكل واسع، حتى إذا كان أواخر العام العاشر الهجري وهو عام حجة الوداع التي حجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل به وجعه الذي مات فيه وتسامع بذلك الناس، بدأ الجمر يتململ من تحت الرماد، وأخذت الأفاعي تطل برؤوسها من جحورها، وتجرأ الذين في قلوبهم مرض على الخروج، فوثب الأسود العنسي باليمن، ومسيلمة الكذاب باليمامة، وطليحة الأسدي في بلاد قومه، ولما كان أخطر متمردين على الإسلام وهما الأسود العنسي ومسيلمة وأنهما مصممان كما يبدو على المضي في طريق ردتهما قدما دون أن يفكرا في الرجوع، وأنهما مشايعان بقوى غفيرة وإمكانيات وفيرة فقد أرى الله نبيه صلى الله عليه وسلم من أمرهما ما تقر به عينه، ومن ثم ما تقر به عيون أمته من بعده، فقد قال يوما وهو يخطب الناس على منبره: «أيها الناس، إني قد أريت ليلة القدر ثم أنسيتها، ورأيت أن في ذراعي سوارين من ذهب فكرهتهما فنفختهما فطارا، فأولتهما هذين الكذابين: صاحب اليمن وصاحب اليمامة».

ظفار يريم، موطن الحِميَّريين باليمن، حيثُ انطلقت شرارة الرِّدَّة والتنبؤ أواخر أيَّام الرسول مُحمَّد.
وقد فسر أهل العلم بالتعبير هذه الرؤيا على هذه الصورة فقالوا: إن نفخه صلى الله عليه وسلم لهما يدل على أنهما يقتلان بريحه لأنه لا يغزوهما بنفسه، وإن وصفه لهما بأنهما من ذهب دلالة على كذبهما لأن شأنهما زخرف وتمويه، كما دل لفظ السوارين على أنهما ملكان؛ لأن الأساورة هم الملوك، ودلا بكونهما يحيطان باليدين أن أمرهما يشتد على المسلمين فترة لكون السوار مضيقا على الذراع.

وعبر الدكتور علي العتوم بقوله:«... بأن طيرانهما بالنفخ دلالة على ضعف كيدهما مهما تضاخم، فشأنهما زبد لا بد أن يؤول إلى جفاء ما دام هذا الكيد مستمدًا من الشيطان فهو واهن لا محالة، إذ أقل هجمة مركزة في سبيل الله تحيلهما أثرًا بعد عين، وكونهما من ذهب دلالة على أنهما يقصدان من عملهما الدنيا؛ لأن الذهب رمز لحطامها الذي يسعى المغترون بها خلفه، وأنها سوارن إشارة إلى محاولتهما الإحاطة بكيان المسلمين عن طريق الإحاطة بهم من كل جانب، تماما كما يحيط السوار بالمعصم».



رابعًا: موقف الصديق من المرتدين:

لما كانت الردة قام أبو بكر رضي الله عنه في الناس خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: الحمد لله الذي هدى فكفى، وأعطى فأعفى. إن الله بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم والعلم شريد، والإسلام غريب طريد، قد رث حبله وخَلَق ثوبه وضل أهله منه، ومقت الله أهل الكتاب فلا يعطيهم خيرًا لخير عندهم، ولا يصرف عنهم شرًّا لشر عندهم، وقد غيروا كتابهم وألحقوا فيه ما ليس منه، والعرب الآمنون يحسبون أنهم في منعة من الله لا يعبدونه ولا يدعونه، فأجهدهم عيشًا وأظلهم دينًا, في ظلف من الأرض مع ما فيه من السحاب، فختمهم الله بمحمد وجعلهم الأمة الوسطى، ونصرهم بمن اتبعهم، ونصرهم على غيرهم، حتى قبض الله نبيه فركب منهم الشيطان مركبه الذي أنزل عليه، وأخذ بأيديهم، وبغى هلكتهم: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَّضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ} " [آل عمران: 144].
إن من حولكم من العرب قد منعوا شاتهم وبعيرهم، ولم يكونوا في دينهم –وإن رجعوا إليه- أزهد منهم يومهم هذا، ولم تكونوا في دينكم أقوى منكم يومكم هذا على ما قد تقدم من بركة نبيكم، وقد وكلكم إلى المولى الكافي الذي وجده ضالاً فهداه وعائلاً فأغناه: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَ} [آل عمران: 103].
والله لا أدع أن أقاتل على أمر الله حتى ينجز الله وعده ويوفي لنا عهده، ويقتل من قتل منا شهيدًا من أهل الجنة، ويبقى من بقي منها خليفته وذريته في أرضه، قضاء الله الحق، وقوله الذي لا خلف له: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ} [النور: 55].
وقد أشار بعض الصحابة -ومنهم عمر- على الصديق بأن يترك مانعي الزكاة ويتألفهم حتى يتمكن الإيمان من قلوبهم، ثم هم بعد ذلك يزكون، فامتنع الصديق عن ذلك فلم يتردد لحظة واحدة بعد ظهور الصواب له، وعدم التردد كان سمة بارزة من سمات أبي بكر –هذا الخليفة العظيم- في حياته كلها، ولقد اقتنع المسلمون بصحة رأيه ورجعوا إلى قوله واستصوبوه.


لقد كان أبو بكر رضي الله عنه أبعد الصحابة نظرًا وأحقهم فهما وأربطهم جنانا وفي هذه الطامة العظيمة، والمفاجأة المذهلة، ومن هنا أتى قول سعيد بن المسيب -رحمه الله-: وكان أفقههم -يعني الصحابة- وأمثلهم رأيا.
إن أبا بكر كان أنفذ بصيرة من جميع من حوله؛ لأنه فهم بإيمانه الذي فاق إيمانهم جميعا أن الزكاة لا تنفصل عن الشهادتين، فمن أقر لله بالوحدانية لا بد أن يقر له بما يفرض من حق في ماله، الذي هو مال الله أصلاً وأن لا إله إلا الله بغير زكاة لا وزن لها في حياة الشعوب، وأن السيف يشرع دفاعا عن أدائها تماما كما يشرع دفاعا عن لا إله إلا الله، تماما هذه كتلك. هذا هو الإسلام وغير هذا ليس من الإسلام. فقد توعد الله أولئك الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، قال تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 85].
كان موقف أبي بكر رضي الله عنه الذي لا هوادة فيه ولا مساومة فيه ولا تنازل موقفًا ملهمًا من الله، يرجع الفضل الأكبر -بعد الله تعالى- في سلامة هذا الدين وبقائه على نقائه وصفائه وأصالته، وقد أقر الجميع وشهد التاريخ بأن أبا بكر قد وقف في مواجهة الردة الطاغية ومحاولة نقض عرى الإسلام عروة عروة، موقفَ الأنبياء والرسل في عصورهم، وهذه خلافة النبوة التي أدى أبو بكر حقها، واستحق بها ثناء المسلمين ودعاءهم إلى أن يرث الله
الأرض وأهلها .


خامسًا: خطة الصديق لحماية المدينة:

انصرفت وفود القبائل المانعة للزكاة من المدينة بعدما رأت عزم الصديق وحزمه وقد خرجت بأمرين:

أن قضية منع الزكاة لا تقبل المفاوضة، وأن حكم الإسلام فيها واضح، ولذلك لا أمل في تنازل خليفة المسلمين عن عزمه ورأيه، وخاصة بعدما أيده المسلمون وثبتوا على رأيه بعد وضوح الرؤية وظهور الدليل.
أنه لا بد من اغتنام فرصة ضعف المسلمين -كما يظنون- وقلة عددهم لهجوم كاسح على المدينة يسقط الحكم الإسلامي فيها ويقضى على هذا الدين .
قرأ الصديق في وجوه القوم ما فيها من الغدر، ورأى فيها الخسة وتفرس فيها اللؤم، فقال لأصحابه: إن الأرض كافرة وقد رأى وفدهم منكم قلة، وإنكم لا تدرون أليلاً تؤتون أم نهارا! وأدناهم منكم على بريد، وقد كان القوم يأملون أن نقبل منهم ونوادعهم، وقد أبينا عليهم ونبذنا إليهم عهدهم فاستعدوا وأعدوا. ووضع الصديق خطته على الوجه التالي:
أ- ألزم أهل المدينة بالمبيت في المسجد؛ حتى يكونوا على أكمل استعداد للدفاع.
ب- نظم الحرس الذين يقومون على أنقاب المدينة ويبيتون حولها، حتى يدفعوا أي غارة قادمة.
ج- عين على الحرس أمراءهم: علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام،
وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم.

د- وبعث أبو بكر رضي الله عنه إلى من كان حوله من القبائل التي ثبتت على الإسلام من أسلم وغفار ومزينة وأشجع وجهينة وكعب يأمرهم بجهاد أهل الردة فاستجابوا له حتى امتلأت المدينة بهم، وكانت معهم الخيل والجمال التي وضعوها تحت تصرف الصديق، ومما يدل على كثرة رجال هذه القبائل وكبر حجم دعمها للصديق أن جهينة وحدها قدمت إلى الصديق في أربعمائة من رجالها ومعهم الظهر والخيل، وساق عمرو بن مرة الجهني مائة بعير لإعانة المسلمين، فوزعها أبو بكر في الناس.
هـ- ومن ابتعد عن المرتدين وأبطأ خطره حاربه بالكتب يبعث بها إلى الولاة المسلمين في أقاليمهم، كما كان رسول الله يفعل، يحرضهم على النهوض لقتال المرتدين ويأمر الناس للقيام معهم في هذا الأمر، ومن أمثلة ذلك رسالته لأهل اليمن حيث المرتدة من جنود الأسود العنسي التي قال فيها: «أما بعد، فأعينوا الأبناء على من ناوأهم وحوطوهم واسمعوا من فيروز، وجدوا معه؛ فإني قد وليته». وقد أثمرت هذه الرسالة وقام المسلمون من أبناء الفرس بزعامة فيروز يعاونهم إخوانهم من العرب بشن غارة شعواء على العصاة المارقين حتى رد الله كيدهم إلى نحورهم، وعادت اليمن بالتدرج إلى جادة الحق.
و- وأما من قرب منهم من المدينة واشتد خطره كبني عبس وذبيان فإنه لم ير بدًّا من محاربتهم على الرغم من الظروف القاسية التي كانت تعيشها مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أن آوي الذراري والعيال إلى الحصون والشعاب محافظة عليهم من غدر المرتدين، واستعد للنزال بنفسه ورجاله.



سادسًا: فشل أهل الردة في غزو المدينة:
بعد ثلاثة أيام من رجوع وفود المرتدين طرقت بعض قبائل أسد وغطفان وعبس وذبيان وبكر المدينةَ ليلاً وخلفوا بعضهم بذي حُسَي ليكونوا لهم ردءا، وانتبه حرس الأنقاب لذلك، وأرسلوا للصديق بالخبر، فأرسل إليهم أنِ الزموا أماكنكم ففعلوا، وخرج في أهل المسجد على النواضح إليهم، فانفش العدو فأتبعهم المسلمون على إبلهم، حتى بلغوا ذا حُسَى فخرج عليهم الردء بأنحاء قد نفخوها وجعلوا فيها الحبال ثم دهدهوها بأرجلهم في وجوه الإبل فتدهده كل نحي فى طوله، فنفرت إبل المسلمين وهم عليها –ولا تنفر الإبل من شيء نفارها من الأنحاء- فعاجت بهم ما يملكونها حتى دخلت بهم المدينة فلم يُصرع مسلم ولم يُصب. وقال عبد الله الليثي: وكانت بنو عبد مناة من المرتدة –وهم بنو ذبيان- في ذلك الأمر بذي القصة وبذي حسى:
أطعنا رسول الله ما كان بيننا، فيا لعباد الله ما لأبي بكر، أيورثها بكرا إذا مات بعدهوتلك لعمر الله قاصمة الظهر ،فهلا رددتم وفدنا بزمانه، وهلا خشيتم حس راغية البك، وإن التي سالُوكُمُ فمنعتُمُ، لكالتمر أو أحلى إليَّ من التمر
فظن القوم بالمسلمين الوهن، وبعثوا إلى أهل ذي القصة بالخبر، فقدموا عليهم اعتمادًا في الذين أخبرهم وهم لا يشعرون لأمر الله -عز وجل- الذي أراده وأحب أن يبلغه فيهم، فبات أبو بكر ليلته يتهيأ فعبَّى الناس، ثم خرج على تعبية من أعجاز ليلته يمشي، وعلى ميمنته النعمان بن مقرن وعلى ميسرته عبد الله بن مقرن، وعلى الساقة سويد بن مقرن معه الركاب، فما طلع الفجر إلا وهم والعدو في صعيد واحد، فما سمعوا للمسلمين همسا ولا حسا حتى وضعوا فيهم السيوف فاقتتلوا أعجاز ليلتهم، فما ذر قرن الشمس حتى ولوهم الأدبار، وغلبوهم على عامة ظهرهم، وقتل حبال –أخو طليحة الأسدي- وأتبعهم أبو بكر حتى نزل بذي القصة -وكان أول الفتح – ووضع بها النعمان بن مُقَرن في عدد، ورجع إلى المدينة فذل بها المشركون، فوثب بنو ذبيان وعبس على من فيهم من المسلمين فقتلوهم كل قتلة، وفعل من وراءهم فعلهم، وعز المسلمون بوقعة أبي بكر، وحلف أبو بكر ليقتلن في المشركين كل قتلة، وليقتلن في كل قبيلة بمن قتلوا من المسلمين وزيادة.
وصمم الصديق رضي الله عنه على أن ينتقم للمسلمين الشهداء، وأن يؤدب هؤلاء الحاقدين، ونفذ قسمه وازداد المسلمون في بقية القبائل ثباتا على دينهم، وازداد المشركون ذلاً وضعفا وهوانا، وبدأت صدقات القبائل تفد على المدينة فطرقت المدينة صدقات نفر: صفوان ثم الزبرقان، ثم عدي، صفوان في أول الليل والثاني في وسطه، والثالث في آخره، وفي ليلة واحدة أثرت المدينة بأموال زكاة ستة أحياء من العرب، وكان كلما طلع على المدينة أحد جباة الزكاة قال الناس: «نذير» فيقول أبو بكر: «بل بشير»، وإذا بالقادم يحمل معه صدقات قومه فيقول الناس لأبي بكر: طالما بشرتنا بالخير، وخلال هذه البشائر التي تحمل معها بعض العزاء وشيئا من الثراء، عاد أسامة بن زيد بجيشه ظافرًا، وصنع كل ما كان الرسول قد أمره به وما أوصاه به أبو بكر الصديق ، فاستخلفه أبو بكر على المدينة وقال له ولجنده: أريحوا وأريحوا ظهركم، ثم خرج في الذين خرجوا إلى ذي القصة والذين كانوا على الأنقاب على ذلك الظهر، فقال له المسلمون: ننشدك الله يا خليفة رسول الله أن تُعرض نفسك! فإنك إن تصب لم يكن للناس نظام، ومقامك أشد على العدو، فابعث رجلاً فإن أصيب أمرت آخر فقال: لا والله لا أفعل، ولأواسينكم بنفسي.
لقد ظهر معدن الصديق النفيس في محنة الردة على أجلى صورة للقائد المؤمن الذي يفتدي قومه بنفسه، فالقائد في فهم المسلمين قدوة في أعماله، فكان من آثاره هذه السياسة الصديقية أن تقوى المسلمون وتشجعوا لحرب عدوهم واستجابوا لتطبيق الأوامر الصادرة إليهم من القيادة، لقد خرج الصديق في تعبيته إلى ذي حس وذي القصة, والنعمان وعبد الله وسويد على ما كانوا عليه، حتى نزل على أهل الرَّبذة بالأبرق فهزم الله الحارث وعوفا وأخذ الحطيئة أسيرًا، فطارت عبس وبنو بكر، وأقام أبو بكر على الأبرق أياما وقد غلب بنو ذبيان على البلاد. وقال: حرام على ذبيان أن يتملكوا هذه البلاد إذ غنمناها الله وأجلاها، فما غلب أهل الردة ودخلوا في الباب الذي خرجوا منه، وسامح الناس جاءت بنو ثعلبة، وهي كانت منازلهم لينـزلوها فمنعوا منها فأتوه في المدينة فقالوا:
علام نمنع من نزول بلادنا؟! فقال: كذبتم، ليست لكم ببلاد ولكنها مَوهبى ونَقَذى، ولم يُعتبهم، وحمى الأبرق لخيول المسلمين، وأرعى سائر بلاد الربذة الناس على بني ثعلبة، ثم حماها كلها لصدقات المسلمين لقتال كان وقع بين الناس وأصحاب الصدقات، وقال في يوم الأبرق زياد بن حنظلة:

ويوم بالأبارق قد شهدنـا *** على ذبيان يلتهـب التهابا
أتيناهـم بداهيـة نَسُـوفٍ *** مع الصديق إذ ترك العتابا
وهكذا يتعلم المسلمون من سيرة الصديق بأنه لم يكن يرغب بنفسه عن نفوس أتباعه بأي أمر من أمور الدنيا، وما اضطربت أمور المسلمين منذ زمن إلا لأنهم كانوا يعدون الرئاسة وسيلة للجاه وبابا لجلب المغانم ودرء المغارم، وإيثار للعافية والاكتفاء بالكلمات تزجي من وراء أجهزة الإعلام أو من غرف العمليات، بعيدًا عن المشاركة مشاركة حقيقة في قضايا الأمة المختلفة.

إن خروج الصديق رضي الله عنه للجهاد ثلاث مرات متتالية يعتبر تضحية كبيرة وفدائية عالية، فقد ناشده المسلمون أن يبقى في المدينة ويبعث قائدًا على الجيش فلم يقبل؛ بل قال: لا والله لا أفعل ولأواسينكم بنفسي. وهذا يدل على تواضعه الجم واهتمامه الكبير بمصلحة الأمة، وتجرده من حظ النفس، وقد أصبح بذلك قدوة صالحة لغيره، فلا شك أن خروجه للجهاد ثلاث مرات متتاليات وهو الشيخ الذي بلغ الستين من عمره، قد أعطى بقية الصحابة دفعات قوية من النشاط والحيوية .
وقد جاء في إحدى هذه الروايات أن ضرار بن الأزور حينما أخبر أبا بكر الصديق بخبر تجمع طليحة الأسدي قال: فما رأيت أحدًا -ليس رسول الله – أملأ بحرب شعواء من أبي بكر، فجعلنا نخبره ولكأنما نخبر بما له ولا عليه.
وهذا وصف بليغ لما كان يتصف به أبو بكر من اليقين الراسخ والثقة التامة بوعد الله تعالى لأوليائه بالنصر على الأعداء والتمكين في الأرض، فأبو بكر لم يَفُق الصحابة بكبير عمل، وإنما فاقهم بحيازة الدرجات العلى من اليقين، رضي الله عنهم أجمعين.
وقد روى أنه لما قيل له: لقد نزل بك ما لو نزل بالجبال لهاضها وبالبحار لغاضها، وما نراك ضعفت. فقال: ما دخل قلبي رعب بعد ليلة الغار، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى حزني قال: لا عليك يا أبا بكر، فإن الله قد تكفل لهذا الأمر بالتمام، فكان له رضي الله عنه مع الشجاعة الطبيعية شجاعة دينية وقوة يقينية في الله عز وجل وثقة بأن الله ينصره والمؤمنين، وهذه الشجاعة لا تحصل إلا لمن كان قوى القلب، وتزيد بزيادة الإيمان وتنقص بنقص ذلك، فقد كان الصديق أقوى قلبًا من جميع الصحابة لا يقاربه في ذلك أحد منهم.

يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #16  
قديم 03-04-2023, 11:43 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,180
الدولة : Egypt
افتراضي رد: معارك حربية مهمة فى التاريخ الاسلامى ...يوميا فى رمضان


الهجوم الشامل على المرتدين


تعددت وسائل وطرق التصدي والمواجهة للمرتدين، فكان للثابتين دور في مواجهة أقوامهم، فوقف بعض الثابتين في وجه أقوامهم واعظين لهم ومنبهين إلى خطورة ما هم مقدمون عليه من نقض ما يؤمنون به



خط سير خالد بن الوليد في حُرُوب الرِّدَّة.

تمهيد:
تعددت وسائل وطرق التصدي والمواجهة للمرتدين، فكان للثابتين دور في مواجهة أقوامهم، فوقف بعض الثابتين في وجه أقوامهم واعظين لهم ومنبهين إلى خطورة ما هم مقدمون عليه من نقض ما يؤمنون به، وكانت الخطوة الأولى بالكلمة، ولم تكن الكلمة في يوم من الأيام هي أضعف المواقف وإنما هي أقواها؛ لأنها تستتبع مواقف جادة لتحديد مصداقية الكلمة، وقد تؤدي الكلمة بصاحبها إلى الذبح من أجل الشهادة للكلمة التي قالها؛ ففي كل قبيلة حصلت فيها ردة كانت هناك بعض المواقف للذين انفعلت قلوبهم للحق وتغذت به وعاشت عليه، هي التي رأت باطل ما يفعل كل قوم، ولهذا وقفوا لهم بالمرصاد يحذرون أقوامهم من سوء المصير الذي ينتظرهم، فما كان من قومهم إلا أن وقفوا في وجوههم ساخرين مستهزئين، ثم تمادوا إلى مطاردتهم وإخراجهم؛ بل وقتلهم في بعض الأحيان، ونجح بعضهم بالكلمة كعدي بن حاتم مع قومه، والجارود مع أهل البحرين ، وستري تفاصيل ذلك بإذن الله.
وعندما فشل بعض المسلمين في وعظ أقوامهم تحولوا إلى تجمعات مسلمة ثابتة على إسلامها، واتخذت لها المواقف المناسبة ضد أقوامهم المرتدين، وكثير من المواقف بدأت بالكلمة ثم انتهت إلى العمل، كما حصل لمن ثبت من بني سليم؛ فقد حذرهم قومهم فانقسموا إلى قسمين ثابت ومرتد، فتجمع الثابتون وصاروا يجالدون قومهم المرتدين، وقام الأبناء في اليمن سرًا بتدبير قتل الأسود العنسي –كما سيأتي تفصيله- بعد أن كان موقفهم سلبيًّا في بطش الأسود العنسي، ووقف مسعود أو مسروق القيسي ابن عابس الكندي ينصح الأشعث بن قيس ويدعوه لعدم الردة، ودخل بينهما حوار طويل وتحد متبادل، وهكذا صارت بعض المواقف سببًا في إرجاع قومهم عن الردة، أو في تسهيل مهمة جيوش الدولة الإسلامية القادمة للقضاء على الردة.
لقد اعتمدت سياسة الصديق في القضاء على الردة على الله تعالى، ثم على ركائز قوية من القبائل والزعماء والأفراد الذين انبثوا في جميع أنحاء الجزيرة وثبتوا على إسلامهم، وقاموا بأدوار هامة ورئيسية في القضاء على فتنة الردة. ولقد أخطأ بعض الكتاب عندما تناول فتنة الردة بشيء من التعميم أو عدم الدقة أو عدم الموضوعية أو سوء الفرض أو النظرة الجزئية .
إن من الحقائق الأساسية حول هذه الفتنة أنها لم تكن شاملة لكل الناس كشمولها الجغرافي؛ بل إن هناك قادة وقبائل وأفرادًا وجماعات، وأفرادًا تمسكوا بدينهم في كل منطقة من المناطق التي ظهرت فيها الردة، ولقد قام الدكتور مهدي رزق الله أحمد بدراسة عميقة وأجاب عن سؤال طرحه وهو: هل كانت الردة في عهد الخليفة أبي بكر رضى الله عنه شاملة لكل القبائل العربية والأفراد والزعماء الذين كانوا مسلمين، أم أن هذه الفتنة قد وقعت فيها بعض القبائل وبعض الزعماء وبعض الأفراد في مناطق جغرافية مختلفة؟
وبعد البحث قال: إن أول حقيقة تستخلص من المصادر التي أشرتُ إليها سابقًا: هي أنني لم أجد ما يدل على أن القبائل والزعماء والأفراد قد ارتدوا جميعًا عن الإسلام كما ذكر أولئك النفر الذين جعلناهم مثالا، بل وجدت أن الدولة الإسلامية اعتمدت على قاعدة صلبة من الجماعات والقبائل والأفراد الذين ثبتوا على الإسلام، وانبثوا في جميع أنحاء الجزيرة، وكانوا سندًا قويًا للإسلام ودولته في قمع حركة المرتدين منهم .

المواجهة الرسمية على المرتدين




أولاً: المواجهة الرسمية من الدولة:

1- وسيلة الإحباط من الداخل:

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استعمل هذه الوسيلة، فقام بمراسلة وبعث الرسل إلى قبائل المتنبئين لتجميع الثابتين على الإسلام، وليشكل بهم جماعة تحارب الردة، وسار الصديق رضي الله عنه على نفس المنهج، وحاول أن يحجم ويقضي على ما يمكن القضاء عليه من بؤر المرتدين، وقام بالتوعية ضدها والتخذيل منها وتنفير الناس عنها، واستطاع أن يتصل بالثابتين على الإسلام وجعل منهم رصيدًا للجيوش المنظمة؛ فقد كان يعد الأمة لمواجهة منظمة مع المرتدين بعد عودة جيش أسامة؛ فقد راسل الصديق زعماء الردة والثابتين على الإسلام ليحقق بعض الأهداف؛ ككسب الوقت حتى يرجع جيش أسامة، فكتب إلى من كتب إليهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم باليمن وغيرها؛ ليبذلوا جهدهم لدعوة الثابتين إلى الإسلام، وطلب من الثابتين التجمع في مناطق حددها لهم حتى يأتيهم أمره، وكان هذا الترتيب بداية للخطة العسكرية القادمة، وقد حالف التوفيق بعض الثابتين بالوصول إلى المدينة ومعهم صدقاتهم؛ مثل عدي بن حاتم الطائي، والزبرقان بن بدر التميمي.

وتمكن الثابتون من إفشال حركة قيس بن مكشوح المرادي وبعض التجمعات القبلية في تهامة وبلاد السراة ونجران، وقد حققت هذه الوسيلة بعض النتائج، منها:
أ- نجحت خطة الصديق في تحقيق حملات التوعية والدعاية والتعضيد للمسلمين والتخذيل لقوى المرتدين؛ تمهيدًا لاتخاذ الوسيلة الأخرى حينما تتوافر لها الإمكانات، وهي أداة الجيوش المنظمة.
ب- أنها حققت أغراضها من حيث التربية وإعداد الثابتين على الإسلام ليكونوا قوادًا في حركة الفتوح الإسلامية فيما بعد؛ كعدي بن حاتم الطائي أحد قواد فتوح العراق.
ج- تكوين قوى مسلمة مرابطة في بعض المراكز التي حددها لهم الصديق لتنضم بعد ذلك إلى الجيوش القادمة.
د- القضاء على بعض مناطق الردة ولو بمحدودية ضيقة، مثلما حصل في جنوب الجزيرة العربية.
إرسال الجيوش المنظمة
وقد قسم أبو بكر الجيش الإسلامي إلى أحد عشر لواء وجعل على كل لواء أميرًا، وأمر كل أمير جند باستنفار من مر به من المسلمين التابعين من أهل القرى التي يمر بها وهم..

لما وصل جيش أسامة بعد شهرين -وقيل أربعين يومًا- من مسيرهم واستراحوا، خرج أبو بكر الصديق بالصحابة -رضي الله عنهم- إلى ذي القصة، وهي على مرحلة من المدينة؛ وذلك لقتال المرتدين والمتمردين، فعرض عليه الصحابة أن يبعث غيره على القيادة، وأن يرجع إلى المدينة ليتولى إدارة أمور الأمة، وألحوا عليه بذلك. ومما رُوي في هذا الموضوع ما قالته عائشة: خرج أبي شاهرًا سيفه راكبًا راحلته إلى وادي ذي القصة، فجاء علي بن أبي طالب رضى الله عنه فأخذ بزمام راحلته، فقال: إلى أين يا خليفة رسول الله؟ أقول لك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: شِمْ سيفك ولا تفجعنا بنفسك، فو الله لئن أصبنا بك لا يكون للإسلام بعدك نظام أبدًا، فرجع.
وقد قسم أبو بكر الجيش الإسلامي إلى أحد عشر لواء وجعل على كل لواء أميرًا، وأمر كل أمير جند باستنفار من مر به من المسلمين التابعين من أهل القرى التي يمر بها وهم:
1- جيش خالد بن الوليد إلى بني أسد، ثم إلى تميم، ثم إلى اليمامة.
2- جيش عكرمة بن أبي جهل إلى مسيلمة في بني حنيفة، ثم إلى عمان والمهرة، فحضرموت فاليمن.
3- جيش شُرَحْبيل بن حسنة إلى اليمامة في إثر عكرمة، ثم حضرموت.
4- جيش طُرَيْفة بن حاجر إلى بني سليم من هوازن.
5- جيش عمرو بن العاص إلى قضاعة.
6- جيش خالد بن سعيد بن العاص إلى مشارف الشام.
7- جيش العلاء بن الحضرمي إلى البحرين.
8- جيش حذيفة بن محصن الغلفائي إلى عمان.
9- جيش عرفجة بن هرثمة إلى مهرة.
10- جيش المهاجر بن أبي أمية إلى اليمن «صنعاء ثم حضرموت».
11- جيش سويد بن مقرن إلى تهامة اليمن.
وهكذا اتخذت قرية (ذي القَصَّة) مركز انطلاق أو قاعدة تحرك للجيوش المنظمة التي ستقوم بالتحرك إلى مواطن الردة للقضاة عليها. وتنبئ خطة الصديق -رضي الله عنه- عن عبقرية فذة وخبرة جغرافية دقيقة.
ومن خلال تقسيم الألوية وتحديد المواقع يتضح أن الصديق رضى الله عنه كان جغرافيًا دقيقًا خبيرًا بالتضاريس والتجمعات البشرية وخطوط مواصلات جزيرة العرب، فكأن الجزيرة العربية صورت مجسمًا واضحًا نصب عينيه في غرفة عمليات مجهزة بأحدث وسائل التقنية، فمن يتمعن تسيير الجيوش ووجهة كل منها واجتماعها بعد تفرقها وتفرقها لتجتمع ثانية، يرى تغطية سليمة رائعة صحيحة مثالية لجميع أرجاء الجزيرة مع دقة في الاتصال مع هذه الجيوش، فأبو بكر في كل ساعة يعلم أين مواقع الجيوش ويعلم دقائق أمورها وتحركاتها وما حققت، وما عليها في غد من واجبات.
والمراسلات دقيقة وسريعة تنقل أخبار الجبهات إلى مقر القيادة في المدينة حيث الصديق، وكان على صلة مستمرة مع جيوشه كلها، وبرز من المراسلين العسكريين ما بين الجبهات وبين مقر القيادة: أبو خيثمة النجاري الأنصاري، وسلمة بن سلامة، وأبو برزة الأسلمي، وسلمة بن وقش.
وكانت الجيوش التي بعثها الصديق متماسكة، وهي أحد إنجازات الدولة الهامة؛ إذ جمعت تلك الجيوش بين مهارات القيادة وبراعة التنظيم فضلاً عن الخبرة في القتال؛ صهرتها الأعمال العسكرية في حركة السرايا والغزوات التي تعدى بعضها شبه الجزيرة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان الجهاز العسكري لدى الصديق متفوقًا على كل القوى العسكرية في الجزيرة، وكان القائد العام لهذه الجيوش سيف الله المسلول خالد بن الوليد صاحب العبقرية الفذة في حروب الردة والفتوحات الإسلامية.
كان هذا التوزيع للجيوش وفق خطة استراتيجية هامة، مفادها أن المرتدين لا زالوا متفرقين، كل في بلده، ولم يحصل منهم تحزب ضد المسلمين بالنسبة للقبائل الكبيرة المتباعدة في الأماكن أولاً؛ لأن الوقت لم يكن كافيًا للقيام بعمل كهذا؛ حيث لم يمضِ على ارتدادهم إلا ما يقرب من ثلاثة شهور، وثانيًا لأنهم لم يدركوا خطر المسلمين عليهم وأنهم باستطاعتهم أن يكتسحوهم جميعا في شهور معدودة، ولذلك أراد الصديق أن يعاجلهم بضربات مفاجئة تقضي على شوكتهم وقوتهم قبل أن يجتمعوا في نصرة باطلهم، فعاجلهم قبل استفحال فتنتهم، ولم يترك لهم فرصة يطلون منها برؤوسهم ويمدون ألسنتهم يلذعون بها الجسم الإسلامي، وبذلك طبق الحكمة القائلة:
لا تقطعنْ ذَنَبَ الأفعى وترسلها *** إن كنت شهمًا فأتبع رأسها الذنب

فقد أدرك حجم الحدث وأبعاده ومدى خطورته، وعلم أنه إن لم يفعل كذلك فسيوشك الجمر أن ينتفض من تحت الرماد فيحرق الأخضر واليابس، كما قال الأول:
أرى تحت الرماد وميض نار *** ويوشك أن يكون لها ضرام
فقد كان رضى الله عنه السياسي الماهر والعسكري المحنك الذي يقدر الأمور، ويضع لها الخطط المباشرة.
انطلقت الألوية التي عقدها الصديق ترفرف عليها أعلام التوحيد، مصحوبة بدعوات خالصة من قلوب تعظم المولى عز وجل وتشربت معاني الإيمان، ومن حناجر لم تلهج إلا بذكر الله تعالى، فاستجاب الله -جل وعلا- هذه الدعوات النقية، فأنزل عليهم نصره وأعلى بهم كلمته، وحمى بهم دينه، حتى دانت جزيرة العرب للإسلام في شهور معدودة.
هذا وقد كتب أبو بكر الصديق كتابًا واحدًا إلى قبائل العرب من المرتدين والمتمردين فدعاهم للعودة إلى الإسلام وتطبيقه كاملاً كما جاء من عند الله تعالى، ثم حذرهم من سوء العاقبة فيما لو ظلوا على ما هم عليه في الدنيا والآخرة، وكان قويًا في إنذارهم، وهذا هو المناسب لشدة انحرافهم وقوة تصلبهم في التمسك بباطلهم، فكان لا بد من إنذار شديد يتبعه عمل جرئ قوي لإزالة الطغيان الذي عشش في أفكار زعماء تلك القبائل، والعصبية العمياء التي سيطرت على أفكار أتباعهم.

نص الخطاب الذي أرسله للمرتدين
بعد التنظيم الدقيق، وحسن الإعداد للجيوش الإسلامية التي عقد لها الصديق الألوية نجد الدعوة البيانية القولية تطل لتقوم بدورها وتدلي بدلوها
نص الخطاب الذي أرسله للمرتدين والعهد الذي كتبه للقادة:
بعد التنظيم الدقيق، وحسن الإعداد للجيوش الإسلامية التي عقد لها الصديق الألوية نجد الدعوة البيانية القولية تطل لتقوم بدورها وتدلي بدلوها؛ فقد حرر الصديق كتابًا عامًا ذا مضمون محدد سعى إلى نشره على أوسع نطاق ممكن في أوساط من ثبتوا على الإسلام ومن ارتدوا عنه جميعًا قبل تسيير قواته لمحاربة الردة، وبعث رجالاً إلى محل القبائل، وأمرهم بقراءة كتابه في كل مجتمع، وناشد من يصله مضمون الكتاب بتبليغه لمن لم يصل إليه، وحدد الجمهور المخاطب به بأنه: العامة والخاصة، من أقام على إسلامه أو رجع عنه.

وهذا نص الكتاب الذي بعثه الصديق:
بسم الله الرحمن الرحيم: من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من بلغه كتابي هذا من عامة وخاصة، أقام على إسلامه أو رجع عنه: سلام على من اتبع الهدى ولم يرجع بعد الهدى إلى الضلالة والعمى، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، نقر بما جاء به ونكفر من أبى ونجاهده، أما بعد: فإن الله تعالى أرسل محمدًا بالحق من عنده إلى خلقه بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا؛ لينذر من كان حيًا ويحق القول على الكافرين، فهدى الله بالحق من أجاب إليه وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بإذنه من أدبر عنه، حتى صار إلى الإسلام طوعًا وكرهًا، ثم توفى اللهُ رسولَه صلى الله عليه وسلم وقد نفذ لأمر الله ونصح لأمته وقضى الذي عليه، وكان الله قد بين له ذلك ولأهل الإسلام في الكتاب الذي أنزل، قال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} [الزمر: 30]، وقال للمؤمنين: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَّضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]، فمن كان إنما يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله وحده لا شريك له فإن الله له بالمرصاد، ولا تأخذه سنة ولا نوم، حافظ لأمره منتقم من عدوه بحزبه.
وإني أوصيكم بتقوى الله وحظكم ونصيبكم من الله، وما جاءكم به نبيكم صلى الله عليه وسلم، وأن تهتدوا بهداه وأن تعتصموا بدين الله، فإن كل من لم يهده الله ضال، وكل من لم يعافه ممُبتلى، وكل من لم يعنه الله مخذول، فمن هداه الله كان مهتديًا، ومن أضله كان ضالاً، قال الله تعالى: {مَن يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا} [الكهف: 17]، ولم يقبل منه في الدنيا عمل حتى يقر به، ولم يقبل منه في الآخرة صرف ولا عدل.
وقد بلغني رجوع من رجع منكم عن دينه بعد أن أقر بالإسلام وعمل به اغترارًا بالله وجهالة بأمره وإجابة للشيطان، قال الله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} [الكهف: 50]، وقال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6].
وإني بعثت إليكم فلانًا في جيش من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان، وأمرته ألا يقاتل أحدًا ولا يقتله حتى يدعوه إلى داعية الله، فمن استجاب له وأقر وكف وعمل صالحًا قبل منه وأعانه عليه، ومن أبى أمرت أن يقاتله على ذلك ثم لا يبقى على أحد منهم قدر عليه، وأن يحرقهم بالنار ويقتلهم كل قتلة، وأن يسبي النساء والذراري ولا يقبل من أحد إلا الإسلام، فمن تبعه فهو خير له ومن تركه فلن يعجز الله.
وقد أمرت رسولي أن يقرأ كتابي في كل مجمع لكم والداعية الأذان: فإذا أذن المسلمين فأذَّنوا كفوا عنهم، وإن لم يؤذنوا عاجلوهم، وإن أذنوا اسألوهم ما عليهم، فإن أبوا عاجلوهم، وإن أقروا قبل منهم وحملهم على ما ينبغي لهم.
ونلحظ من خطاب أبي بكر أنه كان يدور حول محورين:
أ- بيان أساس مطالبة المرتدين بالعودة إلى الإسلام.
ب- بيان عاقبة الإصرار على الردة.
وقد أكد الكتاب على عدة حقائق هي:
-أن الكتاب موجه إلى العامة والخاصة ليسمع الجميع دعوة الله.
-بيان أن الله بعث محمدًا بالحق، فمن أقر كان مؤمنًا، ومن أنكر كان كافرًا يجاهد ويقاتل.
-بيان أن محمدًا بشر قد حق عليه قول الله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ} وأن المؤمن لا يعبد محمدًا صلى الله عليه وسلم وإنما يعبد الله الحي الباقي الذي لا يموت أبدًا، ولذلك لا عذر لمرتد.
إن الرجوع عن الإسلام جهل بالحقيقة واستجابة لأمر الشيطان، وهذا يعني أن يتخذ العدو صديقًا، وهو ظلم عظيم للنفس السوية؛ إذ يقودها صاحبها بذلك إلى النار عن طواعية.
-إن الصفوة المختارة من المسلمين وهم المهاجرون والأنصار وتابعوهم، هم الذين ينهضون لقتال المرتدين غيرة منهم على دينهم وحفاظًا عليه من أن يهان.
-إن من رجع إلى الإسلام، وأقرَّ بضلاله، وكف عن قتال المسلمين، وعمل من الأعمال ما يتطلبه دين الله، فهو من مجتمع المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم.
-إن من يأبى الرجوع إلى صف المسلمين ويثبت على ردته، إنما هو محارب لا بد من شن الغارة عليه، تقتله أو تحرقه، وتسبي نساءه وذراريه، ولن يعجز الله بأية حال؛ لأنه أنى ذهب في ملكه.
إن الشارة التي ينجو بها المرتدون من غارة المسلمين أن يعلن فيهم الأذان وإلا فالمعالجة بالقتال هي البديل. وحتى لا يترك الخليفة الأمر للقادة والجند بغير انضباط كتب للقواد جميعًا كتابًا واحدًا يدعوهم فيه إلى الالتزام بمضمون كتابه السابق، هذا نصه:
هذا عهد من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم لفلان حين بعثه فيمن بعثه لقتال من رجع عن الإسلام، وعهد إليه أن يتقي الله ما استطاع في أمره كله، سره وعلانيته، وأمره بالجد في أمر الله ومجاهدة من تولى عنه ورجع عن الإسلام إلى أماني الشيطان، بعد أن يعذر إليهم فيدعوهم بداعية الإسلام، فإن أجابوه أمسك عنهم، وإن لم يجيبوه شنَّ غارته عليهم حتى يقروا له، ثم ينبئهم بالذي عليهم والذي لهم، فيأخذ ما عليهم ويعطيهم الذي لهم، لا وينظرهم ولا يرد المسلمين عن قتال عدوهم، فمن أجاب إلى أمر الله -عز وجل- وأقر له قبل ذلك منه وأعانه عليه بالمعروف، وإنما يتقبل من كفر بالله على الإقرار بما جاء من عند الله، فإذا أجاب الدعوة لم يكن عليه سبيل، وكان الله حسيبه بعد فيما استسر به، ومن لم يُجِب داعية الله قتل وقوتل حيث كان وحيث بلغ مراغَمه، لا يقبل من أحد شيئًا أعطاه إلا الإسلام، فمن أجابه وأقر قبل منه وعلمه ومن أبى قاتله، فإن أظهره الله عليه قتل منهم كل قتلة بالسلاح والنيران، ثم قسم ما أفاء الله عليهم إلا الخمس فإنه يبلغناه، وأن يمنع أصحابه العجلة والفساد وألا يدخل فيهم حشوًا حتى يعرفهم ويعلم ما هم لا يكونوا عيونًا, لئلا يؤتى المسلمين من قبلهم، وأن يقتصد بالمسلمين ويرفق بهم في السير والمنزل ويتفقدهم، ولا يعجل بعضهم عن بعض، ويستوصي بالمسلمين في حسن الصحبة ولين القول.
وفي العهد الذي ألزم به قواده يظهر حرص الصحابة على إلزام أمرائه في حرب الردة بتعليمات أساسية مكتوبة موحدة نصت بوضوح لا يحتمل اللبس على حظر القتال قبل الدعوة إلى الإسلام، والإمساك عن قتال من يجيب، والحرص على إصلاحهم، وحظر مواصلة القتال بعد أن يقروا بالإسلام والتحول عند هذه النقطة من القتال إلى تعليمهم أصول الإسلام وتبصيرهم بما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات، وحظر المهادنة أو رد الجيش عن محاربة المرتدين ما لم يفيئوا إلى أمر الله.
والتزم الجيش الإسلامي في التنفيذ مبدأ الدعوة قبل القتال والإمساك عن القتال بمجرد إجابة الدعوة؛ باعتبار أن الغاية الوحيدة هي عودة المرتدين إلى الذي خرجوا منه وتلمسًا لتحقيق أقصى درجة من التوافق في صفوف القوات الإسلامية التي نيط بها القضاء على ظاهرة الردة.
أمضى الصديق هذا العهد مع أمراء الجيوش الإسلامية، يطلب من الجيش أن يكون سلوكه ذاته خير دعوة للمهمة المستندة إليه، وأن يتطابق تمامًا مع هدف واحد هو الدفاع عن الإسلام.
إن اقتداء أبي بكر رضى الله عنه برسول الله صلى الله عليه وسلم علمه فن القيادة، ونجاح القائد في قيادته يتوقف على مدى نجاحه في جنديته. ولقد كان أبو بكر نعم الجندي في جيش المسلمين، مخلصًا في ولائه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يطبق ما يقوله بحذافيره، مضحيًا في سبيله، لم يفر عنه في معركة قط. ونستطيع أن ندرك دقة آرائه القيادية وبعد مرماها من وصاياه لقواده وخططه العامة التي رسمها لهم أثناء تحركهم لضرب قوات العدو.

لقد كانت أول وصية أوصاهم بها تتركز على النقاط التالية:
أن يلزموا أنفسهم تقوى الله عز وجل ومراقبته في السر والعلن، وهذا عين الصواب في هذه السياسة الرشيدة؛ لأن القائد إذا ألزم نفسه تقوى الله -عز وجل- كان معه: {إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُون} [النحل: 128].
الجد والاجتهاد وإخلاص النية لله سبحانه وتلك أخلاق المنصورين الفائزين {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
أن لا يقبل من المرتدين إلا الإسلام أو القتل؛ إذ لا مهادنة في أمر العقيدة.
تقسيم الغنائم بين الجند مع الاحتفاظ بحق بيت المال منها، وهو خمسها.
أن لا يتعجلوا في التصرف حيال القضايا التي تواجههم حتى لا تأتي حلولهم فجة.
أن يحذروا من أن يدخل بينهم غريب ليس منهم، كيلا يكون جاسوسًا عليهم.
أن يرفقوا بجندهم ويتفقدوهم في المسير والنزول، وأن لا ينفرط بعضهم عن بعض.
وأن يستوصوا بهؤلاء الجند خيرًا في الصحبة.
ويمكنا من خلال الدراسة أن نستخلص الخطة العامة بعد أن عقد الصديق الألوية لقادة الجيوش، والتي تتخلص في النقاط الآتية:
أ- ضمنت الخطة إحكام التعاون بين هذه الجيوش جميعها، بحيث لا تعمل كأنها منفصلة تحت قيادة مستقلة، وإنما هي رغم تباعد المكان جهاز واحد، وقد تتلقى -أو يلتقي بعضها ببعض- لتفترق، ثم تفترق لتلتقي، كان ذلك والخليفة بالمدينة يدبر حركة القتال ومعاركه.
ب- احتفظ الصديق بقوة تحمي المدينة –عاصمة الخلافة- واحتفظ بعدد من كبار الصحابة ليستشيرهم وليشاركوه في توجيه سياسة الدولة.
ج- أدرك الصديق أن هناك جيوشًا من المسلمين داخل المناطق التي شملتها حركة العصيان والردة، وقد حرص على هؤلاء المسلمين من أن يتعرضوا لنقمة المشركين، ولذلك فإنه أمر قادته باستنفار من يمرون بهم من أهل القوة من المسلمين من جهة، وبضرورة تخلف بعضهم لمنع بلادهم وحمايتها من جهة أخرى.
د- طبق الخليفة مبدأ الحرب خدعة مع المرتدين، حتى أظهر أن الجيوش تنوي شيئًا، وهي في حقيقة الأمر كانت تستهدف شيئًا آخر؛ زيادة في الحيطة والحذر من اكتشاف خطته، وهكذا تظهر الحنكة السياسية والتجربة العملية والعلم الراسخ والفتح الرباني في قيادة الصديق.

([1]) الأبعاد السياسية لمفهوم الأمن في الإسلام، مصطفى محمود منجود: ص 169.
منقول من (أبو بكر الصديق علي بن محمد الصلابي)


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #17  
قديم 05-04-2023, 12:52 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,180
الدولة : Egypt
افتراضي رد: معارك حربية مهمة فى التاريخ الاسلامى ...يوميا فى رمضان





حروب الردة (2)
جهاد الصديق لأهل الردة
علي بن محمد الصلابي
(14)


خارطة تُظهرُ أبرز المعارك التي وقعت أثناء حُرُوب الرَّدة بين المُسلمين والقبائل العربيَّة المُرتدَّة عن الإسلام ومعهم مُدعي النُبوَّة.

1-القضاء على الأسود العنسي، وردة اليمن الثانية:

اسمه: عبهلة بن كعب ويكنى بذي الخمار؛ لأنه كان دائما معتمًا متخمرًا بخمار، ويعرف بالأسود العنسي لاسوداد في وجهه، وتكمن قوة الأسود في ضخامة جسمه وقوته وشجاعته، واستخدم الكهانة والسحر والخطابة البليغة، فقد كان كاهنًا مشعوذًا يُرِي قومه الأعاجيب، ويسبي قلوب من سمع منطقه، واستخدم الأموال للتأثير على الناس.

أ- الأسود العنسي في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام:
وما أن انتشر خبر مرض رسول الله عليه الصلاة والسلام بعد مقدمه من حجة الوداع حتى ادعى الأسود العنسي النبوة، وقيل: إنه أطلق على نفسه (رحمان اليمن) كما تسمى مسيلمة (رحمان اليمامة)، وأنه كان يدعي النبوة ولا ينكر نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، وكان يزعم أن ملكين يأتيانه بالوحي وهما: سحيق وشقيق -أو شريق – وكان قبل أن يظهر مخفيًا أمره يجمع حوله من يراه مناسبًا حتى فاجأ الناس بظهوره وكان أول من تبعه: أبناء قبيلته وهم «عنس»، ثم كاتب زعماء قبيلة «مذحج» فتبعه العوام منهم، وبعض زعمائهم من طالبي الزعامة، وقد عمل على إثارة العصبية القبلية؛ لأنه من «عنس» وهي بطن من بطون قبيلة «مذحج»، وقد راسله بنو الحارث بن كعب من أهل نجران وهم يومئذ مسلمون، فطلبوا منه أن يأتيهم في بلادهم، فجاءهم فاتبعوه لكونهم لم يسلموا رغبة، وتبعه أناس من «زبيد» و«أود» «مَسْليَة» و«حكم بني سعد العشيرة»، ثم أقام بنجران بعض الوقت، وقوي أمره بعد أن انضم إليه عمرو بن معديكرب الزبيدي وقيس بن مكشوح المرادي، وتمكن من طرد فروة بن مسيك من مراد وعمرو بن حزم من نجران، واستهوته فكرة السيطرة على صنعاء فخرج إليها بست مئة أو سبع مئة فارس معظمهم من بني الحارث بن كعب و«عنس».
فتقابل مع أهل صنعاء وعليهم «شهر بن باذان الفارسي»، وكان قد أسلم مع أبيه في منطقة خارج صنعاء تسمى منطقة «شعوب»، فتقاتلوا قتالاً شديدًا فقتل «شهر بن باذان» وانهزم أهل صنعاء أمام الأسود العنسي، فغلب عليها ونزل قصر «غمدان» بعد خمسة وعشرين يومًا من ظهوره.
وكان له مواقف بشعة في تعذيب المتمسكين بالإسلام، فقد أخذ أحد المسلمين ويسمى النعمان فقطعه عضوًا عضوًا، ولهذا تعامل معه المسلمين الذين كانوا في المناطق التي يديرها بالتقية.



أما بقية المسلمين خارج نطاق سيطرته فقد حاولوا التجمع وإعادة الانتظام إلى صفوفهم، فكان فروة بن مسيك المرادي قد انحاز إلى مكان يسمى «الأحسية»، وانضم إليه من انضم من المسلمين، وكتب إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام بخبر الأسود العنسي، فكان أول من أبلغ الرسول عليه الصلاة والسلام بذلك، وانحاز كل من أبي موسى الأشعري، ومعاذ بن جبل إلى حضرموت في جواء «السكاسك والسكون».
وقد راسل رسولُ الله عليه الصلاة والسلام الثابتين على الإسلام لمواجهة ردة الأسود، وأمرهم بالسعي للقضاء عليه إما مصادمة أو غيلة، ووجه كتبه ورسله إلى بعض زعماء «حمير» و«همدان» بأن يتكاتفوا ويتوحدوا ويساعدوا «الأبناء» ضد «الأسود العنسي»، فأرسل «وبر بن يخنس» إلى «فيروز الديلمي وجُشَيش الديلمي وداذويه الإصطخري»، وبعث «جرير البجلي» إلى «ذي الكلاع وذي ظليم» الحميريين، وبعث «الأقرع بن عبد الله الحميري» إلى «ذي زود وذي مران» الهمدانيين، وكذلك كتب إلى أهل نجران من الأعراب وساكني الأرض من غيرهم، وبعث «الحارث بن عبد الله الجهني» إلى اليمن قبيل وفاته، فبلغته وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام وهو في اليمن، ولم تبين المصادر إلى أين بعث، إلا أنه من الممكن أنه بعث إلى «معاذ بن جبل»؛ لأنه تلقى كتابًا من رسول الله عليه الصلاة والسلام يأمره فيه بأن يبعث الرجال لمجاولة ومصاولة «الأسود العنسي» للقضاء عليه، كما تلقى «أبو موسى الأشعري» و«الطاهر بن أبي هالة» كتابًا من رسول الله ليواجهوا «الأسود» بالغيلة أو المصادمة، وكان لهذا العمل من جانب الرسول عليه الصلاة والسلام أثر كبير، فقد تماسك من بعث إليهم في حياته وبعد موته، فلم يعهد عنهم أنهم ارتدوا أو تزلزلوا، فقد كتب زعماء «حمير» وزعماء «همدان» إلى الأبناء باذلين لهم العون والمساعدة، وفي الوقت نفسه تجمع أهل «نجران» في مكان واحد للتصدي لأي حركة من جانب «الأسود العنسي»، وحينئذ أيقن هذا أنه إلى هلاك.
وظلت المكاتبات تتوالى بين «الهمدانيين» و «الحميريين» وبين «معاذ بن جبل» وبعض الزعماء اليمنيين، ومن المحتمل أن بعض المكاتبات تمت بين «الأبناء» وبين «فروة ابن مسيك»؛ لأنه كان له دور في قتل الأسود العنسي، ولكن كان أول من اعترض على «العنسي» هو «عامر بن شهر الهمداني».
وهكذا تجمعت كل قوى الإسلام في اليمن للقضاء على «الأسود العنسي»، ويظهر أنهم كانوا مجمعين على أن يقوموا بمقتله، لعلمهم أنه بمجرد أن يقتل لن يبقى لأتباعه أي كيان فيسهل التخلص منهم حينئذ، ولهذا وافقوا على خطة «الأبناء» بأن لا يقوموا بأي شيء حتى يبرموا الأمر من داخلهم.
واستطاع «الأبناء» فيروز وداذويه أن يتفقا مع «قيس بن مكشوح المرادي» -وكان قائد جند العنسي- للتخلص من «الأسود العنسي»؛ لأنه كان على خلاف معه، ويخشى أن يتغير عليه، وقد ضموا إلى صفهم زوجة «الأسود العنسي» «آزاد الفارسية» والتي كانت زوج شهر بن باذان وابنة عم فيروز الفارسي، فقد اغتصبها كذاب اليمن بعد أن قتل زوجها، فهبت لإنقاذ دينها من براثن وحوش الجاهلية بكل عزم وتصميم، فدبرت مع المسلمين المناوئين للأسود خطة اغتيال هذا الطاغية المتألِّه، ومهدت لهم السبيل لقتله على فراش نومه، وحينما قتل «الأسود» ألقى برأسه بين أصحابه فانتابهم الرهبة وعمهم الخوف، ففروا هاربين.
وأتى الخبر النبيَّ عليه الصلاة والسلام من السماء الليلة التي قتل فيها العنسي ليبشرنا فقال: «قتل العنسي البارحة، قتله رجل مبارك من أهل بيت مباركين» قيل: ومن هو؟ قال: «فيروز».
وقد فصل خطة اغتيال الأسود العنسي الدكتور صلاح الخالدي في كتابه: «صور من جهاد الصحابة… عمليات جهادية خاصة تنفذها مجموعة خاصة من الصحابة». وظل أمر «صنعاء» مشتركا بين «فيروز وداذويه وقيس بن مكشوح» إلى أن جاء معاذ بن جبل إلى صنعاء، فارتضوا أن يكون هو الأمير عليهم، ولكنه لم يمكث إلا ثلاثة أيام بهم حتى بلغهم خبر وفاة رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وكانت تفاصيل مقتل «العنسي» قد خرجت من صنعاء فوصلت إلى الصديق بعد أن خرج جيش أسامة، وكان هذا أول فتح أتى أبا بكر وهو في المدينة.



ب- وعيَّن أبو بكر «فيروز الديلمي» واليًا على صنعاء وكتب إليه بذلك، ولم يولِّ أبو بكر قيسًا؛ لأنه كان ممن مالأ الأسود العنسي وتابعه مخلصًا -عصبية لمذجح أو رغبة في الزعامة- وكان مبدأ أبي بكر عدم الاستعانة بمن ارتد، وجعل كل من داذويه وجشيش وقيس بن مكشوح مساعدين لفيروز، فتغيرت نفس قيس بن مكشوح المرادي فعمل على قتل زعماء الأبناء الثلاثة، وقد تمكن من قتل «داذويه» -سواء بنفسه أو بإيعاز منه – فتنبه لذلك «فيروز» فهرب إلى أخواله في «خولان»، فما كان من قيس إلا أن أثارها عصبية جنسية فحاول جمع زعماء بعض القبائل ضد «الأبناء» مدعيًا أنهم متحكمون فيهم، وأنه يرى قتل رؤسائهم وإجلاء بقيتهم، ولكن أولئك الزعماء وقفوا على الحياد فلم ينحازوا إليه ولا إلى الأبناء، وقالوا له: أنت صاحبهم وهم أصحابك، فلما يئس منهم عاد فكاتب فلول «الأسود العنسي» سواء الذين بقوا متذبذبين بين صنعاء ونجران أو ممن انحاز إلى لحج، فطلب منهم الالتقاء بهم ليكونوا جميعًا على أمر واحد وهو نفي «الأبناء»، فلم يشعر أهل صنعاء إلا وهم محاطون بتلك الفلول، ثم حرص «قيس» على تجميع «الأبناء» تمهيدًا لنفيهم.
وعندما وصل فيروز الديلمي إلى خولان كتب من هناك إلى أبي بكر يخبره بما حصل من قيس، فما كان منه إلا أن كتب إلى الزعماء الذين كتب إليهم رسول الله عليه الصلاة والسلام، وكانت صيغة الكتاب واضحة صريحة وهي: «أعينوا الأبناء على من ناوأهم وحوطوهم، واسمعوا من فيروز، وجِدُّوا معه فإني قد وليته».
كان الصديق في نهجه هذا يستهدف أمرين متلازمين:
-أنه جعله خطة حربية حيث كان جيش أسامة بن زيد قد خرج إلى الشام، وكان الخليفة ينتظر عودته حتى يتسنى له مواجهة أعنف موجات الردة في اليمامة والبحرين وعمان وتميم، وهي أشد وأعنف من موجات الردة في اليمن التي اكتفى بمعالجة بعضها بالرسائل والرسل.
-وأما الهدف الآخر فهو إعطاء الفرصة لمن ثبت على الإسلام لكي يبرهن على صدق إسلامه، ولكي يزداد ثباتًا واستمساكًا بدينه ما دام هو صاحب المسئولية والمتحمل لأمانة إقرار الإسلام فيمن حوله، خاصة أن من راسلهم أبو بكر كانوا هم الذين راسلهم رسول الله عليه الصلاة والسلام من قبل، وقد ثبتوا وقاموا بما طُلب منهم. وقام فيروز بالاتصال ببعض القبائل يستمدهم ويستنصرهم، وعلى رأس هؤلاء «بنو عقيل بن ربيعة بن عامر بن صعصعة»، ثم أرسل إلى قبيلة «عك» للغرض نفسه. وكان أبو بكر قد أرسل إلى الطاهر بن أبي هالة، وإلى مسروق العكي -وكانا بين عك والأشعريين- أن يمدا الأبناء بالمعونة، فخرج كل من جهته وعملوا جميعًا للحيلولة دون تنفيذ مخطط قيس وهو طرد الأبناء وإخراجهم من اليمن، فأنقذوهم ثم تكتلوا وتوجهوا نحو صنعاء جميعًا فاصطدموا به حتى اضطر إلى ترك صنعاء، وعاد إلى ما كان عليه أصحاب الأسود العنسي وهو التذبذب بين نجران وصنعاء ولحج، إلا أنه انضم إلى عمرو بن معديكرب الزبيدي. وبهذا عادت صنعاء للمرة الثانية إلى الهدوء والاستقرار عن طريق الرسل والكتب.



ج- واستمر الصديق يتابع سياسة الإحباط من الداخل، وهي ما يعبر عنها المؤرخون بقولهم: «ركوب من ارتد بمن لم يرتد وثبت على الإسلام».
ففي ردة «تهامة اليمن» تم القضاء عليها بدون مجهود يذكر من قبل الخليفة، فقد تولاها المسلمون من أبناء تهامة مثل «مسروق» العكي الذي قاتل المرتدين بقومه من عك، وكان على رأس من قضى على ردة تهامة «الطاهر بن أبي هالة» الذي كان واليًا للرسول عليه الصلاة والسلام على جزء من تهامة، وهي موطن «عك والأشعريين» ثم أمر أبو بكر «عكاشة بن ثور» أن يقيم في «تهامة» ليجمع حوله أهلها حتى يأتيه أمره، وأما بجيلة فإن أبا بكر رد جرير بن عبد الله، وأمره أن يستنفر مِنْ قومه مَنْ ثبت على الإسلام ويقاتل بهم من ارتد عن الإسلام، وأن يأتي خثعم فيقاتل من ارتد منهم، فخرج جرير وفعل ما أمره به الصديق رضي الله عنه، فلم يقم له أحد إلا نفر يسير فقتلهم وتتبعهم.
وكان بعض «بني الحارث بن كعب» بنجران قد تابعوا الأسود العنسي، وبعد وفاة رسول الله عليه الصلاة والسلام بقوا مترددين فخرج إليهم «مسروق العكي» وهو يزعم مقاتلتهم فدعاهم إلى الإسلام فأسلموا من غير قتال، فأقام فيهم ليعمل على استتباب الأمور فلم يأته «المهاجر بن أبي أمية» إلا وقد ضبط نجران.

وقد نجحت سياسة الإحباط من الداخل، وتوجه الصديق بإرسال الجيوش بعد عودة جيش أسامة.


جيش عكرمة

خريطة تُظهرُ الحملات التي أرسلها أبو بكر إلى قتال أهل الرِّدَّة وما تلاها من حملات خارج شبه الجزيرة العربيَّة نحو العراق وفارس والشَّام.


بعد أن شارك في القضاء على ردة أهل عمان، توجه نحو مهرة حسب أمر أبي بكر، وكان معه سبع مئة فارس، فوق ما جمع حوله من قبائل عمان، وحينما دخل مهرة وجدها مقسمة بين زعيمين متناحرين: أحدهما يسمى شخريت ويتمركز في السهل الساحلي، وهو أقل الجمعين عددًا وعدة، والآخر يسمى المصبح ونفوذه على المناطق المرتفعة وهو أكبر الجمعين، فدعاهما عكرمة إلى الإسلام فاستجاب صاحب السهل الساحلي وأما الآخر فقد اغتر بجموعه فأبى، فصادمه عكرمة ومعه «شخريت» فلحقته الهزيمة، وقتل ومعه الكثير من أصحابه، ثم أقام عكرمة فيهم يجمعهم ويقيم شئونهم حتى جمعهم على الذي يجب، حيث بايعوا على الإسلام وآمنوا واستقروا،



وكان قد تلقى كتابًا من أبي بكر يأمره بالاجتماع مع المهاجر بن أبي أمية القادم من «صنعاء» ليتوجها معا إلى كندة، فخرج من مهرة حتى نزل أبين وبقي هناك ينتظر المهاجر،
وعمل وهو هناك على جمع «النخع» وحمير وتثبيتهم على الإسلام ، وكان لوصول عكرمة إلى أبين أثر على بقية فلول الأسود العنسي وعلى رأسهم قيس بن المكشوح وعمر بن معد يكرب، فبعد هروب قيس من صنعاء بقي مترددًا بينها وبين نجران، وكان «عمر بن معد يكرب» قد انضوى إلى فلول العنسي التي أطلق عليها الفلول اللحجية؛ لأن وجهتهم كانت إلى لحج، فلما جاء عكرمة انضم قيس إلى عمرو وقد اجتمعا للقتال ولكن ما لبث أن نشب الخلاف بينهما فتعايرا ففارق كل واحد الآخر، فلما جاء المهاجر بن أبي أمية أسرع عمرو لتسليم نفسه ولحقه قيس فأوثقهما المهاجر وبعث بهم إلى أبي بكر، وبعد أن عاتبهما اعتذر كل واحد منهما عن فعله فأطلقهما ورجعا بعد أن تابا وأصلحا.
وهكذا كان لقدوم عكرمة من المشرق دور في القضاء على فلول المرتدين الموجودين في لحج سواء بالمواجهة من هذا الجيش القادم، بينما م يواجهون جيشا آخر في الشمال بقيادة المهاجر .

جيش أبي أمية للقضاء على ردة حضرموت وكندة




كان آخر من خرج من المدينة من الجيوش الأحد عشر جيش المهاجر بن أبي أمية وكان معه سرية من المهاجرين والأنصار، فمر على مكة فانضم إليه «خالد بن أسيد» –أخو «عتاب ابن أسيد»- أمير مكة، ومر على الطائف فلحقه عبد الرحمن بن أبي العاص ومن معه، ولما التقى «بجرير بن عبد الله البجلي» بنجران ضمه إليه، وضم عكاشة بن ثور الذي جمع بعض أهل تهامة، ثم دخل في جموعه «فروة بن مسيك المرادي» الذي كان في أطراف بلاد مذحج، ومر على بني الحارث بن كعب بنجران فوجد عليهم مسروق العكي فضمه إليه.

وفي نجران قسم جيشه إلى فرقتين: فرقة تولت القضاء على فلول «الأسود العنسي» المتناثرة بين نجران وصنعاء، وكان المهاجر نفسه على هذه الفرقة، أما الفرقة الأخرى فكان عليها أخوه «عبد الله»، وكانت مهمتها تطهير منطقة تهامة اليمن من بقية المرتدين.
وحينما استقر المهاجر في صنعاء كتب إلى أبي بكر بما قام به وبما استقر عليه وبقي ينتظر الرد منه، وفي الوقت نفسه كتب معاذ بن جبل وبقية عمال اليمن الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، -ما عدا زياد بن لبيد- إلى أبي بكر يستأذنونه بالعودة إلى المدينة، فجاءت كتب أبي بكر مطلقة حق الاختيار لمعاذ ومن معه من العمال بالبقاء أو العودة، والاستخلاف على عمل كل من رجع فرجعوا جميعًا، وأما المهاجر فقد تلقى الأمر بالتوجه لملاقاة عكرمة وأن يسيرا معًا إلى حضرموت لمعاونة زياد بن لبيد وإقراره على ما هو عليه، وأمره أن يأذن لمن معه من الذين قاتلوا بين مكة واليمن في العودة إلا أن يؤثر قوم الجهاد.
كان زياد بن لبيد الأنصاري واليًا لرسول الله على كندة بحضرموت، وأقره الصديق رضي الله عنه على ذلك، وكان حازمًا شديدًا وكان لحزمه وشدته سبب كبير في أن يتمرد عليه حارثة بن سراقة، وخلاصة ذلك -كما يذكر الكلاعي- أن زيادًا أعطى من ضمن الصدقة ناقة معينة لفتى من كندة على سبيل الخطأ، فلما أراد صاحبها استبدالها بأخرى لم يقبل منه ذلك زياد، فاستنجد الفتى بزعيم لهم هو حارثة بن سراقة، وعندما طلب ابن سراقة من زياد استبدال الناقة أصر زياد على موقفه، فغضب ابن سراقة وأطلق الناقة عنوة، فوقعت الفتنة بين أنصار زياد وأنصار ابن سراقة، ودارت الحرب وانهزم ابن سراقة وقتل ملوك كندة الأربعة وأسر زياد عددًا من جماعة ابن سراقة، واستنجد الأسرى وهم في طريقهم إلى المدينة بالأشعث بن قيس فنجدهم حمية وعبية، واتسعت رقعتها وتكاثر جمع الأشعث وحصروا المسلمين، فأرسل زياد إلى المهاجر وعكرمة يستعجلهما النجدة وكانا قد التقيا بمأرب، فما كان من المهاجر إلا أن ترك «عكرمة» إلى الجيش وأخذ أسرع الناس -وغالبا من الفرسان– ليكونا بجانب زياد، وقد استطاع أن يفك الحصار عنه فهربت كندة إلى حصن من حصونها يسمى النجير، وكان لهذا الحصن ثلاث طرق لا رابع لها، فنزل زياد على إحداها والمهاجر على الثانية وبقيت الثالثة تحت تصرف كندة، حتى قدم عكرمة فنزل عليها فحاصروهم من جميع الجهات، ثم بعث «المهاجر» الطلائع إلى قبائل كندة والمتفرقة في السهل والجبل يدعوهم إلى الإسلام ومن أبي قاتلوه، ولم يبق إلا في الحصن المحاصر.
وكان جيشا زياد والمهاجر يزيدان على خمسة آلاف رجل من المهاجرين والأنصار وغيرهم من القبائل، وقد عملا على التضييق على من في الحصن حتى ضجوا بالشكوى إلى زعمائهم متبرمين من الجوع، وفضلوا الموت بالسيف بدلاً من ذلك، فاتفق زعماؤهم على أن يقوم الأشعث بن قيس بطلب الأمان والنزول على حكم المسلمين، وبعد أن فوض الأشعث من قومه لمفاوضة المسلمين لم يوفق؛ لأن الروايات تضافرت على أنه لم يطلب الأمان لجميع من في الحصن، أو أنه لم يصر على ذلك ولم يطلبه إلا لعدد تراوح حسب الروايات بين السبعة والعشرة وكان الشرط هو فتح أبواب حصن «النجير»، وكان من جراء ذلك أن قتل من «كندة» في الحصن سبعمائة قتيل، فأشبه موقفهم موقف يهود بني قريظة.
وتم القضاء على ردة كندة وعاد عكرمة بن أبي جهل ومعه السبايا والأخماس، وبرفقتهم الأشعث بن قيس الذي صار مبغضًا إلى قومه ولا سيما نساؤهم لأنهم عدوه سبب ذلتهم؛ ولأنه عندما صالح المسلمين كان أول ما بدأ به اسمه، فكانت نساء قومه يسمينه عُرف النار، ومعناه بلغتهم: الغادر، ولما قدم الأشعث على أبي بكر قال: ماذا تراني أصنع بك فإنك قد فعلت ما علمت؟! قال: تمنُّ عليَّ فتفكني من الحديد وتزوجني أختك فإني قد راجعت وأسلمت، فقال أبو بكر: قد فعلت فزوجه أم فروة ابنة أبي قحافة، فكان بالمدينة حتى فتح العراق.

وفي رواية جاء فيها: فلما خشي أن يقع به قال: أوتحتسب فيَّ خير فتطلق إساري وتقيلني عثرتي وتقبل إسلامي، وتفعل بي مثل ما فعلته بأمثالي وترد علي زوجتي -وقد كان خطب أم فروة بنت أبي قحافة مقدمه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجه، وأخَّرها إلى أن يقدم الثانية فمات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفعل الأشعث ما فعل فخشي ألا ترد عليه- تجدني خير أهل بلادي لدين الله! فتجافى له عن دمه وقبل منه ورد عليه أهله وقال: انطلق فليبلغني عنك خير، وخلي عن القوم، فذهبوا وقسم أبو بكر في الناس الخمس.
منقول من (أبو بكر الصديق علي بن محمد الصلابي)





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #18  
قديم 06-04-2023, 12:11 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,180
الدولة : Egypt
افتراضي رد: معارك حربية مهمة فى التاريخ الاسلامى ...يوميا فى رمضان





سقوط المملكة الفارسية



أ.د. راغب السرجاني
(15)


ذكرنا في المقال السابق أن جيش الأحنف بن قيس وصل إلى بَلْخ لقتال يزدجرد شخصيًّا في حاشيته الملكية، ولم يتمكن يزدجرد من الفرار واضْطُرَّ إلى قتال الأحنف بن قيس بنفسه، وكان يزدجرد قد أقام معاهدات مع الممالك المحيطة بالدولة الفارسية؛ فأرسل خطابًا إلى ملك الصين، وخطابًا إلى ملك الصُّغْد، وخطابًا إلى ملك الترك؛ أما ملك الروم فكان يعيش في الحروب التي تدور في مملكته، غير الحروب الطاحنة التي كانت بين الفرس والروم مما أثَّر على علاقتهما.

ووصلت رسائله إلى الملوك، فأجابه ملك الترك بإرسال جيش لنجدته، وقد دخل الجيش الإسلامي في بلاد الترك، وكان أول من دخل سيدنا عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي، فوجدها ملك الترك فرصة ليتحد مع ملك الفرس في حرب ضد الجيش الإسلامي، لعله يستطيع إخراجه من بلاده، وتوجه جيش الترك بالفعل تجاه بلخ.
ووافق ملك الصُّغْد على طلب يزدجرد وأرسل جيشًا لمساعدة كسرى فارس.

رد ملك الصين على رسول كسرى :

أما ملك الصين فكان أحكمَ من ملكي الترك والصغد؛ فقد حاور رسول كسرى، وقد سُجِّلَ هذا الحوارُ؛ لأن كثيرًا ممن سمعوا هذا الحوار قد أسلموا، ويقال: إن رسول يزدجرد نفسه أسلم.
ابتدأ ملك الصين قائلاً للرسول: إن حقًّا على الملوك إنجادُ الملوك على من غلبهم؛ فصِفْ لي هؤلاء القوم الذين أخرجوكم من بلادكم، فإني أراك تذكر قلةً منهم وكثرةً منكم، ولا يبلغُ أمثالُ هؤلاء القليل الذين تصف منكم -مع كثرتكم- إلا بخير عندهم وشرٍّ فيكم.
فقال الرسول: سلني عما أحببت. فقال ملك الصين: أيوفون بالعهد؟ قلت: نعم. قال ملك الصين: وما يقولون لكم قبل القتال؟ قال الرسول: يدعوننا إلى واحدة من ثلاث: إما دينهم، فإن أجبنا أجرونا مجراهم، أو الجزية والمنعة، أو المنابذة. ويتضح من أسئلة ملك الصين أنه كان يتابع الحروب الإسلامية، فالحروب تدور رحاها في المملكة المجاورة واستمرت اثني عشر عامًا، فهو يسأل عن أمور محددة يريد أن يستوثق منها من رسول يزدجرد. قال ملك الصين: فكيف طاعتهم أمراءهم؟ قال الرسول: أطوع قوم لمرشدهم. وهذه هي مفاتيح النصر، يجيب بها رسول كسرى على أسئلة ملك الصين.
قال ملك الصين: فما يُحِلُّون وما يحرِّمون؟ فعدَّد عليه الرسول بعض الأمور، وقد أثَّر ما ذكره في ملك الصين، لكن ما يهمّ هو السؤال التالي الذي طرحه ملك الصين على الرسول فقال له: هل يحلون ما حرم عليهم، أو يحرمون ما حلل لهم؟ قال الرسول: لا. قال ملك الصين: فإن هؤلاء القوم لا يزالون على ظَفَر حتى يحلوا حرامهم أو يحرموا حلالهم.
وإذا كنا نعيش في وضع من الضعف والهزائم غير الوضع الذي عاش فيه المسلمون من قبل، فقد يكون ما ذكر ملك الصين هو السبب، والحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها فهو أحق الناس بها، ولو كان قائلها ملك الصين.
ثم قال ملك الصين: أخبرني عن لباسهم؟ فيشرح له الرسول بساطة ثيابهم. ثم قال ملك الصين: أخبرني عن مطاياهم؟ فقال الرسول: الخيلُ العِرَابُ الأصيلة، ووصفها له، والإبلُ العظيمة ووصفها له.
فكتب ملك الصين إلى يزدجرد: إنه لم يمنعني أن أبعث إليك بجند أوله بمرو وآخره بالصين الجهالة بما يحِقُّ عليَّ، ولكن هؤلاء القوم الذين وصف لي رسولُك لو يطاولون الجبال لهدوها، ولو خلا لهم سربهم أزالوني ما داموا على ما وصف، فسالمهم وارضَ منهم بالمساكنة، ولا تهْجُهُم ما لم يهجوك.
ورفض ملك الصين أن يرسل إليه بمدد ينجده خوفًا من حرب المسلمين.
وحوى هذا الحوار حِكمًا كثيرةً من الممكن أن نستفيد منها فالتاريخ يعيد نفسه، ونحن الآن في وضع يدعونا لاستخراج الحكمة والبحث عنها، والحكمة كاملة في ديننا، وسيتضح هذا الأمر في نهاية الدرس في مقولة لسيدنا عمر بن الخطاب t.
عودة للأحنف بن قيس :


كان الأحنف بن قيس أسرع من ملك الترك وملك الصغد فوصل بجيشه إلى بلخ قبلهما، وحارب يزدجرد والتقى الجيشان في أول معركة يحارب فيها يزدجرد بنفسه؛ فقد تعود الهرب منذ دخول الجيوش الإسلامية إلى أرض فارس، وكأنما كُتِبَ عليه الهروبُ منذ ميلاده؛ فقد هربت به أمه وهو طفل خوفًا عليه من كسرى ليقتله، ثم أحضروه ليتولى الحكم وكان عمره يومئذ إحدى وعشرين سنةً.

وبدأ القتال وتخيل حال جيش ظل يهرب من مكان إلى آخر حتى ألجأته الظروف للحرب مع جيش يتقدم من مكان إلى آخر، وكيف حاله وهو يقابل جيشًا يحرص على الموت حرصهم على الحياة، وكانت هذه المعركة من أقصر المعارك في الفتوحات الإسلامية، فما هي إلا ساعات قليلة حتى عملت السيوف الإسلامية في رقاب الجيش الفارسي، وكان يزدجرد يقاتل في مؤخرة الجيش، وكالمعتاد لما رأى سيوف المسلمين تأخذ مأخذها من جيشه؛ لاذ بالفرار بقلة من جيشه عابرًا النهر داخلاً في مملكة الترك..
ويقف سيدنا الأحنف بن قيس على آخر حدٍّ من الحدود الفارسية، ولم يكن لسيدنا الأحنف بن قيس أن يعبر إلى مملكة الترك دون أن يأذن له سيدنا عمر بن الخطاب، وكان قد أرسل إلى الأحنف رسالة بأنه إذا وصل إلى هذه النقطة فلا يعبر إلى مملكة الترك، فلم يفكر سيدنا عمر في الدخول في الأراضي التركية؛ لأن جيوش المسلمين متفرقة في أماكن واسعة، فالجيش الذي قضى على الدولة الفارسية قوامه عشرون ألف مسلمٍ، قد توزعت بقية الجيوش الإسلامية على أقاليم الدولة الفارسية، فخشي سيدنا عمر بن الخطاب من تشتت الجيوش في الأراضي التركية، وبذلك يضيع النصر الذي حققه في البلاد الفارسية، فكانت أوامره ألا يتعدَّى نهر جَيْحون حتى وإن هرب يزدجرد خلف هذا النهر، ويقف الأحنف بن قيس طاعة لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب ولم يتقدم ليعبر نهر جَيْحون.
بعد الانتصار الذي حققه سيدنا الأحنف بن قيس في بلخ، وسقوط الدولة الفارسية، وبعد أن اطمأن على الوضع فيها تركها عائدًا بجيشه إلى مرو الروذ بعد أن ترك بها حامية لتحميها.
لم ينته الأمر بالنسبة ليزدجرد بعدُ؛ فبالأمس القريب كان ملكًا على مملكة كبيرة من أقوى الممالك في ذلك الوقت، واليوم أصبح فارًّا مطارَدًا، وقد فَقَدَ كنزه المدفون في مرو الشاهجان، وفقد وضعه الاجتماعي، وما بين عشية وضحاها سُلِبَ منه كُلُّ ما يملك، وبعد أن كان يتقلب في النعيم أصبح من أهل الجحيم.
واستنجد يزدجرد بملك الصغد وملك الترك على الجيش الإسلامي رغبة في الانتصار عليه، أو تحرير الكنز المدفون في مرو الشاهجان على أن يقاسمه الكنزَ ملكُ الترك، ووافق ملك الترك، وعبرت الجيوش التركية التي تحالفت مع الجيش الفارسي، واضطرت الحامية المرابطة في بلخ إلى الانسحاب إلى الأحنف بن قيس في مرو الروذ؛ لما رأت كثرة عدد الجيش القادم من مملكة الترك، ويستولي يزدجرد والخاقان على بلخ مرة أخرى.
واتجهت الجيوش الفارسية المتحالفة مع الجيوش التركية إلى مرو الروذ لمقابلة الأحنف بن قيس، وعسكرت هذه الجيوش قرب مرو الروذ، وجهز الأحنف بن قيس جيشه لما علم بانسحاب الحامية الإسلامية من بلخ، وتلتقي الجيوش في معركة في مرو الروذ، وهذه المعركة ليست على غرار معركة بلخ، فالجيوش التركية كانت كبيرة العدد بجانب جيش الصغد وبقايا الجيش الفارسي، فكانت من المعارك الشديدة في هذه الفترة، واستمرت المعركة أيامًا، وكانت الفلول تأتي من جهات مختلفة، ومن خارج حدود مرو الروذ وأحاطت هذه الفلول بالجيش الإسلامي، وكانت العادة القتال نهارًا، وفي أثناء الليل خرج الأحنف ليلاً ليعرف أخبار جنوده، ولعله يسمع برأي ينتفع به، فمر برجلين ينقيان علفًا، وأحدهما يقول لصاحبه: لو أنا أميرنا أسند ظهرنا إلى هذا الجبل وجعل النهر على يميننا من خلفنا، وكان قتالنا من وجه واحد رجوتُ أن ينصرنا الله. فقد خشي المسلمون الحصار في أرض لا يعرفونها، فسمع الأحنف بن قيس ذلك الرأي وأعجبه، فلما أصبح جمع الناس وقال لهم: إني أرى أن تجعلوا ظهوركم إلى هذا الجبل. ثم قال لهم: أنتم اليوم قليل وعدوكم كثير فلا يَهُولَنَّكم؛ فـ{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249]. بعد الوضع الذي اتخذه المسلمون بدأت الكفة ترجح نسبيًّا في جانب المسلمين ولكن لم يتحقق النصر الكامل، وقاتل المسلمون من جهة واحدة، فأصبح الأمر معتمدًا على كفاءة المقاتل المسلم، وليس على حصار الفرس والترك كما كان في بداية المعركة.
وفي ليلة من ليالي المعركة خرج الأحنف قائد الجيوش طليعةً لأصحابه أو دورية استكشافية بين الحدود الفاصلة بين الجيشين ليدرس الموقف؛ ليعرف كيف ينتصر على هذا الجيش، حتى إذا كان قريبًا من عسكر الخاقان وقف، فلما كان وجه الصبح خرج فارس من الترك بطوقه فضرب بطبلة، وكانت عادة الترك أنهم لا يخرجون حتى يخرج ثلاثة من فرسانهم أكفاء كلهم يضرب بطبلة، ثم يخرجون بعد خروج الثالث. ثم وقف الفارس من العسكر موقفًا يقفه مثله، فحمل عليه الأحنف فتقاتلا فطعنه الأحنف فقتله وأخذ طوق التركي ووقف، فخرج فارس آخر من الترك ففعل فعل صاحبه، فحمل عليه الأحنف فتقاتلا فطعنه فقتله وأخذ طوقه ووقف، ثم خرج الثالث من الترك ففعل فعل الرجلين، فحمل عليه الأحنف فقتله، ثم انصرف الأحنف إلى عسكره.
وبالفعل خرجت الجيوش التركية بعد الثالث فأتوا على فرسانهم فوجدوهم قتلى، وكانوا أهل تشاؤم وتفاؤل كالفرس؛ فتشاءم خاقان وتطيَّر، وتسربت الهزيمة إلى قلوب جيشه.


وتعددت الروايات بالنسبة لموقف الخاقان وجيشه التركي، فبعض الروايات تذكر أنهم عادوا إلى بلادهم ولم يقاتلوا، وقال الخاقان: قد طال مقامنا وقد أصيب فرساننا، ما لنا في قتال هؤلاء القوم خير؛ فرجعوا. وارتفع النهار للمسلمين ولم يروا منهم أحدًا، وأتاهم الخبر بانصراف خاقان والترك إلى بلخ.
وتذكر بعض الروايات الأخرى أن المعركة تمت، وحمل الأحنف بن قيس رايته وانطلق داخل الجيش التركي وأوقع بهم هزيمة رهيبة.
ونعلم أن يزدجرد كان مع الجيش التركي وكان بينهما اتفاق، وهو ما دفع الخاقان الدخول في حرب مع المسلمين، ولم يكن المسلمون على علم بتلك الاتفاقية.
وأثناء القتال ترك يزدجرد الخاقان مقابل المسلمين بمرو الروذ وانصرف بحاميته الفارسية إلى مرو الشاهجان، وكان بها حامية إسلامية صغيرة على رأسها حاتم بن النعمان، وكان الجيش الفارسي أكبر نسبيًّا من الجيش الإسلامي، فضرب عليهم الحصار، واستطاع يزدجرد ومن معه الدخول إلى مرو الشاهجان بعد انسحاب الحامية الإسلامية، وانكشف ما اتفق عليه يزدجرد والخاقان، فقد شغل الترك جيش المسلمين في مرو الروذ ليتمكن يزدجرد من الحصول على الكنز المدفون في مرو الشاهجان ثم يعود إلى مملكة الترك، وفي الوقت الذي وصلت فيه الأنباء إلى الأحنف بن قيس كان الجيش الإسلامي قد حقق انتصاره على الجيش التركي، وكان أمام الأحنف اختياران إما أن يسير إلى بلخ بالقوى الأساسية، أو يسير إلى مرو الشاهجان حيث يزدجرد وكنزه المدفون، فاختار الأحنف أن يسير إلى مرو الشاهجان لسببين؛ أولهما: أنه لا يريد أن يقع بين جيشين في الشمال والجنوب.
والسبب الثاني: طاعته لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب في عدم تجاوزه نهر جيحون.
لما علم يزدجرد أن الأحنف لحقه وقادم إليه أُسْقِطَ في يده، فهو لم يكن يتوقع أن تأتي إليه الجيوش، بل توقع أنها ستذهب إلى الجيش التركي، فهرب يزدجرد كعادته.
الفرس ينقلبون على يزدجرد :

فلما جمع يزدجرد خزائنه، وكانت كبيرة عظيمة، وأراد أن يلحق بخاقان، قال له أهل فارس: أي شيء تريد أن تصنع؟ قال: أريد اللحاق بخاقان فأكون معه أو بالصين. قالوا له: إن هذا رأي سوء، ارجع بنا إلى هؤلاء القوم فنصالحهم؛ فإنهم أوفياء وهم أهل دين، وإن عدوًّا يلينا في بلادنا أحب إلينا من عدو يلينا في بلاده ولا دين له، ولا ندري ما وفاؤهم. فأبى عليهم، فقالوا: دع خزائننا نردها إلى بلادنا ومن يلينا، لا تخرجها من بلادنا. فأبى، فاعتزلوه وقاتلوه فهزموه وأخذوا الخزائن واستولوا عليها وانهزم منهم ولحق بخاقان، وعبر النهر من بلخ إلى فرغانة، وصالح الجنود الفارسيون سيدنا الأحنف بن قيس على الجزية وأعطوه كنز يزدجرد، فباعه المسلمون بمائة وخمسين مليون درهم، وقسم مائة وعشرين مليون درهم على العشرين ألفًا؛ فكان نصيب الفرد ستة آلاف درهم.

أخبار النصر تصل المدينة :

وأرسل إلى سيدنا عمر بن الخطاب خبر الفتح ومعه ثلاثون مليون درهم خُمس الغنائم، فما كان من سيدنا عمر بن الخطاب إلا أن جمع الناس وقرأ عليهم كتاب الأحنف بن قيس، ثم خطب خطبة فقال: "إن الله تعالى ذكر رسوله، وما بعثه به من الهدى، ووعد على اتباعه من عاجل الثواب وآجله خير الدنيا والآخرة، ثم قال: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33]، الحمد لله الذي أنجز وعده ونصر جنده، ألا إن الله قد أهلك مُلْكَ المجوسية وفرَّق شملهم، فليسوا يملكون بأيديهم شبرًا يضر بمسلم، ألا إن الله قد أورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأبناءهم لينظر كيف تعملون، ألا وإن المِصْرَيْن (الكوفة والبصرة) من مسالحها (المدن الصغيرة التابعة) اليومَ كأنتم والمصرين فيما مضى من البعد، وقد أوغلوا في البلاد، والله بالغ أمره، ومنجز وعده، ومتبع آخر ذلك أوله؛ فقوموا في أمره يوفِ لكم بعهده، ويؤتكم وعده، ولا تُبدِّلوا ولا تغيروا؛ فيستبدل الله بكم غيركم؛ فإني لا أخاف على هذه الأمة إلا أن تُؤتَى من قِبَلِكُم".
ونضع كلمات سيدنا عمر بن الخطاب نصب الأعين لتكون لنا درسًا من الفتوحات الفارسية، تعيه قلوبنا وخاصة آخر كلامه، فهو لا يخاف على هذه الأمة من الفرس أو الروم أو الصين أو من غير ذلك بقدر ما يخاف أن تؤتى هذه الأمة من قبلها، وذلك إذا أحلَّت الأمة حرامها وحرَّمت حلالها، وإذا حدثت الفرقة بين المسلمين حتى لو حقق كل فرد أعلى درجات التقوى، طالما أنه يعمل بمفرده ولا يتعاون مع الآخرين لتحقيق أمة مترابطة ومتماسكة وقوية البنيان.
ودائمًا ما كان سيدنا عمر يقول لجيش المسلمين: إني أخاف عليكم من الذنوب أخوف من جيش الفرس ومن جيش الروم. وكان الجيش الإسلامي -في ذلك الوقت- قد حقق هذه الصفات التي هي مفتاح النصر؛ لذا أتم الله تعالى لهم فتح المملكة الفارسية، ودانت لهم مملكة من أعظم الممالك في ذلك الوقت.
مقتل كسرى يزدجرد :

وتزامن سقوط الدولة الفارسية مع فتح المسلمين لبرقة في تونس، وتوغلهم في أرض الروم حتى حدود المملكة التركية.

وبعد هذا السقوط المفزع الذي لحق بيزدجرد، إضافة إلى محاربة جنده له وأخذ كنزه، وصل يزدجرد إلى خاقان الترك فاستُقْبِل استقبال الملوك، ثم سأله أحد عماله (وكان على مرو الشاهجان وكان اسمه ماهويه) ابنته ليتزوجها؛ فغضب يزدجرد غضبًا شديدًا، وقال له: إنما أنت عبد من عبيدي. فعمل ماهويه على تقليب الحاشية على يزدجرد، وقررت الحاشية قتله، فهرب يزدجرد من الحاشية الفارسية حتى انتهى إلى بيت طحَّان فآواه وأطعمه ثم سقاه الخمر فلعبت برأسه؛ فأخرج تاجه ووضعه على رأسه فعرفه الطحان، ثم أخبر ماهويه، وتشاءم ماهويه من قتل يزدجرد بنفسه أو أحد من حاشيته؛ فقد كانوا يعتقدون أن من قتل كسرى أو قتل ملكًا عُذِّبَ بالنار في الدنيا، فأوحى إلى الطحان بقتله، فأخذ فأسه وضرب يزدجرد فاحتز رأسه بها، وبعد قتل الطحان لكسرى قال ماهويه: ما ينبغي لقاتل ملك أن يعيش. فقتل الطحان، وألقى جثة يزدجرد في نهر جيحون، وحملت المياه جثته إلى مكان قريب من مرو الشاهجان، وتعرف عليه مطران على مرو يقال له: إيلياء، فجمع من كان قبله من النصارى، وقال لهم: إنَّ ملك الفرس قد قتل، وهو ابن شهريار بن كسرى، وإنما شهريار وَلَدُ شيرين المؤمنة التي قد عرفتم حقَّها وإحسانها إلى أهل ملَّتها من غير وجه؛ ولهذا الملك عنصر في النصرانِيَّة مع ما نال النصارى في مُلك جدِّه كسرى من الشرف، وقبل ذلك في مملكة ملوك من أسلافه من الخير، حتى بنى لهم بعض البِيعَ؛ فينبغي لنا أن نحزن لقتل هذا الملك من كرامته بقدر إحسان أسلافه وجدّته شيرين إلى النصارى؛ وقد رأيت أن أبني له ناووسًا، وأحمل جثّته في كرامة حتى أواريها فيه.
وانتهت بذلك قصة آخر ملك تولى حكم فارس، وكان من عادة الفرس أن يبتدئوا التقويم من اعتلاء كسرى لكرسي العرش، وبموت الملك ينتهي التقويم ويبتدئ تقويم جديد ببداية عهد كسرى جديد، ولم يأت بعد يزدجرد أحد ليسير المجوس -إلى هذه اللحظة- بالتقويم اليزدجردي، وما زالت هذه الطائفة باقية وموجودة وتعرف بالزرادشتية.
بعد انتهاء الفتوحات الفارسية والانتصار العظيم الذي حققه المسلمون، الذي لا نستطيع إعطاءه حقه إلا بعد قيام من ينشر الخير، ويبشر بهذا الدين وينشره في ربوع الأرض، وفي كل مكان في العالم، في هذا الوقت نستطيع أن نعرف مقدار الجيش الإسلامي الذي خرج بعد حروب الردة مباشرة -رغم عدد قتلى المسلمين في معارك الردة- لغزو الفرس والروم، وشمال إفريقيا حتى وصل إلى الأندلس.
وذكر أبو الحسن الندوي في كتابه (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين) عن (علم مقارنة الأمم) فقال: بالمقارنة.. قوة المسلمين إلى قوة الفرس وقوة الروم في ذلك الوقت، هي أضعف من قوة المسلمين في هذا الوقت من قوة روسيا وأمريكا قبل سقوط روسيا، وقوة الفرس والروم أشد على المسلمين من قوة روسيا وأمريكا على المسلمين الآن، لكن الفارق عوامل النصر التي كانت موجودة من قبل، ولو أراد المسلمون العزة والمنعة والنصر وعملوا له لحققه الله تعالى؛ فلا شيء يعجزه وكل شيء بيده.

هدف الفتوحات الإسلامية :


هل يوجد تعارض بين الفتوحات الإسلامية التي كانت عن طريق حروب شديدة مع قوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]؟ مع أن الآية واضحة وصريحة، وأن الفرس لم يهاجموا المسلمين، بل المسلمون هم الذين حاربوهم في بلادهم.

الحقيقة أن هذا الأمر من الأهمية بمكان ولا بد من الوقوف على حقيقته، وفي هذا يقول أحد العلماء: إن حركة الفتوحات الإسلامية لم تكن لمجرد الدفاع عن الدولة الإسلامية كما يحاول بعض المسلمين الدفاع عن الإسلام، والقول بأن الإسلام لا يحارب إلا دفاعًا، ويظن أنه يخدم الإسلام بذلك، حتى لا يُطْلَق على الإسلام أنه دين إرهاب، أو أنه يحاول الضغط على هذه الدول لتعتنق الإسلام، ونذكر أن الإسلام ليس دينًا دفاعيًّا فقط، بل فرض عين على المسلمين أن ينشروا الدعوة خارج حدودهم حتى يَعُمَّ الإسلام ربوع الأرض، والمسلمون لم يفرضوا الإسلام على أية أمة من الأمم، لكنه يحرر هذه الشعوب من الطواغيت التي تحكمهم وتمنعهم من اختيار الدين المناسب؛ فمثلاً كان الشعب الفارسي يتبع ولاته في عبادة النار، ولا يحق لهم اختيار ما يدينون به، لكن دين الله لا بد أن يصل إلى هذه البلاد، وإلى كل فرد، ثم يترك له حرية الاختيار في اعتناقه للإسلام أو عدم اعتناقه، أما إذا تركه المسلمون دون إبلاغ فهم آثمون، فكانت مهمة الجيوش الإسلامية محاربة الطبقة الحاكمة التي تأبى أن تطيع أمرَ الإسلام، بعد عرض الإسلام عليهم وبعد عرض الجزية، والجزية حلٌّ أفضل للمعاهِدين من الأموال والضرائب التي يدفعونها لحكوماتهم وأقل مما يدفعه المسلمون زكاةً؛ ولذا كانت هذه الشعوب تغتبط بالحكم الإسلامي.
بعد عرض هذه الأمور الثلاثة: الإسلام أو الجزية أو المنابذة؛ فإن رفض القوم الإسلام أو الجزية قاتل الجيش الإسلامي الجيش الفارسي والجيش الرومي ولا علاقة له في الحرب بمن لا يحارب، لا يقاتل الفلاحين، ولا من يعبد الله في محرابه أو في كنيسته أو في صومعته أو حتى في معبد النار، لكنه يقاتل من يقفون أمام نشر دين الله I، حتى إذا خلَّى بين الناس وبين الاختيار، ترك لهم المسلمون حرية العقيدة، يعبدون ما شاءوا أن يعبدوا بعد توضيح الإسلام لهم، فإن رضوه دينًا كان بها، وإن لم يرضوه أقرُّوهم على ديانتهم، رغم أن الدولة الفارسية تعبد النار وليسوا أهل كتاب، ومع دفعهم الجزية يتركهم المسلمون يعبدون النار، وفي مقابل الجزية يمنعهم المسلمون ويدافعون عنهم، ولم يكن غرض المسلمين من الفتوحات التكالب على الدنيا، بل أوقف سيدنا عمر بن الخطاب الحروب خشية كثرة الغنائم على نفوس المسلمين، فهل هناك قائد أي جيش فاتح يوقف الحروب؛ لأنه يخاف على أتباعه من كثرة الغنائم؟!

ولم تحمل الرسائل التي بعثها سيدنا عمر بن الخطاب بين طياتها أي غرض من أغراض الدنيا بل كان جُلُّ همه الآخرة وترك الدنيا، ولو وضعوا أعينهم على الآخرة لربحوا الدنيا والآخرة، وإذا وضعوا أعينهم على الدنيا خسروهما معًا، وهذا هدف نبيل من أهداف الفتوحات الإسلامية، ولا نخجل من ذكر انتشار الإسلام في هذه البلاد بهذه الحروب، بل الإسلام أعطى الفرصة لهؤلاء الناس ليتعرفوا عليه، تاركًا لهم حرية الاختيار.
ونتساءل: هل سيأتي اليوم الذي نفرح فيه عندما نرى انتشار الإسلام في أوربا وأمريكا وروسيا وكل ربوع الأرض؟ نعم، سيأتي هذا اليوم لكن بجدٍّ واجتهاد من المسلمين في تعريف البشرية بديننا الحنيف، وقد وعد الله بتحقق ذلك، ونحن نؤمن بموعود الله وأن دين الله سيعمُّ كُلَّ الأرض، ويعز الإسلام كما كان من قبل ويَذِلُّ الشرك، ولكن الفكرة تكمن فينا، وهل سيكون لنا دور في ذلك أم نتولى؛ فيحق علينا قول الله تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38]؟ فبداية الهَلَكَة كما وضحها ملك الصين: يحلُّوا حرامهم ويحرِّموا حلالهم. ولا بد أن يستشعر كل إنسان أن النصر يتأخر بمعصيته وذنبه، فالزوج الذي يترك زوجته تخرج إلى الشارع بدون حجاب، وكذلك الأب الذي يترك ابنته بدون حجاب هذا الأمر يؤخر النصر، رغم أن هذا شيء فردي وخاصٌّ به إلا أنه يحرم حلالاً ويحل حرامًا، ويؤخر النصر, كذلك من يتعامل بالربا، ومن يتعامل في الخمر، والغيبة والكذب، وكل من يقوم بشيء مخالفٍ يحرم فيه حلالاً ويحل حرامًا.
ويؤخر النصر أيضًا -ولو كان الأفراد على أعلى درجات التقوى- إذا انصرف كلٌّ إلى نفسه لا يفكر في الآخرين، بل لا بد لهذه النفوس التقية أن يجتمع بعضها مع بعض في دولة واحدة، وليس من الصعب على المسلمين أن يعيشوا تحت لواء دولة واحدة تنشر الخير وتنشر الإسلام في أرجاء المعمورة، وقد ظل الإسلام يحكم وله دولة قائمة تجمع شمل المسلمين ألفًا وثلاثمائة عام، ولم يعش المسلمون سوى خمسة وسبعين عامًا فقط متفرقين بعد إسقاط الخلافة العثمانية، وهذه المدة ليست بشيء في حياة الأمم، واجتماع هذه الأمم ليس بالصعب ولا العسير، فالأهم من ذلك الإرادة القوية التي تجمع هذه الشعوب، وتبدأ بتكوين الحكومات الإسلامية داخل بلادنا ونشر الإسلام فيها، ثم تتحد هذه البلاد في أمة واحدة تحافظ على العدل والمحبة وتنشر الإسلام في ربوع الأرض، وكلٌّ له دور في مكانه..
وكما يقول النعمان بن مُقَرِّن لما خطب المسلمين في معركة نهاوند: ولا يكِلْ أحدُكم قِرْنَه إلى أخيه. فليبدأ كلٌّ منا بنفسه، ويقربها من الله I مبتعدًا عن الحرام، مقتربًا من الحلال، مكثِرًا من الطاعات، وكل هذه الأشياء من عوامل النصر، ثم يقوم بدعوة غيره إلى الخير والكفِّ عن المعاصي، وليكن لك دور في مجتمعك، لا أن تعيش لنفسك فقط، ويكون جُلُّ همِّك جمع الأموال، أو تحقيق منافع شخصية، حتى ولو كانت على المستوى العبادي والإيماني.

ويقول أحد المصلحين ملخصًا هذا الكلام: أصلحْ نفسَك وادعُ غيرَك، ولو حاول كل منا أن يقيم دولة الإسلام في قلبه لقامت على أرضه، أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تقمْ على أرضكم. وحتمًا لو سلكنا الطريق الصحيح سنصل إلى ما وصل إليه الصحابة من نصر وتمكين بإذن الله.
منقول بتصرف




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #19  
قديم 06-04-2023, 11:46 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,180
الدولة : Egypt
افتراضي رد: معارك حربية مهمة فى التاريخ الاسلامى ...يوميا فى رمضان




معركة الخندق .. الهزيمة التي لم يلق المسلمون مثلها في الأندلس (327هـ= 939م)


قصة الإسلام
(16)




مرَّةً أخرى يتطور القتال بين المسلمين في الأندلس والنصارى في شمالها، فوقعت معركة الخندق التي تُعد من أخطر ما مر على الأندلس في زمن عبد الرحمن الناصر.


الأوضاع في الأندلس قبل معركة الخندق



وقعت أحداث هذه المعركة سنة (327هـ= 939م)؛ أي بعد سبعٍ وعشرين سنةً من بداية عهد عبد الرحمن الناصر الحاكم الفعلي للأندلس آنذاك [1]، وكانت هناك ثلاث ممالكٍ نصرانيَّة في شمال الأندلس؛ مملكة نافار تحت قيادة "الملكة طوطة" في أقصى الشمال، ومنطقة شمال شرق الأندلس ويحكمها الفرنسيُّون، ومملكة ليون شمال غرب الأندلس وهي أخطر هذه الممالك، وقد تربَّع على عرشها "راميرو الثاني" في عام 321ه بعد صراعٍ بين أعضاء المملكة استمرَّ سبع سنوات [2].


أسباب المعركة
كان "راميرو الثاني" هذا معروفًا بعدائه الشديد للإسلام والمسلمين [3]، كما كان صليبيًّا متطرِّفًا، لم يترك وسيلةً يُمكنه أن يضرَّ بها دولة المسلمين إلَّا استعملها؛ فكان يُغِير على الأراضي الإسلامية، ويُحَرِّض الثوَّار على عبد الرحمن الناصر، ويُعينهم على ذلك بما يستطيع، وهذا غير المعارك المباشرة التي كان يخوضها بنفسه ضدَّ المسلمين [4].
وما إن تولَّى راميرو الثاني أمرَ مملكة ليون حتى أراد إظهار قوَّته، فتوجَّه سنة (321هـ= 933م) إلى حصن وخشمة، فخرج المسلمون تاركين هذا الحصن، وانسحبت القوَّة المدافعة عنه إلى الجبال، ومِنْ ثَمَّ عزم الناصر على أن يسير لاسترداد الحصن بنفسه، إلَّا أنَّ راميرو آثر الانسحاب [5].
رأى عبد الرحمن الناصر بعد ذلك أن يُبدِّد قوَّة ليون ويُزيل خطرها، فتوجَّه في سنة 323ه لضربها وتمزيقها، لكن حدث شيءٌ غير متوقَّع، وهو أنَّ والي مدينة سرقسطة -ويُدعى محمد بن هشام التجيبي- أعلن عصيانه على عبد الرحمن الناصر، وأرسل إلى راميرو الثاني للتحالف معه، فلم ينتظر الناصر تطوُّر هذا التحالف بينهما وحاصر سرقسطة، وعيَّن أحد أقاربه أميرًا عليها ويُدعى أحمد بن إسحاق، غير أنَّ أحمد هذا كان متآمرًا، فأرسل إليه عبد الرحمن الناصر من يقبض عليه، فوصل الخبر إلى أخيه أميَّة بن إسحاق الذي بدوره أعلن عصيانه، ثم فرَّ إلى مملكة ليون يستنجد براميرو الثاني، وقد نجحت قوَّات عبد الرحمن الناصر في فتح مدينة سرقسطة [6].

الاستعداد للمعركة


حصن شنت منكش موقع محتمل لساحة المعركة.
بعد أن تمكَّن عبد الرحمن الناصر من إنهاء التمرُّد في سرقسطة، تابع تقدُّمه بجيشه نحو مملكة نافار، فاستسلمت له ملكتها طوطة وأعلنت له الطاعة، وبذلك لم يبقَ أمام عبد الرحمن الناصر سوى مملكة ليون بقيادة أميرها راميرو الثاني، فبدأ عبد الرحمن الناصر يستعدُّ لإجراء معركةٍ فاصلةٍ وحاسمةٍ ضدَّه [7].
بعد عامين من دخوله سرقسطة تأهَّب عبد الرحمن الناصر للقيام بأعظم غزواته ضدَّ مملكة ليون، فحشد جيشًا ضخمًا [8]، يبلغ زهاء مائة ألف [9]، وعَهَد بقيادته إلى "نجدة بن حسين الصقلبي"، وفي صيف سنة (939م= 327هـ) سار عبد الرحمن الناصر إلى ليون على رأس جيشه الضخم، وكان راميرو الثاني يُرابط على مقربةٍ من قلعة شنت منكش في مدينة سمُّورة في حشودٍ عظيمة، وزوَّده حليفه الخائن أميَّة بن إسحاق بنصائح ومعلومات ثمينة، كما انضمَّت إليه طوطة ملكة نافار ناكثةً لعهدها مع عبد الرحمن الناصر، وبذا اتَّحدتْ قوى إسبانيا النصرانيَّة لمقاتلة المسلمين مرَّةً أخرى [10].

أحداث المعركة


خندق قلعة سمورة كان مملوءً بالماء وقت المعركة.
بعد أن دخل عبد الرحمن الناصر بجيشه مدينة ليون زحف على مدينة سمُّورة، وكانت هذه المدينة في غاية المناعة[11]، وأقوى قلعةٍ لمملكة ليون[12]؛ حيث يُحيط بها سبعة أسوار، وبين الأسوار خنادق واسعة تفيض بها المياه[13]، ولها حاميةٌ قويَّةٌ، وفيها قوَّاتٌ عديدةٌ للدِّفاع عنها[14].


وفي يوم الجمعة (الحادي عشر من شوال سنة 327ه= الأول من أغسطس سنة 939م)، على باب قلعة شنت منكش [15]، تدور واحدةٌ من أشرس وأعنف المعارك على المسلمين [16]، وبدأ المسلمون بالهجوم وافتتحوا سورين من أسوار المدينة السبعة [17]، غير أنَّ النصارى احتموا داخل المدينة، ولحق الإعياء بالمسلمين وساد الاختلال بينهم، فكرَّ عليهم النصارى بشدَّةٍ وحماسة [18]، فقتلوا منهم خمسين ألفًا [19]، وهو نصف عدد جيش المسلمين، وبانتهاء المعركة فرَّ عبد الرحمن الناصر مع النصف الآخر عائدين بأكبر خسارة وأثقل هزيمة [20]، وسُمِّيت هذه الموقعة بموقعة الخندق لنشوبها على خنادق سمورة [21].
وأرجع المؤرخون سبب الهزيمة إلى أن بعض المسلمين كانوا يجدون في قلوبهم من عبد الرحمن الناصر، فقبعوا للصفوف [22]، وسارعوا في الهرب، وجرُّوا على المسلمين الهزيمة وأوبقوهم [23].

[1] راغب السرجاني: قصة الأندلس، مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة، القاهرة، الطبعة الأولى، 1432هـ= 2011م، 1/ 206.
[2] طارق سويدان: أطلس الأندلس، شركة الأبداع الفكري، الكويت، الطبعة الأولى، 1426هـ= 2005م، ص188، 189.
[3] خليل إبراهيم السامرائي- عبد الواحد ذنون طه- ناطق صالح مصلوب: تاريخ العرب وحضارتهم في الأندلس، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 2000م، ص167.
[4] راغب السرجاني: قصة الأندلس، 1/ 215.
[5] محمد عنان: دولة الإسلام في ألأندلس، مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعةالرابعة، 1417هـ= 1997م، 1/ 401، وطارق سويدان: أطلس الأندلس، ص189.
[6] طارق سويدان: أطلس الأندلس، ص190، 191.
[7] طارق سويدان: أطلس الأندلس، ص191، 192.
[8] محمد عنان: دولة الإسلام في ألأندلس، 1/ 413
[9] المسعودي: مروج الذهب ومعادن الجوهر، 1/ 184، والحميري، ابن عبد المنعم: الروض المعطار في خبر الأقطار، تحقيق: إحسان عباس، مؤسسة ناصر للثقافة، بيروت، طبع على مطابع دار السراج، الطبعة الثانية،1980م ، ص325، والمقري: نفح الطيب من غصن الاندلس الرطيب، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر، بيروت، لبنان، 1900م، 1/ 355.
[10] محمد عنان: دولة الإسلام في ألأندلس، 1/413، 414.
[11] محمد عنان: دولة الإسلام في ألأندلس، 1/414.
[12] طارق سويدان: أطلس الأندلس، ص192.
[13] المسعودي: مروج الذهب ومعادن الجوهر، تحقيق: أسعد داغر، دار الهجرة، قم، 1409هـ، 1/184.
[14] طارق سويدان: أطلس الأندلس، ص192.
[15] محمد عنان: دولة الإسلام في ألأندلس، 1/419.
[16] راغب السرجاني: قصة الأندلس، 1/206.
[17] المسعودي: مروج الذهب ومعادن الجوهر، 1/184.
[18] محمد عنان: دولة الإسلام في ألأندلس، 1/414.
[19] المسعودي: مروج الذهب ومعادن الجوهر، 1/184، والحميري، ابن عبد المنعم: الروض المعطار في خبر الأقطار، ص325، والمقري: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، 1/355.
[20] راغب السرجاني: قصة الأندلس، 1/206.
[21] محمد عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 1/414.
[22] قبعوا: أي اختبئوا واستتروا، أو تخلفوا عنها. انظر: ابن منظور: لسان العرب، 8/258، وأحمد عمر هاشم ومجموعة من الباحثين: معجم اللغة العربية المعاصرة، 3/1768.
[23] راغب السرجاني: قصة الأندلس، 1/206، 207.
منقول بتصرف



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #20  
قديم 07-04-2023, 11:42 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,180
الدولة : Egypt
افتراضي رد: معارك حربية مهمة فى التاريخ الاسلامى ...يوميا فى رمضان




فتح مصر في عهد عمر بن الخطاب (1 - 2)


(21هـ -642م)

قصة الإسلام



(17)

خريطة تُظهرُ زحف المُسلمين نحو مصر آتين من الشَّام والحجاز

يرتبط فتح
مصر بأهميتها السياسية والاقتصادية، وذلك بما لديها من خصائص، وما توفره من إمكانات على جانب كبير من الأهمية.

فكرة فتح مصر
ويروي ابن عبد الحكم أن عمرو بن العاص أشار على عمر بن الخطاب بفتحها، وقال: "إنك إن فتحتها كانت قوة للمسلمين وعونًا لهم، وهي أكثر الأرض أموالًا، وأعجزها عن القتال والحرب"، والمعروف أن عمرًا كان قد سافر إلى مصر في الجاهلية للتجارة، فوقف على معالمها وعلى أوضاعها الداخلية، وبخاصة النزاع الديني بين البيزنطيين الحاكمين، وبين الشعب المصري الذي يخالفهم في المذهب، وظن أن المصريين سوف يمتنعون عن مساعدة الحاميات العسكرية البيزنطية المنتشرة في مصر إذا هاجمها المسلمون، ومما زاده اقتناعًا بما يظنه ما تناهى إلى أسماع المصريين عن سياسة المسلمين المتسامحة في بلاد الشام.

اجتمع عمرو بن العاص بعمر بن الخطاب في الجابية حين جاء إلى بلاد الشام بعد طاعون عمواس، وعرض عليه فتح مصر وطلب السماح له بالمسير إليها، وهنا تظهر لأول مرة في المصادر العربية فكرة فتح مصر، وكأنها فكرة طارئة عنت لعمرو بن العاص الذي كان يسعى للحصول على ميدان جديد يظهر فيه نشاطه، وحسنها للخليفة عمر، وتجري بعض المصادر أن فكرة فتح مصر تعود إلى عمر بن الخطاب نفسه الذي أمر عمرو بن العاص بالمسير إليها [1].
والواقع أن فتح مصر أضحى ضرورة بعد فتح بلاد الشام، وقد أثارت هذه البلاد اهتمام المسلمين الجدي بعد أن وقفوا على أوضاعها السياسية والاقتصادية والدينية المتردية، ذلك أن تطلعات عمرو بن العاص، ومن خلالها عمر بن الخطاب تكمن في فتح مصر، وضمها إلى الدولة الإسلامية من خلال هذا الواقع.


فتح الفرما

خريطة تُبيِّنُ مسير المُسلمين من الشَّام إلى الفرما بوَّابة مصر الشرقيَّة، وانطلاقهم منها لِفتح سائر أرجاء البلاد.
تقرر في عام "18هـ/ 639م"، تنفيذ القرار الذي اتخذ بفتح مصر في مؤتمر الجابية، وعهد عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص بقيادة العملية، ووضع بتصرفه ثلاثة آلاف وخمسمائة جندي، وقيل: أربعة آلاف، وطلب منه أن يجعل ذلك سرًا، وأن يسير بجنده سيرًا هنيًا.

سار عمرو بن العاص بجنده مخترقًا صحراء سيناء، ومتخذًا الطريق الساحلي حتى وصل إلى العريش (أول عمل مصر من ناحية الشام) في عيد الأضحى: "10 ذو الحجة 18هـ/ 12 ديسمبر 639م"، فوجدها خالية من القوات البيزنطية، فدخلها، وشجعه ذلك على استئناف التقدم، فغادر العريش سالكًا الطريق الذي كان يسلكه المهاجرون، والفاتحون والتجار منذ أقدم العصور، ثم انحرف جنوبًا تاركًا طريق الساحل، واتخذ الطريق الذي سار فيه الفرس عندما استولى على مصر، حتى وصل إلى الفرما (على الساحل من ناحية مصر، وهي مفتاح مصر في الشرق).
كانت أنباء زحف المسلمين قد وصلت إلى مسامع المقوقس، فاستعد للتصدي لهم، ولكنه آثر ألا يصطدم بهم في العريش، أو الفرما وتحصن وراء حصن بابليون (بمصر القديمة، اسم عام لديار مصر بلغة القدماء، وقيل: هو اسم لموضع الفسطاط خاصة)، ولعل مرد ذلك يعود إلى:
- أن العريش والفرما قريتان من الصحراء مع علمه بأن المسلمين أقدر الناس في حرب الصحراء، بالإضافة إلى قربهما من فلسطين مما يجعل إمداد عمرو بجنود من بيت المقدس وما جاورها أمرًا يسيرًا، لذلك فضل أن يدع عمرًا يمضي في زحفه، ويتوغل في أرض مصر ليبعده عن قواعده ثم يهاجمه، واعتمد على حصون الفرما القوية لعرقلة تقدمه دون أن يخاطر بالذهاب بنفسه إلى هناك، أو يرسل الأرطبون، كبير القادة، وهذا خطأ عسكري كلفه غالبًا حيث كانت الخطة العسكرية السليمة تقضي بأن يرسل قواته إلى الفرما ليوقف زحف المسلمين هناك، ولو فعل ذلك، وهو يمتلك قوة عسكرية هائلة لربما كان قد تغير وجه الصراع.
- أنه لم يكن يطمئن إلى ولاء المصريين، وخشي من أن يستغلوا الفرصة، ويقوموا بثورة ضد الحكم البيزنطي.
- أنه تهيب الدخول في مغامرة عسكرية مع المسلمين مع علمه بمقدرتهم القتالية، وتفوقهم في ميدان القتال، وبخاصة أنهم خارجون من انتصارات متلاحقة في بلاد الشام، ومعنوياتهم مرتفعة.
افتقر عمرو إلى آلات الحصار، إذ لم يكن للمسلمين عهد بأساليب حصار المدن، واعتمدوا في فتوحهم لمدن العراق، وبلاد الشام على المواجهة، أو الصبر عليها إلى أن يضطرها الجوع إلى الاستسلام، وهكذا ضرب عمرو الحصار على الفرما، وتحصنت حاميتها البيزنطية وراء الأسوار، وجرت مناوشات بين الطرفين استمرت مدة شهر، ثم اقتحمها المسلمون في "19 محرم عام 19هـ/ 20 يناير عام 640م" [2].

أمن فتح الفرما للمسلمين المركز المسيطر على خطوط مواصلاتهم مع بلاد الشام، وضمن لهم وصول الإمدادات التي وعدهم بها عمر بالإضافة إلى طريق الانسحاب إذا تعرضوا للهزيمة. ولما كانت قواته قليلة العدد، ولا يمكنه ترك حامية عسكرية لحراستها، فقد هدم عمرو أسوار المدينة، وحصونها حتى لا يستفيد البيزنطيون منها فيما لو امتلكوها ثانية.


فتح بلبيس

أطلال مدينة منف، عاصمة مصر الفرعونيَّة القديمة، والتي تمكَّن المُسلمون من السيطرة عليها بعد أن فتحوا قرية أُم دنين ذات الأهميَّة الإستراتيجيَّة.
تابع عمرو توغله في أرض مصر بعد فتح الفرما، وانضم إليه جند من البدو المقيمين على تخوم الصحراء المصرية، طمعًا في الغنيمة، فعوضوا المسلمين عمن فقدوه حتى ذلك الوقت، وسار منحدرًا إلى الجنوب، فتخطى مدينة مجدل القديمة إلى موقع القنطرة اليوم، ومن ثم توجه غربًا إلى القصاصين –الصالحية - ثم انحرف جنوبًا، فاجتاز وادي الطميلات حتى بلغ بلبيس، وقد اختار هذا الطريق لخلوه من المستنقعات، ولم يلق في طريق الطويل هذا مقاومة تذكر لا من جانب السكان، ولا من جانب البيزنطيين، ولم يكن "يدافع إلا بالأمر الخفيف".

ضرب عمرو الحصار على المدينة، وقاتل حاميتها شهرًا، وكان المقوقس قد أرسل في غضون ذلك قوة عسكرية للاستطلاع، ولكنها لم تحاول إلا مناوشة المسلمين في تقال خفيف، إلا أنه فشل في مهمته وخسر المعركة وتمزق جيشه، فقتل منه نحو ألف جندي، وأسر نحو ثلاثة آلاف أسير، وخسر المسلمون بعض الجند، ودخلوا على إثر ذلك مدينة بلبيس [3].
فتح أم دنين

مصر وسائر أرجاء الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة (بالبُرتُقالي الدَّاكن) خلال الفترة المُمتدَّة بين سنتيّ 527 و565م.

سار عمرو من بلبيس متاخمًا للصحراء، فمر بمدينة هليوبوليس -عين شمس- ثم هبط إلى قرية على النيل اسمها دنين (هي المقس موقع حديقة الأزبكية وكانت ميناء مصر وقت الفتح)، وتقع إلى الشمال من حصن نابليون، وعسكر قريبًا منها. اشتهرت أم دنين بحصانتها، وكان يجاورها مرفأ على النيل فيه سفن كثيرة، وما كان المقوقس ليرضى بأن تقع في أيدي المسلمين، وأدرك أخيرًا خطأ ما اتخذه من قرار الإحجام، والتصدي للمسلمين باكرًا حتى وصل خطرهم إلى قلب مصر، فغادر الإسكندرية إلى حصن بابليون ليدير العمليات العسكرية، ويشرف عليها، وحشد جيشًا استعدادًا للقتال.

وجرت بين الجيش الإسلامي وحامية المدينة بعض المناوشات على مدى عدة أسابيع، لم تسفر عن نتيجة حاسمة لأي منهما، إنما بدأ المسلمون يشعرون بتناقص عددهم بمن كان يقتل منهم في الوقت الذي لم يتأثر البيزنطيون كثيرًا بفقدان بعض جندهم، فاضطر عمرو أن يرسل إلى الخليفة يستحثه في إرسال إمدادات على وجه السرعة، فوعده بذلك.
والواقع أن موقف عمرو كان حرجًا، فقد علم من خلال العيون التي بثها في المنطقة أنه لن يستطيع أن يحاصر حصن بابليون، أو يفتحه بمن بقي معه من الجند، وبالتالي فتح مدينة مصر المتصلة به، كما أنه يتعذر عليه التراجع حتى لايفت في معنويات جنوده، فيقوي عليهم عدوهم، بالإضافة إلى أنه كان مصرًا على فتح مصر، غير أنه كان لديه بصيص أمل من واقع وعد الخليفة بإمداده بالمساعدة.
ودار في غضون ذلك قتال شديد تحت أسوار أم دنين، وكانت كفة الصراع متأرجحة بين النصر والهزيمة من واقع توازن القوى، لكن الإمدادات تأخرت في الوصول، وتضايق المحاصرون، وكاد اليأس يدب في نفوسهم، فرأى عمرو أن يشغل جنوده بنصر آخر كسبًا للوقت حتى تصل الإمدادات، لكنه كان عليه أن يفتح أم دنين أولًا حتى يستفيد من السفن الراسية في المرفأ لإجتياز النهر، ووصلت في غضون ذلك طلائع الإمدادات، فقويت عزيمة المسلمين، وأسقط في يد حامية أم دنين، فقل خروجهم للقاء المسلمين، فاستغل عمرو هذا الإحجام، وشدد حصاره على المدينة حتى سقطت في يده [4].
تنفيذ غارات على الفيوم


خريطة لِمصر السُفلى تُظهر مواقع المُدن الباقية والمُندثرة، ومن ضمنها موقع عين شمس حيثُ دارت المعركة الفاصلة بين الروم والمُسلمين.
سار عمرو ومن معه من المسلمين إلى الجنوب بعد أن عبروا النهر سالمين، وتوجهوا نحو الفيوم (ولاية غربية)، وعندما وصل إلى تخومها وجد الحاميات البيزنطية متأهبة للتصدي له بقيادة دومنتيانوس حاكم الفيوم، فاصطدم بقوة الطليعة بقيادة حنا، وتغلب عليها وقتل قائدها إلا أنه لم يتمكن من فتح الفيوم. وعلم في هذه الأثناء بوصول الإمدادات الإسلامية، فعاد أدراجه إلى الشمال منحدرًا مع النهر، واتصل بالمدد العسكري في عين شمس على مقربة من حصن بابليون، ولم يحاول تيودور القائد العام للجيش البيزنطي أن يخرج من الحصن ليحول دون التقاء الجيشين الإسلاميين مضيعًا فرصة بيزنطية أخرى.

حققت غارات عمرو على الفيوم عدة فوائد للمسلمين لعل أهمها:
- فقد أخرج جيشه من المأزق الذي وجد فيه نفسه عند أم دنين، وانتقل به إلى مكان أكثر أمنًا بانتظار وصول الإمدادات الإسلامية.
- أنجز بعض الانتصارات مما رفع معنويات المسلمين، وفت في عضد البيزنطيين الذين أظهروا حزنًا بالغًا لمقتل القائد حنا.
- بث الرعب في قلوب الحاميات البيزنطية المنتشرة في النواحي.
- قدم الدليل للمصريين على أن الوجود البيزنطي في مصر بدأ يتعرض لخطر حقيقي.
- شغل جنده خلال مدة الانتظار حتى مجيء الإمدادات [5].


معركة عين شمس
بلغ عدد الجنود الذين أرسلهم عمر بن الخطاب اثني عشر ألف مقاتل من بينهم عدد من كبار الصحابة، أمثال الزبير بن العوام
، وعبادة بن الصامت، والمقداد بن الأسود، ومسلمة بن مخلد وغيرهم، فاغتبط المسلمون بمقدمهم، وكان الهدف التالي لعمرو فتح حصن بابليون، فعكسر في عين شمس (اسم مدينة فرعون موسى بمصر) واتخذها مقرا له، وراح يستعد لمهاجمة الحصن، والمعروف أن موقع عين شمس يصلح لأن يكون قاعدة عسكرية، فهو مرتفع من الأرض يحيط به سور غليظ، ويسهل الدفاع عنه، وتتوفر فيه الماء والمؤن.


وضع عمرو خطة تقضي باستفزاز الجنود البيزنطيين، وحملهم على الخروج من حصن بابليون، ليقاتلهم في السهل خارج الأسوار، ويبدو أن تيودور قائد الجيش البيزنطي شعر بالقوة بما كان تحت إمرته من المقاتلين، فخرج من الحصن على رأس عشرين ألفًا، وسار بهم باتجاه عين شمس، وكانت على مسافة ستة أميان أو سبعة من المعسكر الإسلامي؛ للاصطدام بالمسلمين، تلقى عمرو أنباء هذا الخروج بسرور بالغ، فعبأ قواته استعدادًا للقاء المرتقب، ونفذ خطة ذكية للإطباق على القوات البيزنطية، ففصل فرقتين من جيشه يبلغ عدد أفراد كل فرقة خمسمائة مقاتل، وأرسل إحداهما إلى أم دنين، والأخرى إلى مغار بني وائل عند قلعة الجبل شرقي العباسية، وكانت بقيادة خارجة بن حذافة السهمي. وسار هو من عين شمس باتجاه القوات البيزنطية المتقدمة، وتوقف في موضع العباسية الحالي ينتظر وصول جموع البيزنطيين ليصطدم بهم، انتشرت القوات البيزنطية في السهل إلى الشمال الشرقي من الحصن، وإذ بلغهم خروج المسلمين من عين شمس، سروا بذلك، وظنوا بأنهم ضمنوا النصر عليهم، فتعاهدوا على القتال حتى الموت، ولم يعلموا بخطة عمرو العسكرية، ثم حدث البلقاء ولعله كان في مكان وسط بين المعسكرين الإسلامي، والبيزنطي عند العباسية اليوم، وأثناء احتدام القتال، خرج أفراد الكمين الذي أعده عمرو، فاجتاحت فرقة خارجة مؤخرة الجيش البيزنطي التي فوجئت، وأخذت على حين غرة، فتولى أفرادها الفزع، ودبت الفوضى في صفوفهم، وتقهقروا نحو أم دنين، فقابلتهم الفرقة الأخرى، وأضحوا بين ثلاثة جيوش، فانحل نظامهم، وإذا أدركوا أن لا أمل لهم في المقاومة، والصمود لاذوا بالفرار لا يلون على شيء، ونجحت فئة قليلة منهم بلوغ الحصن، وهلكت فئة كبيرة، ودخل المسلمون إلى أم دنين مرة أخرى، ووطدوا أقدامهم على ضفاف النيل، وجرت المعركة في "شهر شعبان 19هـ/ شهر يوليو 640م".

عندما بلغت أنباء الهزيمة من بحصن بابليون من الجند خافوا على أنفسهم، ففر بعضهم عبر النهر إلى نقيوس إلى الشمال من منف (عاصمة مصر)، وبقي بعضهم الآخر في الحصن للدفاع عنه، استغل عمرو انتصاره الحاسم هذا، فنقل معسكره من عين شمس، وضربه في شمالي الحصن وشرقه بين البساتين والكنائس، وهو المكان الذي عرف فيما بعد بالفسطاط، ثم سار إلى مدينة مصر (منف) واستولى عليها بدون قتال، ولم يستطع الجيش البيزنطي الموجود في الحصن أن يمد لها يد المساعدة [6].

فتح الفيوم

خريطة إقليم الفيُّوم.
عندما بلغت أنباء انتصار المسلمين دومنتيانوس حاكم الفيوم، خشي أن يهاجمه هؤلاء، وهو لا قبل له بمقاومتهم، وفضل الفرار، فخرج في الليل مع جنوده، وتوجه إلى نقيوس، ولما علم عمرو بذلك أرسل فرقة عسكرية فتحت إقليم الفيوم، وتوغلت في جنوبي الدلتا، فاستولت على أثريب ومنوف في إقليم المنوفية [7].

فتح حصن بابليون

أطلال حصن بابليون.
لم يبق بأيدي البيزنطيين سوى
حصن بابليون، فكان هدف عمرو بن العاص التالي قبل أن يتوجه إلى الإسكندرية لفتحها، إذ لم يشأ أن يشتت قواته، ويضعفها ليذر قسمًا منها على حصار الحصن، وليسير بالقسم الآخر إلى الشمال حتى يبلغ الإسكندرية، مما يشكل خطرًا على إنجازاته التي حققها حتى ذلك الحين من واقع رد فعل البيزنطيين الذي سوف يستغلون هذه الفرصة؛ ليقوموا بحركات ارتدادية يستعيدون بواسطتها ما فقدوه من أراضي، ويطردون المسلمين من مصر، لذلك ركز جهوده العسكرية على فتح الحصن، فسار إليه في شهر "شوال 19هـ/ سبتمبر 640م" وحاصره.

أدرك سكان الحصن، وأفراد حاميته أن الحصار سوف يطول لسببين:
الأول: أنه بدأ في وقت فيضان النيل وارتفاع مياهه، فيتعذر على المسلمين أن يجتازوه أن يهاجموا الحصن، ولا بد لهم من الانتظار حتى هبوط الفيضان.

بوَّابة «قصر الشمع»، وهي إحدى تسميات حصن بابليون، كما كانت تبدو سنة 1830م. يُعتقدُ بأنَّ تسمية الحصن بهذا الاسم سببها أنَّه في أوَّل كُل شهر كانت الشُموع تُضاء فوق بُرجٍ من أبراج الحصن، والبعض يعتبر أنها تحريف لِلفظ «خيمي»
الثاني: أن مناعة الحصن ومتانة أسواره، وما يحيط به من الماء وضعف وسائل الحصار؛ سوف يشكل عائقًا أمام المحاصرين من الصعب أن يجتازوه بسرعة، وما غنموه من بعض آلات القتال أثناء فتح الفيوم لم يكن لهم خبرة باستعمالها أو بطرق إصلاحها إذا تعطلت، لذلك استعد الطرفان لحصار طويل، والواقع أن الحصار لم يكن محكمًا، فقد ظلت طريق الإمدادات بين الحصن والجزيرة -الروضة- مفتوحة؛ لأن عمرًا لم يكن قد أحكم سيطرته على الطرق المائية بعد.

صرد يظهر عليه نقشٌ لِقيصر الروم الإمبراطور هرقل (في الوسط، الرجُل المُلتحي) في سنواته الأخيرة، يُحيطُ به ولداه قُسطنطين وهرقلوناس.

كان المقوقس داخل الحصن عندما بدأ الحصار، أما قيادة الجيش فكانت للأعيرج (هو قائد بيزنطي)، وتراشق الطرفان بالمجانيق من جانب البيزنطيين والسهام والحجارة من جانب المسلمين، مدة شهر، حيث بدأ فيضان النيل بالانحسار، وأدرك المقوقس أن المسلمين صابرون على القتال، وأنهم سوف يقتحمون الحصن بصبرهم، وشجاعتهم كما يئس من وصول إمدادات من الخارج، والحقيقة أن شدة بأس المسلمين في القتال، وصبرهم أدى إلى هبوط معنويات المقوقس، فاضطر إلى عقد اجتماع مع أركان حربه للتشاور في الأمر، وتقرر بذل المال لهم ليرحلوا عنهم، وأن يذهب المقوقس بنفسه للتفاوض مع عمرو في هذا الشأن بشكل سري حتى لا يعلم أحد من المدافعين عن الحصن، فتهن عزائمهم، فخرج من الحصن تحت جنح الظلام مع جماعة من أعوانه، وركب سفينة إلى جزيرة الروضة، فلما وصل إليها أرسل رسالة إلى عمرو مع وفد ترأسه أسقف بابليون، يعرض عليه أن يرسل وفدًا لإجراء مفاوضات بشأن التفاهم على حل معين، وانتظر أن يعود أعضاء الوفد في اليوم نفسه يرد عمرو، لكن هذا الأخير تعمد الإبطاء في الرد مدة يومين، وأبقى أعضاء الوفد عنده حتى خاف المقوقس وقال لأعوانه: "أترون القوم يحبسون الرسل، أو يقتلونهم ويستحلون ذلك في دينهم! "، وإنما أراد عمرو بحبسهم أن يطلع المقوقس، وأهل مصر على بأس المسلمين وحالهم.
ومهما يكن من أمر، فقد عاد أعضاء الوفد بعد يومين يحملون رد عمرو يخير المقوقس إحدى ثلاث خصال: إما الدخول في الإسلامأو الجزية أو القتال. كان من الصعب على المقوقس وجماعته، وأهل مصر التخلي عن دينهم، واعتناق الإسلام، ذلك الدين الذي لا يعرفون عنه شيئًا، وبذلك رفضوا الشرط الأول، وخشوا إن هم قبلوا بدفع الجزية أن يستضعفهم المسلمون، ويذلوهم في الوقت الذي استبعدوا فيه فكرة الحرب خشية الهزيمة، وبخاصة بعد أن وصف أعضاء الوفد وضع المسلمين الجيد، وتضامنهم وجهوزيتهم القتالية، ومع ذلك فقد قبل المقوقس الدخول في الصلح، وطلب من عمرو أن يرسل إليه جماعة من ذوي الرأي للتباحث بشروطه، فأرسل إليه وفدًا برئاسة عبادة بن الصامت، فطمأنه بأنهم سيكونون آمنين على أنفسهم، وأموالهم وكنائسهم، وذراريهم إن هم قبلوا دفع الجزية مما شجعه على المضي في طريق الإذعان.
ويبدو أن القبول بقرار الاستسلام لم يكن عامًا، فقد وجدت فئة من الجند رفضت الصلح مع المسلمين، وكانت بقيادة الأعيرج، وأصرت على المقاومة المسلحة، عند ذلك طلب المقوقس من عمرو المهادنة مدة شهر للتفكير في الأمر، فمنحه ثلاثة أيام.
ولم تلبث أنباء المفاوضات أن انتشرت بين عامة الجند، فثارت ثائرتهم ضد المقوقس، ولما انتهت أيام الهدنة، استعد الطرفان لاستئناف القتال، وأحرز المسلمون بعض الانتصارات مما دفع المقوقس إلى تجديد الدعوة لأركان حربه للاستسلام، فقبلوا مكرهين، واختار المقوقس خصلة دفع الجزية، واشترط:
- موافقة الإمبراطور.

قطعة نُقود من عهد الإمبراطور هادريان تحتفي بِولاية مصر كونها إحدى مصادر ثراء الإمبراطوريَّة. ضُربت هذه القطعة حوالي سنة 135م، وقد صُوِّرت فيها مصر على هيئة امرأة مُستلقية تحملُ شخشيخة الإلهة حتحور، وقد وضعت كوعها على سلَّة غِلال، في إشارةٍ إلى غناها.
- تجميد العمليات العسكرية حتى يأتي الرد من القسطنطينية، وتبقى الجيوش في أماكنها خلال ذلك، وتعهد أن يبعث بعهد الصلح إلى القسطنطينية لأخذ موافقة الإمبراطور.

غادر المقوقس حصن بابليون وتوجه إلى الإسكندرية حيث أرسل عهد الصلح إلى القسطنطينية، وطلب موافقة هرقل عليه, ويبدو أن بنود الصلح التبست على الإمبراطور، أهي عامة تطبق على البلاد كلها أم خاصة يحصن بابليون؟ وهل يبقى المسلمون في البلاد بعد أخذ الجزية، أو يرحلون عنها؟ وهل معنى ذلك التناول عن مصر للمسلمين؟ واحتاج إلى بعض الإيضاحات، لذلك استدعى المقوقس إلى القسطنطينية.
والواقع أن المقوقس فشل في إنقاع هرقل بوجهة نظره بشأن الصلح مع المسلمين، ورأى الإمبراطور أن العوامل القومية والجغرافية التي ساعدت هؤلاء على فتح بلاد الشام غير متوفرة في مصر، وأن بحوزته -المقوقس- قوة عسكرية كبيرة تفوق في العدد قوة المسلمين، كما أن الحصن كان محصنًا، ومتينًا يصعب على المسلمين اقتحامه، فلا يعقل والحالة هذه أن ينتصر المسلمون، ولا بد من وجود سر في الأمر أدى إلى هذه النكبة، واتهمه بالتقصير والخيانة، والتخلي للمسلمين عن مصر، ونفاه بعد أن شهر به، ورفض عرض الصلح مع المسلمين، إلا أنه وقف عند هذا الحد، فلم يرسل مددًا إلى مصر، ولم يفعل شيئًا من تنظيم الدفاع عن هذا البلد لرفع معنويات جنوده القتالية، ولعل مرد ذلك يعود إلى شعوره بالاضطراب في التفكير، إذ إن الدولة البيزنطية ترزح تحت عبء ثقيل من عار الهزيمة على أيدي المسلمين في بلاد الشام الذين طردوا البيزنطيين منها، وانتشر هؤلاء في أرجاء مصر يفتحون المدن، ويبثون الرعب في نفوس السكان.


علم المسلمون برفض هرقل لعهد الصلح في شهر "ذي الحجة 19هـ/ ديسمبر 640م"، فانتهت بذلك الهدنة، واستأنف الطرفان القتال، كان المدافعون عن الحصن قد قل عددهم بسبب قرار كثير منهم إلى الإسكندرية، ولم تأتهم نجدة من الخارج، وبدأ المرض ينتشر بينهم، وانتهى فيضان النيل، وغاض الماء عن الخندق حول الحصن، فأضحى بمقدور المسلمين الآن أن يهاجموه، غير أن المدافعين صمدوا بضعة أشهر اقتصر الأمر أثناءها على التراشق بالمجانيق والسهام, وألقوا حسك الحديد في الخندق بدل الماء مما أعاق عمليات المسلمين العسكرية. وجاءهم وهم على هذا الحال نبأ وفاة الإمبراطور هرقل في شهر "ربيع الأول 20هـ/ فبراير 641م"، ففت ذلك في عضدهم، واضطربوا لموته، وتراجعت قدرتهم القتالية، مما أعطى الفرصة للمسلمين لتشديد الحصار قبل أن يقتحموا الحصن في "21 ربيع الآخر 20هـ/ 9 أبريل 641م"، وقد اعتلى الزبير بن العوام مع نفر من المسلمين، السور، وكبروا، فظن أهل الحصن أن المسلمين اقتحموا، فهربوا تاركين مواقعهم، فنزل الزبير، وفتح باب الحصن لأفراد الجيش الإسلامي فدخلوه في رواية أن الزبير ارتقى السور، فشعرت حامية الحصن بذلك، ففتحوا الباب لعمرو، وخرجوا إليه مصالحين، فقبل منهم،.
"ونزل الزبير عليهم عنوة حتى خرج على عمرو من الباب معهم، فاعتقدوا بعدما أشرفوا على الهلكة، فأجروا ما أخذ عنوة مجرى ما صالح عليه، فصاروا ذمة، وكان صلحهم: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم، وملتهم وأموالهم، وكنائسهم وصلبهم، وبرهم وبحرهم؛ لا يدخل عليهم شيء من ذلك ولا ينتقص، ولا يساكنهم النوب، وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية إذا اجتمعوا على هذا الصلح، فإن أبى أحد منهم أن يجيب رفع عنهم من الجزاء بقدرهم، وذمتنا ممن أبى بريئة، وإن نقص نهرهم من غايته إذا انتهى رفع عنهم بقدر ذلك، ومن دخل في صلحهم من الروم، والنوب فله مثل ما لهم، وعليه مثل ما عليهم، ومن أبى واختار الذهاب فهو آمن يبلغ مأمنه، أو يخرج من سلطاننا، عليهم ما عليهم أثاثا في كل ثلث جباية ثلث ما عليهم، على ما في هذا الكتاب عهد الله وذمته، وذمة رسوله وذمة الخليفة أمير الؤمنين، وذمم المؤمنين، وعلى النوبة الذين استجابوا أن يعينوا بكذا وكذا رأسًا، وكذا فرسًا، على ألا يغزوا ولا يمنعوا من تجارة صادرة، ولا واردة، شهد الزبير وعبد الله ومحمد، ابناه، وكتب وردان (مولى عمرو بن العاص) وحضر" [8].
[1] ابن عبد الحكم: فتوح مصر وأخبارها ص131. الواقدي: فتوح مصر، ج2 ص36-38.
[2] ابن عبد الحكم: ص131- 134. البلاذري: فتوح البلدان ص241.
[3] ابن عبد الحكم: ص135 – 136. المقريزي: المواعظ والاعتبار، ج1 ص340.
[4] ابن عبد الحكم: ص136، 137.
[5] بتلر: ص252 – 256.
[6] ابن عبد الحكم: ص139، بتلر، ألفر. ج: فتح العرب لمصر: ص260 - 265. البلاذري: يذكر رقمين عشرة آلاف، واثني عشر ألفًا فتوح البلدان: ص214. هيكل: ج2، ص109.
[7] ابن عبد الحكم: ص292، 293، بتلر: ص263، 264، 266.
[8] البلاذري: ص214، 220. الطبري: ج4 ص102، ص108، 109. ابن عبد الحكم: ص154، بتلر: ص290 - 297، وانظر هامش رقم1. العريني: الدولة البيزنطية، ص137. لا يشير المؤرخون المسلمون إلى سفر المقوقس إلى القسطنطينية، ولا إلى نبأ نفيه ثم عودته، بل يذكرون أن هرقل كتب إليه يقبح رأيه، ويوبخه ويرد عليه ما فعل، ويأمره أن يقاتل المسلمين، وألا يكون له رأي غير ذلك، وأنه أرسل إليه الجيوش، فأعلقوا أبواب الإسكندرية، وحاربوا المسلمين، انظر ابن عبد الحكم: ص152. ويشير المؤرخون المسلمون بأن هرقل بعث الجيوش إلى الإسكندرية وأغلقها، ويبدو أنهم وقعوا في الخلط بين أحداث فتح حصن بابليون، وأحداث فتح الإسكندرية؛ لأن الإمبراطور البيزنطي هرقل توفي، والمسلمون يحاصرون الحصن كما سيمر معنا، انظر: البلاذري: ص220، ابن عبد الحكم ص154.
منقول بتصرف

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 333.03 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 327.18 كيلو بايت... تم توفير 5.85 كيلو بايت...بمعدل (1.76%)]