خاتم النبيين - الصفحة 2 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         طريقة عمل كريمة الشوكولاتة المنزلية.. طعم غني بلمسة طبيعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          5 أسباب لظهور فقاعات في طلاء الحائط ونصائح لتجنبها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          وصفات طبيعية لتوريد الشفاه وترطيبها في المنزل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          5 خطوات لحماية شعرك في المصيف من المياه المالحة.. استمتعي بأمان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          طريقة عمل مسقعة بالبشاميل والدجاج (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          5 أكلات غنية بالكولاجين الطبيعى لنضارة البشرة وترطيبها من الداخل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          وصفات طبيعية لتهدئة الحبوب الملتهبة في الحر.. بدون مواد كيميائية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          5 تقنيات وحيل للحصول على مكياج احترافى على الطريقة الكورية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          مشكلة إجازة الصيف.. 5 خطوات تساعد أولادك يناموا بدري ويقللوا السهر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          طريقة عمل مشروب الخيار والنعناع للترطيب عشان يهون موجة الحر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث > ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم قسم يختص بالمقاطعة والرد على اى شبهة موجهة الى الاسلام والمسلمين

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 21-08-2022, 09:00 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,855
الدولة : Egypt
افتراضي رد: خاتم النبيين

خاتم النبيين (11)
الشيخ خالد بن علي الجريش


الحلقة الحادية عشرة من برنامج (خاتم النبيين)

مواقف في طريق الهجرة


بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير النبيين، وعلى آله وصَحْبه والتابعين، وبعد:
فقد ذكرنا - مُستمعِيَّ الأكارم - في الحلقة الماضية بدايةَ الهجرة إلى المدينة، فذكرنا أسبابها، وكيف كانت هجرتهم رضي الله عنهم، وذكرنا أيضًا موقف قريش من ذلك الحَدَث العظيم المبارك، وأيضًا ذكرنا كيف بدأت هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وأيضًا ذكرنا خروجهما إلى الغار، وكيف حفظ الله نبيَّه عليه الصلاة والسلام وأولياءه.

ونزدلف الآن إلى ذكر مواقف في طريق الهجرة، فإن الروايات الصحيحة تذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبا بكرٍ استأجرا رجلًا، وهو عبدالله بن أريقط، وهو على دين قريش، وكان هاديًا خِرِّيتًا، فَأْتَمناه ودفعا إليه راحِلتَيْهما، ووعداه غار ثور بعد ثلاث ليالٍ، فالطريق مخوف، وقريش تبحث عنهما، وقد وصلت تلك الأمانة، وهما الراحلتان في الوقت المحدد، فارتحل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم راحلتَه، وارتحل أبو بكر راحلتَه وأردف معه عامر بن فهيرة ليخدمهما، ومعهما عبدالله بن أريقط الدليل لهما، فانطلق هؤلاء الأربعة فقط بحفظ الله ورعايته إلى المدينة من الغار، وذلك ليلة الاثنين حيث مكثا في الغار ثلاث ليالٍ، وكان ابن أريقط دليلًا خِرِّيتًا - أي متميِّزًا - في معرفة الطرق، فسلَكَ بهما أسفل مكة، ثم مضى بهما على الساحل، ثم على عسفان، وسلَكَ طريقًا بعيدًا عن أعيُن قريش حتى نزل بهما في قباء قرب المدينة.

ومن مواقف تلك الهجرة ذلك الأمر الغريب الذي حصل مع سُراقة بن مالك كما عند البخاري، فيقول سراقة: كنا جلوسًا فجاء رجل، وقال: رأيتُ سوادًا ولا أظنه إلا محمدًا وصاحبه فكذبناه؛ لكني ركبت فرسي وأخذت رمحي، فخرجت إلى ذلك السواد، وهو خرج إلى ذلك ليحوز ويفوز بالمئة ناقة التي وضعتها قريش لمن يأتي بمحمدٍ وصاحبه، يقول: فلما دنوتُ منهم عثَرتْ بي فرسي، ثم قامت فلحقت بهم، ثم عثَرت مرةً أخرى، فقامت وركبتها ولحقتهم حتى دنوت منهم وأنا أسمع قراءة محمد، وهو لا يلتفت وأبو بكر يُكثِر الالتفات، فقال أبو بكر: يا رسول الله، هذا الطلب قد لحقنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تَحْزَنْ إنَّ اللهَ مَعَنا))، فيقول سراقة: دنوت منهم جدًّا، فلم يكن بيني وبينهم إلا رمحين، فبكى أبو بكر رضي الله عنه، وقال: يا رسول الله، لحقنا الطلب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((لِمَ تبكي?))، فقال أبو بكر رضي الله عنه: أما إني والله لا أبكي على نفسي؛ ولكن أبكي عليك يا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللَّهُمَّ اكْفِنَاهُ بِمَا شِئْتَ))، قال سراقة: فساخَتْ يدا فرسي في الأرض فناديتهم بالأمان، فوقفوا فعلمت أن أمر هذا النبي سيظهر فأخبرتهم بأخبار قريش، وعرضتُ عليهم الزاد فأبَوا، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((أخْفِ عَنَّا))، فرجع سراقة يقول لقريش: إن تلك الجهة كفيتكم إياها، فابحثوا عنهما في غيرها، فكان في آخر الأمر مُدافعًا عنهما، وهو في أول الأمر يريدهما.

ومن مواقف تلك الهجرة سُقْيا اللبن، فقد أخرج الشيخان: البخاري ومسلم، عن أبي بكر قال: ارتحلنا من مكة فسِرْنا في ليلتنا حتى ظهيرة الغد، فرميت ببصري أبحث عن ظلٍّ نأوي إليه فجئت إلى الظل، ففرشتُ فيه للنبي صلى الله عليه وسلم ثم قلت: اضطجع يا نبي الله، فاضطجع، فبحثتُ حولي فإذا براعي غَنَمٍ يريد ذلك الظل، فقلت: هل في غنمك من لبن? قال: نعم، فحلب لنا، ثم أتيتُ به رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فوافيتُه قد استيقظ من نومه، فقلت: اشرب فشرب حتى رضيت، ثم ارتحلنا والقوم ما زالوا يطلبوننا.

ومن مواقف الهجرة إسلام الراعي، ففي طريقهم للهجرة مَرَّ النبي صلى الله عليه وسلم على راعي غنم فاستسقياه لبنًا، فقال الراعي: ما عندي شاة تحلب غير أنها ها هنا عَناق حملت قريبًا، وليس فيها لبن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ادْعُ بها)) فجاء بها الراعي، فمسحَ النبي صلى الله عليه وسلم ضَرْعَها، ودعا فامتلأ ضَرْعُها من الحليب، فحلب النبي صلى الله عليه وسلم، فسقى أبا بكرٍ رضي الله عنه، وسقى الراعي، ثم شرب عليه الصلاة والسلام بعدهما، فقال الراعي: من أنت? فوالله، ما رأيت مِثْلَكَ قَطُّ، قال: ((إنِّي محمدٌ رسولُ الله)) فقال الراعي: أنت الذي تزعم قريش أنك صابئ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنهم لَيَقُولونَ ذلكَ))، فقال الراعي: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وإني مُتَّبِعُك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنك لا تستطيع ذلك يومك، فإذا بلغك أني قد ظهرت فأتِنا)).

ومن مواقف الهجرة مرورهما بخيمة أم معبد، وهي عاتكة بنت خالد، وقيل: إنها كانت مسلمة، وقيل: أسلمت فيما بعد، ومنزلها كان بقُدَيْد، وقد مَرَّ بها النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه، وطلبا منها طعامًا بثمنٍ فلم يصيبوا عندها شيئًا، ثم رأوا شاةً هزيلةً واستأذنوا في حلبها، فأذنت واعتذرت بأنها لا تحلب وليس فيها شيء من الحليب؛ لهزالها وضعفها، فمسحَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ضَرْعَها ودعا فحلبها وشربوا وسقوا وبقي شيء من الحليب فأبقوه عندها، ثم قدم زوجُها بعد ذلك فأخبرته الخبر ووصفته لزوجها، فقال: هذا والله صاحبُ قريش الذي يُطلب، ولقد هممْتُ أن أصاحبه، ولأفعلنَّ إن وجدتُ إلى ذلك سبيلًا.

ومن مواقف الهجرة أيضًا أنه قبل وصول النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه إلى المدينة لقيا الزبير بن العوام رضي الله عنه في ركب من المسلمين كانوا تُجَّارًا قافلين من الشام، وكان معهم شيء من الثياب، فكسا الزبيرُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثيابًا بيضًا، ولقيه أيضًا كذلك طلحة بن عبيد الله قادمًا من الشام في عِيرٍ، فكسا كذلك النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه من تلك الثياب، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن المسلمين في المدينة قد استبطأوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فعَجَّل رسولُ الله عليه الصلاة والسلام السَّيْرَ، ومضى طلحة إلى مكة وقضى حاجته من تجارته، ثم خرج بعد ذلك بآل أبي بكر، وهاجر بهم إلى المدينة.

وكان علي رضي الله عنه قد أقام بمكة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ليؤدي الودائع التي كانت عند النبي عليه الصلاة والسلام للناس، حيث عُرِف النبي عليه الصلاة والسلام بالأمانة والصدق، فكانوا يجعلون الأمانات عنده ودائع، فأدَّاها علي بن أبي طالب رضي الله عنه خلال الأيام الثلاثة، ثم لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرًا إلى المدينة، فأدركه في قُباء على ميلين من المدينة فنزل معه.

ومن مواقف الهجرة هجرةُ صهيب الرومي رضي الله عنه، فلما أراد الهجرة إلى المدينة وكان غنيًّا ثريًّا ردَّه كُفَّار قريش، وقالوا: أتيتنا صعلوكًا فقيرًا فكثُر مالُك عندنا، ثم تريد أن تخرج بهذا المال، والله لا يكون ذلك أبدًا، فقال صهيب لمَّا علِم أنهم سيردُّونه: أرأيتم إن جعلت لكم مالي تخلون سبيلي? قالوا: نعم، قال: أشهدكم أني جعلت مالي لكم، قال صهيب رضي الله عنه: وخرجت حتى قدمتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في قُباء، فلما رآني قال: ((يا أبا يحيى، ربِحَ البيعُ، يا أبا يحيى، ربِحَ البيعُ، يا أبا يحيى، ربِحَ البيعُ)) قالها ثلاثًا، فقلتُ: يا رسول الله، ما سبقني إليك أحد، فمَنْ الذي أخبرك؟! إنما أخبرك بها جبريل، وفيه نزل قول الله تبارك وتعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [البقرة: 207]، وقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم في قُباء عند بني عمرو بن عوف، فأقام فيهم، قيل: أربع عشرة ليلة، وقال بعضهم: إنما أقام أربعة أيام فقط، وكان أول عمل عَمِله النبي صلى الله عليه وسلم لما قدمَ قُباء هو تأسيس المسجد، وهو مسجد قُباء المعروف الآن، وهو المسجد الذي أُسِّس على التقوى، كما أخرجه البخاري، ومسجد قُباء هو أول مسجد بُني بعد الهجرة للناس عامة، وهو أول مسجد صلى فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأصحابه جماعةً بهذا الظهور والوضوح، وقد اختُلِف في المسجد الذي أُسِّس على التقوى؛ فالجمهور قالوا: إنه هو قُباء، وقال آخرون: هو المسجد النبوي، ومما يؤكد أنه قُباء قوله تعالى: ﴿ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا ﴾ [التوبة: 108] حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنَّها نَزَلَتْ في أهْلِ قُباء))، والحق أن كلًّا منهما أُسِّس على التقوى، وفي فضيلة مسجد قُباء يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَن تطهَّر في بيته ثم أتى مسجد قُباء فصلَّى فيه صلاةً كان كأجْرِ عُمْرة))؛ صحَّحه الألباني، وحسَّنه آخرون، وقد ثبَتَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى قُباء يوم السبت راكبًا وماشيًا.

ومن مواقف الهجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم مَرَّ في طريقه برجلينِ من أسْلَم يقال لهما: المهانان، وهما قد اشتهرا بالسرقة والنهب والسلب، فقصدهما النبي صلى الله عليه وسلم وتحدَّث معهما، وعرض عليهما الإسلام فأسلما، وأمرهما أن يقدما عليه في المدينة، فهذه بعض المواقف في طريق الهجرة لعلَّها تكون نِبْراسًا لنا نستلهم منها الدروس والعِبر، ونستكمل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى، ونذكر الآن بعض الدروس والعِبَر، فمن هذه الدروس:
الدرس الأول: حفظ الله تعالى لنبيِّه عليه الصلاة والسلام وأوليائه، ونصره لهم وتسديده لأمورهم، ومأخذ هذا أن الدليل الذي يسير خلفَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه هو كافر على دين قريش، وهو عبدالله بن أريقط، وهو يعلم أن قريشًا قد وضعت مئة ناقة لمن يأتي بمحمدٍ وصاحبه، فيمكن لهذا الدليل أن يخونهما كما هي عادة بعض كفار قريش، ويحوز المئة ناقة؛ ولكن الله عز وجل حفظ نبيَّه من ذلك، فكان هذا الدليل على دين قريش؛ لكنه كان ذا أمانةٍ وصِدْقٍ، وسلَكَ بهما طريقًا لا تعرفه قريش؛ بل وتغفل عنه، فسبحان مَن سخَّر هذا لهذا مع اختلاف الدين والمِلَّة! وهذا شاهدٌ كبيرٌ، وغيره كثير من شواهد حفظ الله تعالى لأوليائه وتسديدهم ونصرهم، وأما ما يُصيبهم فهو تكفير وتمحيص.

الدرس الثاني: عندما جاء سراقة يطلب النبي صلى الله وسلم وأبا بكر ليسلمهما إلى قريش بكى أبو بكر، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك البكاء، فقال: إني أبكي عليك يا رسول الله، وليس على نفسي؛ وذلك شفقة على النبي صلى الله عليه وسلم وسُنَّته وشريعته، فهل نحن عندما نرى المُحرَّمات تُنتهَك والسُّنَّة تُحارَب، هل ندافع عنها بما نستطيع، ناهيك عن البكاء في ذلك، فمن الناس - مشكورًا مأجورًا - مَن يفعل ذلك الدفاع، وربما بكى؛ لكن البعض الآخر - هداهم الله - كأن الأمر لا يعنيهم، وربما استدلوا بقوله تعالى: ﴿ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ﴾ [المائدة: 105]، وهذا الاستدلال في غير محله إذ لو اكتملت تلك الهداية لأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، فعدم أمره ونهيه دليلٌ على أن الهداية لم تكتمل؛ ولذلك قال أبو بكر رضي الله عنه: "إنكم تقرأون هذه الآية وتضعونها في غير موضعها"، فعلينا جميعًا أن نكون سياجًا منيعًا لسُنَّة المصطفى صلى الله عليه وسلم وشريعته.

الدرس الثالث: عندما جاء سُراقة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه ليُسلَّمهما إلى قريش اتَّجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربِّه بدعائه، فقال: ((اللَّهُمَّ اكْفِنَاهُ بِمَا شِئْتَ))، وهذا يُعطينا درسًا عظيمًا وجليلًا؛ وهو أنه إذا حصلت لنا مشكلة في أي مجال من مجالات الحياة، فلنجعل الدعاء أحد الحلول لهذه المشكلة، فنجد البعض من الناس - هداهم الله سبيل الرشاد - يبحث عن حلول عديدة لمشاكله؛ لكنه يتخلَّى عن الدعاء، وربما كان الدعاء هو الحل الأمثل لهذه المشكلة، وكم من مشكلة كان الدعاء والإلحاح هو بإذن الله تعالى المزيل لها، والمصلح للحال، ففي كل نوائبك صغيرها وكبيرها لا تنسَ الدعاء، وهو لا يحتاج إلى بحث ولا إلى مال ولا إلى مِنَّة مخلوق ولا شفاعة أحد؛ بل هو كلمات ودعوات تبدؤها بالحمد لله تعالى، وتتوسَّل بالاسم الأعظم ثم ترفعها إلى مولاك، وهو بعد ذلك يتولَّاك، وكلما كثُر الإلحاح قرُبت الإجابة، ولو لم تحصل إجابة، فأنت رابح على كل حال، فلك بدعائك إحدى ثلاث: أن تُعطى ما سألت، أو يُصرف عنك من السوء مثلها، أو تُدَّخَر لك حسنات في موازينك يوم القيامة، فدعاؤك لن يذهب سُدًى، ومن هنا نعرف خطأ مَن يقول من الجهلة: إنني أدعو وأدعو ولم يُستجَب لي، ولم يعلم ذلك المسكين أنه صرف عنه أهوالًا لم يشعُر بها أو ادُّخِرت له حسنات لم يعلم بها، وذلك بسبب دعائه.

الدرس الرابع: من حفظ الله تعالى لنبيِّه عليه الصلاة والسلام وصاحبه أن سراقة بن مالك جاء إليهما في أول الأمر يطلبهما؛ ليُسلِّمهما إلى قريش، وفي نهاية الأمر صار يُدافع عنهما، فيقول لقريش: لا تبحثوا في تلك الجهة فقد كفيتكم إياها؛ وذلك لمَّا رأى من عجائب الأمور التي حصلت له ولفرسه؛ حيث توقفَتْ فرسُه، وساخت في الأرض أرجُلُها، وتكرَّر ذلك مرارًا، وسَمِع دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، فرجع مُدافِعًا عنهما، وهو في أول الأمر يطلبهما، ففي هذا حفظ لهما ودلائل على نبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم.

الدرس الخامس: ينبغي للأصحاب إذا سافروا أن يُبادروا لخدمة بعضهم بعضًا، فهذا من مكارم الأخلاق وصفاء النفوس، فإن أبا بكر رضي الله عنه مع ما به من التعب والسهر، كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم في مأكله ومشربه ومضجعه بخلاف الأصحاب الذين يتكاسلون عن هذا الخُلُق النبيل، فتراهم مختلفين، قد يوجد فيهم بعض الشحناء وسُوء الطِّباع وقلة الحياء وكثرة الخلاف وضياع الوقت وعدم اتحاد الرأي، وكل هذه السلبيات وأمثالها تزول إذا تفانى الأصحاب والخِلَّان والزملاء في خدمة بعضهم البعض سواء في سفر أو رحلة أو نحو ذلك، فسيسودهم الاحترام المتبادل والكلام الطيِّب والراحة النفسية والطُّمَأْنينة وقلة الخلاف واتِّحاد الرأي ونحو ذلك من المصالح إذا خدم بعضُهم بعضًا.

الدرس السادس: بيان دلائل النبوَّة ومعجزاتها للنبي صلى الله عليه وسلم، وذلك من خلال حديث النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر لأُمِّ معبد؛ حيث أتَتْ أُمُّ معبد بشاةٍ هزيلة ليست ذات لبن بل وميؤوس منها، فهي لم تلحق بالرعي لهُزالها وضعفها، فمسح النبي صلى الله عليه وسلم ضَرْعها فدرَّت الحليب الكثير حتى شربوا وارتووا، وأبقوا عندها ما يكفي لحاجتها وذويها، وفي هذا معجزةٌ ودليلٌ على صدق نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وعندما يقرأ المسلم في هذه الدلائل والمعجزات يَقْوَى إيمانُه ويقينُه، فهي أمور خارقة للعادة، فاقرأوا - رحمكم الله - في تلك المعجزات لتتأملوا نبوَّةَ نبيِّكم ودلائلها فهي عِلْمٌ شريفٌ ومن أسباب الثبات على الحق.

الدرس السابع: حرص الصحابة رضي الله عنهم على خدمة النبي صلى الله عليه وسلم، وتفانيهم في ذلك، ومن ذلك كِسوة الزبير وطلحة للنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه؛ حيث أقبل النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه من سفر، وهما سيقابلان الناس، ومثل هذا الحدث يحتاج إلى أخذ الزينة، فبذل الزبير وطلحة تلك الثياب والألبسة للنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، فاجتمع للنبي عليه الصلاة والسلام بذلك حُسْنُ المَظْهَرِ وطِيبُ المَخْبَرِ.

الدرس الثامن: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُعرَف في مكة بالصادق الأمين حتى وصل الأمر إلى أن المشركين وهم يحاربونه يضعون عنده بعض الودائع؛ لمعرفتهم بصدقه وأمانته؛ حيث لم يجدوا من ذويهم مَنْ يضعون أماناتهم عنده خوفًا من الخيانة؛ ولذلك تأخَّر عليٌّ في الهجرة حتى يُسلِّم الأمانات إلى أهلها بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وفي هذا درس عظيم لنا جميعًا؛ أن نتصف بالصدق والأمانة، ففيهما البركة والخير العظيم، وفي ضدهما الضياع والضلال المبين، فماذا لو ساد هذان الخلقان الناس جميعًا ونحن جزءٌ منهم لزالت كثيرٌ من المشاكل سواء على المستوى الشخصي والفردي أو على المستوى الرسمي والهيئات الحكومية، فلنتعاهد جميعًا على هذين الخُلُقينِ العظيمين: الصدق والأمانة، فنحن الرابحون في ذلك، وإذا تركناهما فنحن الخاسرون، وماذا سينفع ذلك الكاذب والخائن إذا أخذ حفنةً من المال، وهي ليست له فهو سيردُّها حسنات يوم القيامة، ووالله ثم والله، لو امتثل المجتمع هذين الخلقين تمامًا لأغلقت بعض جهات المحاكمة والشُّرَط لزوال المسببات والمشاكل.

الدرس التاسع: في هجرة صهيب رضي الله عنه أرغمه كُفَّار قريش أن يترك ماله لأجل الهجرة، فبادر لترك المال مقابل الهجرة، فهو خرج من مكة وليس معه شيء من ماله، وهو غنيٌّ ثريٌّ ابتغاء وجه الله تعالى؛ ولذلك قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((ربِحَ البيعُ أبا يحيى))، فهل سيكون هذا الفعل مُوقِظًا لنا في الصَّدَقة وبذلها والإكثار منها، فإن تلك الصدقة مخلوفة، وهي وإن كانت خرجت منك، فهي مرصودةٌ لك، وهي عبارة عن نقل مالك من حساب الدنيا الفاني الفقير إلى حساب الآخرة الباقي النفيس، وعجبًا لمن يعلم تلك الحقيقة ولا يُكثِر من الصدقة، فيا معاشر الأغنياء والفقراء كُلٌّ يتصدَّق مِن وسعه، فالقليل مهما قَلَّ فهو خير عظيم، فإذا كان شِقُّ التمرة يقي من النار، فما بالكم بما هو أكبر من شِقِّ التمرة؟! فاحتسبوا وابذلوا، واعلموا أن ذلك مخلوف عليكم، وكم هو جميل أن يجعل أهل البيت صندوقًا أو حصالةً في مكان بارز من البيت؛ لتكون مجالًا للصَّدَقة، ولو بالقليل، وإذا كانت في سِرٍّ فصاحبها تحت ظلِّ العرش، ثم يفتح ذلك دوريًّا شهريًّا، ويدفع إلى المحتاجين.

الدرس العاشر: النبي صلى الله عليه وسلم في هجرته رأى رجلين فدَعاهما إلى الإسلام، وفي هذا درس لنا جميعًا في سفرنا ورحلاتنا أن نساهم بجهودنا في دعوة الآخرين وبيان أخطائهم وتعديل سلوكهم، وأمرهم بالخير ونهيهم عن الشر، فكم سيحصل من الخير العظيم لو كنا جميعًا كذلك في رحلاتنا القريبة والبعيدة، فكونوا - رحمكم الله - كذلك تفلحوا.

أسأل الله تبارك وتعالى أن يوصلنا إلى دار السلام بسلامٍ، وأن يرزقنا قلوبًا وعقولًا راشدة، وألسنة صادقة، وأن يشرح صدورنا، ويُيسِّر أمورنا، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 29-08-2022, 09:28 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,855
الدولة : Egypt
افتراضي رد: خاتم النبيين

خاتم النبيين (16)
الشيخ خالد بن علي الجريش



الحلقة السادسة عشرة من برنامج (خاتم النبيين)

شيء من تفاصيل غزوة بدر


بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على مَن بعثه الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد:
ذكرنا في الحلقة الماضية الكلام عن غزوة بدر وخصائصها وتاريخها وأسبابها، وأيضًا ذكرنا عددَ كلٍّ من المسلمين والمشركين، وأيضًا كيف سارع الصحابة الكِرام رضي الله عنهم لهذه الغزوة، وكيف كان ترتيب جيش المسلمين، وما شعارهم، إلى آخر ما تم ذكره، والآن في حلقتنا هذه نزدلف في تلك الغزوة العظيمة إلى بعض تفاصيلها؛ فقد خرج المسلمون إلى ملاقاة عير أبي سفيان، فلم يستعدوا للقتال، ولا ظنوا أنهم سيلقون قتالًا؛ ولكن بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن قريشًا خرجت من مكة بلفِّها ولفيفها لملاقاة المسلمين، ومنعهم من العير، فعند ذلك استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم، فكره بعضهم القتال؛ لأنهم لم يستعدوا له، فما خرجوا إلا لفئة قليلة وهم حُرَّاس العير، فلما علموا بخروج قريش كرهوا ذلك؛ لعدم المكافأة، وأيضًا للضعف في الاستعداد، وفي هذا يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ ﴾ [الأنفال: 5]، وقد أشار الكثيرون من الصحابة على النبي صلى الله عليه وسلم بأننا معك مقاتلون ومدافعون، ولو خضت بنا هذا الوادي لخضناه معك مع أن المكافأة بين الجيشين غير متساوية؛ فعدد الكفار يزيد على ألف رجل، أما عدد المسلمين فهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلًا، فلا مكافأة بينهم في العدد، وكذلك لا مكافأة بينهم في العتاد، فالكفار معهم مئة فرس وستمائة درع وجِمال كثيرة، وأما المسلمون فمعهم فرسٌ واحدٌ مع المقداد بن عمرو رضي الله عنه، وشيءٌ يسير من الجِمال، ومع عدم المكافأة في العدد والعتاد، فقد أراد الله تعالى نصر هذه الفئة المؤمنة؛ حيث يقول الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [آل عمران: 123]؛ بل في صحيح مسلم قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُرينا مصارع القوم قبل المعركة بيوم، فيقول: ((هذا مَصْرعُ فلان، وهذا مصرعُ فلانٍ))، فوالذي بعثه بالحق ما أخطأوا الحدود التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم.

وارتحل جيش المسلمين حتى نزلوا بالعدوة الدنيا في بدر، والمشركون بالعدوة القصوى، والعدوة الدنيا هي القريبة من المدينة، وأما القصوى فهي القريبة من مكة، وحيث أصاب المسلمين عطش وضعف، فأنزل الله تعالى المطر في تلك الليلة على المسلمين، فشربوا وارتووا وتلبَّدت أرضهم وقويت؛ ولهذا قال الله تعالى: ﴿ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ﴾ [الأنفال: 11] الآية، فشربوا وارتووا وقويت نفوسهم وتلبَّدت الأرض فزال غبارها، وتحرك المسلمون قليلًا حتى استولوا على بئر بدر، وبعد أن نزل المسلمون عند ماء بدر واستقر أمرهم أشار سعد بن معاذ رضي الله عنه ببناء العريش للرسول صلى الله عليه وسلم؛ ليكون ذلك العريش مقرًّا للقيادة، وبُني العريش من الجريد، وكان على مرفع من الأرض يطل على المعركة، فدخله النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وجلس حول ذلك العريش سعد بن معاذ ونفر من الأنصار ومعهم سيوفهم يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتجهز الجيش في تلك الليلة وهي ليلة الجمعة السابع عشر من رمضان وصبيحتها المعركة بين المسلمين والكفار، وفي تلك الليلة نزل النعاس على المسلمين فناموا جميعًا، وكانت ليلة آمِنة، فاخذوا قسطهم من الراحة والنوم، قال الله تعالى: ﴿ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ ﴾، يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ما فينا فارس يوم بدر إلا المقداد، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم- يعني في تلك الليلة- وهذا من لطف الله تعالى بعباده المؤمنين؛ ليرتاحوا قبل غزوتهم، وأما الرسول عليه الصلاة والسلام فقد بات تلك الليلة يصلي تحت شجرة، يتضرع إلى الله تعالى ويُكثر من قوله: ((يا حي يا قيوم)) يكرر ذلك حتى أصبح، فلما أصبحوا في يوم الجمعة يوم الغزوة، يوم الفرقان، يوم القتال، وهو اليوم الذي التقى فيه الجَمْعان، وكل جيش قد تأهَّب لقتال الجيش الآخر، نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلًا: ((الصلاةَ عبادَ اللهِ))، فجاءوا فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد الصلاة حرَّضَهم على القتال وحثهم عليه، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه يصفون جنودهم؛ لملاقاة عدوِّهم، وأمر أصحابه ألا يبدأوا القتال حتى يأمُرَهم، وفي صحيح البخاري أنه عليه الصلاة والسلام قال لهم: ((إذا أكسبوكم- أي: دنوا منكم- فارْمُوهم واستبقوا نَبْلكم))، وفي صبيحة هذا اليوم جاءت قريش إلى وادي بدر استعدادًا للقتال والمواجهة، فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهُمَّ هذه قريشٌ قد أقبلَتْ بخُيلائها وفَخْرها تُحادُّكَ وتُكذِّبُ رسولَك، اللهم فنصرَك الذي وعَدْتَني، اللهم أحِنْهُم الغَداةَ)) فلما وصل جيش قريش إلى ميدان المعركة بعثوا عمير بن وهب يستطلع من بعيد على جيش المسلمين، وعن عددهم وعتادهم، فتجوَّل عمير حول العسكر، فرجع إلى قومه، فقال: القوم ثلاثمائة، يزيدون قليلًا أو ينقصون قليلًا، وقال لهم: يا معشر قريش، رأيت البلايا تحمل المنايا، نواضح المسلمين تحمل لكم السم الناقع، فأروا رأيكم، فلما سمع حكيم بن حزام ذلك أشار على عتبة- وكان من كبار قريش- أن يرجع بالناس ولا يُقاتل المسلمين، فقال عتبة: اذهب إلى أبي جهل فإنه لا يصرف الناس غيره، ثم قام عتبة خطيبًا فيهم فقال: أيها الناس، إني أرى قومًا مستميتين، لا تصلون إليهم وفيكم قوة، فلما سمع أبو جهل كلام عتبة قال له: أنت تقول هذا يا عتبة؟! وهل امتلأ جوفك رعبًا وخوفًا؟! فلا نرجع حتى نقاتلهم وقد جبنت يا عتبة، فقال عتبة لأبي جهل: إِيَّايَ تُعَيِّرُ يَا مُصَفِّرَ اسْتِهِ؟! ستعلم أينا الجبان، ومعنى مُصفِّر استه؛ أي: كلمة تقال للمترف المتنعم الذي لم يجرب الشدائد.

فأفسد أبو جهل رأي عتبة، فتغلب الطيش على الحكمة، وأول قتيل في هذه المعركة هو الأسود بن عبد الأسد من المشركين، وكان رجلًا شرسًا سيِّئ الخُلُق، فقال: أعاهد الله، لأشربن من حوض المسلمين أو لأهدمنه حتى يظمئوا أو أقتل دونه، فلما خرج إلى الحوض لهدمه خرج إليه حمزة رضي الله عنه، فضرب حمزة قدم الأسود حتى قطع رجله، ثم حبا عتبة إلى الحوض ليبر بيمينه، ثم قتله حمزة رضي الله عنه داخل الحوض، فكان هذا أول قتيل في معركة بدر، ثم بعد ذلك بدأت المبارزة، فخرج ثلاثة من خيرة فرسان قريش وهم: عتبة بن ربيعة، وأخوه شيبة، وابنه الوليد بن عتبة، وخرج إليهم ثلاثة من شباب الأنصار وهم: عوف ومعاذ ابنا الحارث، وعبدالله بن رواحة رضي الله عنهم، فكأنهم استصغروهم، فقالوا: يا محمد، أخرج لنا أكفاءنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم، قم يا عبيدة بن الحارث، قم يا حمزة، قم يا علي، فبارز عبيدة عتبة، وبارز علي الوليد بن عتبة، وبارز حمزة شيبة، فأما حمزة وعلي رضي الله عنهما فقد قتلا صاحبيهما مباشرةً، وأما عبيدة مع صاحبه فاختلفا ضربتين فجرح كل منهما صاحبه، ثم كرَّ حمزة وعلي على عتبة فقتلاه، وفي هؤلاء الستة نزل قول الله تعالى: ﴿ هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ﴾ [الحج: 19] الآيات؛ رواه البخاري ومسلم.

وهكذا فقد المشركون ثلاثة من أكبر فرسانهم في أول القتال دفعة واحدة، فاستشاطت قريش غضبًا، وتزاحف الجيشان والتقى الصفَّان، ودنا بعضهم من بعض، ولما اشتدَّ القتال استفتح أبو جهل فقال: اللهم أقطعنا للرحم فأَحِنْه الغداةَ، فنزل قول الله تعالى: ﴿ إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ ﴾ [الأنفال: 19] الآية، وأما الرسول عليه الصلاة والسلام، فما زال يناشد ربَّه قائلًا: ((اللهم أنجِز لي ما وعدْتَني، اللهم إني أَنْشُدُكَ عهدَك ووعدَك))، واجتهد في الدعاء حتى سقط رداؤه عليه الصلاة والسلام، فقال له أبو بكر وقد أشفق عليه: حسبك يا رسول الله؛ فإن الله عز وجل سينجز لك ما وعدك، وفي تلك الأثناء نزل خيار السماء من الملائكة، فقد روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد دعائه هذا أغفى إغفاءة يسيرة، ثم انتبه، فقال: ((أبْشِر يا أبا بكرٍ، أتاكَ نصرُ الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده على ثَنياه النَّقْع))؛ أي: الغبار؛ أخرجه البخاري، هكذا بدأ الهجوم الكاسح من المسلمين على المشركين، والرسول عليه الصلاة والسلام يُبشِّر أصحابه بقوله: ﴿ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ﴾ [القمر: 45]، وقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم قبضة من التراب، ثم رماها في وجوه القوم، فما من أحد إلا وأصابت عينيه، فقال: ((شاهت الوجوه))؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ﴾ [الأنفال: 17]، وقتل من صناديد قريش سبعون، وأُسِر منهم أيضًا سبعون أسيرًا، وأما المسلمون فقد استشهد منهم أربعةَ عشرَ رجلًا، وكان أيضًا من نتائج بدر أن الأعداء صاروا يخافون من المسلمين وفي أثنائها أيضًا وبعدها أسلم الكثيرون، ولما انتهت المعركة دَفَن النبي صلى الله عليه وسلم أربعةَ عشرَ رجلًا من صناديد قريش، فقذفوا في بئر خبيثة في بدر؛ كما رواه البخاري.

وبعد ثلاثة أيام من بدر رجع النبي صلى الله عليه وسلم ومعه الصحابة رضي الله عنهم إلى المدينة وهم يصطحبون الأسرى من بدر، ولما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فقال أبو بكر: يا رسول الله، هم أبناء العم والعشيرة، فأرى أن تأخذ منهم الفدية وتُطْلِقهم، ولعل الله أن يهديهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما ترى يابن الخطاب؟)) فقال عمر رضي الله عنه: أرى أن تمكننا منهم فنضرب أعناقهم حتى يعلم الله أننا ليس في قلوبنا هوادة للمشركين؛ ولهذا جاء القرآن موافقًا لرأي عمر رضي الله عنه، إخواني الكرام وفي نهاية هذا العرض السريع لتلك الغزوة لعلنا نستخرج الدروس والعبر مما سبق.

الدرس الأول: إن انتصار الحق على الباطل ليس بالعدد والعتاد؛ وإنما هو تأييد من عند الله تبارك وتعالى للحق وأهله ومكر بالباطل وأهله، وهذه هي الفطرة الإلهية أن الله تعالى ينصر دينه وأولياءه، وهذا يظهر جليًّا من خلال تلك الغزوة العظيمة حيث لم يتكافأ عدد المسلمين مع المشركين؛ بل إن المشركين أضعاف المسلمين في عددهم وعتادهم؛ ولكن الله تعالى بالمرصاد لمن خالف أمره، فهنيئًا لأهل الحق بانتصارهم وإن حصل ضد ذلك فهو ابتلاء لأهل الحق وإملاء واستدراج لأهل الباطل، أما الفطرة الثابتة فهي أن الله تعالى ينصر دينه وأولياءه على الباطل وأهله، والمحصلة النهائية على كلا الحالين من النصر والهزيمة أن أهل الحق هم الناجون وإن هزموا، وأن أهل الباطل هم الهالكون وإن انتصروا.

الدرس الثاني: يظهر من خلال تلك الغزوة العظيمة معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم وهي أنه أراهم مصارع القوم قبل المعركة والقتال، فيقول الصحابة رضي الله عنهم: والله ما تأخر هؤلاء القوم عن مكانهم الذي حدده النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه معجزة عظيمة لهذا النبي الكريم، ولنعلم أخواني وأخواتي الكرام أن القراءة في المعجزات النبوية تعطي دروسًا عظيمة وقوة الإيمان بالله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، فما أجمل أن يكون لنا قراءة وتدبر في تلك المعجزات النبوية، فهي من دلائل النبوة الكبرى، يستنير بها المسلم، وتكون سببًا لثباته وتعظيمه لله عز وجل.

الدرس الثالث: الله تعالى لطيف بعباده المؤمنين فينصرهم وييسر أمورهم ويشرح صدورهم، وهذا من مظاهر الرحمة الإلهية واللطف الرباني، وهذا يظهر من خلال ما حصل في تلك الغزوة من إنزال المطر ليعزز الأرض ويقويها، ويزيل عنها غبارها؛ حيث كانت أرضهم رملية مغبرة، وكذلك ألقى عليهم النعاس أمنة منه لهم؛ ليرتاحوا ويأخذوا قسطًا من النوم أيضًا؛ ليلقوا عدوَّهم بنشاط وقوة وبسالة، وكذلك من لطف الله تعالى عليهم ما حصل لهم من الثبات حال اللقاء فهو عامل مهم في النصر بعد توفيق الله تعالى، وأيضًا من لطفه بهم أن الله تعالى قلل الكفار في نظر المسلمين وأيضًا كثر المسلمين في نظر الكفار؛ وذلك لتقوى عزيمة المسلمين، وهذا أمر خارق، إن هذه العوامل كلها وأمثالها هي من لطف الله تعالى بعباده المؤمنين، فالله تعالى شكور، فلما استجابوا لأمره لم يتركهم؛ وإنما جازاهم على صنيعهم بحيث كان معهم، ومن كان الله معه، فلن يغلبه أحد، ومَن عصاه فهو المخذول المذموم.

الدرس الرابع: إن الدعاء والالتجاء إلى الله تعالى من أعظم الأسباب في كشف الكربات ونزول الخيرات، وهذا يظهر جليًّا من كثرة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم حال القتال وسؤاله لينصر الله تعالى عباده، فيقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم ساجدًا يدعو ويتوسل بالحي القيوم، ثم ذهبتُ إلى ميدان القتال ورجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم مرة ثانية، فإذا هو ساجد يدعو، ثم ذهبتُ إلى ميدان القتال ورجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم مرة ثالثة، فإذا هو ساجد يدعو، فالالتجاءُ إلى الله تعالى في جميع الأحوال في السلم والحرب، والخوف والأمْن، والصحة والمرض، وغيرها، مطلبٌ كبيرٌ لكل مسلم.

فيا إخواني الكرام، لا غنى لنا جميعًا عن ربنا ولا طرفة عين، فلنكن في جميع حاجاتنا وأحوالنا ندعو الله تعالى بتيسيرها، ولا نتوقف على الأسباب الظاهرة المبذولة، فقد تفشل الأسباب وينجح الدعاء، فوصيتي لك أخي الكريم أنك إذا أردتَ عملًا معينًا من شراء أو علاج أو استشارة أو سفر أو غير ذلك من شؤونك، فادْعُ الله تعالى بتيسيره، فلو لم يُيسِّره الله لم يتيسر، والبعض منا قد تمر به أحلك الظروف وأشدها فينسى الدعاء، ويبحث عن الأسباب المحسوسة، فالدعاء هو ارتباط بالله تعالى وثيق، وكذلك هو العمل الذي تربح فيه في غالب أحوالك، فلك بدعائك أن تُعطى ما سألت، أو يدفع عنك سوء أو يُدَّخر لك حسنات، فأنت رابح وبكثرة، وإنني أرغب في تصحيح مفهوم خاطئ عند البعض؛ حيث إذا لم يجد حقيقة ما سأل ترك الدعاء وقال: إنه لا يُستجاب لي، وهذا لا شك أنه جهل عظيم، فكم دفع الله عنك من البلاء، فلربما أن ذلك بسبب الدعاء، وأيضًا وما يدريك أن الله تعالى ادَّخَر لك حسنات تجدها أحوج ما تكون إليها، فالدعاء عبادة عظيمة لا نغفل عنه أيها المباركون، ولنُرَبِّ أولادنا عليه، واستفتح دعاءك بالحمد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وأيضًا بالتوسل بالحي القيوم، ثم اسأل الله تعالى تجد الإجابة قريبةً جدًّا بإذن الله عز وجل.

الدرس الخامس: في غزوة بدر حصل للكفار خلل في اتفاقهم، وافترقوا أيضًا في آرائهم، وذلك في مبدأ الغزوة وفي نهايتها، وهذا يعطينا درسًا عظيمًا؛ أن الباطل مهما انتفش فهو غير متفق، والسبب الكبير في ذلك أنه مخالف للفطرة، ويظهر خلله في نتائج أعماله وإن كان متفقًا في الظاهر إلا أنه متخلخل في الباطن، فالكفار في تلك الغزوة حصل لهم من الخلاف ما جعل بعضهم يُعيِّر بعضًا بالجبن والخوف كما حصل ذلك بين عتبة وأبي جهل، ولكل منهما أعوان وأنصار، فالباطل دائمًا يختلف ولا يتفق؛ لأن الاتفاق نعمة، والاختلاف نقمة، وكلاهما بيد الله تعالى، فمن أطاعه أعطاه النعمة، ومن خالفه جازاه بالنقمة، فيا ليتنا ندرك هذا تمامًا؛ لكي تكون نعم الله تعالى علينا متتابعة، وأيضًا متتالية، فاحرص أخي الكريم أن تكون مُتبعًا للحق في جميع أحوالك، وفي حال اختلاف الناس فعليك برأي العلماء الراسخين في العلم فاتبعهم فإنهم يسيرون مع الدليل من الكتاب والسنة، ولا تغترَّ بكثرة الباطل، فعدد المشركين في غزوة بدر أضعاف المسلمين ومع ذلك هزموا، فانجُ بنفسك من مواطن الفتنة والرَّدَى.

إخواني الكرام، تلكم لفتات يسيرة عن غزوة بدر الكبرى التي كان لمن شارك فيها شرفٌ كبيرٌ في مغفرة ذنوبهم ودخولهم جنات النعيم برحمة الله تعالى، فلنقرأ عنها وعن غيرها من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ليتصحح عندنا أفعال وأقوال وأحكام كانت خاطئةً من ذي قبل، فنعبد الله تعالى على بصيرة، فعندما تجتمع الأسرة ولو مرة في الأسبوع، ثم يتداولون بينهم شيئًا من هذا، فهم على خير عظيم وثواب جزيل وهو مجلس تحفُّه الملائكة وتغشاه السكينة وتنزل عليه الرحمة، ويذكر الله تعالى أصحابه فيمن عنده، وماذا نريد بعد ذلك؟! وإن التجربة برهانٌ كبيرٌ، فلعلك أخي المبارك تعقد ذلك المجلس مع أولادك، وستجد من الأرباح ما لم يكن في الحسبان، إن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم هي منهجٌ يسير عليه المسلم تزكيةً لنفسه وسلامةً لقلبه وشرحًا لصدره وتصحيحًا لمفاهيمه، وما تقرؤه من سيرة النبي عليه الصلاة والسلام اذكره في مجالسك لتفيد وتستفيد، وهذا لا شك أنه من طلب العلم ونشره.

أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا من عباده المفلحين، وأن يوصلنا دار السلام بسلام، كما أسأله تبارك وتعالى أن يصلح أحوال المسلمين، وأن يجعلنا من عباده الذين يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه، وأن يغفر لنا ووالدينا والمسلمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيِّنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 03-09-2022, 11:42 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,855
الدولة : Egypt
افتراضي رد: خاتم النبيين

خاتم النبيين (18)
الشيخ خالد بن علي الجريش



غزوة أُحُد


بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد:
إخواني الأكارم، ذكرنا في الحلقة الماضية الأحداث التي حدثت بين غزوة بدر وأُحُد، وهي كثيرة، فقد ذكرنا خمسة عشر حدثًا، ذكرناها باختصار، والآن في حلقتنا هذه نبدأ بعرض لغزوة أُحُد، فقد حدثت تلك الغزوة في منتصف نهار يوم السبت للنصف من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة، وكان سببها أن قريشًا لما رجعوا من غزوة بدر، وأصيبوا بتلك المصيبة العظيمة في قتل صناديدهم، فقد تشاوروا بعد ذلك في استحداث حرب شاملة ضد المسلمين ليأخذوا بثأرهم، وكان من أشدهم إصرارًا على ذلك عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وأبو سفيان، وكذلك عبدالله بن أبي ربيعة.

فأول إجراءاتهم أنهم قالوا لأصحاب العِير التي نجا بها أبو سفيان: إنَّ محمدًا قد وتركم- أي: قتل أشرافكم- فأعينونا بهذا المال في تلك العِير ليكون زادًا لهذه الحرب، فأجابوهم لذلك ووافقوا عليه، وكانت ألف بَعير وخمسين ألف دينار، وتجهَّزت قريش وساروا في القبائل يدعونهم لمشاركتهم بنفوسهم وأموالهم في هذه الحرب، فاجتمع لهم ثلاثة آلاف مقاتل، وسبعمائة دارع، ومئة فرس، وثلاثة آلاف بعير، وخرجوا ببعض نسائهم معهم ليضربوا الدفوف، وكُنَّ خمس عشرة امرأة، وكن يُحرِّضْنَ الرجال على القتال، وكانت القيادة العامة عند أبي سفيان، وقيادة الفرسان عند خالد بن الوليد بمساعدة عكرمة بن أبي جهل، وكان اللواء بيد بني عبدالدار، فلما تجهَّزت قريش وخرجت، بعث العباس بن عبدالمطلب- وكان بمكة- برسالة عاجلة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام يخبره بما اتفقت عليه قريش، وبخروجها وتفاصيل تلك الحرب، وأرسلها مع رجل من بني غفار، وشرط عليه أنه في ثلاثة أيام يسلم تلك الرسالة للنبي عليه الصلاة والسلام، فأتى ذلك الرجل، وأدرك الرسول عليه الصلاة والسلام في مسجد قباء، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم وأعطاها لأبي بن كعب، فقرأها عليه، فأمره بالكتمان، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم عاد مسرعًا إلى المدينة، وأخذ يستشير أصحابه، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم حينها بحراسة المدينة في مداخلها ومطالعها، وأما قريش فقد ساروا من مكة حتى أقبلوا على المدينة، واقتربوا منها حتى نزلوا قريبًا من جبل أُحُد، وكانت مساحة المدينة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم هي مساحة المسجد الآن مع توسيعاته تقريبًا، فلما وصل جيش المشركين عسكروا قريبًا من الجبل، وكان وصولهم ليلة الخميس في اليوم الخامس من شهر شوال- أي: قبل المعركة بعشرة أيام- وحينها بعث النبي صلى الله عليه وسلم عينين له يأتيانه بأخبار القوم، وهما أنس ومؤنس ابنا فضالة، فأتياه بأخبارهم، وبعث أيضًا الحباب بن المنذر، فدخل فيهم خفية، فعرف عددهم، وجاء بأخبارهم، ولما استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في أمر الغزوة، فاختلفوا على رأيين؛ فطائفة منهم ترى القتال داخل المدينة فتحرس المدينة وتتحصن بها، وإذا دخلها العدو قاتلوه، وطائفة أخرى ترى أن يخرجوا إلى العدو خارج المدينة ويقاتلوه، ولعل الثاني هو رأي الأكثرية؛ وهو الخروج من المدينة، فاستجاب لهم النبي صلى الله عليه وسلم ودخل بيته ولبس لَأْمَةَ الحربِ، فكأنهم شعروا أنهم أكرهوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الرأي، فأرادوا التراجع عن رأيهم بالخروج؛ لأنه كان من رأي النبي صلى الله عليه وسلم البقاء في المدينة؛ لكن النبي عليه الصلاة والسلام قال لهم: ((ما كانَ لنبيٍّ إذا لبسَ لَأْمَتَه أن يضعَها حتى يقاتل))، وعقد النبي صلى الله عليه وسلم الألوية، فجعل لواء الأوس مع أسيد بن حضير، ولواء الخزرج مع الحباب بن المنذر، ولواء المهاجرين مع مصعب بن عمير، ولما وصل مكانًا بين المدينة وأُحُد في المساء صلى فيه المغرب والعشاء، وباتوا هناك، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم خمسين رجلًا يحرسون المعسكر، ثم استيقظوا قبيل الفجر وساروا إلى أُحُد، وصلوا الفجر في طريقهم، وفي هذا الصباح الباكر رجع عبدالله بن أبي بن سلول رئيس المنافقين بثلث الجيش مخذلًا لهم، وبقي مع النبي صلى الله عليه وسلم سبعمائة، وكانوا قبل ذلك ألفًا، فلما وصلوا إلى أُحُد جعل النبي صلى الله عليه وسلم خمسين رجلًا على جبل الرُّماة، وجعل عبدالله بن جبير أميرًا عليهم، وقال لهم: ((لا تبرحوا، إن رأيتمونا ظَهَرْنا عليهم فلا تبرحوا، وإن رأيتموهم ظَهَرُوا علينا فلا تعينونا))؛ رواه البخاري.

وأخذ الراية مصعب بن عمير وبدأ القتال، وكان النصر للمسلمين، فبدأ المسلمون يقذفون رؤوس المشركين قطفًا بالسيوف قتلًا وفتكًا، وهذا نصر مبين للمسلمين؛ ولكن المصيبة بعد ذلك أطلَّتْ برأسِها على المسلمين، فحيث هُزم المشركون وولَّوا مدبرين، قال نفر ممن كانوا على جبل الرُّماة: الغنيمةَ الغنيمةَ، فناداهم أميرهم عبدالله بن جبير مُذكِّرًا لهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تبرحوا))، فأبوا ذلك، ونزلوا عن الجبل ظنًّا منهم رضي الله عنهم أن المعركة قد انتهت وأنه أيضًا تحقَّق النصر للمسلمين، ولم يثبت على جبل الرُّماة إلا عشرة تقريبًا، وقد كان المشركون قد جاءوا ثلاث مرات ليقتلوا المسلمين عن طريق جبل الرُّماة فيفاجئون بهؤلاء الرُّماة يمطرونهم بالسهام والنبال، فيرجعون خاسرين؛ ولكنهم في هذه الأثناء وبعد نزول أكثر الرُّماة عن الجبل، رجع المشركون بقيادة خالد بن الوليد حيث لم يكن مسلمًا آنذاك، فصعدوا الجبل وقتلوا هؤلاء العشرة الباقين، وبدأوا يُطلقون السهام على المسلمين حتى أصابوا كثيرًا منهم، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم أصابه بعض السهام، وكُسِرت رَباعِيَتُه، وشُجَّ وجهُه عليه الصلاة والسلام.

وحينما أصيب المسلمون بذلك انقسموا ثلاث فرق: فرقة فرَّت وتولَّت عن الميدان، وقد قال الله تعالى فيهم: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [آل عمران: 155]، وفئة ثانية قعدت في أرض المعركة دون قتال، وفئة ثالثة استمروا على القتال، وفي هذه المرحلة أشرف أبو سفيان على المعركة، فقال: أفي القوم محمد? فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تُجِيبوه))، ثم قال: أفي القوم أبو قحافة? فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تجيبوه))، ثم قال: أفي القوم عمر بن الخطاب? ثم قال أبو سفيان: إن هؤلاء قد قُتِلوا ولو كانوا أحياء لأجابوا، فلم يملك عمر رضي الله عنه نفسه حتى قال: كذبت يا عدوَّ الله، وقد أبقى الله عليك ما يخزيك، وحينها دخل نفس أبي سفيان الخور والجبن والخوف.

وكان من مواقف غزوة أحد أنه كان مع جيش المسلمين شيخان كبيران، وهما ثابت بن وقش واليمان والد حذيفة بن اليمان، فقد أذِنَ لهما النبي صلى الله عليه وسلم أن يبقيا في المدينة؛ لكبرهما، فقال أحدهما للآخر بعد أن انصرف الجيش إلى أُحُد: أفلا نأخذ أسيافنا ثم نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، لعل الله أن يرزقنا الشهادة، فأخذا أسيافهما وخرجا، ولم يعلم بهما المسلمون، أما ثابت فقتله المشركون، وأما اليمان فقد قتله المسلمون خطأً حيث لم يعرفوه، وناداهم حذيفة قائلًا: إنه أبي، إنه أبي، فقالوا: ما عرفناه وقد قتلوه، فقال حذيفة رضي الله عنه: يغفر الله لكم، وتصدَّق حذيفة بديته على المسلمين.

وفي تلك الغزوة غزوة أُحُد قُتِل مصعب بن عمير، وهو حامل اللواء، فقد ضربه ابن قمئة في يده اليمنى فقطعها، فحمل مصعب الراية بيده الأخرى وهو يقول ويقرأ: ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144]، ثم قتله ابن قمئة، فرفع الراية علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال المشركون عندما نالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم جراحًا وآذوه، قالوا ما قالوا في ذلك؛ لأنهم سروا بهذه الأذية للنبي عليه الصلاة والسلام، أما النبي عليه الصلاة والسلام فقد قال: ((اشتدَّ غضبُ اللهِ على قوم دَمَّوا وجهَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهشَمُوا عليه البَيْضة، وكسروا رَباعِيَتَه))؛ أخرجه البخاري.

وفي تلك الغزوة دافع عن النبي صلى الله عليه وسلم عددٌ من الصحابة، فقُتل بعضهم، ونزلت الملائكة تدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحفظه بأمر الله عز وجل، فقد روى البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحُد ومعه رجلان يقاتلان عنه، عليهما ثياب بِيض، ما رأيتهما قبل ولا بعد، زاد مسلم: يعني جبريل وميكائيل، ولم تقاتل الملائكة إلا في بدر، أما في أُحُد فهي نزلت تدافع وتحفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم بإذن الله، وكان ابن قمئة عندما قتل مصعب بن عمير- وكان مصعب يشبه رسول الله صلى الله عليه وسلم- رجع إلى قومه وقال: قتلتُ محمدًا، وصرخ بها الشيطان، فلما سمِعَه المسلمون عظُم ذلك في نفوسهم، وضعف بعضهم، وقوي المشركون، ووقف جمْعٌ من الصحابة يدافعون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نادى النبي صلى الله عليه وسلم قائلًا: ((إليَّ عبادَ الله، إليَّ عبادَ الله)) فقويت نفوسهم عندما سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يُناديهم، وممن استمات في الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم أبو طلحة؛ حيث بدأت المصيبة والضعف في المسلمين يوم أُحُد، فكان أبو طلحة مترس على النبي صلى الله عليه وسلم بترس معه يحميه من المشركين، وكان أبو طلحة راميًا شجاعًا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يشرف ينظر إلى القوم فيقول له أبو طلحة: بأبي أنت وأُمِّي يا رسول الله، نحري دون نحرك، لا تنظر حتى لا يصيبك سهم من سهامهم؛ رواه البخاري ومسلم.

وحين اشتد الخوف على المسلمين لطف الله عز وجل بهم، وأنزل عليهم النعاس أمَنةً؛ حيث يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ [آل عمران: 154] الآية، وأخذ المسلمون يداوون جَرْحاهم، ويداوون جراح رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: ((اشتدَّ غضبُ اللهِ على مَن دَمَّ وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم)) ومن بين النصر والهزيمة سجَّل المسلمون وسطروا ألوانًا من الشجاعة، فقد رفع النبي صلى الله عليه وسلم سيفًا فقال: ((من يأخُذُه بحقِّه))، فقال أبو دُجانة: أنا آخذُه بحقِّه يا رسول الله، فأخذه وفلق به هامات المشركين، وحمزة أبلى بلاءً حسنًا حتى إنه كان يقطف رؤوس المشركين قطفًا، وكان سعد بن أبي وقاص ينثر له النبي صلى الله عليه وسلم كِنانته وسهامه ويقول: ((ارْمِ فِداكَ أبي وأُمِّي))، وكذلك حنظلة بن أبي عامر، خرج إلى أُحُد وأبلى بلاءً حسنًا، فلما قُتِل قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((إنَّ صاحبَكم تُغسِّله الملائكةُ))، فاسألوا صاحبته عن ذلك، فقالت: إنه خرج وهو جُنُب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((فلذلك غسَّلَتْه الملائكة)).

إخواني وأخواتي الكرام، هذه بعض المواقف والأحوال من غزوة أُحُد، ولنختم حلقتنا تلك بذكر بعض الدروس والعبر في تلك الغزوة، وهي ما يلي:
الدرس الأول: أهمية الاستشارة؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه خروج قريش جمَعَ صحابته رضي الله عنهم، وعقد معهم مجلس شورى، مع أنه عليه الصلاة والسلام مؤيد بالوحي، وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران: 159]، فيا أخي الكريم، إن إقدامك على ما تريد بعد استشارة غيرك يفتح لك آفاقًا فيه، ويجعلك بإذن الله تعالى بعيدًا عن الندم والأسف، ولعل الاستشارة هي من صفات الناجحين؛ حيث جمعوا عقول الآخرين وأخذوا خلاصتها، فأنت لست عالمًا بكل شيء ولا مدركًا لكل شيء؛ ولكن شاور في كل أمر أهلَه؛ ولكن أيضًا لا تضع شؤونك بضاعةً مزجاةً لكل الناس، فالاستشارة لها ميزان، متى زادت انقلبت إلى حيرة؛ ولكن خذها بقدرها المعقول.

الدرس الثاني: في هذه الغزوة مظهر عظيم من مظاهر اللطف الرباني بعباده؛ حيث اشتد الخوف على المسلمين في أحد مراحل الغزوة، فلطف الله عز وجل بهم بنُعاس يريحهم ويذهب معه خوفهم، وتطمئن معه نفوسهم؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ [الأنفال: 11]، فالله تعالى سمَّى نفسه اللطيف، ووصف نفسه بأنه لطيف بعباده عندما تشتدُّ الأزمة، فاستعن بالله عز وجل، واطلب منه اللطف والمعونة، واعلم أن الإجابة قريبة؛ ولكن مشكلة البعض أنه في مشاكله وأزماته ربما أنه اهتمَّ بالأسباب الحسية أكثر من الأسباب المعنوية من الدعاء والالتجاء واستشعار قرب الله تعالى إليه ولطفه به؛ لأنه عبده وخلق من خلقه، فكم هو جميل أننا نجعل جانبًا كبيرًا في حل مشاكلنا في توجهنا إلى الله عز وجل ودعائنا إياه وانتظارنا ذلك، فنحن حينما نفعل ذلك فنحن في عبادة عظيمة؛ فالمريض والفقير والمدين والسجين والأيم ومن تلاطمت به أمواج البأساء وغيرهم- نسأل الله تعالى أن يرفع ما حلَّ بهم- أين هم من التوجُّه إلى الله عز وجل ليلطف بهم، فربما انكشفت مشاكلهم بسبب ذلك، وما ذلك على الله بعزيز، صرفَ اللهُ عنا وعنهم شرَّ ما قضى.

الدرس الثالث: هو درس عظيم حصل بقدر الله تعالى الكوني، وعلينا أن نستلهم الدروس مما يقع سواء كان لنا أو علينا، ففي تلك الغزوة كان النصر للمسلمين؛ بل تم قتل عدد من المشركين وكادت الهزيمة أن تحيط بالكفار؛ بل قد أحاطت بهم إلى حد كبير، وفي تلك الأثناء وفي ثنايا تلك الهزيمة للمشركين فإذا بالرُّماة الذين أوصاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يبقوا في مكانهم ولا يغادروه مهما كانت الحال إذا بهم ينزلون عن الجبل ظنًّا منهم رضي الله عنهم أن المعركة قد انتهت وأن العدوَّ قد هُزِم وأن المسلمين قد انتصروا، وهذه معصية ولو كانت باجتهاد، وقد ناداهم أميرهم فلم يسمعوا قوله، فماذا كانت نتيجة تلك المعصية? لقد تعدَّدت آثارها السلبية وخسائرها البشرية وسلبياتها النفسية؛ مما جعل الأمر ينعكس من نصر للمسلمين إلى هزيمة عليهم، إن الآمِر وهو النبي صلى الله عليه وسلم مؤيد بالوحي عندما أمرهم ألا ينزلوا مهما كانت الظروف؛ ولكنهم رضي الله عنهم اجتهدوا فنزلوا ولا اجتهاد مع النص، فحصل بنزولهم ذلك تلك الآثار التي شملت النبي صلى الله عليه وسلم وبعض أصحابه، وشجعت أيضًا المشركين وساهمت في تقوية عزيمتهم؛ لأنه بنزول الصحابة عن الجبل صعد عليه المشركون فقتلوا مَن تبقَّى من الخمسين رجلًا؛ حيث بقي منهم عشرة، ثم بدأ المشركون ينبلون المسلمين ويرمونهم، وقد نزل بذلك قوله تعالى: ﴿ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ [آل عمران: 152] حتى حصل ما لم يكن بالحسبان، ومما حصل من الأضرار ما يلي:
أولًا: انفلت زمام المسلمين وحصلت نسبة من الفوضى عندما رأوا المشركين على الجبل.

ثانيًا: من الخسائر في خلال تلك المعصية في تلك الفوضى والانكشاف ظهر حمزة رضي الله عنه لوحشي الذي جاء ليقتل حمزة خاصة، وكان على غفلة من حمزة، فقتل وحشي حمزة رضي الله عنه، وهو أسد الله وأسد رسوله.

ثالثًا: من الأضرار قتل مصعب بن عمير رضي الله عنه وهو يدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الراية، فأخذها عليٌّ بعد مصعب.

رابعًا: من الخسائر أن ابن قمئة لما قتل مصعب بن عمير كان مصعب يشبه رسول الله صلى الله عليه وسلم فصرخ للمشركين وقال: قتلتُ محمدًا، فلما سمِعَه المسلمون فترتْ نفوسُهم، ولاذ بعضُهم بالفرار.

خامسًا: من الخسائر من تلك المعصية مقتل السبعة من الأنصار الذين كانوا يدافعون عن النبي صلى الله عليه وسلم.

سادسًا: من الخسائر، أصيبت شفة النبي صلى الله عليه وسلم السُّفلى من حجارة عتبة بن أبي وقاص.

سابعا: من الخسائر، كُسِرت رَباعِية النبي صلى الله عليه وسلم.

ثامنًا: شج النبي صلى الله عليه وسلم في جبهته.

تاسعًا: ضرب النبي صلى الله عليه وسلم بالسيف على منكبه، فشكى منها شهرًا كاملًا.

عاشرًا: من الخسائر ضرب النبي صلى الله عليه وسلم على وجنتيه، وهما خداه، فدخلت حلقات المغْفَر في وجنته صلى الله عليه وسلم.

حادي عشر: سقوط النبي صلى الله عليه وسلم في الحفرة التي حفرها له أبو عامر الفاسق.

ثاني عشر: من الخسائر خروج الدماء من النبي صلى الله عليه وسلم.

ثالث عشر: قتل الرُّماة الذين بقَوا على الجبل.

هذه الآثار هي من آثار تلك المخالفة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم علمًا أن تلك المخالفة جاءت باجتهاد وظن أن المسلمين قد انتصروا، فكيف بمن يعمل المعصية عن عمد، ويعلم أنها معصية، فإن لفعله هذا آثارًا عظيمة في نفسه وفي غيره، نجملها فيما يلي:
أولًا: من أضرار المعصية عمومًا أنها مخالفة لأمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.

ثانيًا: أنه قد يحرم الرزق بسببها.

ثالثًا: أن المعصية تجر اختها.

رابعًا: ضعف الأمن؛ حيث يقول تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام: 82].

خامسًا: من أضرار المعصية البقعة تشهد عليه بفعل تلك المعصية.

سادسًا: أن الجوارح تشهد عليه كذلك.

سابعًا: من أضرار المعصية أن الشيطان يكثر ولوجه إلى قلبه إذا استمرأ المعصية.

ثامنًا: من أضرار المعصية أنه قد يراه أحد فيقتدي به؛ فيكون عليه مثل وِزْره.

تاسعًا: من أضرار المعصية أنه قد يختم له بها، وهذه مصيبة عظيمة.

عاشرًا: من أضرار المعصية أنه قد يراه الآخرون، فلا ينهونه عنها، فيتحملون سيئة عدم النهي عن المنكر.

حادي عشر: من أضرار المعصية أنها تنزع الحياء من نفس العاصي.

ثاني عشر: من أضرار المعصية أنها قد تحرم العاصي بعض الطاعات.

إن تلك الآثار هي من آثار المعاصي عمومًا، فيا أخي الكريم، احذر فعل المعصية، وإذا سوَّل لك الشيطان ففعلتها فاحذر استدامتها؛ ولكن تُبْ منها، فلكل مرة من فعلها الشؤم والنقص عليك وعلى غيرك، ومن المعاصي الظاهرة التي تحتاج إلى تغيير ما يلي:
أولًا: إسبال الثياب، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما أسْفَل من الكعبينِ من الإزارِ ففي النارِ))؛ رواه البخاري.

ثانيًا: الغِيبة والنميمة وسائر آفات اللسان، فهي تحرق الحسنات، وتنقلها إلى غيرك.

ثالثًا: أكل الحرام بالربا والرشوة أو غيرهما، وكل جسم نبت من سُحْت، فالنارُ أولى به، وأن هذا المال الحرام غرمه على ظهرك وغنمه لغيرك، فاحذر ذلك.

رابعًا: آفة التدخين والمخدِّرات والمسكرات.

خامسًا: عقوق الوالدين والقطيعة للرحم.

سادسًا: النظر والسماع للحرام.

سابعًا: التهاون بالصلاة وتأخيرها وجمعها من غير عذر.

ثامنًا: الرياء والنفاق في الأقوال والأعمال.
إن تلك المعاصي وما يماثلها هي أسباب التأخُّر والضعف، فعلينا معالجتها ما دمنا قادرين على ذلك قبل أن ننتقل إلى زمان ومكان لا يمكن فيه التغيير وهو يوم القيامة.

أسأل الله تبارك وتعالى أن يمن علينا بعفوه ومغفرته ورحمته، وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 10-09-2022, 09:57 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,855
الدولة : Egypt
افتراضي رد: خاتم النبيين

خاتم النبيين (19)
الشيخ خالد بن علي الجريش



تكميل لأحداث غزوة أُحُد


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد:
فقد ذكرنا في الحلقة الماضية شيئًا من أحداث غزوة أُحُد وتاريخها، وسبب حدوثها، وكيف بلغ النبي صلى الله عليه وسلم خروج قريش، وماذا عمل حينها، وأيضًا كذلك ذكرنا استشارة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في الخروج من عدمه، وأيضًا ذكرنا كيف بدأ القتال وكيف كان النصر للمسلمين، ثم بخطأ حدث عند المسلمين حصلت أضرار جِسام، وأيضًا ذكرنا كيف تصرَّف النبي صلى الله عليه وسلم حيال ذلك، إلى غير ذلك من الأحداث، ونستكمل في هذه الحلقة أحداث تلك الغزوة التي هي غزوة أُحُد، فمن أحداثها ما يلي:
مقتل عبدالله بن عمرو بن حرام والد جابر رضي الله عنهما، فهو من الذين أبلَوا بلاءً حسنًا، فقد أخرج البخاري عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: جيء بأبي مسجى، فأردتُ أن أرفعَ الثوب عنه، فنهاني قومي، فرفعه النبي صلى الله عليه وسلم فسمع صوت باكية، وهي أخته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لمَ تبكي؟ فما زالت الملائكة تظِلُّه بأجنحتها حتى رُفِع))؛ رواه البخاري، وكان عبدالله قد أوصى ابنه جابر، فقد روى البخاري أن جابرًا قال: دعاني أبي من الليل في أُحُد، وقال: ما أراني إلا مقتولًا، فإنَّ عليَّ دَينًا فاقضه واستوصِ بأخواتك خيرًا؛ رواه البخاري.

ومن الأحداث في تلك الغزوة ما وقع لحنظلة بن أبي عامر رضي الله عنه، وكان أبوه أبو عامر عدوًّا لدودًا للإسلام، وتأمَّل كيف يُخرج الله الحيَّ من الميت! وقد كان حنظلة رضي الله عنه لما سمع بتلك الغزوة خرج إليها، فالتقى بأبي سفيان قائد قريش، فعلاه بسيفه ليقتله؛ ولكن رآه شداد بن الأسود فقتله قبل أن يقتل حنظلة أبا سفيان، فلما قتل حنظلة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ صاحبَكم حنظلة تُغسِّله الملائكة، فسَلُوا صاحِبَته))، فقالت: خرج وهو جُنُب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((فذاك قد غسَّلته الملائكةُ))؛ أخرجه ابن حبان والحاكم، وكان حنظلة رضي الله عنه يُلقَّب بغسيل الملائكة.

ومن الأحداث في تلك الغزوة ما وقع للأصيرم، وهو عمرو بن ثابت المعروف بالأصيرم، وهو من بني عبد الأشهل، وكان يأبى الإسلام حين قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ولما حدثت تلك الغزوة التي هي غزوة أُحُد قذف الله الإسلام في قلبه، فأسلم ولحِق بالنبي صلى الله عليه وسلم وصحابته بعدما ذهبوا، فلما هدأت المعركة أخذ بنو عبد الأشهل يتفقدون قتلاهم، فرأوا الأصيرم ولم يعلموا بإسلامه، وهو في آخر رمق، فقالوا: ما الذي جاء بك؟ آشفقتَ على قومك أم أسلمتَ؟ فقال: بل أسلمتُ وآمنتُ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنَّه مِن أهلِ الجنةِ))، قال أبو هريرة رضي الله عنه: ولم يُصلِّ للهِ صلاةً قَطُّ؛ أخرجه أحمد، وإسناده حسن.

وفي نهاية تلك الغزوة أشرف النبي صلى الله عليه وسلم على القتلى والشهداء، ثم قال: ((أنا شهيدٌ على هؤلاءِ يومَ القيامةِ))؛ رواه البخاري، وأيضًا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يُدفَن الشهداء بدمائهم، ولم يُغسِّلْهم؛ كما عند البخاري، وقال الإمام البغوي: اتفق العلماء على أن شهيد المعركة مع الكُفَّار لا يُغسَّل، وأما الصلاة عليهم فقد اختلف أهل العلم بذلك؛ لورود نصوص تثبت ونصوص أخرى تنفي؛ ففي البخاري في كتاب المغازي أمر بدفنهم بدمائهم، ولم يُصلَّ عليهم ولم يُغسَّلوا، وجاءت نصوص أخرى تثبت الصلاة عليهم، وقد جمع بينها أهل العلم؛ كابن القيم رحمه الله؛ حيث قال: والصواب في المسألة أنه مُخيَّر بين الصلاة عليهم وتركها؛ لمجيء الآثار بكلا الأمرين، وكانوا يدفنون الاثنين والثلاثة في قبر واحد؛ وذلك لما حصل عليهم من الجراح والتعب رضي الله عنهم وأرضاهم، فقد شكوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: كيف تأمرنا بقتلانا، فقال: ((احفروا وأوسعوا وأحسنوا وادفنوا في القبرِ الاثنينِ والثلاثةَ))، قالوا: يا رسول الله، مَن نُقدِّم؟ قال: ((أكثرهم جَمْعًا وأخْذًا للقرآنِ))؛ أخرجه أحمد.

واستشهد في تلك الغزوة من المسلمين سبعون شهيدًا، وكان أناس من المسلمين قد احتملوا قتلاهم لدفنهم في المدينة، فناداهم منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ردُّوا القتلى إلى مصارعهم، فردوهم إلى مكانهم في أُحُد، وقد أكرم الله عز وجل هؤلاء الشهداء؛ فقد روى البخاري في صحيحه أن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: كان أبي أول قتيل ودُفِن معه آخر في قبر واحد، ثم لم تطِبْ نفسي أن أتركه مع الآخر، فاستخرجته بعد ستة أشهر، فإذا هو كيوم وضعته غير أذنه؛ رواه البخاري، وفي لفظ آخر، قال جابر: دخل السيل قبر أبي فحفرتُه، فرأيتُه كأنه نائم ولم يتغيَّر منه إلا اليسير، وكان ذلك بعد ستة وأربعين عامًا من دفنه وحده، وأما قتل المشركين فبلغوا ثلاثة وعشرين رجلًا، ولما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة إلى المدينة بعد أُحُد فاستقبلهم أهل المدينة، وكان منهم حَمْنة بنت جحش، فنُعي لها أخوها عبدالله بن جحش، فاسترجعت واستغفرت، ونُعي لها خالها حمزة بن عبد المطلب فاسترجعت واستغفرت، ثم لما نُعي لها زوجُها مصعب بن عمير صاحت وولولَتْ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ زوجَ المرأة منها لبمكان))، وخرجت امرأة من بني دينار وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها فقتلوا، فلما نُعُوا لها قالت: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: هو بخير يا أم فلان، وهو كما تحبين والحمد لله، فقالت: أرونيه حتى أنظر إليه، فأُشير إليه، فلما رأتْه قالت: كل مصيبة بعدك يسيرة هيِّنة؛ ذكره ابن إسحاق والبيهقي.

وبات المسلمون تلك الليلة يحرسون المدينة من العدوِّ بعد غزوة أُحُد مباشرة، وبات بعض الأنصار يحرسون الرسول عليه الصلاة والسلام في بيته، ثم بعد غزوة أحد بيوم واحد فقط حدث ما يسمى بغزوة حمراء الأسد؛ حيث كانت أُحُد في يوم السبت، وكانت حمراء الأسد في يوم الأحد لسِتَّ عشرةَ ليلة مضت من شوال، فقد كان سببها أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن أبا سفيان بن حرب يريد الرجوع بقريش إلى المدينة ليستأصلوا المسلمين، فقد أخرج النسائي بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما لما انصرف جيش المشركين عن أُحُد وبلغوا الروحاء، وهو مكان يبعد عن المدينة خمسين كيلو مترًا تقريبًا، قال بعضهم لبعض: لم تقتلوا محمدًا ولا أسرتم أسرى، ارجعوا إليهم فلنقاتلهم في المدينة، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب الناس حتى خرجوا فبلغوا حمراء الأسد، فلما صلى النبي صلى الله عليه وسلم الصبح في المدينة أمر بلالًا أن يُنادي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم بطلب العدوِّ، ولا يخرج معنا إلا مَن شهد القتال بالأمس في أُحُد إلا جابر بن عبدالله، فقد قال: يا رسول الله، إن أبي قد قُتِل بالأمس في أُحُد، وقد خلفني على أخوات لي سبع، ولا أحب أن تتوجَّه يا رسول الله وجهة إلا وأنا معك، فأذن لي أن أخرج إلى حمراء الأسد، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يخرج أحد لم يشهد القتال في أُحُد غير جابر.

واستأذن عبدالله بن أبي بن سلول بأن يذهب إلى القتال، فلم يأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحمل لواء المسلمين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، واستعمل الرسول عليه الصلاة والسلام على المدينة ابن أم مكتوم، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم بالصحابة، وفيهم الجراح والقرح والتعب، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فقد خرج وهو مجروح في وجهه ومشجوجٌ في جبهته ومكسور في رَباعيَتِه، وبجنبه الأيمن ضربة، وركبتاه مجروحتان، ونزل قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [آل عمران: 172].

ومضى الرسول صلى الله عليه وسلم حتى عسكروا بحمراء الأسد، وهي موضع يبعد عن المدينة خمسة عشر كيلو مترًا تقريبًا، وأقاموا ثلاثة أيام ولقَوا بحمراء الأسد معبد بن أبي معبد الخزاعي، وكان معبد يومئذٍ مشركًا، فقال: يا محمد، لقد عظُم علينا ما أصابك وأصاب أصحابك، ثم خرج معبد إلى أبي سفيان في الروحاء وهو يريد الرجوع بقريش إلى المدينة، فقال أبو سفيان: ما وراءك يا معبد؟ فقال معبد: إن محمدًا قد خرج يريدكم ويطلبكم بجيش لم أرَ مثلَه قَطُّ، وإني أرى أن ترتحلوا وإني أنهاك أن تلقى محمدًا بجيشك، فلما سمِع أبو سفيان ذلك الكلام رجع إلى مكة بجيشه خائفًا وجلًا، ولما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ما أراد أبو سفيان قال: ((حَسْبُنا اللهُ ونِعْمَ الوكيلُ))، وفي ذلك نزل قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ﴾ [آل عمران: 173- 174].

وفي هذا الخروج إلى حمراء الأسد استردَّ المسلمون قوَّتهم وهيبتهم التي كادت أن تضعف في غزوة أُحُد، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل رجوعه إلى المدينة من حمراء الأسد أبا عزة الجمحي، وكان أسيرًا عند المسلمين في بدر، فمَنَّ عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأطلقه وعاهده على ألا يقاتل ضده، ولا يعين عليه أحدًا؛ ولكنه نقض العهد وخرج مع قريش ينصرهم ويحرضهم، فلما أُسِر قال: يا محمد، أقلني وامنُنْ عليَّ وأعطيك عهدًا على ألَّا أعودَ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((واللهِ لا تمسح عارضيك بمكة بعدها، وتقول: خدعتُ محمدًا مرتينِ)) وفي رواية: ((لا يُلدَغ المؤمِنُ مِن جُحْرٍ مرتينِ))، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الزبير فضرب عنقه.

إخواني الكرام، إن الحديث في سرد السيرة النبوية شيق ولطيف وخفيف، وسنختم حلقتنا هذه ببعض الدروس والعِبر مما سبق ذكره، وهذه الدروس نذكر منها ما يلي:
الدرس الأول: في وصية عبدالله والد جابر رضي الله عنهما لابنه جابر بقضاء دينه درسٌ عظيم في التعامل مع الديون من حيث كتابتها وحفظها والوصية بها والحرص على المبادرة في قضائها وعدم المماطلة في تأخيرها؛ حيث نرى بعض المدينين يهمل كتابتها فيقع الخلل في مقدارها مع مضي الوقت، فيقع الاختلاف أو يسري عليها النسيان، فتكون في الذمة، والله تعالى يقول: ﴿ إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ﴾ [البقرة: 282]، وربما أن البعض لم يوصِ بها بنيه ونحوهم؛ لأنه قد يؤتى على غِرَّة، وربما أن البعض يسوِّف في قضائها، وقد يُقدِّم عليها كثيرًا من النوافل، وهذا من الجهل العميق ولا شك، ألم يعلم هذا وأمثاله أن الشهيد وهو شهيد قد غفر له كل شيء إلا الدين، فهو من حقوق العباد، وأشير إلى إشارة تقع عند بعض الناس أنهم يقترضون أحيانًا مبالغَ يسيرةً؛ كالمئة والمائتين والثلاث ونحوها، ثم يسري عليها النسيان لقلتها، فلنحرص جميعًا أن يكون قدومنا على الله تعالى خاليًا من حقوق العباد في مال أو عرض.

الدرس الثاني: في وصية عبدالله رضي الله عنه لابنه جابر رضي الله عنه في رعاية أخواته وهن سبع، وقيل: تسع، ففي هذا درس عظيم في رعاية النساء صغرن أم كبرن، فهن بحاجة إلى رعاية من حيث الدين والدنيا؛ ففي الدين رعاية الحشمة والستر والحياء وتعليمهن أحكام شرع الله عز وجل وتزويجهن الأكفأ من الرجال، ووصيتهن بتقوى الله تبارك وتعالى، وأيضًا في الدنيا قضاء حوائجهن التي لا يقضيها إلا الرجال، ومحاولة بعدهن عن الرجال والنظر في معيشتهن ولباسهن ونحو ذلك، فالمرأة بحكم قرارها في البيت هي بحاجة إلى رعاية في أمور دينها ودُنْياها.

الدرس الثالث: في قصة الأصيرم وهو عمرو بن ثابت رضي الله عنه، فهو لم يسلم إلا في أثناء الغزوة، فلما قذف الله تعالى في قلبه الإيمان سارع إلى العمل الصالح فاستشهد، ففي هذا درس عظيم في استشعار أن القلوب بيد علَّام الغيوب يُقلِّبها كيف يشاء، فلا ييأس العاصي ولا يعجب المطيع؛ بل على الجميع أن يدعو بقوله: ((يا مُقلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قلبي على دِينكَ))، وإن من وسائل الثبات البعد عن مواطن الفتن، فإن الإنسان قد يتعرض لها في أحد مواطنها، وهو يظن أن لا فتنة، فتقع الفتنة، فالابتعاد عنها وقاية وعلاج، وعلى المسلم أن يكون خائفًا من سوء الخاتمة؛ لأنه إذا استشعر هذا، أكثرَ مِن الدعاء بالثبات، وأكثرَ من عبادة الخلوات التي هي من أهم أسباب الثبات.

الدرس الرابع: في دفن شهداء أُحُد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقدم الأكثر أخذًا للقرآن، وفي هذا تحقيق جزء من الخيرية في قوله عليه الصلاة والسلام: ((خيرُكم مَن تعلَّم القرآنَ وعلَّمه))، وفي هذا حَثٌّ لكثرة التلاوة ومتابعة الحفظ للقرآن أو بعضه، وإنه ميسر كل التيسير، فحاول أخي الكريم حفظ شيء منه لتلحق بركب الحفظة، وإن الحفظ ولو كان يسيرًا فسيدفعك إلى المزيد، وكثير من كبار السن الذين لم يحفظوا حصل لهم ظروف؛ كضعف البصر أو كف البصر أو الضعف العام، ندموا على أن لم يبادروا أيام نشاطهم إلى حفظ القرآن أو بعضه، فأنت الآن في زمن الأمنية، فحاول تحقيقها، وإنك عندما تبدأ الآن في حفظه أو حفظ بعضه، فإنك بعد سنتين أو نحوهما ستكون حافظًا لكتاب الله عز وجل، وتدخل قبرك ومعك القرآن، فما أسعدك! فمن هو الحصيف العالي الهِمَّة منكم إخواني الكرام الذي يقول: أنا لها ويشق طريقه، فهو مشروع لا يعرف الفشل.

الدرس الخامس: إن الدين يسر، وإن المشقَّة تجلب التيسير، ويظهر ذلك من خلال دفن شهداء أُحُد، فلما شق عليهم ذلك لجراحهم وتعبهم أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يدفنوا الاثنين والثلاثة جميعًا في قبر واحدٍ، وهكذا الأمر إذا حصلت المشقة جاء التيسير، فالمسافر يجمع ويقصر، وعادم الماء يتيمَّم، والمريض يُصلي حسب طاقته وجهده ونحو ذلك، وهذا من لُطْف الله تعالى بعباده ورحمته بهم، فاللهم لك الحمد على ذلك كثيرًا.

الدرس السادس: إن للزوج مكانًا ليس لأحد غيره، وهذا على سبيل العموم، ويظهر هذا من خلال حالة حَمْنة بنت جحش رضي الله عنها، عندما جاءها خبر وفاة أخيها وخالها فاسترجعت، وعندما نُعي لها زوجها صاحت وولوَلَتْ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن مكان الزوج عند زوجته رفيع وعالٍ، وهكذا الأزواج والزوجات يتعين عليهم جميعًا أن يكونوا متحابِّين فيما بينهم متعاطفين متفاهمين، وأيضًا كذلك متغافلين عن أخطاء بعضهم فيما يمكن التغافل فيه؛ لأن الزوج كما في الحديث هو جنتها ونارها، فهما في جنة إن تفاهموا وتحابوا وتعاونوا، وهم أيضًا كأنهم في نار إذا تشاقوا واختلفوا، وعلى كل منهما أن يحتمل من الآخر ما يجعله يعيش عيشة هنيئة، ويصعب أن يأخذ كل منهم حقَّه كاملًا من دون أي خلل؛ لأن الخلل والنقص من طبيعة البشر، فلا بُدَّ من العفو والتغافل وإدراك عواقب الأمور ومآلاتها، وهذا قد ينعكس إيجابًا على الأولاد والأحفاد، فتكون الأسرة متماسكة ومترابطة.

الدرس السابع: في قوة إيمان تلك المرأة من بني دينار درس جليل حيث نُعِي لها عددٌ من أقاربها المقربين جدًّا في الغزوة حيث ماتوا، فسألت أول ما سألت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف حاله؟ فلما اطمأنَّتْ عليه ارتاح ضميرها، فإن كانت هي اطمأنت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو بين يديها، فلنحافظ نحن على سُنَّته عليه الصلاة والسلام، فسُنَّته ترجمة لحياته عليه الصلاة والسلام، فلنحرص على حفظها والعمل بها وتربية أولادنا عليها، وأنفسنا؛ لتسلم أنفسنا بسلام تلك السُّنَّة، وعلينا نشرها وتعليمها للآخرين، وهذا كله يعكس الاهتمام بسُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم كما اهتمت تلك المرأة الدينارية بالنبي صلى الله عليه وسلم.

الدرس الثامن: إن خروج الصحابة إلى حمراء الأسد مع جراحهم وتعبهم هو يعكس الاستجابة القوية لله ورسوله عليه الصلاة والسلام، وذلك دليل على قوة الإيمان، ونحن تقرع أسماعنا ليلًا ونهارًا النداءات الربانية والنبوية، فمنا من استجاب وأفلح، وربما يوجد من تأخَّر، فليُسارع ذلك المتأخر؛ لأن الحياة لا تدوم على حال، وقد يأتي الموت على غِرَّة فلينتبه المتهاون والمسوِّف، فاستجيبوا يا عباد الله لما يحييكم فهو خير وأبقى في سلوككم وجوارحكم وأعمال قلوبكم، وادعوا إلى ذلك تفلحوا وتسعدوا دنيا وأخرى.

الدرس التاسع: في قصة أبي عزة الجمحي الذي أطلق النبي صلى الله عليه وسلم أسْرَه وعاهد على عدم القتال، ثم غدر بعد ذلك فقاتل مع قريش، فطلب العفو مرة أخرى، أوضح النبي صلى الله عليه وسلم أن ((المؤمن لا يُلدَغ مع جُحْرِ مرتينِ)) وأنه يجب أن يكون كيِّسًا فَطنًا لا يُخدَع، فإنَّ العفو يتبع المصلحة والإصلاح، وعلى المسلم إذا لُدِغ مرة أن يحترز في الثانية حتى لا يُلدَغ مرة أخرى، وليس ذلك من باب الإساءة للآخرين؛ ولكنه من باب حفظ النفس وحقها.

اللهم وفِّقْنا لهُداك، واجعل عملنا في رِضاك، وأوصلنا دار السلام بسلام، وبارك لنا في أعمالنا وأعمارنا، وأصلح نيَّاتنا وذريَّاتنا، وصلى الله وسلم وبارك على نبيِّنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 10-10-2022, 04:20 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,855
الدولة : Egypt
افتراضي رد: خاتم النبيين

خاتم النبيين (21)
الشيخ خالد بن علي الجريش





الحلقة الواحد والعشرون من برنامج: خاتم النبيين

بعض الأحداث بين أحد والخندق (1)


بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين؛ أما بعد:
فقد ذكرنا في الحلقة الماضية - إخواني الأفاضل - شيئًا من الحِكَم والأحكام في غزوة أحد، وبعض الأحداث التي حدثت في تلك الغزوة، وأيضًا تعرضنا للدروس المستفادة من ذلك، وفي تلك الحلقة نستعرض بعض الغزوات التي حدثت بين غزوة أحد والخندق، فمن ذلك غزوة بني النضير فقد حدثت في السنة الرابعة للهجرة، وقيل قبل ذلك، وكان سببها أن قريشًا كتبت لبني النضير بأنكم أنتم أهل الحلقة والحصون والسلاح، فقاتلوا محمدًا، أو لنفعلنَّ كذا وكذا، إلى آخر ما كتبوا لهم، فلما بلغ ذلك الكتابُ يهود بني النضير أجمعوا على الغدر فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنِ اخْرُج إلينا في ثلاثة من أصحابك، ويلقاك ثلاثة من علمائنا، فإن آمنوا بك اتبعناك، ففعل، فاشتمل اليهود الثلاثة على الخناجر والسلاح ليغدروا، فأرسلت امرأة من بني النضير إلى أخ لها من الأنصار قد أسلم تخبره بأمر بني النضير، وتخبره بغدرهم، فأخبر أخوها هذا النبيَّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يصل إليهم، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ثم صبَّحهم بالكتائب فحاصرهم من يومه، وبعث النبي صلى الله عليه وسلم إليهم محمد بن مسلمة؛ قائلًا لهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنِ اخرجوا من المدينة، فلا تساكنوني فيها وقد هممتم بما هممتم به من الغدر، فمن رُئِيَ بعد ذلك ضربت عنقه))، فتجهز بنو النضير للخروج من المدينة خائفين صاغرين، فلما سمع المنافقون ذلك أرسل إليهم عبدالله بن أبي ابن سلول رئيس المنافقين، وقال لهم: لا تخرجوا من دياركم، لئن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أُخرجتم خرجنا معكم، فمن ذلك قوِيَتْ نفوس بني النضير فأرسل زعيمهم حُيَيُّ بن أخطب كتابًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال فيهِ: إنا لن نخرج من ديارنا، وإن قاتلتنا قاتلناك؛ فنزل قول الله تبارك وتعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [الحشر: 11]؛ الآيات.

فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، فلما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة قادمين، تحصنوا في حصونهم وبدؤوا ينبلون المسلمين بالنبل والحجارة، فحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر بقطع نخيلهم وتحريقها؛ وفي هذا يقول الله تعالى: ﴿ مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [الحشر: 5]، واللِّينة هي النخلة، وقد فعل ذلك؛ إهانة لهم وإرعابًا لقلوبهم، وذلك لغدرهم المستديم، فلما كانوا في تلك الحال تخلَّى عنهم المنافقون كالمعتاد، فقذف الله في قلوبهم الرعب، واشتد عليهم الحصار، فعند ذلك صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجلاء؛ وهو الخروج من المدينة، وأنه ليس لهم من أموالهم إلا ما حملته الإبل من الأمتعة فقط، إلا السلاح فلا يحملوه أيضًا معهم؛ وأخرج البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم ((أجلى بني النضير وأقرَّ بني قريظة؛ حيث منَّ عليهم بالبقاء، فلما غدروا وقاتلوا، قتل رجالهم، وقسم نساءهم سبايا على المسلمين))؛ [رواه البخاري]، وكان بنو النضير لديهم ستمائة من الإبل، فاحتملوا عليها ما احتملت من الأمتعة، وكانوا قبل خروجهم من بيوتهم يهدمونها؛ ليخربوها على المسلمين، وليحملوا أيضًا ما يرونه نافعًا لهم، ثم خرجوا من المدينة إلى خيبر، وهم في حال من الصَّغار والذل، وسار بعضهم إلى الشام، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تركوه من السلاح، فكان عداده خمسين درعًا، وثلاثمائة وأربعين سيفًا، وخمسين قطعة من السلاح، وكانت أموالهم وأرضهم خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم يضعها حيث يشاء؛ لأنها فيء، وليست غنيمة؛ فالفيءُ ما حصل بدون قتال، والغنيمة ما حصل بقتال، ووضعهم مع بني النضير هو بدون قتال فصار فيئًا، فصار خالصًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثرها للمهاجرين؛ نظرًا لحاجتهم المادية، وجعل بعضها في السلاح في سبيل الله، وأنزل الله عز وجل في بني النضير سورة الحشر فهي عرضت حالهم؛ فذكر الله تعالى ما أصابهم الله به من الهزيمة، وما سلط عليهم من الرعب، ثم ذكر حكم الفيء، وذكر أيضًا المنافقين ذامًّا لهم؛ لإخلافهم الوعد، وهذا من صفات المنافقين البارزة، ثم ضرب لهم مثلًا قبيحًا شنيعًا؛ حيث شبههم بالشيطان.

وأخرج البخاري عن سعيد بن جبير رضي الله عنه، قال: ((قلت لابن عباس عن سورة الحشر، قال: نزلت في بني النضير))، وفي رواية أخرى في البخاري؛ قال ابن عباس: ((قُلْ سورة النضير))؛ قال الحافظ في الفتح: "كأنه كره تسميتها بالحشر؛ لئلا يظن أن المراد به يوم القيامة، وإنما المراد بالحشر إخراج بني النضير وحشرهم وإجلاؤهم، وبإجلائهم ارتاح المسلمون من شرورهم، ومن الغزوات أيضًا التي حدثت بعد أحد ما يسمى بغزوة بدر الأخرى، وكانت في شعبان من السنة الرابعة؛ حيث خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه ألف وخمسمائة رجل من الصحابة إلى بدر لموعده الذي كان واعد به أبا سفيان يوم أحد، واستخلف على المدينة عبدالله بن عبدالله بن أبي بن سلول، وكانت بدر مجتمعًا يجتمع فيه العرب، وسوقًا من أسواقهم، وخرج أبو سفيان من مكة في ألفي رجل من قريش متجهًا إلى بدر، ومعهم خمسون فارسًا؛ للقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وحربه، وكان أبو سفيان كارهًا للخروج، حتى إذا وصلوا إلى عسفان، ثم ألقى الله تعالى في قلوبهم الرعب، فرأى أبو سفيان أن يرجع بهم، فقال لهم معتذرًا: "يا معشر قريش، إن هذا العام عام جدبٍ، ولا يصلحكم إلا عام خصب ترعَون به الشجر، وتشربون اللبن، وإني راجع فارجعوا"، فرجع الناس، وكان المسلمون قد أخذوا معهم بعض التجارات لموسم بدر، فأرسل أبو سفيان رجلًا ليخذِّل المسلمين عن الخروج، ووعده بعشرين بعيرًا، فقدم هذا الرجل المدينة فبدأ يخذل المسلمين ولكن لم ينخذل له أحد، فخرجوا حتى أقاموا في بدر ثمانية أيام، وباعوا تجارتهم في موسم بدر، وربحوا؛ ولهذا قال الله تعالى: ﴿ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ ﴾ [آل عمران: 174]، على حين أن بعض أهل العلم قالوا بأن هذه الآية ليست هنا، وإنما هي نزلت في خروجهم لحمراء الأسد.

ثم بعد ذلك رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر إلى المدينة، وسمعت قريش بخروجه إلى بدر فأصابهم من الرعب ما أصابهم، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين، وأيضًا كذلك مما حدث في تلك الفترة بين أحد والخندق زواجُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم سلمة رضي الله عنها؛ فقد تزوجها في شوال من السنة الرابعة للهجرة؛ وهي هند بنت أبي أمية، وذلك بعد انقضاء عِدتها من أبي سلمة وهو ابن عمها، وكانت تقول بعد وفاة أبي سلمة: ومن خير من أبي سلمة؟ فلما أن استرجعت، وقالت ما يُشرع للمصاب أن يقوله؛ وهو: ((اللهم أجرني في مصيبتي، وأخلف لي خيرًا منها)) ففعلًا استجاب الله دعاءها، وأخلف عليها خيرًا من أبي سلمة؛ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فتزوجها النبي عليه الصلاة والسلام، زوجها ابنها عمر، وقيل: سلمة، وفي ذات يوم جاءت أم سلمة بصَحْفَةٍ فيها طعام إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فجاءت عائشة رضي الله عنها ملتفة بكساء، ومعها حجر، فكسرت الصحفة، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم بين فلقتي الصحفة، وقال: ((غارت أمكم، غارت أمكم))، ثم أخذ صحفة من عائشة وبعثها إلى أم سلمة، وأعطى عائشة صحفة أم سلمة المكسورة، ومما حدث أيضًا كذلك بين أحد والخندق غزوة دُومة الجندل، وهي بضم الدال لا بفتحها؛ وهي موضع بين المدينة والشام، وقد كانت في ربيع الأول من السنة الخامسة، وسببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه أن بدومة الجندل عددًا من القبائل، وكانوا يظلمون من مرَّ بهم، وينهبون ما معهم من أموال، وأنهم أيضًا يريدون مهاجمة المدينة، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، وخرج ومعه ألف من المسلمين، فكانوا يسيرون بالليل، ويستترون بالنهار، ومعه دليل يُقال له: مذكور، فلما قربوا من دُومة الجندل، هجموا على ماشيتهم ورُعاتهم، فأصابوا ما أصابوا، وهرب من هرب، فلما علِم أهل دُومة الجندل بذلك، تفرقوا وخرجوا، فنزل بساحتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأقام أيامًا وأسر منهم رجل فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام، فأسلم، ثم رجع النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة إلى المدينة، ولم يلقوا حربًا.

وهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أعاد للأمة هيبتها بين الأمم والشعوب، بعد أن ضعفت من خلال ما وقع في غزوة أحد، وهذا كله من نصر الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام وعباده المؤمنين، فهو معهم أينما كانوا ينصرهم ويؤازرهم، ويكبت عدوهم، والله عز وجل متم نوره، ولو كره الكافرون.

إخواني الكرام، إن الحديث عن السيرة حديث لا يُمل، وفيه دروس وعِبر، وفيه حكم وأحكام، وفيه مفاهيم ومقاصد جليلة رائعة، فلعلنا نتطرق لشيء من الدروس والعبر مما سبق، ونستكمل الحديث عن السيرة في الحلقة القادمة بإذن الله تعالى؛ فمن هذه الدروس ما يلي:
الدرس الأول: بيان شؤم النفاق والمنافقين، وذلك من خلال مواقف كثيرة؛ ومنها: رجوع عبدالله بن أبي بن سلول بثلث الجيش في غزوة أحد، وكذلك وعودهم المتتالية لبني النضير أن ينصروهم ويقاتلوا معهم، ولكنهم تخلَّوا عنهم في الساعة الحرجة، وأيضًا قد ذمهم القرآن، وإن كان فيهم بلاغة وفصاحة، وقد تعجبك أجسامهم إلا أنهم - كما وصفهم القرآن - كالخُشُب المُسَنَّدة، فهم لا يقومون بأنفسهم، كما أن هذه الخشب لا تقوم إلا بالجُدُر، وكذلك المنافقون لا يقومون إلا على أكتاف الآخرين، فمن النفاق العملي الكذبُ، وقد كذبوا على النبي صلى الله عليه وسلم في شهادتهم؛ وقد قال الله تعالى عنهم: ﴿ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ﴾ [المنافقون: 1]، وقد كذبوا حتى على من يوالونهم، وهم بنو النضير، فاحذر صفاتهم؛ فمن صفاتهم الكذب، والغدر، والخيانة، والخلف في الوعد، والفجور في الخصومة، فكلها صفات سوداء ليس فيها بياض، فمن كان فيه خَصلة منها، كان فيه خصلة من النفاق، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة المنافقون في يوم الجمعة؛ قال أهل العلم في حكمة ذلك: ليحذر المؤمنون النفاق، ولعله أن يرجع المنافقون عن نفاقهم، فهم أتعبوا أنفسهم في العمل، ولكن ليس لهم منه مثقال ذرة، فعندما تسمع عنهم أو تقرأ، فإنك ضرورة تحمد الله تبارك وتعالى أن عافاك وتسأله الثبات.

وعقوبة المنافقين قال الله عنها: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ﴾ [النساء: 145]، فكيف يقر للمنافق قرارٌ، وهو يقرأ ويَعْلَم مثل ذلك؟ نسأل الله تعالى العافية والسلامة والثبات على الحق.


الدرس الثاني: كانت القوة عند المسلمين عزيزة وعارمة؛ وذلك لأنهم على الفطرة الربانية، ولقد وعد الله تعالى أن ينصر من ينصره؛ فقال تعالى: ﴿ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ﴾ [الحج: 40]، بخلاف من خالف أمره واتبع هواه، فإن الله تعالى يضعفه؛ وذلك أن الأمر كله لله، فهو يمد أولياءه بنصره لهم، وتسديده، وتيسيره، ويمنع ذلك لأعدائه، وأما إن حصل خلاف ذلك، فهو ابتلاء للفريقين أو لخللٍ عند الأمة المسلمة، فأفعاله عز وجل كلها حكمة، ومن شواهد إمداد الله تعالى لعباده المؤمنين أن النبي صلى الله عليه وسلم في غزواته يتوجه إلى ربه بالدعاء؛ كما حصل ذلك في غزوة بدر وغيرها، فيمدهم الله عز وجل بالملائكة، أو بالسكينة، أو بالثبات، أو بالنصر المبين؛ كما حصل في حمراء الأسد ودومة الجندل وغيرهما، وإن كان هذا على مستوى الجماعة والأمة، فإن ذلك أيضًا يحصل لعباده على مستوى الأفراد؛ فقد ورد في الحديث القدسي: ((وأنا معه إذا ذكرني))؛ [رواه البخاري]، وإذا كان الله تعالى معه، فإنه ييسر أموره وينصره ويوفقه ويسدده، فهذه المعية هي بهذا المعنى؛ بالنصر والتسديد، والتيسير والتوفيق لهذا الذاكر؛ فلْنُكْثِرْ من ذكر الله تعالى عند قضاء حوائجنا وشؤوننا؛ ليكون الله عز وجل معنا على مقتضى هذا الحديث الصحيح، وهذا الذكر أيضًا هو مما يمنعنا أن نظلم الناس أو نغشهم أو نأخذ ما ليس لنا، إن كان في القلب تقوى وخوف من الله تعالى، فما أجمل أن يذهب أهل البيت، ويخرجوا كلهم ذاكرين لله تعالى؛ فالأب يذهب إلى عمله وهو يلهج بذكر الله عز وجل، والابن يذهب إلى مدرسته وهو يتلفظ بهذا الذكر، والبنت كذلك تذهب إلى مدرستها وهي تحرك لسانها بالذكر! فما أجملها من حال وأسعدها من لحظات، فسيكون الله تعالى معهم جميعًا يطمئنهم وييسر أمورهم، فلنكن - معاشر الآباء والأمهات - كذلك نحن وأولادنا، ولنقم بتذكيرهم دائمًا بهذا الحديث وهذه الصفة.


الدرس الثالث:موقف أسري حكيم من خلال ما حصل من عائشة في إناء أم سلمة رضي الله عنهما، وهما زوجتان لهذا النبي الكريم، فلما جاءت أم سلمة بصحفة فيها طعام، كسرتها عائشة بحجر، فلما حصلت تلك المشكلة في بيت النبوة لم يزد النبي صلى الله عليه وسلم أن قال: ((غارت أمكم))؛ قالها مرتين، فتلك العبارة على قصرها أوضحت السبب، وذكرت الاعتذار، وهدَّأت الموقف، وأنهت الخصومة، ثم أبدلها بصحفة أخرى من عائشة، إن المشاكل الأسرية لا تنتهي، ولو وقف الزوجان مع كل مشكلة لتعبا وأتعبا، واختلفا ولم يتفقا، فهذه الحادثة هي تقدير من رب العالمين؛ لتكون بيانًا للعباد في التعامل، فيا أخي الكريم عندما تحصل أي مشكلة أسرية مع الزوجة أو غيرها، فلا تستعجل بما تريد فعله، بل أولًا اضبط انفعالك وتعرَّف على المآلات والعواقب، ادرأ المفسدة الكبرى بتحمُّل المفسدة الصغرى؛ فإن التربويين يقولون لا تصدر قرارك خلال بداية حصول الموقف، فإن تلك اللحظة هي حرجة وغير متفاهمة في الغالب، ويؤزُّها الشيطان أزًّا فتعرف على السبب، وحاول الهدوء وعدم الانفعال؛ لأننا حين نوصيك بهذا نعلم أن الأسرة هي المستقر والمقر المتين لذويها، فإذا تشتت لحصول مشكلة بسبب أنه لم يفهم بعضهم مقصود الآخر، أو استعجل أحدهم بتصرف غير مدروس، ولم يعذره الآخر، فإن هذا التشتت له أبعاده السلبية؛ فالتعامل مع الأسرة يختلف في الجملة عن التعامل مع الآخرين، فالأقربون أولى بالمعروف، ويا ليتنا في كلام بعضنا مع بعض حول مشكلة ما نأخذ بهذه القاعدة، وهي قاعدة رائعة جميلة ذهبية، تُروى عن الشافعي رحمه الله حيث يقول: "قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب"، لكن البعض - هداهم الله - يتعامل بقاعدة أخرى سلبية؛ وهي: رأيي صواب لا يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ لا يحتمل الصواب، ففرقٌ بين القاعدتين؛ فالأولى تحملك على التفاهم والتأمل والتأني، وأما الثانية، فهي تغلق عليك تلك الصفات الجميلة؛ فقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((غارت أمكم))، هما كلمتان فقط، لكنهما أنهيا مشكلة بين بيتين من بيوت أزواجه عليه الصلاة والسلام، فما أجمل التفاهم والاعتذار، والتقبل والاعتراف، فلو كنا كذلك لزالت كثير من المشاكل الأسرية، وحصل الاطمئنان والسكون، فقد تفرقت أسرٌ بأسباب تافهة، من خلال أرشيف المحاكم، وجهات الإصلاح والمصلحين، وتم لمُّ الشمل بحمد الله تعالى لكثير منها عندما ساد الهدوء والتفاهم، وعرف كل منهم فضل الآخر، وعرفت مآلات الأمور في الأولاد والأحفاد، فاللهم لك الحمد كثيرًا على ذلك.

وإن مما يستحق الإشارة إليه في الجو الأسري أن نربي أنفسنا على ثقافة الحوار الجيد، وأيضًا على التغافل الإيجابي، وكذلك على التشجيع والتحفيز عند الإنجاز، وأيضًا على استدامة الدعاء بعضنا من بعض، وأيضًا ألَّا ننسى الفضل بيننا، وأن نعلم أن خيرنا هو خيرنا لأهله، وكذلك أن نقوم بتحميل أولادنا للمسؤوليات ليتعلموها، وأن يكون الشكر سائدًا بيننا أكثر من العتاب، مع استحداث جلسات تجمعنا، نتجاذب فيها أطراف الحديث، إن الاهتمام بهذه وأمثالها يبني الأسرة ويعززها، وأيضًا كذلك يزيل مشاكلها، ويجمع شملها، وقد تمثلت هذه الصفات في أسر، فنجحت وسعدت، وقد فقدتها بعض الأسر، فاختلفت، وربما فشلت، اللهم أجمع شملنا على الهدى والتقى، وأصلح نياتنا وذرياتنا، وبارك لنا وعلينا يا رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 27-10-2022, 09:21 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,855
الدولة : Egypt
افتراضي رد: خاتم النبيين

خاتم النبيين (24)
الشيخ خالد بن علي الجريش




الحلقة الرابعة والعشرون من برنامج خاتم المرسلين

غزوة الخندق


بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، أما بعد:
فمرحبًا بكم أيها المستمعون والمستمعات الكرام في برنامجكم خاتم النبيين، وقد تعرضنا مستمعي الأكارم في الحلقة الماضية إلى حادثة الإفك التي أشاعها المنافقون، وهي في غزوة بني المصطلق، وكيف نزل القرآن مبينًا الحق من الباطل، وكيف كان ذلك خيرًا لبيت النبوة? وذكرنا الدروس المستفادة من تلك الواقعة العظيمة، ونستأنف في هذه الحلقة غزوة الخندق التي صاحبتها المخاوف والظروف من كل جهة، وضاقت على المؤمنين، ولكن الله عز وجل أعانهم بنصره وتأييده، وقد حدثت هذه الغزوة في السنة الخامسة من الهجرة، وتسمى أيضًا غزوة الأحزاب، فسُميت بالخندق لأجل الخندق الذي حُفر الذي أشار إليه سلمان الفارسي رضي الله عنه، وأمَر به النبي صلى الله عليه وسلم، وسُميت أيضًا بالأحزاب؛ لأن طوائف المشركين تحزَّبوا على المسلمين كغَطَفان وقريش واليهود وغيرهم، وسبب تلك الغزوة أن نفرًا من كبار اليهود من بني النضير الذين أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى خيبر، ومنهم حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق، وكنانة بن الربيع وغيرهم، خرج هؤلاء إلى مكة واجتمعوا بأشراف قريش، وحرَّضوهم على حرب النبي صلى الله عليه وسلم، فوعدوهم أولئك من أنفسهم الإعانة والنصرة، ثم خرج هؤلاء النفر من اليهود إلى بقية قبائل اليهود، فاستجابوا لدعوتهم، فحصلت تلك الغزوة وهي غزوة الخندق، وقد خرجت قريش بعد أن تشاوروا في دار الأرقم، وعقدوا اللواء فيه، وقادوا معهم ثلاثمائة فرس وألفًا وخمسمائة بعير، وخرجوا يقودهم أبو سفيان، وكان في طريقهم بنو سليم، فخرجوا معهم وهم سبعمائة رجل، وأيضًا خرج معهم أيضًا بنو فزارة وهم ألف رجل، وكذلك خرج معهم بنو مرة وهم أربعمائة رجل، وخرج معهم أيضًا أشجع وهم أربعمائة رجل، وخرج معهم أيضًا آخرون، فكان جميع من خرج يصل إلى عشرة آلاف مقاتل، فاتجه هؤلاء جميعًا نحو المدينة على ميعاد تعاهدوا عليه مع قبائل اليهود هناك، وقبل خروج الأحزاب من مكة، قدم ركب من خزاعة إلى المدينة، وأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بأمر الأحزاب وخروجهم، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة رضي الله عنهم، واستشارهم في ذلك، فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر الخندق، وقال: كنا بفارس إذا حصرنا خندقنا علينا، فأعجب بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بحفر الخندق، وكانت المدينة محاطة من كل نواحيها إلا الناحية الشمالية، فحفر الخندق منها، وجعل الرسول صلى الله عليه وسلم لكل عشرة رجال أربعين ذراعًا يحفروه، وشرع المسلمون في حفر الخندق في جو بارد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يشاركهم في ذلك، ويحمل التراب بنفسه عليه الصلاة والسلام، وقد رأى ما بهم من الجوع والتعب، فقال: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة، فقالوا هم: نحن الذين بايعوا محمدًا على الجهاد ما بقينا أبدًا؛ متفق عليه. وواصل المسلمون حفرهم للخندق، فهم يحفرون طول النهار، ثم يعودون في ليلهم إلى أهليهم ليرتاحوا ويطعموا.

وقد ربطوا على بطونهم الحجارة من الجوع، وأما المنافقون فكانوا يتأخرون في العمل ويثبِّطون عزائم المسلمين، ويتسللون عن العمل بلا إذنٍ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويذهبون إلى أهليهم، وفي هذه الغزوة حصلت معجزات عظيمة للنبي صلى الله عليه وسلم، فمن هذه المعجزات ما رواه البخاري عن جابر رضي الله عنه قال: كنا نحفر الخندق، فعرضت لنا كدية؛ أي حجر كبير، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم عجزوا عنه، فقال عليه الصلاة والسلام: إني نازل، ثم قام وبطنه معصوب بحجر، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول، فضرب الحجر على ضخامته، فما كان من الحجر إلا أن كان كثيبًا؛ أي رملًا لينًا، فحفروه، فسبحان من قدرته عمَّت كل شيء.

والمعجزة الثانية تكثير الطعام، ففي البخاري ومسلم أن جابرًا رضي الله عنه لما حفر الخندق، قال: رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه جوعًا شديدًا، فذهبت إلى امرأتي، فقلت: هل عندك شيء? فإني رأيت برسول الله صلى الله عليه وسلم جوعًا شديدًا، فأخرجت قليلًا من الشعير ولنا بهيمة صغيرة، فذبحتها ثم وضعناها في البرمة، فذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وساررته، فقلت: يا رسول الله، لقد صنعت طعامًا قليلًا، فتعالَ أنت ونفر قليل معك، فصاح النبي صلى الله عليه وسلم بأهل الخندق جميعًا، وقال: يا أهل الخندق، إن جابرًا قد صنع سؤرًا؛ أي: طعامًا، فحيَّ هلًا بكم، وكان عددهم ألف رجل، فقال جابر: إنا لله وإنا إليه راجعون، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لا تُنزلنَّ برمتكم، ولا تَخبزن عجينكم حتى أجيء، قال جابر: فجئت وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل الخندق وكان عددهم ألف رجل، فقلت لامرأتي في ذلك، فعاتبتني وقالت بك وبك، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فبصق في العجين وفي البرمة، وبارك فزاد الطعام حتى فاض.

قال جابر: فأقسم بالله لقد أكلوا حتى شبعوا وتركوه وانحرفوا، وإن برمتنا لتغط باللحم والخبز، فهذا شيء من معجزاته عليه الصلاة والسلام يقرأها المسلم، فيزداد ثباتًا وإيمانًا ويقينًا.

واستمروا على حفر الخندق مدة اختلف فيها أهل السير، فبعضهم قال ستة أيام وبعضهم قال أكثر من ذلك، وبعضهم قال: إن الخندق استغرق شهرًا لحفره.

ويجمع بين تلك الروايات بأن بعض المجموعات فرغت بستة أيام من نصيبها، وأخرى استمرت إلى شهر، وتكامل حفر الخندق قبل وصول جيش المشركين إلى المدينة، وبعد حفر الخندق وصل جيش المشركين الذي يصل تعداده إلى عشرة آلاف مقاتل، فنزل بعضهم وهم أربعة آلاف في أعلى المدينة، ونزل ستة آلاف في أسفلها إلى جهة أحد، ولهذا قال الله تعالى: ﴿ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ﴾ [الأحزاب: 10].

وخرج إليهم المسلمون بجيش تعداده ثلاثة آلاف مقاتل، فمكثوا قرب جبل سلع، وجعلوا وجوههم إلى العدو والخندق بينهم وبين عدوِّهم، فضربت للنبي صلى الله عليه وسلم قبة، وكان على حراستها عدد من الأنصار، وقدم المشركون بجيشهم ورآهم المؤمنون، فقال الله تعالى عن ذلك: ﴿ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 22] ﴿ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 22]، ولما رأى المشركون الخندق دهشوا وتعجبوا، وقالوا: إن هذا ليس معروفًا عند العرب، فأخذوا يتجولون عند الخندق ليدخلوا فعجزوا، والصحابة رضي الله عنهم يقذفونهم بالنبل، وأقاموا على ذلك بضعًا وعشرين ليلة لم يحصل حرب إلا الضرب بالنبل، وفي هذه الأثناء أمر أبو سفيان وهو زعيم المشركين حيي بن أخطب أن يذهب إلى زعيم بني قريظة وهو كعب بن أسد، ليأمره بنقض العهد مع محمد، فأبى عليه كعب إضافته وأبى عليه النقض، فَأَلَحَّ عليه حيي حتى تكلم معه، فذكر له نقض العهد مع وانضمامه إلى جيش الأحزاب، فقال زعيم بني قريظة: ما أنا بناقض العهد مع محمد، فلم أجد منه إلا وفاءً وصدقًا وعدلًا، فما زال به يُلح عليه ويعرض عليه المغريات حتى نقض العهد بنو قريظة، ودخلوا مع المشركين، فلما بلغ ذلك الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم أرسل الزبير بن العوام ليتأكد من الخبر، فجاءه بخبرهم وأنهم نقضوا العهد، وكان حصل للمسلمين في تلك الغزوة موقف عصيب وشديد؛ حيث تكالبت عليهم الأحزاب من كل جهة مع خوف شديد وجوع كذلك، وأجواء باردة شديدة، ولهذا قال الله تعالى: ﴿ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ﴾ [الأحزاب: 10، 11].

فالموقف عصيب وشديد، ويزيد ذلك شدةً أن المنافقين من الداخل يخلخلون الصف قائلين: ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورًا، وبعضهم يشجع على الفرار، فمنهم من يستأذن ومنهم من لا يستأذن مع عهودهم السابقة ألا يرجعوا.

ومما زاد الخوف شدةً نقض بني قريظة للعهد، فقد خاف المسلمون على المدينة من هذا النقض الذي حصل في هذا الموقف العصيب، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم من الجيش ثلاثمائة رجل يحرسون المدينة من بني قريظة أن يُغيروا عليهم، ولكن مع تلك الشدة العصيبة والموقف الشديد كان المسلمون موقنين بأن الأمر بيد الله، وأنه سينصرهم ويفرِّج كربهم ويعينهم، ولهذا قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانًا وتسليمًا، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم يبشِّرهم بقوله: والذي نفسي بيده، ليفرجنَّ عنكم ما ترونه من الشدة، واني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق آمنًا، وأن يدفع الله إليَّ مفاتيح كسرى وقيصر، ولتُنفقنَّ كنوزهما في سبيل الله، فيا تُرى ما الذي حصل بعد تلك الشدة العصيبة والمواقف الشديدة والخوف، والجوع والبرد وقلة عدد المسلمين، وكثرة عدد المشركين، وتكالُب المشركين على المسلمين من كل جانب، ما الذي حصل بعد هذا? هذا ما سنعرفه إن شاء الله تعالى في الحلقة القادمة، ونختم حلقتنا هذه ببعض الدروس والعبر مما سبق عرضه، فمن ذلك ما يلي:
الدرس الأول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق يشاركهم في إعداده وحفره، فلم يكن موقفه موقف المتفرج، وإنما كأنه واحد منهم، فهو بذلك يشجعهم ويحفزهم، ويكون مكان القدوة لهم، فما أحوجنا في أوامرنا لأولادنا أو لغيرهم أن نكون ممتثلين لما نأمرهم به، ويرونه عيانًا فينا؛ ليتشجعوا على التنفيذ، فإن من أهم العوامل في التربية الأسرية هو التربية بالقدوة، وهي ترجمة الأقوال والتوجيهات إلى واقع أسري إيجابي يراه الأولاد، فيقتدون، وهو وقاية وعلاج في آن واحد، لذا أعتب على بعض أحبابنا من الآباء والأمهات والمربين الذين يأمرون مَن تحت أيديهم بعمل حسن، ثم يرى هؤلاء المتربون عملًا مخالفًا، فإن التربية حينئذ تكون هزيلة وضعيفة، وذلك كمن ينهى عن الكذب ويسمعونه يكذب، أو ينهى عن السب ويسمعونه يسب، ونحو ذلك من الأقوال والأفعال، فالنبي صلى الله عليه وسلم في حفر الخندق عندما أمرهم ووجَّههم، وبدؤوا العمل، وكان عليه الصلاة والسلام واحدًا منهم، والبعض من الآباء وهو موضع القدوة، قد يعمل عملًا مشينًا أمام الأبناء كالتدخين وسماع ما لا يحل سماعه، أو يتحدث مع أحد بكلام سيئ، فهؤلاء سيقتدون به؛ لأنه أمامهم موضع القدوة، فلينتبه لذلك وُفِّقتم وبوركتم.

الدرس الثاني: إن النتائج الطيبة والمخرجات المتميزة تحتاج إلى الجهود الجبارة والتعب وتحمُّل المشاق بعد توفيق الله تعالى، أما من يطلب ذلك بدون جهود تُذكَر، فهو في الغالب قد لا يتحصل عليها، فالصحابة رضي الله عنهم بذلوا جهودًا عظيمة في حفر الخندق، فحماهم الله عز وجل، فشبابنا وأولادنا الكرام الأفاضل يتطلعون إلى معالي الأمور في دينهم ودنياهم، ولكن نَهمس في أذانهم بأن هذا يحتاج منكم وفَّقكم الله إلى جهدٍ وصبرٍ، وعدم استعجال، ويحتاج أيضًا إلى نظر في العواقب، وتخطيط واهتمام وتفاؤل، أما من يريد تلك المعالي وهو لم يقدِّم ما يوازيها، فقد لا يحصل له ذلك، فالبداية المحرقة تكون لها بإذن الله تعالى النهاية المشرقة، وعلى الآباء والأمهات الكرام تثقيف أولادهم في ذلك مما مارسه الوالدان في سابق عملهم، وأيضًا مما اكتسبوه من معرفتهم وتجاربهم.

الدرس الثالث: في هذه الغزوة حدث عددٌ من المعجزات لنبينا عليه الصلاة والسلام، وهذه المعجزات هي من دلائل النبوة وأدلتها، وإذا قرأها المسلم زاده إيمانه بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقد أسلفنا في ثنايا تلك الحلقة بذكر بعض المعجزات؛ كزيادة الطعام، وقصة الحجر في الخندق وغير ذلك، فعلى المسلم أن يكون له اطلاع على تلك المعجزات، فإذا علمها وتأمَّلها زاد إيمانه، والعلم بها من أسباب الثبات على دين الله؛ لأنها خارقة للعادة، وهي أدلة على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وكم هو جميل أن يطلع عليها الأولاد ليقوى إيمانُهم? وهي أسلوب قصصي مرغوب، وفيها مظاهر عديدة من مظاهر قدرة الله تبارك وتعالى؛ حيث أجرى تلك الخوارق على يد نبيه صلى الله عليه وسلم نصرًا له وتأييدًا وتسديدًا.

الدرس الرابع: يظهر من خلال تلك الغزوة قوة إيمان الصحابة رضي الله عنهم؛ حيث أَلَمَّت بهم المخاوف من كل وجه، فالتحزب من المشركين واليهود، وأيضًا كثرة العدد في العدو، وأيضًا قلة المعيشة، وكذلك الأجواء الباردة، وكذلك نقض بني قريظة للعهد، وأيضًا إتيان المشركين للمسلمين من فوقهم ومن أسفل منهم، فالوضع حرج جدًّا، ولكن هذه المخاوف والمظاهر هي ضئيلة مقابل ما امتلأت به قلوب المسلمين من الإيمان، وحب الله تعالى ورسوله، واستشعارهم أن الله عز وجل معهم ينصرهم ويسدِّدهم، وييسِّر أمورهم، ولذلك ما زادهم هذا إلا إيمانًا وتسليمًا، وهكذا المؤمن الحق إذا حصل له مخاوف، فيتجه إلى تعالى ويكثر من ذكره وعبادته، ويعلم أن الله عز وجل معه، ويستشعر ذلك ويتفاءل، فتنقلب تلك المخاوف إلى أقل درجاتها، ولربما تزول هذه المخاوف، وهذا الاستشعار وذلك التفاؤل يعطي العقل الباطن إيجابية وتحفيزًا واطمئنانًا وَسَعة، وذلك بخلاف من اشغل عقله وفكره بالتشاؤم، فهو قد ملأ داخله بالرسائل السلبية التي لا منتهى لها، فإذا حصل لك موقف تكرهه فلا تستدرج معه، بل انظر النقطة الإيجابية فيه، وانطلق منها بالتفاؤل، فسيخف كثيرًا، ولا فرق بين التفاؤل والتشاؤم من حيث العمل، إلا ما يقع في العقل من التأمل، فاجعله إيجابيًّا لا سلبيًّا، فهؤلاء الصحابة رضي الله عنهم حصل لهم تلك المواقف الحرجة، فانطلقوا بالتفاؤل مبتدئين بمعيَّة الله تعالى لهم، وأنه لن يتخلى عنهم، ومسترشدين بتوجيه هذا النبي الكريم لهم.

إن التفاؤل مسكن فعَّال لكثير من المشاكل الحاضرة والمستقبلية، فإذا صحبه الدعاء كان أكثر فاعلية، فلنتعلم أيها المستمعون الكرام خلقَ التفاعل من خلال مواقفنا، كيف لا? والله عز وجل يقول: ﴿ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 19]، فأوكِل الأمر إلى الله تعالى، وقل: لعله خير لا أعلمه، فستطمئن وترتاح، وتسكن نفس عن الأفكار السلبية.

الدرس الخامس: إن الحق ما شهدت به الأعداء كما يقال، فبنو قريظة قبل نقضهم للعهد، شهدوا للنبي صلى الله عليه وسلم بالوفاء والصدق والعدل، وهكذا المسلم يكون متصفًا بهذه الصفات الطيبة، فهو وفي وصادق وعادل، وتلك الصفات الثلاث هي من مقومات نجاح المجتمع أُسوةً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإذا كان هذا المجتمع يتصف بضدها من الغدر والكذب والظلم، فهو مجتمع مخفق فاشل، فلنستمسك معاشر المستمعين الأفاضل بتلك الصفات الطيبة مع أنفسنا ومع الآخرين من ذوي القربى وغيرهم، وهي من جملة العمل الصالح، ومن جملة الخلق الحسن الذي هو من أعظم أسباب دخول الجنة.

وحينما يتمثل المسلم تلك الأخلاق، فإن الأخلاق الأخرى الحسنة تأتي تبعًا لها، حتى تجتمع فيه المحاسن من الأخلاق، فيا بشراه بذلك، فلنكن جميعًا كذلك، فهو أكثرُ انشراحًا لنفوسنا، وأكثر سكنًا لقلوبنا، وأصفى وأنقى لصدورنا، وها هي سنة نبينا عليه الصلاة والسلام بين أيدينا، فلنَمْتثلها في أفعالنا وأقوالنا؛ لنُفلح في دنيانا وأخرانا، فاقضوا مع أولادكم رحمكم الله الجلسات التربوية في الخلق الحسن؛ ليتعلموه منكم وينشؤوا عليه، وذلك بالأسلوب المناسب لهم، مع الاستشهاد بالقصص والمواقف، فسيزيد برُّهم بكم من خلال تلك الجلسات الطيبة، اللهم أصلحنا، وأصلِح لنا، وأصلح بنا.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 27-11-2022, 11:04 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,855
الدولة : Egypt
افتراضي رد: خاتم النبيين

خاتم النبيين (27)
الشيخ خالد بن علي الجريش



الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد:
فمرحبًا بكم أيها الكِرام في برنامجكم خاتم النبيِّين، ففيما سبق أيها الأكارم ذكرنا غزوة بني قريظة، وكيف شاركت الملائكة الكرام في بثِّ الرعب في قلوب اليهود؟ وكيف تعامل معهم النبي صلى الله عليه وسلم؟ وبماذا أيضًا حكم فيهم؟ وما آثار ذلك الحكم العادل، وذكرنا أيضًا فضائل سعد بن معاذ رضي الله عنه.

وأيضًا ذكرنا قدوم وَفْد من أشجع على النبي عليه الصلاة والسلام، وإسلامهم، ووصايا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام لهم، وذكرنا أيضًا غير ذلك مع ما هو مستفاد من الدروس والعِبَر، وفي حلقتنا هذا الأسبوع نتعرَّض لعددٍ من السرايا والبعوث التي حدثت بعد غزوة الخندق؛ حيث كانت تلك السرايا في العام السادس من الهجرة، فقد قويَتْ شوكةُ المسلمين، وعزَّ شأنُهم، وخافهم القاصي والداني، فحيث فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحزاب وبني قريظة، انكسرت شوكة اليهود وقريش، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث الحملات الدعويَّة للقبائل، وأيضًا هي كذلك تأديبية لبعض القبائل التي كانت قد عزمت على غزو المدينة والإغارة عليها، فمن ذلك سرية محمد بن مسلمة في ثلاثين رجلًا بعثهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى القرطاء، وهم بطن من بني بكر، فخرجوا إليهم وقد آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فلمَّا وصلوا إليهم أغاروا عليهم خفيةً، فما كان من هذا البطن إلا أن هربوا وقُتِل منهم عددٌ من الرجال، وأخَذَ الصحابةُ الإبلَ والغنم والشياه غنيمةً، وكان عددُها مائة وخمسين بعيرًا وثلاثة آلاف شاة، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المقاتلين، فإن الله عز وجل سدَّدهم وسلمهم في غزوتهم من أن يُقتَل منهم أحد أو يُؤسَر.

ومن ذلك أيضًا تلك السرية العجيبة وهي قد حدثت في جُمادى الأولى من السنة السادسة؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم قد زوَّج ابنته زينب زوجها أبا العاص بن الربيع، وذلك في مكة قبل البعثة، وكان أبو العاص آنذاك مشركًا؛ حيث كان في مبدأ الأمر جواز نكاح المشركة للمسلم؛ كما ذكر ذلك ابن كثير، فهاجرت زينب إلى المدينة وتركت زوجها المشرك؛ وهو أبو العاص بن الربيع، فلما كان في السنة السادسة بعث النبي صلى الله عليه وسلم سريَّةً تعدادها مائة وسبعون رجلًا، وهدفها اعتراض عِيْر لقريش يقودُها أبو العاص بن الربيع، وكان حينها على شركه، فأدركوها وأخذوها وما فيها من أموال، وكانت تلك الأموال لأُناسٍ من قريش، وهرب بعضُهم وأسروا آخرين، ومنهم قائد العير أبو العاص بن الربيع، وكان أبو العاص من التجار المعدودين، ومن المعروفين بالأمانة، فلما أتوا بأبي العاص إلى المدينة مأسورًا وقد سلب ما معه من المال، ومكث في المدينة ذهب إلى زوجته السابقة؛ وهي زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطلب منها الإجارة، فاستجار بها، وطلب أن تجيره فأجارته، وسألها أن تطلب من أبيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرد عليه ماله، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صلاة الصبح صرخت زينب رضي الله عنها قائلةً: أيها الناس، إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع، فلما سَلَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاة الصبح، قال: ((أيُّها الناس، هل سمعتم ما سمعتُ؟))، قالوا: نعم، قال: ((أما والذي نفسي بيده، ما علمتُ بشيءٍ من ذلك حتى سمعتُ ما سمعتم، إنه يجير على المسلمين أدناهم))، ثم انصرف النبي صلى الله عليه وسلم فدخل على ابنته زينب رضي الله عنها، فقالت له: "إن أبا العاص ابن عم وأبو ولد- تعني: ابن عمها وأبًا لأولادها- فإني أجرته" وطلبت من النبي صلى الله عليه وسلم أن يرُدَّ إليه أمواله التي سُلِبَتْ منه، فقَبِل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استشار السريَّة في ردِّ المال عليه، فقَبِلوا ذلك، فرَدُّوا عليه كل ما أخذوا منه، ثم رجع أبو العاص إلى مكة، وأدَّى إلى كلِّ ذي حقٍّ حقَّه، ثم قال: يا معشر قريش، هل بقي لأحدٍ منكم عندي شيء؟ قالوا: لا، فقد وجدناك وفيًّا كريمًا، ثم قال بعد ذلك: أمَّا أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ثم خرج إلى النبي صلى الله عليه وسلم مهاجرًا في المحرم من سنة سبع من الهجرة، ثم رد إليه النبي صلى الله عليه وسلم زينب رضي الله عنها على النكاح الأول، ولم يحدث شهادة ولا صَداقًا، فقد ورد ذلك عند الإمام أحمد بسند حسن.

وقد كانت زينب رضي الله عنها أسلمت قبله بستِّ سنوات، فإذا أسلم الكافر رجع إلى زوجته بلا عقدٍ ولا صَداق ما دام النكاح صحيحًا بحيث لم يكن بينهما محرمية؛ كالأخت، أو الخالة، أو العَمَّة، ونحو ذلك، وقد أسلم الجَمُّ الغفير في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمرهم بتجديد عقودهم، وقد ذكر ابن عبد البرِّ رحمه الله الإجماعَ على ذلك، وقال ابن القيِّم: ولا نعلم أحدًا جدَّد للإسلام نكاحه البتة، وقد ولدت زينب رضي الله عنها من أبي العاص عليًّا وأمامة فقط.

ومن السرايا التي بعثها النبي صلى الله عليه وسلم سرية عبدالله بن عتيك رضي الله عنه لقتل سلام بن أبي الحقيق؛ وهو أبو رافع، وقد رواها البخاري في صحيحه، وذلك في شهر رمضان من السنة السادسة من الهجرة، وكان سلام ممَّن أعان الأحزاب على المسلمين في الخندق بالمال والعتاد، وكان يُؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فرغوا من الأحزاب استأذن الخزرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل أبي رافع سلام بن أبي الحقيق؛ لشدة إيذائه للإسلام وأهله؛ لا سيما وأن الأوس قد قتلوا سيدًا من سادات اليهود؛ وهو كعب بن الأشرف، فأرادت الخزرج أن يفعلوا مثلهم في قتل أحد ساداتهم؛ وهو سلام بن أبي الحقيق أبو رافع، فأذِنَ لهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فخرج ستة رجال من الخزرج لتنفيذ تلك المهمة، وكان أميرهم عبدالله بن عتيك رضي الله عنه، فخرجوا إلى خيبر حيث حصن أبي رافع سلام بن أبي الحقيق، فلما قربوا من الحصن وقد غربت الشمس، قال عبدالله بن عتيك لأصحابه: اجلسوا مكانكم؛ فإني منطلق إلى بوَّاب الحصن، ومتلطِّف له، لعلي أدخل، فجلسوا وذهب هو إلى الحصن، فلما أقبل على الحصن ودنا منه جلس متنكِّرًا كأنه يقضي حاجته، وقد أظلمت الدنيا قليلًا، وقد دخل الناس إلى الحصن ولم يعلم به البوَّاب، فظنَّه رجلًا منهم، فقال: هيَّا ادخل؛ فإني سأغلق الباب، يقول عبدالله: فتنكَّرتُ ودخلتُ الحصن، ثم اختفيت في مكان الدوابِّ، فلما تكامل الناس داخلين أغلق الباب ووضع مغاليق الأبواب على الحائط، قال عبدالله: فلما نام القوم بعدما سمروا، أخذت المغاليق وهي المفاتيح، وكلما دخلت من باب من أبواب الحصن أغلقتُه؛ حتى لا يتبعني أحد، فمشيت على تلك الحال في الحصن حتى وصلت إلى مكان نوم أبي رافع سلام بن أبي الحقيق، فإذا هو في غرفة مظلمة قد أُطفئ سراجُها، وفيها هو وزوجته، وحيث كان المكان مظلمًا؛ فإني لا أعلم أين مكانه من مكان امرأته، فقلت مُغيِّرًا صوتي: يا أبا رافع، فقال: من هذا؟ فأهويت بسيفي نحو الصوت، فضربتُه ضربةً؛ ولكنها لم تقتله، فصاح صيحةً شديدةً، ثم خرجت قليلًا، ورجعتُ مُغيِّرًا صوتي وكأني من الجند، فقلتُ: ما بك يا أبا رافع؟ فذكر لي أن رجلًا ضربه بسيف، وحينها فلما علمتُ مكانَه من خلال صوته ضربتُه ضربةً أثخنته وقتلته، ثم خرجت مسرعًا مع درج له، فوقعت قدمي فانكسرت ساقي، فعصبتها بعمامة معي، ثم خرجتُ فانتظرتُ حتى أسمع الناعي ينعى قتله وموته، فلما علمتُ ذلك انطلقتُ إلى أصحابي، فقلت لهم: أسرعوا في السير؛ فقد قتل الله أبا رافع، فانتهيتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحدثْتُه، فقال عليه الصلاة والسلام: ((ابسط رِجْلَكَ))، فبسطت رجلي، فمسحها، فكأنها لم تُصَبْ قبل ذلك؛ أخرج القصة البخاري في صحيحه.

أيها الأكارم لعلنا نستنبط مما سبق شيئًا من الدروس والعِبَر، فمن ذلك:
الدرس الأول: كان النبي صلى الله عليه وسلم مهتمًّا بدعوة الخَلْق إلى دين الله تبارك وتعالى، فكان يبعث السرايا لأجل ذلك، ولنا به أسوة وقدوة في دعوة الآخرين إلى الله تعالى أمرًا ونهيًا وبيانًا لمحاسن هذا الدين، واعلم أخي الكريم أن كل مَن دعوته إلى خير فلك مثل أجره؛ حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ دَلَّ على خيرٍ فله مِثْلُ أجْرِهِ))؛ رواه مسلم، فهذا أبو بكر رضي الله عنه دعا الكثيرين إلى الإسلام ومنهم عددٌ من العشرة المبشَّرين بالجنة، فله مثل ما يعملون.

فاجعل لك منهجًا في دعوة الآخرين إلى دين الله عز وجل بقولك وفعلك، ولا تحقرنَّ شيئًا؛ فالداعي والمدعو كل منهم محتاجٌ إلى الآخر، وممَّا يجب أن يتحلَّى به الداعية العلم والحلم والصبر والرفق، فما رأيت من خلل عند أخيك فأتِهِ بالتي هي أحسن، مُوضِّحًا هذا الخَلَل، وذلك في الزمان والمكان المناسبين، فإن استجاب المدعوُّ للداعي فخيرٌ لهما جميعًا، وإن لم يستجِبْ فما على الداعي إلا البلاغ.

وابدأ بدعوتك أسرتك الكريمة مُصحِّحًا مفاهيمهم ناشرًا للخير بينهم، وذلك عبر الوسائل المتاحة؛ وذلك مثل الدرس البيتي مع العائلة، فكم له من الأرباح العظيمة التي يجنيها الأولاد! حيث غشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وحفَّتْهم الملائكة، وزاد علمهم، وزال جهلهم.

وأيضًا كذلك من الوسائل المتاحة وسائل التواصُل الاجتماعي، فالمدعو يتناولها متى شاء وكيف شاء، وهي تدخل إلى البيوت، وتصِل إلى الأشخاص بلا إذنٍ منهم، فما أيسرَها! وأعظمَ أثرَها! وكذلك من الوسائل المتاحة الأحاديث الثنائية بين الداعية والمدعو، فما أجملَ أثرَها إذا اصطحبها الكلام الطيب والابتسامة والتحية.

وكذلك من الوسائل المتاحة إمامة المسجد؛ فللإمام دورٌ كبيرٌ في توعية المأمومين، فكم من الأجور والحسنات يجنيها! من حيث لا يشعر.

ومن الوسائل المتاحة التي لا تُكلِّف شيئًا الدعاء للمسلمين بصلاحهم وإصلاحهم، إلى غير ذلك من الوسائل الدعوية المتاحة، فلنستثمر ذلك في خلال حياتنا اليومية؛ لنكون مجتمعًا واعيًا وداعيًا.

الدرس الثاني: في معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي العاص بن الربيع عندما أجارته زينب مثالٌ كبيرٌ لحسن التعامل مع الآخر؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم عرَف قدْرَه، وقَبِل شفاعة ابنته فيه، وردَّ إليه ما أُخِذ منه؛ ولذلك كان له الأثر الكبير على نفس أبي العاص.

الدرس الثالث: أن زينب رضي الله عنها لم تَنْسَ الفضل بينها وبين أبي العاص؛ حيث كان أبو العاص هو زوجها قبل أن تسلم، فعندما أسلمت وهاجرت فارقته، فعندما جاء إليها وطلب منها الإجارة أجارَتْه، وهذا درس عظيم لنا جميعًا؛ ألَّا ننسى فضل الآخرين علينا حتى ولو أخطأوا، والله عز وجل يقول: ﴿ وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ﴾ [البقرة: 237] فنسيان الفضل نوع من الجهل، فإذا أخطأ أحد في حقِّك يومًا ما فلا تنْسَ فضائله الأخرى السابقة، فتعامله من خلال ذلك الخطأ فقط؛ وإنما له عليك فضائل كثيرة، وأعمال جليلة جميلة في السابق، فخذها بعين الاعتبار، ولعلها أن تغطي ذلك الخطأ، أما أن بعض الناس قد يعامل هذا المخطئ من خلال هذا الخطأ الأخير وينسى الفضائل السابقة؛ فهذا نوع من الجهل.

الدرس الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم قَبِلَ إجارة زينب وهي ابنته، فلم ينهرها، ولم يعاتِبْها، وهذا من محاسن الإسلام، فالتعامل الحسن بين الناس هو عنوان النجاح والفلاح في الدنيا والآخرة بإذن الله عز وجل.

الدرس الخامس: أنَّ أبا العاص لما رأى تلك المعاملة الحسنة من النبي صلى الله عليه وسلم وابنته زينب رضي الله عنها التي هي زوجته قبل إسلامها؛ دعاه ذلك إلى الإسلام، فأسلم رضي الله عنه، وهاجر إلى النبي عليه الصلاة والسلام في المدينة، ورد النبي عليه الصلاة والسلام زوجتَه عليه، وما أكثر المواقف في السابق واللاحق التي يسلم من خلالها كُفَّار عندما رأوا تلك التصرُّفات الجميلة والجليلة! ولعَلَّ موقف أبي العاص نموذج لها.

ومن نماذج ذلك في الوقت الحاضر هذا الموقف التالي؛ وهو أن شخصًا كان يتاجر في الخضار، وكان في طريقه وهو على سيارته أحدُ المارَّة، فطلب هذا الشخص مِن صاحب السيارة أن يُوصِلَه إلى مكانه الذي يريد، فركب معه، وبدأ يتجاذب معه أطراف الحديث، وأشعره صاحب السيارة أنه مستعجل جدًّا، وأن الوقت عنده ضيق؛ ولكنه ذكر له أنه سيُوصِله إلى مكانه احتسابًا للأجر عند الله تبارك وتعالى، فلما وصل إلى مكانه، سأله هذا الرجل- سأل صاحب السيارة-: كم أُجْرتُك على عملك هذا؟ فقال صاحب السيارة: أنا فعلت ذلك؛ لأنَّ ديننا يأمرنا بالإحسان إلى الآخرين، فأعجب هذا الرجل بهذا التعامل، ثم أبدى استعداده لمعرفة الإسلام، وكيف الطريق إليه؟ فذهب به صاحب السيارة إلى إحدى جمعيات الدعوة وتوعية الجاليات في مملكتنا الحبيبة علمًا أن الطريق مزدحم، والوقت ضيق، ومع ذلك أحسن إليه كل هذا الإحسان، فدخل هذا الشخص على تلك الجمعية، فأخذوا معه بالحديث عن الإسلام وقتًا يسيرًا، وأخذ بعض الكتيبات وانصرف إلى بيته، فلما كان من الغد رجع ذلك الرجل إلى تلك الجمعية ليُشهِر إسلامَه لديهم، وكان يحضر دروس الجمعية، ويقوم بزيارتهم بين الفينة والأخرى، ونقل هو أيضًا بدوره فكرةَ الإسلام إلى أصحابه؛ حتى أسلم مِن بعده سبعةٌ من أصحابه، واستمرَّ على نقله الإسلام للآخرين مع ارتباطه بالجمعية عن طريق وسائل التواصل، وانتقل ذلك الرجل المسلم الجديد إلى بلد آخر، فصار داعيةً فيه، وأسلم على يديه خَلْقٌ كثيرٌ، وكل ذلك وثوابه وأجره في موازين هؤلاء الذين كانوا سببًا في إسلامه، وأولهم ذلك التاجر الذي تعامل معه تلك المعاملة الحسنة، فهذا نموذج مُشرِّف في الوقت الحاضر، وعلينا جميعًا أن نحذو ذلك الحذو في التعامل، فالأفعال لا تقل عن مستوى الأقوال في الدعوة إلى الله عز وجل، وهو ما يعرف بالدعوة بالقدوة، وربما اهتدى أو أسلم أحد بسبب عمل مُشرِّف عملته أنت ورآك ذلك المهتدي من حيث لا تشعر، فَلْنُحاسِبْ أنفسنا في تصرُّفاتنا مع الآخرين، وإذا كان هذا النموذج مع غير المسلمين قد أثر هذا التأثير البالغ، فكيف به مع المسلمين؟! فاستثمروا أفعالَكم وتصرُّفاتكم في دعوة الآخرين إلى ذلك الدين القويم، لتحوزوا مثل أجورهم- يارعاكم الله- ولا يلزم أن يكون هذا مع غير المسلمين؛ بل إن تعديل الأخطاء وتصحيح المفاهيم حتى مع المسلمين هذا هو مطلب كبير، وهو سَهْمٌ كبيرٌ من أسْهُم الدعوة إلى الله عز وجل.

الدرس السادس: أنَّ الكُفَّار إذا أسلموا فلا حاجة لتجديد عقود زواجهم؛ وإنما تبقى على عقدها الأول؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُجدِّد عقد أبي العاص لزينب رضي الله عنها، وكثيرٌ من الذين أسلموا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يرِدْ أنه جَدَّد عقودهم، ويقول ابن قدامة رحمه الله: أنكِحةُ الكُفَّار صحيحةٌ، يُقَرُّون عليها إذا أسلموا، ولا ينظر في صفة عقدهم وكيفيته.

وقال ابن عبدالبَرِّ: أجمع العلماء على أن الزوجين إذا أسلما أن لهما المقام على نكاحهما ما لم يكن بينهما نسبٌ يُحرِّم أو رضاع، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنهم إذا أسلموا فلا يستأنفوا في عقودهم وأنكحتهم؛ وإنما تبقى على مقامها الأول.

وهذا مِن يُسْر الإسلام وسماحته؛ حيث إنه دين مُيسَّر، وهذه سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ينبغي لنا أن نتدارسَها، وأن نتناقش فيها، وأن نعقد لها الجلسات مع أهلنا وزملائنا وخلائنا ورحلاتنا، وأن نقرأ في كتب أهل العلم عن هذه السيرة العطرة، وأن يكون لنا معها منهجٌ؛ حيث إنها تشتمل على الكثير من الأمور التوعويَّة والتربوية والفقهية حتى في الآداب والأخلاق، ونفعل ذلك تصحيحًا للمفاهيم، وأيضًا لو جعلت أخي الكريم منهجًا لك في قراءة تلك السيرة النبوية العطرة، فماذا لو قرأت في كل يوم ولو مدة عشر دقائق أو صفحة من كتاب؛ فستدرك بذلك شيئًا كثيرًا وجليلًا وجميلًا من هذه السيرة النبوية في وقت يسير، وعلمًا أن هذا العمل الذي تقدمه مهما كان يسيرًا فإنه طلب للعلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ سَلَكَ طريقًا يلتمِسُ فيه عِلْمًا سَهَّلَ اللهُ له به طريقًا إلى الجنَّةِ))، وماذا لو جمعتَ الأسرة المباركة الكريمة، وجعلت لهم مجلسًا أو مجلسين في الأسبوع؟ تتحدثون فيه أو فيهما عن سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، وتأخذون تلك الأحكام والأخلاق والآداب وما إلى ذلك، وأيضًا تفيدون الآخرين من خلالها، فإن هذا لا شَكَّ أنه عمل تربوي كبير، ينبغي لنا الحرص عليه والتقيُّد به، والحث أيضًا عليه؛ لأنه يُصحِّح أخلاقنا، ويُصحِّح مفاهيمنا، وأيضًا يُصحِّح عباداتنا التي نتقرَّب بها إلى الله تبارك وتعالى، فكم من شخص قد يُصلِّي وفي صلاته خطأ؟ وكم من شخص يتعامل مع أبيه أو أب يتعامل مع أولاده وهذا التعامل خطأ؟ ولو أننا قرأنا وتناقشنا وتحدَّثْنا عن هذه السيرة لتصحَّحَتْ هذه الأعمال، وتناقشنا بما هو فيه خيرنا في الدنيا والآخرة.

اللهُمَّ وفِّقْنا لهُداك، واجعل عملنا في رِضاك، ووفِّقْنا لما تحبُّه وترضاه، وصلَّى الله وسلِّم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 01-03-2023, 09:20 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,855
الدولة : Egypt
افتراضي رد: خاتم النبيين

خاتم النبيين (31)
الشيخ خالد بن علي الجريش





كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والزعماء

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلِّي وأسلِّم على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبه والتابعين، وبعد:
فمرحبًا بكم أيها الكِرام في برنامجكم خاتم النبيين، أيها الأكارم، ذكرنا في حلقة الأسبوع الماضي كيف تحلَّل النبي صلى الله عليه وسلم من إحرامه عندما منع من أداء النسك في صُلْح الحديبية، وعرَّجنا كذلك على نزول سورة الفتح بعد ذلك، وتمَّ أيضًا التوضيح للمصالح في هذا الصلح، وذكرنا قصة أبي بصير رضي الله عنه ومَن معه من المهاجرين، وكيف جاءهم فرجُ الله تبارك وتعالى وتوفيقه؟ وكيف بايَعَ النبي صلى الله عليه وسلم النساء المهاجرات? إلى غير ذلك مع ذكرنا للدروس والعِبَر المستفادة، وفي حلقتنا هذه نتعرَّض لشيء من كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والزعماء.


فلمَّا استقر الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بعد صلح الحديبية كانت الفرصة سانحةً بشكل أكبر للدعوة إلى الله تعالى خارج نطاق الجزيرة؛ فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم الرُّسُل ومعهم الكُتُب إلى رؤساء العرب والعَجَم، يدعوهم إلى الإسلام، فقد روى مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى كِسْرى وقيصر وغيرهما يدعوهم إلى الله تعالى، واتَّخذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتمًا كتب عليه محمد رسول الله، يختم به الكُتُب والرسائل التي يرسلها، وفيما يلي ذكر بعض الملوك والرؤساء الذين أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم تلك الرسائل، فمنهم:
الكتاب الأول:كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ملك الحبشة، واسم النجاشي أصحمة، وأمَّا لقب النجاشي فهو لقب لكُلِّ مَن ملك الحبشة، وأرسل كتابه إليه مع عمرو بن أُميَّة الضمري رضي الله عنه، وأرسل معه كتابينِ: أحدهما يدعوه إلى الإسلام، والآخر يطلب منه فيه أن يبعث إليه مَن عنده من المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة.


وفيما يلي نصُّ رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي، وهي: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب محمد رسول الله إلى النجاشي الأصحم عظيم الحبشة، سلام على مَنِ اتَّبَع الهدى وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لم يتخذ صاحبةً ولا ولدًا، وأن محمدًا عبدُه ورسولُه، وأدعوك بدعاية الله، فإنِّي أنا رسول الله، فأسْلِمْ تسلم ﴿ قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 64] فإن أبيت فعليك إثم النصارى من قومك؛ انتهى الخطاب.


فلمَّا وصل الكتاب إلى النجاشي وقُرئ عليه، أخذ الكتاب فوضعه على رأسه، ونزل عن سريره على الأرض تواضُعًا، ثم أسلَمَ وشهِدَ شهادةَ الحَقِّ، وقال: لولا ما أنا فيه من الملك لأتيتُه حتى أحمِلَ نعليه، ثم رَدَّ النجاشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بإجابته وتصديقه وإسلامه وإيمانه، وأهدى له مع الكِتاب بعض الهدايا، وقد توفي النجاشي رحمه الله في السنة التاسعة في شهر رجب، ونعاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم يوم وفاته، وقال عليه الصلاة والسلام: ((مات اليوم رَجُلٌ صالِحٌ، فقُومُوا فصلُّوا على أخيكم أصحمة واستغفروا له))؛ رواه البخاري.


وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الغائب، وقد نزل في النجاشي قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ} [آل عمران: 199] الآية، وبعد وفاته تولَّى الحبشة نجاشيٌّ آخر، فكتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم كتابًا آخر يدعوه فيه إلى الإسلام.

الكتاب الثاني: كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل ملك الرُّوم، وأرسله مع دحية بن خليفة الكلبي رضي الله عنه يدعوه فيه إلى الإسلام، وأمره أن يدفعه إلى أحد أمرائه ليدفعه إلى هرقل، فلمَّا وصل الكتاب إلى هرقل سأل: هل أحد من قوم هذا النبي عندنا نسأله عنه؟ وكان عنده أبو سفيان مع رجال من قريش في تجارة لهم، فأرسل إليه، فأتوا بهم، فقال هرقل لترجمانه: إني سائله وقل لأصحابه: إن كذب عليَّ فكذَّبوه، فقال أبو سفيان: والله، لولا الحياء أن يأثر أصحابي عني الكذب لكذبْتُ عليه؛ ولكني استحييت منهم فصدقته، وهذا قبل إسلام أبي سفيان رضي الله عنه، فقال هرقل: ما نسبه فيكم؟ قال أبو سفيان: هو فينا ذو نسب، فقال هرقل: هل قال هذا منكم أحدٌ قبله؟ قال أبو سفيان: لا، فقال هرقل: هل كان من آبائه مَلِك؟ قال أبو سفيان: لا، فقال هرقل: وهل يتبعه الأشراف أم الضعفاء؟ قال أبو سفيان: بل يتبعه الضعفاء، فقال هرقل: أيزيدون أم ينقصون؟ قال أبو سفيان: بل يزيدون، فقال هرقل: هل يرتدُّون عنه؟ قال أبو سفيان: لا يرتدُّون، فقال هرقل: هل تتهمونه بالكذب؟ قال أبو سفيان: لا والله، لا نتِّهمه، فقال هرقل: فهل هو يغدر؟ قال أبو سفيان: لا والله، لا يغدر، فقال هرقل: بمَ يأمرُكم؟ قال أبو سفيان: كان يأمرنا بالتوحيد وعدم الشرك، ويأمرنا بالصلاة والصدق والصلة، فقال هرقل: فإن كان ما تقول حقًّا فسيملك موقِعَ قدميَّ هاتينِ.

ولمَّا قُرئ كتاب النبي صلى الله عليه وسلم على هرقل اهتزَّ وتأثَّر وتحدَّث هرقل أنه سيسلم؛ ولكن لم توافقه حاشيتُه ومجالسوه على ذلك، وأكرم هرقل هذا الرسول الذي حمل الكِتاب وردَّ معه كتابًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال فيه: إني مسلم، وبعث بدنانير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قُرئ عليه كتاب هرقل: ((كذب عدوُّ الله، ليس بمسلمٍ، وهو على النصرانية))، ثم قسم النبي صلى الله عليه وسلم الدنانير على أصحابه، وكان هرقل آثر مُلْكَه وحاشيتَه على الإسلام والإيمان، وقد حارب هرقل المسلمين في غزوة مُؤْتة وهي بعد ذلك الكتاب بسَنَةٍ.

الكتاب الثالث: كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى كِسْرى ملك الفرس، وقد بعثه مع عبدالله بن حذافة السهمي رضي الله عنه، فلمَّا وصل الكِتاب إلى كِسْرى وقرئ عليه الكتاب أخذه ومزَّقَه، وقال: أيكتب إليَّ هذا وهو عبدي؟ يعني النبي صلى الله عليه وسلم وحاشاه من ذلك، فلمَّا بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليه أن يُمزِّقَه الله؛ أخرجه البخاري، وبعث كِسْرى إلى عامله، وقال له: ابعث رجلينِ جلدينِ قويينِ ليأتياني بهذا الرجل الذي خرج في الحجاز، ويزعم أنه نبيٌّ، ففعل الأمير ذلك، وذهب الرجلانِ إلى المدينة وقابلا النبي صلى الله عليه وسلم وقالا له ذلك الطلب، فتبسَّمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ودعاهما إلى الإسلام ثم أمرهما أن يأتياه من الغد، فجاءاه من الغد، فأخبرهما أن الله عز وجل قتل كِسْرى؛ حيث سلَّط عليه ابنَه، فرجعا إلى بلدهما، فوجدا أنَّ كِسْرى قد قُتِل، فأسلم الرجلانِ، وأسلم ذلك الأمير الذي أرسلهما، وأسلم من تحت يده، فسبحان من كانت الهداية بيده! وبعد هلاك قيصر سقطت دولتهم في خلافة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فقد أخرج البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا هلك كِسْرى فلا كِسْرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتفتحنَّ كنوزَهما في سبيل الله))؛ رواه البخاري ومسلم.



الكتاب الرابع: كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس في مصر، وأرسله مع حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه، فلمَّا استلم المقوقس هذا الكتاب وقرأه، أكرم حاطبًا، وأخذ بتقبيل هذا الكتاب، وجمع بطارقته، وأخذ يحاور حاطبًا، ثم قال له بعد المحاورة: أنت حكيم جاء من عند حكيم، وأرسل ردًّا على كتاب النبي صلى الله عليه وسلم وكان ردًّا حسنًا؛ لكنه لم يسلم، وبعث مع الكِتاب بجاريتينِ، وكسوة وبغلة، ورجع حاطب رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ((ضَنَّ الخبيث بمُلْكه ولا بقاء لملكه))، وأخذ هديته، والجاريتانِ هما مارية القبطية وأختُها سيرين، فهذه مارية هي أمُّ إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم، وأمَّا الأخرى فأهداها النبي صلى الله عليه وسلم لجهم بن قيس رضي الله عنه، وقد ولدت زكريا الذي كان واليًا على مصر بعد عمرو بن العاص رضي الله عنه.

الكتاب الخامس: كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الحارث والي دمشق، فلمَّا وصل إليه الكتاب وقرأه رمى به، وقال: هذا محمد يريد أن ينتزع مني مُلْكي، وحشد الجيش ليُقاتل النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة؛ ولكن هرقل نقض عزمه عن ذلك، فلمَّا رجع الذي نقل الكتاب إلى المدينة، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك قال عليه الصلاة والسلام: ((بادَ مُلْكُه)) وهذا بمثابة الدعاء عليه، فمات وباد مُلْكُه بحمد الله تعالى.

الكتاب السادس: كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ملك اليمامة يدعوه إلى الإسلام، وقال فيه: ((اعلم أن ديني سيظهر على منتهى الخف والحافر، فأسْلِم تَسْلَم))، فلم يسلم، ودعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم فمات، هذه بعض الكتب التي أرسلها النبي صلى الله عليه وسلم إلى بعض الأقوام يدعوهم إلى الإسلام، وكلها كانت في شهر المُحرَّم من السنة السابعة، ويُلاحظ في تلك الرسائل أنه لم يُقتَل أحدٌ من حامليها إلى هؤلاء الأقوام والرؤساء؛ لأنها جَرَتْ عادتُهم أن الرُّسُل لا تُقتَل ولا تُسلَب.


أيُّها الكِرام، لعلَّنا نختم حلقتنا هذه ببعض الدروس والعِبَر، ونُكمِل فيما بعد من الحلقات تلك السيرة العطرة، فمن الدروس ما يلي:

الدرس الأول: أن كتابة الرسائل الدعويَّة من النبي صلى الله عليه وسلم للملوك والزُّعماء تعطي المسلم منهجًا في تواصي المسلم مع إخوانه وأحبابه عن طريق المراسلة والمكاتبة؛ سواء كانت المقروءة منها أو المسموعة، فما أجمل أن يصدر منك رسالةٌ مقروءة أو مسموعة أو تأتيك رسالة كذلك من أحد إخوانك وأحبابك فيها التوصية بالحقِّ والدلالة على الخير والترغيب فيه، فيا أخي، هل جرَّبْت هذا؟ إن لهذا وقعًا كبيرًا على أخيك عندما يقرأ أو يسمع رسالتك، ويكون ذلك سببًا للودِّ بينكما، وقد كان ذلك بين الصالحين من السابقين واللاحقين، وكم هو جميل أيضًا أن يطبقه المسلم مع غير المسلمين، يدعوهم فيه إلى الله تبارك وتعالى مُبيِّنًا محاسن الإسلام، ولا تيأس؛ لأنك أنت تفعل السبب والتوفيق بيد الله تبارك وتعالى، فقد يكون السبب سهلًا ويسيرًا؛ ولكن النتيجة عظيمة أمثال الجبال، وما أكثرَ تلك الوقائعَ عند الدُّعاة أو جمعيات الدعوة في بلدنا المبارك وفي غيره أيضًا! فلا نغفل عن هذا.



الدرس الثاني: لا تستبعد هداية أحد، فهذا النجاشي عندما أرسل إليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم الكتاب آمن وصلحت حالُه ومات على الإسلام، فعندما ترى خللًا في إخوانك، أو ترى كافرًا صادًّا عن سبيل الله تعالى ونحو ذلك، فلا تيأس؛ فقد يكون القدر بهدايته على يديك، ولو بذلت شيئًا يسيرًا من الجُهْد فلا تنظر إلى حجم جهدك؛ وإنما انظر إلى أن جهدك مهما كان يسيرًا فهو سبب، وأن الهداية من عند الله تبارك وتعالى، وقد يهتدي أحد على يديك وأنت لا تشعُر حيث اقتدى بك.



الدرس الثالث: مشروعية الصلاة على الغائب على خلاف بين أهل العِلْم متى تكون? فقال بعضهم: هي فيمن مات ولم يُصَلَّ عليه لظرف أو لآخر، وهو رواية عن أحمد، وقال به ابن تيمية وابن القيم وابن عثيمين وغيرهم، وقال آخرون: هي مشروعة على مَنْ كان له نفع للمسلمين وجاه، وهو رواية أيضًا عن أحمد، وقال به السعدي واللجنة الدائمة، وقيل في المسألة أقوال أخرى.



الدرس الرابع: في مقابلة هرقل لأبي سفيان قبل إسلامه، وسؤاله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو سفيان: لولا الحياء من أصحابي أن يأثروا عليَّ الكذب لكذبتُ عليه، قال هذا وهو على الكفر، فكيف بالمسلم الذي أمره الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بالصِّدْق في القول والعمل، فإن المسلم أوْلَى أن يكون صادقًا في قوله وفعله فيما يتعلَّق بعبادته أو معاملته مع المخلوقين؛ لأن الله عز وجل يراه ويسمعه قبل أن يراه ويسمعه الآخرون، وممَّا لا شكَّ فيه أن الكذب ضَعْفٌ في الشخصية، فلو تكاملت الشخصية ما احتاج إلى الكذب، ثم إنَّ الكذب من كبائر الذنوب، وأيضًا لو عرَف الناس كذبَه ما صدَّقُوه حتى فيما صدق فيه، وكل شيء بُنِي على الكذب فهو ممحوق البركة، والكذب حكمه التحريم؛ سواء في المزاح أو الجد؛ بل قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ويلٌ لمن يُحدِّث فيكذب ليضحك به القوم، ويل له، ويل له))؛ حديث حسن.


وإذا تتابع الكذب صار صاحبُه عند الله كذَّابًا، وما أجمل الصدق ولو كان عليك! فنجاة الآخرة أوْلَى من نجاة الدنيا، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 119]، وإذا كان الصادقون سيسألون عن صدقهم كما في قوله تعالى: ﴿ لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ ﴾ [الأحزاب: 8]، فكيف بالكاذبين؟ والكذب مُحرَّم سواء كان على صغير أو على بهيمة أو غيرهما؛ ولهذا يقول الشاعر:
عوِّد لسانَك قولَ الخيرِ تَحْظَ به
إنَّ اللِّسانَ لما عوَّدْتَ معتاد





فإيَّاك أخي المسلم أن يعثر الناس عليك بشيء من الكذب؛ خوفًا من الله تعالى، ثم حياء من الناس، والحياء لا يأتي إلَّا بخيرٍ، واحذر من الوعيد الشديد لمن يكذب الكذبة فتبلغ الآفاق؛ حيث ورد في حديث الرؤيا كما عند البخاري ((أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا يُعاقَب، وعقوبته أنه يشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم المَلك في الرؤيا عن هذا المعاقب، فقال الملك: هو الرجل يكذب الكذبة فتبلغ الآفاق)).



وها هي وسائل التواصُل ترسلها فتبلغ الآفاق في وقت قصير، فاحذر الكذب كله صغيره وكبيره تفلح وتربح وُفِّقْت وبُورِكْتَ.



الدرس الخامس: أن هرقل عندما قرأ كتاب النبي صلى الله عليه وسلم أعجبه الإسلام؛ بل وكاد أن يسلم؛ لكن الجلساء والحاشية كانوا عائقًا له بقدر الله تعالى الكوني، وذلك مماثل لما حصل لأبي طالب عندما كاد أن يُسلِم، فكان تأثير الجلساء عائقًا له عن ذلك، ومن هذا نأخذ درسينِ عظيمينِ: الأول أن هداية التوفيق هي بيد الله تبارك وتعالى، فلنسأله إيَّاها لنا ولغيرنا مع بذلنا لهداية الدلالة والإرشاد، والثاني أن الجليس له أثره الإيجابي أو السلبي على صاحبه، فاختر جلساءك، فمن خلالهم ستملأ ميزانك بالحسنات، إن كانوا صالحين وإيجابيين، وقد يمتلئ ميزانك بالسيئات إن كانوا فاسدين سلبيين، والأمر جد خطير؛ فهو له تعلُّق كبير في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فكم ستجني من الخير إذا كان جليسُك صالحًا، وكم ستجني من الشَّرِّ إذا كان جليسُك سيئًا? وها هي الحياة ستسير على هذا المنوال وأنت فرس الميدان، والتوفيق بيد الله تبارك وتعالى، فاعرف ما ينفعك دنيا وأُخْرى وتمسَّك به.



الدرس السادس: من دلائل النبوة ومن معجزات النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر الصحابة بقتل كِسْرى مباشرة من دون إعلام وإخبار من أحد من البشر؛ حيث بُعْد المسافة؛ ولكنه الوحي الإلهي للرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، وهذا ممَّا يقوِّي عقيدة المؤمن برسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنها حَقٌّ من ربِّ العالمين، وهذه المعجزات هي من المثبتات على الحق بإذن الله تبارك وتعالى؛ لأنها خوارق للعادة على يد النبي صلى الله عليه وسلم، والقراءة فيها هي من مقويات الإيمان ومغذياته.

أيُّها الكرام، إن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم هي مجموعة الأحكام والأخلاق والشمائل، والقراءة فيها ممتعة ومفيدة، فأقترح عليك أيها الأب المبارك، ويا أيتها الأم المباركة، أن تجعلا لأسرتكما درسًا أسبوعيًّا ولو مختصرًا بوقت يسير تقرؤون في تلك السيرة بالتسلسل المعروف؛ لتعرفوا هَدْيَ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتُصحِّحُوا مفاهيمَ أولادِكم، وتُصحِّحُوا أيضًا أخلاقهم وألفاظهم، وأيضًا لتكون زادًا علميًّا لكم ولهم، وكافيكم حضور الملائكة في منازلكم، وغشيان الرحمة لكم، ونزول السكينة عليكم، وأيضًا كذلك ذكر الله تعالى لكم في الملأ الأعلى، فيالها من أرباح عظيمة لو تفهمناها، فلنعمل ذلك لينشأ أولادُنا عليه ويُنشِّئوا أيضًا أولادَهم كذلك، فيكون صدقةً جاريةً لكم، أملي كبير أن تقبلوا ذلك المقترح، وأن يكون واقعًا عمليًّا، ومن الكُتُب المقترحة في ذلك ما يلي: الكتاب الأول اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون للشيخ موسى العازمي، والكتاب الثاني كتاب الرحيق المختوم للمباركفوري؛ فهما كتابانِ شيقان وسلسان ومتممان للفائدة، فيهما من الخير والعلم والدروس والعِبَر ما الله به عليم، فإن هذا إذا كان دأبًا لنا ولأولادنا؛ فإن هذا من باب طلب العلم، ومن باب تصحيح المفاهيم، ومن باب أيضًا الاقتداء ومعرفة حالة النبي عليه الصلاة والسلام في مأكله ومشربه وملبسه ومركبه، وفي لفظه وعبادته ومع أهله وأصحابه حتى مع غير المسلمين، فما أحوجنا أيها الكِرام إلى معرفة ذلك عن نبيِّنا عليه الصلاة والسلام عن كثب! حتى نقتدي به الاقتداء اللازم، وحتى تهدأ أفكارُ أولادِنا فيما هو صواب لها ونافع لها في دُنْياها وأُخْراها، أمَّا أن يتشرَّدُوا في قراءات أخرى من هنا أو هناك، فإن هذا قد يكون ضررًا عليهم، أمَّا قراءتهم وإشرافنا عليهم من السيرة، فإن هذا لا شَكَّ أنه خيرٌ عظيمٌ سيق إلينا. أسأل الله تبارك وتعالى لنا جميعًا أن يصلح نيَّاتنا وذريَّاتنا، وأن يغفر لنا ولوالدينا والمسلمين، وأن يوصلنا دار السلام بسلام، وأن يجعلنا ممَّن يؤتنا الحكمة، وصلَّى الله وسلِّم على نبيِّنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 20-03-2023, 01:57 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,855
الدولة : Egypt
افتراضي رد: خاتم النبيين

خاتم النبيين (41)
الشيخ خالد بن علي الجريش



بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من اصطفاه الله تعالى رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين؛ أما بعد:
فمرحبًا بكم - أيها الكرام - في برنامجكم خاتم النبيين، وقد أسلفنا في الحلقة الماضية أيها الأفاضل الحديثَ عن غزوة تبوك، وعن سببها، وحال المسلمين فيها، وأيضًا عن تجهيزهم، وأيضًا كيف كان مسيرهم، وذكرنا الحديث عن أجواء تلك الغزوة التي كانت في جوٍّ حار، وبُعْدٍ في المسافة، وأيضًا ذكرنا ماذا عمل المنافقون في تلك الغزوة؟ وكم مكث المسلمون هناك؟ وأيضًا ذكرنا واقعهم، ثم ذكرنا رجوعهم إلى المدينة، مع الدروس المستفادة من ذلك، وفي حلقتنا هذه نستكمل الحديث عن قصة كعب بن مالك رضي الله عنه، وهو أحد الثلاثة الذين خُلِّفوا، ونذكر بعض الأحداث التي حصلت بعد تبوك، وهؤلاء الثلاثة الذين خُلِّفوا هم: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، رضي الله عنهم وأرضاهم، ويجمع أسماء هؤلاء الثلاثة اسم "مكة"؛ فالميم لمرارة، والكاف لكعب، والهاء لهلال، وقصة هؤلاء الثلاثة هي مهمة وطويلة جدًّا؛ لعلك - أخي الكريم - ترجع إليها في صحيحَيِ البخاري ومسلم، ولكننا لضِيقِ الوقت سنقف بعض الوقفات والدروس مع قصة كعب رضي الله عنه، ونكتفي بذكر الشاهد من القصة.


فالوقفة الأولى أن كعبًا رضي الله عنه أراد الخروج، وبدأ بجهازه، ولكن حصل عنده نسبة من التباطؤ والتسويف؛ حيث قال رضي الله عنه: "فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد الناس الجِدَّ، فغَدَوا ولم أقضِ من جهازي شيئًا"، وفي هذا درس كبير وعظيم إلى أن المسلم إذا أراد شيئًا، فليبادر إلى تنفيذه، ولا يؤخره، فلربما مع التأخر حصل شيء من العقبات أو الموانع؛ فالمبادرة من أهم القيم لنجاح الأعمال، وأما التسويف والتأخر فهو سبب للإخفاق وقلة النتائج، فاعمل - أخي الكريم - أن تكون مبادرًا في جميع أعمالك.


الوقفة الثانية: عندما جلس النبي صلى الله عليه وسلم في تبوك؛ قال عليه الصلاة والسلام: ((ما فعل كعب بن مالك؟ فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله، حبسه بُرْدَاه ونظره في عطفيه؛ أي أعجبه ما هو عليه، فجلس، فقال له معاذ بن جبل رضي الله عنه: بئسما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرًا))، وفي هذا درس عظيم جدًّا لنا في مجالسنا ومحادثاتنا أنه إذا تحدث أحد بأحدٍ بما يكرهه، فليس لنا أن نسمعه ونتركه، وإنما نذُبُّ عن عرض أخينا إن كان خاطئًا، وأما إن كان الكلام صوابًا، فَلْنَنْهَرِ المتحدث عن الغِيبة، وأيضًا نرشده أن هذا يكون بينهما ليتحقق الهدف في التغيير إلى الأحسن عند الطرف المغتاب؛ فالغِيبة - كما يقولون - هي مرعى اللئام، وجهد العاجز؛ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من ردَّ عن عِرْضِ أخيه، ردَّ الله عن وجهه النار يوم القيامة))؛ [حديث حسن]، فكن كذلك أخي الكريم في مجالسك، ووسائل التواصل لديك؛ حتى لا تكون مشاركًا في إثم الغِيبة.


الوقفة الثالثة من قصة كعب رضي الله عنه: عندما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك إلى المدينة، وجلس في المسجد، جاء إليه كعب رضي الله عنه، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما خلَّفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟ فقال كعب كلامًا وفيه: لا والله يا رسول الله، ما كان لي من عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق، فقُمْ حتى يقضِيَ الله فيك))، وفي هذا درس كبير في إحياء قيمة الصدق في الأقوال والأفعال، فإن الصدق يجر المصالح، وإن الكذب يجر المفاسد، وقد يكذب أحدهم فينجو في دنياه، ويأخذ شيئًا من حطامها، ولكنه قد يخسر غدًا بين يدي الله عز وجل، عندما يسأله الله تعالى عن ذلك، وأما إن صدق، فهو قد يخسر شيئًا من الدنيا، ولكنه سيربح الآخرة، والآخرة خير لك من الأولى، وقد يعتاد الإنسان الكذب أحيانًا، فلا يصدقه الناس، حتى ولو صدق، ثم إن الصدق يهدي إلى الجنة، والكذب يهدي إلى النار، وقد قال كعب: يا رسول الله، إنما نجاني الله بالصدق، وإن من توبتي ألَّا أُحدِّث إلا صدقًا ما بقيت)).


الوقفة الرابعة: عندما هجر الناس كعب بن مالك رضي الله عنه أتته رسالة من ملك غسان يقول له بـ((أن صاحبك قد جفاك - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - فالحق بنا نواسِك، يقول كعب: فقلت: هذا من البلاء، فتيمَّمتُ بها التنور فأحرقتها، وفي هذا درس عظيم للثبات على الحق، مهما كانت المغريات التي تساعد على اللحاق بالباطل، فإن كعبًا رضي الله عنه الذي دعاه هو أحد الملوك، ولا شك أنه سيكرمه ويعطيه عطاء كثيرًا، ولكنه عرف رضي الله عنه حقيقة الأمر، وثبته الله عز وجل على الحق، فلم تَزِلَّ قدمه في اتباع الباطل والتنازل عن دينه، بل إنه لم يفكر في بقائها، وإنما أحرقها لتزول تمامًا من ناظريه وبين يديه.


الوقفة الخامسة: لما تمَّ خمسون ليلة على هجر كعب وصاحبيه، أتاه المبشِّر يقول: ((أبْشِرْ يا كعب، يقول: فعرفت أنه قد جاء الفرج، فخررت ساجدًا))، وفي هذا فائدة عظيمة، وهي السجود للشكر عند تجدُّدِ النِّعَمِ، واندفاع النِّقَمِ، مع لهج اللسان بالحمد والثناء على الله عز وجل، فيا أخي الكريم، إذا تجددت لك نعمة أو اندفعت عنك نقمة، فكن مُحْيِيًا لسُنَّةِ سجود الشكر، فإن الجميع فضل من الله تبارك وتعالى، فإذا شكرته زادك من فضله ورحمته، واجعل ذلك سلوكًا لك ولأولادك، وحدِّث به مجالسِيك؛ ليعمَّ الخير، ويزداد الناس.


الوقفة السادسة: قال كعب رضي الله عنه: ((فلما نزلت توبتي، جاء الناس يبشرونني، وجاء طلحة بن عبيدالله يهرول يهنئني، ولا أنساها لطلحة))، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لكعب: ((أبشر بخيرِ يومٍ مرَّ عليك منذ ولدتك أمك))، وكان النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة استنارت وجوههم لكعب، وفي هذا درس كبير أنه إذا حصل لأحدنا ما يسره، فلنستبشر به، ولْنُدْخِلْ عليه السرور، ونقُمْ بتهنئته والدعاء له.


الوقفة السابعة: قال كعب رضي الله عنه: ((يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله تعالى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أمْسِكْ عليك بعض مالك؛ فهو خير لك))، وفي هذا درس كبير مهم؛ أن المسلم إذا حصل له فضل من الله تعالى، فليكن من شكره لله عز وجل أن يتصدق بشيء من ماله قُرْبَة إلى الله عز وجل؛ فقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم كعبًا رضي الله عنه أن يتصدق ببعض ماله لما حصلت توبته، وهي بإذن الله تعالى صدقة مخلوفة، إن هذه الوقفات هي بعض ما يمكن أن تكون مع قصة كعب رضي الله عنه في تخلفه عن غزوة تبوك، علمًا أن القصة مليئة بالدروس والعِبر، فليُرجَع إليها في الصحيحين، وهذه القصة هي من دروس غزوة تبوك في السنة التاسعة من الهجرة، وقد بلغت غزواته عليه الصلاة والسلام سبعًا وعشرين غزوة، قاتل عليه الصلاة والسلام في تسع منها، وبلغت بعوثه وسراياه سبعًا وثلاثين، وقيل سبعًا وأربعين، وقد توافدت القبائل بعد تبوك؛ ولذلك سُمِّيَ العام التاسع عام الوفود، فكانت الوفود تزيد على السبعين وفدًا، واستمرت في السنة العاشرة والحادية عشرة أيضًا، فكانوا يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم أحكام الإسلام وشرائعه، ولكل وفد منها مواقفُ وقصصٌ، وعِبر ودروس، وأحكام وحِكَمٌ، فليُرجَع إليها؛ فهي غاية في الأهمية، وفي هذه السنة التاسعة تُوفِّيَ رئيس المنافقين عبدالله بن أبي بن سلول بعد أن مرض عشرين ليلة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعوده خلال مرضه؛ وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((كنت أنهاك عن حب يهود، ثم قال عبدالله بن أبي: ليس هذا بحين عتاب يا رسول الله، ولكنه الموت، فإن مِتُّ، فامْنُنْ عليَّ؛ فكفِّني في قميصك، وصلِّ عليَّ واستغفر لي))، وقد روى البخاري ومسلم أنه لما تُوفِّيَ عبدالله بن أبي جاء ابنه عبدالله إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا رسول الله، أعطني قميصك أكفنه فيه، وصلِّ عليه واستغفر له، فأعطاه عليه الصلاة والسلام قميصه، وقال له: إذا فرغت منه فآذِنِّي))؛ [متفق عليه]، فلما فرغ عبدالله رضي الله عنه من تجهيز أبيه آذن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فجاء عليه الصلاة والسلام ووقف عليه ليصلي، فلما قام جاءه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وجذب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثوبه، وقال: ((يا رسول الله، أتصلي على عبدالله بن أبي وقد نهاك أن تصلي عليه؟ وهو القائل يوم كذا وكذا كذا وكذا، وبدأ يعدد عمر على النبي صلى الله عليه وسلم تلك المثالب، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: أخِّر عني يا ابن الخطاب، فلما أكثر عليه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني خُيِّرت فاخترتُ، لو أعلم أني إن زدت على السبعين يُغفَر له، لَزدتُ عليها))؛ [أخرجه البخاري]، وفي رواية: ((إنما خيرني الله فقال: ﴿ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ [التوبة: 80]، وسأزيده على السبعين، فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم ثم انصرف، يقول الراوي: فما لبثنا إلا يسيرًا؛ حتى نزل قول الله تبارك وتعالى: ﴿ وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ [التوبة: 84]، فقال عمر رضي الله عنه: عجبت من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم))، وهذه هي أحد الأحوال والمواقف التي وافق القرآن فيها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفي العام التاسع بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر ليحج بالناس، وكان النبي عليه الصلاة والسلام بالمدينة يتابع الوفود، ولم يرغب النبي صلى الله عليه وسلم بالحج في العام التاسع؛ لأنه قد يطوف بالبيت عراة، وقد يتمسكون بعضهم بغير التوحيد، وفيه اختلاط بأهل الشرك، وخرج أبو بكر إلى الحج ومعه ثلاثمائة رجل، ونزل على النبي صلى الله عليه وسلم حينها صدر سورة براءة، وأرسلها النبي صلى الله عليه وسلم مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ليعلنها في الحج، فخرج علي رضي الله عنه حتى أدرك أبا بكر، فأعطاه الكتاب وفيه صدر سورة براءة، وأمر أبو بكر عليًّا أن ينادي بها في الحج، فأعلنها عليٌّ يوم النحر وهي تتكون من هذه الوصايا أولًا: ألَّا يحجنَّ بعد هذا العام مشرك، والثانية: لا يطوف في البيت عريانًا، والثالثة لا يدخل الجنة إلا مؤمن، والرابعة من كان له عهد فإلى عهده، ومن لم يكن له عهد فمدته أربعة أشهر، فإذا انتهت فإن الله بريء من المشركين ورسوله، وشارك عليًّا رضي الله عنه في البلاغ عددٌ من الصحابة؛ منهم أبو هريرة رضي الله عنه، وبذلك قضى الإسلام على الشرك ومعالمه في مكة، وكانت تلك الحجة بمثابة التوطئة للحجة الكبرى، ثم دخل العام العاشر، وما زال النبي صلى الله عليه وسلم يستقبل الوفود ويفقههم في الدين، وبعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا إلى اليمن ومعه أبو موسى الأشعري؛ وقال: ((يسِّرا ولا تعسِّرا، وبشِّرا ولا تنفِّرا، وتطاوعا ولا تختلفا))؛ [متفق عليه]، وفي السنة العاشرة توفي إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع وكان عمره ستةَ عشر شهرًا؛ ففي البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه قال: ((دخلنا على إبراهيم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإبراهيم يجود بنفسه، فأخذه عليه الصلاة والسلام وقبَّله وشمَّه، وجعلت عيناه تذرفان، فقال عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه: وأنت يا رسول الله تبكي؟ قال: يا بن عوف، إنها رحمة))؛ [الحديث]، ودُفن إبراهيم في البقيع، وكان هديه صلى الله عليه وسلم في المصيبة أكمل هدي؛ فقد شرع لأمته الاسترجاع والرضا، وليس هذا منافيًا لدمع العين، ولا لحزن القلب، وأيضًا منع من النياحة وشق الجيوب ولطم الخدود، ويوم وفاة إبراهيم كسفت الشمس، فقال الناس: انكسفت لموته؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الشمس والقمر آيتان لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموها، فادعوا وصلوا حتى تنجلي))، أيها الكرام، في ختام تلك الحلقة نستعرض بعض الدروس والعبر مما سبق، وهي على النحو الآتي:
الدرس الأول: بيان شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته، ورأفته بهم؛ حيث إنه صلى على ابن أُبَيِّ، وهو رئيس المنافقين، وقد حصل من المواقف المسيئة القولية والفعلية ما حصل، ومع ذلك كفَّنه بقميصه، واستغفر له، وصلى عليه، فإذا كان هذا مع المنافق مشفقًا عليه، فما هي حال النبي صلى الله عليه وسلم مع المسلمين العابدين المخلصين؟ لا شك أنها أعظم شفقة ورحمة، وقد عمت شفقة النبي صلى الله عليه وسلم جميع الأمة، ويظهر هذا من خلال التشريعات الحكيمة التي تشتمل على الرأفة والرحمة؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وددت أن رأينا إخواننا، قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعدُ))، وإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام مضرب المثل في الشفقة والرحمة والرأفة بأمته، فكيف يواجه بعض المسلمين تلك الرأفة والرحمة بالتساهل عند بعضهم في أفعالهم وأقوالهم عن اتباع نبيهم، فيأمرهم بشيء والبعض يهمله، وينهاهم عن شيء والبعض يرتكبه، فلننظر في أنفسنا وأولادنا وزوجاتنا عن الخلل فيُصحَّح؛ رغبة في الأجر، وإرضاء للرب، ومقابلة للشفقة العظيمة من النبي صلى الله عليه وسلم علينا، فكيف يهنأ ذلك العاصي بمعصيته؟ وهو يعلم أنه مخالف لأمر الله تعالى الذي خلقه، ولأمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي أشفق عليه ودلَّه على خيري الدنيا والآخرة، فإن تلك المخالفة ليست من الكرم والجود والرد بالتي هي أحسن، فإذا أحسن إليك أحد بشيء أَطَعْتَه وخدمته، فكيف بمن إحسانه إليك لا ينقطع؟ فإنه أولى بالطاعة والامتثال، فيا أخي ويا أختي الكرام، انظروا في الموضوع نظرة جد وتمحيص.


الدرس الثاني: عندما بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا موسى ومعاذًا إلى اليمن، أوصاهما بثلاث صفات، هي من صفات النجاح والناجحين؛ الصفة الأولى: التيسير في التعامل والمعاملة وعدم المشقة على الآخرين، الصفة الثانية: التبشير، فيبشر الناس بما يسرهم؛ ليكسبوا قلوبهم وتنفتح لهما نفوسهم، الصفة الثالثة: الاتفاق وعدم الاختلاف؛ لأن الخلاف شرٌّ، إن هذه الصفات الثلاث؛ وهي التيسير والتبشير والاتفاق - يفترض أن تكون في كل عمل، ففي الدعوة والمدرسة والدائرة الحكومية، وفي الأعمال الحرة، وأيضًا كذلك في الشركات والمؤسسات، ومع العمالة وغيرها من المجالات، فماذا لو كان هذا هو الواقع في صفاتنا وتعاملنا؟ فماذا ستكون حالنا؟ لا شك أنه سيزول الخلاف، وتنتهي المشاكل، وتخف الجهود، وإنني عندما أقول ذلك للمجتمع جميعًا فإني آمر نفسي ونفسك أخي الكريم أن نبدأ ونصحح المسار، ولا ننظر إلى أفعال الآخرين ماذا فعلوا، فأنا وأنت نمثل نسبة من هذا المجتمع، فأنت مسؤول عن دائرتك ودائرة معاملاتك، أما دوائر الآخرين فلست مسؤولًا عنها، فهم مسؤولون عنها، فأتقن دائرتك، فلو كل منا أخذ بهذا لنجحنا في جميع شؤوننا، فاستعن بالله تبارك وتعالى، وابدأ في تفعيل تلك الصفات الثلاث، فالموظف – مثلًا - يحاول التيسير على مراجعيه، والآباء مع أولادهم، وكذلك الجيران بعضهم مع بعض، والمجتمع كله، فييسر بعضهم على بعض، ويبشر بعضهم بعضًا، ويتوافقون ولا يختلفون، فإذا اتصفوا بهذه الصفات، فهنيئًا لهذا المجتمع بسعادته وسكينته وطمأنينته.


الدرس الثالث: عندما بكى النبي صلى الله عليه وسلم عند وفاة ابنه إبراهيم، سأله عبدالرحمن بن عوف، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنها رحمة))، إن رحمة الوالدين بالأولاد شيء لا يوصف، وإذا كان هذا حاصلًا في البهائم والعجماوات، فكيف هو عند بني آدم؟ لذلك كان الوالدان يشقيان إذا مرض ولدهما، ويرتاحان إذا شُفِيَ، ويسهران إذا سهر، وينامان إذا نام، وإن همَّ الأولاد صلاحًا وتربية، ورعاية وشفقة ورحمة يحتل عند الوالدين مساحة كبيرة، وإن لم يظهراه، فيا أيها الأولاد، ماذا قابلتم تلك الشفقة والرحمة؟ هل قُوبِلَتْ بالبر والطاعة؛ فأبشروا بالخير في الدارين، أم قُوبِلَتْ بالعقوق؛ فإن الجزاء من جنس العمل؟ أيها الابن، وأيتها البنت، إن بركم بوالديكم هو عمل صالح جليل، عظيم جسيم، اجلسوا معهم وحدِّثوهم عما يسرهم، وأبهجوهم، واخدموهم، واعملوا ذلك قربة لله تبارك وتعالى، وحينها أبشروا بدعواتهم الصادقة، وأيضًا أبشروا ببرِّ أولادكم لكم، لا تخالفوهم، ولا تلحوا عليهم بأشياءَ لا يريدونها، واجعلوا بينكم وبينهم الجو العاطفي الكبير، إن ضاقوا فأوسعوا عليهم، وإن احتاجوا فأعطوهم، فإن الكبار لهم حاجات قد لا يظهرونها لأولادهم، فحاولوا معرفة حاجاتهم، ورسالة خاصة للشباب والشابات الذين في العقد الثاني والثالث من أعمارهم، أقول: اقتربوا من والديكم أكثر؛ فأنتم المحتاجون لبرهم ودعواتهم أكثر منهم؛ فإن بعض الآباء والأمهات يشكون جمود العاطفة بينهم وبين أولادهم في هذين العقدين، فعلى الابن والبنت الاقتراب من والديهم شيئًا فشيئًا، حتى تعود المياه إلى مجاريها، ويعود الجو العاطفي نشيطًا، وذلك من خلال الحديث مع الوالدين عن اهتماماتهم من خلال جلساتهم، أو مرافقتهم في بعض شؤونهم، ونحو ذلك، فأنتم - أيها الشباب والشابات - أصحاب الحاجة إليهم، إنكم إذا عملتم هذا مع والديكم، فإنكم بإذن الله تعالى ستعيشون سعداء، ولا أقل من نتيجتين عظيمتين؛ الأولى أن الله عز وجل يرضى عنكم وكفى بها، والثانية أنكم ستحظَون، لا أقول بدعوة، وإنما بدعوات من هؤلاء الوالدين، بسعادتكم في الدنيا والآخرة.


أسأل الله تبارك وتعالى لنا جميعًا الصلاح والإصلاح في النية والذرية، كما أسأله عز وجل الهدى والتقى، والسداد والرشاد لنا جميعًا، ولجميع المسلمين، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولوالديهم، والمسلمين الأحياء منهم والأموات، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 09-05-2023, 03:23 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,855
الدولة : Egypt
افتراضي رد: خاتم النبيين

خاتم النبيين (42)
الشيخ خالد بن علي الجريش




أحداث السنة التاسعة من الهجرة


بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا المصطفى الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين؛ أما بعد:
فمرحبًا بكم - أيها الكرام - في برنامجكم خاتم النبيين، أيها الأفاضل الكرام، أسلفنا الحديث في الحلقة الماضية عن إقامة النبي عليه الصلاة والسلام في مكة بعد فتحها، وأيضًا عن كسره للأصنام حول الكعبة، وعن بعثه عليه الصلاة والسلام السرايا للأصنام الأخرى في البوادي، وأيضًا كذلك ذكرنا غزو النبي صلى الله عليه وسلم لثقيف في الطائف وهوازن، وأيضًا كيف نصر الله تعالى جنده وأولياءه، ثم ذكرنا إحرام النبي عليه الصلاة والسلام من الجعرانة وعمرته ورجوعه إلى المدينة، إلى غير ذلك مع ختمنا للحلقة في الدروس والعِبر.

وفي حلقتنا هذه بإذن الله تعالى نستعرض ما حدث في السنة التاسعة من الهجرة، وهي التي تسمى عام الوفود، فقد وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المدينة بعد فتح مكة ما يزيد على ستين وفدًا، وفي العام التاسع بعث النبي صلى الله عليه وسلم عماله على الصدقات، وحذرهم عليه الصلاة والسلام من الغُلُول؛ وهو أخذ شيء منها لنفسه بدون حق؛ ولهذا قال عمر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من غلَّ بعيرًا أو شاة، أتى به يحمله يوم القيامة))، وفي حديث ابن اللتبية رضي الله عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته))؛ [متفق عليه]، وأيضًا كذلك في شهر رجب من العام التاسع من الهجرة، حدثت غزوة تبوك؛ وهي غزوة العسرة، وهي آخر غزواته عليه الصلاة والسلام، وكانت في وقت شديد الحر، وفي قحط وضيق شديد في النفقة والظهر، وكان سبب هذه الغزوة أن النبي عليه الصلاة والسلام بلغه أن هرقلَ ملكَ الروم جمع جموعًا كثيرة من القبائل لحرب المسلمين، فلما علم بذلك النبي عليه الصلاة والسلام جهَّز جيشه، وخرج إليهم، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم، وكانت تلك الغزوة حين اشتد الحر وطابت الظلال، وأينعت الثمار، ومع ذلك أسرع المسلمون يتجهزون للخروج فيها، وأخذت القبائل خارج المدينة تتوافد على المدينة للمشاركة في تلك الغزوة، وقد حثَّ النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة في هذه الغزوة، فجاء أبو بكر رضي الله عنه بماله كله، وجاء عمر رضي الله عنه بنصف ماله، وجاء عثمان بن عفان رضي الله عنه بألف دينار، فأعطاها النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم حينها: ((ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم))، ولما حثهم النبي صلى الله عليه وسلم مرة ثانية، تصدَّق عثمان بمائة بعير مكمَّلة ومحمَّلة، ثم حثهم، فتصدق بمائة أخرى، ثم حثهم فتصدق بمائة ثالثة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما على عثمان ما عمل بعد اليوم))، وتتابع الصحابة في إنفاقهم لهذه الغزوة، فلما حصلت تلك الصدقات، قال المنافقون ما قالوا؛ فقد قالوا عن عبدالرحمن بن عوف عندما تصدق بأربعين أوقية من ذهب، قالوا بأنه فعل هذا رياء، وعندما تصدق أبو عقيل رضي الله عنه بنصف صاع من تمر، وهذا الذي يجده قالوا: إن الله غنيٌّ عن صدقة هذا؛ فنزل قول الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ [التوبة: 79]؛ الآية، وجاء أيضًا كذلك البكَّاؤون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وهم أناس محتاجون يحبون الخروج في تلك الغزوة، ولكنهم لا يملكون ما يحملهم، تولَّوا وهم يبكون، عندما ردَّهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال الله تعالى فيهم: ﴿ وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ [التوبة: 92]، فمنهم من رزقه الله ناضحًا، فشارك في الجهاد، ومنهم من بقِيَ معذورًا، ومنهم من تصدق بعرضه؛ وهو عُلْبَةُ بن زيد رضي الله عنه؛ فقام ليلته وقال: "لم يكن لي ما يحملني إلى الجهاد، وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني بها في مال أو جسد أو عرض"، فكانت صدقته تلك من الصدقات المتقبَّلة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان المنافقون يثبطون الناس عن الجهاد، ويقولون: إن النبي لا طاقة له بالروم والسفر بعيد، فردَّ الله تعالى عليهم بقوله: ﴿ وْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ [التوبة: 42]، وقال بعض المنافقين: لا تنفروا في الحر؛ فنزل قوله تعالى: ﴿ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا [التوبة: 81].

وخاض المنافقون في التثبيط في العزائم كما هي عادتهم، وكذلك أيضًا بنى المنافقون مسجد الضِّرَارِ، ويزعمون أنه للتوسعة على المسلمين، وهم يريدون به الضرر على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين، فطلبوا من النبي عليه الصلاة والسلام قبيل الغزوة أن يصلي فيه، فقال لهم النبي عليه الصلاة والسلام: ((إني على جناح سفر، وحال شغل، ولو قدمنا إن شاء الله، لأتيناكم فصلينا لكم فيه))، فنزلت الآيات بعد رجوعه من تبوك، فأمر بإحراق المسجد؛ حيث قال الله تبارك وتعالى: ﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [التوبة: 107]؛ الآيات، وعملهم هذا هو جرأة وكذب على الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ووقاحة ولؤم، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام بإحراقه وهدمه، وخرج ذلك الجيش إلى تبوك بعدد يبلغ ثلاثين ألفًا، ومضى رسول الله عليه الصلاة والسلام بالجيش فضرب عسكره في ثنية الوداع، عقد في ذلك المكان الألوية والرايات ونظم الجيش، وكان رئيس المنافقين عبدالله بن أبي بن سلول، معه بعض المنافقين عسكروا قريبًا من جيش المسلمين، فلما سار الجيش تخلَّف ابن أبي، ومن معه، وقالوا: لا طاقة لنا بذلك، وبدأ يرجف بالمسلمين نعوذ بالله من النفاق والمنافقين، وكان في المدينة أناس حبسهم العذر عن الخروج إلى تبوك؛ فقال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن بالمدينة أقوامًا ما سرتم مسيرًا، ولا قطعتم واديًا، إلا كانوا معكم؛ حبسهم العذر))؛ [متفق عليه]، وحينما كان أبو ذر قد أبطأ به بعيره، أخذ متاعه منه، فجعله على ظهره، ثم لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم ماشيًا؛ فقال النبي عليه الصلاة والسلام حينها: ((رحم الله أبا ذر؛ يمشي وحده، ويموت وحده، ويُبعث وحده))، وأصاب الناس مجاعة فقالوا للنبي عليه الصلاة والسلام: ((لو نَحَرْنا بعض نواضحنا فنأكل منها، فقال: افعلوا، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنا إن فعلنا ذلك، قلَّ النواضح، ولكن ادْعُهم بشيء من أزوادهم، وادْعُ بالبركة فيها، فجاء كل منهم بشيء يسير حتى جمعوا شيئًا من الطعام، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بالبركة فيه، ثم أخذوه فما بقي من وعاء في الجيش إلا مَلَؤوه من الطعام، فأكلوا وشبعوا وأبقوا))، وعندما كانوا في طريقهم ليلًا، ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم لقضاء الحاجة والوضوء، فتأخر عليهم حتى حان وقت الصلاة، فقدَّموا عبدالرحمن بن عوف فصلى بهم ركعة، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأدرك معهم الركعة الثانية، فكان النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصلاة خلف عبدالرحمن بن عوف، ولم يصلِّ عليه الصلاة والسلام خلف أحد غيره، ثم قال لهم بعد أن سلَّم: ((أحسنتم، أو قال: أصبتم))؛ [رواه مسلم]، وكانوا قد باتوا ليلة من الليالي في طريقهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من يكلؤنا الليلة؟ قال بلال: أنا، فلعله نام بلال فما استيقظوا إلا بعد الشمس))، وفي رواية أبي قتادة قال النبي صلى الله عليه وسلم حينها: ((إنه ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصلِّ الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى))؛ [رواه مسلم]، وكان نومهم عذرًا لهم؛ لأنهم اتخذوا الأسباب للقيام للصلاة ولم يهملوها، كما قد يفعله من لم يتخذ الأسباب ويعذر أيضًا نفسه بنومه هذا، وهذا لا شك أنه خلل كبير، وخطأ جسيم، وإهمال وتقصير، ولما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، وضُربت له القُبة، خطب الناس وحثهم على الجهاد، وأخبرهم بخير الناس وشر الناس، وأقام عليه الصلاة والسلام في تبوك عشرين يومًا لم يلقَ عدوًّا، وكان يرسل السرايا إلى بعض الجهات، وخلال تلك العشرين يومًا أوضح النبي عليه الصلاة والسلام للأمة عددًا من الأحكام الشرعية، فكانوا يسألونه ويجيبهم، أو يحدثهم ابتداء، وجاء بعض القبائل حال إقامته هناك، فصالحوه ودفعوا الجزية، ومنهم من أسلم، ورجع النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم إلى المدينة ولم يقاتلوا، وإنما كانت لهم هيبة في نفوس الروم، وحصل مصالح عظيمة أخرى متنوعة، ولما أقبل النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة، جاء المنافقون وطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي لهم في مسجد الضرار، فنزل الوحي على النبي عليه الصلاة والسلام وهو قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [التوبة: 107]؛ الآية، فلما نزل الوحي أمر النبي صلى الله عليه وسلم اثنين من الصحابة، أمرهما أن يذهبا إلى المسجد ويهدماه ويحرقاه، ولما دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فجاء المتخلفون عن الغزوة؛ وهم أربعة أصناف؛ الصنف الأول: صنف مأمورون بالتخلف، وهم مأجورون، وهم من أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يبقوا في المدينة، ولهم أجر الغزاة، والصنف الثاني: معذورون؛ وهم الضعفاء والمرضى ونحوهم، والصنف الثالث: عصاة مذنبون ليس لهم أعذار؛ وهم الثلاثة الذين خُلِّفوا ومن معهم، والصنف الرابع: المنافقون الذين ليس لهم أعذار، وكان النبي عليه الصلاة والسلام قد أمر الصحابة رضي الله عنهم عندما قدموا على المدينة ألَّا يكلموا هؤلاء المخلفين الثلاثة بغير عذر، ولا يجالسوهم، ولا يحادثوهم، أيها الكرام، سنكمل الحديث بإذن الله تعالى عن الواقع لهؤلاء، وما كان لهم، وما كان عليهم في الحلقة القادمة بإذن الله تعالى، ونستعرض الآن شيئًا من الدروس والعبر من هذا العرض؛ وهي كالآتي:
الدرس الأول: في تحذير النبي صلى الله عليه وسلم لعماله أن يأخذوا شيئًا ليس لهم، وهو ما يُعرَف بالغُلُول، هو خطاب للأمة جميعًا وتحذير لها، فإن الموظف والمكلف بعمل يجب عليه أن يترفع عن ما ليس له، ويكون أمينًا، أما إذا خان الأمانة، وأخذ الهدايا والعطايا، فهذا محظور؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أفَلَا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته؟))، فما أخذه المكلف بعمل غلولًا أو رشوة أو نحوهما من أوجه الفساد، ليعلم ذلك المسكين أنه سيأتي به يوم القيامة فضيحة له، ويُحاسَب عليه، فعليه غُرْمُه، ولغيره غُنْمُه، وهو سُحْتٌ يأخذه وحرام يأكله، فكيف يهنأ ذلك المسكين بهذا وهو يعلم أنه حرام لا يحل له؟ وكل جسم نبت من سحت، فالنار أولى به، نسأل الله تعالى العافية، فما هي حاله؟ عندما يكون الناس يوم القيامة حفاة عراة كل منهم يقول: نفسي نفسي، حتى الأنبياء، وهذا مشغول بمحاسبة ذلك المال الذي أخذه بغير حقه، فليتحلل اليوم، ولْيَتُب الآن.


الدرس الثاني: في سرعة نفقة الصحابة رضي الله عنهم لتجهيز جيش العسرة ترغيبٌ في الصدقة في سبيل الله، وهذه الصدقة لها مخرجاتها الطيبة، ولها آثارها الحميدة، فمن ذلك أنها مضاعفة، وأنها مخلوفة، وأنها تدفع ميتة السوء، وأنها تطفئ غضب الرب، وأن المتصدق تحت ظل صدقته يوم القيامة، وأنها تدفع البلاء وتكفر الذنوب، وأنها أيضًا كذلك برهان على قوة الإيمان، وأيضًا هي تطهر المال وتزيده، وأيضًا هي سبب في دعاء الملائكة للمتصدق، وكذلك سبب في الألفة، ودليل على الكرم، وهي نقل للمال من حساب الدنيا إلى حساب الآخرة، إلى غير ذلك من المصالح، فإن هذه المكاسب والمصالح تجعلك أخي الكريم تُقْبِل على الصدقة، وتجعلها عملًا ثابتًا لك، ولتعلم أن ما ذهب منك فهو مرصود لك لا يتعداك، وكُتب لك أجره، فهو لم ينقصك شيئًا، فكن أخي الكريم متصدقًا ومكثرًا، فإن مالك الذي تصدقت به هو الذي لك، أما ما أبقيت، فهو لغيرك، وإني اقترح عليك ذلك المقترح الصغير، ولكنه كبير في أثره ومخرجاته؛ وهو أن تضع في بيتك حصالة صغيرة يراها الجميع من أهل البيت، فيتصدقون بالقليل أو الكثير، ثم تُفتَح دوريًّا ويُدفَع ما فيها في سُبُل الخير، وقد تكون مجالًا للصدقة في السر؛ حيث لا يراه أحد؛ فيكون تحت ظل الله يوم القيامة، وهذه الفكرة هي تدريب للنفس وأهل البيت على البذل والجود، والعطاء والكرم.


الدرس الثالث: لا تستقلَّ شيئًا تنفقه في سبيل الله، ولا تستكثر شيئًا؛ فالكل من فضل الله تعالى عليك، فليتصدق كل منا مما فتح الله عليه، فقد تصدق أحدهم في تلك الغزوة بنصف صاع من تمر، وتصدق آخر بعِرضه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((اتقوا النار ولو بشق تمرة))، ولا تستقل قليلًا، فإن عدم الصدقة أقل منه.


الدرس الرابع: حدث في هذه الغزوة صدقة من الصدقات، وهي صدقة من نوع آخر، وكانت من الصدقات المتقبَّلة؛ وهي صدقة عُلْبَة بن زيد رضي الله عنه بِعِرضه، عندما لم يجد شيئًا يتصدق به، فإن الصدقة بالعرض؛ وهي إباحة الآخرين الذين اغتابوه أو ظلموه هي عمل صالح جليل أجره عظيم؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى: 40]، فالتسامح عن الحقوق مطلب كبير، وأجره عظيم جزيل جسيم.


الدرس الخامس: في تلك الغزوة كان أناس بالمدينة لم يخرجوا إليها حبسهم العذر، وقد كانت نيتهم معقودة على الخروج، ولكنهم لم يخرجوا لضعف أو مرض أو نحوهما، فهم قد بلغوا درجة هؤلاء المجاهدين؛ ولهذا قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما سرتم مسيرًا، ولا قطعتم واديًا، إلا كانوا معكم؛ حبسهم العذر))، فالنية الصالحة يبلغ بها المسلم الدرجات العلا، وإن لم يعمل، إن كان معذورًا، وبالمناسبة فإنني أوصيك أخي الكريم بالإكثار من الطاعة القولية والفعلية، حتى إذا مرضت أو سافرت كُتب لك وإن لم تفعلها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا مرض العبد أو سافر، كُتب له ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا))؛ [رواه مسلم].


الدرس السادس: في تلك الغزوة حصل لهم فوات لصلاة الفجر، فلم يستيقظوا إلا بعد خروج الوقت، فلما استيقظوا، صلوها على صفتها، وهذا هو الواجب، ولكنهم لم يناموا من ليلهم إلا وقد اتخذوا الأسباب المعينة؛ ولذلك وضعوا من يوقظهم، ولكنه نام عن ذلك، في حين أن بعض المصلين يصلي تلك الصلاة بعد وقتها، ويحتج بنومه، وهو لم يتخذ الأسباب المعينة على الاستيقاظ، وهو يعذر نفسه في هذا، وفي حقيقة الأمر بأنه لا عذر له في فعله هذا، وإن كان غير معذور، فإن صلاته - كما يقوله جمع من أهل العلم - ليست على الأمر الشرعي، فهي خارج وقتها بلا عذر، وعلى مقتضى ذلك؛ فلا تصح منه تلك الصلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من عمل ليس عليه أمرنا، فهو رد))، فعليه التوبة والاستغفار من ذلك، بل إن بعض أهل العلم قالوا بأنه إذا تعمد ذلك فيُخشى عليه من أن يُوصَف بترك الصلاة، وتركها كفر، نعوذ بالله من ذلك؛ لأنه صلَّاها في غير وقتها، فهو كمن لم يصلِّها، وقد ورد في الحديث أن من صلاها في وقتها أصبح نشيطًا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان، فمن يرضى أن يُوصَف بخبث النفس والكسل، فَلْنَسْتَعِنْ بالله، ولنصحح المسار ما دمنا في زمن الإمكان.


الدرس السابع: في مكث النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم في تبوك عشرين يومًا، كانت هذه العشرون حافلةً بالعلم والتعليم وبيان الشرائع، وهكذا شأن المسلم في مجالسه في حِلِّه وترحاله يجعل شيئًا منها فيما يفيد، فيتعلم البعض من البعض الآخر، ولا تمضي مجالسنا كلها أحاديث جانبية قد تكون خالية مما يفيد، بل إن الأمر يكون ساعة وساعة، وذلك سبيل المؤمنين في حلهم وترحالهم.


الدرس الثامن: عندما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين، وهما ركعتا القدوم من السفر، وهذه سنة شبه مهجورة عند البعض، فعلى المسلم إذا قدم من سفر ودخل بلده أن يبدأ في المسجد فيصلي ركعتين ثم يتوجه إلى بيته.


الدرس التاسع: ظهور معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم في تلك الغزوة، عندما جاعوا وكادوا ينحرون بعض الإبل، أشار بعضهم أن نجمع بعض الطعام فجمعوا ما جمعوا، ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلم بالبركة، فكثُر ذلك الطعام حتى أكلوا جميعًا وشبعوا وأبقوا كثيرًا، وهذه المعجزات هي خوارق للعادة، يجريها الله تبارك وتعالى على يد نبيه عليه الصلاة والسلام؛ لتكون آية على صدق نبوته صلى الله عليه وسلم، وإن القراءة والتأمل في تلك المعجزات مما يقوِّي قلب المؤمن، ويكون سببًا لثباته.


الدرس العاشر: المنافقون في تلك الغزوة كانوا شوكة على المؤمنين، فأحيانًا يثبطون، وأحيانًا يستهزؤون، وأخرى يعاتبون، فليس منهم إلا ذلك نسأل الله العافية، وسبحان من قدر عليهم ذلك قدرًا وكونًا، علمًا بأنهم كانوا يتعبون في ذهابهم ورجوعهم وصلاتهم إن صلوا، وغير ذلك من الأعمال، لكنه هباء منثور لا يستفيدون منه شيئًا، لا في الدنيا، ولا في الآخرة، بل هو وبال عليهم فيهما جميعًا، وهم في الدرك الأسفل من النار، فَلْنَسْتَعِذْ بالله من النفاق والمنافقين، ولا نشمت بأحد منهم حتى لا يصيبنا ما أصابهم، ولنسأل الله تبارك وتعالى الثبات، وإن الأعمال الصالحة الخفية، وهي خبايا الأعمال، تعتبر سياجًا بإذن الله تعالى من النفاق، وإن كثرة ذكر الله تعالى أيضًا هو سياج آخر، وهكذا يتخذ المسلم الأسباب التي تبعده عن النفاق والمنافقين، ولا يخالطهم؛ حتى لا يصيبه ما أصابهم، نسأل الله تعالى العافية، ونسأله تبارك وتعالى أن يبعد بيننا وبين النفاق والفساد، كما باعد بين المشرق والمغرب، اللهم اغفر لنا وارحمنا، وعافِنا واعفُ عنا، وأصلحنا وأصلح لنا وأصلح بنا ولجميع المسلمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 260.51 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 254.62 كيلو بايت... تم توفير 5.89 كيلو بايت...بمعدل (2.26%)]