مشاهد وعبر من قصــة أصـــحــــــاب الكهــــــــف - الصفحة 2 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 602 - عددالزوار : 339333 )           »          أبناؤنا وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 52 )           »          7خطوات تعلمكِ العفو والسماح (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 43 )           »          تربية الزوجات على إسعاد الأزواج (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 46 )           »          الغزو الفكري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 38 )           »          حدث في العاشر من صفر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 39 )           »          الإنسان القرآني (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 44 )           »          الخطابة فنّ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 37 )           »          الرحمة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 40 )           »          متاعب الحياة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 33 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 08-11-2022, 11:44 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,926
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مشاهد وعبر من قصــة أصـــحــــــاب الكهــــــــف

مشاهد وعبر من سورة الكهف (11)
- قصة صاحب الجنتين (الأخيرة)
المشهد الثالث: حقائق الكون وأهوال يوم القيامة




قصة صاحب الجنتين هي إحدى قصص سورة الكهف يعرض لنا ربنا -سبحانه وتعالى- فيها الصراع بين الحق والباطل، وطرفا الصراع هنا رجلان: أحدهما كافر: وهو الذي نعته القرآن بـ(صاحب الجنتين)، والطرف الآخر: مؤمن، وهو الذي يمثِّل جانب الحق، والخير والصلاح، وقد احتوت هذه القصة على ثلاثة مشاهد المشهد الأول: العطية الإلهية والحوار الكاشف، والمشهد الثاني: البوار الكامل، واليوم نستكمل الحديث عن رسائل المشهد الثالث:
الرسالة السادسة: القرآن كتاب الهداية والنجاة
قال الله -تعالى-: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا}: جعل الله بين المعبودين وبين عُبَّادِهم مهلكة لا يجتازونها؛ هذه المهلكة هي النار والعياذ بالله، فإذا تطلع المجرمون إلى هذه النار العظيمة، امتلأت قلوبهم بالخوف والرعب، وهم يتوقعون في كل لحظة أن يقعوا فيها، وقد أيقنوا أنه لا نجاة منها، ولا مصرف عنها، ثم يوبخهم القرآن ويذكرهم بأنه كان لهم عنها مصرف، لو أنهم صرفوا قلوبهم في الدنيا للقرآن، ولم يجادلوا في الحق الذي جاء به.
عظمة القرآن وجلالته وعمومه
قال الشيخ السعدي -رحمه الله-: «يخبر الله -تعالى- عن عظمة القرآن وجلالته وعمومه، وأنه صرَّف فيه مِن كل مثل، أي: مِن كل طريق موصل إلى العلوم النافعة، والسعادة الأبدية، وكل طريق يعصم من الشر والهلاك، ففيه أمثال الحلال والحرام، وجزاء الأعمال، والترغيب والترهيب، والأخبار الصادقة النافعة للقلوب؛ اعتقادًا، وطمأنينة، ونورًا، وهذا مما يوجب التسليم لهذا القرآن وتلقيه بالانقياد والطاعة، وعدم المنازعة له في أمر من الأمور، ومع ذلك، كان كثير من الناس يجادلون في الحق بعد ما تبين، ويجادلون بالباطل».
الرسالة السابعة: وظيفة الرسل
قال الله -تعالى-: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا}: أرسل الله -عز وجل- الرسل لكي يدعوا الناس إلى كل خير، وينهوهم عن كل شر، ويبشروهم على امتثال ذلك بالثواب العاجل والآجل، وينذروهم على معصية ذلك بالعقاب العاجل والآجل، فقامت بذلك حجة الله على العباد، ومع ذلك يأبى الظالمون الكافرون إلا المجادلة بالباطل، ليدحضوا به الحق، فسعوا في نصر الباطل ما أمكنهم، وفي دحض الحق وإبطاله، واستهزأوا برسل الله وآياته، وفرحوا بما عندهم من العلم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
الرسالة الثامنة: الرحمة الواسعة والعقوبة المقدرة
قال الله -تعالى-: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا}: أخبرنا القرآن أنه لا أحد أكثر ظلمًا، ولا أعظم جرمًا من هؤلاء الذين يستهزئون بآيات الله، ويُعرضون عن شرعه؛ ولأجل ذلك حجب الله عنهم الانتفاع بالقرآن وبآياته، فجعل على قلوبهم أغطية تحول دون فقهه، وجعل في آذانهم صممًا فلا يستمعون إليه، وقدَّر عليهم الضلال -بسبب استهزائهم وإعراضهم-؛ فلن يجدوا للهداية سبيلًا.
الرسالة التاسعة: منظومة الرحمة في سورة الكهف
قال الله -تعالى-: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا}: جاء ذكر الرحمة في سورة الكهف في عدة مواضع، وقد حكاها القرآن على لسان عددٍ مِن أبطال القصة، منها: قول الله -عز وجل- على لسان فتية الكهف: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا}، وقولهم: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا}.
ومنها قول الله -عز وجل- على لسان الخضر -عليه السلام- في شأن الغلامين: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ}، وقوله بشأن الغلام: {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا}، وقال الله عن الخضر: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا}، وقول الله -عز وجل- على لسان ذي القرنين: {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا}، ثم قول الله عن نفسه: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ}.
رحمة الله سبقت غضبه
كل هذه المواطن وغيرها تدل على أن اللهَ -عز وجل- رحيمٌ، وأن رحمته سبقت غضبه، وأنه -عز وجل- يحب أن يعفو ويغفر ويصفح، ومِن مظاهر هذه الرحمة: أن الله يؤخِّر عذاب العاصين، ويؤجل عقوبة المكذبين؛ فالله -عز وجل- يحلُم على خلقه ويمهلهم حتى يظل طريق الرجوع والتوبة مفتوحًا أمامهم، ولو كانت العقوبة فورية لهلك الناس، وانتهت الحياة، يقول -تعالى-: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} (النحل:61)، وقال -عز وجل-: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} (فاطر:45).
إذا أذِن الله بهلاك قرية أو قوم
وبالتالي: فإذا رأيتَ أن الله أذِن بهلاك قرية أو قوم، فاعلم أنهم قد بلغوا من العذر مبلغه، وأن الله لم يُنزل عليهم عقوبته، ولم يُحلّ بهم غضبه إلا بعد أن تجبروا وتمادوا وأوغلوا في الظلم والطغيان، قال الله -تعالى-: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} (القصص:59)، وقال -تعالى-: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود:117)، فإذا وقع منهم هذا الفساد في الأرض بعد الإعذار والإنذار، استحقوا شديد العذاب كما قال -تعالى-: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (هود:102).
فوائد من المشهد
- الله هو الذي بيده مقادير الخلائق، وهو القدير الذي لا يعجزه أحد، فلا تغتر بكثرة مالٍ فقد يذهب المال، ولا بكثرة أنصار فقد ينصرفون عنك، ولا بالجاه والسلطان، فقد تتبدل المواقع، ويصير المحكوم حاكمًا، والحاكم مسجونًا، والقصص في تبدُّل حال الدنيا وتنكرها لأهلها كثيرة ومؤلمة؛ فإياك أن تكون واحدًا من هؤلاء الضحايا، بل علِّق قلبك بالله وثق به، واحتمِ بجنابه، يحفظك الله من فتن الدنيا وسوء عواقبها.
- لا ينهى الإسلام عن الزينة الحلال، ولا يمنع من المتع الطيبة المباحة، ولكنه يعطيها القيمة التي تستحقها؛ فلا يسمح الإسلام لأتباعه أن تختل لديهم الموازين، أو أن يضطرب في حسهم ترتيب الأولويات، فتصبح الزينة والمتاع هي معيار التقييم والتفاضل بين الناس، أو أن يحتل الانشغال بالدنيا المرتبة المتقدمة على غيرها من واجبات الدين، أو أن يصبح اللهو -مع كونه مباحًا- أصلًا وركيزةً يُنفق عليها الإنسان وقته أو ماله أو جهده.
- أخبرنا القرآن أن عداوة إبليس لبني آدم لم تتوقف عليه فقط، ولكن حذرنا من أن له ذرية يسيرون على طريقته نفسها ويتبعون منهجه؛ فلا يستقيم لعاقلٍ أن يسلم زمام أمره لعدوه فيواليه، ويترك ولاية الله -عز وجل- التي فيها الخير والفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة.




أحمد الشحات





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 08-11-2022, 12:08 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,926
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مشاهد وعبر من قصــة أصـــحــــــاب الكهــــــــف

مشاهد وعبر من سورة الكهف (12)
- قصة موسى -عليه السلام- والخضر (1)



هذه جولةٌ تأمُّليةٌ في رحاب سورة الكهف، نستهدف منها إيقاظ وعي العاملين في الدعوة الإسلامية؛ وأن ميادين الإصلاح متعددة، وأن بوسعهم أن يجعلوا مِن الحياة كلها محرابًا للدعوة إلى الله، والتغيير والإصلاح، وقد تضمّنَت السورة بين جنباتها أربعًا من القصص الرائعة، انتظمت في عقدٍ فريدٍ، ونظمٍ بديعٍ، لترسمَ لنا ملامح بارزة في طريق التمكين المأمول، ونتناول في هذه السلسلة قصة موسى -عليه السلام- والخضر.

بعد أن تناولنا في الحلقات الماضية قصة فتية الكهف، وصاحب الجنتين، ها نحن وصلنا إلى قصة موسى -عليه السلام- والخضر، وهي قصة لطيفة مليئة بالعِبَر والفوائد، ورد في سبب نزولها: «أَنَّ مُوسَى -عليه السلام- قَامَ خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَسُئِلَ: أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ فَقَالَ: أَنَا، فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدَّ العِلْمَ إِلَيْهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ إِنَّ لِي عَبْدًا بِمَجْمَعِ البَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ...».

رحلة موسى -عليه السلام


سافر موسى -عليه السلام وهو نبي ورسول مكلَّم- إلى المكان الذي أُخبِر أنه سيجد عنده الخضر، وبالفعل قابله هناك، واستأذنه أن يلازمه من أجل أن يتعلم منه، وبعد أن أوضح له الخضر صعوبة الرحلة؛ حيث إنه سيرى أشياء لا طاقة له بتحملها ولا بالصبر عليها، إلا أن موسى -عليه السلام- رغبة في طلب العلم- أصرَّ على طلبه، ووافق الخضر أن يصطحبه معه بشرط ألا يسأله عما يراه مِن أفعال حتى يجلِّيها له، ويوضح له عللها.

جولة عجيبة


وانطلق الرجلان -عليهما السلام- معًا في جولة عجيبة كأشد ما يكون العجب، وقدَّر الله -عز وجل- ألا يصبر موسى -عليه السلام- على الخضر، وخالف شرط الصحبة مرتين، ثم قطع على نفسه حُكمًا بفراقه في المرة الثالثة وقد كان، وفارق موسى -عليه السلام- الخضر، واستمرَّ الخضر في طريقه المكلف به من ربه، ولكنه قبل أن يفارق موسى -عليه السلام- كشف له عن العلل الخفية الكامنة وراء أفعاله وتصرفاته التي عايشها معه في فترة مصاحبته له.

الرد على أهل الكتاب


وقد وردت هذه القصة في سياق الرد على أهل الكتاب رغم عدم سؤالهم عنها، لكي تفضح منطقهم الفاسد في الربط بين معرفة النبي - صلى الله عليه وسلم - بأحوال وقعت في الدهر الأول وبين إثبات صحة نبوته؛ لأنَّ عدم علمه بهذه الحوادث ليس دليلًا على عدم نبوته؛ لأن النبي لا يعلم الغيب، ولا يعلم مِن الماضي إلا ما أخبره به ربه، ومن إقامة الحجة عليهم ضرب القرآن لهم مثلًا بموسى -عليه السلام- وهو نبيهم الأشهر، فإذا كان موسى -عليه السلام- قد خفيت عليه مسائل من العلم وسافر إلى مجمع البحرين ليتعلمها، فهل كان خفاء هذه المسائل عنه مدعاة لاتهامه بالكذب فيما يبلغ عن ربه؟!


المَعْلَم الرئيس في القصة

انتهت القصة سريعًا، ولكن ظلَّ المَعْلَم الرئيس لها هو: ضرورة طلب العلم وأهميته وشرفه؛ فالدافع الذي جعل موسى -عليه السلام- يسافر هذا السفر الطويل الذي وجد منه النصب والتعب هو الرغبة في تحصيل العلم، والذي جعل الخضر في منزلة المُعلِّم لموسى -عليه السلام رغم أنه نبي، ومِن أولي العزم مِن الرسل- هو العلم، والذي مكَّن الخضر مما قام به من أفعال هو العلم الذي وهبه الله له، والذي جعل موسى -عليه السلام- لا يقبل تصرفات الخضر بهذه الطريقة هو غياب هذا النوع مِن العلم.


تجربة دعوية فريدة


إن مجيء هذه القصة بعد قصة صاحب الجنتين التي تحكي تجربة دعوية في مجتمع ينعم فيه صاحب الدعوة بحرية الحركة، وقبل قصة ذي القرنين التي تحكي تجربة دعوية أيضًا، ولكن بعد حصول التمكين والقوة والسلطان، إشارة إلى أن العلم أحد أهم المحطات على طريق التمكين، بل لا يحدث التمكين الحقيقي إلا بعد أن تُحصِّل الفئة المؤمنة القدر الواجب من العلم، وتبذل المهج في سبيله.


المشهد الأول: العزيمة الصادقة

نقف اليوم مع المشهد الأول من مشاهد هذه القصة وهو العزيمة الصادقة، ويحتوي على رسائل عدة وهي: الهمة العالية والسعي الدؤوب، والحياة تعود إلى السمكة، وحُسن الصحبة، وضريبة التجاوز، وإقالة العثرة.


المشهد كما عرضه القرآن

قال الله -تعالى-: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا}.


رسائل من قلب المشهد

في هذا الجزء من القصة ينقل لنا القرآن الحوار الذي دار بين موسى -عليه السلام- وبين فتاه الذي صحبه معه في هذه السفرة، وقد أفصح موسى -عليه السلام- عمَّا عزم عليه مِن التوجُّه إلى مكانٍ يُقال له: مَجْمَع البحرين، وهو المكان الذي سيجد فيه الخضر، وهذا المكان علامته أن تدُبَّ الحياة في السمكة التي معهما وتقفز إلى المياه، فإذا حدث ذلك، فهذا هو مكان اللقاء المرتقب بينهما.

أعلم موسى -عليه السلام- فتاه بهذه العلامة حتى يُذَكِّره بها فور وقوعها، ولكن الذي حصل أن الفتى نَسِيَ إخبار موسى -عليه السلام- بما حدث من عودة الحياة إلى السمكة، فاستمرَّا في سيرهما، حتى نال منهما التعب وشعرا بالجوع، وطلب موسى -عليه السلام- من فتاه أن يجلسا للراحة والغذاء، هنا تذكر الفتى أمر السمكة التي قفزت إلى البحر، وأخبر موسى -عليه السلام- بالمكان الذي حدث فيه ذلك، وهو عند صخرة مرّا عليها في الطريق، فعلم موسى أن هذا هو المكان المطلوب فرجعا إليه طلبًا للقاء الخضر.


1- الهمة العالية والسعي الدؤوب


قال الله -تعالى-: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا»، «لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ...}، هذا هو الشعار الذي رفعه موسى -عليه السلام-؛ ليكون محفزًا له ومعينًا على هذه الرحلة الشاقة التي بدأها، مع أنه لا يعرف على وجه الدقة متى ستنتهي به وأين؟ فليس معه في هذه الرحلة مرشدًا ولا خِرِّيتًا، ولكنه يسير وفق ما وُصف له، وما أُخبر به من علامات، والهدف المحدد الذي وضعه موسى -عليه السلام- لنفسه هو أن يصل إلى منطقة مجمع البحرين، تلك النقطة التي سيحدث فيها اللقاء بينه وبين مَن يسعى للتعلم على يديه، وفي سبيل الوصول إلى هذا الهدف لن يتراجع أو يتباطأ أو تنصرف عنه همته، ولكنه سيواصل السير، ويستمر في بذل الجهد، حتى لو كلفه ذلك الأمر عشرات السنين أو مُددًا طويلة من الزمن.

الهمة العالية


إن هذه الهمة العالية، وهذا البذل المتفاني ليذكرنا بالشعار الذي رفعه موسى -عليه السلام- في موطنٍ آخر عندما قال له الله -عز وجل-: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَامُوسَى}، فكان رد موسى -عليه السلام-: {قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} (طه:84)، فهدف موسى -عليه السلام- هو الفوز برضا الله -عز وجل-؛ فلذلك لم ينتظر قومه حتى لا يؤخروه عن مراده، ولكنه أسرع في السير وتعجل حتى يبلغ مراده.

وهكذا نتعلم من موسى -عليه السلام- الجدية والهمة العالية، والسعي لتحقيق الأهداف وإنجازها؛ فلولا هذه الهمة من موسى -عليه السلام-، لما وصل إلى هدفه، ولما نال هذه المكانة، وتأمَّل في سعى موسى -عليه السلام- في طلب العلم، وكم كلَّفته هذه الرحلة من جهدٍ ومشقةٍ، ليتعلم ثلاث مسائل مِن العلم لم يكن على علمٍ بها!


فإذا رأيتَ هذا النشاط وصدق العزم على طلب العلم من كليم الله موسى -عليه السلام-، ونظرتَ إلى أحوالنا، وجدتَ أمورًا عجيبة، فرغم أن السبل في زماننا ميسرة عن ذي قبل، إلا أن ضعف الهمة، وفتور العزيمة يكاد يكون هو السمة الغالبة على كثيرٍ مِن الناس.

أحمد الشحات


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 14-11-2022, 10:31 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,926
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مشاهد وعبر من قصــة أصـــحــــــاب الكهــــــــف

مشاهد وعبر من سورة الكهف (13)
- قصة موسى -عليه السلام- والخضر (2)



هذه جولةٌ تأمُّليةٌ في رحاب سورة الكهف، نستهدف منها إيقاظ وعي العاملين في الدعوة الإسلامية، بأن ميادين الإصلاح متعددة، وأن بوسعهم أن يجعلوا مِن الحياة كلها محرابًا للدعوة إلى الله، والتغيير والإصلاح، وقد تضمّنَت السورة بين جنباتها أربعًا من القصص الرائعة، انتظمت في عقدٍ فريدٍ، ونظمٍ بديعٍ، لترسمَ لنا ملامح بارزة في طريق التمكين المأمول، ونتناول في هذه السلسلة قصة موسى -عليه السلام- والخضر.

بدأنا في الحلقة الماضية الحديث عن رحلة موسى -عليه السلام-، وقلنا: إنَّ هذه القصة وردت في سياق الرد على أهل الكتاب، وأنها تفضح منطقهم الفاسد في الربط بين معرفة النبي - صلى الله عليه وسلم - بأحوال وقعت في الدهر الأول، وبين إثبات صحة نبوته، كما ذكرنا أنَّ المَعْلَم الرئيس في القصة هو: ضرورة طلب العلم وأهميته وشرفه، وهو الدافع الذي جعل موسى -عليه السلام- يسافر هذا السفر الطويل الذي وجد منه النصب والتعب، وهو الرغبة في تحصيل العلم، ثم تحدثنا عن المشهد الأول وهو العزيمة الصادقة، واليوم نستكمل الحديث عن رسائل هذا المشهد.
2- الحياة تعود إلى السمكة
قال الله -تعالى-: {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا}، عندما حان الأجل، ووصل موسى وفتاه إلى الموضع المحدد، عادت الحياة إلى السمكة المملوحة، فقفزت في الماء مرةً أخرى! وكان هذا الأمر مِن أحد العجائب الكثيرة التي جاءت في ثنايا القصة، وهي على أي الأحوال ليست بأعجب مما سيشاهده موسى بعد ذلك خلال الرحلة، قال ابن كثير -رحمه الله-: «أمر الفتى بحمل حوت مملوح معه، وقيل له: متى فقدت الحوت، فهو ثَمَّ، فسارا حتى بلغا مجمع البحرين، وهناك عين يُقال لها: عين الحياة، فناما هنالك، وأصاب الحوت من رشاش ذلك الماء، فاضطرب وكان في مكتل مع يوشع -عليه السلام-، وطفر من المكتل إلى البحر، فاستيقظ يوشع -عليه السلام- وسقط الحوت في البحر».
عجائب قدرة الله
وفي هذا المشهد يقف الإنسان متأملًا في عجائب قدرة الله، وما قدَّره الله -عز وجل- مِن أسبابٍ ظاهرةٍ، فمَن الذي أوحى إلى السمكة أن تقفز في البحر عند هذه النقطة؟! ومَن الذي أعاد إليها الحياة بعد أن تملَّحت وأصبحت جاهزةً للأكل؟! إنه الله -عز وجل-، الذي لا تنتهي عجائبه، ولا تفنى معجزاته، ومع ذلك تبقى الأسباب لها دورها وفاعليتها، حتى يتربَّى الإنسان على التوكل مع الأخذ بالأسباب.
3- حسن الصحبة
قال الله -تعالى-: {فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا}، السفر يُسفر عن أخلاق الرجال، وموسى -عليه السلام- كان يعامل فتاه كما يحب أن يتعامل، وعلى مدار الرحلة نجده يجمع بينه وبين فتاه في الخطاب، وعندما حان موعد الغذاء طلب منه إعداده ليأكلا الطعام نفسه سويًّا.
وهكذا تكون الصحبة الصالحة، تعاون وتغافر، وتراحم وترفُّق، وتواضع، فالكبير يرحم الصغير ويحنو عليه، ويتواضع معه، والصغير يحترم الكبير ويحفظ له مكانته وقدره، ويعينه ويساعده، ويترفق في تعامله معه، والكل يعامل إخوانه باللين والرفق، والتغاضي عن الزلّات، وتحمُّل اختلاف الأذواق، والعادات والطباع.
4- ضريبة التجاوز
قال الله -تعالى-: {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا}، هذا النصب لم يظهر عليهما إلا بعد أن جاوزا الحد المرسوم بمرحلةٍ يسيرةٍ، رغم أن السفر كان شاقًّا وطويلًا، ولعل الله -عز وجل- أراد أن ينبههما لذلك بإشارة خفية تجعل مِن اليسير عليهما الرجوع إلى المكان المطلوب.
فإذا كانت مخالفة يسيرة غير مقصودة وقعت من موسى -عليه السلام- وفتاه جعلتهما يشعران بالنصب والتعب؛ فكيف بالمخالفات الجسيمة المتعمَّدة؟! وكيف بالمداومة على المعاصي والذنوب والإصرار على فعلها وكثرة تكرارها؟! وكيف بالمجاهرة بها وإعلانها وعدم الحياء من إظهارها؟!
إنَّ حلم الله على عباده هو الذي يمنع نزول الغضب على مَن يعصيه ويخالف أوامره، ولولا هذا الحلم لهلك العصاة جميعًا، ولكن الله يمهلهم لعلهم أن يرجعوا ويتوبوا، إلا أنً هناك شقاءً وألمًا لابد لكل عاص أن يشعر به ويكتوي بناره، وهناك ضنك وضيق وشقاء، يشعر به كلُّ مَن ابتعد عن الله -عز وجل-، وهذا جزاء عادل، وعقوبة مستحقة، وإنذار للعبد حتى لا يتمادى.
5- إقالة العثرة
قال الله -تعالى-: {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا}، رجع موسى وفتاه على طريقهما يقُصَّان آثار مشيهما ويقفوان أثرهما، والملاحظ هنا: أن موسى -عليه السلام- لم يعاتِب الفتى ولم يعنِّفه، رُغم أنه أخطأ، ورغم أهمية اللقاء، وبُعد المكان، وشدة التعب والجوع، فضلًا عمَّا يترتب على ذلك التأخير من آثار أخرى، إلا أنَّ موسى -عليه السلام- كان حليمًا على فتاه، فعفا عنه وغفر له زلَّته.
وكما أقال موسى -عليه السلام- عثرة الفتى، أقال الله عثرته بعد قليل؛ فقد تحمَّله الخضر عندما نسي وسأله في المرة الأولى على خلاف المتفق عليه بينهما، ثُم تحمله بعد ما سأله في المرة الثانية؛ فإذا أردتَ أن يرزقك الله حسن معاملة الخلق لك فبادر بحسن معاملتك لغيرك؛ فإن صنائع المعروف لا تضيع، والجميل لا يُنسى.
فوائد من المشهد
- المَعْلَم الرئيس لقصة الخضر هو: ضرورة العلم وشرف طلبه؛ فالدافع الذي جعل موسى -عليه السلام- يسافر هذا السفر الطويل الذي وجد منه النصب والتعب هو الرغبة في تحصيل العلم.
- إن مجيء قصة موسى والخضر -عليهما السلام- بعد قصة صاحب الجنتين التي تحكي تجربة دعوية في مجتمع ينعم فيه صاحب الدعوة بحرية الحركة، وقبل قصة ذي القرنين التي تحكي تجربة دعوية أيضًا، ولكن بعد حصول التمكين والقوة والسلطان، إشارة إلى أن العلم أحد أهم المحطات على طريق التمكين، بل لا يحدث التمكين الحقيقي إلا بعد أن تُحصِّل الفئة المؤمنة القدر الواجب من العلم، وتبذل المهج في سبيله.
- رحلة موسى -عليه السلام- مع فتاه تعلمنا كيف تكون الصحبة الصالحة؟ تعاون وتغافر وتراحم، وترفُّق وتواضع، فالكبير يرحم الصغير ويحنو عليه ويتواضع معه، والصغير يحترم الكبير ويحفظ له مكانته وقدره، ويعينه ويساعده ويترفق في تعامله معه، والكل يعامل إخوانه باللين والرفق والتغاضي عن الزلّات، وتحمُّل اختلاف الأذواق، والعادات والطباع.

أحمد الشحات
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 08-12-2022, 10:41 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,926
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مشاهد وعبر من قصــة أصـــحــــــاب الكهــــــــف

مشاهد وعبر من سورة الكهف (16)
- قصة موسى -عليه السلام- والخضر (5)


هذه جولةٌ تأمُّليةٌ في رحاب سورة الكهف، نستهدف منها إيقاظ وعي العاملين في الدعوة الإسلامية؛ لأن ميادين الإصلاح متعددة، وأن بوسعهم أن يجعلوا مِن الحياة كلها محرابًا للدعوة إلى الله، والتغيير والإصلاح، وقد تضمّنَت السورة بين جنباتها أربعًا من القصص الرائعة، انتظمت في عقدٍ فريدٍ، ونظمٍ بديعٍ، لترسمَ لنا ملامح بارزة في طريق التمكين المأمول، ونتناول في هذه السلسلة قصة موسى -عليه السلام- والخضر.

تحدثنا في الحلقات الماضية عن المشهد الأول من قصة موسى -عليه السلام- والخضر وكان بعنوان: (العزيمة الصادقة)، ثم تحدثنا عن المشهد الثاني وكان بعنوان: مجمع البحرين، واليوم نتكلم عن المشهد الثالث وهو بعنوان: (الحوادث الغامضة).
المشهد كما عرضه القرآن
قال الله -تعالى-: «فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا».
رسائل مِن قلب المشهد
انطلق موسى والخضر يمشيان على ساحل البحر يلتمسان مَن يحملهما، حتى مرت بهما سفينة فسألا أهلها أن يحملوهما فوافقوا؛ فلما اطمأنَّا فيها ولجت بهما مع أهلها، أخرج الخضر منقارًا ومطرقة، ثم عمد إلى ناحية من السفينة فضرب فيها بالمنقار حتى خرقها، ثم أخذ لوحًا وجلس ليرقِّعها، هنا تعجب موسى -عليه السلام-؛ إذ كيف يخرق الخضر سفينة في وسط البحر وهي تحملهما وتحمل معهما ركابًا؟!
ظاهر الأمر
إن ظاهر الأمر: أن هذه الفعلة تُعرِّض السفينة وركابها لخطر الغرق، فنسي موسى -عليه السلام- شرط الصحبة، وأنكر على الخضر فعلته، ولكنه عاد واعتذر لمّا ذكّره الخَضِر بالشرط الذي اتفقا عليه، ثم خرجا من السفينة، ودخلا على قرية، فإذا غلمان يلعبون فيها، فأخذ منهم غلامًا فقتله، فرأى موسى صبيًّا صغيرًا بريئًا يُقتل بلا ذنب، فأنكر عليه للمرة الثانية، فإن كانت الحادثة الأولى يتطرق إليها الاحتمال، فإن هذه الحادثة لا مجال -في نظره-لتأويلها أو التماس العذر فيها، ولم يملك الخضر إلا أن يُذكّره بشرط الصحبة مرةً أخرى، فقال له موسى: إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني فقد أعذرت في شأني.
ثم دخلا على قرية فطلبا من أهلها الطعام فأبوا أن يضيفوهما -رغم أنهما جائعان غريبان-، ومع هذا البخل الشديد من أهل القرية، إلا أن الخضر وجد فيها جدارًا يوشك أن يسقط فهدمه ثم بناه مجانًا دون طلب أجرة، فقال له موسى: قد استطعمناهم فلم يطعمونا، وطلبنا ضيافتهم فلم يُضيِّفونا، ثم أنتَ تقدِّم لهم الخدمة مجانًا بلا مقابل، وكان الأولى بك أن تتقاضى على ذلك أجرًا، وهنا تحقق شرط الفراق الذي قطعه موسى -عليه السلام- على نفسه؛ فافترقا.
1- التدرج في العتاب
قال الله -تعالى-: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} - {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}، رغم أن موسى -عليه السلام- وافق على شرط الصحبة مع الخضر، وتعهد على نفسه بالسمع والطاعة، إلا أن التجربة العملية لها وقع مختلف، وعند أول احتكاك مع الحالة الواقعية لم يتحمَّل -عليه السلام- السكوت الذي تعهد به قبل انطلاق الرحلة، وإنما أنكر عليه ما رآه بطريقةٍ تلقائيةٍ.
وقد أنكر موسى -عليه السلام- على الخضر مرتين: الأولى: عند خرق السفينة، وقد وصفَ فيها فعله بأنه: «شَيْئًا إِمْرًا»، والثانية: عند قتل الغلام، وقد وصف فيها فعله بأنه: {شَيْئًا نُكْرًا}، ورغم أن عتاب الخضر كان عتابًا رقيقًا لم يزد فيه على تذكيره له بأول جملة قالها له عندما طلب مصاحبته: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا}، ومع أنه وقع في عين ما سبق أن حذره منه الخضر -وهذا يستجلب في العادة مزيدًا من العتاب-، لكن الخضر لم يفعل.
وزيادة على هذا الترفق في العتاب، استعمل الخضر مبدأ التدرج في توجيه اللوم، فالعتاب على الفعل أول مرة يختلف عن تكراره للمرة الثانية؛ لذلك غلَّظ الخضر قليلًا من لهجة الخطاب بقوله: {أَلَمْ أَقُلْ لَكَ} بينما قال في الأولى: {أَلَمْ أَقُلْ}، وهذا ملمحٌ تربويٌ مهم يجمل بالدعاة والمربين أن ينتبهوا له.
2- الالتماس المُهذَّب

قال الله -تعالى-: {قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا}، أيقن موسى -عليه السلام- بمخالفته للشرط المتفق عليه بينهما، فبادر إلى الاعتذار، وهذا خُلُق كريم منه -عليه السلام- يدل على تواضعه وطيب معدنه، فلم يستنكف أن يعترف بالخطأ وأن يتأسف عليه، وهذا درسٌ تربويٌ بليغ لكلِّ مَن يقرأ القصة، فإذا كان الأنبياء يبادرون بالاعتذار عند وقوع الخطأ منهم ولو نسيانًا، فكيف بغيرهم؟! وهذا يدلنا أيضًا على أن الاعتذار لا يقلل مِن شأن الإنسان، بل يزيده رفعة وشموخًا، فخُلُق الاعتذار لا يقوى عليه إلا الأسوياء الأنقياء، أما المتكبرون؛ فإنهم دائمًا يأنفون مِن الاعتذار والإقرار بالخطأ.
مِن لطائف الآية
ومِن لطائف الآية: أن موسى -عليه السلام- طلب من الخضر إعفاءه من إيقاع العقوبة به، فقد كان من الممكن أن ينهي الخضر علاقته بموسى -عليه السلام- فور مخالفته للشرط، ولو فعل ذلك لما كان مخطئًا؛ بل هذا هو مقتضى الشرط بينهما، ولكن الخضر أحسن إليه فقبل عذره وعفا عنه، وهذا يدلنا على أن المخطئ عليه أن يتحمل نتيجة خطئه، وأن يكون مستعدًا لتحمل التبعات، وفي الوقت نفسه يجمل بصاحب الحق أن يعفو ويغفر.
لذلك شعر موسى -عليه السلام- بالحرج بعد ما عفا عنه الخضر مرتين، فأراد أن يقطع دائرة الاعتذار المتكرر بأن يُلزم نفسه بالفراق عند المخالفة، فقال له: {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا}؛ لذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: {وَدِدْنَا أَنَّ مُوسَى كَانَ صَبَرَ، فَقَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ خَبَرِهِمَا}.
3- الفراق المؤلم
قال الله -تعالى-: {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا}: الملاحظ هنا: أن الخضر لم يعاتب موسى -عليه السلام-، بل انتقل مباشرة إلى تطبيق الأمر الذي ألزم به موسى -عليه السلام- نفسه، وهو: الفراق إذا تكرر السؤال، ورغم أن موسى -عليه السلام- هو الذي ألزم نفسه بالشرط، إلا أنه لم يطق أن يلتزم به؛ لأنه رأى بعينه أمورًا ظاهرة النكارة -في نظره- ولا يمكنه أن يسكت عنها، ثم انتقل السياق بعد ذلك إلى إبراز الحِكَم الخفيّة من وراء هذه الأفعال حتى يعلمها موسى -عليه السلام-، وقد قصَّها الله علينا لنتعلم منها أيضًا ما خفي من أمر هذه الأحداث.
فوائد من المشهد
- رغم أن موسى -عليه السلام- وافق على شرط الصحبة مع الخضر، وتعهد على نفسه بالسمع والطاعة، إلا أن التجربة العملية لها وقع مختلف، وعند أول احتكاك مع الحالة الواقعية لم يتحمَّل -عليه السلام- السكوت الذي تعهد به قبل انطلاق الرحلة، وإنما أنكر عليه ما رآه بطريقة تلقائية، وهذا يعلمنا أن التجربة العملية دائمًا لها وقع مختلف.
- عندما أيقن موسى -عليه السلام- بمخالفته للشرط المتفق عليه بينهما، بادر إلى الاعتذار، وهذا خلق كريم منه -عليه السلام- يدل على تواضعه وطيب معدنه، فلم يستنكف أن يعترف بالخطأ وأن يتأسف عليه، وهذا درس تربوي بليغ لكل مَن يقرأ القصة، فإذا كان الأنبياء يبادرون بالاعتذار عند وقوع الخطأ منهم ولو نسيانًا، فكيف بغيرهم؟!
- اعتذار موسى -عليه السلام- يدلنا على أن الاعتذار لا يقلل مِن شأن الإنسان، بل يزيده رفعة وشموخًا؛ فخُلُق الاعتذار لا يقوى عليه إلا الأسوياء الأنقياء، أما المتكبرون فإنهم دائمًا يأنفون مِن الاعتذار والإقرار بالخطأ.
- مِن لطائف اعتذار موسى -عليه السلام-: أنه طلب من الخضر إعفاءه من إيقاع العقوبة به، فقد كان من الممكن أن ينهي الخضر علاقته بموسى -عليه السلام- فور مخالفته للشرط، ولو فعل ذلك لما كان مخطئًا، بل هذا هو مقتضى الشرط بينهما، ولكن الخضر قبل عذره، وهذا يدلنا على أن المخطئ عليه أن يتحمل نتيجة خطئه، وأن يكون مستعدًا لتحمل التبعات، وفي الوقت نفسه يجمل بصاحب الحق أن يعفو ويغفر.


أحمد الشحات

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 14-11-2022, 10:37 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,926
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مشاهد وعبر من قصــة أصـــحــــــاب الكهــــــــف

مشاهد وعبر من سورة الكهف (14)
- قصة موسى -عليه السلام- والخضر (3)


هذه جولةٌ تأمُّليةٌ في رحاب سورة الكهف، نستهدف منها إيقاظ وعي العاملين في الدعوة الإسلامية؛ أن ميادين الإصلاح متعددة، وأن بوسعهم أن يجعلوا مِن الحياة كلها محرابًا للدعوة إلى الله، والتغيير والإصلاح، وقد تضمّنَت السورة بين جنباتها أربعًا من القصص الرائعة، انتظمت في عقدٍ فريدٍ، ونظمٍ بديعٍ، لترسمَ لنا ملامح بارزة في طريق التمكين المأمول، ونتناول في هذه السلسلة قصة موسى -عليه السلام- والخضر.
تحدثنا في الحلقة الماضية عن المشهد الأول من قصة موسى -عليه السلام- والخضر، وكان بعنوان: (العزيمة الصادقة)، واليوم نتحدث عن المشهد الثاني وهو بعنوان: (مجمع البحرين)، ويحتوي على عدد من الرسائل وهي: (النفسية الرحيمة، والعلم اللدُنّي، والأدب الجم، نصيحة مشفق، والعزم الأكيد والصبر المديد، الصحبة المشروطة).
المشهد كما عرضه القرآن
قال الله -تعالى-: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا}.
رسائل من قلب المشهد
وصل موسى -عليه السلام- إلى المكان الذي ينتظره فيه الخضر، ودار بينهما حوار قصير طلب فيه موسى -عليه السلام- من الخضر أن يصطحبه ليتعلم من علمه، ورد عليه الخضر بأنه لن يتحمل ما سيراه منه؛ لأنه لم يحط بالحِكَم الخفيّة من ورائها، ولكنَّ موسى -عليه السلام- تعهَّد بالصبر والطاعة، فأكد الخضر على موسى -عليه السلام- شرط الصُحبة وانطلقا معًا وفق هذا الشرط.
1- النفسية الرحيمة
قال الله -تعالى-: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا}: ما أجمل هذه النعمة التي أعطاها الله للخضر (نعمة الرحمة)! فإذا كان اتصاف الإنسان بالرحمة عموما مجلبة لمدحه ودافعًا لمحبة الخلق له، فما الظن بالرحمة الخاصة التي وهبها له الله مِن عنده للخضر -عليه السلام- حتى فاضت على مَن حوله مِن كثرتها ووفرتها؟!
والرحمة أثر من آثار القرب من الله -عز وجل-؛ فإن قساة القلوب غلاظ الأكباد يُحرمون هذه النعمة بسبب بُعد قلوبهم عن الله، وقد جمع الله للخضر بين العلم والرحمة؛ ولكنه قدّم الرحمة على العلم؛ لأن العالِم لابد أن يكون رحيمًا بالناس مشفقًا عليهم، ولا يكون عالمًا ولا عارفًا بالله مَن أحبَّ الهلاك للناس، أو تعمَّد التضييق عليهم، بل يكون العالِم حريصًا على هداية الخلق، حزينًا على بُعدهم عن الهداية، متمنيًا لهم الخير والفلاح.
2- العلم اللدُنّي
قال الله -تعالى-: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا}: علَّم الله الخضر علمًا خاصًّا مِن عنده؛ حيث كشف له عن أنواع من الحِكَم الخفية التي لا يطلع عليها البشر، بل هي بالنسبة لمن يجهلها من الغيب المحض، وقد جاء في الحديث أن موسى قال للخضر: «... جِئْتُ لِتُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا، قَالَ: أَمَا يَكْفِيكَ أَنَّ أَنْبَاءَ التَّوْرَاةِ بِيَدِكَ، وَأَنَّ الْوَحْيَ يَأْتِيكَ، يَا مُوسَى، إِنَّ لِي عِلْمًا لَا يَنْبَغِي أَنْ تَعْلَمَهُ، وَإِنَّ لَكَ عِلْمًا لَا يَنْبَغِي أَنْ أَعْلَمَهُ، فَجَاءَ طَائِرٌ، فَأَخَذَ بِمِنْقَارِهِ، فَقَالَ: وَاللهِ مَا عِلْمِي وَعِلْمُكَ فِي عِلْمِ اللهِ، إِلَّا كَمَا أَخَذَ هَذَا الطَّائِرُ بِمِنْقَارِهِ مِنَ الْبَحْرِ... »، ما أجمل هذا الدرس البليغ الذي بدأ به الخضر رحلته مع موسى -عليه السلام!
علم الخضر -عليه السلام- بحقيقة نفسه
هذه الجملة المختصرة التي تكشف عن علم الخضر -عليه السلام- بحقيقة نفسه ومدى حاجتها إلى خالقها، وتكشف عن نفسية سويّة تُسنِد الفضل إلى صاحب المِنَّة الحقيقية، كما أنها تبيِّن أثر العلم في تقويم سلوك صاحبه، فإنما العلم الخشية، فمع علم الخضر بأشياء تخفى على معظم الخلق، إلَّا أنه يُقر في نفسه بضآلة حجم هذا العلم مقارنة بعلم الله الواسع.
كما كشف هذا الموقف عن خلق التواضع الذي تحلَّى به الخضر، فرغم أن موسى -عليه السلام- أتى إليه متعلمًا ساعيًا في مصاحبته وملازمته؛ إلا أنه حفظ لموسى -عليه السلام- قدره ومكانته، وبيَّن له أن العلاقة بينهما ليست علاقة تلميذ بمعلمه، وإنما خصَّ الله كلًّا منهما بعلمٍ لا يعلمه الآخر، وهذه العلوم وغيرها لا تُنقص مِن علم الله إلا «ما نقص هذا العصفور من هذا البحر»، أي: لا تُنقص شيئًا على الحقيقة، وإنما هو مِن باب ضرب الأمثال.
3- الأدب الجم
قال الله -تعالى-: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}: يطلب موسى -عليه السلام- من الخضر مصاحبته بتلطفٍ وحسنِ أدبٍ، رغم أن مقامه أعلى من الخضر، ومَنزلته عند الله أفضل، ولكنَّ موسى -عليه السلام- يعلمنا درسًا في أدب التعامل مع المعلِّم، واحترام مقامه، حتى لو كان المعلم أصغر سنًّا أو أقل منزلةً من المتعلم على يديه، ولكن العلم له مهابته وتوقيره، واحترام المعلم فرع على توقير العلم ورفعة شأنه.
إن توقير المعلِّم هو السبيل الوحيد الذي مِن خلاله ينال الطالب علوم أستاذه، وبدون توفر هذا الأدب في سلوك طالب العلم، فلن يجد له منبعًا صافيًا يتلقّى منه العلوم، وربَّما ظل طُوال حياته ينتقل من معلّمٍ إلى آخر، ومِن شيخ إلى شيخ دون أن يُحصِّل شيئًا من العلوم، فضلًا عن أن يُحصل الأدب الذي هو الثمرة المرجوة من العلم، فمن لم يتعلم الأدب من شيخه ومعلمه فلم يتعلم شيئًا، ولن ينفعه حينها كثرة المعلومات ولا غزارة المسائل، بل تكون حجةً عليه، وخصمًا من رصيده، وإذا قُدر لهذا الطالب أن يكون معلمًا في يومٍ مِن الأيام، فلن تنتفع منه الأمة بشيء، بل سيكون بؤرةً يجتمع حولها الفاسدون وغير الأسوياء ممن أراد مِن هذا العلم مآرب أخرى.
4- نصيحة مشفق
قال الله -تعالى-: {قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا}: ردَّ الخضر على طلب موسى -عليه السلام- بمصاحبته رد المشفق الذي يتوقع مآلات الأمور، فالعلم الذي عنده ليس هو العلم الظاهر الواضح الأسباب، إنما هو جانب من العلم اللدنّي الذي أطلعه الله عليه، ومِن ثَمَّ فلا طاقة لموسى -عليه السلام- بالصبر على أفعال الخضر؛ لأنَّ ظاهرها يصطدم بما يعلمه موسى -عليه السلام- من الشريعة التي حمَّله الله أمانة تبليغها، ولابد له من إدراك ما وراء هذه الأفعال من الحكم المغيبة، وإلا فسيعتبرها تصرفات مصادمة للشريعة، وهذا ما كان يخشاه الخضر.
وحتى لا يحزن موسى -عليه السلام- من ذلك، أخبره الخضر أن عدم صبره على ما سيجده من أمور غريبة، ليس نابعًا من تقصيرٍ منه ولا قلة فهم، وإنما عدم معرفة بأمورٍ لم يحط أحدٌ مِن البشر بعلمها وبمعرفتها؛ ومن ثم فاستنكاره وعدم صبره شيء مُتوقَّع، ولا ذنب لموسى -عليه السلام- في ذلك.

أحمد الشحات
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 14-11-2022, 10:43 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,926
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مشاهد وعبر من قصــة أصـــحــــــاب الكهــــــــف

مشاهد وعبر من سورة الكهف (15)
- قصة موسى -عليه السلام- والخضر (4)

هذه جولةٌ تأمُّليةٌ في رحاب سورة الكهف، نستهدف منها إيقاظ وعي العاملين في الدعوة الإسلامية، أن ميادين الإصلاح متعددة، وأنبوسعهم أن يجعلوا مِن الحياة كلها محرابًا للدعوة إلى الله، والتغيير والإصلاح، وقد تضمّنَت السورة بين جنباتها أربعًا من القصصالرائعة، انتظمت في عقدٍ فريدٍ، ونظمٍ بديعٍ، لترسمَ لنا ملامح بارزة في طريق التمكين المأمول، ونتناول في هذه السلسلة قصة موسى -عليه السلام- والخضر.
تحدثنا في الحلقة الماضية عن المشهد الأول من قصة موسى -عليه السلام- والخضر وكان بعنوان: (العزيمة الصادقة)، واليوم نتحدث عن المشهد الثاني وهو بعنوان: (مجمع البحرين)، ويحتوي على عدد من الرسائل وهي: «النفسية الرحيمة، والعلم اللدُنّي، والأدب الجم، ونصيحة مشفق، والعزم الأكيد والصبر المديد، والصحبة المشروطة».
5- العزم الأكيد والصبر المديد
قال الله -تعالى-: {قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا}: لم يتراجع موسى -عليه السلام- عما عَزَم عليه، ولم تزده كلمات الخضر إلا إصرارًا على مواصلة السير في رحلة طلب العلم، التي قطع من أجلها أسفارًا بعيدة، وأما بخصوص خوف الخضر مِن عدم تحمله لما سوف يراه؛ فقد طمأنه موسى -عليه السلام- بخصوص هذا الأمر، وقدَّم المشيئة في ذلك، وزاد على تعهده بالصبر أن يكون سامعًا لأوامره مطيعًا لما يأمره به.
تقديم المشيئة في الأفعال والأقوال
وتقديم المشيئة في الأفعال والأقوال من الدروس الكبرى التي تؤكدها السورة؛ فإن سبب تأخر الوحي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان بسبب عدم ذكر المشيئة، بينما سبقت المشيئة قول يوسف -عليه السلام- لأبويه وإخوته، قال -تعالى-: {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} (يوسف:99)، وفي قول الرجل الصالح لموسى -عليه السلام-، قال -تعالى-: {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} (القصص:27)، وفي قول إسماعيل -عليه السلام- لأبيه: {قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} (الصافات:102)، ولو لم يقدِّم بنو إسرائيل المشيئة في قولهم: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} (البقرة:70)، لما هداهم الله إلى البقرة التي يبحثون عنها.
وهنا لمحة أخرى من تواضع موسى -عليه السلام- لمَن سيتعلم على يديه، وسيكون له بمنزلة القائد والمعلم. إن كثيرًا مِن الأعمال الصالحة ربما تتعطل أو تتوقف بسبب قلة المطاوعة وكثرة المنازعة، وقلة الصبر والتنافس غير المحمود، وعدم إحسان كل فرد لعمله، والتفرغ لعدِّ الأخطاء والوقوف أمام الزلات؛ فهلَّا تعلم الدعاة إلى الله من موسى -عليه السلام؟! وهل نطْمح أن نرى شعار كل عامل لدين الله -عز وجل- مع شركائه في العمل، ورفاقه على الدرب هو: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا}؟!
إن الجزع وعدم التحمل داءٌ فتاك، يصيب كثيرًا مِن الدعاة فيُقعدهم عن السير، ويثبط عزيمتهم عن مواصلة الطريق، كما أن كثرة الخلافات والتنازع والجدل من أشد الأمور خطرًا على القلوب، ومِن أكثر ما يُحمِّل النفس بالضغائن والأحقاد، فيكثر الفشل، ويدب الشقاق بين رفقاء الطريق الواحد، والعلاج الحاسم الذي يقطع دابر كل هذه الآفات، هو تعلُّم أدب السمع والطاعة، والتخلُّق بفضيلة الصبر.
6- الصحبة المشروطة
قال الله -تعالى-: {قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا}: مِن الواضح أن الخضر -عليه السلام- لديه حرصٌ على أن تستمرَّ صحبة موسى -عليه السلام- له، ولمَ لا يكون حريصًا وهو الولي الذي يعرف منزلة موسى -عليه السلام؟! ولكنه في الوقت نفسه يخشى ألا يتحمل موسى -عليه السلام- ما سيراه من أفعال مستنكرة، بل بعضها شديد القبح والنكارة، مثل: قتل الغلام؛ لذلك كان شرط الخضر الذي صاغه بعبارة واضحة هو: {لَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا}.
فلم يكتفِ الخضر بتعهد موسى -عليه السلام- بالصبر والسمع والطاعة، ولكنه كان أكثر تحديدًا لمراده؛ لأن الخضر يعلم مِن طبيعة الحال: أن موسى -عليه السلام- سوف يعترض عليه بمجرد أن يراه يفعل فعلًا مستنكرًا عنده، فأراد أن يؤكد عليه أن يمسك لسانه عن السؤال والاعتراض، حتى يكون الخضر هو مَن يفسِّر له ما غمض عليه فهمه.
فوائد من المشهد
- الرحمة أثر من آثار القرب من الله -عز وجل-؛ فإن قساة القلوب غلاظ الأكباد يُحرَمون هذه النعمة؛ بسبب بُعد قلوبهم عن الله، وقد جمع الله للخضر بين العلم والرحمة، ولكنه قدَّم الرحمة على العلم؛ لأن العالِم لابد أن يكون رحيمًا بالناس مشفقًا عليهم، ولا يكون عالمًا ولا عارفًا بالله مَن أحبَّ الهلاك للناس، أو تعمَّد التضييق عليهم، بل يكون العالم حريصًا على هداية الخلق، حزينًا على بُعدهم عن الهداية، راجيا لهم الخير والفلاح.
- طلب موسى -عليه السلام- من الخضر مصاحبته بتلطفٍ وحسنِ أدبٍ، رغم أن مقامه أعلى من الخضر، ومَنزلته عند الله أفضل، ولكنَّ موسى -عليه السلام- يعلِّمنا درسًا في أدب التعامل مع المعلم، واحترام مقامه، حتى لو كان المعلم أصغر سنًّا أو أقل منزلةً من المتعلم على يديه، ولكن العلم له مهابته وتوقيره، واحترام المعلم فرع على توقير العلم ورفعة شأنه.
- قصة الخضر تقول لنا: إن كثيرًا من الأعمال الصالحة ربما تتعطل أو تتوقف بسبب قلة المطاوعة وكثرة المنازعة، وقلة الصبر والتنافس غير المحمود، وعدم إحسان كل فرد لعمله، والتفرغ لعدِّ الأخطاء والوقوف أمام الزلات؛ فهلا تعلَّم الدعاة إلى الله من موسى -عليه السلام؟ وهل نطمح أن نرى شعار كل عامل لدين الله -عز وجل- مع شركائه في العمل، ورفاقه على الدرب هو: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا}؟.
- قصة الخضر تقول لنا: إن الجزعَ وعدم التحمل داءٌ فتاكٌ يصيب كثيرًا مِن الدعاة، فيُقعدهم عن السير، ويثبط عزيمتهم على مواصلة الطريق، كما أن كثرة الخلافات والتنازع والجدل من أشد الأمور خطرًا على القلوب، ومن أكثر ما يُحمِّل النفس بالضغائن والأحقاد، فيكثر الفشل، ويدب الشقاق بين رفقاء الطريق الواحد، والعلاج الحاسم الذي يقطع دابر كل هذه الآفات، هو تعلم أدب السمع والطاعة، والتخلق بفضيلة الصبر.

أحمد الشحات

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 08-12-2022, 10:48 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,926
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مشاهد وعبر من قصــة أصـــحــــــاب الكهــــــــف

مشاهد وعبر من سورة الكهف (17)
- قصة موسى -عليه السلام- والخضر (6)

هذه جولةٌ تأمُّليةٌ في رحاب سورة الكهف، نستهدف منها إلى إيقاظ وعي العاملين في الدعوة الإسلامية؛ فإن ميادين الإصلاح متعددة، وأن بوسعهم أن يجعلوا مِن الحياة كلها محرابًا للدعوة إلى الله، والتغيير والإصلاح، وقد تضمّنَت السورة بين جنباتها أربعًا من القصص الرائعة، انتظمت في عقدٍ فريدٍ، ونظمٍ بديعٍ، لترسمَ لنا ملامح بارزة في طريق التمكين المأمول، ونتناول في هذه السلسلة قصة موسى -عليه السلام- والخضر.
تحدثنا في الحلقات الماضية عن مشاهد القصة فكان المشهد الأول بعنوان: (العزيمة الصادقة)، ثم تحدثنا عن المشهد الثاني وكان بعنوان: (مجمع البحرين)، ثم تحدثنا عن المشهد الثالث وكان بعنوان: (الحوادث الغامضة)، واليوم نستكمل عن المشهد الرابع وهو بعنوان: (الحِكَم الخفيَّة).
المشهد كما عرضه القرآن
قال الله -تعالى-: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا}.
رسائل من قلب المشهد
في هذا الجزء من القصة يشرع الخضر في تفسير ما أشكل أمره على موسى -عليه السلام-، وما كان ظاهره مستبشعًا عنده، وقد أطلع الله الخضر على حِكَمٍ باطنةٍ في تلك الأفعال التي قام بها، فعلَّل خرق السفينة بقوله: إن السفينة إنما خرقتها لأعيبها؛ لأنهم كانوا يمرون بها على ملكٍ ظالمٍ يأخذ كل سفينة صالحة غصبًا، فأردتُ أن أعيبها لأصرف نظره عنها، فينتفع بها أصحابها المساكين الذين لم يكن لهم شيء ينتفعون به غيرها.
سبب قتل الغلام
ثم علل الخضر قتله للغلام بقوله: إنه كان للغلام أبوان مؤمنان فخشينا أن يحملهما حبه على متابعته على الكفر، فأردنا أن يبدلهما ربهما ولدًا أزكى مِن هذا، وهما أرحم به منه؛ لذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الْغُلَامَ الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ طُبِعَ كَافِرًا، وَلَوْ عَاشَ لَأَرْهَقَ أَبَوَيْهِ طُغْيَانًا وَكُفْرًا».
سبب بناء الجدار
ثم علل بناءه للجدار بقوله: هذا الجدار إنما أصلحته؛ لأنه كان لغلامين يتيمين في المدينة، وكان تحته مال مدفون لهما، فكان في إصلاح الجدار حفظًا لمالهما من الضياع ومكافأة لما كان عليه أبوهما من الصلاح.
ثم ختم كلامه برد الأمر إلى الله فقال له: هذا الذي فعلته في هذه الأحوال الثلاثة، إنما هو مِن رحمة الله بأصحاب السفينة، ووالدي الغلام، وولدي الرجل الصالح، وما فعلتُه عن أمري، لكني أُمرتُ به ووقفتُ عليه.
1- الملك الظالم وفقه الموازنات
قال الله -تعالى-: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا}: تلمح هنا في هذه الآية: أن القرآن لم ينسب الغصب إلى لصٍّ أو محتالٍ أو قاطع طريقٍ، ولكن نسبه إلى المَلِك، وهذا مِن أعجب العجب؛ لأن الملك بما تحت يديه من أموال وكنوز وسلطان لا يحتاج إلى سفينة المساكين، ولو أمر رجاله أن يصنعوا له أسطولًا من أفضل السفن لفعلوا، ولكنه مع الأسف- يتتبع سفن الفقراء والمساكين ليغتصبها منهم عنوة.
كيف نفهم تلك النفسية؟
النفسية التي تعيش على القهر والاستبداد، وتتلذذ بإيلام الناس وإيذائهم، فتستحل دماءهم وأموالهم، وربَّما أعراضهم، هذه الشخصية المريضة تتكرر عبر الزمان والمكان، ولكن ما يُسرِّي عن المؤمن في ذلك: أن الله يدفع ويدافع عن الذين آمنوا، فمن الذي أرسل الخضر لهؤلاء المساكين وهم يعملون في البحر إلا الله -عز وجل-، دون كسبٍ منهم، ولا سعي في حماية أنفسهم، فعلِّق قلبك بالله يرسل لك جنوده التي لا يعلمها إلا هو؛ لتدفع عنك، وتحميك من شر الظالمين، وشر شياطين الإنس والجن.
مما يُسرِّي عن المؤمن
كذلك مما يُسرِّي عن المؤمن: أن الحياة قصيرة، فهذا الملك الذي طال ظلمه لم يعمّر في الحياة أكثر مِن عمره المقدَّر، ورحل تاركًا خلفه كل شيء، ترك آماله وأولاده وممتلكاته، فضلًا عن سفن الناس وأموالهم، وعند الله تجتمع الخصوم. المهم أن ننتبه إلى أن الحياة قصيرة بالفعل.
ملمح شديد الأهمية
وهنا ملمح شديد الأهمية دلتنا عليه الآية وهو: أن الله -عز وجل- لم يأمر الخضر أن يواجه الملك الظالم ويخلِّص الناس من شره؛ فلماذا اتجه الخضر إلى سفينة المساكين ليخرقها وقد كان من الأولى به أن يأمر الظالم أن يكفَّ أذاه وظلمه عن الناس، فلماذا أفسد سفينة الضعفاء بينما لم يوجه كلمة للملك الظالم؟
وطن عظيم منمواطن العِبْرَة

وهنا موطن عظيم من مواطن العِبْرَة والعِظة في قصة الخضر؛ حيث إن الخضر كان يُوحى إليه كما صرَّح لموسى -عليه السلام- بذلك أو أمره نبي آخر، فأفعاله التي يفعلها ليست من عنده ولا نتيجة لاجتهاده، ولكنها أوامر الوحي، وهذا يدلنا على أنه في بعض الأحيان لا نطيق أن نواجه الظالم، ولا يكون لدينا القدرة الكافية على ردعه، فليس من الحكمة وقتها أن نتصدى له، بل قد نحتال من أجل أن ندفع الضرر عن أنفسنا دون مواجهته.
كيف نأخذ بالأسباب؟
والقصة جاءت لتعلمنا كيف نأخذ بالأسباب، وإلا فمعلوم أن الله قادر على أن يهلك هذا الظالم بلمة، ولكن الله -عز وجل- أجرى هذه الأحداث بهذه الطريقة، حتى نتعلم نحن كيف نتعامل مع الأحداث التي تواجهنا في حياتنا، فواقع القصة يقول: إن هؤلاء مساكين لا يتمكنون من مواجهة الملك، والخضر لم يكن كذي القرنين ملِكًا ممكنَا، ولكنه كان متنقلًا في الأرض، وإنما بعثه الله من أجل حماية المساكين أولًا، ثم ليعلمنا أننا قد نُضطر لخرق السفينة بأيدينا ليس مِن باب إتلافها أو إفسادها، ولكن حماية لها ولمن فيها من الهلاك التام.
خرقٌ خيرٌ من فقدان
فخرق يسير يسهل معالجته حتى ولو بالترقيع، خير من فقدان السفينة بالكامل، وهذه موازنات دقيقة قد نلجأ إليها في ظل اختلال ميزان القوى بيننا وبين أعدائنا، ويبقى العلم هو الحَكَم على أفعال الناس بعد انقطاع الوحي؛ فقد يلجأ بعض العلماء أو العقلاء في موقفٍ ما إلى خرق جزءٍ مِن السفينة بأنفسهم حماية للسفينة، فلا يحتمل بعض الناس منهم هذا الفعل، وربَّما اتهموهم وطعنوا في أمانتهم وديانتهم، ولو عقلوا وتدبروا، لعلموا أن مثل هؤلاء العقلاء يحفظ الله بهم الأمة من الضياع في ظل موازناتٍ صعبةٍ وخياراتٍ مُرَّة، كما اضطر الخضر إلى خرق سفينة المساكين رغبةً في حمايتها من الضياع بالكلية.
رحمة موسى -عليه السلام
ونلمح من هذا الموقف: رحمة موسى -عليه السلام- بأهل السفينة؛ حيث قال: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا}، فموسى -عليه السلام- يخاف على الناس من الهلاك، وهكذا تكون قلوب العلماء والدعاة والمصلحين، قلوب تمتلئ رحمة وشفقة على مَن يدعونهم، ويرجون لهم الهداية والصلاح، وصدق شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- حينما عبَّر عن المنهجية التي يقوم عليها أهل السنة في التعامل مع الناس، فقال: «أهل السنة يعرفون الحق، ويرحمون الخلق».

أحمد الشحات

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 08-12-2022, 10:58 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,926
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مشاهد وعبر من قصــة أصـــحــــــاب الكهــــــــف

مشاهد وعبر من سورة الكهف (18)
- قصة موسى -عليه السلام- والخضر (7)



هذه جولةٌ تأمُّليةٌ في رحاب سورة الكهف، نستهدف منها إيقاظ وعي العاملين في الدعوة الإسلامية، وأن ميادين الإصلاح متعددة، وأن بوسعهم أن يجعلوا مِن الحياة كلها محرابًا للدعوة إلى الله، والتغيير والإصلاح، وقد تضمّنَت السورة بين جنباتها أربعًا من القصص الرائعة، انتظمت في عقدٍ فريدٍ، ونظمٍ بديعٍ، لترسمَ لنا ملامح بارزة في طريق التمكين المأمول، ونتناول في هذه السلسلة قصة موسى -عليه السلام- والخضر.
تحدثنا في الحلقات الماضية عن مشاهد القصة فكان المشهد الأول بعنوان: (العزيمة الصادقة)، ثم تحدثنا عن المشهد الثاني وكان بعنوان: (مجمع البحرين)، ثم تحدثنا عن المشهد الثالث وكان بعنوان: الحوادث الغامضة، واليوم نستكمل المشهد الرابع وهو بعنوان: (الحِكَم الخفيَّة).
2- أبوة مؤمنة وبنوة كافرة
قال الله -تعالى-: «وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا»، الإيمان هبة من الله -عز وجل-، فقد عَلِم الله أزلًا أن هذا الغلام سيكفر حينما يبلغ رغم أن أبويه مؤمنان، فليس في الإيمان نسب ولا واسطة، كما حكى القرآن عن زوجة نوح -عليه السلام-: «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} (التحريم:10)، وقال عن ابنه: «وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} (سورة هود)، وفي المقابل: كانت زوجة فرعون مؤمنة، قال الله -تعالى-: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (التحريم:11).
الهداية بيد الله
من هنا نعلم أن الهداية بيد الله، فإذا وجدنا أن أقرب الناس إلينا لم يُرزق هذه الهداية، فلنوقن أنَّ لله في ذلك حِكَمًا، وأن الهداية لابد أنْ يستقبلها مَحِلٌ صالح وأرضٌ مهيأة، وليست بالرغبة ولا بالتمني، كما قال الله -عز وجل- لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (القصص:56).
الله أعلم بقلوب العباد
فالله أعلم بقلوب العباد، وهو مطلع على السرائر، وهو أعلم بمَن يتقي، وبمَن يعصي، كما ذكر الله حال المشركين المكذبين فقال: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} (سورة الأنفال).
الأموال والأولاد قد يكونون فتنة
ونعلم أيضًا: أن مِن الأموال والأولاد ما قد يكون فتنة لنا، قال -تعالى-: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (الأنفال:28)، وقال -عز وجل-: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (التغابن:15)، فقد عَلِم الله -عز وجل- أن هذا الغلام سيصير فتنة لأبويه بعد ما يكبر، فكم مِن أولاد وأبناء تسببوا في فتنة آبائهم! وكم مِن بناتٍ شجعن أمهاتهن على التبرج بعد ما كبرن! وكم مِن أبناء تسببوا في قطيعة رحمٍ لآبائهم وأمهاتهم! وكم مِن أبناء جلبوا لأهليهم المتاعب والمصائب حتى أنهم تمنوا أن لو فقدوهم، أو لم يكونوا قد رُزقوا بهم من البداية!
الإنسان لا يعلم أين الخير
فالإنسان لا يعلم أين الخير على الحقيقة، فقد يتمنى الولد، فإذا فيه شقاؤه وتعاسته، وقد يشتهي البنت فإذا فيها مذلته ومهانته، ولكن يجب على الإنسان أن يسأل الله من خيري الدنيا والآخرة، وليكثر من قول: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (سورة البقرة)، فإنه مِن خير الدعاء، وأنفعه وأجمعه.
تسرية عن قلب كل إنسان
وفي الآية تسرية عن قلب كل إنسان لم يُرزق الولد، أو كل مَن فقد ابنه بموت أو مرض أو غيره، فلعل الله قد رحمه من العذاب والشقاء بموته صغيرًا، وربما عافاك من الفتنة في دينك ودنياك، فإنه مِن المؤكد أن والدي الغلام قد حزنا على فقده، ولكن شهود الحكمة الإلهية في مثل هذه الحوادث من أفضل ما يعين الإنسان على مجاوزة مصابه، والتسامي على آلامه، فعلِّق قلبك بربك، وأحسن به الظن، فما أراد الله لنا إلا الخير مهما غابت الحِكَم عن أنظارنا.
القتل للغلام حدث بوحيٍ مِن الله
وغني عن الذكر: أن هذا القتل للغلام حدث بوحيٍ مِن الله، ولا يجوز لأحدٍ أن يفعل ذلك ويدَّعي أن هذا وحي أو إلهام مِن الله! بل لا يفعل ذلك إلا الدجّالون الكذّابون الذين يدَّعون معرفة الغيب والاتصال بالوحي، وما هو إلا وحي الشياطين والأبالسة ممن يرومون نشر الفساد والضلال والشر بين الناس، وقد كتب نجدة بن عامر الحروري إلى ابن عباس -رضي الله عنهما- يسأله: «هَلْ كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْتُلُ مِنْ صِبْيَانِ الْمُشْرِكِينَ أَحَدًا؟»، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: «إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَكُنْ يَقْتُلُ مِنْهُمْ أَحَدًا، وَأَنْتَ فَلَا تَقْتُلْ مِنْهُمْ أَحَدًا، إِلَّا أَنْ تَكُونَ تَعْلَمُ مِنْهُمْ مَا عَلِمَ الْخَضِرُ مِنَ الْغُلَامِ حِينَ قَتَلَهُ، وَتُمَيِّزَ الْمُؤْمِنَ، فَتَقْتُلَ الْكَافِرَ، وَتَدَعَ الْمُؤْمِنَ».
3- الكنز المدفون
قال الله -تعالى-: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ}، وفي هذا دليل: على أن الرجل الصالح يُحفظ في ذريته، وتشمل بركة عبادته نفعهم في الدنيا والآخرة، كما قال -تعالى-: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} (الطور:21)، ولم يذكر الله نوع الصلاح الذي كان مِن والدهم، ليفتح الباب لفعل أي نوع من الصلاح حتى لا تقصر همة بعضهم بتصور خاص عن الصلاح فيحجِّرون واسعًا، فليكثر الوالدان من الأعمال الصالحة فأثر ذلك ينعكس على الأبناء في الحياة وبعد الممات، وقد ورد عن سعيد بن المُسَيب -رحمه الله- أنه قال لابنه: «لأزيدن في صلاتي مِن أجلك، رجاء أن أحفظ فيك» ثم تلا هذه الآية: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} (الكهف: 82).
مما يؤسف عليه في هذه الأيام
أن ينهمك الوالدان في تأمين مستقبل أولادهم الدنيوي فقط، ويقصِّرون في تأمين مستقبلهم بعد مماتهم بتنشئة أبناء صالحين يدعون لهم ويترحمون عليهم، كما ذكر القرآن الدعاء للوالدين في قوله -تعالى-: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} (نوح:28)، وقوله: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} (إبراهيم:41)، وكما أمرنا الله -عز وجل- بالترحم على والدينا فقال -عز وجل-: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} (الإسراء:24)، فاصنع لنفسك كنزًا مِن البرِّ والتقوى والصلاح، يعثر عليه أولادك مِن بعدك، لكي تستمطر بسببه على قبرك الرحمات.
4- الحكمة الإلهية
قال الله -تعالى-: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي}، ختم الخضر كلامه عن أسرار ما قام به من أفعالٍ بتقرير الحكم الإلهية، فبعد ما أوضح لموسى -عليه السلام- الحِكَم الكامنة وراء تلك الأفعال، أكَّد عليه أنه لم يقم بهذه الأمور من تلقاء نفسه، وإنما كانت هذه الأفعال بوحي من الله للخضر حيث أمره بالفعل وأطلعه على الحكمة منه، وهذا الأمر لا يتحقق لأحدٍ بعد الخضر، فلا يجوز لأحدٍ أن يدَّعي علم الغيب، أو يزعم أن له اتصالًا خاصًّا بالله -عز وجل-، يتلقَّى منه التكليفات والأوامر؛ لأن هذا الادّعاء يصادم ما نصت عليه الشريعة من انقطاع الوحي والرسالة بعد محمد - صلى الله عليه وسلم -، فعلى مذهب من يقول: إن الخضر نبي، فقد انقطعت النبوة كما هو معلوم بالضرورة من دين الإسلام، وعلى مذهب مَن يقول بولايته وأنه عبد صالح، وليس نبيًّا مرسلًا، فمثل هذه الولاية الخاصة لن نعرفها عن أحدٍ إلا مِن خلال الوحي أيضًا، كما عرفنا خبر الخضر من خلال القرآن والسُّنة، كما أن الولاية الربانية لا تكون إلا فيما يوافق الشرع، وتحصل على يد مَن عُرف عنهم الاستقامة وصلاح الشأن، أما إذا ادّعى أحدٌ أن له علمًا لدُنِّيًّا خاصًّا كما كان للخضر علم خاص، فهو دجالٌ ضالٌ يكذب على الله وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم .
فوائد من المشهد
- مما يُسرِّي عن المؤمن في أوقات البلاء أن الحياة قصيرة، فهذا الملك الذي يغتصب سفن الناس مهما طال ظلمه فلن يعمِّر في الحياة أكثر من عمره المقدَّر، وسيرحل تاركًا خلفه كل شيء.
- لم يأمر الله -عز وجل- الخضر أن يواجِه الملك الظالم، وأن يخلِّص الناس من شره، وهذا يدلنا على أنه في بعض الأحيان قد لا نتمكن من مواجهة الظالم، وقد لا يكون لدينا القدرة الكافية على ردعه؛ فليس مِن الحكمة وقتها أن نتصدى له، بل قد نحتال من أجل أن ندفع الضرر عن أنفسنا دون مواجهته.
- قصة السفينة جاءت لتعلمنا كيف نأخذ بالأسباب، وإلا فمعلوم أن الله قادر على أن يهلك الظالم بكلمة، ولكن الله -عز وجل- أجرى هذه الأحداث بهذه الطريقة، حتى نتعلم نحن كيف نتعامل مع الأحداث التي تواجهنا في حياتنا.
- قصة السفينة تعلمنا كيف نجري الموازنات الدقيقة التي قد نلجأ إليها في ظل اختلال ميزان القوى بيننا وبين أعدائنا، فقد يلجأ بعض العلماء أو العقلاء في موقفٍ ما إلى خرق جزءٍ مِن السفينة بأنفسهم، حماية للسفينة كلها، فلا يحتمل بعض الناس منهم هذا الفعل، وربَّما اتهموهم وطعنوا في أمانتهم وديانتهم، ولو عقلوا وتدبروا، لعلموا أن مثل هؤلاء العقلاء يحفظ الله بهم الأمة من الضياع في ظل موازناتٍ صعبةٍ وخياراتٍ مُرَّة، كما اضطر الخضر إلى خرق سفينة المساكين رغبةً في حمايتها مِن الضياع بالكلية.

أحمد الشحات


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 14-12-2022, 12:33 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,926
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مشاهد وعبر من قصــة أصـــحــــــاب الكهــــــــف

مشاهد وعبر من سورة الكهف (19)
- قصة ذي القرنين(1)



هذه جولةٌ تأمُّليةٌ في رحاب سورة الكهف، نستهدف منها إيقاظ وعي العاملين في الدعوة الإسلامية؛ لأن ميادين الإصلاح متعددة، وأن بوسعهم أن يجعلوا مِن الحياة كلها محرابًا للدعوة إلى الله، والتغيير والإصلاح. وقد تضمّنَت السورة بين جنباتها أربعًا من القصص الرائعة، انتظمت في عقدٍ فريدٍ، ونظمٍ بديعٍ، لترسمَ لنا ملامح بارزة في طريق التمكين المأمول، ونتناول في هذه السلسلة آخر القصص الأربع، وهي قصة ذي القرنين، وقد احتوت القصة على ثلاثة مشاهد، المشهد الأول: الرحلة بين المشرق والمغرب، والمشهد الثاني: بناء السد، والمشهد الثالث: مشاهد يوم العرض.
وصلت بنا السورة إلى محطتها الأخيرة، وهي إجابة السؤال الثالث من أسئلة المشركين عن رجل مَلَك المشارق والمغارب، وقد أجاب القرآن بأنه ذو القرنين، ذلك الرجل الذي مكَّنه الله مِن حكم العالَم كله تقريبًا، بل لم يحكم العالم المعمور فقط، بل وصل إلى أماكن بعيدة جدًّا لم يصل إليها أحدٌ قبل ذلك ناحية المشرق والمغرب، وقد تجلَّت في هذه القصة معالم العدل والعلم والإرادة.
معالم العدل
فالعدل: عنوان الحكم عند ذي القرنين؛ فما مِن مكانٍ يذهب إليه إلا ويعلي فيه راية العدل، فليس الشأن في أن تملك أو تحكم، ولكن الشأن أن تقيم العدل فيما مكَّنك الله منه؛ فهذا هو الذي يُستحق به المدح، وإلا فإن السورة مرَّت بنا على قصة صاحب الجنتين وما آتاه الله مِن نعمٍ عظيمةٍ ثم نعتته الآيات بأنه: «ظالم لنفسه».
معالم العلم
أما العلم: فهو الجواد الذي امتطاه ذو القرنين ليصلح به البلاد والعباد؛ فهذا التمكين الهائل الذي تحقق لهذا الرجل الصالح ما كان ليحصل إلا بتمكنه من نواصي العلوم الدينية والدنيوية، وليس المقصود أن يكون هو العالم بكل هذه العلوم، ولكن الأهم من ذلك أن يؤسس للمنظومة التي تستوعب داخلها هذه الكفاءات المتنوعة، وتلك الخبرات المختلفة.
معالم الإرادة
أما الإرادة: فهي الباعث الرئيس لتحركات ذي القرنين في المشارق والمغارب، فلو لم تكن لديه إرادة حقيقية جازمة تجاه التغيير والإصلاح، ولو لم تكن لديه عقيدة يتحرك بها ورسالة يحمل لواءها، لما انتقل مِن مكانه ولما خرج من قصره؛ فالملوك -عادة- يألفون الدعة والراحة، ويُصابون بداء الترف والقعود، ولكننا أمام ملِكٍ مِن طرازٍ فريدٍ، ملك لا يغمض له جفن حتى يفتح أرضًا جديدة، أو يغير واقعًا سيئًا، رغم أن القرآن ذكر لنا طرفًا من قصته فقط، فما الظن بهمته في حياته كلها؟!
النفوس المتشوقة إلى النصر
إن قصة ذي القرنين تخاطب النفوس المتشوقة إلى النصر والتمكين: بأن التمكين ليس نزهة مترفة، ولا رحلة خلوية، ولكنه أمانة ومسؤولية، وواجبات وتكاليف هي أصعب بكثيرٍ مِن واجبات فترات الاستضعاف والتضييق؛ لأن التمكين قد يأتي ثم لا يلبث حتى يزول من يد صاحبه إذا لم يوفِّ حقه، وإذا لم يؤدِّ الواجب المفروض الذي عليه.
الفرار إلى الكهف
إن فتية الكهف لم يُكلَّفوا بأكثر مِن أن يفروا إلى الكهف، وقد كان هذا هو المتاح المقدور عليه في زمانهم؛ لذلك لم يكلفهم الله غيره، أما ذو القرنين الذي آتاه الله من كل شيءٍ سببًا، فقد كُلِّف بأن يجوب البلاد من المشرق إلى المغرب، وهذا أمر ليس بالهين، ومن ثم فيجب علينا قبل أن نطلب التمكين أن نُحصِّل الأسباب التي تجعلنا نحافظ عليه مِن الزوال متى رَزَقنا الله إياه.
طريق التمكين طويل
إن طريق التمكين طويل، وقد مررنا خلال السورة على مراحل ومحطات عدة حتى وصلنا إلى ذروته، التي بدأت معنا قصته من الهروب إلى الكهف، ثم انتقلت بنا إلى طور القبول المجتمعي، واستغلال المساحات المتاحة، ثم طور التأهيل والاستعداد، وصولًا إلى التمكين على يد ذي القرنين.
ورغم أنَّ هذه القصص وقعت في أزمنةٍ مختلفةٍ، وفي أماكن متباينة، إلا أن القرآن قصها علينا مرتبة كأنها قصة واحدة ذات مراحل وفصول ومحطات، وهي بالفعل ملحمة من ملاحم التمكين المتكررة، التي كان الصحابة -رضي الله عنهم- أحد أبطالها، ونأمل أن نكون جزءًا من حلقاتها ومراحلها كذلك.
المشهد الأول: الرحلة بين المشرق والمغرب
وقد احتوى هذا المشهد على رسائل أربع هي: ذروة التمكين، وفقه التعامل مع الأسباب، ودستور الحكم العادل، والهمة الم****ة.
المشهد كما عرضه القرآن
قال الله -تعالى-: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا}.
رسائل من قلب المشهد
في هذا المشهد يقص علينا القرآن شيئًا من أخبار ذي القرنين؛ ولأن أحواله وأخباره كثيرة، فقد اقتصر القرآن على ذكر ثلاث رحلات من رحلاته، فذكر أنه سلك طريقًا حتى وصل إلى أقصى ما يسلك فيه من الأرض من ناحية المغرب، وكان له مع أهلها موقف، ثم سلك طريقًا حتى وصل إلى أقصى ما يسلك فيه من الأرض من ناحية المشرق، ووجد هناك حياة شديدة البدائية، ثم سلك رحلة مثيرة في ناحية من الأرض وهو الموضع الذي كان يقطنه يأجوج ومأجوج.
الرسالة الأولى: ذروة التمكين
قال الله -تعالى-: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ}: ما أروع التربية التي تربيها لنا هذه القصة العظيمة! فالقرآن يرسِّخ في نفوس السامعين قاعدة جليلة، وهي: أن التمكين من عند الله، فلا تشغل نفسك به كثيرًا، إنما الواجب عليك أن تنشغل بتحصيل الأسباب الجالبة للتمكين؛ لأن التمكين ليس هدفًا مقصودًا لذاته، ولكنه مطلوب لتحقيق العبودية ونصرة الدين، ونشر الهداية والإصلاح بين الناس.
فكم مِن أقوامٍ كان التمكين عبئًا عليهم، وسببًا في خسارتهم ونهايتهم! وكم مِن أناسٍ كان التمكين في حقهم فتنة وابتلاءً لم يصبروا عليه، ولم يتحملوه! كما قال الله -عز وجل-: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (الأنبياء:35)، وقد ورد عنْ عبدالرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - رضي الله عنه - قَالَ: ابْتُلِينَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالضَّرَّاءِ فَصَبَرْنَا، ثُمَّ ابْتُلِينَا بِالسَّرَّاءِ بَعْدَهُ فَلَمْ نَصْبِرْ.
حدود التمكين
ثم انظر إلى حدود التمكين الذي أعطاه الله لذي القرنين، إنها الأرض من مشرقِها لمغربِها! تخيل رجلًا يعطيه الله ملك الأرض، ويجعله سلطانًا على المشارق والمغارب، هذا الأمر يعني أن المُلك لله يعطيه لمَن أراد متى أراد؛ لأن الدنيا لا تساوي شيئًا عند الله فهي متاعٌ زائل كما قال -عز وجل-: {وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ} (الرعد:26)، ولو تأملت المواضع التي وصف الله بها الدنيا بأنها متاع في أكثر من خمسة عشر موضعًا في القرآن؛ لعلمتَ قدر وحقيقة الدنيا عند الله، وأنها لا تساوي شيئًا على الحقيقة، فلا تحزن إذا رأيتَ الله يعطي للكافرين منها ويزيدهم فيها كما قال -تعالى-: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ} (سورة المؤمنون).
معنى زوال المُلك أو الزوال عنه
ثم تأمل في معنى زوال المُلك أو الزوال عنه؛ لكي تطمئن نفسك بحقارة ما يتقاتل الناس من أجله، فأين هو ملك ذي القرنين الآن؟! لقد زال واندثرت معالمه، وكذلك الملك كله سيزول عاجلًا أم آجلًا، فالعاجل حاصل أمام أعين الناس كل يوم، ممالك تقوم هنا، وممالك تسقط هناك، أقوام يرفعهم الله وآخرون يضعهم، وكل هذا على جزءٍ أو قطعةٍ من الأرض، بينما أعطى الله هذه الأرض من أقصاها إلى أقصاها لرجلٍ واحدٍ في وقتٍ مِن الأوقات.
وكذلك يزول الملك بالظلم والتجبر في الأرض كما أهلك الله قوم نوح، وعادًا، وثمود، وقوم فرعون، وغيرهم مِن الأمم المكذبة الطاغية، إضافة إلى ذلك: فالأرض كلها وما عليها فانية زائلة، قال -تعالى-: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} (يونس:24)ـ وكما قال -عز وجل-: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} (إبراهيم:48).

أحمد الشحات

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 14-12-2022, 12:39 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,926
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مشاهد وعبر من قصــة أصـــحــــــاب الكهــــــــف

مشاهد وعبر من سورة الكهف (20)
- قصة ذي القرنين(2)




هذه جولةٌ تأمُّليةٌ في رحاب سورة الكهف، نستهدف منها إيقاظ وعي العاملين في الدعوة الإسلامية؛ لأن ميادين الإصلاح متعددة، وأن بوسعهم أن يجعلوا مِن الحياة كلها محرابًا للدعوة إلى الله، والتغيير والإصلاح، وقد تضمّنَت السورة بين جنباتها أربعًا من القصص الرائعة، انتظمت في عقدٍ فريدٍ، ونظمٍ بديعٍ، لترسمَ لنا ملامح بارزة في طريق التمكين المأمول، ونتناول في هذه السلسلة آخر القصص الأربع وهي قصة ذي القرنين، وقد احتوت القصة على ثلاثة مشاهد المشهد الأول: الرحلة بين المشرق والمغرب، والمشهد الثاني: بناء السد، والمشهد الثالث: مشاهد يوم العرض، واليوم نستكمل الحديث عن رسائل المشهد الأول:
الرسالة الثانية: فقه التعامل مع الأسباب
قال الله -تعالى-: {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا} {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا}، المراد بالسبب هنا هو: ما يُتوسل به إلى الشيء مِن علمٍ أو مقدرةٍ أو آلاتٍ أو غيرها، وقد ذكر القرآن أن الله وهب لذي القرنين من كل شيءٍ طريقًا ووسيلة، وهيأ له ما يحصل له به التمكين، وما يؤهله للانتشار في ربوع الأرض، وهذا رزق وفضل من الله، ولكن ليس الشأن في إعطاء الأسباب، ولكن الشأن في كيفية التصرف فيها، وكيفية استغلالها.
لذلك يخبرنا القرآن أن ذا القرنين قام بواجبه تجاه تلك الهبات، واستغل الأسباب التي أُعطيت له، فسلك السبل التي أوصلته إلى مغرب الشمس، ثم سلك السبل التي ألقت به ناحية المشرق، وهذا هو موضع المدح، وموطن القدوة، أن نقوم بالواجب تجاه ما يسَّر الله لنا مِن أسبابٍ متاحةٍ ومقدورةٍ، وما عجزنا عن تحصيله، فهو خارج عن نطاق التكليف والواجب.
الرسالة الثالثة: دستور الحكم العادل
قال الله -تعالى-: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا}، أرسى ذو القرنين قواعد العدل في أقوام يسكنون في مكانٍ بعيدٍ في أقصى الغرب، لا نعلم شيئًا عن سيرتهم ولا حالهم، وقد دلت الآية على أن أحوالهم كانت في فساد وظلم، ووفَّق الله ذي القرنين إلى أن يسوسهم بالعدل ويقسِّمهم قسمين: فالمكذبون المعاندون سيعاقبهم في الدنيا؛ لأنه قادر على ذلك ومتمكن منه، ثم يعاقبون في الآخرة كذلك، أما المؤمنون الصالحون: فيستحقون الجزاء الحسن عند الله، والثناء الجميل عند الناس.
وقد اتسم ذو القرنين بالقوة واتصف بالعدل، واجتماع الأمرين نادر عزيز في التاريخ، فهناك مَن يكون قويًّا مهابًا، ولكنه يظلم ويطغى ويتجبر، ويستخدم القوة في غير محلها، وهناك مَن يكون عادلًا، لكنه ضعيف غير قادرٍ على تدبير شئون الحكم وأمور السياسة.
الرسالة الرابعة: الهمة الم****ة
قال الله -تعالى-: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا}، ما أجمل أن يسخِّر الإنسان نفسه لخدمة الدين ونشر الدعوة، رافعًا لواء الهداية والإصلاح، والإنسان مهما بذل فلن يصل إلى همة ذي القرنين الذي طاف الدنيا من أجل أن يبلغ الإيمان وينشر الهدى، ويرفع الظلم والبأس عن الناس، وتأمل تعبير القرآن عن هذه الجولات الم****ة: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} - {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ} -{حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ}! فاللهم ارزقنا همة عالية نبذلها في نشر دينك بين الخلق.
قال الشيخ السعدي -رحمه الله-: «لما وصل إلى مغرب الشمس كرَّ راجعًا، قاصدًا مطلعها، متبعًا للأسباب التي أعطاه الله، فوصل إلى مطلع الشمس فـ{وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا} أي: وجدها تطلع على أناسٍ ليس لهم ستر مِن الشمس، إما لعدم استعدادهم في المساكن، وذلك لزيادة همجيتهم وتوحشهم، وعدم تمدنهم، وإما لكون الشمس دائمة عندهم، لا تغرب عنهم غروبًا يذكر، كما يوجد ذلك في شرقي أفريقيا الجنوبي، فوصل إلى موضع انقطع عنه علم أهل الأرض، فضلًا عن وصولهم إليه إياه بأبدانهم، ومع هذا، فكل هذا بتقدير الله له، وعلمه به؛ ولهذا قال: {كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبَرًا} أي: أحطنا بما عنده من الخير والأسباب العظيمة، وعلمنا معه حيثما توجه وسار».
فوائد من قلب المشهد الأول
- العدل عنوان الحكم عند ذي القرنين، فما مِن مكانٍ يذهب إليه إلا ويعلي فيه راية العدل؛ فليس الشأن في أن تملك أو تحكم، ولكن الشأن أن تقيم العدل فيما مكنك الله منه.
- العلم هو الجواد الذي امتطاه ذو القرنين ليصلح به البلاد والعباد، هذا التمكين الهائل الذي تحقق لهذا الرجل الصالح ما كان ليحصل إلا بتمكنه من نواصي العلوم الدينية والدنيوية.
- قصة ذي القرنين تخاطب النفوس المتشوقة إلى النصر والتمكين بأن التمكين ليس نزهة عابرة، ولا رحلة خلوية، ولكنه أمانة ومسؤولية، وواجبات وتكاليف أصعب بكثيرٍ مِن واجبات فترات الاستضعاف والتضييق؛ لأن التمكين قد يأتي ثم لا يلبث حتى يزول من يد صاحبه إذا لم يوفِّ حقه، وإذا لم يؤدِّ الواجب المفروض الذي عليه.
- إن فتية الكهف لم يُكلفوا بأكثر مِن أن يفروا إلى الكهف، وقد كان هذا هو المتاح المقدور عليه في زمانهم؛ لذلك لم يكلفهم الله غيره، أما ذو القرنين الذي آتاه الله مِن كل شيءٍ سببًا فقد كُلف بأن يجوب البلاد من المشرق إلى المغرب، وهذا أمر ليس بالهين.


أحمد الشحات

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 185.09 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 179.21 كيلو بايت... تم توفير 5.89 كيلو بايت...بمعدل (3.18%)]