|
فتاوى وأحكام منوعة قسم يعرض فتاوى وأحكام ومسائل فقهية منوعة لمجموعة من العلماء الكرام |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#11
|
||||
|
||||
![]() ![]() الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الاول الحلقة (11) صـ146 إلى صـ166 فصل وإذا ثبت أنه لا بد من أخذ العلم عن أهله ، فلذلك طريقان : أحدهما : المشافهة ، وهي أنفع الطريقين وأسلمهما ؛ لوجهين : الأول : خاصية جعلها الله تعالى بين المعلم والمتعلم يشهدها كل من زاول العلم والعلماء ، فكم من مسألة يقرؤها المتعلم في كتاب ، ويحفظها ، ويرددها على قلبه فلا يفهمها ; فإذا ألقاها إليه المعلم فهمها بغتة ، وحصل له العلم بها بالحضرة ، وهذا الفهم يحصل إما بأمر عادي من قرائن أحوال ، وإيضاح موضع إشكال لم يخطر للمتعلم ببال ، وقد يحصل بأمر غير معتاد ، ولكن بأمر يهبه الله لمتعلم عند مثوله بين يدي المعلم ، ظاهر الفقر ، بادي الحاجة إلى ما يلقى إليه . وهذا ليس ينكر ; فقد نبه عليه الحديث الذي جاء : إن الصحابة أنكروا أنفسهم عندما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وحديث حنظلة الأسيدي حين شكا إلى [ ص: 146 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم إذا كانوا عنده وفي مجلسه كانوا على حالة يرضونها ، فإذا فارقوا مجلسه زال ذلك عنهم ; فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو أنكم تكونون كما تكونون عندي ; لأظلتكم الملائكة بأجنحتها . وقد قال عمر بن الخطاب : " وافقت ربي في ثلاث " ، وهي من فوائد [ ص: 147 ] مجالسة العلماء ; إذ يفتح للمتعلم بين أيديهم ما لا يفتح له دونهم ، ويبقى ذلك النور لهم بمقدار ما بقوا في متابعة معلمهم ، وتأدبهم معه ، واقتدائهم به ، فهذا الطريق نافع على كل تقدير . وقد كان المتقدمون لا يكتب منهم إلا القليل ، وكانوا يكرهون ذلك ، وقد كرهه مالك ; فقيل له : فما نصنع ؟ قال : تحفظون وتفهمون حتى تستنير قلوبكم ، ثم لا تحتاجون إلى الكتابة ، وحكي عن عمر بن الخطاب كراهية الكتابة ، وإنما ترخص الناس في ذلك عندما حدث النسيان ، وخيف على الشريعة الاندراس . الطريق الثاني : مطالعة كتب المصنفين ، ومدوني الدواوين ، وهو أيضا نافع في بابه ; بشرطين : الأول : أن يحصل له من فهم مقاصد ذلك العلم المطلوب ، ومعرفة اصطلاحات أهله ما يتم له به النظر في الكتب ، وذلك يحصل بالطريق الأول من مشافهة العلماء أو مما هو راجع إليه ، وهو معنى قول من قال : " كان العلم [ ص: 148 ] في صدور الرجال ، ثم انتقل إلى الكتب ، ومفاتحه بأيدي الرجال " ، والكتب وحدها لا تفيد الطالب منها شيئا دون فتح العلماء ، وهو مشاهد معتاد . والشرط الآخر : أن يتحرى كتب المتقدمين من أهل العلم المراد ; فإنهم أقعد به من غيرهم من المتأخرين ، وأصل ذلك التجربة ، والخبر . أما التجربة ; فهو أمر مشاهد في أي علم كان ; فالمتأخر لا يبلغ من [ ص: 149 ] الرسوخ في علم ما يبلغه المتقدم ، وحسبك من ذلك أهل كل علم عملي أو نظري ، فأعمال المتقدمين في إصلاح دنياهم ودينهم على خلاف أعمال المتأخرين ، وعلومهم في التحقيق أقعد ، فتحقق الصحابة بعلوم الشريعة ليس كتحقق التابعين ، والتابعون ليسوا كتابعيهم ، وهكذا إلى الآن ، ومن طالع سيرهم ، وأقوالهم ، وحكاياتهم أبصر العجب في هذا المعنى . وأما الخبر ففي الحديث خير القرون قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، وفي هذا إشارة إلى أن كل قرن مع ما بعده كذلك ; وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أول دينكم نبوة ورحمة ، ثم ملك ورحمة ، ثم ملك وجبرية ، ثم ملك عضوض . ولا يكون هذا إلا مع قلة الخير ، وتكاثر الشر شيئا بعد [ ص: 150 ] شيء ، ويندرج ما نحن فيه تحت الإطلاق . وعن ابن مسعود ; أنه قال : " ليس عام إلا الذي بعده شر منه ، لا أقول عام أمطر من عام ، ولا عام أخصب من عام ، ولا أمير خير من أمير ، ولكن ذهاب خياركم ، وعلمائكم ، ثم يحدث قوم يقيسون الأمور برأيهم ، فيهدم الإسلام ، ويثلم " . [ ص: 151 ] ومعناه موجود في [ الصحيح ] في قوله : ولكن ينتزعه مع قبض العلماء بعلمهم ; فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم ، فيضلون ويضلون . وقال عليه السلام إن الإسلام بدأ غريبا ، وسيعود غريبا كما بدأ ، فطوبى للغرباء . قيل : من الغرباء ؟ قال : النزاع من القبائل . وفي رواية : قيل : ومن الغرباء يا رسول الله . قال : الذين يصلحون عند فساد الناس [ ص: 152 ] وعن أبي إدريس الخولاني : " إن للإسلام عرى يتعلق الناس بها ، وإنها تمتلخ عروة عروة " . وعن بعضهم : " تذهب السنة سنة سنة ، كما يذهب الحبل قوة قوة " . وتلا أبو هريرة قوله تعالى : إذا جاء نصر الله والفتح الآية [ النصر : 1 ] . ثم قال : " والذي نفسي بيده ليخرجن من دين الله أفواجا كما دخلوا فيه أفواجا " . [ ص: 153 ] وعن عبد الله ; قال : " أتدرون كيف ينقص الإسلام ؟ قالوا : نعم ، كما ينقص صبغ الثوب ، وكما ينقص سمن الدابة . فقال عبد الله : ذلك منه " . ولما نزل قوله تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم [ المائدة : 3 ] بكى عمر فقال عليه السلام [ له ] : ما يبكيك ؟ قال : يا رسول الله ! إنا كنا في زيادة من ديننا ، فأما إذا كمل ; فلم يكمل شيء قط إلا نقص . فقال عليه السلام : صدقت . والأخبار هنا كثيرة ، وهي تدل على نقص الدين والدنيا ، وأعظم ذلك العلم ; فهو إذا في نقص بلا شك . فلذلك صارت كتب المتقدمين وكلامهم وسيرهم - أنفع لمن أراد الأخذ بالاحتياط في العلم ، على أي نوع كان ، وخصوصا علم الشريعة الذي هو [ ص: 154 ] العروة الوثقى ، والوزر الأحمى ، وبالله تعالى التوفيق . [ ص: 155 ] كل أصل علمي يتخذ إماما في العمل فلا يخلو إما أن يجري به العمل على مجاري العادات في مثله ، بحيث لا ينخرم منه ركن ولا شرط ، أو لا ، فإن جرى فذلك الأصل صحيح ، وإلا ; فلا . وبيانه أن العلم المطلوب إنما يراد - بالفرض - لتقع الأعمال في الوجود على وفقه من غير تخلف ، كانت الأعمال قلبية أو لسانية أو من أعمال الجوارح ، فإذا جرت في المعتاد على وفقه من غير تخلف فهو حقيقة العلم بالنسبة إليه ، وإلا لم يكن بالنسبة إليه علما لتخلفه ، وذلك فاسد لأنه من باب انقلاب العلم جهلا . ومثاله في علم الشريعة الذي نحن في تأصيل أصوله : أنه قد تبين في أصول الدين امتناع التخلف في خبر الله تعالى ، وخبر رسوله ، وثبت في الأصول الفقهية امتناع التكليف بما لا يطاق ، وألحق به امتناع التكليف بما فيه حرج خارج عن المعتاد ، فإذا كل أصل شرعي تخلف عن جريانه على هذه المجاري فلم يطرد ، ولا استقام بحسبها في العادة ; فليس بأصل يعتمد عليه ، [ ص: 156 ] ولا قاعدة يستند إليها . ويقع ذلك في فهم الأقوال ، ومجاري الأساليب ، والدخول في الأعمال . فأما فهم الأقوال ; فمثل قوله تعالى : ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا [ النساء : 141 ] إن حمل على أنه إخبار ; لم يستمر مخبره لوقوع سبيل الكافر على المؤمن كثيرا بأسره وإذلاله ، فلا يمكن أن يكون المعنى إلا على ما يصدقه الواقع ويطرد عليه ، وهو تقرير الحكم الشرعي ، فعليه يجب أن يحمل . [ ص: 157 ] ومثله قوله تعالى : والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين [ البقرة : 233 ] ، إن حمل على أنه تقرير حكم شرعي ، استمر وحصلت الفائدة ، وإن حمل على أنه إخبار بشأن الوالدات لم تتحكم فيه فائدة زائدة على ما علم قبل الآية . وأما مجاري الأساليب فمثل قوله : ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا إلخ [ المائدة : 93 ] . فهذه صيغة عموم تقتضي بظاهرها دخول كل مطعوم ، وأنه لا جناح في استعماله بذلك الشرط ، ومن جملته الخمر ، لكن هذا الظاهر يفسد جريان [ ص: 158 ] الفهم في الأسلوب ، مع إهمال السبب الذي لأجله نزلت الآية بعد تحريم الخمر ، لأن الله تعالى لما حرم الخمر ; قال : ليس على الذين آمنوا فكان هذا نقضا للتحريم فاجتمع الإذن والنهي معا ، فلا يمكن للمكلف امتثال . ومن هنا خطأ عمر بن الخطاب من تأول في الآية أنها عائدة إلى ما تقدم من التحريم في الخمر ، وقال له " إذا اتقيت اجتنبت ما حرم الله " . إذ لا يصح أن يقال للمكلف : اجتنب كذا ، ويؤكد النهي بما يقتضي التشديد فيه جدا ، ثم يقال : فإن فعلت فلا جناح عليك . [ ص: 159 ] وأيضا ; فإن الله أخبر أنها تصد عن ذكر الله ، وعن الصلاة ، وتوقع العداوة والبغضاء بين المتحابين في الله ، وهو بعد استقرار التحريم كالمنافي لقوله : إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات [ المائدة : 93 ] ; فلا يمكن إيقاع كمال التقوى بعد تحريمها إذا شربت ; لأنه من الحرج أو تكليف ما لا يطاق . وأما الدخول في الأعمال ; فهو العمدة في المسألة ، وهو الأصل في القول بالاستحسان والمصالح المرسلة ; لأن الأصل إذا أدى القول بحمله على عمومه إلى الحرج أو إلى ما لا يمكن شرعا أو عقلا ، فهو غير جار على استقامة ولا اطراد ، فلا يستمر الإطلاق ، وهو الأصل أيضا لكل من تكلم في مشكلات القرآن أو السنة ، لما يلزم في حمل مواردها على عمومها أو إطلاقها من المخالفة المذكورة حتى تقيد بالقيود المقتضية للاطراد والاستمرار فتصح ، وفي ضمنه تدخل أحكام الرخص ; إذ هو الحاكم فيها ، والفارق بين ما تدخله الرخصة وما لا . ومن لم يلاحظه في تقرير القواعد الشرعية ; لم يأمن الغلط ، بل كثيرا ما تجد خرم هذا الأصل في أصول المتبعين للمتشابهات ، والطوائف المعدودين في الفرق الضالة عن الصراط المستقيم ، كما أنه قد يعتري ذلك في مسائل الاجتهاد المختلف فيها عند الأئمة المعتبرين والشيوخ المتقدمين . وسأمثل لك بمسألتين وقعت المذاكرة بهما مع بعض شيوخ العصر : [ ص: 160 ] إحداهما : أنه كتب إلي بعض شيوخ المغرب في فصل يتضمن ما يجب على طالب الآخرة النظر فيه ، والشغل به ، فقال فيه : " وإذا شغله شاغل عن لحظة في صلاته ; فرغ سره منه بالخروج عنه ، ولو كان يساوي خمسين ألفا كما فعله المتقون " . فاستشكلت هذا الكلام ، وكتبت إليه بأن قلت : أما أنه مطلوب بتفريغ السر منه فصحيح ، وأما أن تفريغ السر بالخروج عنه واجب ، فلا أدري ما هذا الوجوب ؟ ولو كان واجبا بإطلاق لوجب على جميع الناس الخروج عن ضياعهم ، وديارهم ، وقراهم ، وأزواجهم ، وذرياتهم ، وغير ذلك مما يقع لهم [ ص: 161 ] به الشغل في الصلاة ، وإلى هذا ; فقد يكون الخروج عن المال سببا للشغل في الصلاة أكثر من شغله بالمال . وأيضا ; فإذا كان الفقر هو الشاغل فماذا يفعل ; فإنا نجد كثيرا ممن يحصل له الشغل بسبب الإقلال ، ولا سيما إن كان له عيال لا يجد إلى إغاثتهم سبيلا ، ولا يخلو أكثر الناس عن الشغل بآحاد هذه الأشياء ، أفيجب على هؤلاء الخروج عما سبب لهم الشغل في الصلاة ، هذا ما لا يفهم ، وإنما الجاري على الفقه والاجتهاد في العبادة طلب مجاهدة الخواطر الشاغلة خاصة ، وقد يندب إلى الخروج عما شأنه أن يشغله من مال أو غيره ، إن أمكنه الخروج عنه شرعا ، وكان مما لا يؤثر فيه فقده تأثيرا يؤدي إلى مثل ما فر منه أو أعظم ، ثم ينظر بعد في حكم الصلاة الواقع فيها الشغل كيف حال صاحبها من وجوب الإعادة أو استحبابها أو سقوطها ؟ وله موضع غير هذا . اه حاصل المسألة . فلما وصل إليه ذلك ; كتب إلي بما يقتضي التسليم فيه ، وهو صحيح ; لأن القول بإطلاق الخروج عن ذلك كله غير جار في الواقع على استقامة ; لاختلاف أحوال الناس فلا يصح اعتماده أصلا فقهيا ألبتة . والثانية : مسألة الورع بالخروج عن الخلاف ; فإن كثيرا من المتأخرين يعدون الخروج عنه في الأعمال التكليفية مطلوبا ، وأدخلوا في المتشابهات المسائل المختلف فيها . [ ص: 162 ] ولا زلت منذ زمان استشكله حتى كتبت فيها إلى المغرب ، وإلى إفريقية ; فلم يأتني جواب بما يشفي الصدر ، بل كان من جملة الإشكالات الواردة ; أن جمهور مسائل الفقه مختلف فيها اختلافا يعتد به ، فيصير إذا أكثر مسائل الشريعة من المتشابهات ، وهو خلاف وضع الشريعة . وأيضا ; فقد صار الورع من أشد الحرج ; إذ لا تخلو لأحد في الغالب عبادة ، ولا معاملة ، ولا أمر من أمور التكليف ، من خلاف يطلب الخروج عنه ، وفي هذا ما فيه . فأجاب بعضهم : بأن المراد بأن المختلف فيه من المتشابه ؛ المختلف [ ص: 163 ] فيه اختلافا دلائل أقواله متساوية أو متقاربة ، وليس أكثر مسائل الفقه هكذا ، بل الموصوف بذلك أقلها لمن تأمل من محصلي موارد التأمل ، وحينئذ لا يكون المتشابه منها إلا الأقل ، وأما الورع من حيث ذاته ، ولو في هذا النوع فقط - فشديد مشق ، لا يحصله إلا من وفقه الله إلى كثرة استحضار لوازم فعل المنهي [ ص: 164 ] عنه ، وقد قال عليه السلام حفت الجنة بالمكاره ، هذا ما أجاب به . فكتبت إليه : بأن ما قررتم من الجواب غير بين ؛ لأنه إنما يجري في المجتهد وحده ، والمجتهد إنما يتورع عند تعارض الأدلة لا عند تعارض الأقوال ، فليس مما نحن فيه ، وأما المقلد ; فقد نص صاحب هذا الورع الخاص على طلب خروجه من الخلاف إلى الإجماع ، وإن كان من أفتاه أفضل العلماء المختلفين ، والعامي في عامة أحواله لا يدري من الذي دليله أقوى من المختلفين ، والذي دليله أضعف ، ولا يعلم هل تساوت أدلتهم أو تقاربت أم لا ; لأن هذا لا يعرفه إلا من كان أهلا للنظر ، وليس العامي كذلك ; وإنما بني الإشكال على اتقاء الخلاف المعتد به ، والخلاف المعتد به موجود في أكثر مسائل الشريعة ، والخلاف الذي لا يعتد به قليل كالخلاف في المتعة ، وربا النساء ، ومحاش النساء ، وما أشبه ذلك . [ ص: 165 ] وأيضا ; فتساوي الأدلة أو تقاربها أمر إضافي بالنسبة إلى أنظار المجتهدين ، فرب دليلين يكونان عند بعض متساويين أو متقاربين ، ولا يكونان كذلك عند بعض ; فلا يتحصل للعامي ضابط يرجع إليه فيما يجتنبه من الخلاف مما لا يجتنبه ، ولا يمكنه الرجوع في ذلك إلى المجتهد ; لأن ما يأمره به من الاجتناب أو عدمه راجع إلى نظره واجتهاده ، واتباع نظره وحده في ذلك تقليد له ، من غير أن يخرج عن الخلاف ، لا سيما إن كان هذا المجتهد يدعي أن قول خصمه ضعيف لا يعتبر مثله ، وهكذا الأمر فيما إذا راجع المجتهد الآخر ، فلا يزال العامي في حيرة إن اتبع هذه الأمور ، وهو شديد جدا ، ومن يشاد هذا الدين يغلبه ، وهذا هو الذي أشكل على السائل ، ولم يتبين جوابه بعد . ولا كلام في أن الورع شديد في نفسه ، كما أنه لا إشكال في أن التزام التقوى شديد ; إلا أن شدته ليست من جهة إيقاع ذلك بالفعل ; لأن الله لم يجعل علينا في الدين من حرج ، بل من جهة قطع مألوفات النفس وصدها عن هواها خاصة . وإذا تأملنا مناط المسألة وجدنا الفرق بين هذا الورع الخاص وغيره من أنواع الورع - بينا ; فإن سائر أنواع الورع سهل في الوقوع ، وإن كان شديدا في مخالفة النفس ، وورع الخروج من الخلاف صعب في الوقوع قبل النظر في [ ص: 166 ] مخالفة النفس ; فقد تبين مقصود السائل بالشدة والحرج ، وأنه ليس ما أشرتم إليه . اه . ما كتبت به ، وهنا وقف الكلام بيني وبينه . ومن تأمل هذا التقرير ; عرف أن ما أجاب به هذا الرجل لا يطرد ، ولا يجري في الواقع مجرى الاستقامة للزوم الحرج في وقوعه ; فلا يصح أن يستند إليه ، ولا يجعل أصلا يبنى عليه . والأمثلة كثيرة ; فاحتفظ بهذا الأصل ; فهو مفيد جدا ، وعليه ينبني كثير من مسائل الورع ، وتمييز المتشابهات ، وما يعتبر من وجه الاشتباه وما لا يعتبر ، وفي أثناء الكتاب مسائل تحققه إن شاء الله . ![]()
__________________
|
#12
|
||||
|
||||
![]() ![]() الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الاول الحلقة (12) صـ167 إلى صـ195 بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم . كتاب الأحكام والأحكام الشرعية قسمان : أحدهما يرجع إلى خطاب التكليف ، والآخر يرجع إلى خطاب الوضع ; فالأول ينحصر في الخمسة ; فلنتكلم على ما يتعلق بها من المسائل ، وهي جملة : [ ص: 170 ] [ ص: 171 ] القسم الأول خطاب التكليف المسألة الأولى [ في المباح ] المباح من حيث هو مباح لا يكون مطلوب الفعل ، ولا مطلوب الاجتناب ، أما كونه ليس بمطلوب الاجتناب ; فلأمور : [ ص: 172 ] أحدها : أن المباح عند الشارع هو المخير فيه بين الفعل والترك ، من غير مدح ولا ذم ، لا على الفعل ، ولا على الترك ، فإذا تحقق الاستواء شرعا والتخيير ، لم يتصور أن يكون التارك به مطيعا ، لعدم تعلق الطلب بالترك ; فإن الطاعة لا تكون إلا مع الطلب ، ولا طلب فلا طاعة . والثاني : أن المباح مساو للواجب والمندوب في أن كل واحد منهما غير مطلوب الترك ، فكما يستحيل أن يكون تارك الواجب والمندوب مطيعا بتركه شرعا ; لكون الشارع لم يطلب الترك فيهما ، كذلك يستحيل أن يكون تارك المباح مطيعا شرعا . لا يقال : إن الواجب والمندوب يفارقان المباح بأنهما مطلوبا الفعل ; فقد قام المعارض لطلب الترك ، وليس المباح كذلك ; فإنه لا معارض لطلب الترك فيه . لأنا نقول : كذلك المباح فيه معارض لطلب الترك ، وهو التخيير في الترك ; فيستحيل الجمع بين طلب الترك عينا ، وبين التخيير فيه . والثالث : أنه إذا تقرر استواء الفعل والترك في المباح شرعا ، فلو جاز أن يكون تارك المباح مطيعا بتركه ; جاز أن يكون فاعله مطيعا بفعله ، من حيث كانا مستويين بالنسبة إليه ، وهذا غير صحيح باتفاق ، ولا معقول في نفسه . [ ص: 173 ] والرابع : إجماع المسلمين على أن ناذر ترك المباح لا يلزمه الوفاء بنذره ، بأن يترك ذلك المباح ، وأنه كنذر فعله . وفي الحديث : من نذر أن يطيع الله فليطعه ، فلو كان ترك المباح طاعة للزم بالنذر ، لكنه غير لازم ; فدل على أنه ليس بطاعة . وفي الحديث : أن رجلا نذر أن يصوم قائما ، ولا يستظل ، فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجلس ، وأن يستظل ، ويتم صومه ، قال مالك : أمره عليه السلام أن يتم ما كان لله طاعة ، ويترك ما كان لله معصية ; فجعل نذر ترك المباح معصية كما ترى . [ ص: 174 ] والخامس : أنه لو كان تارك المباح مطيعا بتركه - وقد فرضنا أن تركه وفعله عند الشارع سواء - لكان أرفع درجة في الآخرة ممن فعله ، وهذا باطل قطعا ; فإن القاعدة المتفق عليها أن الدرجات في الآخرة منزلة على أمور الدنيا ، فإذا تحقق الاستواء في الدرجات ، وفعل المباح وتركه في نظر الشارع متساويان ، فيلزم تساوي درجتي الفاعل والتارك إذا فرضنا تساويهما في الطاعات ، والفرض أن التارك مطيع دون الفاعل ، فيلزم أن يكون أرفع درجة منه ، هذا خلف ومخالف لما جاءت به الشريعة ، اللهم إلا أن يظلم الإنسان فيؤجر على ذلك وإن لم يطع ; فلا [ ص: 175 ] كلام في هذا . والسادس : أنه لو كان ترك المباح طاعة ; للزم رفع المباح من أحكام الشرع ، من حيث النظر إليه في نفسه ، وهو باطل بالإجماع ، ولا يخالف في هذا الكعبي ; لأنه إنما نفاه بالنظر إلى ما يستلزم ، لا بالنظر إلى ذات الفعل ، وكلامنا إنما هو بالنظر إلى ذات الفعل لا بالنظر إلى ما يستلزم . وأيضا ; فإنما قال الكعبي ما قال بالنظر إلى فعل المباح ; لأنه مستلزم ترك حرام ، بخلافه بالنظر إلى تركه ; إذ لا يستلزم تركه فعل واجب فيكون واجبا ، ولا فعل مندوب فيكون مندوبا ، فثبت أن القول بذلك يؤدي إلى رفع المباح بإطلاق ، وذلك باطل باتفاق . والسابع : أن الترك عند المحققين فعل من الأفعال الداخلة تحت الاختيار ; فترك المباح إذا فعل مباح . وأيضا ; القاعدة أن الأحكام إنما تتعلق بالأفعال أو بالتروك بالمقاصد ، [ ص: 176 ] حسبما يأتي إن شاء الله ، وذلك يستلزم رجوع الترك إلى الاختيار كالفعل ; فإن جاز أن يكون تارك المباح مطيعا بنفس الترك ، جاز أن يكون فاعله مطيعا ، وذلك تناقض محال . فإن قيل : هذا كله معارض بأمور : أحدها : أن فعل المباح سبب في مضار كثيرة : منها أن فيه اشتغالا عما هو الأهم في الدنيا من العمل بنوافل الخيرات ، وصدا عن كثير من الطاعات . ومنها أنه سبب في الاشتغال عن الواجبات ، ووسيلة إلى الممنوعات ، لأن التمتع بالدنيا له ضراوة كضراوة الخمر ، وبعضها يجر إلى بعض إلى أن تهوي بصاحبها في المهلكة ، والعياذ بالله . ومنها أن الشرع قد جاء بذم الدنيا والتمتع بلذاتها ; كقوله تعالى : أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا [ الأحقاف : 20 ] . [ وقوله ] : من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها [ هود : 15 ] . وفي الحديث : إن أخوف ما أخاف عليكم أن تفتح عليكم الدنيا كما فتحت على من كان قبلكم الحديث . وفيه : إن مما ينبت الربيع ما يقتل [ ص: 177 ] حبطا أو يلم . وذلك كثير شهير في الكتاب والسنة ، وهو كاف في طلب ترك المباح ; لأنه أمر دنيوي لا يتعلق بالآخرة من حيث هو مباح . - ومنها : ما فيه من التعرض لطول الحساب في الآخرة ، وقد جاء : إن حلالها حساب ، وحرامها عذاب ، وعن بعضهم : " اعزلوا عني حسابها " ، [ ص: 178 ] حين أتي بشيء يتناوله ، والعاقل يعلم أن طول الحساب نوع من العذاب ، وأن سرعة الانصراف من الموقف إلى الجنة من أعظم المقاصد ، والمباح صاد عن ذلك ; فإذا تركه أفضل شرعا ، فهو طاعة ، فترك المباح طاعة . فالجواب : أن كونه سببا في مضار - لا دليل فيه من أوجه : أحدها : أن الكلام في أصل المسألة إنما هو في المباح من حيث هو مباح متساوي الطرفين ، ولم يتكلم فيما إذا كان ذريعة إلى أمر آخر ; فإنه إذا كان ذريعة إلى ممنوع ; صار ممنوعا من باب سد الذرائع ، لا من جهة كونه مباحا ، [ ص: 179 ] وعلى هذا يتنزل قول من قال : " كنا ندع ما لا بأس به حذرا لما به البأس " . وروي مرفوعا . وكذلك كل ما جاء من هذا الباب ; فذم الدنيا إنما هو لأجل أنها تصير ذريعة إلى تعطيل التكاليف . وأيضا ; فقد يتعلق بالمباح في سوابقه أو لواحقه أو قرائنه ما يصير به غير مباح ، كالمال إذا لم تؤد زكاته ، والخيل إذا ربطها تعففا ، ولكن نسي حق الله في رقابها ، وما أشبه ذلك . والثاني : أنا إذا نظرنا إلى كونه وسيلة ; فليس تركه أفضل بإطلاق ، بل هو ثلاثة أقسام : قسم يكون ذريعة إلى منهي عنه ، فيكون من تلك الجهة مطلوب الترك . وقسم يكون ذريعة إلى مأمور به ; كالمستعان به على أمر أخروي ; ففي الحديث : نعم المال الصالح للرجل الصالح ، وفيه : ذهب أهل الدثور [ ص: 180 ] بالأجور والدرجات العلا والنعيم المقيم . . . إلى أن قال : ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، بل قد جاء أن في مجامعة الأهل أجرا ، وإن كان قاضيا لشهوته ; لأنه يكف به عن الحرام ، وذلك في الشريعة كثير ; لأنها لما كانت وسائل إلى مأمور به ، كان لها حكم ما توسل بها إليه . وقسم لا يكون ذريعة إلى شيء ; فهو المباح المطلق ، وعلى الجملة فإذا فرض ذريعة إلى غيره ; فحكمه حكم ذلك الغير ، وليس الكلام فيه . والثالث : أنه إذا قيل : إن ترك المباح طاعة على الإطلاق ; لكونه وسيلة إلى ما ينهى عنه ، فهو معارض بمثله ; فيقال : بل فعله طاعة بإطلاق ; لأن كل مباح ترك حرام ، ألا ترى أنه ترك المحرمات كلها عند فعل المباح ، فقد شغل النفس به عن جميعها ، وهذا الثاني أولى ; لأن الكلية هنا تصح ، ولا يصح أن يقال : كل مباح وسيلة إلى محرم أو منهي عنه بإطلاق ، فظهر أن ما اعترض به لا ينهض دليلا على أن ترك المباح طاعة . وأما قوله : " إنه سبب في طول الحساب " فجوابه من أوجه : أحدها : أن فاعل المباح إن كان يحاسب عليه ; لزم أن يكون التارك [ ص: 181 ] محاسبا على تركه ، من حيث كان الترك فعلا ، ولاستواء نسبة الفعل والترك شرعا ، وإذ ذاك يتناقض الأمر على فرض المباح ، وذلك محال فما أدى إليه مثله . وأيضا ; فإنه إذا تمسك بأن حلالها حساب ، ثم قضى بأن التارك لا يحاسب ، مع أنه آت بحلال وهو الترك ، فقد صار الحلال سببا لطول الحساب وغير سبب له ، لأن طول الحساب إنما نيط به من جهة كونه حلالا بالفرض ، وهذا تناقض من القول . والثاني : أن الحساب إن كان ينهض سببا لطلب الترك ، لزم أن يطلب ترك الطاعات من حيث كانت مسئولا عنها كلها ، فقد قال تعالى : فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين [ الأعراف : 6 ] فقد انحتم على الرسل عليهم الصلاة والسلام ، أن يسألوا عن الرسالة وتبليغ الشريعة ، ولم يكن هذا مانعا من الإتيان بذلك ، وكذلك سائر المكلفين . لا يقال : إن الطاعات يعارض طلب تركها طلبها . لأنا نقول : كذلك المباح ؛ يعارض طلب تركه التخيير فيه ، وإن فعله وتركه في قصد الشارع بمثابة واحدة . والثالث : أن ما ذكر من الحساب على تناول الحلال قد يقال : إنه راجع إلى أمر خارج عن نفس المباح ; فإن المباح هو أكل كذا مثلا ، وله مقدمات وشروط ولواحق لا بد من مراعاتها ، فإذا روعيت صار الأكل مباحا ، وإن لم تراع كان التسبب والتناول غير مباح . وعلى الجملة فالمباح كغيره من الأفعال له أركان ، وشروط ، وموانع ، ولواحق تراعى ، والترك في هذا كله كالفعل ، فكما أنه إذا تسبب للفعل ، كان تسببه مسئولا عنه ، كذلك إذا تسبب إلى الترك كان مسئولا عنه . [ ص: 182 ] ولا يقال : إن الفعل كثير الشروط والموانع ، ومفتقر إلى أركان بخلاف الترك ; فإن ذلك فيه قليل ، وقد يكفي مجرد القصد إلى الترك . لأنا نقول : حقيقة المباح إنما تنشأ بمقدمات ، كان فعلا أو تركا ، ولو بمجرد القصد . وأيضا ; فإن الحقوق تتعلق بالترك كما تتعلق بالفعل ، من حقوق الله أو حقوق الآدميين أو منهما جميعا ، يدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - : إن لنفسك عليك حقا ، ولأهلك عليك حقا ، فأعط كل ذي حق حقه . وتأمل حديث سلمان وأبي الدرداء - رضي الله عنهما - يبين لك هو ، وما في معناه - أن الفعل والترك في المباح على الخصوص ، لا فرق بينهما من هذا الوجه ، فالحساب يتعلق بطريق الترك كما يتعلق بطريق الفعل ، وإذا كان الأمر كذلك ; ثبت أن الحساب إن كان راجعا إلى طريق المباح ؛ فالفعل والترك سواء ، وإن كان راجعا إلى نفس المباح أو إليهما معا ; فالفعل والترك أيضا سواء . وأيضا ; إن كان في المباح ما يقتضي الترك ; ففيه ما يقتضي عدم الترك ; لأنه من جملة ما امتن الله به على عباده ، ألا ترى إلى قوله تعالى : والأرض وضعها للأنام إلى قوله : يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان [ الرحمن : 10 - 22 ] . [ ص: 183 ] وقوله : وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه إلى قوله : ولعلكم تشكرون [ النحل : 14 ] . وقوله : وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه [ الجاثية : 13 ] . إلى غير ذلك من الآيات التي نص فيها على الامتنان بالنعم ، وذلك يشعر بالقصد إلى التناول والانتفاع ، ثم الشكر عليها ، وإذا كان هكذا فالترك له قصدا يسأل عنه ، لم تركته ؟ ولأي وجه أعرضت عنه ؟ وما منعك من تناول ما أحل لك ، فالسؤال حاصل في الطرفين ، وسيأتي لذلك تقرير في المباح الخادم لغيره إن شاء الله . وهذه الأجوبة أكثرها جدلي ، والصواب في الجواب أن تناول المباح لا يصح أن يكون صاحبه محاسبا عليه بإطلاق ، وإنما يحاسب على التقصير في الشكر عليه ، إما في جهة تناوله ، واكتسابه ، وإما في جهة الاستعانة به على التكليفات ، فمن حاسب نفسه في ذلك ، وعمل على ما أمر به فقد شكر نعم الله ، وفي ذلك قال تعالى : قل من حرم زينة الله إلى قوله : خالصة يوم القيامة [ الأعراف : 32 ] . أي : لا تبعة فيها ، وقال تعالى : فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا [ الانشقاق : 7 - 8 ] . وفسره النبي عليه السلام بأنه العرض ، لا الحساب الذي فيه مناقشة [ ص: 184 ] وعذاب ، وإلا لم تكن النعم المباحة خالصة للمؤمنين يوم القيامة ، وإليه يرجع قوله تعالى : فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين [ الأعراف : 6 ] . أعني سؤال المرسلين ، ويحققه أحوال السلف في تناول المباحات كما سيذكر على إثر هذا . والثاني : من الأمور المعارضة ، أن ما تقدم مخالف لما كان عليه السلف الصالح من الصحابة ، والتابعين ، والعلماء المتقين ; فإنهم تورعوا عن المباحات كثيرا ، وذلك منقول عنهم تواترا ، كترك الترفه في المطعم ، والمشرب ، والمركب ، والمسكن ، وأعرقهم في ذلك عمر بن الخطاب ، وأبو ذر ، وسلمان ، وأبو عبيدة بن الجراح ، وعلي بن أبي طالب ، وعمار ، وغيرهم - رضي الله عنهم - وانظر إلى ما حكاه ابن حبيب في كتاب الجهاد ، وكذلك الداودي في كتاب " الأموال " ففيه الشفاء ، ومحصوله أنهم تركوا المباح من حيث هو مباح ، ولو كان ترك المباح غير طاعة لما فعلوه . والجواب عن ذلك من أوجه : أحدها : أن هذه أولا حكايات أحوال ; فالاحتجاج بمجردها من غير نظر [ ص: 185 ] فيها لا يجدي ; إذ لا يلزم أن يكون تركهم لما تركوه من ذلك من جهة كونه مباحا ؛ لإمكان تركه لغير ذلك من المقاصد ، وسيأتي إن شاء الله أن حكايات الأحوال بمجردها غير مفيدة في الاحتجاج . والثاني : أنها معارضة بمثلها في النقيض . فقد كان عليه السلام يحب الحلواء والعسل . ويأكل اللحم ، ويختص بالذراع ، وكانت تعجبه . وكان يستعذب له الماء . [ ص: 186 ] وينقع له الزبيب والتمر . ويتطيب بالمسك . [ ص: 187 ] ويحب النساء . وأيضا ; فقد جاء كثير من ذلك عن الصحابة والتابعين ، والعلماء المتقين ، بحيث يقتضي أن الترك عندهم كان غير مطلوب ، والقطع أنه لو كان مطلوب الترك عندهم شرعا ، لبادروا إليه مبادرتهم لكل نافلة وبر ، ونيل منزلة ودرجة ; إذ لم يبادر أحد من الخلق إلى نوافل الخيرات مبادرتهم ، ولا شارك أحد أخاه المؤمن ممن قرب عهده أو بعد في رفده وماله مشاركتهم ، يعلم ذلك من طالع سيرهم ، ومع ذلك فلم يكونوا تاركين للمباحات أصلا ، ولو كان مطلوبا لعلموه قطعا ، ولعملوا بمقتضاه مطلقا من غير استثناء ، لكنهم لم يفعلوا ; فدل ذلك على أنه عندهم غير مطلوب ، بل قد أراد بعضهم أن يترك شيئا من المباحات فنهوا عن ذلك ، وأدلة هذه الجملة كثيرة ، وانظر في باب المفاضلة بين الفقر والغنى في " مقدمات ابن رشد " . [ ص: 188 ] والثالث : إذا ثبت أنهم تركوا منه شيئا ، طلبا للثواب على تركه ، فذلك لا من جهة أنه مباح فقط للأدلة المتقدمة ، بل لأمور خارجة ، وذلك غير قادح في كونه غير مطلوب الترك - منها : أنهم تركوه من حيث هو مانع من عبادات ، وحائل دون خيرات ، فيترك ليمكن الإتيان بما يثاب عليه ، من باب التوصل إلى ما هو مطلوب ، كما كانت عائشة - رضي الله عنها - يأتيها المال العظيم الذي يمكنها به التوسع في المباح فتتصدق به ، وتفطر على أقل ما يقوم به العيش ، ولم يكن تركها التوسع من حيث كان الترك مطلوبا ، وهذا هو محل النزاع . - ومنها : أن بعض المباحات قد يكون مورثا لبعض الناس أمرا لا يختاره لنفسه ، بالنسبة إلى ما هو عليه من الخصال الحميدة ، فيترك المباح لما يؤديه إليه ، كما جاء أن عمر بن الخطاب لما عذلوه في ركوبه الحمار في مسيره إلى الشام ، أتي بفرس ، فلما ركبه فهملج تحته ، أخبر أنه أحس من نفسه ، فنزل [ ص: 189 ] عنه ، ورجع إلى حماره ، وكما جاء في حديث الخميصة ذات العلم ، حين لبسها النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرهم أنه نظر إلى علمها في الصلاة فكاد يفتنه ، وهو المعصوم ، ولكنه علم أمته كيف يفعلون بالمباح إذا أداهم إلى ما يكره ، وكذلك قد يكون المباح وسيلة إلى ممنوع ، فيترك من حيث هو وسيلة كما قيل : " إني لأدع بيني وبين الحرام سترة من الحلال ، ولا أحرمها " وفي الحديث : لا يبلغ الرجل درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا لما به البأس . [ ص: 190 ] وهذا بمثابة من يعلم أنه إذا مر لحاجته على الطريق الفلانية نظر إلى محرم أو تكلم فيما لا يعنيه أو نحوه . - ومنها : أنه قد يترك بعض الناس ما يظهر " لغيره " أنه مباح ، إذا تخيل فيه إشكالا وشبهة ، ولم يتخلص له حله ، وهذا موضع مطلوب الترك على الجملة بلا خلاف ; كقوله : " كنا ندع ما لا بأس به حذرا لما به البأس " ولم يتركوا كل ما لا بأس به ، وإنما تركوا ما خشوا أن يفضي بهم إلى مكروه أو ممنوع . - ومنها : أنه قد يترك المباح لأنه لم تحضره نية في تناوله ; إما للعون به على طاعة الله ، وإما لأنه يحب أن يكون عمله كله خالصا لله ، لا يلوي فيه على حظ نفسه من حيث هي طالبة له ; فإن من خاصة عباد الله من لا يحب أن يتناول مباحا لكونه مباحا ، بل يتركه حتى يجد لتناوله قصد عبادة أو عونا على [ ص: 191 ] عبادة ، أو يكون أخذه له من جهة الإذن لا من جهة الحظ ; لأن الأول نوع من الشكر بخلاف الثاني ، ومن ذلك أن يتركه حتى يصير مطلوبا كالأكل والشرب ونحوهما ; فإنه - إذا كان لغير حاجة - مباح ، كأكل بعض الفواكه ، فيدع التناول إلى زمان الحاجة إلى الغذاء ، ثم يأكل قصدا لإقامة البنية ، والعون على الطاعة ، وهذه كلها أغراض صحيحة منقولة عن السلف ، وغير قادحة في مسألتنا . - ومنها : أن يكون التارك مأخوذ الكلية في عبادة من علم أو تفكر أو عمل ، مما يتعلق بالآخرة ، فلا تجده يستلذ بمباح ، ولا ينحاش قلبه إليه ، ولا يلقي إليه بالا ، وهذا وإن كان قليلا ، فالترك على هذا الوجه يشبه الغفلة عن المتروك ، والغفلة عن تناول المباح ليس بطاعة ، بل هو في طاعة بما اشتغل به ، وقد نقل مثل هذا عن عائشة حين أتيت بمال عظيم فقسمته ، ولم تبق لنفسها شيئا ، فعوتبت على تركها نفسها دون شيء ، فقالت : " لا تعنيني ، لو كنت ذكرتني لفعلت " ، ويتفق مثل هذا للصوفية ، وكذلك إذا ترك المباح لعدم قيام النفس له ، هو في حكم المغفول عنه . - ومنها : أنه قد يرى بعض ما يتناوله من المباح إسرافا ، والإسراف مذموم ، وليس في الإسراف حد يوقف دونه كما في الإقتار ، فيكون التوسط [ ص: 192 ] راجعا إلى الاجتهاد بين الطرفين ; فيرى الإنسان بعض المباحات بالنسبة إلى حاله داخلا تحت الإسراف فيتركه لذلك ، ويظن من يراه ممن ليس ذلك - إسرافا في حقه ؛ أنه تارك للمباح ، ولا يكون كما ظن ; فكل أحد فيه فقيه نفسه . والحاصل أن التفقه في المباح بالنسبة إلى الإسراف وعدمه والعمل على ذلك - مطلوب ، وهو شرط من شروط تناول المباح ، ولا يصير بذلك المباح مطلوب الترك ، ولا مطلوب الفعل ، كدخول المسجد لأمر مباح هو مباح ، ومن شرطه أن لا يكون جنبا ، والنوافل من شرطها الطهارة وذلك واجب ، ولا يصير دخول المسجد ولا النافلة بسبب ذلك - واجبين ، فكذلك هنا تناول المباح مشروط بترك الإسراف ، ولا يصير ذم الإسراف في المباح ذما للمباح مطلقا . وإذا تأملت الحكايات في ترك بعض المباحات عمن تقدم ، فلا تعدو هذه الوجوه ، وعند ذلك لا تكون فيها معارضة لما تقدم ، والله أعلم . والثالث من الأمور المعارضة : ما ثبت من فضيلة الزهد في الدنيا ، وترك لذاتها ، وشهواتها ، وهو مما اتفق على مدح صاحبه شرعا ، وذم تاركه على الجملة ، حتى قال الفضيل بن عياض : " جعل الشر كله في بيت ، وجعل مفتاحه حب الدنيا ، وجعل الخير كله في بيت ، وجعل مفتاحه الزهد " . وقال الكتاني الصوفي : " الشيء الذي لم يخالف فيه كوفي ، ولا مدني ، [ ص: 193 ] ولا عراقي ، ولا شامي - الزهد في الدنيا ، وسخاوة النفس ، والنصيحة للخلق " . قال القشيري : يعني أن هذه الأشياء لا يقول أحد : إنها غير محمودة ، والأدلة من الكتاب والسنة على هذا لا تكاد تنحصر ، والزهد حقيقة إنما هو في الحلال ، أما الحرام ; فالزهد فيه لازم من أمر الإسلام ، عام في أهل الإيمان ، ليس مما يتجارى فيه خواص المؤمنين مقتصرين عليه فقط ، وإنما تجاروا فيما صاروا به من الخواص ، وهو الزهد في المباح ، فأما المكروه فذو طرفين ، وإذا ثبت هذا فمحال عادة أن يتجاروا فيه هذه المجاراة ، وهو لا فائدة فيه ، ومحال أن يمدح شرعا مع استواء فعله وتركه . والجواب من أوجه : أحدها : أن الزهد - في الشرع - مخصوص بما طلب تركه حسبما يظهر من الشريعة ، فالمباح في نفسه خارج عن ذلك لما تقدم من الأدلة ، فإذا أطلق بعض المعبرين لفظ الزهد على ترك الحلال ، فعلى جهة المجاز بالنظر إلى ما يفوت من الخيرات أو لغير ذلك مما تقدم . والثاني : أن أزهد البشر لم يترك الطيبات جملة إذا وجدها ، وكذلك من بعده من الصحابة والتابعين مع تحققهم في مقام الزهد . والثالث : أن ترك المباحات إما أن يكون بقصد أو بغير قصد ; فإن كان بغير قصد فلا اعتبار به ، بل هو غفلة ، لا يقال فيه : " مباح " فضلا عن أن يقال فيه : " زهد " ، وإن كان تركه بقصد ; فإما أن يكون [ ص: 194 ] القصد مقصورا على كونه مباحا ، فهو محل النزاع ، أو لأمر خارج ، فذلك الأمر إن كان دنيويا كالمتروك ؛ فهو انتقال من مباح إلى مثله لا زهد ، وإن كان أخرويا ; فالترك إذا وسيلة إلى ذلك المطلوب ; فهو فضيلة من جهة ذلك المطلوب ، لا من جهة مجرد الترك ، ولا نزاع في هذا . وعلى هذا المعنى فسره الغزالي ; إذ قال : " الزهد عبارة عن انصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خير منه " فلم يجعله مجرد الانصراف عن الشيء خاصة ، بل بقيد الانصراف إلى ما هو خير منه ، وقال في تفسيره : " ولما كان الزهد رغبة عن محبوب بالجملة ، لم يتصور إلا بالعدول إلى شيء هو أحب منه ، وإلا فترك المحبوب لغير الأحب محال " . ثم ذكر أقسام الزهد ، فدل على أن الزهد لا يتعلق بالمباح من حيث هو مباح على حال ، ومن تأمل كلام المعتبرين فهو دائر على هذا المدار . ![]()
__________________
|
#13
|
||||
|
||||
![]() ![]() الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الاول الحلقة (13) صـ195 إلى صـ 217 فصل وأما كون المباح غير مطلوب الفعل ; فيدل عليه كثير مما تقدم ; لأن كلا الطرفين من جهته في نفسه على سواء . [ ص: 195 ] وقد استدل من قال : إنه مطلوب ، بأن كل مباح ترك حرام ، وترك الحرام واجب ، فكل مباح واجب . . . ، إلى آخر ما قرر الأصوليون عنه ، لكن هذا القائل يظهر منه أنه يسلم أن المباح - مع قطع النظر عما يستلزم - مستوي الطرفين ، وعند ذلك يكون ما قاله الناس هو الصحيح ; لوجوه : أحدها : لزوم أن لا توجد الإباحة في فعل من الأفعال عينا ألبتة ; فلا [ ص: 196 ] يوصف فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بإباحة أصلا ، وهذا باطل باتفاق ; فإن الأمة قبل هذا المذهب لم تزل تحكم على الأفعال بالإباحة ، كما تحكم عليها بسائر الأحكام ، وإن استلزمت ترك الحرام ; فدل على عدم اعتبارها لما يستلزم ؛ لأنه أمر خارج عن ماهية المباح . والثاني : أنه لو كان كما قال ؛ لارتفعت الإباحة رأسا عن الشريعة ، وذلك باطل على مذهبه ، ومذهب غيره . بيانه أنه إذا كانت الإباحة غير موجودة في الخارج على التعيين ، كان وضعها في الأحكام الشرعية عبثا ; لأن موضوع الحكم هو فعل المكلف ، وقد فرضناه واجبا ، فليس بمباح ، فيبطل قسم المباح أصلا وفرعا ; إذ لا فائدة شرعا في إثبات حكم لا يقضي على فعل من أفعال المكلف . والثالث : أنه لو كان كما قال ; لوجب مثل ذلك في جميع الأحكام الباقية ; لاستلزامها ترك الحرام ، فتخرج عن كونها أحكاما مختلفة ، وتصير واجبة . فإن التزم ذلك باعتبار الجهتين حسبما نقل عنه ; فهو باطل ; لأنه يعتبر جهة الاستلزام ، [ فلذلك نفى المباح ، فليعتبر جهة الاستلزام ] في الأربعة الباقية فينفها ، وهو خلاف الإجماع والمعقول ; فإن اعتبر في الحرام والمكروه [ ص: 197 ] جهة النهي ، وفي المندوب جهة الأمر - كالواجب - لزمه اعتبار جهة التخيير في المباح ; إذ لا فرق بينهما من جهة معقولهما . فإن قال : يخرج المباح عن كونه [ مباحا ] بما يؤدي إليه أو بما يتوسل به إليه ، فذلك غير مسلم ، وإن سلم فذلك من باب ما لا يتم الواجب إلا به ، والخلاف فيه معلوم ، فلا نسلم أنه واجب ، وإن سلم فكذلك الأحكام الأخر ، فيصير الحرام والمكروه والمندوب واجبات ، والواجب من جهة واحدة واجبا من جهتين ، وهذا كله لا يتحصل له مقصود معتبر في الشرع . فالحاصل أن الشارع لا قصد له في فعل المباح دون تركه ، ولا في تركه دون فعله ، بل قصده جعله لخيرة المكلف ، فما كان من المكلف من فعل أو ترك ، فذلك قصد الشارع بالنسبة إليه ; فصار الفعل والترك بالنسبة إلى المكلف كخصال الكفارة ، أيهما فعل فهو قصد الشارع ، لا أن للشارع قصدا في الفعل بخصوصه ، ولا في الترك بخصوصه . لكن يرد على مجموع الطرفين إشكال زائد على ما تقدم في الطرف الواحد ، وهو أنه قد جاء في بعض المباحات ما يقتضي قصد الشارع إلى فعله على الخصوص ، وإلى تركه على الخصوص . فأما الأول فأشياء ، منها : الأمر بالتمتع بالطيبات ; كقوله [ ص: 198 ] تعالى : يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا [ البقرة : 168 ] . وقوله : يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله [ البقرة : 172 ] . وقوله : يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا [ المؤمنون : 51 ] . إلى أشباه ذلك مما دل الأمر به على قصد الاستعمال . وأيضا ; فإن النعم المبسوطة في الأرض لتمتعات العباد التي ذكرت المنة بها ، وقررت عليهم - فهم منها القصد إلى التنعم بها ، لكن بقيد الشكر عليها . ومنها : أنه تعالى أنكر على من حرم شيئا مما بث في الأرض من الطيبات ، وجعل ذلك من أنواع ضلالهم ، فقال تعالى : قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا [ الأعراف : 32 ] أي : خلقت لأجلهم خالصة يوم القيامة [ الأعراف : 32 ] لا تباعة فيها ولا إثم ; فهذا ظاهر في القصد إلى استعمالها دون تركها . - ومنها : أن هذه النعم هدايا من الله للعبد ، وهل يليق بالعبد عدم قبول هدية السيد ، هذا غير لائق في محاسن العادات ، ولا في مجاري الشرع ، بل قصد المهدي أن تقبل هديته ، وهدية الله إلى العبد ما أنعم به عليه ; فليقبل ، ثم ليشكر له عليها . [ ص: 199 ] وحديث ابن عمر ، وأبيه عمر في مسألة قصر الصلاة - ظاهر في هذا المعنى ، حيث قال عليه السلام : إنها صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ، زاد في حديث ابن عمر الموقوف عليه : أرأيت لو تصدقت بصدقة فردت عليك ؛ ألم تغضب ؟ ، وفي الحديث : إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه . [ ص: 200 ] وغالب الرخص في نمط الإباحة نزولا عن الوجوب ; كالفطر في السفر أو التحريم ، كما قاله طائفة في قوله : ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات [ النساء : 25 ] إلى آخرها ، وإذا تعلقت المحبة بالمباح ; كان راجح الفعل . فهذه جملة تدل على أن المباح قد يكون فعله أرجح من تركه . وأما ما يقتضي القصد إلى الترك على الخصوص - فجميع ما تقدم من ذم التنعمات والميل إلى الشهوات على الجملة ، وعلى الخصوص قد جاء ما يقتضي تعلق الكراهة في بعض ما ثبتت له الإباحة ، كالطلاق السني ; فإنه جاء في الحديث ، وإن لم يصح أبغض الحلال إلى الله الطلاق ، ولذلك لم [ ص: 201 ] يأت به صيغة أمر في القرآن ، ولا في السنة كما جاء في التمتع بالنعم ، وإنما جاء مثل قوله : الطلاق مرتان [ البقرة : 229 ] . فإن طلقها فلا تحل له من بعد [ البقرة : 230 ] . يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن [ الطلاق : 1 ] . فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف [ الطلاق : 1 ] . [ ص: 202 ] ولا شك أن جهة البغض في المباح مرجوحة ، وجاء : كل لهو باطل إلا ثلاثة . وكثير من أنواع اللهو مباح ، واللعب أيضا مباح ، وقد ذم . فهذا كله يدل على أن المباح لا ينافي قصد الشارع لأحد طرفيه على الخصوص دون الآخر ، وذلك مما يدل على أن المباح يتعلق به الطلب فعلا [ ص: 203 ] وتركا على غير الجهات المتقدمة . والجواب من وجهين : أحدهما : إجمالي ، والآخر : تفصيلي . فالإجمالي أن يقال : إذا ثبت أن المباح عند الشارع هو المتساوي الطرفين ، فكل ما ترجح أحد طرفيه فهو خارج عن كونه مباحا ; إما لأنه ليس بمباح حقيقة ، وإن أطلق عليه لفظ المباح ، وإما لأنه مباح في أصله ، ثم صار غير مباح لأمر خارج ، وقد يسلم أن المباح يصير غير مباح بالمقاصد والأمور الخارجة . وأما التفصيلي ; فإن المباح ضربان : أحدهما : أن يكون خادما لأصل ضروري ، [ أو حاجي ] أو تكميلي . والثاني : أن لا يكون كذلك . فالأول قد يراعى من جهة ما هو خادم له ; فيكون مطلوبا ، ومحبوبا فعله ، وذلك أن التمتع بما أحل الله من المأكل والمشرب ونحوها - مباح في نفسه ، وإباحته بالجزء ، وهو خادم لأصل ضروري ، وهو إقامة الحياة ; فهو [ ص: 204 ] مأمور به من هذه الجهة ، ومعتبر ومحبوب من حيث هذا الكلي المطلوب ; فالأمر به راجع إلى حقيقته الكلية لا إلى اعتباره الجزئي ، ومن هنا يصح كونه هدية يليق فيها القبول دون الرد ، لا من حيث هو جزئي معين . والثاني : إما أن يكون خادما لما ينقض أصلا من الأصول الثلاثة المعتبرة ، أو لا يكون خادما لشيء ، كالطلاق ; فإنه ترك للحلال الذي هو خادم لكلي إقامة النسل في الوجود ، وهو ضروري ، ولإقامة مطلق الألفة ، والمعاشرة ، واشتباك العشائر بين الخلق ، وهو ضروري أو حاجي أو مكمل لأحدهما ، فإذا كان الطلاق بهذا النظر خرما لذلك المطلوب ، ونقضا عليه - كان مبغضا ، ولم يكن فعله أولى من تركه إلا لمعارض أقوى ; كالشقاق ، وعدم إقامة حدود الله ، وهو من حيث كان جزئيا في هذا الشخص ، وفي هذا الزمان - مباح وحلال ، وهكذا القول فيما جاء من ذم الدنيا ، وقد تقدم ، ولكن لما كان الحلال فيها قد يتناول فيخرم ما هو ضروري - كالدين على الكافر ، والتقوى على العاصي - كان من تلك الجهة مذموما ، وكذلك اللهو ، واللعب ، والفراغ من كل شغل إذا لم يكن في محظور ، ولا يلزم عنه محظور - فهو مباح ، ولكنه مذموم [ ص: 205 ] ولم يرضه العلماء ، بل كانوا يكرهون أن لا يرى الرجل في إصلاح معاش ، ولا في إصلاح معاد ; لأنه قطع زمان فيما لا يترتب عليه فائدة دنيوية ولا أخروية . وفي القرآن : ولا تمش في الأرض مرحا ; إذ يشير إلى هذا المعنى . وفي الحديث : كل لهو باطل إلا ثلاثة ، ويعني بكونه باطلا أنه عبث أو كالعبث ، ليس له فيه فائدة ، ولا ثمرة تجنى ، بخلاف اللعب مع الزوجة ; فإنه مباح يخدم أمرا ضروريا ، وهو النسل ، وبخلاف تأديب الفرس ، وكذلك اللعب بالسهام ; فإنهما يخدمان أصلا تكميليا ، وهو الجهاد ، فلذلك استثنى هذه الثلاثة من اللهو الباطل ، وجميع هذا يبين أن المباح من حيث هو مباح غير مطلوب الفعل ولا الترك بخصوصه . [ ص: 206 ] وهذا الجواب مبني على أصل آخر ثابت في الأحكام التكليفية فلنضعه [ ها ] هنا ، وهي : المسألة الثانية فيقال : إن الإباحة بحسب الكلية والجزئية يتجاذبها الأحكام البواقي ، فالمباح يكون مباحا بالجزء ، مطلوبا بالكل على جهة الندب أو الوجوب ، ومباحا بالجزء منهيا عنه بالكل على جهة الكراهة أو المنع . فهذه أربعة أقسام : فالأول : كالتمتع بالطيبات من المأكل والمشرب ، والمركب والملبس ، مما سوى الواجب من ذلك ، والمندوب المطلوب في محاسن العبادات أو المكروه في محاسن العادات ، كالإسراف ; فهو مباح بالجزء ، فلو ترك بعض الأوقات مع القدرة عليه ; لكان جائزا كما لو فعل ، فلو ترك جملة ; [ ص: 207 ] لكان على خلاف ما ندب الشرع إليه ، ففي الحديث : إذا أوسع الله عليكم فأوسعوا على أنفسكم ، وإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده ، وقوله في الآخر حين حسن من هيئته أليس هذا أحسن ؟ ، وقوله : إن الله [ ص: 208 ] جميل يحب الجمال بعد قول الرجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ، ونعله حسنة ، وكثير من ذلك ، وهكذا لو ترك الناس كلهم ذلك لكان مكروها . والثاني : كالأكل ، والشرب ، ووطء الزوجات ، والبيع والشراء ، ووجوه الاكتسابات الجائزة ; كقوله تعالى : وأحل الله البيع وحرم الربا [ البقرة : 275 ] . أحل لكم صيد البحر وطعامه [ المائدة : 96 ] . أحلت لكم بهيمة الأنعام [ المائدة : 1 ] . وكثير من ذلك ، كل هذه الأشياء مباحة بالجزء ; أي : إذا اختار أحد هذه الأشياء على ما سواها ; فذلك جائز ، أو تركها الرجل في بعض الأحوال أو الأزمان ، [ ص: 209 ] أو تركها بعض الناس - لم يقدح ذلك ، فلو فرضنا ترك الناس كلهم ذلك لكان تركا لما هو من الضروريات المأمور بها ، فكان الدخول فيها واجبا بالكل . والثالث : كالتنزه في البساتين ، وسماع تغريد الحمام ، والغناء المباح ، واللعب المباح بالحمام ، أو غيرها ؛ فمثل هذا مباح بالجزء ، فإذا فعل يوما ما أو في حالة ما - فلا حرج فيه ; فإن فعل دائما كان مكروها ، ونسب فاعله إلى قلة العقل ، وإلى خلاف محاسن العادات ، وإلى الإسراف في فعل ذلك المباح . والرابع : كالمباحات التي تقدح في العدالة المداومة عليها ، وإن كانت مباحة ; فإنها لا تقدح إلا بعد أن يعد صاحبها خارجا عن هيئات أهل العدالة ، وأجري صاحبها مجرى الفساق ، وإن لم يكن كذلك ; ، وما ذلك إلا لذنب اقترفه شرعا ، وقد قال الغزالي : " إن المداومة على المباح قد تصيره صغيرة ، كما أن المداومة على الصغيرة تصيرها كبيرة " ، ومن هنا قيل : " لا صغيرة مع [ ص: 210 ] الإصرار . [ ص: 211 ] فصل إذا كان الفعل مندوبا بالجزء ، كان واجبا بالكل ، كالأذان في المساجد الجوامع أو غيرها ، وصلاة الجماعة ، وصلاة العيدين ، وصدقة التطوع ، والنكاح ، والوتر ، والفجر ، والعمرة ، وسائر النوافل الرواتب ; فإنها مندوب إليها بالجزء ، ولو فرض تركها جملة ; لجرح التارك لها ، ألا ترى أن في الأذان إظهارا لشعائر الإسلام ، ولذلك يستحق أهل المصر القتال إذا تركوه ، وكذلك صلاة الجماعة من داوم على تركها يجرح ، فلا تقبل شهادته ، لأن في تركها مضادة لإظهار شعائر الدين ، وقد توعد الرسول عليه السلام من داوم على ترك الجماعة ، فهم أن يحرق عليهم بيوتهم ، كما كان عليه السلام لا يغير على قوم حتى يصبح ; فإن سمع أذانا أمسك ، وإلا أغار ، والنكاح لا يخفى ما فيه مما هو [ ص: 212 ] مقصود للشارع ; من تكثير النسل ، وإبقاء النوع الإنساني ، وما أشبه ذلك ، فالترك لها جملة مؤثر في أوضاع الدين إذا كان دائما ، أما إذا كان في بعض الأوقات ; فلا تأثير له ، فلا محظور في الترك . فصل إذا كان الفعل مكروها بالجزء كان ممنوعا بالكل ; كاللعب بالشطرنج والنرد بغير مقامرة ، وسماع الغناء المكروه ; فإن مثل هذه الأشياء إذا وقعت على غير مداومة لم تقدح في العدالة ; فإن داوم عليها قدحت في عدالته ، وذلك دليل على المنع بناء على أصل الغزالي ، قال محمد بن عبد الحكم في اللعب بالنرد والشطرنج : " إن كان يكثر منه حتى يشغله عن الجماعة [ ص: 213 ] لم تقبل شهادته ، وكذلك اللعب الذي يخرج به عن هيئة أهل المروءة ، والحلول بمواطن التهم لغير عذر ، وما أشبه ذلك . فصل أما الواجب إن قلنا إنه مرادف للفرض ; فإنه لا بد أن يكون واجبا بالكل والجزء ; فإن العلماء إنما أطلقوا الواجب من حيث النظر الجزئي ، وإذا كان واجبا بالجزء فهو كذلك بالكل من باب أولى ، ولكن هل يختلف حكمه بحسب الكلية والجزئية أم لا . أما بحسب الجواز فذلك ظاهر ; فإنه إذا كانت هذه الظهر المعينة فرضا على المكلف ؛ يأثم بتركها ، ويعد مرتكب كبيرة ، فينفذ عليه الوعيد بسببها إلا أن يعفو الله ; فالتارك لكل ظهر أو لكل صلاة أحرى بذلك ، وكذلك القاتل عمدا إذا فعل ذلك مرة مع من كثر ذلك منه وداوم عليه ، وما أشبه ذلك ; فإن المفسدة بالمداومة أعظم منها في غيرها . وأما بحسب الوقوع ; فقد جاء ما يقتضي ذلك كقوله عليه السلام في تارك الجمعة : [ من ترك الجمعة ] ثلاث مرات طبع الله على قلبه ; فقيد [ ص: 214 ] بالثلاث كما ترى ، وقال في الحديث الآخر : من تركها استخفافا بحقها أو تهاونا ، مع أنه لو تركها مختارا غير متهاون ، ولا مستخف ؛ لكان تاركا للفرض ; فإنما قال ذلك لأن [ تركها ] مرات أولى في التحريم ، وكذلك لو تركها قصدا للاستخفاف والتهاون ، وانبنى على ذلك في الفقه أن من تركها ثلاث مرات من غير عذر لم تجز شهادته . قاله سحنون ، وقال ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون : إذا تركها مرارا لغير عذر لم تجز شهادته . وكذلك [ ص: 215 ] يقول الفقهاء فيمن ارتكب إثما ولم يكثر منه ذلك : إنه لا يقدح في شهادته إذا لم يكن كبيرة ; فإن تمادى وأكثر منه كان قادحا في شهادته ، وصار في عداد من فعل كبيرة ; بناء على أن الإصرار على الصغيرة يصيرها كبيرة . وأما إن قلنا : إن الواجب ليس بمرادف للفرض فقد يطرد فيه ما تقدم فيقال : إن الواجب إذا كان واجبا بالجزء كان فرضا بالكل ، لا مانع يمنع من ذلك ; فانظر فيه وفي أمثلته منزلا على مذهب الحنفية ، وعلى هذه الطريقة يستتب التعميم ; فيقال في الفرض : إنه يختلف بحسب الكل والجزء كما تقدم بيانه أول الفصل . وهكذا القول في الممنوعات : إنها تختلف مراتبها بحسب الكل والجزء ، وإن عدت في الحكم في مرتبة واحدة وقتا ما أو في حالة ما ؛ فلا تكون كذلك في أحوال أخر ، بل يختلف الحكم فيها كالكذب من غير عذر ، وسائر الصغائر مع المداومة عليها ; فإن المداومة لها تأثير في كبرها ، وقد ينضاف الذنب إلى [ ص: 216 ] الذنب فيعظم بسبب الإضافة ; فليست سرقة نصف النصاب كسرقة ربعه ، ولا سرقة النصاب كسرقة نصفه ، ولذلك عدوا سرقة لقمة ، والتطفيف بحبة - من باب الصغائر ، مع أن السرقة معدودة من الكبائر ، وقد قال الغزالي : " قلما يتصور الهجوم على الكبيرة بغتة ، من غير سوابق ولواحق من جهة الصغائر - قال : - ولو تصورت كبيرة وحدها بغتة ، ولم يتفق عوده إليها ، ربما كان العفو إليها أرجى من صغيرة واظب عليها عمره " . ![]()
__________________
|
#14
|
||||
|
||||
![]()
__________________
|
#15
|
||||
|
||||
![]() ![]() الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الاول الحلقة (15) صـ239 إلى صـ 259 فصل المكروه إذا اعتبرته كذلك مع الممنوع ، كان كالمندوب مع الواجب ، وبعض الواجبات منه ما يكون مقصودا ، وهو أعظمها ، ومنه ما يكون وسيلة وخادما للمقصود ، كطهارة الحدث ، وستر العورة ، واستقبال القبلة ، والأذان للتعريف بالأوقات ، وإظهار شعائر الإسلام مع الصلاة ، فمن حيث كان وسيلة حكمه مع المقصود حكم المندوب مع الواجب ، يكون وجوبه بالجزء دون وجوبه بالكل ، وكذلك بعض الممنوعات ؛ منه ما يكون مقصودا ، ومنه ما يكون وسيلة له ، كالواجب حرفا بحرف ، فتأمل ذلك . المسألة الثامنة ما حد له الشارع وقتا محدودا من الواجبات أو المندوبات فإيقاعه في وقته لا تقصير فيه شرعا ، ولا عتب ، ولا ذم ، وإنما العتب والذم في إخراجه عن وقته ، سواء علينا أكان وقته مضيقا أو موسعا لأمرين : أحدهما : أن حد الوقت إما أن يكون لمعنى قصده الشارع أو لغير معنى ، وباطل أن يكون لغير معنى ، فلم يبق إلا أن يكون لمعنى ، وذلك المعنى [ ص: 241 ] هو أن يوقع الفعل فيه ، فإذا وقع فيه فذلك مقصود الشارع من ذلك التوقيت ، وهو يقتضي قطعا موافقة الأمر في ذلك الفعل الواقع فيه ، فلو كان فيه عتب أو ذم ، للزم أن يكون لمخالفة قصد الشارع في إيقاعه في ذلك الوقت الذي وقع فيه العتب بسببه ، وقد فرضناه موافقا ، هذا خلف . والثاني : أنه لو كان كذلك ; للزم أن يكون الجزء من الوقت الذي وقع فيه العتب ليس من الوقت المعين ، لأنا قد فرضنا الوقت المعين مخيرا في أجزائه إن كان موسعا ، والعتب مع التخيير متنافيان ، فلا بد أن يكون خارجا عنه ، وقد فرضناه جزءا من أجزائه ، هذا خلف محال ، وظهور هذا المعنى غير محتاج إلى دليل . فإن قيل : قد ثبت أصل طلب المسارعة إلى الخيرات ، والمسابقة إليها ، وهو أصل قطعي ، وذلك لا يختص ببعض الأوقات دون بعض ، ولا ببعض الأحوال دون بعض ، وإذا كان السبق إلى الخيرات مطلوبا بلا بد ; فالمقصر عنه معدود في المقصرين ، والمفرطين ، ولا شك أن من كان هكذا ; فالتعب لاحق به في تفريطه وتقصيره ، فكيف يقال : لا عتب عليه ؟ ويدل على تحقيق هذا ما روي عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أنه لما سمع قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : أول الوقت رضوان الله ، وآخره عفو الله قال : [ ص: 242 ] رضوان الله أحب إلينا من عفوه ; فإن رضوانه للمحسنين ، وعفوه عن المقصرين . وفي مذهب مالك ما يدل على هذا أيضا ; فقد قال في المسافرين يقدمون [ ص: 243 ] الرجل لسنه يصلي بهم فيسفر بصلاة الصبح ، قال : " يصلي الرجل وحده في أول الوقت أحب إلي من أن يصلي بعد الإسفار في جماعة " فقدم كما ترى حكم المسابقة ، ولم يعتبر الجماعة التي هي سنة يعد من تركها مقصرا ; فأولى أن يعد من ترك المسابقة مقصرا . وجاء عنه أيضا فيمن أفطر في رمضان لسفر أو مرض ، ثم قدم أو صح في غير شعبان من شهور القضاء ، فلم يصمه حتى مات ; فعليه الإطعام ، وجعله مفرطا ، كمن صح أو قدم في شعبان ; فلم يصمه حتى دخل رمضان الثاني ، مع أن القضاء ليس على الفور عنده . قال اللخمي : جعله مترقبا ليس على الفور ، ولا على التراخي ، فإن قضى في شعبان مع القدرة عليه قبل شعبان فلا إطعام لأنه غير مفرط ، وإن مات قبل شعبان فمفرط ، وعليه الإطعام ، نحو قول الشافعية في الحج : إنه على التراخي ; فإن مات قبل الأداء كان آثما فهذا أيضا - رأي الشافعية - مضاد لمقتضى الأصل المذكور . فأنت ترى أوقاتا معينة شرعا ; إما بالنص ، وإما بالاجتهاد ، ثم صار من قصر عن المسابقة فيها ملوما معاتبا ، بل آثما في بعضها ، وذلك مضاد لما [ ص: 244 ] تقدم . فالجواب : أن أصل المسابقة إلى الخيرات لا ينكر ; غير أن ما عين له وقت معين من الزمان هل يقال : إن إيقاعه في وقته المعين له مسابقة ; فكيف يكون الأصل المذكور شاملا له ، أم يقال : ليس شاملا له ؟ والأول هو الجاري على مقتضى الدليل فيكون قوله عليه السلام حين سئل عن أفضل الأعمال فقال : الصلاة لأول وقتها يريد به وقت الاختيار مطلقا ، ويشير إليه أنه عليه السلام حين علم الأعرابي الأوقات صلى في أوائل الأوقات وأواخرها ، وحد ذلك حدا لا يتجاوز ، ولم ينبه فيه على تقصير ، وإنما نبه على التقصير والتفريط بالنسبة إلى ما بعد ذلك من أوقات الضرورات إذا صلى فيها من لا ضرورة له ; إذ قال : تلك صلاة المنافقين الحديث ; [ ص: 245 ] فبين أن وقت التفريط هو الوقت الذي تكون الشمس فيه بين قرني الشيطان . فإنما ينبغي أن يخرج عن وصف المسابقة والمسارعة ، من خرج عن الإيقاع في ذلك الوقت المحدد ، وعند ذلك يسمى مفرطا ومقصرا وآثما أيضا عند بعض الناس ، وكذلك الواجبات الفورية . وأما المقيدة بوقت العمر ; فإنها لما قيد آخرها بأمر مجهول ، كان ذلك علامة على طلب المبادرة والمسابقة في أول أزمنة الإمكان ; فإن العاقبة مغيبة ، فإذا عاش المكلف ما في مثله يؤدى ذلك المطلوب ، فلم يفعل مع سقوط الأعذار - عد ولا بد مفرطا ، وأثمه الشافعي ; لأن المبادرة هي المطلوب ، لا أنه على التحقيق مخير بين أول الوقت وآخره ; فإن آخره غير معلوم ، وإنما المعلوم منه ما في اليد الآن ، فليست هذه المسألة من أصلنا المذكور ; فلا تعود عليه بنقض . وأيضا ; فلا ينكر استحباب المسابقة بالنسبة إلى الوقت المعين ، لكن بحيث لا يعد المؤخر عن أول الوقت الموسع مقصرا ، وإلا لم يكن الوقت على حكم التوسعة ، وهذا كما في الواجب المخير في خصال الكفارة ; فإن للمكلف الاختيار في الأشياء المخير فيها ، وإن كان الأجر فيها يتفاوت فيكون بعضها أكثر أجرا من بعض ، كما يقول بذلك مالك في الإطعام في كفارة رمضان مع وجود التخيير في الحديث ، وقول مالك به ، وكذلك العتق في كفارة الظهار أو القتل أو غيرهما ; هو مخير في أي الرقاب شاء ، مع أن الأفضل أعلاها ثمنا ، [ ص: 246 ] وأنفسها عند أهلها ، ولا يخرج بذلك التخيير عن بابه ، ولا يعد مختار غير الأعلى مقصرا ، ولا مفرطا ، وكذلك مختار الكسوة أو الإطعام في كفارة اليمين ، وما أشبه ذلك من المطلقات التي ليس للشارع قصد في تعيين بعض أفرادها مع حصول الفضل في الأعلى منها ، وكما أن الحج ماشيا أفضل ، ولا يعد الحاج راكبا مفرطا ، ولا مقصرا ، وكثرة الخطا إلى المساجد أفضل من قلتها ، ولا يعد من كان جار المسجد بقلة خطاه له مقصرا ، بل المقصر هو الذي قصر عما حد له ، وخرج عن مقتضى الأمر المتوجه إليه ، وليس في مسألتنا ذلك . وأما حديث أبي بكر - رضي الله عنه - فلم يصح ، وإن فرضنا صحته فهو معارض بالأصل القطعي ، وإن سلم فمحمول على التأخير عن جميع الوقت المختار ، وإن سلم ; فأطلق لفظ التقصير على ترك الأولى من المسارعة إلى تضعيف الأجور ، لا أن المؤخر مخالف لمقتضى الأمر . وأما مسائل مالك ; فلعل استحبابه لتقديم الصلاة ، وترك الجماعة - مراعاة للقول بأن للصبح وقت ضرورة ، وكان الإمام قد أخر إليه ، وما ذكر في إطعام التفريط في قضاء رمضان ، بناء على القول بالفور في القضاء - فلا يتعين فيها ما ذكر في السؤال ; فلا اعتراض بذلك ، وبالله التوفيق . المسألة التاسعة الحقوق الواجبة على المكلف على ضربين - كانت من حقوق الله ; كالصلاة ، والصيام ، والحج ، أو من حقوق الآدميين كالديون ، والنفقات ، والنصيحة ، وإصلاح ذات البين ، وما أشبه ذلك - : أحدهما : حقوق محدودة شرعا . [ ص: 247 ] والآخر حقوق غير محدودة . فأما المحدودة المقدرة ; فلازمة لذمة المكلف مترتبة عليه دينا ، حتى يخرج عنها ، كأثمان المشتريات ، وقيم المتلفات ، ومقادير الزكوات ، وفرائض الصلوات ، وما أشبه ذلك ; فلا إشكال في أن مثل هذا مترتب في ذمته دينا عليه . والدليل على ذلك التحديد والتقدير ; فإنه مشعر بالقصد إلى أداء ذلك المعين ، فإذا لم يؤده فالخطاب باق عليه ، ولا يسقط عنه إلا بدليل . وأما غير المحدودة فلازمة له ، وهو مطلوب بها ، غير أنها لا تترتب في ذمته ؛ لأمور : أحدها : أنها لو ترتبت في ذمته لكانت محدودة معلومة ; إذ المجهول لا يترتب في الذمة ، ولا يعقل نسبته إليها ، فلا يصح أن يترتب دينا ، وبهذا استدللنا على عدم الترتب ; لأن هذه الحقوق مجهولة المقدار ، والتكليف بأداء ما لا يعرف له مقدار - تكليف بمتعذر الوقوع ، وهو ممتنع سمعا . ومثاله : الصدقات المطلقة ، وسد الخلات ، ودفع حاجات المحتاجين ، وإغاثة الملهوفين ، وإنقاذ الغرقى ، والجهاد ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، ويدخل تحته سائر فروض الكفايات . [ ص: 248 ] فإذا قال الشارع : وأطعموا القانع والمعتر [ الحج : 36 ] أو قال : " اكسوا العاري " أو وأنفقوا في سبيل الله [ البقرة : 195 ] ; فمعنى ذلك طلب رفع الحاجة في كل واقعة بحسبها من غير تعيين مقدار ، فإذا تعينت حاجة تبين مقدار ما يحتاج إليه فيها بالنظر لا بالنص ، فإذا تعين جائع فهو مأمور بإطعامه ، وسد خلته ، بمقتضى ذلك الإطلاق ; فإن أطعمه ما لا يرفع عنه الجوع فالطلب باق عليه ما لم يفعل من ذلك ما هو كاف ورافع للحاجة التي من أجلها أمر ابتداء ، والذي هو كاف يختلف باختلاف الساعات والحالات في ذلك المعين ; فقد يكون في الوقت غير مفرط الجوع ، فيحتاج إلى مقدار من الطعام ، فإذا تركه حتى أفرط عليه ; احتاج إلى أكثر منه ، وقد يطعمه آخر فيرتفع عنه الطلب رأسا ، [ وقد يطعمه آخر ما لا يكفيه ، فيطلب هذا بأقل مما كان مطلوبا به ] . فإذا كان المكلف به يختلف باختلاف الأحوال والأزمان ، لم يستقر للترتيب في الذمة أمر معلوم يطلب ألبتة ، وهذا معنى كونه مجهولا ، فلا يكون معلوما إلا في الوقت الحاضر بحسب النظر لا بمقتضى النص ، فإذا زال الوقت الحاضر صار في الثاني مكلفا بشيء آخر لا بالأول ، أو سقط عنه التكليف إذا فرض ارتفاع الحاجة العارضة . والثاني : أنه لو ترتب في ذمته أمر ; لخرج إلى ما لا يعقل لأنه في كل وقت [ ص: 249 ] من أوقات حاجة المحتاج مكلف بسدها ، فإذا مضى وقت يسع سدها بمقدار معلوم مثلا ، ثم لم يفعل فترتب في ذمته ، ثم جاء زمان ثان وهو على حاله أو أشد ، فإما أن يقال : إنه مكلف أيضا بسدها أولا ، والثاني باطل ; إذ ليس هذا الثاني بأولى بالسقوط من الأول ; لأنه إنما كلف لأجل سد الخلة فيرتفع التكليف ، والخلة باقية ، هذا محال ; فلا بد أن يترتب في الذمة ثانيا مقدار ما تسد به الحاجة ذلك الوقت ، وحينئذ يترتب في ذمته في حق واحد - قيم كثيرة بعدد الأزمان الماضية ، وهذا غير معقول في الشرع . والثالث : أن هذا يكون عينا أو كفاية ، وعلى كل تقدير يلزم إذا لم يقم به أحد أن يترتب إما في ذمة واحد غير معين ، وهو باطل لا يعقل ، وإما في ذمم جميع الخلق مقسطا ، فكذلك للجهل بمقدار ذلك القسط لكل واحد ، أو غير مقسط ، فيلزم فيما قيمته درهم أن يترتب في ذمم مائة ألف رجل مائة ألف درهم ، وهو باطل كما تقدم . والرابع : لو ترتب في ذمته لكان عبثا ، ولا عبث في التشريع ; فإنه إذا كان المقصود دفع الحاجة ; فعمران الذمة ينافي هذا المقصد ; إذ المقصود إزالة هذا العارض ، لا غرم قيمة العارض ، فإذا كان الحكم بشغل الذمة منافيا لسبب الوجوب ; كان عبثا غير صحيح . لا يقال : إنه لازم في الزكاة المفروضة وأشباهها ; إذ المقصود بها سد [ ص: 250 ] الخلات ، وهي تترتب في الذمة . لأنا نقول : نسلم أن المقصود ما ذكرت ، ولكن الحاجة التي تسد بالزكاة غير متعينة على الجملة ; ألا ترى أنها تؤدى اتفاقا وإن لم تظهر عين الحاجة ؟ فصارت كالحقوق الثابتة بمعاوضة أو هبة ، فللشرع قصد في تضمين المثل أو القيمة فيها ، بخلاف ما نحن فيه ; فإن الحاجة فيه متعينة فلا بد من إزالتها ، ولذلك لا يتعين لها مال زكاة من غيره ، بل بأي مال ارتفعت حصل المطلوب ، فالمال غير مطلوب لنفسه فيها ، فلو ارتفع العارض بغير شيء لسقط الوجوب ، والزكاة ونحوها لا بد من بذلها ، وإن كان محلها غير مضطر إليها في الوقت ، ولذلك عينت ، وعلى هذا الترتيب في بذل المال للحاجة يجري حكم سائر أنواع هذا القسم . فإن قيل : لو كان الجهل مانعا من الترتب في الذمة ، لكان مانعا من أصل التكليف أيضا ; لأن العلم بالمكلف به شرط في التكليف ; إذ التكليف بالمجهول تكليف بما لا يطاق فلو قيل لأحد : أنفق مقدارا لا تعرفه أو صل صلوات لا تدري كم هي أو انصح من لا تدريه ولا تميزه ، وما أشبه ذلك ، لكان تكليفا بما لا يطاق ; إذ لا يمكن العلم بالمكلف به أبدا إلا بوحي ، وإذا علم بالوحي ; صار معلوما لا مجهولا ، والتكليف بالمعلوم صحيح ، هذا خلف . فالجواب : أن الجهل المانع من أصل التكليف هو المتعلق بمعين عند الشارع ; كما لو قال : أعتق رقبة ، وهو يريد الرقبة الفلانية من غير بيان ، فهذا [ ص: 251 ] هو الممتنع ، أما ما لم يتعين عند الشارع بحسب التكليف ؛ فالتكليف به صحيح ، كما صح في التخيير بين الخصال في الكفارة ; إذ ليس للشارع قصد في إحدى الخصال دون ما بقي ، فكذلك هنا إنما مقصود الشارع سد الخلات على الجملة ، فما لم يتعين فيه خلة فلا طلب ، فإذا تعينت وقع الطلب ، هذا هو المراد هنا ، وهو ممكن للمكلف مع نفي التعيين في مقدار ولا في غيره . وهنا ضرب ثالث آخذ بشبه من الطرفين الأولين ; فلم يتمحض لأحدهما ، هو محل اجتهاد كالنفقة على الأقارب ، والزوجات ، ولأجل ما فيه من الشبه بالضربين ، اختلف الناس فيه : هل له ترتب في الذمة أم لا ؟ فإذا ترتب فلا يسقط بالإعسار ، فالضرب الأول لاحق بضروريات الدين ، ولذلك محض بالتقدير ، والتعيين ، والثاني لاحق بقاعدة التحسين ، والتزيين ، ولذلك وكل إلى اجتهاد المكلفين ، والثالث آخذ من الطرفين بسبب متين ; فلا بد فيه من النظر في كل واقعة على التعيين ، والله أعلم . [ ص: 252 ] فصل وربما انضبط الضربان الأولان بطلب العين والكفاية ; فإن حاصل الأول أنه طلب مقدر على كل عين من أعيان المكلفين ، وحاصل الثاني إقامة الأود العارض في الدين وأهله ; وإلا أن هذا الثاني قد يدخل فيه ما يظن أنه طلب عين ، ولكنه لا يصير طلبا متحتما في الغالب إلا عند كونه كفاية ; كالعدل ، والإحسان ، وإيتاء ذي القربى ، وأما إذا لم يتحتم فهو مندوب ، وفروض الكفايات مندوبات على الأعيان فتأمل هذا الموضع ، وأما الضرب الثالث ; فآخذ شبها من الطرفين أيضا ; فلذلك اختلفوا في تفاصيله حسبما ذكره الفقهاء ، والله أعلم . [ ص: 253 ] المسألة العاشرة يصح أن يقع بين الحلال والحرام مرتبة العفو ، فلا يحكم عليه بأنه واحد من الخمسة المذكورة هكذا على الجملة ، ومن الدليل على ذلك أوجه : أحدها : ما تقدم من أن الأحكام الخمسة إنما تتعلق بأفعال المكلفين مع القصد إلى الفعل ، وأما دون ذلك فلا ، وإذا لم يتعلق بها حكم منها مع وجدانه ، ممن شأنه أن تتعلق به ، فهو معنى العفو المتكلم فيه ، أي : لا مؤاخذة به . والثاني : ما جاء من النص على هذه المرتبة على الخصوص ، فقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها ، وحد حدودا فلا تعتدوها ، وعفا عن أشياء رحمة بكم لا عن نسيان فلا تبحثوا عنها . [ ص: 254 ] وقال ابن عباس : " ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض - صلى الله عليه وسلم - كلها في القرآن : ويسألونك عن المحيض [ البقرة : 222 ] . ويسألونك عن اليتامى [ البقرة : 220 ] . يسألونك عن الشهر الحرام [ البقرة : 217 ] . ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم " . يعني : أن هذا كان الغالب عليهم . [ ص: 255 ] وعن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال : " ما لم يذكر في القرآن ; فهو مما عفا الله عنه " ، وكان يسأل عن الشيء لم يحرم ; فيقول : عفو ، وقيل له : ما تقول في أموال أهل الذمة ، فقال : العفو ، [ يعني لا تؤخذ منهم زكاة ] . وقال عبيد بن عمير : " أحل الله حلالا ، وحرم حراما ، فما أحل فهو حلال ، وما حرم فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عفو " . والثالث : ما يدل على هذا المعنى في الجملة ; [ ص: 256 ] كقوله تعالى : عفا الله عنك لم أذنت لهم الآية [ التوبة : 43 ] ; فإنه موضع اجتهاد في الإذن عند عدم النص . وقد ثبت في الشريعة العفو عن الخطأ في الاجتهاد ، حسبما بسطه الأصوليون ، ومنه قوله تعالى : لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم [ الأنفال : 68 ] . وقد كان النبي عليه السلام يكره كثرة السؤال فيما لم ينزل فيه حكم ، بناء على حكم البراءة الأصلية ; إذ هي راجعة إلى هذا المعنى ، ومعناها أن الأفعال معها معفو عنها ، وقد قال : إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم عليهم فحرم عليهم من أجل مسألته . وقال : ذروني ما تركتكم ; فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم ، واختلافهم على أنبيائهم ، ما نهيتكم عنه فانتهوا ، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم . [ ص: 257 ] وقرأ عليه السلام قوله تعالى : ولله على الناس حج البيت الآية [ آل عمران : 97 ] ; فقال رجل : يا رسول الله أكل عام ، فأعرض ، ثم قال يا رسول الله أكل عام ، فأعرض ، ثم قال : يا رسول الله أكل عام ، فقال رسول الله : والذي نفسي بيده لو قلتها لوجبت ، ولو وجبت ما قمتم بها ، ولو لم تقوموا بها لكفرتم ، فذروني ما تركتكم ، ثم ذكر معنى ما تقدم . وفي مثل هذا نزلت يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم الآية [ المائدة : 101 ] . ثم قال : عفا الله عنها [ المائدة : 101 ] . أي : عن تلك الأشياء ; فهي إذا عفو . وقد كره عليه السلام المسائل ، وعابها ، ونهى عن كثرة السؤال ، وقام يوما وهو يعرف في وجهه الغضب ، فذكر الساعة ، وذكر قبلها أمورا عظاما ، ثم قال : من أحب أن يسأل عن شيء فليسأل عنه ، فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا ، قال أنس : فأكثر الناس من البكاء حين سمعوا ذلك ، وأكثر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول : سلوني ، فقام عبد الله بن حذافة السهمي فقال : من أبي ؟ قال : أبوك حذافة ، فلما أكثر أن يقول سلوني ، برك عمر بن الخطاب على ركبتيه ، فقال : يا رسول الله رضينا بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد نبيا ، قال : فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قال عمر ذلك [ ص: 258 ] فنزلت الآية ، وقال أولا : والذي نفسي بيده ; لقد عرضت علي الجنة والنار آنفا في عرض هذا الحائط وأنا أصلي ، فلم أر كاليوم في الخير والشر ، وظاهر من هذا المساق أن قوله : سلوني في معرض الغضب تنكيل بهم في السؤال حتى يروا عاقبة السؤال ، ولأجل ذلك جاء قوله تعالى : إن تبد لكم تسؤكم [ المائدة : 101 ] ، وقد ظهر من هذه الجملة ما يعفى عنه ، وهو ما نهي عن السؤال عنه . فكون الحج لله هو مقتضى الآية كما أن كونه للعام الحاضر تقتضيه أيضا ; فلما سكت عن التكرار كان الذي ينبغي الحمل على أخف محتملاته ، وإن فرض أن الاحتمال الآخر مراد ، فهو مما يعفى عنه ، ومثل هذا قصة أصحاب البقرة لما شددوا بالسؤال ، - وكانوا متمكنين من ذبح أي بقرة شاءوا - ; شدد عليهم حتى ذبحوها ، وما كادوا يفعلون [ البقرة : 71 ] . [ ص: 259 ] فهذا كله واضح في أن من أفعال المكلفين ما لا يحسن السؤال عنه ، وعن حكمه ، ويلزم من ذلك أن يكون معفوا عنه ، فقد ثبت أن مرتبة العفو ثابتة ، وأنها ليست من الأحكام الخمسة . ![]()
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |