|
ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
![]() لطائف من القرآن الكريم [3/3] د. صالح بن أحمد الغزالي الحلقة الخامسة والعشرون: قال الله تعالى: "ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر مَن آمن بالله واليوم الآخر" إلى قوله: "أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون". وقوله سبحانه "ولكن البر مَن آمن" تقديره: ولكن البر بر من آمن، كما قاله سيبويه وغيره، وهو أسلوب بليغ ومثله في القرآن: "أجعلتم سقاية الحاج كمَن آمن" أي: أجعلتم أهل سقاية الحاج كمَن آمن. وفي قوله سبحانه "وآتى المال على حبه" التقرير بأن حب المال أمر فطري، وأن النفس مجبولة عليه، وفيه أن إعطاء الصدقة في حال الشح والفقر أفضل من إعطائها في حال المرض والغنى. وفي قوله سبحانه "ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب" ترتيب لأهل المصارف بحسب حاجتهم، وتقديم بعضهم بحسب أحقيتهم في الصدقة وفي الإنفاق. فهو أولاً قدّم ذوي القربى؛ لكونهم أحق الناس بالمعروف، ولكون الإنفاق عليهم يجمع بين الصلة والصدقة، ثم عقبهم باليتامى، واليتيم: وهو أحق من سائر الفقراء؛ لكون اليتيم مع فقره وحاجته لا كاسب له فهو منقطع عن الأسباب، ثم ذكر المساكين وهم: مَن أسكنتهم الحاجة وفقرهم فقر تام، ثم ابن السبيل، وهو المنقطع عن ماله فهو فقير من وجه لا من كل الوجوه، ثم جاء بعدهم ذكر السائلين، والسائل قد يكون من الفقراء حقاً وقد لا يكون، وأخّر ذكر الرقاب؛ لكونهم لهم أرباب يعولونهم. واختلف العلماء في المراد بقوله: " وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب" هل هي الزكاة المفروضة أم هي غيرها ؟ والصواب أنها غيرها بل هي صدقة والدليل عليه أن الله جل ذكره ذكر الزكاة عقب هذا الموضع قال: "وأقام الصلاة وآتى الزكاة" بعد قوله: "وآتى المال على حبه" ومن حق المعطوف والمعطوف عليه التغاير والتباين. وفي قوله سبحانه "آتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى" تجويز إعطاء القريب واليتيم من المال ومن صدقة التطوع ولو كانا غنيين، قال أهل العلم: يُعطى القريب بحكم القرابة والهدية، ويُعطى اليتيم بحكم التحنن والصلة لليُتم. وفي قوله سبحانه: "وفي الرقاب" نكتة ولطيفة !! جاء بكلمة (في) هنا ولم يُذكر عند غيرهم من أنواع المصارف. قال: "وفي الرقاب" ولم يقل: في ذوي القربى وفي اليتامى. لماذا؟ قيل: الحكمة في ذلك هي أن المال الذي يُصرف لأهل هذه الجهة (الرقاب المملوكة) لا يُقصد به تمليكهم، بل هو لتخليص رقابهم من الرق، لا لتمليكم فهم ليسوا من أهل التمليك. وفي قوله سبحانه: "والصابرين" نكتة عجيبة! ما قبله مرفوع وهو منصوب قال: "الموفون بعهدهم" ثم قال:" الصابرين" غيّر إعرابه إلى النصب، تنبيهاً إلى مزية الصبر.. قال أهل النحو: الصابرين منصوب على الاختصاص، والتقدير: أخص الصابرين بالذكر. لماذا خصهم؟ قيل: لأن الصبر تتجمع فيه جميع الفضائل، وهو منشأ كل فضيلة، فكان له إعراب مختلف كأنه هو شيء مُستقل واحد وجميع الفضائل غيره شيء واحد. وقال: "والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس" قيل: البأساء الفقر، والضراء المرض، وحين البأس القتال، وقد رتبهم سبحانه في الذكر بحسب التدرج، قال الألوسي – رحمه الله -: هذا من باب الترقي في الصبر من الشديد إلى الأشد، لأن الصبر على المرض فوق الصبر على الفقر، والصبر على القتال فوق الصبر على المرض. وفي قوله سبحانه: "كُتب عليكم القصاص" الإشارة على أن فريضة القصاص فريضة لازمة، وحتم واجب لابد منه، وقد دل على ذلك قوله: "كُتب" وقوله: "عليكم". وفي قوله سبحانه: "عليكم" حكم يعم مجموع الأمة، ويدخل فيه أولياء القاتل، ويدخل فيه القاتل نفسه، ففيه دلالة على أنه يجب عليهم تمكين أولياء الدم من القصاص. وفي قوله سبحانه: "القصاص" الإيماء إلى علة الحكم، وأن قتل القاتل إنما شُرع لقصد العدل والمماءلة والمساواة الحقة. وفي قوله سبحانه: "القصاص" إشارة إلى أن قتل القاتل ينبغي أن يكون بمثل الصفة التي قَتَل بها المقتول، قال أهل اللغة: القصاص: هو المماثلة، ومنه القِصة كأنه يُماثل المحكي، واقتص أثره: أي اتبعه، ومنه قوله تعالى: "وقالت لأخته قصيه". وفي قوله سبحانه: "فمَن عُفي له من أخيه شيء" إشارة بديعة إلى أن العفو الصادر من أولياء الدم يُسقط القَوَد ولو من أحدهم، قال الله: "فمَن عُفي له من أخيه شيء" ولم يقل سبحانه: فمَن عفا له أخوه. قال الراغب: العدول إلى ذلك للطيفة وهي: أنه لا فرق بين أن يكون صاحب الدم قد عفا أو جماعة فعفا أحدهم، حيث القصاص يبطل ويعدل حينئذ إلى الدية، فقال: "فمن عُفي له من أخيه شيء" ليدل على هذا المعنى. وفي قوله سبحانه: "شيء" التأكيد على أن العفو يقع ولو من أحدهم، وفيه أن العفو يقع ببعض الدية كما يقع في الكل، قال الشوكاني – رحمه الله – تنكير شيء للتقليل فيتناول العفو عن الشيء اليسير عن الدية، ويتناول العفو الصادر عن فرد من أفراد الورثة. وفي قوله سبحانه: "أخيه" ترقيق للنفس وتعطف داع لهم إلى العفو. وفي قوله سبحانه: "أخيه" إثبات قاعدة جليلة عند أهل السنة وهي: أن المعاصي لا تُخرج صاحبها من الإيمان مهما بلغت ولو كانت قتلاً عمداً. وقال تعالى: "ولكم في القصاص حياة" قال العلماء والبلغاء: هذه العبارة حوت الغاية من الفصاحة والبلاغة، ووجوه الإعجاز مما لا يمكن أن نستقصيه. وفي قوله سبحانه: "لكم" الإشارة إلى العناية الربانية بهذه الأمة على الخصوص لماذا؟ لأن الله عز وجل صرّح أن هذا التشريع يحصل به حياتهم وهي مرادة له سبحانه. وقال تعالى: "ولكم في القصاص" ولم يقل: (في القتل)؟ قيل: لتعميم الحكم في القتل وفي غيره مما يحصل به القصاص، فيدخل فيه الجروح والضرب ونحوه. وقال تعالى: "فاتباع بالمعروف" ولم يقل: اتباعاً بالمعروف ؟ قيل: إن الرفع هنا دال على وجوب الحكم؛ لأن المعنى: عليه اتباع قال النحاس: "فمن عُفي له من أخيه شيء" شرط. والجواب: " فاتباع". وقال تعالى: "أداء إليه بإحسان" ولم يقل: أداء بإحسان؟ قيل: فائدة (إليه) إشارة إلى أنه لا يُمطله، وأنه يوصل الحق إليه ولا يكلفه الحضور بالمطالبة أو إرسال مَن يستقصيه. وفي قوله سبحانه: "إن ترك خيراً الوصية" الإيماء إلى أن المال الذي ينبغي أن تقع به الوصية هو المال الحلال المأذون فيه، لا مالاً خبيثاً لا خير فيه. وفي قوله سبحانه: "فإنما إثمه على الذين يُبدلونه" إبطال لما قد يتعلق به الموصي ويعدل من ترك الوصية بعلة خوف أن يُبدله غيره. ويتفرع من هذا: أن المكلف إذا أدى ما عليه فقد برئت ذمته ولو خان غيره، واستُدل بها على أن مَن كان عليه دين فأوصى بقضائه برئت ذمته وسلمت تبعته في الآخرة وإن لم يوصله الورثة، ما لم يكن مفرطاً في الحياة. ومن فوائد الآية: تجويز مقدار الوصية الصحيح دون مقدار الوصية غير الصحيحة، كمَن أوصى بأكثر من الثلث، فيجوز منها الثلث ويبطل ما زاد. قالوا: لأن الله تعالى لم يبطل الوصية جملة بالجور فيها بل جعل فيها ما يصح. الحلقة السادسة والعشرون: قال الله تعالى:"يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون". في قوله: "كما كُتِب على الذين من قبلكم" تطييب لأنفس المخاطبين وتهويناً لمشقة الصوم، فهو يقول لهم: كما كُتب عليكم الصوم فقد كُتب على الأمم قبلكم. والأمر الشاق إذا عمّ على الجميع سهل وخف. وفي قوله تعالى: "لعلكم تتقون" الإشارة إلى أن الصوم يُضعف داعي العصيان، ويحصل به كسر باب الشهوة. وفي قوله سبحانه: "أياماً معدودات" تهوين – أيضاً – وتسهيل لِمشقة الصيام، فهو يقول لهم: هي أيام قليلة معدودة سهلة، والعرب تقول: الكثير لا يُعد وإنما يُعد القليل. ويتفرع عنه: أن الداعي إلى الإسلام يُرغب الناس في تكاليفه ويُسهل عليهم الالتزام بشرائعه الظاهرة والباطنة، ويقول لهم نحو ما قاله الله في هذه الآية. وقوله تعالى: "وعلى الذين يُطيقونه" أي لا يُطيقون الصوم إلاّ بجهد جهيد، وبمشقة عظيمة، كيف هذا؟ الطاقة هي اسم لمقدار ما يُمكن أن يفعله الإنسان مع المشقة. وفي قوله تعالى: "شهر رمضان نص على أن الواجب هو استيفاء جميع الشهر بالصوم، لو قال: (رمضان) لدل على جميعه، ولكن دلالة الظاهر التي هي أقل من دلالة النص. وفي قوله تعالى: "شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن" إشعار بخصوصية قراءة القرآن في شهر رمضان قال الحرالي: أشعرت الآية أن في الصوم حُسن تلقٍّ لمعناه ويُسراً لتلاوته. و في قوله تعالى: "أُنزل فيه القرآن" إشارة إلى علو الله تعالى على خلقة، وأن الله جل جلاله فوق عباده. وفي قوله تعالى: "ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر" الإشارة إلى أفضلية الفطر للمسافر والمريض دون الصوم. كيف هذا؟ ذكرت الآية أن حق المسافر القضاء دون الصيام، والقضاء يلزم منه الفطر، وما ذكره الله فهو أولى بالتقديم والتأخير. وفي قوله تعالى: "أو على سفر" دليل على إباحة الفطر لكل مسافر وفي كل سفر قصيراً أو طويلاً، سفر طاعة أو معصية، وبالوسائل الحديثة وبغيرها. وفي قوله تعالى: "أو على سفر" الإشارة إلى أن استباحة السفر لا تحل إلاّ إذا شرع في السفر. وهو لم يقل: (مسافر). ولكن قال: "على سفر" والعرب لا تقول: على سفر إلاّ لمَن شرع فيه، وربما قالوا: (مسافر) لمَن استقبل السفر وينويه. وقوله تعالى: "على" تأكيد لهذا المعنى وتقوية له، لأن لفظ (على) دال على الاستعلاء والتمكن، ولا يصح هذا في حق مَن نوى السفر فقط. وفي قوله تعالى: "أو على سفر" الإيماء إلى أن السفر لابد فيه من وجود النية والقصد بخلاف المرض فهو يحصل بنية وبغير نية. وفي قوله: "فعدة من أيام أخر" وجوب القضاء بعدد أيام الفطر من غير تعيين الزمان، فهو يقضي عدد ما أفطر في أي زمان شاء، شاءوا صيفاً، أياماً قصيرة أو طويلة، حارة أو باردة، متتابعة أو متفرقة. قال العلماء: لفظ عدة مسترسل لا يختص بزمان دون زمان، ومَن خصصه فلا دليل له، إلاّ أن يكون القضاء في نفس العام. وفي قوله تعالى: "فعدة من أيام أخر" الإشارة إلى وجوب القضاء بعدد الأيام التي أفطرها دون نقص. وأن مَن أفطر شهراً كاملاً فهو يقضيه كاملاً، وإن كان الشهر ناقصاً قضاه تسعةً وعشرين. وفي قوله سبحانه: "يُريد الله بكم اليسر" عقب قوله: "ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر" الإشارة إلى ترجيح الفطر على الصيام لمَن كان في حال المرض أو حال السفر، وأنه هو اليسر، وأنه هو مراد الله تعالى، إذ لا مذكور غيره. وفي قوله سبحانه: "ولِتكبروا الله على ما هداكم" إشارة إلى آكدية التكبير ليلة عيد الفطر. ووجهه: أن الله تعالى ذكر التكبير بلفظ: (ولتكبروا) رتبه على الشيء الذي أراده الله سبحانه، وما أراده الله تعالى من خلقه فلا يحسن التخلي عنه. وفي قوله سبحانه: "ولتُكملوا العدة ولتُكبروا الله على ما هداكم" دليل على أن وقت ابتداء التكبير من حين انقضاء غروب آخر يوم من رمضان، فهو الذي يحصل به إكمال العدة وإتمام الشهر. وقال الله تعالى: "وإذا سألك عبادي عني" ولم يقل: وإن سألك عبادي عني. قال أهل اللغة: (إذا) تدل على الكثرة، و (إن) تدل على القلة، ففيه إشارة إلى استحباب كثرة السؤال لله الواحد القهار. وقال الله تعالى: "عبادي" ولم يقل: عبيدي. لماذا ؟ قيل: إن لفظ (العباد) أخص من لفظ (العبيد). العبيد هم: المقهورون بربوبية الله، وهم جميع المخاليق، والعباد هم: أهل الطاعة وأهل الكرامة فقط. وقال الله تعالى: "فإني قريب" ولم يقل سبحانه: (فقل إني قريب) لماذا؟ قيل: للإشعار بفرط قُرب الله منهم، ولإسقاط الوسائط بين الخالق والمخلوق في شأن الدعاء. وفي قوله سبحانه:"فإني قريب" الإشارة إلى أدب المُناجاة والمُسارَّة في الدعاء، دعاء القريب يكون مُناجاة، ودعاء البعيد يكون مُناداة. وفي قوله سبحانه: "فإني قريب" إبطال لمناهج المُبتدعة في دعاء غير الله، وأن التوسط والتوسل بالغير إلى الله سبحانه لا فائدة منه، وعبث لا معنى له. وقال الله تعالى: "فإني قريب" ولم يقل سبحانه: فالعبد مني قريب. لماذا؟ فيه الإشارة إلى أن القرب هو محض تفضل من الله، ومحض تكرم منه سبحانه لا منهم. وفي قوله سبحانه: "أُجيب دعوة الداع إذا دعان" الإشارة إلى وجوب إخلاص الدعاء لله وحده دون سواه، وأن مَن دعا غير الله فهو حريٌ بعدم الإجابة. وفي قوله سبحانه: "إذا دعان" إثبات النفع في الدعاء، وأنه من أعظم أسباب تحصيل الرزق وتغيير الحال. وفي قوله سبحانه: "إذا دعان" إبطال لمنهج المتفلسف الذي يَدَعَ الدعاء ويقول: حالي يُغني عن سؤالي، وهذا لا يصح عن الخليل عليه السلام، ولا عن أتباعه بإحسان رضي الله عنهم. وقال سبحانه: "فليستجيبوا لي" ولم يقل: فليُجيبوا لي. لماذا؟ قال الراغب: أوثر (فليستجيبوا) على (فليجيبوا) للطيفة، وهي أن حقيقة الاستجابة طلب الإجابة وإن كان قد يُستعمل في معنى الإجابة، فتبين أن العباد متى تحروا إجابته بقدر وسعهم فإنه يرضى عنهم. ومن فوائد الآية: إثبات آكدية الدعاء في حق الصائم، قال ابن كثير – رحمه الله -: لأن الله تعالى قد تخلل آيات الصيام بآية الدعاء. وقال غيره: وتدل على مشروعية الدعاء عند إتمام كل يوم من رمضان؛ لأن كل يوم صوم مُنفرد. وفي قوله سبحانه: "الرفث إلى نسائكم" الإشارة إلى أن المحرم على الصائم إنما هو الإفضاء إلى المرأة بالجماع لا ما دونه. كيف؟ لفظ الرفث يدل على الجماع وعلى دواعيه، ولم يقل: الرفث بنسائكم وهو الشائع في الاستعمال، وإنما عداه بـ (إلى) ليتضمن معنى الإفضاء. وفي قوله سبحانه: "هن لباس لكم وأنتم لباس لهن" الدليل الصريح على جواز معاشرة الرجل زوجه على كل وجه تحصل به المُلابسة.. إلاّ ما خصه الدليل. وفي قوله سبحانه: "هن لباس لكم" التقعيد لأهل الإيمان أن يتأدبوا في التلفظ فيما لا يحسن ذكره. وفي قوله سبحانه: "تختانون أنفسكم" الإشارة إلى أن المعاصي يعود ضررها على صاحبها لا على غيره، نسب الله الخيانة هنا إلى نفس العاصي لا إلى غيره. وفي قوله سبحانه: "وابتغوا ما كتب الله لكم" تحريض على مُباشرة النساء بقصد طلب الولد وحصول الإعفاف. وفيه الإشارة إلى قاعدة دينية نافعة وهي: ابتغاء المصالح الدينية من وراء مزاولة الأعمال الدنيوية واللذائذ الوقتية. وفي قوله سبحانه: "وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر" دليل على استحباب السحور، ودليل على استحباب تأخيره إلى ذلك الوقت. وفي قوله سبحانه: "من الفجر" دليل على أن مَن طلع عليه الفجر وهو جُنب لم يُبطل صومه بل يغتسل ويُصلي. وفي قوله سبحانه: "ثم أتموا الصيام إلى الليل" الإشارة إلى أن مُنتهى الصوم في الشريعة هو الليل. وفرعوا عليه: أن الصائم يُفطر بمجرد غروب الشمس أكل أو لم يأكل، قال ابن العربي – رحمه الله -: وقد سُئل الإمام أبو إسحاق الشيرازي عن رجل حلف بالطلاق ثلاثاً أنه لا يفطر على حار ولا بارد. فأجاب: أنه بغروب الشمس يفطر ولا شيء عليه. وفي قوله سبحانه: "إلى الليل" النهي عن مواصلة الصوم في الليل. كيف؟ جعلت الآية نهاية الصوم هو الليل. وفي قوله سبحانه: "وأنتم عاكفون في المساجد" أدل دليل على مشروعية الاعتكاف في كل مسجد، وأنه لا يختص بمسجد دون مسجد وليس في السنة الصحيحة تخصيص. الحلقة السابعة والعشرون: قال تعالى: "ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون". في قول سبحانه: "ولا تأكلوا أموالكم" الإشارة إلى الأخوة الإيمانية، وإلى أن عصمة مال الغير كعصمة مال النفس، فهو يتضمن أن آكل مال غيره كآكل مال نفسه بالباطل. وعبر عن الائتلاف بالأكل. لماذا؟ لأنه هو أهم الحوائج، ولأن به يحصل إتلاف المال غالباً. وقوله سبحانه "بالباطل" أُستدل به على تحريم كل معاملة ليست بحق. قال القرطبي: هذه الآية متمسك كل مؤالف ومخالف في كل حكم يدّعونه لأنفسهم بأنه لا يجوز فجوابه أن يُقال: لا نسلم بأنه باطل حتى تثبته بالدليل. انتهى. كيف يُثبت كونه باطلاً بالدليل؟ الباطل في المعاملات على أوجه ثلاثة: الأول: ما يعلم جميع المستمعين أنه باطل كالغصب والسرقة. الثاني: ما حكم الشرع بأنه باطل، ويخفى كونه باطلا عند أكثر المستمعين، مثل كثير من أنواع الربا. الثالث: ما استنبطه العلماء وألحقوه بالباطل في الشرع، فهذا لا يستدل عليه بمجرد ذكر الباطل من الآية، بل لابد من الدليل على كونه باطلاً بعينه. وفي قوله سبحانه: "وتُدلوا بها إلى الحكام" أُستُنبط منه أن حكم الحاكم لا يُحلل حراماً وأن مَن حكم له القاضي بشيء مستدلا في حكمه على باطل كنحو شهادة زور أو يمين فجور فلا يُحلل له ذلك، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إنكم تختصمون إليّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على ما أسمع فمَن قُضي له من أخيه بشيء فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار". وفي قوله سبحانه: "يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج" الإشارة إلى أن الإحرام بالحج لا يُشرع في غير أوقاته، لو كن مشروعاً في كل وقت لما احتيج إلى معرفة الأهلة في توقيته، إنما احتيج لكونه خاصاً بأشهر معلومة متميزة لا في كل وقت لا يقع في غيرها. ومن اللطائف: أن يُعكس الاستدلال فيُقال: دلت الآية على جواز الإحرام بالحج في كل وقت، و(هي) ضمير يعود على جميع الأهلة وجميع الشهور وهذا قال به طائفة، والأول هو الأقوى. لماذا؟ لأنه هو ظاهر الآية المتبادر إلى الفهم، وأن التفسير الثاني يضعف معنى الآية الكريمة ويُبطل فائدة التخصيص فيها. يتبع
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() لطائف من القرآن الكريم [3/3] د. صالح بن أحمد الغزالي وقال الله تعالى: "مواقيت للناس والحج" ولم يقل مواقيت للصوم أو غيرها من العبادة التي يُشترط فيها التوقيت. لماذا خصص الحج بالذكر؟ قيل: أفرد سبحانه الحج بالذكر لأن أهل الجاهلية من العرب كانوا يؤخرونه عن وقته وكانوا ينسئونه فأبطل الله النسيئة كما في سورة التوبة. وهنا أشار الله إلى أن ذلك لا يجوز تأخير الحج عن وقته، لا يجوز نقل الحج من تلك الأشهر إلى أشهر غيرها، والحج مقصور على الأشهر التي عينها الله. قال الله تعالى: "وليس البرُّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البرَّ مَن اتقى وأتوا البيوت من أبوابها" قال الله: " وليس البرُّ" بالرفع، وقال قبل ذلك في نفس السورة: "ليس البرَّ أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب.." رفع في هذا الموضع ونصب في الموضع الأول. لماذا؟ قال أهل اللغة: يكون الاسم معروفاً لك فتلحق به الوصف، ومرة تجهل الاسم وتعرف الوصف فتلحق الاسم بالوصف وهذا سر اختلاف الرفع والنصب في كلمة البر و قال العلماء: في هذه الآية النفي لجنس البر عن هذا العمل ولهذا قال: "وأتوا البيوت من أبوابها" يعني: هذا الفعل ليس من البر بكل حال ليس فيه أي بر، وهناك نفي البر الأعظم، يعني: ليس البر الأعظم هو تولية الوجه للقبلة لم ينفعه، ولهذا لم يقل: وتولَّوا إلى أي جهة. ومن فوائد الآية: إنكار كل بدعة لم يشرعها الله، وإبطال كل محدثة في الدين، وأن كل ما لم يُشرعه الله لا يُعد قربة بأن يتقرب به متقرب. ومن فروعه: أن فعل المباح لا يجوز أن يتخذ قربة إلى الله بذاته، مثلاً: نحن لا نلبس زياً معيناً لم يخصصه الشرع ثم نزعم أنه قربة، ولا نتغنى بالشعر ثم نزعم أن التغني قربة. وفي قوله سبحانه: "وأتوا البيوت من أبوابها" الإشارة إلى تحسين اليسر في كل شيء، فيه تنبيه إلى أن الواجب على العاقل هو أن يأتي الأمر من الطريق السهل القريب الذي جُعل له موصلاً. ويتفرع عن هذا: الإرشاد إلى الحسن في جميع أحوال الناس وفي جميع أفعالهم من أمور الدين وشؤون الدنيا مثل: طرق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وطريق العلم، وطريق الأكل والشرب والجماع وغيرها من الوظائف وغيرها. استدل بالآية إلى وجوب إتيان الأشياء من أبوابها وطرقها الصحيحة. وفي قوله سبحانه: "واقتلوهم حيث ثقفتموهم" استدل به على قتال كل مشرك وأنه كافر يستحق القتل بسبب الكفر، غير مَن استثنى الله وهم أهل الجزية. لماذا؟ لأنه سبحانه أطلق فقال: "واقتلوهم" ولم يُعلق قتالهم بالاعتداء منهم، علق القتال بنفي الشرك بقوله: "حتى لا تكون فتنة" أي شركاً وأكده عموم القتال بقوله: "ويكون الدين كله لله" وأكده مرة أخرى بقوله:"فإن انتهوا" أي عن الشرك "فلا عدوان إلاّ على الظالمين" يعني أن كل مشرك هو مستحق للقتال بسبب شركه – غير الكتابيين – وبه قال طائفة من العلماء الفضلاء. وفي قوله سبحانه: "والحرمات قِصاص" أصل وقاعدة في جواز المقاصة بالمثل. وفي قوله سبحانه: "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم" تبيين صفة المقاصة، فهو أولاً أجمل ثم فصل. وفي قوله سبحانه: "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" الإشارة إلى أن ترك الجهاد وترك الإنفاق هو التهلكة بعينها، كيف فُهم هذا؟ سياق الآيات يدل عليه: قال: "وقاتلوا في سبيل الله" وقال "أنفقوا في سبيل الله" ثم قال عقبه: "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة". وفي قوله سبحانه: "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" النهي عن كل سبب يؤدي إلى التهلكة. وفي قوله سبحانه: "بأيديكم" لطيفة ونكتة، قال الألوسي: فائدة ذكر الأيدي: التصريح بالنهي عن الإلقاء إليها بالقصد والاختيار. وفي قوله سبحانه: "وأتموا الحج والعمرة" أُستدل به على وجوب الحج والعمرة وفرضيتهما، واستدل به على وجوب إتمام الحج لمن شرع فيه، ولو كان نفلاً في أصله. وجه الأول: أن المراد من قوله: " أتموا" الإتيان بهما على وجه الكمال والتمام. ووجه الثاني يكون المعنى: أنكم إن شرعتم فيهما فلابد لكم أن تتموهما. وعلى الوجه الأول يكون حكم العمرة كحكم الحج واجبة لا مجرد نافلة. وفي قوله سبحانه: "لله" الإشارة إلى وجوب الإخلاص وزيادة تحقيقه لوجه الله تعالى، ولم يقل سبحانه في الصلاة والزكاة: (لله) وإنما خص الحج. لماذا؟ قيل: لأنهم في الجاهلية كانوا يتقربون إلى أصنامهم ببعض أفعال الحج فخصها بالذكر. وقيل: لأن الحج عبادة ظاهرة ظهوراً عظيماً فهي أولى بمراعاة الإخلاص ومدافعة الرياء. وفي قوله سبحانه: "تلك عشرة كاملة" فوائد، فصل العلماء في ذكر بعضها: منها: نفي التوهم في أن يكون المقصود هو التخيير إما ثلاثاً وإما عشرة. لماذا ؟ لأن لفظ (الواو) قد يأتي للتخيير. ومنها: الإشارة إلى أن صوم الصائم الذي لم يجد النسك فعله وحجه كامل كما هو شأن الناسك الذي لم يذبح. ومنها: أن هذا الخطاب مع العرب ولم يكونوا أهل حساب، فبين الله ذلك بياناً شافياً قاطعاً للشك والريب، كما ورد مثله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الشهر: (هكذا وهكذا) وأشار بيديه ثلاثاً وأشار مرة أخرى وأمسك إبهامه في الثالثة. ومنها: إزالة اللبس في أن المراد بـ (السبعة) هو العدد لا الكثرة. وفي قوله سبحانه: "كاملة" إشارة إلى تأكيد قضية الصوم ولحصول الأجر فيه كما يحصل في الهدي. كيف هذا؟ إن المعتاد أن يكون البدل أضعف من المبدل منه، فينفي الله هذا الاحتراز بقوله: "كاملة"، فهي كاملة في البدل عن الهدي، وهي كاملة في الثواب عند الله، وهي كاملة في صفة الحج ومناسكه. الحلقة الثامنة والعشرون: قال تعالى: "فمَن فرض فيهن الحج" نَسَبَ الفرض إلى العبد المكلَّف، والفرض لا يكون إلاّ من الله. لماذا؟ قيل: السر في ذلك أن الحج عبادة تعرض بالشروع فيها ولو كانت في الأصل مندوبة، تقدير الآية: فمَن ألزم نفسه فيهن بالحج. كيف يلزم نفسه؟ يلزم نفسه بالشروع في الحج، يكون بالنية قصداً باطناً، وبالإحرام فعلاَ ظاهراً، وبالتلبية نطقاً مسموعاً، ويكون بإشعار الهدي وتقليده. وفي قوله سبحانه: "فمَن فرض فيهن الحج" الإشارة إلى أن الحج لا يكون في غير أشهره، وأنه لا يجوز الإحرام بالحج إلاّ في تلك الأشهر كما قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره. قيل: لو جاز أن يكون في غير تلك الأشهر لما كان لذكر (فيهن) فائدة. وقال سبحانه: "وما تفعلوا من خير" ولم يقل: وما تفعلوا من شيء. قيل الفائدة في ذلك أن السياق يقتضيه، المحرم بالنسك يقتضي أن يُرغب في الخير ويُحض عليه، يقول للحاج: كل ما تتحمله من أنواع المشقة في سبيل الخير وكل ما تفعله من خير فإنني به عليم، أنا مطلع عليه أجزيك عليه. وفي قوله سبحانه: "من خير" الترغيب في فعل كل خير، والإشارة إلى أنه يجب على الحاج في ذلك الوقت أن يستغل كل فرصة لفعل الخير، وأن يستغل فضل الزمان والمكان. قال العلماء: (من) للتخصيص على العموم. وفي قوله سبحانه: "وما تفعلوا من خير" بعد قوله: "فلا رفث ولا فسوق ولا جدال" الإشارة إلى أنه لا يكفي المكلف الترك والاجتناب للمنهيات، لكن عليه أن يقرن ترك الشر بفعل الخير والمواظبة على الطاعة. وفيه إشارة إلى أن ترك الحرام لا يستحق عليه الأجر إلاّ من جهة أنه حرام وأن الله أمر بتركه. وإلاّ لم يُسمَ خيراً. وفي قوله سبحانه: "وتزودوا فإن خير الزاد التقوى" الإشارة إلى مشروعية الجمع بين عمل الدنيا النافع وبين عمل الآخرة الخالص. التزود من القوت والتزود من الطاعة، وأن هذا من ذاك ولا يُعارضه. وفي قوله سبحانه: "فإن خير الزاد التقوى" الإشارة إلى أن الدنيا ليست بدار قرار وأنها دار سفر. وفي قوله سبحانه: "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم" إباحة الاتجار في الحج، وأنه فعل لا يُنقص الثواب والأجر، ولا يُخرج المكلف من اسم الإخلاص ولب العبادة. وقال الله تعالى: "فضلاً من ربكم" ولم يقل: رزقاً أو زاداً! قيل: لأن ذكر الزاد، والمشار هنا أكثر منه. المعنى: أن الحاج يتزود للحج قبل مجيئه فإذا حضر لا بأس أن يبتغي فضلاً وزيادة من الرزق. قال: "من ربكم" زيادة في التحليل والإشعار بنعمة الخالق على المخلوق. وفي قوله سبحانه: "المشعر الحرام" الإشارة إلى أن عرفات ليست من الحرم، والتنصيص على أن مزدلفة منه. قال عنها (مشعر) لأنها علامة على مناسك الحج من المبيت والدعاء والذكر والصلاة. وفي قوله سبحانه: "ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس" بعد قوله: "فإذا أفضتم من عرفات" الإشارة إلى وجوب المبيت في مزدلفة. لماذا؟ قال: "فإذا أفضتم من عرفات" ثم قال: "ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس" (ثم) تدل على التراخي وعلى التأخر، ومقتضى التراخي هنا بين الإفاضتين هو المبيت في منى ليلة العاشر. وقيل: لفظ (ثم) ليس للتراخي، وليس هنا إفاضتان، هي إفاضة واحدة تُسمى الحُمس كانوا يفيضون من مزدلفة الحرام ترفعاً وتكبراً أن يفيضوا مع الناس، فأكد الله عليهم مكان الإفاضة بقوله: " ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس" أي: أفيضوا من عرفات حيث أفاض الناس. ما وظيفة (ثم) على هذا القول؟ (ثم) هنا ليست للتراخي، مستعارة لإظهار التفاوت بين الإفاضتين في الرتبة، فلإشعار أن أحدهما صواب والأخرى خطأ. وفي قوله سبحانه عقبه: "واستغفروا الله" تعقيد لسنة شريفة وهي ختم العبادات بالتوبة والاستغفار، وأكدها بقوله: " فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله". وفيه إشارة إلى إثبات قصور العبد في أداء حق الرب سبحانه. وفي قوله سبحانه: "ومن الناس مَن يقول" عقب قوله: "فاذكروا الله" الإشارة إلى أدب عظيم من آداب الدعاء، وهو تقديم الذكر والثناء على الله وتمجيده. وفي قرن الذكر بالدعاء فائدة عزيزة ونكتة، قال الألوسي – رحمه الله – قرن سبحانه الذكر بالدعاء للإشارة إلى أن المعتبر من الذكر ما يكون عن قلب حاضر وتوجه باطن كما هو حال الداعي حين طلب حاجة، لا مجرد التفوه والنطق به. وفي قوله سبحانه: "كذكركم آباءكم أو أشد ذكراً" التعريض بما كان عليه أهل الجاهلية من التفاخر بالأنساب، وإبطال التفاخر بالآباء. ومن الفوائد في الآية: إثبات أن الدعاء ذكر، وأن الذكر دعاء؛ لأن الله سبحانه ربط بينهما فقال: "ومن الناس مَن يقول" بعد قوله: "فاذكروا الله كذكركم آباءكم". ومن الفوائد: إثبات أن الدعاء يكون بخيري الدنيا والآخرة، وأن الاقتصار على طلب الآخرة لوحدها مع الإعراض عن خير الدنيا ليس هو المطلوب. ومن الفوائد: الرد على مَن يزعم أن عبادة الله منزهة عن الأغراض، لا لأجل ثواب ولا لخوف عقاب، وإنما هي لذات الله سبحانه. الحلقة التاسعة والعشرون: قال الله سبحانه: " من الناس مَن يُعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه" وفي قراءةٍ: "يشهد اللهُ على ما في قلبه" قوله سبحانه:"والله يشهد أن المنافقين لكاذبون" قال العلماء هذه الآية الكريمة في وصف حال المنافق، وهو من أدق وصف لحال أهل النفاق. ما المناسبة بينها وبين ما قبلها؟ لما ذكر أهل الإيمان بقوله سبحانه: "ومن الناس مَن يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة" ثم ذكر أهل النفاق بقوله: "ومن الناس مَن يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وما له في الدنيا من خلاق" بقي صنف ثالث: وهم أهل النفاق ذكرهم هنا عقب الآيتين السابقتين. وفي قوله سبحانه: " يُعجبك قوله في الحياة الدنيا" الإيماء إلى الذي لا يُحسا إلاّ الحديث عن الدنيا هو مظنة للتهمة، وأن الأمر الحسن حقيقة هو ما كان في الآخرة والأمر الباقي، في الحديث الشريف ما هو أبلغ من الذم، قال صلى الله عليه وسلم: (ما اجتمع قوم في مجلس لا يذكرون الله فيه إلا كان عليهم حسرة يوم القيامة). وفي قوله سبحانه: "وهو ألد الخصام" التنفير ممَن كان هذا وصفه، وفيه الإشارة إلى ذم الخصومة الشديدة. واستدل به على ذم علم الجدل. ثم قال الله تعالى: "وإذا تولى سعى في الأرض ليُفسد فيها" يعني إذا انصرف من عندك كان عمله عمل الفساد لا كقوله الذي يُعجبك. وقيل: "وإذا تولى" إي إذا غلب وصار والياً عمل ما يفعله ولاة السوء من الفساد في الأرض بإهلاك الحرث والنسل. وهذا التفسير سائغ في اللغة، ولكن التفسير الأول هو الأولى هنا؛ لأنه هو المناسب للسياق قبله. قال: "ومن الناس مَن يُعجبك قوله" ثم قال: "وإذا تولى". وفي قوله سبحانه: "ليُهلك الحرث والنسل" الإشارة إلى زراعة الأرض وغرس الأشجار، وأن جلب النسل - وهو نماء الحيوان - أمر مطلوب. وفي قوله سبحانه: "ليُهلك الحرث والنسل" التوعد لكل عمل يحصل به فساد الأرض من غير حق وبلا مصلحة، قال بعض العلماء في الآية: أن مَن يقتل حماراً أو كدساً من الزرع فقد استوجب الملامة، ولحقه الشين إلى يوم القيامة. وقوله سبحانه "ليهلك الحرث والنسل" من الألفاظ الفصيحة جداً الدالة مع اختصارها على المبالغة الكثيرة. ومن فوائد الآية: تفطين أهل الإيمان لئلا يغترّوا بالمظاهر دون الحقائق، وأن يعتبروا بما وراء الكلام الحسن. ومن الفوائد: إثبات مشروعية تحرّية الشهود، وهذا مذهب المالكية. قال القرطبي – رحمه الله -: وفي هذه الآية دليل وتنبيه على الاحتياط فيما يتعلق بأمور الدين والدنيا، واستبراء أحوال الشهود والقضاة.. لأن الله بيّن أحوال الناس، وأن منهم مَن يظهر قولاً جميلاً وهو ينوي قبيحاً. ومن الفوائد في الآية: أن الاعتبار في التزكية هو الأفعال لا مجرد الأقوال، وأن الأقوال التي تصدر من الشخص لا تدل بمفردها على صلاحه أو فساده. واستدل المالكية بها أن القاضي يُخيِّر الشهود، وأنه لا يغتر بتمويههم وتزكية أنفسهم لأنفسهم. وفي قوله سبحانه: "والله لا يُحب الفساد" النهي عن كل فساد قلَّ أو كثر في الدين أو في الدنيا. ما هو الفساد؟ الفساد هو: إخراج الشيء عن حالة محمودة لا لغرض صحيح، فكل ما حصل فساد فهو منهي عنه. قال عطاء – رحمه الله -: أن رجلاً أحرم في جبة فأمره النبيصلى الله عليه وسلم أن ينزعها. قال قتادة لعطاء: إنا كنا نسمع أن نشقها فقال عطاء: إن الله لا يُحب الفساد. وقال الله تعالى: "وإذا قيل له: اتق الله" أي إذا نُصح هذا المنافق "أخذته العزة بالإثم". يتبع
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() وفي قوله سبحانه: "وإذا قيل له: اتق الله" إشارة إلى أن المذكور الموصوف يُخالف فعله قوله، فقوله حسن يُعجب، وفعله قبيح غير معجب. قال تعالى: "وإذا قيل له: اتق الله" لماذا؟ لأن فعله يدعونا إلى الإنكار عليه يدعونا إلى أن نقول له: اتق الله. سبحانه: " أخذته" تفسير عجيب: كأن العزة الباطلة قد أحاطت به، بل هي جذبته إليها جذباً شديداً وصار كالمأخوذ بها. وقال تعالى: "بالإثم" لماذا ؟ لأن العزة قد تكون بحق بغير إثم، كما في قوله سبحانه: "ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين". ومن فوائد الآية: الذم البليغ لمَن يُعرض عن الموعظة. ومن الفوائد: الوعيد الشديد لمَن يستنكف من قول: اتق الله، قيل لبعض السلف: اتقِ الله. فوضع خده على الأرض. فقال ابن مسعود رضي الله عنه: إن من أكبر الذنب أن يقول الرجل لأخيه: اتقِ الله. فيقول له: عليك نفسك. وقد فرّع الفقهاء على هذا المعنى مسائل. قالوا: إذا قال الخصم للقاضي: اعدل. فله أن يُعزره، وإن قال له: اتق الله. فلا يفعل به شيئاً. ثم قال الله سبحانه: "ومن الناس مَن يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله" هذا صنف والأول صنف، هذا مؤمن وذلك منافق، بين الله صفة الرجلين فكان مناسباً تمام المناسبة. قرأ رجل عند ابن عباس رضي الله عنهما الآيات:"وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة …" ثم قوله:"ومن الناس مَن يشري نفسه ابتغاء …" فقال ابن عباس: اقتتل الرجلان، أرى هذا أخذته العزة بالإثم بقوله: اتقِ الله. فيقول هذا: وأنا أشتري نفسي ابتغاء مرضاة الله. فيُقاتله. وفي قوله سبحانه: "ادخلوا في السلم كافة" التنصيص على أن الواجب هو العمل بجميع الدين، والدخول في جميع شرائعه وأحكامه. وفي قوله سبحانه: "كافة" الرد على جميع أهل البدع والأهواء. كيف هذا؟ ما من صاحب بدعة إلاّ وهو تارك لبعض الدين وهو منكر لبعض الشرع جهلاً أو تأويلاً أو تكذيباً. وفي قوله سبحانه: "كافة" أدل دليل على إبطال مذهب اللادينيين، إبطال الفريا العظيمة التي جعلت الدين أجزاء، وعملت ببعض الشرائع وكفرت بالبعض. عملت بالعقيدة والعبادة كما يفهمون، وكفرت بالاقتصاد والسياسة. وفي قوله سبحانه: "ولا تتبعوا خطوات الشيطان" بعد قوله: "ادخلوا في السلم كافة" يعني أن مَن لم يدخل في الإسلام، فهو ولابد يتبع خطوات الشيطان. لما أمرهم أن يدخلوا في السلم حذرهم من اتباع الشيطان، كأنه يقول: إما الإسلام وإما طريق الشيطان، وليس ثمة خيار بين الطريقين " ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان". وقال تعالى: "خطوات الشيطان" ولم يقل الشيطان. لماذا ؟ ما فائدة ذكر الخطوات والتنصيص عليها؟ ليُبيّن لنا سبحانه وهو الرؤوف الرحيم كيف يضلنا إبليس وجنده. إن للشيطان خططاً ومخططات فتزيينه ووسوسته كالخطوات واحدة تتلو الأخرى. وهي خطوات كذلك تندرج في الشر. وهي خطوات كذلك كل خطوة تتبع الأخرى.. كل معصية وإثم يورّث معصية وإثماً. وهي خطوات كذلك. ثم قال تعالى: " فإن زللتم". جاء التعبير هنا يناسب لفظ (خطوات) تمام المناسبة. الزلل: أصله الزلق. الذي يتبع خطوات الشيطان، الذي يتبع وسوسته يتضرر به ليحصل به الزلق. يشبه الذي يمشي على أثر غيره. يعني: يقع منه الزلل. كيف هذا؟ طريق الرحمن طريق مستقيم، وطريق إبليس طريق منحرفة، الذي يتبع طريق إبليس يخرج عن الطريق المستقيم، يعني: يزل بخروجه إلى طريق الشيطان وإلى اتباع خطواته. قال بعض أهل البلاغة: إن ما يأمر به الشيطان بمنزلة الطريق المزلقة. وفي قوله سبحانه: "من بعد ما جاءتكم البينات" دليل على أن عقوبة العالم بالشيء أعظم من عقوبة غيره. وفي قوله سبحانه: "من بعد ما جاءتكم البينات" دليل على أن الحجة في مجيء الآيات لا في فهمها ومعرفتها. كيف هذا؟ قال: "من بعد ما جاءتكم" ولم يقل: من بعد ما أيقنتم، يعني أن المعتبر هو حصول البيان لا حصول التبيين بها. ويتفرع عنه أن المكلف لا يُعذر بمجرد الجهل، الذي جاءته البينات والآيات لا يُعذر ولو لم يحصل منه العلم، يلحقه الوعيد كما يلحق العارف لأنه مفرط في طلب الحق. وفي قوله سبحانه: "فإن زللتم فاعلموا أن الله عزيز حكيم" تهديد بليغ، أبلغ من التصريح بالعقوبة. لو قال الوالد لولده: إن خالفت أمري فأنت تعرفني، تعرف بأني كذا وكذا. فهذا أبلغ. وقوله سبحانه "عزيز حكيم" تدليل مناسب للتهديد بالعقوبة، "عزيز حكيم" هنا تلويح بالعقوبة وتهديد بالكف عن المخالفة. روي أن أعرابياً سمع قارئاً قرأ هذه الآية وقال: فإن الله غفور حكيم، فأنكره - وهو لا يحفظ لفظ الآية – وقال: لا يقول الحكيم كذا، لا يذكر الغفران عند الزلل لأنه إغراء عليه. وفي قوله سبحانه:"حكيم" إيحاء أن ما أمر به لا يخرج عن مقتضى الحكمة، وأن شرع الله هو الخير المحض لا طرق الشيطان. وفي قوله سبحانه: "إنه لكم عدو مبين" تبيين وتنبيه لقوله: "خطوات الشيطان" يعني: إشارة إلى أن مَن لم يُدرك عداوته في مبدأ الخطوات، أدركه في العاقبة وفي الغايات، يعني: الشيطان عدو مبين لكم فلا تعتبروا به ولا تغتروا بخطواته، وهي خطوات لخفاء مكره لا لخفاء عداوته. ودّ العدو لو أهلك عدوه لأول وهلة، ولكن مقتضى الإضلال يقتضي التدرج والإمهال. الحلقة الثلاثون: وقال: "الغمام" لماذا؟ الغمام هو السحاب، أو هو السحاب الأبيض منه، والغمام عند اليأس مظنة الرحمة وهو رمز لحصول الخير، وتجد هذا في قصصهم وفي أشعارهم وفي صورهم. لو قيل لأحدهم: صوّر لنا منظر يستوحي منه الناظر معاني الرحمة. لما وجد شيئاً أحسن من تصويره لمنظر الغمام. أن الغمام هو مظنة للرحمة فإذا نزل منه العذاب كان أفظع، لأن الشر إذا جاء من حيث لا يُحتسب فهو أهول، فكيف إن جاء من حيث يُحتسب أن يأتي منه الخير ! لا شك هذا أفظع وأهول. وفي قوله سبحانه: " وقُضي الأمر" إشارة إلى أن أحوال يوم القيامة إن جاءت فهي متتالية سريعة التتابع، كما جاء في وصف علامات الساعة الكبرى، يقع أمر الله تعالى ليس لقضائه دافع ولا لحُكمه مانع، سبحانه وتعالى ما أعظم شأنه. وقال تعالى: "زُيّن للذين كفروا الحياة الدنيا" ولم يقل: زُيّنت الحياة الدنيا. لفظ (زُيّنت) مؤنث والحياة مؤنثة. لماذا جاء اللفظ هنا (زين) المذكر ؟ ما هو الجواب ؟ قيل: لأنه فصل بين لفظ (زُيّن) وبين لفظ (الحياة الدنيا) بقوله: " للذين كفروا" وإذا فُصل بين المؤنث وبين الاسم بفاصل، حسُن تذكير الفعل، لأن الفاصل يغني في هذا الحال عن تاء التأنيث. وفي قوله سبحانه: "زُيّن للذين كفروا" إشارة إلى الابتهاج بالدنيا هو من خصائص الذين كفروا، فلا ينبغي لنا أهل الإيمان أن نكون مثلهم.. وفيه أن هذه الدنيا هي آفة الخلق من الانقطاع عن الحق سبحانه. وفي قوله سبحانه: " زُيّن للذين كفروا الحياة الدنيا" إشارة إلى أن سبب الكفر هو تزيين الحياة الدنيا وشهواتها المحرمة وفي مثله قالوا: حب الدنيا رأس كل خطيئة. وفيه إشارة إلى أن الكفار وأن أعمالهم إنما هي لأجل الحياة الدنيا، وأنها لا لأجل القيم ولا المعاني السامية، ولا لأجل منطق ولا غيره من أغراض الخير، ولهذا يقول أهل الخبرة والحقائق: أن ما يستحسن من أخلاق الكفار إنما هي في الحقيقة أخلاق تجارية، تؤول في حقيقتها إلى مصالح دنيوية لا غير. وقال تعالى: "والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة" ولم يقل سبحانه: والذين آمنوا. لماذا؟ قيل: لأجل أن بني إسرائيل هم يدعون الإيمان لأنفسهم، فجاء لهم لفظ لا يُمكن أن يدعوه. وقيل: آثر التعبير بالتقوى للإشعار بعلية الحكم. وفي قوله سبحانه: "يرزق مَن يشاء بغير حساب" الإيماء إلى أن مقدورات الله غير متناهية. وفي قوله سبحانه: "بغير حساب" إشارة إلى أن كل ما أعطاه فقد أعطاه بمحض الفضل والإحسان لا بسبب الاستحقاق، وهو تفضل وتكرم لا غير. وفي قوله سبحانه:"بغير حساب" إشارة إلى أن الرزق قد يكون له سبب ظاهر، وقد لا يكون له سبب، وأن الأمر في الحقيقة مرده كله إلى الله. وقال الله تعالى: "كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مُبشرين ومُنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه إلاّ الذين أُتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم". وفي قوله سبحانه: "فبعث الله" إشارة إلى كلام محذوف مقدر، يعني: كان الناس أمة واحدة فاختلفوا، فبعث الله النبيين. كيف فُهم؟ هذا ومن أين؟ الفاء في قوله: "فبعث" تقتضي ذلك، تقتضي أن يكون بعثهم بعد الاختلاف. لو كانوا قبل ذلك أمة واحدة – كما يدل عليه اللفظ من غير تقدير لكان بعثة الرسل قبل هذا الاختلاف أولى وأحق؛ لأنهم لما بعثوا عندما كان بعضهم محقاً وبعضهم مبطلاً، فلأنْ يُبعثوا حين ما كانوا كلهم مبطلين مصرين على الكفر كان أولى. ويؤيده قوله تعالى: "وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه" هو تأييد وتأكيد إلى وقوع الاختلاف قبل البعث. وفي قوله سبحانه: "ليحكم" التنصيص على علة إنزال الكتاب، أي أن الله تعالى أنزل الكتاب من أجل أن يحكم بين الناس، لم ينزل الكتاب ليُركن ويُعلق أو تُغطى به الجدر أو حتى ليُعتنى به ويُرتل فقط. نصت الآية على أن الكتاب أُنزل ليحكم. أسند الضمير في "ليحكم" إلى الكتاب. لماذا ؟ ليدل على أن الحاكم على الحقيقة هو الله سبحانه وتعالى. وفي قوله سبحانه: "ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه" إشارة بليغة إلى أن وحدة الأمة لا تكون إلاّ عن طريق إثبات الحق، ويُقدم حكم الكتاب على كل حكم. وفي قوله سبحانه: "ليحكم بين الناس" الرد على كل مَن أخر حكم الكتاب. وفي قوله سبحانه: "معهم" إيذان بالمصاحبة على جهة التأييد والنصر. هي أن الكتاب يحصل به النصرة والتأييد كما في قوله تعالى لموسى وهارون: "إنني معكما أسمع وأرى" وقال هنا: "أنزل معهم الكتاب". وقال تعالى: "فهدى الله" ولم يقل: ثم هدى الله. قيل: لأن للإيذان سرعة اهتداء المؤمنين في مواطن الاختلاف، وفيه التنبيه إلى عظم تدارك رحمة الله بهم. وقال سبحانه: "فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق" ولم يقل: فهدى الله الذين آمنوا إلى الحق فيما اختلفوا فيه، بمعنى: لماذا قدم لفظ الاختلاف ؟ قال أهل التفسير: قدم لفظ الاختلاف على لفظ الحق للاهتمام به، إذ القضية المعتنى بها هنا هي قصة الاختلاف، كما في قوله سبحانه: "لم يكن له كفواً أحد" قدم كفء على أحد بنفي الكفء والمثيل والنظير عن الله. وقال سبحانه: "أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولمّا يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم، مسّتهم البأساء والضراء وزلزلوا، حتى يقولَ الرسول والذين آمنوا معه: متى نصر الله؟ ألا إن نصر الله قريب". قال تعالى: "ولمّا يأتكم" ولم يقل: ولم يأتكم؟! قال كثير من المفسرين: (لمّا) هي مثل (لم) للنفي و (ما) زائدة! هل هذا صحيح ؟ الجواب: لا. ليس في القرآن حرف زائد، ولله في كتابه وألفاظ القرآن مقاصد. (ما) ليست زائدة؛ (لمّا) تقع في مواضع لا تقع فيها (لم). (لمّا) لما على التوقع، إذا قال القائل: لم يأتني زيد. فهو نفي لقولك: أتاك زيد؟ وإذا قال: (لمّا) يأتيني. فمعناه: لم يأتِ بعد وأنا أتوقعه. وقال تعالى: "لمّا يأتكم مَثَل الذين خلوا" ولم يقل سبحانه: مِثْل. قال أهل البيان: إن لفظ (المَثل) فيه معنى المثلية، ولكن زيادة معنى الروعة والتعجب. وقال سبحانه: "مستهم الضراء" لفظ (مستهم) تدل على تحقق وقوع الضر وبلوغه كل مبلغ. وقال: "وزلزلوا" وفيه إيحاء بحقيقة الزلزلة، أعني: أن لفظ (زلزلوا) يوحي لنا عند نطقه بصورة الزلزلة وواقعية معناها.. وهذا من خصائص هذه اللغة ومن عجائب القرآن. "زلزلوا" يُشير إلى معنى الزلزلة، وهو الوقوع المتكرر المتخالف. لفظ (الزلزلة) يعني: تحرك الجسم من مكانه بشدة والتضعيف فيه (زل زل) يدل على تكرار الفعل، يعني: تكرار الوقوع. مثل لفظ(كُبكِبوا) يوحي هذا اللفظ بحقيقة معناه، نطقه يصور لنا واقعية المعنى وكيفية وقوع الحدث. ونختم هذا الحديث بجملة مناسبة للعالم ابن المنيّر - رحمه الله – يقول: فتنبه لهذا السر فإنه بديع، لا تجده يراعى إلاّ في الكتاب العزيز؛ لاشتماله على أسرار البلاغة، ونكت الفصاحة، ولا يُستفاد منه إلاّ بالتنقيب في صياغة البيان، وعلم اللسان. والله تعالى أعلم
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |