فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام - الصفحة 18 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         الدعاة وفقه إدارة العاطفة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 200 )           »          الدعاة بين التكتيكي والإستراتيجي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 239 )           »          كان من أبرز تلاميذ الشيخ عبدالعزيز ابن باز -رحمه الله- الشيخ عمر بن سعود العيد في ذمة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 93 )           »          السنن الإلهية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 11 - عددالزوار : 2555 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 13173 - عددالزوار : 349815 )           »          انفعالات المراهق- عندما ننظر للمراهق على أنه إنسان.. عندها فقط نعرف ما يريد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 6 - عددالزوار : 1330 )           »          وقفات مع دعاء الاستفتاح...مقدمة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 175 )           »          هَمٌّ فحزنٌ فعجزٌ فكسلٌ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 171 )           »          بِالْعِلْمِ تَرْقَى الْأُمَمُ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 158 )           »          لو أني فعلت لكان كذا وكذا.. (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 76 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #171  
قديم 26-08-2022, 02:32 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,330
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ آل عمران
المجلد الخامس
الحلقة( 171)

من صــ 61 الى صـ 70

وَأَمَّا فِعْلُ الْبَدَنِ فَهُوَ بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ وَمَتَى كانت إرَادَةُ الْقَلْبِ وَكَرَاهَتِهِ كَامِلَةً تَامَّةً وَفِعْلُ الْعَبْدِ مَعَهَا بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ: فَإِنَّهُ يُعْطَى ثَوَابَ الْفَاعِلِ الْكَامِلِ كَمَا قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ: فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ حُبُّهُ وَبُغْضُهُ وَإِرَادَتُهُ وكراهته بحسب محبة نفسه وبغضها؛ لا بحسب محبة الله ورسوله وبغض الله ورسوله وهذا من نوع الهوى؛ فإن اتبعه الإنسان فقد اتبع هواه {ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله} فإن أصل الهوى محبة النفس ويتبع ذلك بغضها ونفس الهوى - وهو الحب والبغض الذي في النفس - لا يلام عليه؛ فإن ذلك قد لا يملك وإنما يلام على اتباعه؛ كما قال تعالى: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله} وقال تعالى: {ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله} وقال النبي صلى الله عليه وسلم {ثلاث منجيات: خشية الله في السر والعلانية والقصد في الفقر والغنى وكلمة الحق في الغضب والرضا. وثلاث مهلكات: شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه}.

والحب والبغض يتبعه ذوق عند وجود المحبوب والمبغض ووجد وإرادة؛ وغير ذلك فمن اتبع ذلك بغير أمر الله ورسوله فهو ممن اتبع هواه بغير هدى من الله؛ بل قد يصعد به الأمر إلى أن يتخذ إلهه هواه واتباع الأهواء في الديانات أعظم من اتباع الأهواء في الشهوات. فإن الأول حال الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين؛ كما قال تعالى: {فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله} وقال تعالى: {ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم} الآية؛ إلى أن قال: {بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم} وقال تعالى: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم} الآية وقال تعالى: {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل} وقال تعالى: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير} وقال تعالى في الآية الأخرى: {ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين} وقال: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم}.

ولهذا كان من خرج عن موجب الكتاب والسنة من العلماء والعباد يجعل من أهل الأهواء؛ كما كان السلف يسمونهم أهل الأهواء وذلك إن كل من لم يتبع العلم فقد اتبع هواه والعلم بالدين لا يكون إلا بهدى الله الذي بعث به رسوله؛ ولهذا قال تعالى في موضع: {وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم} وقال في موضع آخر: {ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله}. فالواجب على العبد أن ينظر في نفس حبه وبغضه. ومقدار حبه وبغضه: هل هو موافق لأمر الله ورسوله؟ وهو هدى الله الذي أنزله على رسوله؛ بحيث يكون مأمورا بذلك الحب والبغض. لا يكون متقدما فيه بين يدي الله ورسوله؛ فإنه قد قال: {لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} ومن أحب أو أبغض قبل أن يأمره الله ورسوله ففيه نوع من التقدم بين يدي الله ورسوله. ومجرد الحب والبغض هوى؛ لكن المحرم اتباع حبه وبغضه بغير هدى من الله: ولهذا قال: {ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد} فأخبر أن من اتبع هواه أضله ذلك عن سبيل الله وهو هداه الذي بعث به رسوله. وهو السبيل إليه.
وتحقيق ذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو من أوجب الأعمال وأفضلها وأحسنها وقد قال تعالى: {ليبلوكم أيكم أحسن عملا} وهو كما قال الفضيل بن عياض رحمه الله أخلصه وأصوبه. فإن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا والخالص: أن يكون الله والصواب أن يكون على السنة. فالعمل الصالح لا بد أن يراد به وجه الله تعالى؛ فإن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه وحده؛ كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يقول الله أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا بريء منه وهو كله للذي أشرك}.
ثم قال - رحمه الله تعالى -:

والناس هنا ثلاثة أقسام: قوم لا يقومون إلا في أهواء نفوسهم؛ فلا يرضون إلا بما يعطونه ولا يغضبون إلا لما يحرمونه؛ فإذا أعطي أحدهم ما يشتهيه من الشهوات الحلال والحرام زال غضبه وحصل رضاه وصار الأمر الذي كان عنده منكرا - ينهى عنه ويعاقب عليه؛ ويذم صاحبه ويغضب عليه - مرضيا عنده وصار فاعلا له وشريكا فيه؛ ومعاونا عليه؛ ومعاديا لمن نهى عنه وينكر عليه. وهذا غالب في بني آدم يرى الإنسان ويسمع من ذلك ما لا يحصيه. وسببه: أن الإنسان ظلوم جهول؛ فلذلك لا يعدل بل ربما كان ظالما في الحالين يرى قوما ينكرون على المتولي ظلمه لرعيته واعتداءه عليهم؛ فيرضى أولئك المنكرون ببعض الشيء فينقلبون أعوانا له. وأحسن أحوالهم أن يسكتوا عن الإنكار عليه.

وكذلك تراهم ينكرون على من يشرب الخمر ويزني ويسمع الملاهي حتى يدخلوا أحدهم معهم في ذلك؛ أو يرضوه ببعض ذلك؛ فتراه قد صار عونا لهم. وهؤلاء قد يعودون بإنكارهم إلى أقبح من الحال التي كانوا عليها وقد يعودون إلى ما هو دون ذلك أو نظيره. وقوم يقومون ديانة صحيحة يكونون في ذلك مخلصين لله مصلحين فيما عملوه ويستقيم لهم ذلك حتى يصبروا على ما أوذوا. وهؤلاء هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات وهم من خير أمة أخرجت للناس:يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله. وقوم يجتمع فيهم هذا وهذا؛ وهم غالب المؤمنين فمن فيه دين وله شهوة تجتمع في قلوبهم إرادة الطاعة وإرادة المعصية وربما غلب هذا تارة وهذا تارة. وهذه القسمة الثلاثية كما قيل: الأنفس ثلاث: أمارة؛ ومطمئنة؛ ولوامة. فالأولون هم أهل الأنفس الأمارة التي تأمره بالسوء.
والأوسطون هم أهل النفوس المطمئنة التي قيل فيها: {يا أيتها النفس المطمئنة} {ارجعي إلى ربك راضية مرضية} {فادخلي في عبادي} {وادخلي جنتي}. والآخرون هم أهل النفوس اللوامة التي تفعل الذنب ثم تلوم عليه؛ وتتلون: تارة كذا. وتارة كذا. وتخلط عملا صالحا وآخر سيئا. ولهذا لما كان الناس في زمن أبي بكر وعمر اللذين أمر المسلمون بالاقتداء بهما كما قال صلى الله عليه وسلم {اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر} أقرب عهدا بالرسالة وأعظم إيمانا وصلاحا؛ وأئمتهم أقوم بالواجب وأثبت في الطمأنينة: لم تقع فتنة؛ إذ كانوا في حكم القسم الوسط. ولما كان في آخر خلافة عثمان وخلافة علي كثر القسم الثالث؛ فصار فيهم شهوة وشبهة مع الإيمان والدين؛ وصار ذلك في بعض الولاة وبعض الرعايا ثم كثر ذلك بعد؛ فنشأت الفتنة التي سببها ما تقدم من عدم تمحيص التقوى والطاعة في الطرفين؛ واختلاطهما بنوع من الهوى والمعصية في الطرفين:

وكل منهما متأول أنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وأنه مع الحق والعدل ومع هذا التأويل نوع من الهوى؛ ففيه نوع من الظن وما تهوى الأنفس؛ وإن كانت إحدى الطائفتين أولى بالحق من الأخرى. فلهذا يجب على المؤمن أن يستعين بالله؛ ويتوكل عليه في أن يقيم قلبه ولا يزيغه: ويثبته على الهدى والتقوى؛ ولا يتبع الهوى كما قال تعالى: {فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم}. وهذا أيضا حال الأمة فيما تفرقت فيه واختلفت في المقالات والعبادات.

وهذه الأمور مما تعظم بها المحنة على المؤمنين. فإنهم يحتاجون إلى شيئين: إلى دفع الفتنة التي ابتلي بها نظراؤهم من فتنة الدين والدنيا عن نفوسهم مع قيام المقتضي لها: فإن معهم نفوسا وشياطين كما مع غيرهم فمع وجود ذلك من نظرائهم يقوى المقتضي عندهم؛ كما هو الواقع؛ فيقوى الداعي الذي في نفس الإنسان وشيطانه؛ وما يحصل من الداعي بفعل الغير والنظير. فكم ممن لم يرد خيرا ولا شرا حتى رأى غيره - لا سيما إن كان نظيره -يفعله ففعله فإن الناس كأسراب القطا؛ مجبولون على تشبه بعضهم ببعض. ولهذا كان المبتدئ بالخير والشر: له مثل من تبعه من الأجر والوزر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة؛ من غير أن ينقص من أجورهم شيئا؛ ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة؛ من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا} وذلك لاشتراكهم في الحقيقة. وأن حكم الشيء حكم نظيره. وشبه الشيء منجذب إليه. فإذا كان هذان داعيين قويين: فكيف إذا انضم إليهما داعيان آخران؟ وذلك أن كثيرا من أهل المنكر يحبون من يوافقهم على ما هم فيه؛ ويبغضون من لا يوافقهم وهذا ظاهر في الديانات الفاسدة من موالاة كل قوم لموافقيهم؛ ومعاداتهم لمخالفيهم.
وكذلك في أمور الدنيا والشهوات كثيرا ما يختارون ويؤثرون من يشاركهم: إما للمعاونة على ذلك؛ كما في المتغلبين من أهل الرياسات وقطاع الطريق ونحوهم. وإما بالموافقة؛ كما في المجتمعين على شرب الخمر؛ فإنهم يختارون أن يشرب كل من حضر عندهم وإما لكراهتهم امتيازه عنهم بالخير: إما حسدا له على ذلك؛ لئلا يعلو عليهم بذلك ويحمد دونهم. وإما لئلا يكون له عليهم حجة. وإما لخوفهم من معاقبته لهم بنفسه؛ أو بمن يرفع ذلك إليهم؛ ولئلا يكونوا تحت منته وخطره ونحو ذلك من الأسباب قال الله تعالى: {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق} وقال تعالى في المنافقين: {ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء}. وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه ودت الزانية لو زنى النساء كلهن. والمشاركة قد يختارونها في نفس الفجور كالاشتراك في الشرب والكذب والاعتقاد الفاسد وقد يختارونها في النوع؛ كالزاني الذي يود أن غيره يزني؛ والسارق الذي يود أن غيره يسرق أيضا؛ لكن في غير العين التي زنى بها أو سرقها.
وأما الداعي الثاني فقد يأمرون الشخص بمشاركتهم فيما هم عليه من المنكر. فإن شاركهم وإلا عادوه وآذوه على وجه ينتهي إلى حد الإكراه؛ أولا ينتهي إلى حد الإكراه ثم إن هؤلاء الذين يختارون مشاركة الغير لهم في قبيح فعلهم أو يأمرونه بذلك ويستعينون به على ما يريدونه: متى شاركهم وعاونهم وأطاعهم انتقصوه واستخفوا به. وجعلوا ذلك حجة عليه في أمور أخرى. وإن لم يشاركهم عادوه وآذوه. وهذه حال غالب الظالمين القادرين. وهذا الموجود في المنكر نظيره في المعروف وأبلغ منه كما قال تعالى: {والذين آمنوا أشد حبا لله} فإن داعي الخير أقوى؛ فإن الإنسان فيه داع يدعوه إلى الإيمان والعلم؛ والصدق والعدل؛ وأداء الأمانة فإذا وجد من يعمل مثل ذلك صار له داع آخر؛ لا سيما إذا كان نظيره؛ لا سيما مع المنافسة وهذا محمود حسن. فإن وجد من يحب موافقته على ذلك ومشاركته له من المؤمنين والصالحين؛ ويبغضه إذا لم يفعل: صار له داع ثالث؛ فإذا أمروه بذلك ووالوه على ذلك وعادوه وعاقبوه على تركه صار له داع رابع.
ولهذا يؤمر المؤمنون أن يقابلوا السيئات بضدها من الحسنات؛ كما يقابل الطبيب المرض بضده. فيؤمر المؤمن بأن يصلح نفسه وذلك بشيئين: بفعل الحسنات. وترك السيئات مع وجود ما ينفي الحسنات ويقتضي السيئات. وهذه أربعة أنواع. ويؤمر أيضا بإصلاح غيره بهذه الأنواع الأربعة بحسب قدرته وإمكانه.
(ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون (110) لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون (111)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:

لما ذكر تعالى أهل الكتاب فقال: {ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون} {لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون} {ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} {ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون} {يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين} وهذه الآية قيل: إنها نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه. وقيل: إن قوله {منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون}. هو عبد الله بن سلام وأصحابه. وهذا والله أعلم من نمط الذي قبله؛ فإن هؤلاء ما بقوا من أهل الكتاب وإنما المقصود من هو منهم في الظاهر وهو مؤمن؛ لكن لا يقدر على ما يقدر عليه المؤمنون المهاجرون المجاهدون كمؤمن آل فرعون هو من آل فرعون وهو مؤمن؛ ولهذا قال تعالى: {وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم} فهو من آل فرعون وهو مؤمن. وكذلك هؤلاء منهم المؤمنون. ولهذا قال: {وأكثرهم الفاسقون} وقد قال قبل هذا {ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون} ثم قال: {لن يضروكم إلا أذى} وهذا عائد إليهم جميعهم لا إلى أكثرهم.

ولهذا قال: {وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون} وقد يقاتلون وفيهم مؤمن يكتم إيمانه يشهد القتال معهم ولا يمكنه الهجرة وهو مكره على القتال ويبعث يوم القيامة على نيته كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يغزو جيش هذا البيت فبينما هم ببيداء من الأرض إذ خسف بهم فقيل: يا رسول الله وفيهم المكره قال: يبعثون على نياتهم}.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #172  
قديم 26-08-2022, 02:42 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,330
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ آل عمران
المجلد الخامس
الحلقة( 172)

من صــ 71 الى صـ 80



(من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون (113)
[فصل: الرد على النصارى في احتجاجهم بأن الله مدحهم في قوله (من أهل الكتاب أمة قائمة)]

وأما قوله - تعالى -: {من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون} [آل عمران: 113] (113) {يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين} [آل عمران: 114] فهذه الآية لا اختصاص فيها للنصارى بل هي مذكورة بعد قوله - تعالى -: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون} [آل عمران: 110] (110) {لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون} [آل عمران: 111] (111) {ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} [آل عمران: 112] ثم قال {ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة} [آل عمران: 113]ومعلوم أن الصفة المذكورة في قوله: {ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق} [آل عمران: 112] صفة اليهود وكذلك قوله:
{وضربت عليهم المسكنة} [آل عمران: 112] فقوله عقب ذلك {من أهل الكتاب أمة قائمة} [آل عمران: 113] لا بد أن يكون متناولا لليهود ثم قد اتفق المسلمون والنصارى على أن اليهود مع كفرهم بالمسيح ومحمد - صلى الله عليه وسلم - ليس فيهم مؤمن وهذا معلوم بالاضطرار من دين محمد - صلى الله عليه وسلم - والآية إذا تناولت النصارى كان حكمهم في ذلك حكم اليهود والله تعالى إنما أثنى على من آمن من أهل الكتاب كما قال - تعالى -:

{وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب} [آل عمران: 199] وقد ذكر أكثر العلماء أن هذه الآية الأخرى في آل عمران نزلت في النجاشي ونحوه ممن آمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لكنه لم تمكنه الهجرة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا العمل بشرائع الإسلام لكون أهل بلده نصارى لا يوافقونه على إظهار شرائع الإسلام وقد قيل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما صلى عليه لما مات لأجل هذا، فإنه لم يكن هناك من يظهر الصلاة عليه في جماعة كثيرة ظاهرة كما يصلي المسلمون على جنائزهم.

ولهذا جعل من أهل الكتاب مع كونه آمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بمنزلة من يؤمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في بلاد الحرب ولا يتمكن من الهجرة إلى دار الإسلام ولا يمكنه العمل بشرائع الإسلام الظاهرة بل يعمل ما يمكنه ويسقط عنه ما يعجز عنه كما قال - تعالى -: {فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة} [النساء: 92] فقد يكون الرجل في الظاهر من الكفار وهو في الباطن مؤمن كما كان مؤمن آل فرعون.

قال - تعالى -:{وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب} [غافر: 28] (28) {ياقوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد} [غافر: 29] (29) {وقال الذي آمن ياقوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب} [غافر: 30] (30) {مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد} [غافر: 31] (31) {ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد} [غافر: 32] (32) {يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد} [غافر: 33] (33) {ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب} [غافر: 34] (34)
{الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار} [غافر: 35] (35) {وقال فرعون ياهامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب} [غافر: 36] (36) {أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب} [غافر: 37] (37) {وقال الذي آمن ياقوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد} [غافر: 38] (38) {ياقوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار} [غافر: 39] (39) {من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب} [غافر: 40] (40) {ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار} [غافر: 41] (41) {تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار} [غافر: 42] (42) {لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار} [غافر: 43] (43) {فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد} [غافر: 44] (44) {فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب} [غافر: 45] (45) {النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} [غافر: 46].

فقد أخبر سبحانه أنه حاق بآل فرعون سوء العذاب وأخبر أنه كان من آل فرعون رجل مؤمن يكتم إيمانه وأنه خاطبهم بالخطاب الذي ذكره فهو من آل فرعون باعتبار النسب والجنس والظاهر وليس هو من آل فرعون الذين يدخلون أشد العذاب وكذلك امرأة فرعون ليست من آل فرعون هؤلاء قال الله تعالى {وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين} [التحريم: 11] وامرأة الرجل من آله بدليل قوله: {إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين} [الحجر: 59] (59) {إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين} [الحجر: 60] وهكذا أهل الكتاب فيهم من هو في الظاهر منهم وهو في الباطن يؤمن بالله ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - يعمل بما يقدر عليه ويسقط عنه ما يعجز عنه علما وعملا: و {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} [البقرة: 286] وهو عاجز عن الهجرة إلى دار الإسلام كعجز النجاشي.

وكما أن الذين يظهرون الإسلام فيهم من هم في الظاهر مسلمون وفيهم من هو منافق كافر في الباطن إما يهودي وإما نصراني وإما مشرك وإما معطل.
كذلك في أهل الكتاب والمشركين من هو في الظاهر منهم ومن هو في الباطن من أهل الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - يفعل ما يقدر على علمه وعمله ويسقط ما يعجز عنه في ذلك.

وفي حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال: «لما مات النجاشي قال: النبي - صلى الله عليه وسلم - استغفروا لأخيكم فقال بعض القوم: تأمرنا أن نستغفر لهذا العلج يموت بأرض الحبشة فنزلت {وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم} [آل عمران: 199]».
ذكره ابن أبي حاتم وغيره بأسانيدهم وذكره حماد بن سلمة عن ثابت عن الحسن البصري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «استغفروا لأخيكم النجاشي» فذكر مثله.

وكذلك ذكر طائفة من المفسرين عن جابر بن عبد الله وابن عباس وأنس وقتادة أنهم قالوا: «نزلت هذه الآية في النجاشي ملك الحبشة واسمه أصحمة وهو بالعربية عطية وذلك أنه لما مات نعاه جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم - في اليوم الذي مات فيه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه اخرجوا فصلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم قالوا: من هو؟ قال: النجاشي فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى البقيع وزاد بعضهم: وكشف له من المدينة إلى أرض الحبشة فأبصر سرير النجاشي وصلى عليه وكبر أربع تكبيرات واستغفر له وقال لأصحابه: استغفروا له فقال المنافقون: انظروا إلى هذا يصلي على علج حبشي نصراني لم يره قط وليس على دينه، فأنزل الله تعالى {وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب} [آل عمران: 199]» وقد ذهبت طائفة من العلماء إلى أنها نزلت فيمن كان على دين المسيح - عليه السلام - إلى أن بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - فآمن به كما نقل ذلك عن عطاء.
وذهبت طائفة إلى أنها نزلت في مؤمني أهل الكتاب كلهم.
والقول الأول أجود، فإن من آمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وأظهر الإيمان به وهو من أهل دار الإسلام يعمل ما يعمله المسلمون ظاهرا وباطنا فهذا من المؤمنين وإن كان قبل ذلك مشركا يعبد الأوثان فكيف إذا كان كتابيا؟ وهذا مثل عبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وغيرهما وهؤلاء لا يقال أنهم من أهل الكتاب كما لا يقال في المهاجرين والأنصار أنهم من المشركين وعباد الأوثان ولا يمكن أحد من المنافقين ولا من غيرهم من أن يصلي على واحد منهم بخلاف من هو في الظاهر منهم وفي الباطن من المؤمنين.
وفي بلاد النصارى من هذا النوع خلق كثير يكتمون إيمانهم إما مطلقا وإما يكتمونه عن العامة ويظهرونه لخاصتهم وهؤلاء قد يتناولهم قوله - تعالى -: {وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله} [آل عمران: 199] الآية.
فهؤلاء لا يدعون الإيمان بكتاب الله ورسوله لأجل مال يأخذونه كما يفعل كثير من الأحبار والرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدونهم عن سبيل الله فيمنعونهم الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم.

وأما قوله - تعالى -: {من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون} [آل عمران: 113] (113) {يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين} [آل عمران: 114] فهذه الآية تتناول اليهود أقوى مما تتناول النصارى ونظيرها قوله - تعالى -: {ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون} [الأعراف: 159] وهذا مدح مطلق لمن تمسك بالتوراة ليس في ذلك مدح لمن كذب المسيح ولا فيها مدح لمن كذب محمدا - صلى الله عليه وسلم.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #173  
قديم 26-08-2022, 02:50 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,330
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ آل عمران
المجلد الخامس
الحلقة( 173)

من صــ 81 الى صـ 90





وهذا الكلام يفسره سياق الكلام، فإنه قال - تعالى -: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} [آل عمران: 110]ثم قال - تعالى -: {ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون} [آل عمران: 110] فقد جعلهم نوعين نوعا مؤمنين ونوعا فاسقين وهم أكثرهم وقوله - تعالى -: منهم المؤمنون يتناول من كان منهم مؤمنا قبل مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - كما يتناولهم قوله - تعالى -: {وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة} [الحديد: 27] إلى قوله: وكثير منهم فاسقون وكذلك قوله - تعالى -: {ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون} [الحديد: 26] وقوله عن إبراهيم الخليل {وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين} [الصافات: 113] ثم لما قال:
{وأكثرهم الفاسقون} [آل عمران: 110] قال {لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون} [آل عمران: 111] (111) {ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} [آل عمران: 112]

وضرب الذلة عليهم أينما ثقفوا ومباؤهم بغضب الله وما ذكر معه من قتل الأنبياء بغير حق وعصيانهم واعتداؤهم كان اليهود متصفين به قبل مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - كما قال - تعالى - في سورة البقرة {وإذ قلتم ياموسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} [البقرة: 61] ثم قال بعد ذلك {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} [البقرة: 62] فتناولت هذه الآية من كان من أهل هذه الملل الأربع متمسكا بها قبل النسخ بغير تبديل كذلك آية آل عمران لما وصف أهل الكتاب بما كانوا متصفا به أكثرهم قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - من الكفر قال {ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون} [آل عمران: 113] (113)
{يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين} [آل عمران: 114]. وهذا يتناول من كان متصفا منهم بهذا قبل النسخ، فإنهم كانوا على الدين الحق الذي لم يبدل ولم ينسخ كما قال في الأعراف {ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون} [الأعراف: 159] وقوله: {وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون} [الأعراف: 168] (168) {فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون} [الأعراف: 169] (169) {والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين} [الأعراف: 170].
وقد قال - تعالى -: {وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون} [الأعراف: 181] فهذا خبر من الله عمن كان متصفا بهذا الوصف قبل مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - ومن أدرك من هؤلاء محمدا - صلى الله عليه وسلم - فآمن به كان له أجره مرتين.
(ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون (128)
(فصل في الرد على من ادعى أن قوله: (ليس لك من الأمر شيء) عين الإثبات للنبي صلى الله عليه وسلم كقوله: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:

وأما قول القائل: إن قوله: {ليس لك من الأمر شيء} عين الإثبات للنبي صلى الله عليه وسلم كقوله: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى}. {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم} فهذا بناء على قول أهل الوحدة والاتحاد وجعل معنى قوله: {ليس لك من الأمر شيء} أن فعلك هو فعل الله لعدم المغايرة وهذا ضلال عظيم من وجوه:
أحدهما: أن قوله: {ليس لك من الأمر شيء} نزل في سياق قوله: {ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين} {ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون}.

وقد ثبت في الصحيح {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو على قوم من الكفار أو يلعنهم في القنوت فلما أنزل الله هذه الآية: ترك ذلك} فعلم أن معناها إفراد الرب تعالى بالأمر وأنه ليس لغيره أمر؛ بل إن شاء الله تعالى قطع طرفا من الكفار وإن شاء كبتهم فانقلبوا بالخسارة وإن شاء تاب عليهم وإن شاء عذبهم. وهذا كما قال في الآية الأخرى: {قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء} ونحو ذلك قوله تعالى {يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا} {قل إن الأمر كله لله}.

الوجه الثاني: أن قوله: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} لم يرد به أن فعل العبد هو فعل الله تعالى - كما تظنه طائفة من الغالطين - فإن ذلك لو كان صحيحا لكان ينبغي أن يقال لكل أحد حتى يقال للماشي: ما مشيت إذ مشيت ولكن الله مشى ويقال للراكب: وما ركبت إذ ركبت ولكن الله ركب ويقال للمتكلم: ما تكلمت إذ تكلمت ولكن الله تكلم ويقال مثل ذلك للآكل والشارب والصائم والمصلي ونحو ذلك. وطرد ذلك: يستلزم أن يقال للكافر ما كفرت إذ كفرت ولكن الله كفر ويقال للكاذب ما كذبت إذ كذبت ولكن الله كذب. ومن قال مثل هذا: فهو كافر ملحد خارج عن العقل والدين.
ولكن معنى الآية أن {النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر رماهم ولم يكن في قدرته أن يوصل الرمي إلى جميعهم فإنه إذ رماهم بالتراب وقال: شاهت الوجوه} لم يكن في قدرته أن يوصل ذلك إليهم كلهم فالله تعالى أوصل ذلك الرمي إليهم كلهم بقدرته. يقول: وما أوصلت إذ حذفت ولكن الله أوصل فالرمي الذي أثبته له ليس هو الرمي الذي نفاه عنه فإن هذا مستلزم للجمع بين النقيضين بل نفى عنه الإيصال والتبليغ وأثبت له الحذف والإلقاء وكذلك إذا رمى سهما فأوصله الله إلى العدو إيصالا خارقا للعادة: كان الله هو الذي أوصله بقدرته.

(الوجه الثالث) أنه لو فرض أن المراد بهذه الآية أن الله خالق أفعال العباد) فهذا المعنى حق وقد قال الخليل: {ربنا واجعلنا مسلمين لك} فالله هو الذي جعل المسلم مسلما وقال تعالى: {إن الإنسان خلق هلوعا} {إذا مسه الشر جزوعا} {وإذا مسه الخير منوعا} فالله هو الذي خلقه هلوعا لكن ليس في هذا أن الله هو العبد؛ ولا أن وجود الخالق هو وجود المخلوق ولا أن الله حال في العبد. فالقول بأن الله خالق أفعال العباد حق والقول بأن الخلق حال في المخلوق أو وجوده وجود المخلوق باطل. وهؤلاء ينتقلون من القول بتوحيد الربوبية إلى القول بالحلول والاتحاد وهذا عين الضلال والإلحاد.

(الوجه الرابع) أن قوله تعالى {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله} لم يرد به إنك أنت الله) وإنما أراد إنك أنت رسول الله ومبلغ أمره ونهيه فمن بايعك فقد بايع الله كما أن من أطاعك فقد أطاع الله ولم يرد بذلك أن الرسول هو الله؛ ولكن الرسول أمر بما أمر الله به. فمن أطاعه فقد أطاع الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {من أطاعني فقد أطاع الله ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصاني فقد عصى الله ومن عصى أميري فقد عصاني} ومعلوم أن أميره ليس هو إياه.
ومن ظن في قوله: {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله} أن المراد به أن فعلك هو فعل الله أو المراد أن الله حال فيك ونحو ذلك فهو - مع جهله وضلاله بل كفره وإلحاده - قد سلب الرسول خاصيته وجعله مثل غيره وذلك أنه لو كان المراد به كون الله فاعلا لفعلك: لكان هذا قدرا مشتركا بينه وبين سائر الخلق وكان من بايع أبا جهل فقد بايع الله ومن بايع مسيلمة الكذاب فقد بايع الله ومن بايع قادة الأحزاب فقد بايع الله وعلى هذا التقدير فالمبايع هو الله أيضا فيكون الله قد بايع الله؛ إذ الله خالق لهذا ولهذا وكذلك إذا قيل بمذهب أهل الحلول والوحدة والاتحاد فإنه عام عندهم في هذا وهذا فيكون الله قد بايع الله. وهذا يقوله كثير من شيوخ هؤلاء الحلولية الاتحادية حتى إن أحدهم إذا أمر بقتال العدو يقول: أقاتل الله؟ ما أقدر أن أقاتل الله ونحو هذا الكلام الذي سمعناه من شيوخهم وبينا فساده لهم وضلالهم فيه غير مرة.
وأما الحلول الخاص فليس هو قول هؤلاء؛ بل هو قول النصارى ومن وافقهم من الغالية وهو باطل أيضا فإن الله سبحانه قال له: {ليس لك من الأمر شيء} وقال: {وأنه لما قام عبد الله يدعوه} وقال: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا} وقال: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا} وقال: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا} {ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيما}.
فقوله: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة} بين قوله: {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله} ولهذا قال: {يد الله فوق أيديهم} ومعلوم أن يد النبي صلى الله عليه وسلم كانت مع أيديهم كانوا يصافحونه ويصفقون على يده في البيعة فعلم أن يد الله فوق أيديهم ليست هي يد النبي صلى الله عليه وسلم ولكن الرسول عبد الله ورسوله فبايعهم عن الله وعاهدهم وعاقدهم عن الله فالذين بايعوه بايعوا الله الذي أرسله وأمره ببيعتهم. ألا ترى أن كل من وكل شخصا يعقد مع الوكيل: كان ذلك عقدا مع الموكل؟ ومن وكل نائبا له في معاهدة قوم فعاهدهم عن مستنيبه: كانوا معاهدين لمستنيبه؟

ومن وكل رجلا في إنكاح أو تزويج: كان الموكل هو الزوج الذي وقع له العقد؟ وقد قال تعالى: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} الآية ولهذا قال في تمام الآية: {ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما}. فتبين أن قول ذلك الفقير هو القول الصحيح وأن الله إذا كان قد قال لنبيه: {ليس لك من الأمر شيء} فأيش نكون نحن؟ وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال: {لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله}.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #174  
قديم 26-08-2022, 02:58 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,330
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ آل عمران
المجلد الخامس
الحلقة( 174)

من صــ 91 الى صـ 100



وسئل - رحمه الله تعالى -:
عن قنوت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل كان في العشاء الآخرة؟ أو الصبح؟ وما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والعمل عليه عند الصحابة؟.
فأجاب:

أما القنوت في صلاة الصبح. فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقنت في النوازل. قنت مرة شهرا يدعو على قوم من الكفار قتلوا طائفة من أصحابه ثم تركه وقنت مرة أخرى يدعو لأقوام من أصحابه كانوا مأسورين عند أقوام يمنعونهم من الهجرة إليه.
وكذلك خلفاؤه الراشدون بعده كانوا يقنتون نحو هذا القنوت فما كان يداوم عليه وما كان يدعه بالكلية وللعلماء فيه ثلاثة أقوال: قيل: إن المداومة عليه سنة. وقيل: القنوت منسوخ. وأنه كله بدعة. والقول الثالث: وهو الصحيح أنه يسن عند الحاجة إليه كما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون.
وأما القنوت في الوتر فهو جائز وليس بلازم فمن أصحابه من لم يقنت ومنهم من قنت في النصف الأخير من رمضان ومنهم من قنت السنة كلها. والعلماء منهم من يستحب الأول كمالك ومنهم من يستحب الثاني كالشافعي وأحمد في رواية ومنهم من يستحب الثالث كأبي حنيفة والإمام أحمد في رواية والجميع جائز. فمن فعل شيئا من ذلك فلا لوم عليه والله أعلم.
وقال شيخ الإسلام - رحمه الله -:

فصل:
وأما القنوت: فالناس فيه طرفان ووسط: منهم من لا يرى القنوت إلا قبل الركوع ومنهم من لا يراه إلا بعده.
وأما فقهاء أهل الحديث كأحمد وغيره فيجوزون كلا الأمرين لمجيء السنة الصحيحة بهما. وإن اختاروا القنوت بعده؛ لأنه أكثر وأقيس فإن سماع الدعاء مناسب لقول العبد: سمع الله لمن حمده فإنه يشرع الثناء على الله قبل دعائه كما بنيت فاتحة الكتاب على ذلك: أولها ثناء وآخرها دعاء.

وأيضا فالناس في شرعه في الفجر على ثلاثة أقوال: بعد اتفاقهم على أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت في الفجر. منهم من قال: إنه منسوخ فإنه قنت ثم ترك. كما جاءت به الأحاديث الصحيحة.
ومن قال: المتروك هو الدعاء على أولئك الكفار فلم تبلغه ألفاظ الحديث أو بلغته فلم يتأملها فإن في الصحيحين عن عاصم الأحول قال: {سألت أنس بن مالك عن القنوت: هل كان قبل الركوع أو بعده؟ فقال: قبل الركوع قال: فإن فلانا أخبرني أنك قلت بعد الركوع قال: كذب إنما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الركوع أراه بعث قوما يقال لهم القراء زهاء سبعين رجلا إلى قوم مشركين دون أولئك وكان بينهم وبين رسول الله عهد وقنت صلى الله عليه وسلم شهرا يدعو عليهم} وكذلك الحديث الذي رواه أحمد والحاكم عن الربيع بن أنس عن أنس أنه قال: {ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت حتى فارق الدنيا} " جاء لفظه مفسرا " أنه: ما زال يقنت قبل الركوع ". والمراد هنا بالقنوت طول القيام لا الدعاء.
كذلك جاء مفسرا ويبينه ما جاء في الصحيحين عن {محمد بن سيرين قال: قلت لأنس: قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح قال: نعم بعد الركوع يسيرا} " فأخبر أن قنوته كان يسيرا وكان بعد الركوع فلما كان لفظ القنوت هو إدامة الطاعة سمي كل تطويل في قيام أو ركوع أو سجود قنوتا. كما قال تعالى: {أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما} ولهذا لما سئل ابن عمر رضي الله عنهما عن القنوت الراتب قال: " ما سمعنا ولا رأينا " وهذا قول ومنهم من قال: بل القنوت سنة راتبة حيث قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قنت وروي عنه:
{أنه ما زال يقنت حتى فارق الدنيا}. وهذا قول الشافعي ثم من هؤلاء من استحبه في جميع الصلوات لما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قنت فيهن وجاء ذلك من غير وجه في المغرب والعشاء الآخرة والظهر. لكن لم يرو أحد أنه قنت قنوتا راتبا بدعاء معروف. فاستحبوا أن يدعو فيه بقنوت الوتر الذي علمه. النبي صلى الله عليه وسلم للحسن بن علي وهو: {اللهم اهدني فيمن هديت} " إلى آخره. وتوسط آخرون من فقهاء الحديث وغيرهم كأحمد وغيره فقالوا: قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت للنوازل التي نزلت به من العدو في قتل أصحابه أو حبسهم ونحو ذلك.

فإنه قنت مستنصرا كما استسقى حين الجدب فاستنصاره عند الحاجة كاسترزاقه عند الحاجة إذ بالنصر والرزق قوام أمر الناس. كما قال تعالى: {الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف} وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم {وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟ بدعائهم وصلاتهم واستغفارهم} " وكما قال في صفة الأبدال: {بهم ترزقون وبهم تنصرون} " وكما ذكر الله هذين النوعين في سورة الملك وبين أنهما بيده. سبحانه. في قوله: {أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور} {أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه} ثم ترك القنوت وجاء مفسرا أنه تركه لزوال ذلك السبب.

وكذلك كان عمر رضي الله عنه إذا أبطأ عليه خبر جيوش المسلمين قنت وكذلك علي رضي الله عنه قنت لما حارب من حارب من الخوارج وغيرهم. قالوا: وليس الترك نسخا فإن الناسخ لا بد أن ينافي المنسوخ وإذا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم أمرا لحاجة ثم تركه لزوالها لم يكن ذلك نسخا بل لو تركه تركا مطلقا لكان ذلك يدل على جواز الفعل والترك لا على النهي عن الفعل.
قالوا: ونعلم مطلقا أنه لم يكن يقنت قنوتا راتبا فإن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله فإنه لم ينقل أحد من الصحابة قط أنه دعا في قنوته في الفجر ونحوها إلا لقوم أو على قوم ولا نقل أحد منهم قط أنه قنت دائما بعد الركوع ولا أنه قنت دائما يدعو قبله وأنكر غير واحد من الصحابة القنوت الراتب فإذا علم هذا علم قطعا أن ذلك لم يكن كما يعلم: " أن حي على خير العمل " لم يكن من الأذان الراتب وإنما فعله بعض الصحابة لعارض تحضيضا للناس على الصلاة فهذا القول أوسط الأقوال وهو أن القنوت مشروع غير منسوخ؛ لكنه مشروع للحاجة النازلة لا سنة راتبة. وهذا أصل آخر في الواجبات والمستحبات كالأصل الذي تقدم في ما يسقط بالعذر فإن كل واحد من الواجبات والمستحبات الراتبة يسقط بالعذر العارض بحيث لا يبقى لا واجبا ولا مستحبا كما سقط بالسفر والمرض والخوف كثير من الواجبات والمستحبات.
وكذلك أيضا قد يجب أو يستحب للأسباب العارضة ما لا يكون واجبا ولا مستحبا راتبا فالعبادات في ثبوتها وسقوطها تنقسم إلى راتبة وعارضة وسواء في ذلك ثبوت الوجوب أو الاستحباب أو سقوطه. وإنما تغلط الأذهان من حيث تجعل العارض راتبا أو تجعل الراتب لا يتغير بحال ومن اهتدى للفرق بين المشروعات الراتبة والعارضة انحلت عنه هذه المشكلات كثيرا.
وسئل:
هل قنوت الصبح دائما سنة؟ ومن يقول: إنه من أبعاض الصلاة التي تجبر بالسجود وما يجبر إلا الناقص. والحديث {ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت حتى فارق الدنيا} فهل هذا الحديث من الأحاديث الصحاح؟ وهل هو هذا القنوت؟ وما أقوال العلماء في ذلك؟ وما حجة كل منهم؟ وإن قنت لنازلة: فهل يتعين قوله أو يدعو بما شاء؟.
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم {أنه قنت شهرا يدعو على رعل وذكوان وعصية} ثم تركه. وكان ذلك لما قتلوا القراء من الصحابة. وثبت عنه أنه قنت بعد ذلك بمدة بعد صلح الحديبية وفتح خيبر يدعو للمستضعفين من أصحابه الذين كانوا بمكة. ويقول في قنوته: {اللهم أنج الوليد بن الوليد وعياش بن أبي ربيعة وسلمة بن هشام والمستضعفين من المؤمنين. اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف}. {وكان يقنت يدعو للمؤمنين ويلعن الكفار وكان قنوته في الفجر}.

وثبت عنه في الصحيح {أنه قنت في المغرب والعشاء وفي الظهر} وفي السنن {أنه قنت في العصر} أيضا. فتنازع المسلمون في القنوت على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه منسوخ فلا يشرع بحال بناء على أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت ثم ترك والترك نسخ للفعل كما أنه لما كان يقوم للجنازة ثم قعد. جعل القعود ناسخا للقيام وهذا قول طائفة من أهل العراق كأبي حنيفة وغيره.
والثاني: أن القنوت مشروع دائما وأن المداومة عليه سنة وأن ذلك يكون في الفجر. ثم من هؤلاء من يقول: السنة أن يكون قبل الركوع بعد القراءة سرا وأن لا يقنت بسوى: {اللهم إنا نستعينك} إلى آخرها و {اللهم إياك نعبد} إلى آخرها كما يقوله: مالك. ومنهم من يقول: السنة أن يكون بعد الركوع جهرا.

ويستحب. أن يقنت بدعاء الحسن بن علي الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قنوته: {اللهم اهدني فيمن هديت} إلى آخره. وإن كانوا قد يجوزون القنوت قبل وبعد. وهؤلاء قد يحتجون بقوله تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين} ويقولون: الوسطى: هي الفجر والقنوت فيها. وكلتا المقدمتين ضعيفة: أما الأولى: فقد ثبت بالنصوص الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم {أن الصلاة الوسطى هي العصر} وهذا أمر لا يشك فيه من عرف الأحاديث المأثورة. ولهذا اتفق على ذلك علماء الحديث وغيرهم. وإن كان للصحابة والعلماء في ذلك مقالات متعددة. فإنهم تكلموا بحسب اجتهادهم.
وأما الثانية: فالقنوت هو المداومة على الطاعة وهذا يكون في القيام والسجود. كما قال تعالى: {أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة} ولو أريد به إدامة القيام كما قيل: في قوله: {يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي} فحمل ذلك على إطالته القيام للدعاء دون غيره لا يجوز؛ لأن الله أمر بالقيام له قانتين والأمر يقتضي الوجوب. وقيام الدعاء المتنازع فيه لا يجب بالإجماع؛ ولأن القائم في حال قراءته هو قانت لله أيضا. ولأنه قد ثبت في الصحيح: {أن هذه الآية لما نزلت أمروا بالسكوت ونهوا عن الكلام}.
فعلم أن السكوت هو من تمام القنوت المأمور به. ومعلوم أن ذلك واجب في جميع أجزاء القيام؛ ولأن قوله: {وقوموا لله قانتين} لا يختص بالصلاة الوسطى. سواء كانت الفجر أو العصر؛ بل هو معطوف على قوله: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} فيكون أمرا بالقنوت مع الأمر بالمحافظة والمحافظة تتناول الجميع فالقيام يتناول الجميع. واحتجوا أيضا: بما رواه الإمام أحمد في مسنده والحاكم في صحيحه عن أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أنس {أن النبي صلى الله عليه وسلم ما زال يقنت حتى فارق الدنيا} قالوا: وقوله في الحديث الآخر: {ثم تركه} أراد ترك الدعاء على تلك القبائل لم يترك نفس القنوت.

وهذا بمجرده لا يثبت به سنة راتبة في الصلاة وتصحيح الحاكم دون تحسين الترمذي. وكثيرا ما يصحح الموضوعات فإنه معروف بالتسامح في ذلك ونفس هذا الحديث لا يخص القنوت قبل الركوع أو بعده فقال: {ما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع إلا شهرا} فهذا حديث صحيح صريح عن أنس أنه لم يقنت بعد الركوع إلا شهرا فبطل ذلك التأويل. والقنوت قبل الركوع قد يراد به طول القيام قبل الركوع سواء كان هناك دعاء زائد أو لم يكن. فحينئذ فلا يكون اللفظ دالا على قنوت الدعاء وقد ذهب طائفة إلى أنه يستحب القنوت الدائم في الصلوات الخمس محتجين بأن النبي صلى الله عليه وسلم قنت فيها ولم يفرق بين الراتب والعارض وهذا قول شاذ.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #175  
قديم 26-08-2022, 03:07 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,330
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ آل عمران
المجلد الخامس
الحلقة( 175)

من صــ 101 الى صـ 110





والقول الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت لسبب نزل به ثم تركه عند عدم ذلك السبب النازل به فيكون القنوت مسنونا عند النوازل وهذا القول هو الذي عليه فقهاء أهل الحديث وهو المأثور عن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم فإن عمر رضي الله عنه لما حارب النصارى قنت عليهم القنوت المشهور: اللهم عذب كفرة أهل الكتاب. إلى آخره. وهو الذي جعله بعض الناس سنة في قنوت رمضان وليس هذا القنوت سنة راتبة لا في رمضان ولا غيره بل عمر قنت لما نزل بالمسلمين من النازلة ودعا في قنوته دعاء يناسب تلك النازلة كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قنت أولا على قبائل بني سليم الذين قتلوا القراء دعا عليهم بالذي يناسب مقصوده ثم لما قنت يدعو للمستضعفين من أصحابه دعا بدعاء. يناسب مقصوده. فسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين تدل على شيئين: أحدهما: أن دعاء القنوت مشروع عند السبب الذي يقتضيه ليس بسنة دائمة في الصلاة.
الثاني: أن الدعاء فيه ليس دعاء راتبا بل يدعو في كل قنوت بالذي يناسبه كما دعا النبي صلى الله عليه وسلم أولا وثانيا. وكما دعا عمر وعلي رضي الله عنهما لما حارب من حاربه في الفتنة فقنت ودعا بدعاء يناسب مقصوده والذي يبين هذا أنه لو كان النبي صلى الله عليه وسلم يقنت دائما ويدعو بدعاء راتب لكان المسلمون ينقلون هذا عن نبيهم فإن هذا من الأمور التي تتوفر الهمم والدواعي على نقلها وهم الذين نقلوا عنه في قنوته ما لم يداوم عليه وليس بسنة راتبة كدعائه على الذين قتلوا أصحابه ودعائه للمستضعفين من أصحابه ونقلوا قنوت عمر وعلي على من كانوا يحاربونهم.
فكيف يكون النبي صلى الله عليه وسلم يقنت دائما في الفجر أو غيرها ويدعو بدعاء راتب ولم ينقل هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم لا في خبر صحيح ولا ضعيف بل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين هم أعلم الناس بسنته وأرغب الناس في اتباعها كابن عمر وغيره أنكروا حتى قال ابن عمر: " ما رأينا ولا سمعنا " وفي رواية " أرأيتكم قيامكم هذا: تدعون.
ما رأينا ولا سمعنا " أفيقول مسلم: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقنت دائما وابن عمر يقول: ما رأينا ولا سمعنا. وكذلك غير ابن عمر من الصحابة عدوا ذلك من الأحداث المبتدعة.

ومن تدبر هذه الأحاديث في هذا الباب علم علما يقينا قطعيا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقنت دائما في شيء من الصلوات كما يعلم علما يقينيا أنه لم يكن يداوم على القنوت في الظهر والعشاء والمغرب فإن من جعل القنوت في هذه الصلوات سنة راتبة يحتج بما هو من جنس حجة الجاعلين له في الفجر سنة راتبة. ولا ريب أنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قنت في هذه الصلوات؛ لكن الصحابة بينوا الدعاء الذي كان يدعو به والسبب الذي قنت له وأنه ترك ذلك عند حصول المقصود نقلوا ذلك في قنوت الفجر وفي قنوت العشاء أيضا.

والذي يوضح ذلك: أن الذين جعلوا من سنة الصلاة أن يقنت دائما بقنوت الحسن بن علي أو بسورتي أبي ليس معهم إلا دعاء عارض والقنوت فيها إذا كان مشروعا: كان مشروعا للإمام والمأموم والمنفرد؛ بل وأوضح من هذا أنه لو جعل جاعل قنوت الحسن أو سورتي أبي سنة راتبة في المغرب والعشاء لكان حاله شبيها بحال من جعل ذلك سنة راتبة في الفجر. إذ هؤلاء ليس معهم في الفجر إلا قنوت عارض بدعاء يناسب ذلك العارض ولم ينقل مسلم دعاء في قنوت غير هذا كما لم ينقل ذلك في المغرب والعشاء. وإنما وقعت الشبهة لبعض العلماء في الفجر؛ لأن القنوت فيها كان أكثر وهي أطول. والقنوت يتبع الصلاة وبلغهم أنه داوم عليه فظنوا أن السنة المداومة عليه ثم لم يجدوا معهم سنة بدعائه. فسنوا هذه الأدعية المأثورة في الوتر. مع أنهم لا يرون ذلك سنة راتبة في الوتر.
وهذا النزاع الذي وقع في القنوت له نظائر كثيرة في الشريعة: فكثيرا ما يفعل النبي صلى الله عليه وسلم لسبب فيجعله بعض الناس سنة ولا يميز بين السنة الدائمة والعارضة. وبعض الناس يرى أنه لم يكن يفعله في أغلب الأوقات فيراه بدعة ويجعل فعله في بعض الأوقات مخصوصا أو منسوخا إن كان قد بلغه ذلك مثل صلاة التطوع في جماعة.
فإنه قد ثبت عنه في الصحيح {أنه صلى بالليل وخلفه ابن عباس مرة وحذيفة بن اليمان مرة}. وكذلك غيرهما. وكذلك {صلى بعتبان بن مالك في بيته التطوع جماعة} {وصلى بأنس بن مالك وأمه واليتيم في داره} فمن الناس من يجعل هذا فيما يحدث من " صلاة الألفية " ليلة نصف شعبان والرغائب ونحوهما مما يداومون فيه على الجماعات.

ومن الناس من يكره التطوع؛ لأنه رأى أن الجماعة إنما سنت في الخمس كما أن الأذان إنما سن في الخمس. ومعلوم أن الصواب هو ما جاءت به السنة فلا يكره أن يتطوع في جماعة. كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم. ولا يجعل ذلك سنة راتبة كمن يقيم للمسجد إماما راتبا يصلي بالناس بين العشاءين أو في جوف الليل كما يصلي بهم الصلوات الخمس كما ليس له أن يجعل للعيدين وغيرهما أذانا كأذان الخمس؛ ولهذا أنكر الصحابة على من فعل هذا من ولاة الأمور إذ ذاك.
(وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين (133) الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين (134)

قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
وأما الصبر على المصائب ففيها أجر عظيم قال تعالى: {وبشر الصابرين} {الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون} {أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون}. فالرجل إذا ظلم بجرح ونحوه فتصدق به كان الجرح مصيبة يكفر بها عنه ويؤجر على صبره وعلى إحسانه إلى الظالم بالعفو عنه؛ فإن الإحسان يكون بجلب منفعة وبدفع مضرة؛ ولهذا سماه الله صدقة. وقد قال تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين} {الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين} فذكر: أنه يحب المحسنين والعافين عن الناس. وتبين بهذا أن هذا من الإحسان. والإحسان ضد الإساءة وهو فعل الحسن سواء كان لازما لصاحبه أو متعديا إلى الغير ومنه قوله: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها}.
فالكاظم للغيظ والعافي عن الناس قد أحسن إلى نفسه وإلى الناس؛ فإن ذلك عمل حسنة مع نفسه ومع الناس ومن أحسن إلى الناس فإلى نفسه. كما يروى عن بعض السلف أنه قال: ما أحسنت إلى أحد وما أسأت إلى أحد وإنما أحسنت إلى نفسي وأسأت إلى نفسي. قال تعالى: {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها} وقال تعالى: {من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها}. ولو لم يكن الإحسان إلى الخلق إحسانا إلى المحسن يعود نفعه عليه لكان فاعلا إثما أو ضررا؛ فإن العمل الذي لا يعود نفعه على فاعله؛ إما حيث لم يكن فيه فائدة وإما شر من العبث؛ إذا ضر فاعله. والعفو عن الظالم أحد نوعي الصدقة: المعروف والإحسان إلى الناس. وجماع ذلك الزكاة. والله سبحانه دائما يأمر بالصلاة والزكاة وهي الصدقة.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه قال: {كل معروف صدقة} وذلك نوعان: أحدهما: اتصال نفع إليه. الثاني: دفع ضرر عنه. فإذا كان المظلوم يستحق عقوبة الظلم ونفسه تدعوه إليه فكف نفسه عن ذلك ودفع عنه ما يدعوه إليه من إضراره فهذا إحسان منه إليه وصدقة عليه والله تعالى يجزي المتصدقين ولا يضيع أجر المحسنين. فكيف يسقط أجر العافي وهذا عام في سائر ما للعبد من الحقوق على الناس؛ ولهذا إذا ذكر الله في كتابه حقوق العباد وذكر فيها العدل ندب فيها إلى الإحسان فإنه سبحانه يأمر بالعدل والإحسان. كما قال تعالى: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون}.
فجعل الصدقة على المدين المعسر بإسقاط الدين عنه خيرا للمتصدق من مجرد إنظاره.
وقال تعالى: {ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا} فسمى إسقاط الدية صدقة. وقال تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى} فجعل العفو عن نصف الصداق الواجب على الزوج بالطلاق قبل الدخول أقرب للتقوى من استيفائه. وعفو المرأة إسقاط نصف الصداق باتفاق الأمة.

وأما عفو الذي بيده عقدة النكاح. فقيل: هو عفو الزوج وأنه تكميل للصداق للمرأة وعلى هذا يكون هذا العفو من جنس ذلك العفو فهذا العفو إعطاء الجميع وذلك العفو إسقاط الجميع. والذي حمل من قال هذا القول عليه؛ أنهم رأوا أن غير المرأة لا يملك إسقاط حقها الواجب كما لا يملك إسقاط سائر ديونها. وقيل: الذي بيده عقدة النكاح. هو ولي المرأة المستقل بالعقد بدون استئذانها:كالأب للبكر الصغيرة وكالسيد للأمة وعلى هذا يكون العفوان من جنس واحد.

ولهذا لم يقل: إلا أن يعفون أو يعفوا هم والخطاب في الآية للأزواج. وقال تعالى حكاية عن لقمان أنه قال لابنه: {وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور} وقال تعالى: {ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل} {إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم} {ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور}. فهناك في قول لقمان ذكر الصبر على المصيبة فقال: {إن ذلك من عزم الأمور} وهنا ذكر الصبر والعفو فقال: {إن ذلك لمن عزم الأمور} وذكر ذلك بعد قوله: {ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل} {إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق} فذكر سبحانه الأصناف الثلاثة في باب الظلم الذي يكون بغير اختيار المظلوم؛ وهم: العادل والظالم والمحسن. فالعادل من انتصر بعد ظلمه وهذا جزاؤه أنه ما عليه من سبيل فلم يكن بذلك ممدوحا ولكن لم يكن بذلك مذموما. وذكر الظالم بقوله: {إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق} فهؤلاء عليهم السبيل للعقوبة والاقتصاص.
وذكر المحسنين فقال: {ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور}. والقرآن فيه جوامع الكلم. وهذا كما ذكر في آخر البقرة أصناف الناس في المعاملات التي تكون باختيار المتعاملين وهم ثلاثة: محسن وظالم وعادل. فالمحسن: هو المتصدق. والظالم: هو المربي. والعادل: هو البائع. فذكر هنا حكم الصدقات وحكم الربا وحكم المبايعات والمداينات. وكما أن من توهم أنه بالعفو يسقط حقه أو ينقص: غالط جاهل ضال؛ بل بالعفو يكون أجره أعظم؛ فكذلك من توهم أنه بالعفو يحصل له ذل ويحصل للظالم عز واستطالة عليه فهو غالط في ذلك.
كما ثبت في الصحيح وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {ثلاث إن كنت لحالفا عليهن: ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا وما نقصت صدقة من مال وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله}. فبين الصادق المصدوق: أن الله لا يزيد العبد بالعفو إلا عزا وأنه لا تنقص صدقة من مال وأنه ما تواضع أحد لله إلا رفعه الله. وهذا رد لما يظنه من يتبع الظن وما تهوى الأنفس من أن العفو يذله والصدقة تنقص ماله والتواضع يخفضه. وفي الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: {ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم خادما له ولا امرأة ولا دابة ولا شيئا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله ولا نيل منه قط شيء فانتقم لنفسه؛ إلا أن تنتهك محارم الله فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء. حتى ينتقم لله}.

وخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن أكمل الأخلاق وقد كان من خلقه أنه لا ينتقم لنفسه وإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله فيعفو عن حقه ويستوفي حق ربه. والناس في الباب أربعة أقسام: منهم من ينتصر لنفسه ولربه وهو الذي يكون فيه دين وغضب. ومنهم من لا ينتصر لا لنفسه ولا لربه وهو الذي فيه جهل وضعف دين. ومنهم من ينتقم لنفسه؛ لا لربه وهم شر الأقسام.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #176  
قديم 26-08-2022, 03:16 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,330
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ آل عمران
المجلد الخامس
الحلقة( 176)

من صــ 111 الى صـ 120


وأما الكامل فهو الذي ينتصر لحق الله ويعفو عن حقه. كما قال {أنس بن مالك: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي: أف قط. وما قال لي لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: لم لا فعلته؟ وكان بعض أهله إذا عتبني على شيء يقول: دعوه لو قضي شيء لكان}. فهذا في العفو عما يتعلق بحقوقه وأما في حدود الله فلما {شفع عنده أسامة بن زيد - وهو الحب ابن الحب وكان هو أحب إليه من أنس وأعز عنده - في امرأة سرقت شريفة أن يعفو عن قطع يدها: غضب وقال: يا أسامة أتشفع في حد من حدود الله إنما أهلك من كان قبلكم. أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد والذي نفس محمد بيده لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها}.

فغضب على أسامة لما شفع في حد لله وعفا عن أنس في حقه. وكذلك لما {أخبره أسامة أنه قتل رجلا بعد أن قال: لا إله إلا الله: قال أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله فما زال يكررها حتى قلت: ليته سكت}. والأحاديث والآثار في استحباب العفو عن الظالم وأن أجره بذلك أعظم كثيرة جدا. وهذا من العلم المستقر في فطر الآدميين. وقد قال تعالى لنبيه: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} فأمره أن يأخذ بالعفو في أخلاق الناس وهو ما يقر من ذلك. قال ابن الزبير: أمر الله نبيه أن يأخذ بالعفو من أخلاق الناس وهذا كقوله: {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو} من أموالهم. هذا من العفو ويأمر بالمعروف ويعرض عن الجاهلين.
(والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون (135)
وقد قيل: في قوله تعالى {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم} قيل: الفاحشة الزنا وقيل: كل كبيرة وظلم النفس المذكور معها.
قيل: هو فاحشة أيضا. وقيل: هي الصغائر. وهذا يوافق قول من قال: الفاحشة هي الكبيرة فيكون الكلام قد تناول الكبيرة والصغيرة ومن قال: الفاحشة الزنا يقول: ظلم النفس يدخل فيه سائر المحرمات وقيل: الفاحشة الزنا وظلم النفس ما دونه من اللمس والقبلة والمعانقة وقيل: هذا هو الفاحشة وظلم النفس المعاصي وقيل الفاحشة فعل وظلم النفس قول. والتحقيق أن " ظلم النفس " جنس عام يتناول كل ذنب وفي الصحيحين {أن أبا بكر قال: يا رسول الله علمني دعاء أدعو به في صلاتي فقال: قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم}
وفي صحيح مسلم وغيره {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في استفتاحه: اللهم أنت ربي وأنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت واهدني لأحسن الأخلاق فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئها فإنه لا يصرف عني سيئها إلا أنت} ". وقد قال أبو البشر وزوجته: {ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين}. وقال موسى: {رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي} وقال ذو النون " يونس ": {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين}. وقالت بلقيس: {رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين}.
وقد قال عن أهل القرى المعذبين: {وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم}. وأما قوله: {اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا} فقد قيل: إن الذنوب هي الصغائر والإسراف هو الكبائر.
و " التحقيق " أن " الذنوب " اسم جنس و " الإسراف " تعدي الحد ومجاوزة القصد كما في لفظ الإثم والعدوان فالذنوب كالإثم والإسراف كالعدوان كما في قوله: {غير باغ ولا عاد} ومجاوزة قدر الحاجة فالذنوب مثل اتباع الهوى بغير هدى من الله. فهذا كله ذنب كالذي يرضى لنفسه ويغضب لنفسه فهو متبع لهواه و " الإسراف " كالذي يغضب لله فيعاقب بأكثر مما أمر الله. والآية في سياق قتال المشركين وما أصابهم يوم أحد. وقد أخبر عمن قبلهم بقوله: {وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين}
وقد قيل على الصحيح المراد به النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يقتل في معركة فقد قتل أنبياء كثيرون {فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين} {وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا} الآية.

فجمعوا بين الصبر والاستغفار وهذا هو المأمور به في المصائب الصبر عليها والاستغفار من الذنوب التي كانت سببها. والقتال كثيرا ما يقاتل الإنسان فيه لغير الله كالذي يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء. فهذا كله ذنوب والذي يقاتل لله قد يسرف فيقتل من لا يستحق القتل ويعاقب الكفار بأشد مما أمر به قال الله تعالى: {ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا} وقال: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما}. وقال: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا} فالإسراف مجاوزة الحد.

(وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين (144)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
أنزل الله سبحانه هذه الآية وما قبلها وما بعدها في غزوة أحد لما انكسر المسلمون مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقتل جماعة من خيار الأمة " وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع طائفة يسيرة حتى خلص إليه العدو فكسروا رباعيته وشجوا وجهه وهشموا البيضة على رأسه وقتل وجرح دونه طائفة من خيار أصحابه لذبهم عنه ونعق الشيطان فيهم: أن محمدا قد قتل.
فزلزل ذلك قلوب بعضهم حتى انهزم طائفة وثبت الله آخرين حتى ثبتوا. وكذلك لما قبض النبي صلى الله عليه وسلم فتزلزلت القلوب واضطرب حبل الدين وغشيت الذلة من شاء الله من الناس حتى خرج عليهم الصديق رضي الله عنها فقال: من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت وقرأ قوله: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين} فكأن الناس لم يسمعوها حتى تلاها الصديق رضي الله عنه فلا يوجد من الناس إلا من يتلوها.
وارتد بسبب موت الرسول صلى الله عليه وسلم ولما حصل لهم من الضعف جماعات من الناس: قوم ارتدوا عن الدين بالكلية. وقوم ارتدوا عن بعضه فقالوا: نصلي ولا نزكي. وقوم ارتدوا عن إخلاص الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
فآمنوا مع محمد بقوم من النبيين الكذابين كمسيلمة الكذاب وطليحة الأسدي وغيرهما فقام إلى جهادهم الشاكرون الذين ثبتوا على الدين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار والطلقاء والأعراب ومن اتبعهم بإحسان الذين قال الله عز وجل فيهم: {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} هم أولئك الذين جاهدوا المنقلبين على أعقابهم الذين لم يضروا الله شيئا. وما أنزل الله في القرآن من آية إلا وقد عمل بها قوم وسيعمل بها آخرون.
[فصل قال الرافضي الثاني عشر قول عمر إن محمدا لم يمت وهذا يدل على قلة علمه والرد عليه]
(فصل)
قال الرافضي: " الثاني عشر: قول عمر: إن محمدا لم يمت، وهذا يدل على قلة علمه، وأمر برجم حامل، فنهاه علي، فقال: لولا علي لهلك عمر. وغير ذلك من الأحكام التي غلط فيها وتلون فيها ".
والجواب أن يقال أولا: ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " «قد كان قبلكم في الأمم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر» " ومثل هذا لم يقله لعلي.
وأنه قال: " «رأيت أني أتيت بقدح فيه لبن، فشربت حتى أني لأرى الري يخرج من أظفاري، ثم ناولت فضلي عمر " قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: العلم».
فعمر كان أعلم الصحابة بعد أبي بكر.

وأما كونه ظن أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت، فهذا كان ساعة، ثم تبين له موته، ومثل هذا يقع كثيرا قد يشك الإنسان في موت ميت ساعة وأكثر، ثم يتبين له موته، وعلي قد تبين له أمور بخلاف ما كان يعتقده فيها أضعاف ذلك، بل ظن كثيرا من الأحكام على خلاف ما هي عليه، ومات على ذلك، ولم يقدح ذلك في إمامته كفتياه في المفوضة التي ماتت ولم يفرض لها، وأمثال ذلك مما هو معروف عند أهل العلم.
وأما الحامل، فإن كان لم يعلم أنها حامل فهو من هذا الباب، فإنه قد يكون أمر برجمها ولم يعلم أنها حامل، فأخبره علي أنها حامل، فقال: لولا أن عليا أخبرني بها لرجمتها، فقتلت الجنين، فهذا هو الذي خاف منه.

وإن قدر أنه كان يظن جواز رجم الحامل، فهذا مما قد يخفى، فإن الشرع قد جاء في موضع بقتل الصبي والحامل تبعا كما إذا حوصر الكفار، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حاصر أهل الطائف ونصب عليهم المنجنيق، وقد يقتل النساء والصبيان.
وفي الصحيح أنه «سئل عن أهل الدار من المشركين يبيتون فيصاب من نسائهم وصبيانهم، فقال: " هم منهم» ".
وقد ثبت عنه أنه نهى عن قتل النساء والصبيان.
وقد اشتبه هذا على طائفة من أهل العلم، فمنعوا من البيات خوفا من قتل النساء والصبيان.
فكذلك قد يشتبه على من ظن جواز ذلك، ويقول: إن الرجم حد واجب على الفور فلا يجوز تأخيره.
لكن السنة فرقت بين ما يمكن تأخيره كالحد وبين ما يحتاج إليه كالبيات والحصار.
وعمر رضي الله عنه كان يراجعه آحاد الناس حتى في مسألة الصداق قالت امرأة له: أمنك نسمع أم من كتاب الله؟ فقال: بل من كتاب الله فقالت إن الله يقول: {وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا} [سورة النساء: 20] فقال: امرأة أصابت ورجل أخطأ.
وكذلك كان يرجع إلى عثمان وغيره وهو أعلم من هؤلاء كلهم.
وصاحب العلم العظيم إذا رجع إلى من هو دونه في بعض الأمور، لم يقدح هذا في كونه أعلم منه، فقد تعلم موسى من الخضر ثلاث مسائل، وتعلم سليمان من الهدهد خبر بلقيس.
وكان الصحابة فيهم من يشير على النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأمور، وكان عمر أكثر الصحابة مراجعة للنبي صلى الله عليه وسلم، ونزل القرآن بموافقته في مواضع: كالحجاب، وأسارى بدر، واتخاذ مقام إبراهيم مصلى، وقوله: {عسى ربه إن طلقكن}، وغير ذلك.
وهذه الموافقة والمراجعة لم تكن لا لعثمان ولا لعلي.
وفي الترمذي: " «لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر» "، " «ولو كان بعدي نبي لكان عمر» ".
(وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين (146)
(فصل)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
ولما سلط الله العدو على الصحابة يوم أحد قال: {أولما أصابتكم مصيبة} الآية وقال: {وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير} الآيات - والأكثرون يقرءون قاتل - والربيون الكثير عند جماهير السلف والخلف: هم الجماعات الكثيرة.

قال ابن مسعود وابن عباس في رواية عنه والفراء: ألوف كثيرة وقال ابن عباس في أخرى ومجاهد وقتادة: جماعات كثيرة وقرئ بالحركات الثلاث في الراء فعلى هذه القراءة فالربيون الذين قاتلوا معه: الذين ما وهنوا وما ضعفوا. وأما على قراءة أبي عمرو وغيره ففيها وجهان: - أحدهما: يوافق الأول أي الربيون يقتلون فما وهنوا أي ما وهن من بقي منهم لقتل كثير منهم أي ما ضعفوا لذلك ولا دخلهم خور ولا ذلوا لعدوهم بل قاموا بأمر الله في القتال حتى أدالهم الله عليهم وصارت كلمة الله هي العليا.
والثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل معه ربيون كثير فما وهن من بقي منهم لقتل النبي صلى الله عليه وسلم وهذا يناسب صرخ الشيطان أن محمدا قد قتل لكن هذا لا يناسب لفظ الآية فالمناسب أنهم مع كثرة المصيبة ما وهنوا ولو أريد أن النبي قتل ومعه ناس لم يخافوا؛ لم يحتج إلى تكثيرهم بل تقليلهم هو المناسب لها؛ فإذا كثروا لم يكن في مدحهم بذلك عبرة.
وأيضا لم يكن فيه حجة على الصحابة؛ فإنهم يوم أحد قليلون والعدو أضعافهم فيقولون ولم يهنوا؛ لأنهم ألوف ونحن قليلون.
وأيضا فقوله: {وكأين من نبي} يقتضي كثرة ذلك وهذا لا يعرف أن أنبياء كثيرين قتلوا في الجهاد.
وأيضا فيقتضي أن المقتولين مع كل واحد منهم ربيون كثير وهذا لم يوجد؛ فإن من قبل موسى من الأنبياء لم يكونوا يقاتلون وموسى وأنبياء بني إسرائيل لم يقتلوا في الغزو؛ بل ولا يعرف نبي قتل في جهاد فكيف يكون هذا كثيرا ويكون جيشه كثيرا والله سبحانه أنكر على من ينقلب سواء كان النبي مقتولا أو ميتا فلم يذمهم إذا مات أو قتل على الخوف بل على الانقلاب على الأعقاب ولهذا تلاها الصديق رضي الله عنه بعد موته صلى الله عليه وسلم فكأن لم يسمعوها قبل ذلك.
ثم ذكر بعدها معنى آخر: وهو أن من كان قبلكم كانوا يقاتلون فيقتل منهم خلق كثير. وهم لا يهنون فيكون ذكر الكثرة مناسبا لأن من قتل مع الأنبياء كثير وقتل الكثير من الجنس يقتضي الوهن فما وهنوا وإن كانوا كثيرين ولو وهنوا دل على ضعف إيمانهم ولم يقل هنا: ولم ينقلبوا على أعقابهم فلو كان المراد أن نبيهم قتل لقال فانقلبوا على أعقابهم لأنه هو الذي أنكره إذا مات النبي أو قتل فأنكر سبحانه شيئين: الارتداد إذا مات أو قتل والوهن والضعف والاستكانة لما أصابهم في سبيل الله من استيلاء العدو؛ ولهذا قال: {فما وهنوا لما أصابهم} إلخ. ولم يقل: فما وهنوا لقتل النبي ولو قتل وهم أحياء لذكر ما يناسب ذلك ولم يقل: {فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله} ومعلوم أن ما يصيب في سبيل الله في عامة الغزوات لا يكون قتل نبي.

وأيضا فكون النبي قاتل معه أو قتل معه ربيون كثير: لا يستلزم أن يكون النبي معهم في الغزاة بل كل من اتبع النبي وقاتل على دينه فقد قاتل معه وكذلك كل من قتل على دينه فقد قتل معه وهذا الذي فهم الصحابة؛ فإن أعظم قتالهم كان بعد وفاته صلى الله عليه وسلم حتى فتحوا البلاد شاما ومصرا وعراقا ويمنا وعربا وعجما وروما ومغربا ومشرقا وحينئذ فظهر كثرة من قتل معه فإن الذين قاتلوا وأصيبوا وهم على دين الأنبياء كثيرون ويكون في هذه الآية عبرة لكل المؤمنين إلى يوم القيامة فإنهم كلهم يقاتلون مع النبي صلى الله عليه وسلم على دينه وإن كان قد مات والصحابة الذين يغزون في السرايا والنبي ليس معهم: كانوا معه يقاتلون وهم داخلون في قوله: {محمد رسول الله والذين معه} الآية وفي قوله: {والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم} الآية.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #177  
قديم 26-08-2022, 03:24 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,330
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ آل عمران
المجلد الخامس
الحلقة( 177)

من صــ 121 الى صـ 130



ليس من شرط من يكون مع المطاع أن يكون مشاهدا للمطاع ناظرا إليه. وقد قيل في: {ربيون} هنا: إنهم العلماء فلما جعل هؤلاء هذا كلفظ الرباني وعن ابن زيد هم الأتباع كأنه جعلهم المربوبين. والأول أصح من وجوه: -
أحدها: أن الربانيين عين الأحبار وهم الذين يربون الناس وهم أئمتهم في دينهم ولا يكون هؤلاء إلا قليلا.
الثاني: أن الأمر بالجهاد والصبر لا يختص بهم. وأصحاب الأنبياء لم يكونوا كلهم ربانيين وإن كانوا قد أعطوا علما ومعهم الخوف من الله عز وجل.
الثالث: أن استعمال لفظ الرباني في هذا ليس معروفا في اللغة.
الرابع: أن استعمال لفظ الربي في هذا ليس معروفا في اللغة بل المعروف فيها هو الأول والذين قالوه قالوا: هو نسبة للرب بلا نون والقراءة المشهورة (ربي بالكسر وما قالوه إنما يتوجه على من قرأه بنصب الراء وقد قرئ بالضم فعلم أنها لغات.

الخامس: أن الله تعالى يأمر بالصبر والثبات كل من يأمره بالجهاد سواء كان من الربانيين أو لم يكن.
السادس: أنه لا مناسبة في تخصيص هؤلاء بالذكر وإنما المناسب ذكرهم في مثل قوله: {لولا ينهاهم الربانيون والأحبار} الآية. وفي قوله: {ولكن كونوا ربانيين} فهناك ذكرهم به مناسب.
السابع: قيل: إن الرباني منسوب إلى الرب فزيادة الألف والنون كاللحياني وقيل إلى تربيته الناس وقيل إلى ربان السفينة وهذا أصح فإن الأصل عدم الزيادة في النسبة لأنهم منسوبون إلى التربية وهذه تختص بهم وأما نسبتهم إلى الرب فلا اختصاص لهم بذلك بل كل عبد له فهو منسوب إليه إما نسبة عموم أو خصوص ولم يسم الله أولياءه المتقين ربانيين ولا سمى به رسله وأنبياءه فإن الرباني من يرب الناس كما يرب الرباني السفينة ولهذا كان الربانيون يذمون تارة ويمدحون أخرى ولو كانوا منسوبين إلى الرب لم يذموا قط وهذا هو الوجه الثامن: أنها إن جعلت مدحا فقد ذموا في مواضع وإن لم تكن مدحا لم يكن لهم خاصة يمتازون بها من جهة المدح وإذا كان منسوبا إلى رباني السفينة بطل قول من يجعل الرباني منسوبا إلى الرب فنسبة الربيين إلى الرب أولى بالبطلان.
التاسع: أنه إذا قدر أنهم منسوبون إلى الرب: فلا تدل النسبة على أنهم علماء نعم تدل على إيمان وعبادة وتأله وهذا يعم جميع المؤمنين فكل من عبد الله وحده لا يشرك به شيئا فهو متأله عارف بالله والصحابة كلهم كذلك ولم يسموا ربانيين ولا ربيين وإنما جاء أن ابن الحنفية قال لما مات ابن عباس: اليوم مات رباني هذه الأمة وذلك لكونه يؤدبهم بما آتاه الله من العلم والخلفاء أفضل منهم ولم يسموا ربانيين وإن كانوا هم الربانيين وقال إبراهيم: كان علقمة من الربانيين ولهذا قال مجاهد: هم الذين يربون الناس بصغار العلم قبل كباره فهم أهل الأمر والنهي والإخبار يدخل فيه من أخبر بالعلم ورواه عن غيره وحدث به وإن لم يأمر أو ينه وذلك هو المنقول عن السلف في الرباني نقل عن علي قال: " هم الذين يغذون الناس بالحكمة ويربونهم عليها " وعن ابن عباس قال: " هم الفقهاء المعلمون ".
قلت: أهل الأمر والنهي هم الفقهاء المعلمون. وقال قتادة وعطاء: هم الفقهاء العلماء الحكماء.
قال ابن قتيبة: واحدهم رباني وهم العلماء المعلمون. قال أبو عبيد: أحسب الكلمة عبرانية أو سريانية وذلك أن أبا عبيد زعم أن العرب لا تعرف الربانيين. قلت: اللفظة عربية منسوبة إلى ربان السفينة الذي ينزلها ويقوم لمصلحتها ولكن العرب في جاهليتهم لم يكن لهم ربانيون لأنهم لم يكونوا على شريعة منزلة من الله عز وجل.

(ياأيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير (156)

سئل:
عمن سمع رجلا يقول: لو كنت فعلت كذا لم يجر عليك شيء من هذا. فقال له رجل آخر سمعه: هذه الكلمة قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنها وهي كلمة تؤدي قائلها إلى الكفر فقال رجل آخر: قال النبي صلى الله عليه وسلم في قصة موسى مع الخضر: {يرحم الله موسى وددنا لو كان صبر حتى يقص الله علينا من أمرهما} واستدل الآخر بقوله صلى الله عليه وسلم {المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف} - إلى أن قال: - {فإن كلمة لو تفتح عمل الشيطان} فهل هذا ناسخ لهذا أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، جميع ما قاله الله ورسوله حق و " لو " تستعمل على وجهين: (أحدهما على وجه الحزن على الماضي والجزع من المقدور فهذا هو الذي نهى عنه كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم}

وهذا هو الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: {وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان} أي: تفتح عليك الحزن والجزع وذلك بضر ولا ينفع بل اعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك كما قال تعالى: {ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه} قالوا: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم.
(والوجه الثاني أن يقال: " لو " لبيان علم نافع كقوله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} ولبيان محبة الخير وإرادته كقوله: " لو أن لي مثل ما لفلان لعملت مثل ما يعمل " ونحوه جائز.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم {وددت لو أن موسى صبر ليقص الله علينا من خبرهما} هو من هذا الباب كقوله: {ودوا لو تدهن فيدهنون} فإن نبينا صلى الله عليه وسلم أحب أن يقص الله خبرهما فذكرهما لبيان محبته للصبر المترتب عليه فعرفه ما يكون لما في ذلك من المنفعة ولم يكن في ذلك جزع ولا حزن ولا ترك لما يحب من الصبر على المقدور.
وقوله: {وددت لو أن موسى صبر} قال النحاة: تقدير وددت أن موسى صبر. وكذلك قوله: {ودوا لو تدهن فيدهنون} تقديره ودوا أن تدهن وقال بعضهم: بل هي " لو " شرطية وجوابها محذوف والمعنى على التقديرين: معلوم وهو محبة ذلك الفعل وإرادته ومحبة الخير وإرادته محمود والحزن والجزع وترك الصبر مذموم والله أعلم.
(فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين (159) إ
فصل:
لا غنى لولي الأمر عن المشاورة؛ فإن الله تعالى أمر بها نبيه صلى الله عليه وسلم فقال تعالى {فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين} وقد روي {عن أبي هريرة رضي الله عنه قال لم يكن أحد أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم}. وقد قيل: إن الله أمر بها نبيه لتأليف قلوب أصحابه وليقتدي به من بعده وليستخرج بها منهم الرأي فيما لم ينزل فيه وحي: من أمر الحروب والأمور الجزئية وغير ذلك فغيره - صلى الله عليه وسلم - أولى بالمشورة. وقد أثنى الله على المؤمنين بذلك في قوله: {وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون} {والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون} {والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون}.
وإذا استشارهم فإن بين له بعضهم ما يجب اتباعه من كتاب الله أو سنة رسوله أو إجماع المسلمين فعليه اتباع ذلك ولا طاعة لأحد في خلاف ذلك وإن كان عظيما في الدين والدنيا. قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}.
وإن كان أمرا قد تنازع فيه المسلمون فينبغي أن يستخرج من كل منهم رأيه ووجه رأيه فأي الآراء كان أشبه بكتاب الله وسنة رسوله عمل به كما قال تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا}.

(لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين (164)

سئل شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
عن حسن إرادة الله تعالى لخلق الخلق وإنشاء الأنام وهل يخلق لعلة أو لغير علة؟ فإن قيل لا لعلة فهو عبث - تعالى الله عنه - وإن قيل لعلة فإن قلتم إنها لم تزل لزم أن يكون المعلول لم يزل وإن قلتم إنها محدثة لزم أن يكون لها علة والتسلسل محال.
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، هذه المسألة كبيرة من أجل المسائل الكبار التي تكلم فيها الناس وأعظمها شعوبا وفروعا وأكثرها شبها ومحارات؛ فإن لها تعلقا بصفات الله تعالى وبأسمائه وأفعاله وأحكامه من الأمر والنهي والوعد والوعيد وهي داخلة في خلقه وأمره فكل ما في الوجود متعلق بهذه المسألة فإن المخلوقات جميعها متعلقة بها وهي متعلقة بالخالق سبحانه وكذلك الشرائع كلها: الأمر والنهي والوعد والوعيد متعلقة بها وهي متعلقة بمسائل القدر والأمر وبمسائل الصفات والأفعال وهذه جوامع علوم الناس فعلم الفقه الذي هو الأمر والنهي متعلق بها.
وقد تكلم الناس في " تعليل الأحكام الشرعية والأمر والنهي " كالأمر بالتوحيد والصدق والعدل والصلاة والزكاة والصيام والحج والنهي عن الشرك والكذب والظلم والفواحش هل أمر بذلك لحكمة ومصلحة وعلة اقتضت ذلك؟ أم ذلك لمحض المشيئة وصرف الإرادة؟ وهل علل الشرع بمعنى الداعي والباعث؟ أو بمعنى الأمارة والعلامة؟
وهل يسوغ في الحكمة أن ينهى الله عن التوحيد والصدق والعدل ويأمر بالشرك والكذب والظلم أم لا؟ وتكلم الناس في تنزيه الله تعالى عن الظلم هل هو منزه عنه مع قدرته عليه أم الظلم ممتنع لنفسه لا يمكن وقوعه؟ وتكلموا في محبة الله ورضاه وغضبه وسخطه هل هي بمعنى إرادته أو هي الثواب والعقاب المخلوق أم هذه صفات أخص من الإرادة؟ وتنازعوا فيما وقع في الأرض من الكفر والفسوق والعصيان هل يريده ويحبه ويرضاه كما يريد ويحب سائر ما يحدث؟
أم هو واقع بدون قدرته ومشيئته وهو لا يقدر أن يهدي ضالا ولا يضل مهتديا؟ أم هو واقع بقدرته ومشيئته؟ ولا يكون في ملكه ما لا يريد وله في جميع خلقه حكمة بالغة وهو يبغضه ويكرهه ويمقت فاعله ولا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر ولا يريده الإرادة الدينية المتضمنة لمحبته ورضاه وإن أراده الإرادة الكونية التي تتناول ما قدره وقضاه؟ وفروع هذا الأصل كثيرة لا يحتمل هذا الموضع استقصاءها.
ولأجل تجاذب هذا الأصل ووقوع الاشتباه فيه صار الناس فيه إلى التقديرات الثلاثة المذكورة في سؤال السائل وكل تقدير قال به طوائف من بني آدم من المسلمين وغير المسلمين.

فالتقدير الأول: هو قول من يقول خلق المخلوقات وأمر بالمأمورات لا لعلة ولا لداع ولا باعث بل فعل ذلك لمحض المشيئة وصرف الإرادة وهذا قول كثير ممن يثبت القدر وينتسب إلى السنة من أهل الكلام والفقه وغيرهم. وقد قال بهذا طوائف من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم وهو قول الأشعري وأصحابه وقول كثير من " نفاة القياس في الفقه " الظاهرية كابن حزم وأمثاله. ومن حجة هؤلاء أنه لو خلق الخلق لعلة لكان ناقصا بدونها مستكملا بها؛ فإنه إما أن يكون وجود تلك العلة وعدمها بالنسبة إليه سواء أو يكون وجودها أولى به. فإن كان الأول امتنع أن يفعل لأجلها وإن كان الثاني ثبت أن وجودها أولى به فيكون مستكملا بها فيكون قبلها ناقصا.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #178  
قديم 26-08-2022, 03:35 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,330
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ آل عمران
المجلد الخامس
الحلقة( 178)

من صــ 131 الى صـ 140





ومن حجتهم ما ذكره السائل من أن العلة إن كانت قديمة وجب تقديم المعلول؛ لأن العلة الغائية وإن كانت متقدمة على المعلول في العلم والقصد - كما يقال: أول الفكرة آخر العمل وأول البغية آخر الدرك. ويقال إن العلة الغائية بها صار الفاعل فاعلا - فلا ريب أنها متأخرة في الوجود عنه؛ فمن فعل فعلا لمطلوب يطلبه بذلك الفعل كان حصول المطلوب بعد الفعل فإذا قدر أن ذلك المطلوب الذي هو العلة قديما كان الفعل قديما بطريق الأولى. فلو قيل: إنه يفعل لعلة قديمة لزم أن لا يحدث شيء من الحوادث وهو خلاف المشاهدة وإن قيل إنه فعل لعلة حادثة لزم محذوران:
أحدهما: أن يكون محلا للحوادث؛ فإن العلة إذا كانت منفصلة عنه فإن لم يعد إليه منها حكم امتنع أن يكون وجودها أولى به من عدمها وإذا قدر أنه عاد إليه منها حكم كان ذلك حادثا فتقوم به الحوادث.
المحذور الثاني أن ذلك يستلزم التسلسل من وجهين
أحدهما: أن تلك العلة الحادثة المطلوبة بالفعل هي أيضا مما يحدثه الله تعالى بقدرته ومشيئته فإن كانت لغير علة لزم العبث كما تقدم وإن كانت لعلة عاد التقسيم فيها فإذا كان كل ما أحدثه أحدثه لعلة والعلة مما أحدثه لزم تسلسل الحوادث

الثاني: أن تلك العلة إما أن تكون مرادة لنفسها أو لعلة أخرى فإن كانت مرادة لنفسها امتنع حدوثها لأن ما أراده الله تعالى لذاته وهو قادر عليه لا يؤخر إحداثه وإن كانت مرادة لغيرها فالقول في ذلك الغير كالقول فيها ويلزم التسلسل. فهذا ونحوه من حجج من ينفي تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه.
والتقدير الثاني: قول من يجعل العلة الغائية قديمة كما يجعل العلة الفاعلية قديمة كما يقول ذلك طوائف من المسلمين كما سيأتي بيانه وكما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة القائلين بقدم العالم، وهؤلاء أصل قولهم أن المبدع للعالم علة تامة تستلزم معلولها لا يجوز أن يتأخر عنها معلولها. وأعظم حججهم قولهم: إن جميع الأمور المعتبرة في كونه فاعلا إن كانت موجودة في الأزل لزم وجود المفعول في الأزل لأن العلة التامة لا يتأخر عنها معلولها فإنه لو تأخر لم تكن جميع شروط الفعل وجدت في الأزل فإنا لا نعني بالعلة التامة إلا ما يستلزم المعلول فإذا قدر أنه تخلف عنها المعلول لم تكن تامة وإن لم تكن العلة التامة - التي هي جميع الأمور المعتبرة في الفعل وهي المقتضي التام لوجود الفعل وهي جميع شروط الفعل التي يلزم من وجودها وجود الفعل إن لم يكن جميعها في الأزل - فلا بد إذا وجد المفعول بعد ذلك من تجدد سبب حادث وإلا لزم ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح وإذا كان هناك سبب حادث فالقول في حدوثه كالقول في الحادث الأول ويلزم التسلسل.
قالوا فالقول بانتفاء العلة التامة المستلزمة للمفعول يوجب إما التسلسل وإما الترجيح بلا مرجح. ثم أكثر هؤلاء يثبتون علة غائية للفعل وهي بعينها الفاعلية ولكنهم متناقضون فإنهم يثبتون له العلة الغائية ويثبتون لفعله العلة الغائية ويقولون مع هذا ليس له إرادة بل هو موجب بالذات لا فاعل بالاختيار وقولهم باطل من وجوه كثيرة.
منها أن يقال: هذا القول يستلزم أن لا يحدث شيء وأن كل ما حدث حدث بغير إحداث محدث. ومعلوم أن بطلان هذا أبين من بطلان التسلسل وبطلان الترجيح بلا مرجح وذلك أن العلة التامة المستلزمة لمعلولها يقترن بها معلولها ولا يجوز أن يتأخر عنها شيء من معلولها فكل ما حدث من الحوادث لا يجوز أن يحدث عن هذه العلة التامة وليس هناك ما تصدر عنه الممكنات سوى الواجب بنفسه الذي سماه هؤلاء علة تامة فإذا امتنع صدور الحوادث عنه وليس هناك ما يحدثها غيره لزم أن تحدث بلا محدث.
(وأيضا فلو قدر أن غيره أحدثها فإن كان واجبا بنفسه كان القول فيه كالقول في الواجب الأول وأصل قولهم: إن الواجب بنفسه علة تامة تستلزم مقارنة معلوله له فلا يجوز أن يصدر على قولهم عن العلة التامة حادث لا بواسطة ولا بغير واسطة؛ لأن تلك الواسطة إن كانت من لوازم وجوده كانت قديمة معه فامتنع صدور الحوادث عنها وإن كانت حادثة كان القول فيها كالقول في غيرها.
وإن قدر أن المحدث للحوادث غير واجب بنفسه كان ممكنا مفتقرا إلى موجب يوجب به. ثم إن قيل أنه محدث كان من الحوادث وإن قيل أنه قديم كان له علة تامة مستلزمة له وامتنع حينئذ حدوث الحوادث عنه فإن الممكن لا يوجد هو ولا شيء من صفاته وأفعاله إلا عن الواجب بنفسه؛ فإذا قدر حدوث الحوادث عن ممكن قديم معلول لعلة قديمة قيل: هل حدث فيه سبب يقتضي الحدوث أم لا؟ فإن قيل: لم يحدث سبب لزم الترجيح بلا مرجح وإن قيل: حدث سبب لزم التسلسل كما تقدم.
(الوجه الثاني الذي يبين بطلان قولهم أن يقال: مضمون الحجة أنه إذا لم يكن ثم علة قديمة لزم التسلسل أو الترجيح بلا مرجح والتسلسل عندكم جائز فإن أصل قولهم إن هذه الحوادث متسلسلة شيئا بعد شيء وإن حركات الفلك توجب استعداد القوابل لأن تفيض عليها الصور الحادثة من العلة القديمة سواء قلتم: هي العقل الفعال أو هي الواجب الذي يصدر عنه بتوسط العقول أو غير ذلك من الوسائط وإذا كان التسلسل جائزا عندكم لم يمتنع حدوث الحوادث عن غير علة موجبة للمعلول وإن لزم التسلسل؛ بل هذا خير في الشرع والعقل من قولكم. وذلك أن الشرع أخبر أن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام وهذا مما اتفق عليه أهل الملل: المسلمون واليهود والنصارى.

فإن قيل: إنه خلقها بسبب حادث قبل ذلك كان خيرا من قولكم إنها قديمة أزلية معه في الشرع وكان أولى في العقل؛ لأن العقل ليس فيه ما يدل على قدم هذه الأفلاك حتى يعارض الشرع وهذه الحجة العقلية إنما تقتضي أنه لا يحدث شيء إلا بسبب حادث فإذا قيل: إن السموات والأرض خلقها الله تعالى بما حدث قبل ذلك لم يكن في حجتكم العقلية ما يبطل هذا.

(الوجه الثالث أن يقال: حدوث حادث بعد حادث بلا نهاية إما أن يكون ممكنا في العقل أو ممتنعا؛ فإن كان ممتنعا في العقل لزم أن الحوادث جميعها لها أول كما يقول ذلك من يقوله من أهل الكلام وبطل قولهم بقدم حركات الأفلاك وإن كان ممكنا أمكن أن يكون حدوث ما أحدثه الله تعالى كالسموات والأرض موقوفا على حوادث قبل ذلك كما تقولون أنتم فيما يحدث في هذا العالم من الحيوان والنبات والمعادن والمطر والسحاب وغير ذلك فيلزم فساد حجتكم على التقديرين.
ثم يقال: إما أن تثبتوا لمبدع العالم حكمة وغاية مطلوبة وإما أن لا تثبتوا؛ فإن لم تثبتوا بطل قولكم بإثبات العلة الغائية وبطل ما تذكرونه من حكمة الباري تعالى في خلق الحيوان وغير ذلك من المخلوقات
و (أيضا فالوجود يبطل هذا القول؛ فإن الحكمة الموجودة في الوجود أمر يفوق العد والإحصاء كإحداثه سبحانه لما يحدثه من نعمته ورحمته وقت حاجة الخلق إليه كإحداث المطر وقت الشتاء بقدر الحاجة وإحداثه للإنسان الآلات التي يحتاج إليها بقدر حاجته وأمثال ذلك مما ليس هذا موضع بسطه وإن أثبتم له حكمة مطلوبة - وهي باصطلاحكم العلة الغائية - لزمكم أن تثبتوا له المشيئة والإرادة بالضرورة فإن القول: بأن الفاعل فعل كذا لحكمة كذا بدون كونه مريدا لتلك الحكمة المطلوبة جمع بين النقيضين؛ وهؤلاء المتفلسفة من أكثر الناس تناقضا ولهذا يجعلون العلم هو العالم، والعلم هو الإرادة والإرادة هي القدرة وأمثال ذلك كما قد بسط الكلام عليهم في غير هذا الموضع.
وأما التقدير الثالث: وهو أنه فعل المفعولات وأمر بالمأمورات لحكمة محمودة فهذا قول أكثر الناس من المسلمين وغير المسلمين وقول طوائف من أصحاب أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد وغيرهم وقول طوائف من أهل الكلام من المعتزلة والكرامية والمرجئة وغيرهم وقول أكثر أهل الحديث والتصوف وأهل التفسير وقول أكثر قدماء الفلاسفة وكثير من متأخريهم كأبي البركات وأمثاله؛ لكن هؤلاء على أقوال.

(منهم من قال: إن الحكمة المطلوبة مخلوقة منفصلة عنه أيضا؛ كما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة والشيعة ومن وافقهم؛ وقالوا: الحكمة في ذلك إحسانه إلى الخلق؛ والحكمة في الأمر تعويض المكلفين بالثواب؛ وقالوا إن فعل الإحسان إلى الغير حسن محمود في العقل؛ فخلق الخلق لهذه الحكمة من غير أن يعود إليه من ذلك حكم؛ ولا قام به فعل ولا نعت.

فقال لهم الناس: أنتم متناقضون في هذا القول لأن الإحسان إلى الغير محمود لكونه يعود منه على فاعله حكم يحمد لأجله؛ إما لتكميل نفسه بذلك؛ وإما لقصده الحمد والثواب بذلك؛ وإما لرقة وألم يجده في نفسه يدفع بالإحسان ذلك الألم وإما لالتذاذه وسروره وفرحه بالإحسان؛ فإن النفس الكريمة تفرح وتسر وتلتذ بالخير الذي يحصل منها إلى غيرها فالإحسان إلى الغير محمود لكون المحسن يعود إليه من فعله هذه الأمور حكم يحمد لأجله أما إذا قدر أن وجود الإحسان وعدمه بالنسبة إلى الفاعل سواء لم يعلم أن مثل هذا الفعل يحسن منه بل مثل هذا يعد عبثا في عقول العقلاء وكل من فعل فعلا ليس فيه لنفسه لذة ولا مصلحة ولا منفعة بوجه من الوجوه لا عاجلة ولا آجلة كان عابثا ولم يكن محمودا على هذا وأنتم عللتم أفعاله فرارا من العبث فوقعتم في العبث؛ فإن العبث هو الفعل الذي ليس فيه مصلحة ولا منفعة ولا فائدة تعود على الفاعل؛ ولهذا لم يأمر الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من العقلاء أحدا بالإحسان إلى غيره ونفعه ونحو ذلك إلا لما له في ذلك من المنفعة والمصلحة وإلا فأمر الفاعل بفعل لا يعود إليه منه لذة ولا سرور ولا منفعة ولا فرح بوجه من الوجوه لا في العاجل ولا في الآجل لا يستحسن من الآمر.
ونشأ من هذا الكلام نزاع بين المعتزلة وغيرهم ومن وافقهم في " مسألة التحسين والتقبيح العقلي " فأثبت ذلك المعتزلة وغيرهم ومن وافقهم من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وأهل الحديث وغيرهم وحكوا ذلك عن أبي حنيفة نفسه ونفى ذلك الأشعرية ومن وافقهم من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم واتفق الفريقان على أن الحسن والقبح إذا فسرا بكون الفعل نافعا للفاعل ملائما له وكونه ضارا للفاعل منافرا له أنه يمكن معرفته بالعقل كما يعرف بالشرع وظن من ظن من هؤلاء أن الحسن والقبح المعلوم بالشرع خارج عن هذا وهذا ليس كذلك بل جميع الأفعال التي أوجبها الله تعالى وندب إليها هي نافعة لفاعليها ومصلحة لهم.
وجميع الأفعال التي نهى الله عنها هي ضارة لفاعليها ومفسدة في حقهم والحمد والثواب المترتب على طاعة الشارع نافع للفاعل ومصلحة له والذم والعقاب المترتب على معصيته ضار للفاعل ومفسدة له.
والمعتزلة أثبتت الحسن في أفعال الله تعالى لا بمعنى حكم يعود إليه من أفعاله. ومنازعوهم لما اعتقدوا أن لا حسن ولا قبح في الفعل إلا ما عاد إلى الفاعل منه حكم نفوا ذلك وقالوا: القبيح في حق الله تعالى هو الممتنع لذاته وكل ما يقدر ممكنا من الأفعال فهو حسن؛ إذ لا فرق بالنسبة إليه عندهم بين مفعول ومفعول وأولئك أثبتوا حسنا وقبحا لا يعود إلى الفاعل منه حكم يقوم بذاته إذ عندهم لا يقوم بذاته لا وصف ولا فعل ولا غير ذلك وإن كانوا قد يتناقضون.
ثم أخذوا يقيسون ذلك على ما يحسن من العبد ويقبح فجعلوا يوجبون على الله سبحانه ما يوجبون على العبد ويحرمون عليه من جنس ما يحرمون على العبد ويسمون ذلك العدل والحكمة مع قصور عقلهم عن معرفة حكمته وعدله ولا يثبتون له مشيئة عامة ولا قدرة تامة فلا يجعلونه على كل شيء قديرا ولا يقولون " ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن " ولا يقرون بأنه خالق كل شيء ويثبتون له من الظلم ما نزه نفسه عنه سبحانه فإنه قال {ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما}

أي لا يخاف أن يظلم فيحمل عليه من سيئات غيره ولا يهضم من حسناته. وقال تعالى {ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد} وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث البطاقة الذي رواه الإمام أحمد والترمذي وغيرهما {يجاء برجل من أمتي يوم القيامة فتنشر له تسعة وتسعون سجلا كل سجل مد البصر فيقال له: هل تنكر من هذا شيئا؟. فيقول: لا يا رب فيقال له: ألك عذر ألك حسنة؟ فيقول لا يا رب فيقول: بلى إن لك عندنا حسنة وإنه لا ظلم عليك اليوم قال فتخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله فتوضع البطاقة في كفة والسجلات في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة}. فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يظلم بل يثاب على ما أتى به من التوحيد كما قال تعالى {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره} {ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره}.

وجمهور هؤلاء الذين يسمون أنفسهم " عدلية " يقولون: من فعل كبيرة واحدة أحبطت جميع حسناته وخلد في نار جهنم. فهذا الذي سماه الله ورسوله ظلما يصفون الله به مع دعواهم تنزيهه عن الظلم ويسمون تخصيصه من يشاء برحمته وفضله وخلقه ما خلقه لما له فيه من الحكمة البالغة ظلما. والكلام في هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع ولكن نبهنا على مجامع أصول الناس في هذا المقام.
وهؤلاء المعتزلة ومن وافقهم من الشيعة يوجبون على الله سبحانه أن يفعل بكل عبد ما هو الأصلح له في دينه وتنازعوا في وجوب الأصلح في دنياه ومذهبهم أنه لا يقدر أن يفعل مع مخلوق من المصلحة الدينية غير ما فعل ولا يقدر أن يهدي ضالا ولا يضل مهتديا.
وأما سائر الطوائف الذين يقولون بالتعليل من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية وأهل الكلام كالكرامية وغيرهم والمتفلسفة أيضا فلا يوافقونهم على هذا؛ بل يقولون إنه يفعل ما يفعل سبحانه لحكمة يعلمها سبحانه وتعالى وقد يعلم العباد أو بعض العباد من حكمته ما يطلعهم عليه وقد لا يعلمون ذلك. والأمور العامة التي يفعلها تكون لحكمة عامة ورحمة عامة كإرسال محمد صلى الله عليه وسلم فإنه كما قال تعالى {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} فإن إرساله كان من أعظم النعمة على الخلق وفيه أعظم حكمة للخالق ورحمة منه لعباده كما قال تعالى {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة} وقال تعالى
{وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين} وقال {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين} وقال تعالى {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا} قالوا هو محمد. صلى الله عليه وسلم فإذا قال قائل: فقد تضرر برسالته طائفة من الناس كالذين كذبوه من المشركين وأهل الكتاب كان عن هذا جوابان:

أحدهما أنه نفعهم بحسب الإمكان فإنه أضعف شرهم الذي كانوا يفعلونه لولا الرسالة بإظهار الحجج والآيات التي زلزلت ما في قلوبهم وبالجهاد والجزية التي أخافتهم وأذلتهم حتى قل شرهم ومن قتله منهم مات قبل أن يطول عمره في الكفر فيعظم كفره فكان ذلك تقليلا لشره والرسل - صلوات الله عليهم -

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #179  
قديم 26-08-2022, 03:44 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,330
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ آل عمران
المجلد الخامس
الحلقة( 179)

من صــ 141 الى صـ 150



بعثوا بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان. (والجواب الثاني أن ما حصل من الضرر أمر مغمور في جنب ما حصل من النفع كالمطر الذي عم نفعه إذا خرب به بعض البيوت أو احتبس به بعض المسافرين والمكتسبين كالقصارين ونحوهم وما كان نفعه ومصلحته عامة كان خيرا مقصودا ورحمة محبوبة وإن تضرر به بعض الناس. وهذا الجواب أجاب به طوائف من المسلمين وأهل الكلام والفقه وغيرهم من الحنفية والحنبلية وغيرهم ومن الكرامية والصوفية وهو جواب كثير من المتفلسفة. وقال هؤلاء: جميع ما يحدثه في الوجود من الضرر فلا بد فيه من حكمة قال الله تعالى {صنع الله الذي أتقن كل شيء} وقال
{الذي أحسن كل شيء خلقه} والضرر الذي يحصل به حكمة مطلوبة لا يكون شرا مطلقا وإن كان شرا بالنسبة إلى من تضرر به؛ ولهذا لا يجيء في كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم إضافة الشر وحده إلى الله؛ بل لا يذكر الشر إلا على أحد وجوه " ثلاثة " إما أن يدخل في عموم المخلوقات فإنه إذا دخل في العموم أفاد عموم القدرة والمشيئة والخلق وتضمن ما اشتمل عليه من حكمة تتعلق بالعموم وإما أن يضاف إلى السبب الفاعل وإما أن يحذف فاعله. فالأول كقوله تعالى {الله خالق كل شيء} ونحو ذلك ومن هذا الباب أسماء الله المقترنة كالمعطي المانع والضار النافع المعز المذل الخافض الرافع فلا يفرد الاسم المانع عن قرينه ولا الضار عن قرينه؛ لأن اقترانهما يدل على العموم وكل ما في الوجود من رحمة ونفع ومصلحة فهو من فضله تعالى وما في الوجود من غير ذلك فهو من عدله فكل نعمة منه فضل وكل نقمة منه عدل كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
{يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض؟ فإنه لم يغض ما في يمينه وبيده الأخرى القسط يخفض ويرفع} فأخبر أن يده اليمنى فيها الإحسان إلى الخلق ويده الأخرى فيها العدل والميزان الذي به يخفض ويرفع فخفضه ورفعه من عدله وإحسانه إلى خلقه من فضله. وأما حذف الفاعل فمثل قول الجن {وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا} وقوله تعالى في سورة الفاتحة {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} ونحو ذلك.

وإضافته إلى السبب كقوله {من شر ما خلق} وقوله {فأردت أن أعيبها} مع قوله {فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما} وقوله تعالى {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} وقوله {ربنا ظلمنا أنفسنا} وقوله تعالى {أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم} وأمثال ذلك.

ولهذا ليس من أسماء الله الحسنى اسم يتضمن الشر وإنما يذكر الشر في مفعولاته كقوله {نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم} {وأن عذابي هو العذاب الأليم} وقوله {إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم} وقوله {اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم} وقوله {إن بطش ربك لشديد} {إنه هو يبدئ ويعيد} {وهو الغفور الودود} فبين سبحانه أن بطشه شديد وأنه هو الغفور الودود.
واسم " المنتقم " ليس من أسماء الله الحسنى الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما جاء في القرآن مقيدا كقوله تعالى {إنا من المجرمين منتقمون} وقوله {إن الله عزيز ذو انتقام} والحديث الذي في عدد الأسماء الحسنى الذي يذكر فيه المنتقم فذكر في سياقه {البر التواب المنتقم العفو الرءوف} ليس هو عند أهل المعرفة بالحديث من كلام النبي صلى الله عليه وسلم بل هذا ذكره الوليد بن مسلم عن سعيد بن عبد العزيز أو عن بعض شيوخه؛ ولهذا لم يروه أحد من أهل الكتب المشهورة إلا الترمذي رواه عن طريق الوليد بن مسلم بسياق ورواه غيره باختلاف في الأسماء وفي ترتيبها: يبين أنه ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
وسائر من روى هذا الحديث عن أبي هريرة ثم عن الأعرج ثم عن أبي الزناد لم يذكروا أعيان الأسماء؛ بل ذكروا قوله صلى الله عليه وسلم {إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة} وهكذا أخرجه أهل الصحيح كالبخاري ومسلم وغيرهما ولكن روي عدد الأسماء من طريق أخرى من حديث محمد بن سيرين عن أبي هريرة ورواه ابن ماجه وإسناده ضعيف يعلم أهل الحديث أنه ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وليس في عدد الأسماء الحسنى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا هذان الحديثان كلاهما مروي من طريق أبي هريرة وهذا مبسوط في موضعه. والمقصود هنا التنبيه على أصول تنفع في معرفة هذه المسألة فإن نفوس بني آدم لا يزال يحوك فيها من هذه المسألة أمر عظيم.
وإذا علم العبد من حيث الجملة أن لله فيما خلقه وما أمر به حكمة عظيمة كفاه هذا ثم كلما ازداد علما وإيمانا ظهر له من حكمة الله ورحمته ما يبهر عقله ويبين له تصديق ما أخبر الله به في كتابه حيث قال {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} فإنه صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح {الله أرحم بعباده من الوالدة بولدها} وفي الصحيحين عنه أنه قال: {إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة فبها يتراحم الخلق حتى إن الدابة لترفع حافرها عن ولدها من تلك الرحمة واحتبس عنده تسعا وتسعين رحمة فإذا كان يوم القيامة جمع هذه إلى تلك فرحم بها عباده} أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم هؤلاء الجمهور من المسلمين وغيرهم كأئمة المذاهب الأربعة وغيرهم من السلف والعلماء الذين يثبتون حكمته فلا ينفونها - كما نفاها الأشعرية ونحوهم الذين لم يثبتوا إلا إرادة بلا حكمة ومشيئة بلا رحمة ولا محبة ولا رضى وجعلوا جميع المخلوقات بالنسبة إليه سواء لا يفرقون بين الإرادة والمحبة والرضى بل ما وقع من الكفر والفسوق والعصيان قالوا: إنه يحبه ويرضاه كما يريده وإذا قالوا لا يحبه ولا يرضاه دينا قالوا إنه لا يريده دينا وما لم يقع من الإيمان والتقوى فإنه لا يحبه ولا يرضاه عندهم كما لا يريده. وقد قال تعالى {إذ يبيتون ما لا يرضى من القول}
فأخبر أنه لا يرضاه مع أنه قدره وقضاه - لا يوافقون المعتزلة على إنكار قدرة الله تعالى وعموم خلقه ومشيئته وقدرته ولا يشبهونه بخلقه فيما يوجب ويحرم كما فعل هؤلاء ولا يسلبونه ما وصف به نفسه من صفاته وأفعاله بل أثبتوا له ما أثبته لنفسه من الصفات والأفعال ونزهوه عما نزه عنه نفسه من الصفات والأفعال وقالوا إن الله خالق كل شيء ومليكه وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وهو على كل شيء قدير وهو يحب المحسنين والمتقين والمقسطين ويرضى عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ولا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر ولا يرضى بالقول المخالف لأمر الله ورسوله.

وقالوا: مع أنه خالق كل شيء وربه ومليكه فقد فرق بين المخلوقات أعيانها وأفعالها كما قال تعالى: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين} وكما قال: {أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون} وقال تعالى: {أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار}.

وقال تعالى:{وما يستوي الأعمى والبصير} {ولا الظلمات ولا النور} {ولا الظل ولا الحرور} {وما يستوي الأحياء ولا الأموات} وأمثال ذلك مما يبين الفرق بين المخلوقات وانقسام الخلق إلى شقي وسعيد كما قال تعالى: {هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن} وقال تعالى: {فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة} وقال تعالى: {يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما} وقال تعالى: {ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون} {فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون} {وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون} ونظائر هذا في القرآن كثيرة.
وينبغي أن يعلم أن هذا المقام زل فيه طوائف من أهل الكلام والتصوف وصاروا فيه إلى ما هو شر من قول المعتزلة ونحوهم من القدرية فإن هؤلاء يعظمون الأمر والنهي والوعد والوعيد وطاعة الله ورسوله ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر لكن ضلوا في القدر واعتقدوا أنهم إذا أثبتوا مشيئة عامة وقدرة شاملة وخلقا متناولا لكل شيء لزم من ذلك القدح في عدل الرب وحكمته وغلطوا في ذلك.

فقابل هؤلاء قوم من العلماء والعباد وأهل الكلام والتصوف فأثبتوا القدر وآمنوا بأن الله رب كل شيء ومليكه وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وأنه خالق كل شيء وربه ومليكه وهذا حسن وصواب؛ لكنهم قصروا في الأمر والنهي والوعد والوعيد وأفرطوا حتى خرج غلاتهم إلى الإلحاد فصاروا من جنس المشركين الذين قالوا {لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء} فأولئك القدرية وإن كانوا يشبهون المجوس من حيث إنهم أثبتوا فاعلا لما اعتقدوه شرا غير الله سبحانه فهؤلاء شابهوا المشركين الذين قالوا:

{لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء} فالمشركون شر من المجوس فإن المجوس يقرون بالجزية باتفاق المسلمين وقد ذهب بعض العلماء إلى حل نسائهم وطعامهم وأما المشركون فاتفقت الأمة على تحريم نكاح نسائهم وطعامهم ومذهب الشافعي وأحمد في المشهور عنه وغيرهما أنهم لا يقرون بالجزية وجمهور العلماء على أن مشركي العرب لا يقرون بالجزية وإن أقرت المجوس فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل الجزية من أحد من المشركين؛ بل قال {أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؛ فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل}.
والمقصود هنا أن من أثبت القدر واحتج به على إبطال الأمر والنهي فهو شر ممن أثبت الأمر والنهي ولم يثبت القدر وهذا متفق عليه بين المسلمين وغيرهم من أهل الملل بل بين جميع الخلق فإن من احتج بالقدر وشهود الربوبية العامة لجميع المخلوقات ولم يفرق بين المأمور والمحظور والمؤمنين والكفار وأهل الطاعة وأهل المعصية لم يؤمن بأحد من الرسل ولا بشيء من الكتب وكان عنده آدم وإبليس سواء ونوح وقومه سواء وموسى وفرعون سواء والسابقون الأولون وكفار مكة سواء. وهذا الضلال قد كثر في كثير من أهل التصوف والزهد والعبادة لا سيما إذا قرنوا به توحيد أهل الكلام المثبتين للقدر والمشيئة من غير إثبات المحبة والبغض والرضى والسخط الذين يقولون: " التوحيد " هو توحيد الربوبية.
و " الإلهية " عندهم هي القدرة على الاختراع ولا يعرفون توحيد الإلهية ولا يعلمون أن الإله هو المألوه المعبود وأن مجرد الإقرار بأن الله رب كل شيء لا يكون توحيدا حتى يشهد أن لا إله إلا الله كما قال تعالى: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون}. قال عكرمة: تسألهم من خلق السموات والأرض فيقولون الله وهم يعبدون غيره وهؤلاء يدعون التحقيق والفناء في التوحيد ويقولون إن هذا نهاية المعرفة وإن العارف إذا صار في هذا المقام لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة لشهوده الربوبية العامة والقيومية الشاملة. وهذا الموضع وقع فيه من الشيوخ الكبار من شاء الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.

(وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين (166) وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا ... (167)

قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
فقوله: {وليعلم الذين نافقوا} ظاهر فيمن أحدث نفاقا وهو يتناول من لم ينافق قبل ومن نافق ثم جدد نفاقا ثانيا. وقوله: {هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان} يبين أنهم لم يكونوا قبل ذلك أقرب منهم بل إما أن يتساويا وإما أن يكونوا للإيمان أقرب وكذلك كان؛ فإن ابن أبي لما انخزل عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد. انخزل معه ثلث الناس قيل: كانوا نحو ثلاثمائة وهؤلاء لم يكونوا قبل ذلك كلهم منافقين في الباطن إذ لم يكن لهم داع إلى النفاق.
فإن ابن أبي كان مظهرا لطاعة النبي صلى الله عليه وسلم والإيمان به؛ وكان كل يوم جمعة يقوم خطيبا في المسجد يأمر باتباع النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن ما في قلبه يظهر إلا لقليل من الناس إن ظهر وكان معظما في قومه؛ كانوا قد عزموا على أن يتوجوه ويجعلوه مثل الملك عليهم؛ فلما جاءت النبوة بطل ذلك فحمله الحسد على النفاق وإلا فلم يكن له قبل ذلك دين يدعو إليه؛ وإنما كان هذا في اليهود فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم بدينه وقد أظهر الله حسنه ونوره مالت إليه القلوب لا سيما لما نصره الله يوم بدر ونصره على يهود بني قينقاع صار معه الدين والدنيا؛ فكان المقتضي للإيمان في عامة الأنصار قائما وكان كثير منهم يعظم ابن أبي تعظيما كثيرا ويواليه ولم يكن ابن أبي أظهر مخالفة توجب الامتياز؛ فلما انخزل يوم أحد وقال: يدع رأيي ورأيه ويأخذ برأي الصبيان - أو كما قال - انخزل معه خلق كثير منهم من لم ينافق قبل ذلك.

(ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون (169)

قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
وأما ما أخبر الله به من حياة الشهيد ورزقه وما جاء في الحديث الصحيح من دخول أرواحهم الجنة فذهب طوائف إلى أن ذلك مختص بهم دون الصديقين وغيرهم.
والصحيح الذي عليه الأئمة وجماهير أهل السنة: أن الحياة والرزق ودخول الأرواح الجنة ليس مختصا بالشهيد، كما دلت على ذلك النصوص الثابتة ويختص الشهيد بالذكر لكون الظان يظن أنه يموت فينكل عن الجهاد فأخبر بذلك ليزول المانع من الإقدام على الجهاد والشهادة. كما نهى عن قتل الأولاد خشية الإملاق؛ لأنه هو الواقع. وإن كان قتلهم لا يجوز مع عدم خشية الإملاق.

(الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل (173)

(فصل)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
وما يروى أن الخليل لما ألقي في المنجنيق قال له جبريل: سل قال " حسبي من سؤالي علمه بحالي " ليس له إسناد معروف وهو باطل بل الذي ثبت في الصحيح عن ابن عباس أنه قال: " حسبي الله ونعم الوكيل " قال ابن عباس: قالها إبراهيم حين ألقي في النار وقالها محمد حين: {قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم} وقد روي أن جبريل قال: هل لك من حاجة؟ قال " أما إليك فلا " وقد ذكر هذا الإمام أحمد وغيره.

وأما سؤال الخليل لربه عز وجل فهذا مذكور في القرآن في غير موضع فكيف يقول حسبي من سؤالي علمه بحالي والله بكل شيء عليم وقد أمر العباد بأن يعبدوه ويتوكلوا عليه ويسألوه لأنه سبحانه جعل هذه الأمور أسبابا لما يرتبه عليها من إثابة العابدين وإجابة السائلين. وهو سبحانه يعلم الأشياء على ما هي عليه فعلمه بأن هذا محتاج أو هذا مذنب لا ينافي أن يأمر هذا بالتوبة والاستغفار ويأمر هذا بالدعاء وغيره من الأسباب التي تقضى بها حاجته كما يأمر هذا بالعبادة والطاعة التي بها ينال كرامته. ولكن العبد قد يكون مأمورا في بعض الأوقات بما هو أفضل من الدعاء كما روي في الحديث {من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين} وفي الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من شغله قراءة القرآن عن ذكري ومسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين} قال الترمذي حديث حسن غريب.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #180  
قديم 26-08-2022, 03:54 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,330
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ آل عمران
المجلد الخامس
الحلقة( 180)

من صــ 151 الى صـ 160





(إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين (175)
وللشيخ - رحمه الله -:

في قوله تعالى {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين} هذا هو الصواب الذي عليه جمهور المفسرين: كابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة والنخعي؛ وأهل اللغة كالفراء وابن قتيبة والزجاج وابن الأنباري وعبارة الفراء: يخوفكم بأوليائه كما قال: {لينذر بأسا شديدا من لدنه} ببأس شديد. وقوله: {لينذر يوم التلاق} وعبارة الزجاج: يخوفكم من أوليائه. قال ابن الأنباري: والذي نختاره في الآية يخوفكم أولياءه. تقول العرب: أعطيت الأموال: أي أعطيت القوم الأموال فيحذفون المفعول الأول ويقتصرون على ذكر الثاني.

وهذا لأن الشيطان يخوف الناس أولياءه تخويفا مطلقا ليس له في تخويف ناس بناس ضرورة فحذف الأول ليس مقصودا وهذا يسمى حذف اختصار كما يقال: فلان يعطي الأموال والدراهم. وقد قال بعض المفسرين: يخوف أولياءه المنافقين ونقل هذا عن الحسن والسدي وهذا له وجه سنذكره؛ لكن الأول أظهر لأن الآية إنما نزلت بسبب تخويفهم من الكفار كما قال قبلها: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا} الآيات.

ثم قال: {فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين} فهي إنما نزلت فيمن خوف المؤمنين من الناس. وقد قال: {يخوف أولياءه} ثم قال: {فلا تخافوهم} والضمير عائد إلى أولياء الشيطان الذين قال فيهم: {فاخشوهم} قبلها.
وأما ذلك القول فالذي قاله فسرها من جهة المعنى وهو أن الشيطان إنما يخوف أولياءه بالمؤمنين؛ لأن سلطانه على أوليائه بخوف يدخل عليهم المخاوف دائما فالمخاوف منصبة إليهم محيطة بقولهم وإن كانوا ذوي هيئات وعدد وعدد فلا تخافوهم. وأما المؤمنون فهم متوكلون على الله لا يخوفهم الكفار أو أنهم أرادوا المفعول الأول: أي يخوف المنافقين أولياءه وإلا فهو يخوف الكفار كما يخوف المنافقين ولو أنه أريد أنه يخوف أولياءه: أي يجعلهم خائفين لم يكن للضمير ما يعود عليه وهو قوله: {فلا تخافوهم}.
وأيضا فهذا فيه نظر؛ فإن الشيطان يعد أولياءه ويمنيهم كما قال:تعالى: {وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم} وقال تعالى: {يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا}. ولكن الكفار يلقي الله في قلوبهم الرعب من المؤمنين والشيطان لا يختار ذلك. قال تعالي: {لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله} وقال: {إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب} وقال: {سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله}.

وفي حديث قرطبة أن جبريل قال: " إني ذاهب إليهم فمزلزل بهم الحصن " فتخويف الكفار والمنافقين وإرعابهم هو من الله نصرة للمؤمنين. ولكن الذين قالوا ذلك من السلف أرادوا أن الشيطان يخوف الذين أظهروا الإسلام فهم يوالون العدو فصاروا بذلك منافقين وإنما يخاف من الكفار المنافقون بتخويف الشيطان لهم كما قال تعالى: {ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون} وقال تعالى {فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت} الآيات.
إلى قوله: {يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم} فكلا القولين صحيح من حيث المعنى؛ لكن لفظ أوليائه هم الذين يجعلهم الشيطان مخوفين لا خائفين كما دل عليه سياق الآية ولفظها، والله أعلم.

وإذا جعلهم الشيطان مخوفين فإنما يخافهم من خوفه الشيطان منهم فجعله خائفا. فالآية دلت على أن الشيطان يجعل أولياءه مخوفين ويجعل ناسا خائفين منهم. ودلت الآية على أن المؤمن لا يجوز له أن يخاف أولياء الشيطان ولا يخاف الناس. كما قال تعالى: {فلا تخشوا الناس واخشون} بل يجب عليه أن يخاف الله فخوف الله أمر به وخوف الشيطان وأوليائه نهى عنه.
وقال تعالى: {لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني} فنهى عن خشية الظالم وأمر بخشيته والذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله. وقال: {وإياي فارهبون}. وبعض الناس يقول: يا رب إني أخافك وأخاف من لا يخافك وهذا كلام ساقط لا يجوز؛ بل على العبد أن يخاف الله وحده ولا يخاف أحدا لا من يخاف الله ولا من لا يخاف الله؛ فإن من لا يخاف الله أخس وأذل أن يخاف فإنه ظالم وهو من أولياء الشيطان فالخوف منه قد نهى الله عنه والله أعلم.
(ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السماوات والأرض ... (180)
ثبت في " الصحيح " عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس عبد القطيفة تعس عبد الخميصة تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش}. وثبت عنه في " الصحيح " أنه قال: {ما من صاحب كنز إلا جعل له كنزه يوم القيامة شجاعا أقرع يأخذ بلهزمته أنا مالك أنا كنزك. وفي لفظ: إلا مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع يفر منه وهو يتبعه حتى يطوقه في عنقه وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة}. وفي حديث آخر: {مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع يتبع صاحبه حيثما ذهب وهو يفر منه: هذا مالك الذي كنت تبخل به فإذا رأى أنه لا بد له منه أدخل يده في فيه فيقضمها كما يقضم الفحل}. وفي رواية: {فلا يزال يتبعه فيلقمه يده فيقضمها ثم يلقمه سائر جسده}.

(فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير (184)

[فصل: ما يتناوله اسم الرسل في قوله (فقد كذب رسل من قبلك)]
قالوا: وقال في سورة آل عمران: {فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير} [آل عمران: 184] فأعني أيضا بالكتاب المنير الذي هو الإنجيل المقدس.
فيقال: قد تقدم أن الرسل تتناول قطعا الرسل الذين ذكرهم الله في القرآن لا سيما أولو العزم كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم، فإن هؤلاء مع محمد - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين - صلوات الله عليهم وسلامه - خصهم الله وفضلهم بقوله - تعالى -: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا - ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذابا أليما} [الأحزاب: 7 - 8]وفي قوله - تعالى -: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} [الشورى: 13] فالدين دين رسل الله دين واحد ; كما بينه الله في كتابه وكما ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد وأن أولى الناس بابن مريم لأنا إنه ليس بيني وبينه نبي».
ويتناول أيضا اسم الرسل من لم يسمهم بأعيانهم في القرآن قال - تعالى -: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا - ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما - رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما} [النساء: 163 - 165]
وقال - تعالى -: {ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك} [غافر: 78] وأما الحواريون، فإن الله - تعالى - ذكرهم في القرآن ووصفهم بالإسلام واتباع الرسول وبالإيمان بالله ; كما أنزل في قوله - تعالى -: {فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون - ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين} [آل عمران: 52 - 53] وقال - تعالى -: {وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون} [المائدة: 111] وقال - تعالى -: {ياأيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين} [الصف: 14].
ولم يذكر الله تعالى في القرآن أنه أرسلهم البتة بل ذكر أنه ألهمهم الإيمان به وبرسوله وأنهم أمروا باتباع رسوله وقوله: {وإذ أوحيت إلى الحواريين} [المائدة: 111] لا يدل على النبوة، فإنه قال - تعالى -: {وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه} [القصص: 7]
وأم موسى لم تكن نبية بل ليس في النساء نبية ; كما تقوله: عامة النصارى والمسلمين.
وقد ذكر إجماعهم على ذلك غير واحد مثل القاضيين أبي بكر بن الطيب وأبي يعلى بن أبي الفراء والأستاذ أبي المعالي الجويني وغيرهم ويدل على ذلك قوله - تعالى -: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى} [يوسف: 109] وقوله - تعالى -: {ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة} [المائدة: 75] فجعل غاية مريم الصديقية ; كما جعل غاية المسيح الرسالة.

وقد ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم» يعني من نساء الأمم قبلنا، وهذا يدل على أن أم موسى ليست ممن كمل من النساء فكيف تكون نبية، وقوله - تعالى -: {جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير} [آل عمران: 184] والكتاب اسم جنس كما تقدم يتناول كل كتاب أنزله الله تعالى، وقال - تعالى -: {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير} [الحج: 8]

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع



مجموعة الشفاء على واتساب


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 355.62 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 349.78 كيلو بايت... تم توفير 5.84 كيلو بايت...بمعدل (1.64%)]