تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله - الصفحة 15 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         4 طرق تساعد على التخلص من دهون البطن.. للحصول على جسم متناسق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          وصفات طبيعية من الخيار للعناية بالبشرة.. للحصول على وجه صحى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          7 طرق مختلفة لتبريد المنزل والشعور بالانتعاش خلال الطقس الحار (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          طرق مختلفة للحفاظ على النباتات خلال الموجة الحارة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          طريقة عمل طاجن العكاوي بالبصل.. تنفع مع أرز أو لوحدها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          7 نصائح هتساعدك فى تنظيم مطبخك قبل عيد الأضحى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          5 مشروبات طبيعية للحصول على بشرة رطبة خلال الطقس الحار (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          مقاصـد الـرسْـم القـرآنــي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 55 )           »          التواب الحكيم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 52 )           »          التنجيم بين الحقيقة والتضليل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 65 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #141  
قديم 24-05-2022, 11:11 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,211
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثالث
صـ 731 الى صـ 736
الحلقة (141)


ولعل العدول عن الخطاب إلى الغيبة بذكر الاسم الأعظم من باب التملق بأن له من صفات العظمة ما يقتضي العفو عن ضعفهم، ومن صفات الحلم والرحمة ما يرفه عنهم، ويحتمل أن يكون ذلك من قول الله تعالى جزاء لهم على قولهم: سمعنا وأطعنا الآية. فأفادهم بذلك أنه لا يحاسبهم بحديث النفس، فانتفى ما شق عليهم من قوله: وإن تبدوا ما في أنفسكم الآية. بخلاف ما أفاد بني إسرائيل قولهم: سمعنا وعصينا؛ من الآصار في الدنيا والآخرة، فيكون حينئذ استئنافا جوابا لمن، كأنه قال: هل أجاب دعاءهم؟! ويؤيد هذا الاحتمال اتباعه لحكم ما في الوسع على طريق الاستئناف أو الاستنتاج بقوله: لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت قال العلامة أبو السعود: قوله تعالى: لها ما كسبت إلخ للترغيب في المحافظة على مواجب التكليف والتحذير عن الإخلال بها، ببيان أن تكليف كل نفس مع مقارنته لنعمة التخفيف والتيسير تتضمن مراعاته منفعة زائدة، وأنها تعود إليها لا إلى غيرها، ويستتبع الإخلال به مضرة تحيق بها لا بغيرها، فإن اختصاص منفعة الفعل بفاعله من أقوى الدواعي إلى تحصيله، واقتصار مضرته عليه من أشد الزواجر عن مباشرته، أي: لها ثواب ما كسبت من الخير الذي كلفت فعله، لا لغيرها، وعليها لا على غيرها عقاب ما اكتسبت من الشر الذي كلفت تركه، وإيراد الاكتساب في جانب الشر لما فيه من اعتمال ناشئ من اعتناء النفس بتحصيل الشر وسعيها في طلبه.

قال الحرالي: وصيغة (فعل) مجردة، تعرب عن أدنى الكسب، فلذلك من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة.

لطيفة:

وقال الجاربردي في " شرح الشافية ": معنى الكسب تحصيل الشيء على أي وجه كان، والاكتساب: المبالغة والاعتمال فيه، ومن ذلك قوله تعالى: لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت وفيه تنبيه على لطف الله تعالى بخلقه، إذ أثبت لهم ثواب الفعل على أي وجه كان، ولم يثبت عليهم عقاب الفعل إلا على وجه مبالغة واعتمال فيه.

[ ص: 732 ] قال الزمخشري: لما كان الشر مما تشتهيه النفس وهي منجذبة إليه وأمارة به، كانت في تحصيله أعمل وأجد، فجعلت لذلك مكتسبة فيه، ولما لم تكن في باب الخير كذلك لفتورها في تحصيله، وصفت بما لا دلالة له على الاعتمال والتصرف. انتهى.

قال العلامة ابن جماعة في " حواشيه ": تفرقته بين الكسب والاكتساب هو ما قاله الزمخشري وغيره، ونص عليه سيبويه. قال الحلبي: وهو الأظهر. وقال قوم: لا فرق. قالوا: وقد جاء القرآن بالكسب والاكتساب في مورد واحد. قال تعالى: كل نفس بما كسبت رهينة ولا تكسب كل نفس إلا عليها بلى من كسب سيئة

وقال تعالى: بغير ما اكتسبوا فقد استعمل الكسب والاكتساب في الشر. وقال الواحدي: الصحيح عند أهل اللغة أن الكسب والاكتساب واحد. وفي القاموس: كسبه يكسبه كسبا، وتكسب واكتسب: طلب الرزق، أو كسب أصاب، واكتسب تصرف واجتهد، ثم قال ابن جماعة: ما ذكره من تنبيه الآية على لطف الله بخلقه إلى آخره، قاله ابن الحاجب في شرح (المفصل). وبمعناه قول بعضهم: في الآية إيذان أن أدنى فعل من أفعال الخير يكون للإنسان تكرما من الله على عبده، بخلاف العقوبة، فإنه لا يؤاخذ بها إلا من جد فيها واجتهد، وقريب منه قول آخر: للنفس ما حصل من الثواب بأي وجه اتفق حصوله، سواء كان بإصابة مجردة أو بتحصيل، وعليها ما حصلته وسعت فيه لا ما حصل من غير اختيار [ ص: 733 ] وسعي. نبه تعالى أن الثواب حاصل لها سواء كان بسعيها واختيارها أو لم يكن كذلك، وأما العقاب فلا يكون عليها إلا بقصدها وتحصيلها.

وما قالوه من الفرق يحتاج إلى ثبت، وقد قال تعالى: فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره أي: يرى جزاءه. وقال: ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء على أن ترتب الثواب على ما حصل من غير سعي واختيار، إن كان لمباشرة سببه مع الغفلة عنه، فالعقاب أيضا كذلك، فمن عمل سيئة فعليه إثمها وإثم من عمل بها، وإن صور بالإصابة عند أول الالتفات فلا مانع أن يكون العقاب مثله. ومدعي خلافه عليه البيان. نعم الإصرار شرط، لأن الرجوع يمحوه لكنه قدر زائد على الفعل. وبالجملة فما قاله جار الله حسن، وقد ذكره البيضاوي أيضا. وفي إعراب الحلبي: الذي يظهر في هذا، أن الحسنات مما تكسب دون تكلف ؛ إذ كاسبها على جادة أمر الله ورسم شرعه، والسيئات تكتسب بتكلف ؛ إذ كاسبها يتكلف في أمرها خرق حجاب نهي الله تعالى، ويتجاوز إليها، فحسن في الآية مجيء التصريفين إحرازا لهذا المعنى والله أعلم، ثم قال ابن جماعة: والمبالغة من بالغ مبالغة اجتهد ولم يقصر، والاعتمال: من اعتمل أي: عمل بنفسه وأعمل رأيه وآلته. انتهى.

قال البقاعي ولما بشرهم بذلك عرفهم مواقع نعمه من دعاء رتبه على الأخف فالأخف على سبيل التعلي، إعلاما بأنه لم يؤاخذهم بما اجترحوه نسيانا، ولا بما قارفوه خطأ، ولا حمل عليهم ثقلا، بل جعل شريعتهم حنيفية سمحاء، ولا حملهم فوق طاقتهم، مع أن له جميع ذلك، وأنه عفا عن عقابهم ثم سترهم فلم يخجلهم بذكر سيئاتهم، ثم رحمهم بأن أحلهم محل القرب فجعلهم أهلا للخلافة، فلاح بذلك أنه يعلي أمرهم على كل أمر، ويظهر دينهم على كل دين، إذ كان سبحانه هو الداعي عنهم، وليكون الدعاء كله محمولا على الإصابة ومشمولا بالإجابة فقال تعالى: ربنا لا تؤاخذنا أي: لا تعاقبنا: إن نسينا أمرك ونهيك: أو أخطأنا [ ص: 734 ] أي: ففعلنا خلاف الصواب، تفريطا ونحوه.

وقد ولع كثير من المفسرين ههنا بالبحث في أن النسيان والخطأ معفو عنهما، فما فائدة طلب العفو عنهما؟ وأجابوا عن ذلك بوجوه. وأرق جواب رأيته قول العلامة بير محمد في " المدحة الكبرى ": لما كان طالب العفو الرسول والأنصار والمهاجرون، ومن كان على شاكلتهم، فكأنهم يعدون النسيان من العصيان، والخطأ من الخطيئة. كقوله تعالى: والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة

وقيل في معنى الآية: لا تعاقبنا إن تركنا أمرك أو اكتسبنا خطيئة، على أن يكون النسيان بمعنى الترك، والخطأ من الخطيئة. وعليه فلا إيراد، والله أعلم.

ربنا ولا تحمل علينا إصرا أي: عهدا يثقل علينا.

قال الحرالي: الإصر: العهد الثقيل الذي في تحمله أشد المشقة: كما حملته على الذين من قبلنا وهو ما كلفه بنو إسرائيل مما يهد الأركان، ولا بأس بالإشارة إلى جمل مما حملوه من الآصار. ننقله عن أسفارهم تأكيدا لما يحمل على الشكر على تخفيف ذلك عنا، وتعظيما لمنته تعالى، فلله الحمد فنقول: في سفر الخروج في الإصحاح الثاني عشر:

* 15 * سبعة أيام تأكلون فطيرا. اليوم الأول تعزلون الخمير في بيوتكم، فإن كل من أكل خميرا من اليوم الأول إلى اليوم السابع تقطع تلك النفس من إسرائيل.

وكل هذا الإصحاح آصار شاقة.

وفي السفر المذكور، في الإصحاح الحادي والعشرين.

* 15 * ومن ضرب أباه أو أمه يقتل قتلا.

* 16 * ومن سرق إنسانا وباعه أو وجد في يده يقتل قتلا.

* 17 * ومن شتم أباه أو أمه يقتل قتلا.

* 27 * وإن أسقط سن عبده أو سن أمته يطلقه حرا عوضا عن سنه.

* 28 * وإذا نطح ثور رجلا أو امرأة فمات يرجم الثور ولا يؤكل لحمه، وأما صاحب الثور فيكون بريئا.

* 29 * ولكن إن كان ثورا نطاحا من قبل وقد أشهد على صاحبه ولم يضبطه فقتل رجلا أو امرأة، فالثور يرجم وصاحبه أيضا يقتل.

[ ص: 735 ] وفي السفر المذكور، في الإصحاح الثالث والعشرين.

* 10 * وست سنين تزرع أرضك وتجمع غلتها.

* 11 * وأما في السابعة فتريحها وتتركها ليأكل فقراء شعبك. وفضلتهم تأكلها وحوش البرية، كذلك تفعل بكرمك وزيتونك.

* 12 * ستة أيام تعمل عملك، وأما اليوم السابع ففيه تستريح لكي يستريح ثورك وحمارك ويتنفس ابن أمتك والغريب.

* 19 * أول أبكار أرضك تحضره إلى بيت الرب إلهك.

وفي سفر العدد، في الإصحاح الخامس عشر: * 37 * وكلم الرب موسى قائلا.

* 38 * كلم بني إسرائيل وقل لهم: أن يصنعوا لهم أهدابا في أذيال ثيابهم في أجيالهم ويجعلوا على هدب الذيل عصابة من أسمانجوني.

* 39 * فتكون لكم هدبا فترونها وتذكرون كل وصايا الرب وتعملونها.

وفي السفر المذكور، في الإصحاح التاسع عشر:

* 11 * من مس ميتا ميتة إنسان ما يكون نجسا سبعة أيام.

* 12 * يتطهر به في اليوم الثالث، وفي السابع يكون طاهرا، وإن لم يتطهر في اليوم الثالث ففي اليوم السابع لا يكون طاهرا.

* 13 * كل من مس ميتا ميتة إنسان قد مات ولم يتطهر ينجس مسكن الرب، فتقطع تلك النفس من إسرائيل، لأن ماء النجاسة لم يرش عليها تكون نجسة. نجاستها لم تزل فيها.

* 14 * هذه هي الشريعة. إذا مات إنسان في خيمة فكل من دخل الخيمة وكل من كان في الخيمة يكون نجسا سبعة أيام.

* 15 * وكل إناء مفتوح ليس عليه سداد بعصابة فإنه نجس.

* 16 * وكل من مس على وجه الصحراء قتيلا بالسيف أو ميتا أو عظم إنسان أو قبرا يكون نجسا سبعة أيام. وتمام الفصل المذكور كيفية الطهارة من هذه النجاسة الشاقة جدا.

وفي السفر المذكور في الإصحاح الخامس والثلاثين:

* 31 * ولا تأخذوا فدية عن نفس القاتل المذنب للموت بل إنه يقتل.

وفي سفر التثنية، في الإصحاح الخامس عشر.

* 19 * كل بكر ذكر يولد من بقرك ومن غنمك تقدسه للرب إلهك. لا تشتغل على بكر بقرك ولا تجز بكر غنمك.

[ ص: 736 ] وفي سفر الخروج، في الإصحاح الرابع والثلاثين:

* 20 * وأما بكر الحمار فتفديه بشاة، وإن لم تفده تكسر عنقه. كل بكر من بنيك تفديه.

وفي سفر اللاويين، في الإصحاح الرابع:

* 1 * وكلم الرب موسى قائلا:

* 2 * كلم بني إسرائيل قائلا: إذا أخطأت نفس سهوا في شيء من جميع مناهي الرب التي لا ينبغي عملها وعملت واحدة منها.

* 3 * إن كان الكاهن الممسوح يخطئ لإثم الشعب يقرب عن خطيئته التي أخطأ ثورا ابن بقر صحيحا للرب. ذبيحة خطية.

وكيفية ذلك حرجة جدا. انظرها.

وفيه، في الإصحاح الخامس:

* 1 * أو إذا مس أحد شيئا نجسا جثة وحش نجس أو جثة بهيمة نجسة أو جثة ديب نجس وأخفى عنه فهو نجس ومذنب.

* 5 * فإن كان يذنب في شيء من هذه يقر بما قد أخطأ به.

* 6 * ويأتي إلى الرب بذبيحة لإثمه عن خطيئته التي أخطأ بها أنثى من الأغنام نعجة أو عنزا من المعز ذبيحة خطية فيكفر عنه الكاهن من خطيئته.

والإصحاح المذكور كله آصار.

وكذا الإصحاح السادس بعده كله آصار.

وفي الإصحاح الحادي عشر تحريم بعض الطيور وفي آصار كثيرة، منها:

* 33 * وكل متاع خزف وقع فيه منها فكل ما فيه يتنجس، وأما هو فتكسرونه.

وفي الإصحاح الثاني عشر أحكام النفساء عندهم والفرق بين ولادتها ذكرا وأنثى، وإنها في الأول تكون نجسة أسبوعا، ثم ثلاثا وثلاثين يوما. وفي الثاني أسبوعين ثم ستة وستين يوما.

وعن تمام أيام طهرها تأتي بكيس كفارة عنها.

وفي الإصحاح الخامس عشر تشريعات لذوي الجراحات.

وفي ذلك آصار كبرى. انظرها.

وفيه أيضا أحكام الحائض والآصار في شأنها. ومنها:

* 19 * وكل من مسها يكون نجسا إلى المساء.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #142  
قديم 24-05-2022, 11:12 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,211
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثالث
صـ 737 الى صـ 748
الحلقة (142)



* 20 * وكل ما تضطجع عليه في طمثها [ ص: 737 ] يكون نجسا، وكل ما تجلس عليه يكون نجسا.

* 21 * وكل من مس فراشها يغسل ثيابه ويستحم بماء ويكون نجسا إلى المساء.

وفي الإصحاح السابع عشر:

* 15 * وكل إنسان يأكل ميتة أو فريسة وطنيا كان أو غريبا يغسل ثيابه ويستحم بماء ويبقى نجسا إلى المساء.

وفي الإصحاح التاسع عشر:

* 23 * ومتى دخلتم الأرض وغرستم كل شجرة للطعام تحسبون ثمرها غلتها. ثلاث سنين تكون لكم غلفاء، لا يؤكل منها.

* 24 * وفي السنة الرابعة يكون كل ثمرها قدسا لتمجيد الرب.

* 25 * وفي السنة الخامسة تأكلون ثمرها، لتزيد بكم غلتها. أنا الرب إلهكم.

* 27 * لا تقصروا رؤوسكم مستديرا ولا تفسد عارضيك.

وفي الإصحاح الخامس والعشرين:

* 3 * ست سنين تزرع حقلك وست سنين تقضب كرمك وتجمع غلتهما.

* 4 * وأما السنة السابعة ففيها يكون للأرض سبت عطلة سبتا للرب. لا تزرع حقلك ولا تقضب كرمك.

* 5 * زريع حصيدك لا تحصد وعنب كرمك المحول لا تقطف. سنة عطلة تكون للأرض.

* 6 * ويكون سبت الأرض لكم طعاما. لك ولعبدك ولأمتك ولأجيرك ولمستوطنك النازلين عندك.

* 7 * ولبهائمك وللحيوان الذي في أرضك تكون كل غلتها طعاما.

وفي سفر التثنية، في الإصحاح الحادي والعشرين.

* 18 * وإذا كان لرجل ابن معاند ومارد ولا يسمع لقول أبيه ولا لقول أمه ويؤدبانه فلا يسمع لهما.

* 19 * يمسكه أبوه وأمه ويأتيان به إلى شيوخ مدينته وإلى باب مكانه.

* 20 * ويقولون لشيوخ مدينته: ابننا هذا معاند ومارد لا يسمع لقولنا وهو مسرف وسكير.

* 21 * فيرجمه جميع رجال مدينته بحجارة حتى يموت.

وفيه، في الإصحاح الثاني والعشرين:

* 10 * لا تحرث على ثور وحمار معا.

* 11 * لا تلبس ثوبا مختلطا صوفا وكتانا معا.

[ ص: 738 ] وفيه، في الإصحاح الرابع والعشرين:

* 1 * إذا أخذ رجل امرأة، وتزوج بها فإن لم تجد نعمة في عينيه ؛ لأنه وجد فيها عيب شيء وكتب لها كتاب طلاق ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته.

* 2 * ومتى خرجت من بيته ذهبت وصارت لرجل آخر.

* 3 * فإن أبغضها الرجل الأخير، وكتب لها كتاب طلاق ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته، أو إذا مات الرجل الأخير الذي اتخذها له زوجة.

* 4 * لا يقدر زوجها الأول الذي طلقها أن يعود بأخذها لتصير له زوجة بعد أن تنجست ؛ لأن ذلك رجس لدى الرب.

وهذه نبذة يسيرة من الآصار التي كانت على الإسرائيليين ولم يشرعها لنا مولانا بفضله وكرمه فله الحمد، إنه أرحم الراحمين.

ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به أي: من بليات الدنيا والآخرة، فالدعاء الأول في رفع شدائد التكليف، وهذا في رفع شدائد البليات، ويقال: هو تكرير للأول وتصوير للإصر بصورة ما لا يستطاع مبالغة واعف عنا أي: تجاوز عن ذنوبنا ولا تعاقبنا: واغفر لنا أي: غط على ذنوبنا واعف عنها: وارحمنا أي: تفضل علينا بالرحمة مع كوننا مقصرين مذنبين: أنت مولانا أي: ولينا وناصرنا: فانصرنا على القوم الكافرين فإن من حق المولى أن ينصر عبده ومن يتولى أمره على الأعداء.

وفيه إشارة إلى أن إعلاء كلمة الله والجهاد في سبيله تعالى، حسبما أمر في تضاعيف السورة الكريمة، غاية مطلبهم.

قال البقاعي: فتضمن ذلك وجوب قتال الكافرين، وأنهم أعدى الأعداء، وأن قوله: لا إكراه في الدين ليس ناهيا عن ذلك، وإنما هو إشارة إلى أن الدين صار في الوضوح إلى حد لا يتصور فيه إكراه، بل ينبغي لكل عاقل أن يدخل فيه بغاية الرغبة فضلا عن الإحواج إلى إرهاب، فمن نصح نفسه دخل فيه بما دل عليه عقله، ومن أبى دخل فيه قهرا بنصيحة الله التي هي الضرب بالحسام ونافذ السهام.

وقد ورد في " صحيح مسلم " عن النبي صلى الله عليه وسلم: « إن الله تعالى قال عقب كل دعوة من هذه الدعوات: قد فعلت » .

[ ص: 739 ] وقد روى البخاري والجماعة عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: « من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة، في ليلة، كفتاه » .

وروى الإمام أحمد عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أعطيت خواتيم سورة البقرة من بيت كنز من تحت العرش، لم يعطهن نبي قبلي » .

وأخرج مسلم عن ابن مسعود قال: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم، انتهي به إلى سدرة المنتهى، وهي في السماء السادسة، إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض، فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط من فوقها، فيقبض منها. قال: إذ يغشى السدرة ما يغشى قال: فراش من ذهب قال، فأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا: أعطي الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئا، المقحمات.

وعن ابن عباس قال: بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضا من فوقه، فرفع رأسه فقال: « هذا باب من السماء فتح اليوم، لم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملك فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم، فسلم وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما [ ص: 740 ] نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة. لن تقرأ حرفا منهما إلا أعطيته » . رواه مسلم والنسائي. وهذا لفظ مسلم.

وأخرج الترمذي والنسائي والدارمي والحاكم وصححه، عن النعمان بن بشير: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن الله كتب كتابا قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام، أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة، ولا يقرآن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان » .

وأخرج عبد بن حميد في " مسنده " عن الحسن: أنه كان إذا قرأ آخر البقرة قال: يا لك نعمة..! يا لك نعمة.

هذا، وقد روي في فضل سورة البقرة أحاديث كثيرة... منها ما أخرجه مسلم والترمذي من حديث النواس بن سمعان قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: « يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به، تقدمه سورة البقرة وآل عمران » وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد قال: « كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق. أو كأنهما حزقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما » .

وأخرج أحمد والحاكم والدارمي عن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « تعلموا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة. تعلموا البقرة وآل عمران فإنهما هما الزهراوان يجيئان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف تجادلان عن صاحبهما » .

وأخرج أحمد ومسلم والترمذي عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا تجعلوا [ ص: 741 ] بيوتكم مقابر. إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة » . ولفظ الترمذي: « وإن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان » .

وأخرج سعيد بن منصور والترمذي والحاكم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لكل شيء سنام وإن سنام القرآن سورة البقرة. وفيها آية هي سيدة آي القرآن، آية الكرسي » .

فائدة:

قال ابن القيم: تأمل خطاب القرآن تجد ملكا له الملك كله، وله الحمد كله، أزمة الأمور كلها بيده، ومصدرها منه، وموردها إليه، مستويا على العرش، لا تخفى عليه خافية من أقطار مملكته، عالما بما في نفوس عبيده، مطلعا على أسرارهم وعلانيتهم، منفردا بتدبير المملكة، يسمع ويرى ويعطي ويمنع، ويثيب ويعاقب، ويكرم ويهين، ويخلق ويرزق، ويميت ويحيي، ويقدر ويقضي ويدبر، الأمور نازلة من عنده، دقيقها وجليلها، وصاعدة إليه لا تتحرك ذرة إلا بإذنه، ولا تسقط ورقة إلا بعلمه، فتأمل كيف تجده يثني على نفسه، ويمجد نفسه، ويحمد نفسه، وينصح عباده ويدلهم على ما فيه سعادتهم وفلاحهم ويرغبهم فيه، ويحذرهم مما فيه هلاكهم، ويتعرف إليهم بأسمائه وصفاته، ويتحبب إليهم بنعمه وآلائه! يذكرهم بنعمه عليهم، ويأمرهم بما يستوجبون به تمامها، ويحذرهم من نقمه، ويذكرهم بما أعد لهم من الكرامة إن أطاعوه، وما أعد لهم من العقوبة إن عصوه، ويخبرهم بصنعه في أوليائه وأعدائه، وكيف كانت عاقبة هؤلاء وهؤلاء، ويثني على أوليائه بصالح أعمالهم وأحسن أوصافهم، ويذم أعداءه بسيئ أعمالهم وقبيح صفاتهم، ويضرب الأمثال، وينوع الأدلة والبراهين، ويجيب عن شبه أعدائه أحسن الأجوبة، [ ص: 742 ] ويصدق الصادق، ويكذب الكاذب، ويقول الحق، ويهدي السبيل، ويدعو إلى دار السلام ويذكر أوصافها وحسنها ونعيمها، ويحذر من دار البوار، ويذكر عذابها وقبحها وآلامها، ويذكر عباده فقرهم إليه وشدة حاجتهم إليه من كل وجه، وأنهم لا غنى لهم عنه طرفة عين، ويذكرهم غناءه عنهم وعن جميع الموجودات، وأنه الغني بنفسه عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، وأنه لا ينال أحد ذرة من الخير فما فوقها إلا بفضله ورحمته، ولا ذرة من الشر فما فوقها إلا بعدله وحكمته، وتشهد من خطابه عتابه لأحبابه ألطف عتاب.

وأنه مع ذلك مقيل عثراتهم، وغافر زلاتهم، ومقيم أعذارهم، ومصلح فسادهم، والدافع عنهم، والحامي عنهم، والناصر لهم، والكفيل بمصالحهم والمنجي لهم من كل كرب، والموفي لهم بوعده.

وأنه وليهم الذي لا ولي لهم سواه، فهو مولاهم الحق، وينصرهم على عدوهم، فنعم المولى ونعم النصير.

وإذا شهدت القلوب من القرآن ملكا عظيما جوادا رحيما جميلا هذا شأنه، فكيف لا تحبه، وتنافس في القرب منه، وتنفق أنفاسها في التودد إليه، ويكون أحب إليها من كل ما سواه، ورضاه آثر عندها من رضا كل من سواه؟ وكيف لا تلهج بذكره وتصير حبه والشوق إليه والأنس به هو غذاؤها وقوتها ودواؤها، بحيث إن فقدت ذلك فسدت وهلكت ولم تنتفع بحياتها؟!

اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء حزننا، وأعنا على إكمال ما قصدناه بفضلك. يا أرحم الراحمين.
[ ص: 748 ]



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #143  
قديم 24-05-2022, 11:12 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,211
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
المجلد الثالث
صـ 749 الى صـ 754
الحلقة (143)


سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ : مِائَتَا آيَةٍ، أَوْ إِلَّا آيَةً. سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ اصْطِفَاءَ آلِ عِمْرَانَ، وَهُمْ عِيسَى وَيَحْيَى وَمَرْيَمُ وَأُمُّهَا، نَزَلَ فِيهِ مِنْهَا مَا لَمْ يَنْزِلْ فِي غَيْرِهِ. إِذْ هُوَ بِضْعٌ وَثَمَانُونَ آيَةً. وَقَدْ جُعِلَ هَذَا الِاصْطِفَاءُ دَلِيلًا عَلَى اصْطِفَاءِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَعْلِهِ مَتْبُوعًا لِكُلِّ مُحِبٍّ لِلَّهِ وَمَحْبُوبٍ لَهُ.

وَتُسَمَّى : الزَّهْرَاءُ ، لِأَنَّهَا كَشَفَتْ عَمَّا الْتَبَسَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ مِنْ شَأْنِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ . وَالْأَمَانُ، لِأَنَّ مَنْ تَمَسَّكَ بِمَا فِيهَا أَمِنَ مِنَ الْغَلَطِ فِي شَأْنِهِ. وَالْكَنْزُ، لِتَضَمُّنِهَا الْأَسْرَارَ الْعِيسَوِيَّةَ . وَالْمُجَادَلَة ُ، لِنُزُولِ نَيِّفٍ وَثَمَانِينَ آيَةً مِنْهَا فِي مُجَادَلَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَصَارَى نَجْرَانَ. وَسُورَةُ الِاسْتِغْفَارِ ، لِمَا فِيهَا مِنْ قَوْلِهِ: وَالْمُسْتَغْفِ رِينَ بِالْأَسْحَارِ . وَطَيْبَةُ، لِجَمْعِهَا مِنْ أَصْنَافِ الطَّيِّبِينَ فِي قَوْلِهِ:

اَلصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ . إِلَى آخِرِهِ، أَفَادَهُ الْمَهَايِمِيُّ .

وَالْمُرَادُ بِعِمْرَانَ هُوَ وَالِدُ مَرْيَمَ، أُمِّ عِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، كَمَا يَأْتِي التَّنْوِيهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ

[ ص: 749 ] اَلْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى :

الم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَـزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْـزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ [ 1 - 3 ]

الم سَلَفَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ أَوَّلَ الْبَقَرَةِ

اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ سَبَقَ تَأْوِيلُهُ فِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ .

نَـزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ أَيْ : الْقُرْآنَ . عَبَّرَ عَنْهُ بِاسْمِ الْجِنْسِ إِيذَانًا بِكَمَالِ تَفَوُّقِهِ عَلَى بَقِيَّةِ الْأَفْرَادِ فِي حِيَازَةِ كَمَالَاتِ الْجِنْسِ ، كَأَنَّهُ هُوَ الْحَقِيقُ بِأَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْكِتَابِ دُونَ مَا عَدَاهُ ، كَمَا يَلُوحُ بِهِ التَّصْرِيحُ بِاسْمَيْ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ : بِالْحَقِّ أَيْ : الصِّدْقِ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ : مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ أَيْ : مِنَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ قَبْلَهُ .

قَالَ الْمَهَايِمِيُّ : أَيْ : مُعَرِّفًا صِدْقَ الْكُتُبِ السَّالِفَةِ . وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ : الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا قَطُّ إِلَّا بِالدُّعَاءِ إِلَى تَوْحِيدِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ ، وَتَنْزِيهِهِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ ، وَالْأَمْرِ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ، وَبِالشَّرَائِع ِ الَّتِي هِيَ صَلَاحُ كُلِّ زَمَانٍ . فَالْقُرْآنُ مُصَدِّقٌ لِتِلْكَ الْكُتُبِ فِي كُلِّ ذَلِكَ : وَأَنْـزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ تَعْيِينٌ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَبْيِينٌ لِرِفْعَةِ مَحَلِّهِ . تَأْكِيدًا لِمَا قَبْلَهُ ، وَتَمْهِيدًا لِمَا بَعْدَهُ . إِذْ بِذَلِكَ يَتَرَقَّى شَأْنُ مَا يُصَدِّقُهُ رِفْعَةً وَنَبَاهَةً ، وَيَزْدَادُ فِي الْقُلُوبِ قَبُولًا وَمَهَابَةً ، وَيَتَفَاحَشُ حَالُ مَنْ كَفَرَ بِهِمَا فِي الشَّنَاعَةِ ، وَاسْتِتْبَاعِ مَا سَيُذْكَرُ مِنَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ وَالِانْتِقَامِ . قَالَهُ أَبُو السُّعُودِ .

وَالتَّوْرَاةُ اسْمٌ عِبْرَانِيٌّ مَعْنَاهُ : (اَلشَّرِيعَةُ) . وَالْإِنْجِيلُ لَفْظَةٌ يُونَانِيَّةٌ مَعْنَاهَا : (اَلْبُشْرَى). [ ص: 750 ] أَيْ : الْخَبَرُ الْحَسَنُ . هَذَا هُوَ الصَّوَابُ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْكِتَابَيْنِ فِي مُصَنَّفَاتِهِم ْ . وَقَدْ حَاوَلَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ تَطْبِيقَهُمَا عَلَى أَوْزَانِ لُغَةِ الْعَرَبِ وَاشْتِقَاقِهِم َا مِنْهَا . وَهُوَ خَبْطٌ بِغَيْرِ ضَبْطٍ .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 4 ] من قبل هدى للناس وأنـزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام .

من قبل متعلق بـ : ( أنزل ) ، أي : أنزلهما من قبل تنزيل الكتاب ، والتصريح به مع ظهور الأمر ، للمبالغة في البيان : هدى للناس أي : لقوم موسى وعيسى . أو ما هو أعم ، لأن هذه الأمة متعبدة بما لم ينسخ من الشرائع : وأنـزل الفرقان وهو الكتب السماوية التي ذكرها ، لأن كلها فرقان يفرق بين الحق والباطل . أو هو القرآن . وإنما كرر ذكره بما هو نعت له ، ومدح له ، من كونه فارقا بين الحق والباطل ، بعدما ذكره باسم الجنس ، تعظيما لشأنه ، وإظهارا لفضله ، قال الرازي : أو يقال : إنه تعالى أعاد ذكره ليبين أنه أنزله بعد التوراة والإنجيل ، ليجعله فرقا بين ما اختلف فيه اليهود والنصارى من الحق والباطل . وعلى هذا التقدير فلا تكرار . ثم استظهر حمل الفرقان على المعجزات التي قرنها الله تعالى بإنزال هذه الكتب الفارقة بين دعواهم ودعوى الكذابين . قال : فالفرقان هو المعجز القاهر الذي يدل على صحتها ، ويفيد الفرق بينها وبين سائر الكتب المختلفة . انتهى .

ويجوز أن يكون المراد بالفرقان : ( الميزان ) المشار إليه في قوله تعالى : لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنـزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط والميزان : هو العدل في الأمور كلها ؛ واللفظ مما يشمل ذلك كله لتلاقيها في المعنى .

[ ص: 751 ] إن الذين كفروا بآيات الله أي : جحدوا بها : لهم بسبب كفرهم بها : عذاب شديد وهذا الوعيد ، جيء به إثر ما تقدم حملا على الإذعان ، وزجرا عن العصيان : والله عزيز لا يغالب يفعل ما يشاء : ذو انتقام أي : معاقبة ، يقال : انتقم الله منه : عاقبه . والنقمة : المكافأة بالعقوبة .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 5 ] إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء .

إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء أي : هو مطلع على كفر من كفر وإيمان من آمن ، وهو مجازيهم عليه .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 6 ] هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم

هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء أي : يخلقكم في الأرحام كما يشاء من ذكر وأنثى ، وحسن وقبيح ، وشقي وسعيد لا إله إلا هو العزيز الحكيم

القول في تأويل قوله تعالى :

[ 7 ] هو الذي أنـزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب .

هو الذي أنـزل عليك الكتاب منه آيات محكمات واضحات الدلالة : هن [ ص: 752 ] أم الكتاب أي : أصله المعتمد عليه في الأحكام : وأخر متشابهات وهي : ما استأثر الله بعلمها لعدم اتضاح حقيقتها التي أخبر عنها ، أو ما احتملت أوجها . وجعله كله محكما في قوله : أحكمت آياته بمعنى أنه ليس فيه عيب ، وأنه كلام حق فصيح الألفاظ ، صحيح المعاني .

ومتشابها في قوله : كتابا متشابها بمعنى أنه يشبه بعضه بعضا في الحسن ، ويصدق بعضه بعضا : فأما الذين في قلوبهم زيغ أي : ميل عن استقامة إلى كفر وأهواء وابتداع : فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة أي : طلب الإيقاع في الشبهات واللبس : وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله وحده : والراسخون في العلم أي : الثابتون المتمكنون مبتدأ ، خبره : يقولون آمنا به أي : بالمتشابه على ما أراد الله تعالى : كل من المحكم والمتشابه : من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب أي : العقول الخالصة من الركون إلى الأهواء الزائغة . وهو تذييل سيق منه تعالى مدحا للراسخين بجودة الذهن وحسن النظر .

تنبيه :

للعلماء في المحكم والمتشابه أقوال كثيرة ، ومباحث واسعة ، وأبدع ما رأيته في تحرير هذا المقام مقالة سابغة الذيل لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية - عليه الرحمة والرضوان - . يقول في خلالها :

المحكم في القرآن ، تارة يقابل بالمتشابه ، والجميع من آيات الله ، وتارة يقابل بما نسخه الله ، مما ألقاه الشيطان .

ومن الناس من يجعله مقابلا لما نسخه الله مطلقا حتى يقول : هذه الآية محكمة ليست منسوخة ، ويجعل المنسوخ ليس محكما ، وإن كان الله أنزله أولا اتباعا للظاهر من قوله : فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته

فهذه ثلاثة معان تقابل المحكم ، ينبغي التفطن لها .

وجماع ذلك أن الإحكام تارة يكون في التنزيل . فيكون في مقابلته ما يلقيه الشيطان . فالمحكم المنزل من عند الله أحكمه الله ، أي : فصله من الاشتباه بغيره ، وفصل منه ما ليس منه ، فإن الإحكام هو الفصل والتمييز والفرق والتحديد الذي به يتحقق الشيء ويحصل إتقانه ، [ ص: 753 ] ولهذا دخل فيه معنى المنع ، كما دخل في الحد بالمنع جزء معناه ، لا جميع معناه ، وتارة يكون في إبقاء التنزيل عند من قابله بالنسخ الذي هو رفع ما شرع ، وهو اصطلاحي. أو يقال : ( وهو أشبه ) : السلف كانوا يسمون كل رفع نسخا ، سواء كان رفع حكم ، أو رفع دلالة ظاهرة ، فكل ظاهر ترك ظاهره لمعارض راجح كتخصيص العام وتقييد المطلق ، فهو منسوخ في اصطلاح السلف ، وإلقاء الشيطان في أمنيته قد يكون في نفس لفظ المبلغ ، وقد يكون في مسمع المبلغ ، وقد يكون في فهمه ، كما قال : أنـزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها ومعلوم أن من سمع ، سمع النص الذي قد رفع حكمه ، أو دلالة له ، فإنه يلقي الشيطان في تلك التلاوة اتباع ذلك المنسوخ ، فيحكم الله آياته بالناسخ الذي به رفع الحكم ، وبان المراد . وعلى هذا التقدير ، فيصح أن يقال : المتشابه والمنسوخ ، بهذا الاعتبار . والله أعلم .

وتارة يكون الإحكام في التأويل والمعنى ، وهو تمييز الحقيقة المقصودة من غيرها ، حتى لا تشتبه بغيرها . وفي مقابلة المحكمات الآيات المتشابهات التي تشبه هذا وتشبه هذا . فتكون محتملة للمعنيين ، ولم يقل في المتشابه : ( لا يعلم تفسيره ومعناه إلا الله ) ، وإنما قال : وما يعلم تأويله إلا الله وهذا هو فصل الخطاب بين المتنازعين في هذا الموضع . فإن الله أخبر أنه لا يعلم تأويله إلا هو . والوقف هنا ، على ما دل عليه أدلة كثيرة ، وعليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجمهور التابعين ، وجماهير الأمة . ولكن لم ينف علمهم بمعناه وتفسيره ، بل قال : كتاب أنـزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وهذا يعم الآيات [ ص: 754 ] المحكمات والآيات المتشابهات . وما لا يعقل له معنى لا يتدبر ، وقال : أفلا يتدبرون القرآن

ولم يستثن شيئا منه نهى عن تدبره . والله ورسوله إنما ذم من اتبع المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ، فأما من تدبر المحكم والمتشابه كما أمر الله ، وطلب فهمه ومعرفة معناه ، فلم يذمه الله ، بل أمر بذلك ومدح عليه .

يبين ذلك أن التأويل ، قد روي أن اليهود الذين كانوا بالمدينة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كحيي بن أخطب ، وغيره من طلب من حروف الهجاء التي في أوائل السور بقاء هذه الأمة ، كما سلك ذلك طائفة من المتأخرين موافقة للصابئة المنجمين ، وزعموا أنه ستمائة وثلاثة وتسعون عاما ، لأن ذلك هو عدد ما للحروف في حساب الجمل ، بعد إسقاط المكرر . وهذا من نوع تأويل الحوادث التي أخبر بها القرآن في اليوم الآخر . وروي أن من النصارى الذين وفدوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - في وفد نجران من تأول ( إنا ونحن ) على أن الآلهة ثلاثة ، لأن هذا ضمير جمع . وهذا تأويل في الإيمان بالله . فأولئك تأولوا في اليوم الآخر . وهؤلاء تأولوا في الله . ومعلوم أن ( أنا ونحن ) من المتشابه . فإنه يراد بها الواحد الذي معه غيره من جنسه ، ويراد بها الواحد الذي معه أعوانه وإن لم يكونوا من جنسه ، ويراد الواحد المعظم نفسه ، الذي يقوم مقامه من معه غيره لتنوع أسمائه التي كل اسم منها يقوم مقام مسمى .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #144  
قديم 24-05-2022, 11:13 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,211
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
المجلد الثالث
صـ 755 الى صـ 760
الحلقة (144)


فصار هذا متشابها لأن اللفظ واحد ، والمعنى متنوع ، والأسماء المشتركة في اللفظ هي من المتشابه ، وبعض المتواطئ أيضا من المتشابه . ويسميها أهل التفسير : ( الوجوه والنظائر ) وصنفوا كتب الوجوه والنظائر . فالوجوه في الأسماء المشتركة ، والنظائر في الأسماء المتواطئة . وقد ظن بعض أصحابنا المصنفين في ذلك أن الوجوه والنظائر جميعا في الأسماء المشتركة ، فهي نظائر باعتبار اللفظ ، ووجوه باعتبار المعنى ، وليس الأمر على ما قاله ، [ ص: 755 ] بل كلامهم صريح فيما قلناه لمن تأمله ، والذين في قلوبهم زيغ يدعون المحكم الذي لا اشتباه فيه مثل : وإلهكم إله واحد إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ويتبعون المتشابه ابتغاء الفتنة ليفتنوا به الناس إذا وضعوه على غير مواضعه ، وحرفوا الكلم عن مواضعه . وابتغاء تأويله وهو الحقيقة التي أخبر عنها . وذلك أن الكلام نوعان : إنشاء فيه الأمر ، وإخبار .

فتأويل الأمر هو نفس الفعل المأمور به ، كما قال من قال من السلف : إن السنة هي تأويل الأمر . قالت عائشة - رضي الله عنها - : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده : سبحانك اللهم وبحمدك ، اللهم اغفر لي . يتأول القرآن ، تعني قوله : فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا وأما الإخبار فتأويله عين الأمر المخبر به إذا وقع ، [ ص: 756 ] ليس تأويله فهم معناه ، وقد جاء اسم التأويل في القرآن في غير موضع . وهذا معناه . قال الله تعالى : ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فقد أخبر أنه فصل الكتاب ، وتفصيله بيانه وتمييزه بحيث لا يشتبه ، ثم قال : هل ينظرون أي : ينتظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله إلى آخر الآية . وإنما ذلك مجيء ما أخبر به القرآن بوقوعه من القيامة وأشراطها ، كالدابة ويأجوج ومأجوج وطلوع الشمس من مغربها ومجيء ربك والملك صفا صفا ، وما في الآخرة من الصحف والموازين والجنة والنار وأنواع النعيم والعذاب وغير ذلك . فحينئذ يقولون : قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل وهذا القدر الذي أخبر به القرآن من هذه الأمور لا يعلم وقته وقدره وصفته إلا الله ، فإن الله يقول : فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ويقول : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر . وقال ابن عباس : ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء ، فإن الله قد أخبر أن في الجنة خمرا ولبنا وماء وحريرا وذهبا وفضة وغير ذلك . ونحن نعلم قطعا أن تلك الحقيقة ليست مماثلة لهذه ، بل بينهما تباين عظيم مع [ ص: 757 ] التشابه . كما في قوله : وأتوا به متشابها على أحد القولين ، أي : يشبه ما في الدنيا ، وليس مثله ، فأشبه اسم تلك الحقائق أسماء هذه الحقائق ، كما أشبهت الحقائق الحقائق من بعض الوجوه ، فنحن نعلمها إذا خوطبنا بتلك الأسماء من القدر المشترك بينهما ، ولكن لتلك الحقائق خاصية لا ندركها في الدنيا ، ولا سبيل إلى إدراكنا لها لعدم إدراك عينها أو نظيرها من كل وجه ، وتلك الحقائق على ما هي تأويل ما أخبر الله به ، وهذا فيه رد على اليهود والنصارى والصابئين من المتفلسفة وغيرهم . فإنهم ينكرون أن يكون في الجنة أكل وشرب ولباس ونكاح ، ويمنعون وجود ما أخبر به القرآن . ومن دخل في الإسلام ونافق المؤمنين ، تأول ذلك على أن هذه أمثال مضروبة لتفهيم النعيم الروحاني ، إن كان من المتفلسفة الصابئة المنكرة لحشر الأجساد . وإن كان من منافقة الملتين المقرين بحشر الأجساد ، تأول ذلك على تفهيم النعيم الذي في الجنة من الروحاني والسماع الطيب والروائح العطرة ، كل ضال يحرف الكلم عن مواضعه إلى ما اعتقد ثبوته . وكان في هذا أيضا متبعا للمتشابه ، إذ الأسماء تشبه الأسماء ، والمسميات تشبه المسميات ، ولكن تخالفها أكثر مما تشابهها . فهؤلاء يتبعون هذا المتشابه ابتغاء الفتنة بما يوردونه من الشبهات على امتناع أن يكون في الجنة هذه الحقائق ، وابتغاء تأويله ليردوه إلى المعهود الذي يعلمونه في الدنيا ، قال الله تعالى : وما يعلم تأويله إلا الله فإن تلك الحقائق قال الله فيها : فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين لا ملك مقرب ولا نبي مرسل .

وقوله : وما يعلم تأويله إما أن يكون الضمير عائدا على الكتاب أو على المتشابه . فإن [ ص: 758 ] كان عائدا على الكتاب لقوله : منه ، ومنه : فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله فهذا يصح ، فإن جميع آيات الكتاب المحكمة والمتشابهة التي فيها إخبار عن الغيب الذي أمرنا أن نؤمن به ، لا يعلم حقيقة ذلك الغيب ومتى يقع إلا الله ، وقد يستدل لهذا أن الله جعل التأويل للكتاب كله مع إخباره أنه مفصل بقوله : ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله فجعل التأويل الجائي الكتاب المفصل ، وقد بينا أن ذلك التأويل لا يعلمه - وقتا وقدرا ونوعا وحقيقة - إلا الله ، وإنما نعلم نحن بعض صفاته بمبلغ علمنا لعدم نظيره عندنا ، وكذلك قوله : بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله وإذا كان التأويل الكتاب كله والمراد به ذلك ، ارتفعت الشبهة ، وصار هذا بمنزلة قوله : يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض - إلى قوله : إنما علمها عند الله وكذلك قوله : يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا فأخبر أنه ليس علمها إلا عند الله ، وإنما هو علم وقتها المعين وحقيقتها ، وإلا فنحن قد علمنا من صفاتها ما أخبرنا به ، فعلم تأويله كعلم الساعة والساعة من تأويله . وهذا واضح بين ، ولا ينافي كون علم الساعة عند الله أن نعلم من صفاتها وأحوالها ما علمناه ، وأن نفسر النصوص المبينة لأحوالها . فهذا هذا .

[ ص: 759 ] وإن كان الضمير عائدا إلى ما تشابه كما يقوله كثير من الناس ، فلأن المخبر به من الوعد والوعيد متشابه ، بخلاف الأمر والنهي . ولهذا في الآثار : العمل بمحكمه ، والإيمان بمتشابهه ، لأن المقصود في الخبر الإيمان . وذلك لأن المخبر به من الوعد والوعيد فيه من التشابه ما ذكرناه . بخلاف الأمر والنهي ، فإنه متميز غير مشتبه بغيره ، فإنه أمور نفعلها قد علمناها بالوقوع ، وأمور نتركها لا بد أن نتصورها .

ومما جاء من لفظ التأويل في القرآن قوله تعالى : بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله والكتابة عائدة على القرآن ، أو على ما لم يحيطوا بعلمه ، وهو يعود إلى القرآن . قال تعالى : وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين

فأخبر سبحانه أن هذا القرآن ما كان ليفترى من دون الله وهذه الصيغة تدل على امتناع المنفي كقوله : وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون لأن الخلق عاجزون عن الإتيان بمثله . كما تحداهم وطالبهم لما قال : أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين فهذا تعجيز [ ص: 760 ] لجميع المخلوقين . قال تعالى : ولكن تصديق الذي بين يديه أي : مصدق الذي بين يديه ، وتفصيل الكتاب ، أي : مفصل الكتاب ، فأخبر أنه مصدق الذي بين يديه ومفصل الكتاب . والكتاب اسم جنس . ولما تحدى القائلين : افتراه ، ودل على أنهم هم المفترون ، قال : بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله ففرق بين الإحاطة بعلمه ، وبين إتيان تأويله .

فتبين أنه يمكن أن يحيط أهل العلم والإيمان بعلمه ، ولما يأتهم تأويله ، وأن الإحاطة بعلم القرآن ليست إتيان تأويله ، فإن الإحاطة بعلمه معرفة معاني الكلام على التمام ، وإتيان التأويل نفس وقوع المخبر به . وفرق بين معرفة الخبر وبين المخبر به . فمعرفة الخبر هي معرفة تفسير القرآن ، ومعرفة المخبر به هي معرفة تأويله . وهذا هو الذي بيناه فيما تقدم .





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #145  
قديم 24-05-2022, 11:14 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,211
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
المجلد الثالث
صـ 761 الى صـ 766
الحلقة (145)



إن الله إنما أنزل القرآن ليعلم ويفهم ويفقه ويتدبر ويتفكر به محكمه ومتشابهه ، وإن لم يعلم تأويله ، ويبين ذلك أن الله يقول عن الكفار : وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا فقد أخبر ، ذما للمشركين ، أنه إذا قرئ عليهم القرآن حجب بين أبصارهم وبين الرسول بحجاب مستور ، وجعل على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا . فلو كان أهل العلم والإيمان على قلوبهم أكنة أن يفقهوا بعضه لشاركوهم في ذلك . وقوله : أن يفقهوه يعود إلى القرآن كله . فعلم أن الله يحب أن يفقه ، ولهذا قال الحسن البصري : ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم في ماذا أنزلت وماذا عني بها . وما استثني من ذلك لا متشابها ولا غيره . وقال مجاهد : عرضت المصحف على ابن عباس من أوله إلى آخره مرات ، [ ص: 761 ] أقفه عند كل آية وأسأله عنها . فهذا ابن عباس حبر الأمة ، وهو أحد من كان يقول : لا يعلم تأويله إلا الله ، يجيب مجاهدا عن كل آية في القرآن ، وهذا هو الذي جعل مجاهدا ومن وافقه كابن قتيبة على أن جعلوا الوقف عند قوله : والراسخون في العلم فجعلوا الراسخين يعلمون التأويل ، لأن مجاهدا تعلم من ابن عباس تفسير القرآن كله وبيان معانيه . فظن أن هذا هو التأويل المنفي عن غير الله . وأصل ذلك أن لفظ التأويل ، وبه أشير إلى بين ما عناه الله في القرآن وبين ما كان يطلقه طوائف من السلف ، وبين اصطلاح طوائف من المتأخرين ، فبسبب الاشتراك في لفظ ( التأويل ) اعتقد كل من فهم منه معنى بلغته أن ذلك هو المذكور في القرآن .

ومجاهد إمام التفسير ، قال الثوري : إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به .

وأما التأويل فشأن آخر . ويبين ذلك أن الصحابة والتابعين لم يمتنع أحد منهم عن تفسير آية من كتاب الله وقال : هذه من المتشابه الذي لا يعلم معناه ، ولا قال قط أحد من سلف الأمة ولا من الأئمة المتبوعين : إن في القرآن آيات لا يعلم معناها ولا يفهمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أهل العلم والإيمان جميعهم . وإنما قد ينفون علم بعض ذلك على بعض الناس ، وهذا لا ريب فيه ، وإنما وضع هذه المسألة المتأخرون من الطوائف بسبب الكلام في آيات الصفات وآيات القدر وغير ذلك ، فلقبوها ، هل يجوز أن يشتمل القرآن على ما لا يعلم معناه ، وما تعبدنا بتلاوة حروفه بلا فهم ؟ فجوز ذلك طوائف متمسكين بظاهر من هذه الآية ، وبأن الله يمتحن عباده بما شاء ، ومنعها طوائف ليتوصلوا بذلك إلى تأويلاتهم الفاسدة التي هي تحريف الكلم عن مواضعه . والغالب على كلتا الطائفتين الخطأ . أولئك يقصرون في فهمهم القرآن بمنزلة من قيل فيه : ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون وهؤلاء معتدون ، بمنزلة الذين يحرفون الكلم عن مواضعه . ومن المتأخرين من وضع المسألة [ ص: 762 ] بلقب شنيع فقال : لا يجوز أن يتكلم الله بكلام ولا يعني به شيئا ، خلافا للحشوية ، وهذا لم يقله مسلم إن الله يتكلم بما لا معنى له ، وإنما النزاع هل يتكلم بما لا يفهم معناه . وبين نفي المعنى عند المتكلم ، ونفي الفهم عند المخاطب ، بون عظيم . ثم احتج بما يجري على أصله ، فقال : هذا عبث ، والعبث على الله محال ، وعنده أن الله لا يقبح منه شيء أصلا ، بل يجوز أن يفعل كل شيء ، وليس له أن يقول العبث صفة نقص ، فهو منتف عنه ، لأن النزاع في الحروف ، وهي عنده مخلوقة من جملة الأفعال ، ويجوز أن يشتمل الفعل عنده على كل صفة ، فلا نقل صريح ، ولا عقل صحيح .

ومثار الفتن بين الطائفتين ومحار عقولهم أن مدعي التأويل أخطؤوا في زعمهم أن العلماء يعلمون التأويل ، وفي دعواهم أن التأويل هو تأويلهم الذي هو تحريف الكلم عن مواضعه . فإن الأولين ، لعلمهم بالقرآن والسنن ، وصحة عقولهم ، وعلمهم بكلام السلف ، وكلام العرب ، علموا يقينا أن التأويل الذي يدعيه هؤلاء ليس هو معنى القرآن . فإنهم حرفوا الكلم عن مواضعه ، وصاروا مراتب ما بين قرامطة وباطنية يتأولون للأخبار والأوامر . وما بين صابئة فلاسفة يتأولون عامة الأخبار عن الله وعن اليوم الآخر ، حتى عن أكثر أحوال الأنبياء . وما بين جهمية ومعتزلة يتأولون بعض ما جاء في اليوم الآخر وفي آيات القدر ، ويتأولون آيات الصفات . وقد وافقهم بعض متأخري الأشعرية على ما جاء في بعض الصفات ، وبعضهم في بعض ما جاء في اليوم الآخر . وآخرون من أصناف الأمة ، وإن كان يغلب عليهم السـنة ، فقد يتأولون أيضا مواضع يكون تأويلهم من تحريف الكلم عن مواضعه .

والذين ادعوا العلم بالتأويل مثل طائفة من السلف وأهل السنة ، وأكثر أهل الكلام والبدع ، رأوا أيضا أن النصوص دلت على معرفة معاني القرآن . ورأوا عجزا وعيبا وقبيحا أن يخاطب الله عباده بكلام يقرؤونه ويتلونه وهم لا يفهمونه . وهم مصيبون فيما استدلوا به من سمع وعقل ، لكن أخطؤوا في معنى التأويل الذي نفاه الله ، وفي التأويل الذي أثبتوه وتسلق بذلك [ ص: 763 ] مبتدعتهم إلى تحريف الكلم عن مواضعه ، وصار الأولون أقرب إلى السكوت والسلامة بنوع من الجهل ، وصار الآخرون أكثر كلاما وجدالا ، ولكن بفرية على الله ، وقول عليه ما لا يعلمونه ، وإلحاد في أسمائه وآياته ، فهذا هذا .

ومنشأ الشبهة الاشتراك في لفظ التأويل ، فإن التأويل في عرف المتأخرين من المتفقهة والمتكلمة والمحدثة والمتصوفة ونحوهم هو : صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به ، وهذا هو التأويل الذي يتكلمون عليه في أصول الفقه ومسائل الخلاف . فإذا قال أحد منهم : هذا الحديث أو هذا النص مؤول ، أو هو محمول على كذا ، قال الآخر : هذا نوع تأويل ، والتأويل يحتاج إلى دليل . والمتأول عليه وظيفتان : بيان احتمال اللفظ للمعنى الذي ادعاه ، وبيان الدليل الموجب للصرف إليه عن المعنى الظاهر ، وهذا هو التأويل الذي يتنازعون فيه في مسائل الصفات ، إذا صنف بعضهم في إبطال التأويل ، أو ذم التأويل ، أو قال بعضهم : آيات الصفات لا تؤول ، وقال الآخر : بل يجب تأويلها ، وقال الثالث : بل التأويل جائز يفعل عند المصلحة ، ويترك عند المصلحة ، أو يصح للعلماء دون غيرهم ، إلى غير ذلك من المقالات والتنازع .
وأما لفظ التأويل في لفظ السلف فله معنيان :

أحدهما : تفسير الكلام وبيان معناه ، سواء وافق ظاهره أو خالفه ، فيكون التأويل والتفسير عند هؤلاء متقاربا أو مترادفا ، وهذا - والله أعلم - هو الذي عناه مجاهد أن العلماء يعلمون تأويله . ومحمد بن جرير الطبري يقول في تفسيره : القول في تأويل قوله كذا وكذا . واختلف أهل التأويل في هذه الآية . ونحو ذلك ، ومراده التفسير .

والمعنى الثاني : في لفظ السلف وهو الثالث من مسمى التأويل مطلقا هو نفس المراد بالكلام . فإن الكلام إن كان طلبا كان تأويله نفس الفعل المطلوب . وإن كان خبرا كان تأويله نفس الشيء المخبر به . وبين هذا المعنى والذي قبله بون . فإن الذي قبله يكون التأويل [ ص: 764 ] فيه من باب العلم ، والكلام كالتفسير والشرح والإيضاح ، ويكون وجود التأويل في القلب واللسان ، له الوجود الذهني واللفظي والرسمي . وأما هذا ، فالتأويل فيه نفس الأمور الموجودة في الخارج ، سواء كانت ماضية أو مستقبلة .

فإذا قيل : طلعت الشمس ، فتأويل هذا نفس طلوعها . وهذا الوضع والعرف .

الثالث : هو لغة القرآن التي نزل بها وقد قدمنا التبيين في ذلك . ومن ذلك قول يعقوب عليه السلام ليوسف : وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وقوله : ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله وقول الملأ : أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون وقول يوسف لما دخلوا عليه مصر وآوى إليه أبويه وقال : ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين [ ص: 765 ] ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا

فتأويل الأحاديث التي هي رؤيا المنام هي نفس مدلولها التي تؤول إليه ، كما قال يوسف : هذا تأويل رؤياي من قبل والعالم بتأويلها الذي يخبر به . كما قال يوسف : لا يأتيكما طعام ترزقانه أي : في المنام إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما أي : قبل أن يأتيكما التأويل . وقال الله تعالى : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا قالوا : أحسن عاقبة ومصيرا . فالتأويل هنا تأويل فعلهم الذي هو الرد إلى الكتاب والسنة ، والتأويل في سورة يوسف تأويل أحاديث الرؤيا ، والتأويل في الأعراف ويونس تأويل القرآن ، وكذلك في سورة آل عمران . وقال تعالى في قصة موسى والعالم : قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا إلى قوله : وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا

فالتأويل هنا تأويل الأفعال التي فعلها العالم [ ص: 766 ] من خرق السفينة بغير إذن صاحبها . ومن قتل الغلام ، ومن إقامة الجدار . فهو تأويل عمل ، لا تأويل قول ، وإنما كان كذلك لأن التأويل مصدر أوله يؤوله تأويلا ، مثل حول تحويلا ، وعول تعويلا . و ( أول يؤول ) تعدية ( آل يؤول أولا ) ، مثل حال يحول حولا وقولهم ( آل يؤول ) أي : عاد إلى كذا ورجع إليه ، ومنه المآل ، وهو ما يؤول إليه الشيء . ويشاركه في الاشتقاق الموئل ، فإنه وأل ، وهذا من أول ، والموئل المرجع ، قال تعالى : لن يجدوا من دونه موئلا



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #146  
قديم 24-05-2022, 11:14 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,211
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
المجلد الثالث
صـ 767 الى صـ 772
الحلقة (146)



ومما يوافقه في اشتقاقه الأصغر الآل ، فإن آل الشخص من يؤول إليه ، ولهذا لا يستعمل إلا في عظيم ، بحيث يكون المضاف إليه يصلح أن يؤول إليه الآل . كآل إبراهيم وآل لوط وآل فرعون . بخلاف الأهل . والأول أفعل ، لأنهم قالوا في تأنيثه أولى ، كما قالوا جمادى الأولى ، وفي القصص : له الحمد في الأولى والآخرة ومن الناس من يقول فوعل ويقول ( أوله ) إلا أن هذا يحتاج إلى شاهد من كلام العرب ، بل عدم صرفه يدل على أنه أفعل لا فوعل . فإن فوعل مثل كوثر وجوهر مصروف . سمي المتقدم أول - والله أعلم - لأن ما بعده يؤول إليه ويبنى عليه ، فهو أس لما بعده وقاعدة له . والصيغة صيغة تفضيل مثل : أكبر وكبرى وأصغر وصغرى ، لا من أحمر وحمراء ، ولهذا يقولون : جئته أول من أمس وقال : من أول يوم وأنا أول المسلمين ولا تكونوا أول كافر به [ ص: 767 ] ومثل : هذا أول هؤلاء . .

فهذا الذي فضل عليهم في الأول ، لأن كل واحد يرجع إلى ما قبله ، فيعتمد عليه ، وهذا السابق ؛ كلهم يؤول إليه . فإن من تقدم في فعل ، فاستبق به من بعده ، كان السابق الذي يؤول الكل إليه . فالأول له وصف السؤدد والاتباع . ولفظ الأول مشعر بالرجوع والعود . والأول مشعر بالابتداء . والمبتدي خلاف العائد ، لأنه إنما كان أولا لما بعده ، فإنه يقال : أول المسلمين ، وأول يوم ، فما فيه من معنى الرجوع والعود ، هو للمضاف إليه لا للمضاف . وإذا قلنا : آل فلان فالعود في المضاف ، لأن ذلك صيغة تفضيل في كونه مآلا ومرجعا لغيره ، لأن كونه مفضلا دل عليه أنه مآل ومرجع ، لا آيل راجع ، إذ لا فضل في كون الشيء راجعا إلى غيره . آيلا إليه ، وإنما الفضل في كونه هو الذي يرجع إليه ويؤال . فلما كانت الصيغة صيغة تفضيل أشعرت بأنه مفضل في كونه مآلا ومرجعا ، والتفضيل المطلق في ذلك يقتضي أن يكون هو السابق المبتدئ . والله أعلم .

فتأويل الكلام ما أوله إليه المتكلم أو ما يؤول إليه الكلام أو ما تأوله المتكلم . فإن التفضيل يجري على غير فعل كقوله : وتبتل إليه تبتيلا فيجوز أن يقال تأول الكلام إلى هذا المعنى تأويلا ، والمصدر واقع موقع الصفة ، إذ قد يحصل المصدر صفة بمعنى الفاعل ، كعدل وصوم وفطر ، وبمعنى المفعول كـ: درهم ضرب الأمير ، وهذا خلق الله . فالتأويل هو ما أول إليه الكلام أو يؤول إليه ، أو تأول هو إليه . والكلام إنما يرجع ويعود ويستقر ويؤول ويؤول إلى حقيقته التي هي عين المقصود به ، كما قال بعض السلف في قوله : لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون قال : حقيقة . فإن كان خبرا فإلى الحقيقة المخبر بها يؤول ويرجع ، وإلا لم تكن له حقيقة ولا مآل ولا مرجع ، بل كان كذبا، وإن كان طلبا فإلى الحقيقة المطلوبة يؤول ويرجع ، وإلا لم يكن مقصوده موجودا ولا حاصلا ، ومتى كان الخبر وعدا أو وعيدا [ ص: 768 ] فإلى الحقيقة المطلوبة المنتظرة يؤول . كما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه تلا هذه الآية : قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا قال : إنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد .

فصل

وأما إدخال أسماء الله وصفاته أو بعض ذلك في المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله ، أو اعتقاد أن ذلك هو المتشابه الذي استأثر الله بعلم تأويله كما يقول كل واحد من القولين طوائف من أصحابنا وغيرهم ، فإنهم وإن أصابوا في كثير مما يقولونه ونجوا من بدع وقع فيها غيرهم ، فالكلام على هذا من وجهين :

الأول : من قال إن هذا من المتشابه وإنه لا يفهم معناه ، ما الدليل على ذلك ؟ فإني ما أعلم عن أحد من سلف الأمة ، ولا من الأئمة ، لا أحمد بن حنبل ولا غيره أنه جعل ذلك من المتشابه الداخل في هذه الآية ، ونفى أن يعلم أحد معناه ، وجعلوا أسماء الله وصفاته بمنزلة الكلام الأعجمي الذي لا يفهم . ولا قالوا إن الله ينزل كلاما لا يفهم أحد معناه . وإنما قالوا : كلمات لها معان صحيحة . قالوا في أحاديث الصفات : تمر كما جاءت ، ونهوا عن تأويلات الجهمية وردوها وأبطلوها . التي مضمونها تعطيل النصوص على ما دلت عليه . ونصوص أحمد والأئمة قبله بينة في أنهم كانوا يبطلون تأويلات الجهمية ، ويقرون النصوص على ما دلت عليه من معناها ، ويفهمون منها بعض ما دلت عليه ، كما يفهمون ذلك في سائر نصوص الوعد والوعيد والفضائل وغير ذلك . وأحمد قد قال في غير أحاديث الصفات : تمر كما جاءت في [ ص: 769 ] أحاديث الوعد . مثل : « من غشنا فليس منا » . وأحاديث الفضائل . ومقصوده بذلك أن الحديث لا يحرف كله عن مواضعه كما يفعله من يحرفه ويسمي تحريفه تأويلا ، بالعرف المتأخر .

فتأويل هؤلاء المتأخرين عند الأئمة تحريف باطل . وكذلك نص أحمد في كتاب الرد على الزنادقة الجهمية أنهم تمسكوا بمتشابه القرآن . وتكلم أحمد على ذلك المتشابه ، وبين معناه وتفسيره بما يخالف تأويل الجهمية . وجرى في ذلك على سنن الأئمة قبله ، فهذا اتفاق من الأئمة على أنهم يعلمون معنى هذا المتشابه وأنه لا يسكت عن بيانه وتفسيره . بل يبين ويفسر . فاتفاق الأئمة من غير تحريف له على مواضعه أو إلحاد في أسماء الله وآياته .

ومما يوضح لك ما وقع هنا من الاضطراب ، أن أهل السنة متفقون على إبطال تأويلات الجهمية ونحوهم من المنحرفين الملحدين ، والتأويل المردود هو صرف الكلام عن ظاهره إلى ما يخالف ظاهره . فلو قيل : إن هذا هو التأويل المذكور في الآية ، وأنه لا يعلمه إلا الله ، لكان في هذا تسليم للجهمية أن للآية تأويلا يخالف دلالتها ، لكن ذلك لا يعلمه إلا الله . وليس هذا مذهب السلف والأئمة ، وإنما مذهبهم نفي هذه التأويلات وردها ، لا التوقف عنها . وعندهم قراءة الآية والحديث - تفسيرها ، وتمر كما جاءت دالة على المعاني . لا تحرف ولا يلحد فيها .

والدليل على أن هذا ليس بمتشابه لا يعلم معناه ، أن تقول : لا ريب أن الله سمى نفسه في القرآن بأسماء مثل الرحمن والودود والعزيز والجبار والقدير والرؤوف ونحو ذلك ، ووصف نفسه بصفات ، مثل سورة الإخلاص وآية الكرسي وأول الحديد وآخر الحشر ، وقوله : ( إن الله بكل شيء عليم ) ، و : ( على كل شيء قدير ) ، و : فإن الله يحب المتقين و : ( المقسطين ) ، و : ( المحسنين ) ، وأنه يرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، [ ص: 770 ] و : فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله ولكن كره الله انبعاثهم الرحمن على العرش استوى ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينـزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه إنني معكما أسمع وأرى [ ص: 771 ] وهو الله في السماوات وفي الأرض ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام يريدون وجهه ولتصنع على عيني إلى أمثال ذلك . فيقال لمن ادعى في هذا أنه متشابه لا يعلم معناه : أتقول هذا في جميع ما سمى الله ووصف به نفسه أم في البعض ؟ فإن قلت : هذا في الجميع كان هذا عنادا ظاهرا ، وجحدا لما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام ، بل كفر صريح . فإنا نفهم من قوله : ( إن الله بكل شيء عليم ) . معنى . ونفهم من قوله : [ ص: 772 ] ( إن الله على كل شيء قدير ) معنى ليس هو الأول . ونفهم من قوله : ورحمتي وسعت كل شيء معنى ، ونفهم من قوله : إن الله عزيز ذو انتقام معنى. وصبيان المسلمين ، بل وكل عاقل يفهم هذا .

وقد رأيت بعض من ابتدع وجحد من أهل المغرب مع انتسابه إلى الحديث ، لكن أثرت فيه الفلسفة الفاسدة ، من يقول : إنا نسمي الله الرحمن الرحيم العليم القدير علما محضا من غير أن نفهم منه معنى يدل على شيء قط ، وكذلك في قوله : ولا يحيطون بشيء من علمه يطلق هذا اللفظ من غير أن نقول له علم ، وهذا الغلو في الظاهر ، من جنس غلو القرامطة في الباطن . لكن هذا أيبس وذاك أكفر .

ثم يقال لهذا المعاند : فهل هذه الأسماء دالة على الإله المعبود ، أو على حق موجود . أم لا ؟ فإن قال : لا ، كان معطلا محضا . وما أعلم مسلما يقول هذا . وإن قال : نعم قيل له : فهل فهمت منها دلالتها على نفس الرب ، ولم تفهم دلالتها على ما فيها من المعاني من الرحمة والعلم ، وكلاهما في الدلالة سواء ؟ فلا بد أن يقول : لأن ثبوت الصفات محال في العقل ، لأنه يلزم منه التركيب أو الحدوث ، بخلاف الذات .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #147  
قديم 24-05-2022, 11:15 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,211
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
المجلد الثالث
صـ 773 الى صـ 778
الحلقة (147)




فيخاطب حينئذ بما يخاطب به الفريق الثاني كما سنذكره . وهو من أقر بفهم بعض معنى هذه الأسماء والصفات دون بعض . فيقال له : ما الفرق بين ما أثبته وبين ما نفيته أو سكت عن إثباته ونفيه ؟ فإن الفرق إما أن يكون من جهة السمع ، لأن أحد النصين دال دلالة قطعية أو ظاهرة ، بخلاف الآخر . أو من جهة العقل بأن أحد المعنيين يجوز أو يجب إثباته دون الآخر ، وكلا الوجهين [ ص: 773 ] باطل في أكثر المواضع ، أما الأول فدلالة القرآن على أنه رحمان رحيم ودود سميع بصير علي عظيم ، كدلالته على أنه عليم قدير ، ليس بينهما فرق من جهة النص . وكذلك ذكره لرحمته ومحبته وعلوه مثل ذكره لمشيئته وإرادته .

وأما الثاني فيقال لمن أثبت شيئا ونفى آخر : لم نفيت ، مثلا ، حقيقة رحمته ومحبته وأعدت ذلك إلى إرادته ؟

فإن قال : لأن المعنى المفهوم من الرحمة في حقنا هي رقة تمتنع على الله ، قيل له : والمعنى المفهوم من الإرادة في حقنا هي ميل يمتنع على الله . فإن قال : إرادته ليست من جنس إرادة خلقه . قيل له : ورحمته ليست من جنس رحمة خلقه . وكذلك محبته . وإن قال ( وهو حقيقة قوله ) : لم أثبت الإرادة وغيرها بالسمع ، وإنما أثبت العلم والقدرة والإرادة بالعقل . وكذلك السمع والبصر والكلام على إحدى الطريقتين ، لأن الفعل دل على القدرة ، والإحكام دل على العلم ، والتخصيص دل على الإرادة . قيل له : الجواب من ثلاثة أوجه :

أحدها : أن الإنعام والإحسان وكشف الضر دل أيضا على الرحمة كدلالة التخصيص على الإرادة والتقريب والإدناء . وأنواع التخصيص التي لا تكون إلا من المحب تدل على المحبة ، أو مطلق التخصيص يدل على الإرادة . وأما التخصيص بالإنعام فتخصيص خاص ، والتخصيص بالتقريب والاصطفاء تقريب خاص ، وما سلكه في مسلك الإرادة يسلك في مثل هذا .

الثاني : يقال له : هب أن العقل لا يدل على هذا ، فإنه لا ينفيه إلا بمثل ما ينفي به الإرادة ، والسمع دليل مستقل بنفسه ، بل الطمأنينة إليه في هذه المضايق أعظم ودلالته أتم ، فلأي شيء نفيت مدلوله أو توقفت وأعدت هذه الصفات كلها إلى الإرادة ؟ مع أن النصوص تفرق . فلا يذكر حجة إلا عورض بمثلها في إثباته الإرادة زيادة على الفعل .

الثالث : يقال له : إذا قال لك الجهمي : الإرادة لا معنى لها إلا عدم الإكراه ، أو نفس الفعل والأمر به ، وزعم أن إثبات إرادة تقتضي محذورا إن قال بقدمها ، ومحذورا إن قال بحدوثها .

[ ص: 774 ] وهنا اضطربت المعتزلة . فإنهم لا يقولون بإرادة قديمة لامتناع صفة قديمة عندهم . ولا يقولون بتجدد صفة له ، لامتناع حلول الحوادث عن أكثرهم مع تناقضهم .

فصاروا حزبين :

البغداديون : وهم أشد غلوا في البدعة في الصفات وفي القدر ، نفوا حقيقة الإرادة . وقال الحافظ : لا معنى لها إلا عدم الإكراه . وقال الكعبي : لا معنى لها إلا نفس الفعل ، إذا تعلقت بفعله ، ونفس الأمر إذا تعلقت بطاعة عباده .

والبصريون : كأبي علي وأبي هاشم . قالوا : تحدث إرادة لا في محل ، فلا إرادة . فالتزموا حدوث حادث غير مراد وقيام صفة بغير محل ، وكلاهما عند العقل معلوم الفساد بالبديهة . كان جوابه : أن ما ادعى إحالته من ثبوت الصفات ليس بمحال ، والنص قد دل عليها ، والفعل أيضا . فإذا أخذ الخصم ينازع في دلالة النص أو العقل ، جعل مسفسطا أو مقرمطا ، وهذا بعينه موجود في الرحمة والمحبة ، فإن خصومه ينازعونه في دلالة السمع والعقل عليها على الوجه القطعي .

ثم يقال لخصومه : بم أثبتم أنه عليم قدير ؟ فما أثبتوه به من سمع وعقل فبعينه تثبت الإرادة ، وما عارضوا به من الشبه عورضوا بمثله في العليم والقدير ، وإذا انتهى الأمر إلى ثبوت المعاني ، وأنها تستلزم الحدوث أو التركيب والافتقار ، كان الجواب ما قررناه في غير هذا الموضع ، فإن ذلك لا يستلزم حدوثا ولا تركيبا مقتضيا حاجة إلى غيره .

ويعارضون أيضا بما ينفي به أهل التعطيل الذات من الشبه الفاسدة ، ويلزمون بوجود الرب الخالق المعلوم بالفطرة الخلقية ، والضرورة العقلية ، والقواطع العقلية ، واتفاق الأمم ، وغير ذلك من الدلائل . ثم يطالبون بوجود من جنس ما نعهده ، أو بوجود يعلمون كيفيته ، فلا بد أن يفروا إلى إثبات ما تشبه حقيقته الحقائق . فالقول في سائر ما سمى ووصف به نفسه كالقول في نفسه سبحانه وتعالى .

[ ص: 775 ] ونكتة هذا الكلام أن غالب من نفى وأثبت شيئا مما دل عليه الكتاب والسنة ، لا بد أن يثبت الشيء لقيام المقتضى ، وانتفاء المانع . وينفي الشيء لوجود المانع أو لعدم المقتضى ، أو يتوقف إذا لم يكن عنده مقتض ولا مانع ، فيبين له أن المقتضى فيما نفاه قائم ، كما أنه فيما أثبته قائم . إما من كل وجه ، أو من وجه يجب به الإثبات . فإن كان المقتضى هناك حقا ، فكذلك هنا . وإلا فدرء ذاك المقتضى من جنس درء هذا. وأما المانع فيبين أن المانع الذي تخيله فيما نفاه من جنس المانع الذي تخيله فيما أثبته ، فإذا كان ذلك المانع المستحيل موجودا على التقديرين لم ينج من محذوره بإثبات أحدهما ونفي الآخر ، فإنه إن كان حقا نفاهما ، وإن كان باطلا لم ينف واحدا منهما ، فعليه أن يسوي بين الأمرين في الإثبات والنفي ، ولا سبيل إلى النفي ، فتعين الإثبات . فهذه نكتة الإلزام لمن أثبت شيئا . وما من أحد إلا ولا بد أن يثبت شيئا أو يجب عليه إثباته ، فهذا يعطيك من حيث الجملة أن اللوازم التي يدعي أنها موجبة النفي خيالات غير صحيحة، وإن لم يعرف فسادها على التفضيل، وأما من حيث التفصيل ، فيبين فساد المانع وقيام المقتضى كما قرر هذا غير مرة .

فإن قال : من أثبت هذه الصفات التي هي فينا أعراض كالحياة والعلم والقدرة ، ولم يثبت ما هو فيها أبعاض كاليد والقدم : هذه أجزاء وأبعاض تستلزم التركيب والتجسيم . قيل له : وتلك أعراض تستلزم التجسيم والتركيب العقلي كما استلزمت هذه عندك التركيب الحسي . فإن أثبت تلك على وجه لا تكون أعراضا أو تسميتها أعراضا لا يمنع ثبوتها ، قيل له : وأثبت هذه على وجه لا تكون تركيبا وأبعاضا أو تسميتها تركيبا وأبعاضا لا يمنع ثبوتها .

فإن قال : هذه لا يعقل منها إلا الأجزاء ، قيل له : وتلك لا يعقل منها إلا الأعراض .

فإن قال : العرض ما لا يبقى وصفات الرب باقية . قيل : والبعض ما جاز انفصاله عن الجملة ، وذلك في حق الله محال ، فمفارقة الصفات القديمة مستحيلة في حق الله تعالى مطلقا ، والمخلوق يجوز أن تفارقه أعراضه وأبعاضه .

[ ص: 776 ] فإن قال : ذلك تجسيم والتجسيم منتف ، قيل : وهذا تجسيم والتجسيم منتف .

فإن قال : أنا أعقل صفة ليست عرضا بغير متحيز ، وإن لم يكن له في الشاهد نظير . قيل له : فاعقل صفة هي لنا بعض لغير متحيز وإن لم يكن له في الشاهد نظير .

فإن نفى عقل هذا نفى عقل ذاك ، وإن كان بينهما نوع فرق ، لكنه فرق غير مؤثر في موضع النزاع . ولهذا كانت المعطلة الجهمية تنفي الجميع لكن ذاك أيضا مستلزم لنفي الذات ، ومن أثبت هذه الصفات الخبرية من نظير هؤلاء ، صرح بأنها صفة قائمة به كالعلم والقدرة ، وهذا أيضا ليس هو معقول النص ، ولا مدلول العقل ، وإنما الضرورة ألجأتهم إلى هذه المضايق .

وأصل ذلك أنهم أتوا بألفاظ ليست في الكتاب ولا في السنة ، وهي ألفاظ مجملة . مثل متحيز ومحدد وجسم ومركب ، ونحو ذلك ، ونفوا مدلولها ، وجعلوا ذلك مقدمة بينهم مسلمة ، ومدلولا عليها بنوع قياس ، وذلك القياس أوقعهم فيه مسلك سلكوه في إثبات حدوث العالم بحدوث الأعراض ، أو إثبات إمكان الجسم بالتركيب من الأجزاء ، فوجب طرد الدليل بالحدوث والإمكان لكل ما شمله هذا الدليل ، إذ الدليل القطعي لا يقبل الترك لمعارض راجح ، فرأوا ذلك يعكر عليهم من جهة النصوص ومن جهة العقل من ناحية أخرى فصاروا أحزابا ، تارة يغلبون القياس الأول ويدفعون ما عارضه وهم المعتزلة ، وتارة يغلبون القياس الثاني ويدفعون الأول كهشام بن الحكم الرافضي ، فإنه قد قيل : أول ما تكلم في الجسم نفيا وإثباتا من زمن هشام بن الحكم وأبي الهذيل العلاف . فإن أبا الهذيل ونحوه من قدماء المعتزلة نفوا الجسم لما سلكوا من القياس . وعارضهم هشام وأثبت الجسم لما سلكوه من القياس ، واعتقد الأولون إحالة ثبوته ، واعتقد هذا إحالة نفيه ، وتارة يجمعون بين النصوص والقياس بجمع يظهر فيه الإحالة والتناقض .

فما أعلم أحدا من الخارجين عن الكتاب والسنة من جميع فرسان الكلام والفلسفة إلا ولا بد أن يتناقض فيحيل ما أوجب نظيره ، ويوجب ما أحال نظيره ، إذ كلامهم من [ ص: 777 ] عند غير الله ، وقد قال الله تعالى : ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا

والصواب ما عليه أئمة الهدى ، وهو أن يوصف الله بما وصف به نفسه ، أو وصفه به رسوله ، لا يتجاوز القرآن والحديث ، ويتبع في ذلك سبل السلف الماضين ، أهل العلم والإيمان . والمعاني المفهومة من الكتاب والسنة لا ترد بالشبهات فتكون من باب تحريف الكلم عن مواضعه . ولا يعرض عنها ، فيكون من باب الذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا . ولا يترك تدبر القرآن ، فيكون من باب الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني . فهذا أحد الوجهين . وهو منع أن تكون من المتشابه .
الوجه الثاني : أنه إذا قيل هذه من المتشابه ، أو كان فيها ما هو من المتشابه ، كما نقل عن بعض الأئمة أنه سمى بعض ما استدل به الجهمية متشابها ، ، فيقال : الذي في القرآن أنه لا يعلم تأويله إلا الله ، إما المتشابه ، وإما الكتاب كله كما تقدم . ونفي علم تأويله ليس نفي علم معناه كما قدمناه في القيامة وأمور القيامة . وهذا الوجه قوي إن ثبت حديث ابن إسحاق في وفد نجران ، أنهم احتجوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله : ( إنا ونحن ) ونحو ذلك ، ويؤيده أيضا أنه قد ثبت أن في القرآن متشابها ، وهو ما يحتمل معنيين ، وفي سائر الصفات ما هو من هذا الباب ، كما أن ذلك في مسائل المعاد وأولى ، فإن نفي المتشابه بين الله وبين خلقه أعظم من نفي المتشابه بين موعود الجنة وموجود الدنيا ، وإنما نكتة الجواب هو ما قدمناه أولا أن نفي علم التأويل ليس نفيا لعلم المعنى ، ونزيده تقريرا أن الله سبحانه يقول : ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون قرآنا عربيا غير ذي عوج وقال [ ص: 778 ] تعالى : الر تلك آيات الكتاب المبين إنا أنـزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون فأخبر أنه أنزله ليعقلوه ، وأنه طلب تذكرهم . وقال أيضا : وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون فحض على تدبره وفقهه وعقله والتذكر به والتفكير فيه ، ولم يستثن من ذلك شيئا . بل نصوص متعددة تصرح بالعموم فيه ، مثل قوله : أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها وقوله : أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ومعلوم أن نفي الاختلاف عنه لا يكون إلا بتدبره كله ، وإلا فتدبر بعضه لا يوجب الحكم بنفي مخالفة ما لم يتدبر لما تدبر . وقال علي عليه السلام لما قيل له : هل ترك عندكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا ؟ فقال : لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه وما في هذه الصحيفة .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #148  
قديم 24-05-2022, 11:15 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,211
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
المجلد الثالث
صـ 779 الى صـ 784
الحلقة (148)


فأخبر أن الفهم فيه مختلف في الأمة ، والفهم أخص من العلم والحكم ، قال الله تعالى : ففهمناها سليمان [ ص: 779 ] وكلا آتينا حكما وعلما وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : « رب مبلغ أوعى من سامع » ، وقال : « بلغوا عني ولو آية » . وأيضا فالسلف من الصحابة والتابعين وسائر الأمة قد تكلموا في جميع نصوص القرآن ، آيات الصفات وغيرها ، وفسروها بما يوافق دلالتها ، ورووا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث كثيرة توافق القرآن . وأئمة الصحابة في هذا أعظم من غيرهم . مثل عبد الله بن مسعود الذي كان يقول : لو أعلم أعلم بكتاب الله مني تبلغه آباط الإبل لأتيته . [ ص: 780 ] وعبد الله بن عباس الذي دعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو حبر الأمة وترجمان القرآن ، كانا هما وأصحابهما من أعظم الصحابة والتابعين إثباتا للصفات ورواية لها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . ومن له خبرة بالحديث والتفسير يعرف هذا ، وما في التابعين أجل من أصحاب هذين السيدين ، بل وثالثهما في علية التابعين من جنسهم أو قريب منهم جلالة ، أصحاب زيد بن ثابت ، لكن أصحابه مع جلالتهم ليسوا مختصين به ، بل أخذوا عن غيره مثل عمر ، وابن عمر ، وابن عباس . ولو كان معاني هذه الآيات منفيا أو مسكوتا عنه ، لم يكن ربانيو الصحابة أهل العلم بالكتاب والسنة أكثر كلاما فيه ، ثم إن الصحابة نقلوا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم كانوا يتعلمون منه التفسير مع التلاوة ، ولم يذكر أحد منهم عنه قط أنه امتنع من تفسير آية .

قال أبو عبد الرحمن السلمي : حدثنا الذين كانوا يقرئوننا : عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيه من العلم والعمل ، قالوا : فتعلمنا القرآن والعلم والعمل . وكذلك الأئمة كانوا إذا سئلوا شيئا من ذلك لم ينفوا معناه ، بل يثبتون المعنى وينفون الكيفية . كقول مالك بن أنس لما سئل عن قوله تعالى : الرحمن على العرش استوى كيف استوى ؟ فقال : الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة . وكذلك ربيعة قبله . وقد تلقى الناس هذا الكلام بالقبول .

فليس في أهل السنة من ينكره . وقد بين أن الاستواء معلوم ، كما أن سائر ما أخبر به معلوم ، ولكن الكيفية لا تعلم ، ولا يجوز السؤال عنها ، لا يقال : كيف استوى ؟ ولم يقل مالك : الكيف معدوم ، وإنما قال : الكيف مجهول . وهذا فيه نزاع بين أصحابنا وغيرهم من أهل السنة ، غير أن أكثرهم يقولون : لا تخطر كيفيته ببال ، ولا تجري ماهيته في مقال . ومنهم من يقول : ليس له كيفية ولا ماهية . فإن قيل : معنى قوله : الاستواء معلوم أن ورود هذا اللفظ في القرآن معلوم كما قاله بعض أصحابنا الذين يجعلون معرفة معانيها من التأويل الذي استأثر الله بعلمه ، قيل : هذا ضعيف ، فإن هذا [ ص: 781 ] من باب تحصيل الحاصل ، فإن السائل قد علم أن هذا موجود في القرآن ، وقد تلا الآية ، وأيضا فلم يقل ذكر الاستواء في القرآن ، ولا إخبار الله بالاستواء ، وإنما قال : الاستواء معلوم ، فأخبر عن الاسم المفرد أنه معلوم ، لم يخبر عن الجملة ، وأيضا فإنه قال : والكيف مجهول ، ولو أراد ذلك لقال : معنى الاستواء مجهول ، أو تفسير الاستواء مجهول ، أو بيان الاستواء غير معلوم ، فلم ينف إلا العلم بكيفية الاستواء ، لا العلم بنفس الاستواء ، وهذا شأن جميع ما وصف الله به نفسه . لو قال في قوله : إنني معكما أسمع وأرى كيف يسمع وكيف يرى ؟ لقلنا : السمع والرؤية معلوم والكيف مجهول . ولو قال : كيف كلم موسى تكليما ؟ لقلنا : التكليم معلوم والكيف غير معلوم . وأيضا فإن من قال هذا من أصحابنا وغيرهم من أهل السنة يقرون بأن الله فوق العرش حقيقة ، وأن ذاته فوق ذات العرش ، لا ينكرون معنى الاستواء ، ولا يرون هذا من المتشابه الذي لا يعلم معناه بالكلية . ثم السلف متفقون على تفسيره بما هو مذهب أهل السنة . قال بعضهم : ارتفع على العرش : علا على العرش . وقال بعضهم عبارات أخرى . وهذه ثابتة عن السلف . وقد ذكر البخاري في صحيحه بعضها في آخره ، في كتاب الرد على الجهمية .

وأما التأويلات المحرفة مثل استولى وغير ذلك ، فهي من التأويلات المبتدعة لما ظهرت الجهمية . وأيضا قد ثبت أن اتباع المتشابه ليس في خصوص الصفات ، بل في صحيح البخاري [ ص: 782 ] أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة : « يا عائشة ! إذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه ؛ فأولئك الذين سمى الله ، فاحذريهم » ، وهذا عام . وقصة صبيغ بن عسل مع عمر بن الخطاب من أشهر القضايا ، فإنه بلغه أنه يسأل عن متشابه القرآن حتى رآه عمر ، فسأل عمر عن : والذاريات ذروا فقال : ما اسمك ؟ قال : عبد الله صبيغ ، فقال : وأنا عبد الله عمر ، وضربه الضرب الشديد . وكان ابن عباس إذا ألح عليه رجل في مسألة من هذا الجنس يقول : ما أحوجك أن يصنع بك كما صنع عمر بصبيغ . وهذا لأنهم رأوا أن غرض السائل ابتغاء الفتنة لا الاسترشاد والاستفهام ، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام : « إذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه ... » . وكما قال تعالى : فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة فعاقبوهم على هذا القصد الفاسد ، كالذي يعارض بين آيات القرآن . وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك وقال : لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض فإن ذلك يوقع الشك في قلوبهم [ ص: 783 ] ومع ابتغاء الفتنة ابتغاء تأويله الذي لا يعلمه إلا الله ، فكان مقصودهم مذموما ، ومطلوبهم متعذرا ، مثل أغلوطات المسائل التي نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنها . ومما يبين الفرق بين المعنى والتأويل أن صبيغا سأل عن الذاريات وليست من الصفات . وقد تكلم الصحابة في تفسيرها مثل علي بن أبي طالب مع ابن الكواء لما سأله عنها ، كره سؤاله ، لما رآه من قصده ، لكن علي كان رعيته ملتوية عليه ، لم يكن مطاعا فيهم طاعة عمر حتى يؤدبه ، والذاريات والحاملات والجاريات والمقسمات فيها اشتباه ، لأن اللفظ يحتمل الرياح والسحاب والنجوم والملائكة ويحتمل غير ذلك ، إذ ليس في اللفظ ذكر الموصوف . والتأويل الذي لا يعلمه إلا الله هو أعيان الرياح ومقاديرها وصفاتها وأعيان السحاب وما تحمله من الأمطار ومتى ينزل المطر . وكذلك في الجاريات والمقسمات ، فهذا لا يعلمه إلا الله تعالى . وكذلك في قوله : ( إنا ونحن ) ونحوهما من أسماء الله التي فيها معنى الجمع كما اتبعته النصارى ، فإن معناه معلوم وهو الله سبحانه ، لكن اسم الجمع يدل على تعدد المعاني بمنزلة الأسماء المتعددة ، مثل العليم والقدير والسميع والبصير ، فإن المسمى واحد ، ومعاني الأسماء متعددة ، فهكذا الاسم الذي لفظه الجمع . وأما التأويل الذي اختص الله به ، فحقيقة ذاته وصفاته ، كما قال مالك : والكيف مجهول فإذا قالوا : ما حقيقة علمه وقدرته وسمعه وبصره ؟ قيل : هذا هو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله . وما أحسن ما يعاد التأويل إلى القرآن كله . [ ص: 784 ] فإن قيل : فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس : « اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل » . قيل : أما تأويل الأمر والنهي فذاك يعلمه ، واللام هنا للتأويل المعهود ، لم يقل : تأويل كل القرآن . فالتأويل المنفي هو تأويل الأخبار التي لا يعلم حقيقة مخبرها إلا الله ، والتأويل المعلوم هو الأمر الذي يعلم العباد تأويله . وهذا كقوله : هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله وقوله : بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله فإن المراد تأويل الخبر الذي فيه عن المستقبل ، فإنه هو الذي ينتظر ويأتي ، ولما يأتهم . وأما تأويل الأمر والنهي فذاك في الأمر ، و تأويل الخبر عن الله وعمن مضى إن أدخل في التأويل لا ينتظر ، والله سبحانه أعلم وبه التوفيق . انتهى كلام الشيخ تقي الدين . وإنما سقته بطوله لما أن هذا البحث من المعارك المهمة التي قل من حررها ونهج فيها منهج الحق كالشيخ - قدس سره - . ومع ما في خلال البحث من القواعد الجليلة في فن التفسير . فخذ ما أوتيت وكن من الشاكرين . والله يقول الحق وهو يهدي السبيل .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #149  
قديم 24-05-2022, 11:16 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,211
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
المجلد الثالث
صـ 785 الى صـ 790
الحلقة (149)


وقال الإمام الجليل أبو عبد الله محمد بن المرتضى اليماني في كتاب ( إيثار الحق على الخلق ) في بحث سبب الاختلاف الشديد بين الفرق ما نصه :

وأما الأصل الثاني وهو السمع فهو اختلافهم في أمرين :

أحدهما : في معرفة المحكم والمتشابه أنفسهما والتمييز بينهما حتى يرد المتشابه إلى المحكم .

وثانيهما : اختلافهم هل يعلمون تأويل المتشابه ، ثم اختلافهم في تأويله على تسليم أنهم قد عرفوا المتشابه .
ولنذكر سبب وقوع المتشابه على العقول من حيث الحكمة والدقة في كتب الله تعالى أولا ، والمشهور أن سببه الابتلاء بالزيادة في مشقة التكليف لتعظيم الثواب ، وهذا أنسب بالمتشابه من حيث اللفظ . وأما أنا فوقع لي أن سببه زيادة علم الله على علم الخلق ، فإن العوائد التجربية، والأدلة السمعية، دلت على امتناع الاتفاق في تفصيل الحكم، وتفاصيل التحسين والتقبيح ، ولذلك وقع الاختلاف بين أهل العصمة من الملائكة والأنبياء ، كما قال تعالى حاكيا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآله : ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون وحكى الله تعالى اختلاف سليمان وداود ، وموسى وهارون ، وموسى والخضر . وصح في الحديث اختلاف موسى وآدم ، واختلاف الملائكة في حكم قاتل [ ص: 786 ] المائة نفس ، إلى أمثال لذلك قد أفردتها لبيان امتناع الاتفاق في نحو ذلك ، وإن علة الاختلاف التفاصيل في العلم ، فوجب من ذلك أن يكون في أحكام الله تعالى وحكمه ما تستقبحه عقول البشر ، لأن الله تعالى لو ماثلنا في جميع الأحكام والحكم دل على مماثلته لنا في العلم المتعلق بذلك وفي مؤداه ولطائفه وأصوله وفروعه ولذلك تجد الأمثال والنظراء في العلوم أقل اختلافا . خصوصا من المقلدين . وإنما عظم الاختلاف بين الخضر وموسى لما خص به الخضر عليه السلام . وهذه فائدة نفيسة جدا ، وبها يكون ورود المتشابه أدل على الله تعالى وعلى صدق أنبيائه ، لأن الكذابين إنما يأتون بما يوافق الطباع ، كما هو دين القرامطة والزنادقة . وقد أشار السمع إلى ذلك بقوله تعالى : ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن وقال في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم وكيف يستنكر اختلاف الإنسان الظلوم الجهول وعلام الغيوب الذي جمع معارف [ ص: 787 ] العارفين في علمه مثل ما أخذه العصفور في منقاره من البحر الأعظم ؟ بل كيف لا يختص هذا الرب الأعظم بمعرفة ما لا نعرفه من الحكم اللطيفة التي يستلزم تفرده بمعرفتها أن يتفرد بمعرفة حسن ما تعلقت به و تأويله ، وبهذا ينشرح صدر العارف للإيمان بالمتشابه ، والإيمان بالغيب في تأويله . ولنذكر بعد هذا كل واحد من الأمرين المقدم ذكرهما على الإيجاز .

أما الأمر الأول : وهو اختلافهم في ماهيتهما . فمنهم من قال : المحكم ما لا يحتمل إلا معنى واحدا ، والمتشابه ما احتمل أكثر من معنى . فهؤلاء رجعوا بالمحكم إلى النص الجلي ، وما عداه متشابه ، وعزاه الإمام يحيى إلى أكثر المتكلمين وطوائف من الحشوية . ومنهم من قال : المحكم ما كان إلى معرفته سبيل ، والمتشابه ما لا سبيل إلى معرفته بحال ، نحو قيام الساعة ، والحكمة في العدد المخصوص في حملة العرش ، وخزنة النار . ومنهم من قصر المتشابه على آيات مخصوصة . ثم اختلفوا فمنهم من قال : هي الحروف المقطعة في أوائل السور ، ومنهم من قال آيات الشقاوة والسعادة ، ومنهم من قال : المنسوخ . ومنهم من قال : القصص والأمثال . ومنهم من عكس فقال : المحكم آيات مخصوصة ، وهي آيات الحلال والحرام وما عداها متشابه ، إلى غير ذلك - حكى الجميع الإمام يحيى في ( الحاوي ) - واختار أن المحكم ما علم المراد بظاهره بدليل عقلي أو نقلي ، والمتشابه : ما لم يعلم المراد منه لا على قرب ولا على بعد ، مثل قيام الساعة والأعداد المبهمة . وقد ترك الإمام والشيخ ابن تيمية وجها آخر من المتشابه الذي يحتاج إلى التأويل مما لا يعلمه إلا الله على الصحيح ، وذلك وجه الحكم المعينة فيما لا تعرف العقول وجه حسنه ، مثل خلق أهل النار ، وترجيح عذابهم على العفو ، مع سبق العلم وسعة الرحمة وكمال القدرة على كل شيء . والدليل على أن الحكمة الخفية فيه تسمى تأويلا له ، ما ذكره الله تعالى في قصة موسى والخضر ، فإن قوله : سأنبئك بتأويل ما لم [ ص: 788 ] تستطع عليه صبرا صريح في ذلك ، وهذا مراد في الآية ، لأن الله وصف الذين في قلوبهم زيغ بابتغائهم تأويله وذمهم بذلك ، وهم لا يبتغون علم العاقبة ، عاقبة الخبر عن الوعد والوعيد ، وما يؤول إليه ، على ما فسره الشيخ . فهم لا يبتغون الجنة والنار والقيامة وذات الرب سبحانه كما يبغيها طالب العيان ، إنما يستقبحون شيئا من الظواهر بعقولهم ، فيتكلفون لها معاني كثيرة يختلفون فيها ، وكل منهم يتفرد بمعنى من غير حجة صحيحة إلا مجرد الاحتمال ، وربما خالف ذلك التأويل المعلوم من الشرع فتأولوه ، وربما استلزم الوقوع في أعظم مما فروا منه ، والذي وضح لي في هذا وضوحا لا ريب فيه بحسن توفيق الله أمور :

أحدها : أن الكلام في ذات الله تعالى على جهة التصوير والتفصيل ، أو على جهة الإحاطة على حد علم الله ، كلاهما باطل ، بل من المتشابه الممنوع الذي لا يعلمه إلا الله تعالى لقوله تعالى : ولا يحيطون به علما ولقوله تعالى : ليس كمثله شيء وإنما تتصور المخلوقات وما هو نحوها . ولما روي من النهي عن التفكير في ذات الله ، والأمر في التفكير في آلاء الله ، ولما اشتهر عن أمير المؤمنين عليه السلام أن ذلك مذهبه ، حتى رواه عنه الخصوم . ومن أشهر ما حفظ عنه عليه السلام في ذلك قوله في امتناع معرفة الله - عز وجل - على العقول : امتنع منها بها ، وإليها حاكمها . ومن التفكير في الله والتحكم فيه والدعوى الباطلة على العقول والتكلف [ ص: 789 ] لتعريفها ما لا تعرفه ، حدثت هنا البدع المتعلقة بذات الله وصفاته وأسمائه . ومن البدع في هذا الموضع بدع المشبهة على اختلاف أنواعهم ، وبدع المعطلة على اختلافهم أيضا ، فغلاتهم يعطلون الذات والصفات والأسماء ، الجميع ، ومنهم الباطنية ، ودونهم الجهمية . ومن الناس من يوافقهم في بعض ذلك دون بعض . فالفريقان المشبهة والمعطلة إنما أتوا من تعاطي علم ما لا يعلمون . ولو أنهم سلكوا مسالك السلف في الإيمان بما ورد من غير تشبيه لسلموا . فقد أجمعوا على أن طريقة السلف أسلم ، ولكنهم ادعوا أن طريقة الخلف أعلم ، فطلبوا العلم من غير مظانه ، بل طلبوا علم ما لا يعلم ، فتعارضت أنظارهم العقلية ، وعارض بعضهم بعضا في الأدلة السمعية . فالمشبهة ينسبون خصومهم إلى رد آيات الصفات ، ويدعون فيها ما ليس من التشبيه . والمعطلة ينسبون خصومهم وسائر أئمة الإسلام جميعا إلى التشبيه ، ويدعون في تفسيره ما لا تقوم عليه حجة . والكل حرموا طريق الجمع بين الآيات والآثار ، والاقتداء بالسلف الأخيار ، والاقتصار على جليات الأبصار ، وصحاح الآثار . وقد روى الإمام أبو طالب عليه السلام في أماليه بإسناده من حديث زيد بن أسلم : أن رجلا سأل أمير المؤمنين عليه السلام في مسجد الكوفة فقال : يا أمير المؤمنين ! هل تصف لنا ربنا فنزداد له حبا ؟ فغضب عليه السلام ونادى : ( الصلاة جامعة ) فحمد الله وأثنى عليه إلى قوله : فكيف يوصف الذي عجزت الملائكة مع قربهم من كرسي كرامته ، وطول ولههم إليه ، وتعظيم جلال عزته ، وقربهم من غيب ملكوت قدرته ، أن يعلموا من علمه إلا ما علمهم ، وهم من ملكوت القدس كلهم . ومن معرفته على ما فطرهم عليه فقالوا : سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم فعليك أيها السائل بما دل عليه القرآن من صفته ، وتقدمك فيه الرسل بينك وبين معرفته . فاتم به واستضئ بنور هدايته ، فإنما هي نعمة وحكمة أوتيتها . فخذ ما أوتيت وكن من الشاكرين ، وما كلفك الشيطان علمه مما ليس عليك في الكتاب فرضه [ ص: 790 ] ولا في سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا عن أئمة الهدى أثره ، فكل علمه إلى الله سبحانه ، فإنه منتهى حق الله عليك . وقد روى السيد في ( الأمالي ) أيضا الحديث المشهور في كتاب الترمذي عن علي عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : « ستكون فتنة » ! قلت : فما المخرج منها ؟ قال : « كتاب الله ، فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وفصل ما بينكم ،فهو الفاصل بين الحق والباطل ، من ابتغى الهدى من غيره أضله الله » إلى قوله : « من قال به صدق ، ومن عمل به أجر ، ومن حكم به عدل ، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم » . ورواه في أماليه بسند آخر عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #150  
قديم 24-05-2022, 11:16 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,211
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
المجلد الرابع
صـ 791 الى صـ 796
الحلقة (150)



[ ص: 791 ] ورواه ابن الأثير في ( الجامع ) عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فهو مع شهرته في شرط أهل الحديث ، متلقى بالقبول عند علماء الأصول ، ولكن المبتدعة يرون تصانيفهم أهدى منه ، لبيانهم فيها ، على زعمهم ، المحكم من المتشابه . فمنهم من صرح بذلك وقال : إن كلامه أنفع من كلام الله تعالى ، وكتبه أهدى من كتب الله ، وهم الحسينية أصحاب الحسين بن القاسم العناني ، وقد حمله الإمام المطهر بن يحيى على الجنون ، وقيل : لم يصح عنه . ومنهم من يلزمه ذلك وإن لم يصرح به . فهذا الأمر الأول من المتشابه ، وهو التحكم بالنظر في ذات الله تعالى ، وما يؤدي إليه .

الأمر الثاني : من المتشابه الواضح تشابهه والمنع منه ، هو النظر في سر القدر السابق في الشرور مع عظيم رحمة الله تعالى وقدرته على ما يشاء . وقد ثبت في كتاب الله تعالى تحير الملائكة الكرام عليهم السلام في ذلك وسؤالهم عنه بقولهم : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون ثم ساق خبر آدم وتعليمه الأسماء وتفضيله في ذلك عليهم إلى قوله : ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون وفي ذلك إشارة واضحة إلى ما سيأتي بيانه ، من أن مراد الله بالخلق هم أهل الخير ، فالخلق كلهم كالشجرة ، وأهل الخير ثمرة تلك الشجرة ، وإليه الإشارة بقوله : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون وفي حديث الخليل عليه السلام حين دعا على العصاة ، قال [ ص: 792 ] الله : كف عن عبادي ، إن مصير عبدي مني إحدى ثلاث : إما أن يتوب فأتوب عليه ، أو يستغفرني فأغفر له ، أو أخرج من صلبه من يعبدني - رواه الطبراني - .

وقال الإمام الغزالي في كتاب العلم في ( الإحياء ) في أقسام العلوم الباطنة : ولا يبعد أن يكون ذكر بعض الحقائق مضرا ببعض الخلق ، كما يضر نور الشمس أبصار الخفافيش ، وكما يضر ريح الورد بالجعل . وكيف يبعد هذا ، وقولنا : إن كل شيء بقضاء من الله وقدر - حق في نفسه ، وقد أضر سماعه بقوم حيث أوهم ذلك عندهم دلالة على السفه ، ونقيض الحكمة ، والرضا بالقبيح والظلم . وألحد ابن الراوندي وطائفة من المخذولين بمثل ذلك . وكذلك سر القدر لو أفشي أوهم عند أكثر الخلق عجزا ، إذ تقصر أفهامهم عن إدراك ما يزيل هذا الوهم عنهم .

وقال في شرح ( أسماء الله الحسنى ) في شرح الرحمن الرحيم : والآن إن خطر لك نوع من الشر لا ترى فيه خيرا ، أو إن تحصيل ذلك الخير من غير شر أولى ، فاتهم عقلك القاصر في كلا الطرفين ، فإنك مثل أم الصبي التي ترى الحجامة شرا محضا . والغبي الذي يرى القصاص شرا محضا ، لأنه ينظر إلى خصوص شخص المقتول ، وأنه في حقه شر محض ، ويذهل عن الخير العام الحاصل للناس كافة ، ولا يدري أن التوصل بالشر الخاص إلى الخير العام خير محض ، ولا ينبغي لحكيم أن يهمله . هذا أو قريب من هذا .

وفي بعض كلامه نظر قد أوضحته في ( العواصم ) والسر في ذلك : أن الله تعالى لا يريد الشر لكونه شرا قطعا ، وإنما يريده وسيلة إلى الخير الراجح كما قال : ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون وكما صح في الحدود والمصائب أنها كفارات ، فهذا هو سر القدرة في الجملة . وإنما الذي خفي تفصيله ومعرفته في عذاب الآخرة وشقاوة الأشقياء ، فمن الناس من كبر ذلك عليه وأداه إلى الحكم بنفي التحسين والتقبيح ، فصرحوا بنفي حكمة الله تعالى ، وهم غلاة الأشعرية ، إلا بمعنى إحكام المصنوعات في تصويرها لا سواه ، ومن الناس من أداه ذلك إلى [ ص: 793 ] القول بالجبر ، ونفي قدرة العباد واختيارهم ، ومنهم من جمع بينهما . ومن الناس من جعل الوجه في تحسين ذلك من الله عدم قدرته سبحانه على هدايتهم ، وهم جمهور المعتزلة ، لكنهم يعتذرون عن تسميته عجزا ، ويسمونه غير مقدور . ومنهم من جعل العذر في ذلك أن الله لا يعلم الغيب ، وهم غلاة القدرية ، نفاة الأقدار . وقد تقصيت الردود الواضحة عليهم ، والبراهين الفاضحة لهم في ( العواصم ) ، وجمعت في ذلك ما لم أسبق إليه ولا إلى قريب منه ، في علمي . فتمت هذه المسألة في مجلد ضخم ، وبلغت أحاديث وجوب الإيمان بالقدر اثنين وسبعين ، وأحاديث صحته مائة وخمسة وخمسين ، الجملة مائتان وسبعة وعشرون حديثا ، من غير الآيات القرآنية ، والأدلة البرهانية . وصنف ابن تيمية في بيان الحكمة في العذاب الأخروي ، وتبعه تلميذه ابن قيم الجوزية ، وبسط ذلك في كتابه ( حادي الأرواح إلى ديار الأفراح ) ، فأفردت ذلك في جزء لطيف وزدت عليه . ومضمون كلامهم : أنه لا يجوز اعتقاد أن الله لا يريد الشر لكونه شرا ، بل لا بد من خير راجح يكون ذلك الشر وسيلة إليه ، وذلك الخير هو تأويل ذلك الشر السابق له على نحو تأول الخضر لموسى . وطردوا ذلك في شرور الدارين معا . ونصر ذلك الغزالي في شرح ( الرحمن الرحيم ) . ولنورد في ذلك حديثا واحدا ، مما يدل على المنع من الخوض في تعيين الحكمة في ذلك فنقول : قال البيهقي في كتابه ( الأسماء والصفات ) عن عمرو بن ميمون ، عن ابن عباس : لما بعث الله موسى وكلمه قال : اللهم ! أنت رب عظيم ، ولو شئت أن تطاع لأطعت ، ولو شئت أن لا تعصى لما عصيت ، وأنت تحب أن تطاع ، وأنت في ذلك تعصى ، فكيف هذا يا رب ؟ فأوحى الله إليه أني لا أسأل عما أفعل ، وهم يسألون . فانتهى موسى .

ورواه الهيثمي في ( مجمع الزوائد ) ، وعزاه إلى الطبراني ، وزاد فيه : فلما بعث الله عزيرا سأل الله مثل ما سأل موسى ، ثلاث مرات ، فقال الله تعالى له : أتستطيع أن تصر صرة من الشمس ؟ قال : لا . قال : أفتستطيع أن تجيء بمكيال من الريح ؟ قال : لا . قال : أفتستطيع [ ص: 794 ] أن تجيء بمثقال أو بقيراط من نور ؟ قال : لا . قال : فهكذا لا تقدر على الذي سألت عنه ، أما أني لا أجعل عقوبتك إلا أني أمحو اسمك من الأنبياء ، فلا تذكر فيهم . فلما بعث الله عيسى ورأى منزلته سأل عن ذلك ، كموسى ، وأجيب عليه بمثل ذلك ، وقال الله تعالى : لئن لم تنته لأفعلن بك كما فعلت بصاحبك بين يديك ، فجمع عيسى من معه فقال : القدر سر الله تعالى فلا تكلفوه .

وروى الطبراني عن وهب عن ابن عباس أنه سئل عن القدر ؟ فقال : وجدت أطول الناس فيه حديثا أجهلهم به . وأضعفهم فيه حديثا أعلمهم به ، ووجدت الناظر فيه كالناظر في شعاع الشمس ، كلما ازداد فيه نظرا ازداد تحيرا . قلت : ويشهد لهذه الآيات ما جاء في كتاب الله من قول الملائكة : أتجعل فيها من يفسد فيها والجواب الجملي عليهم كما مر .

وأما أحاديث النهي عن الخوض في القدر فعشرة أحاديث ، رجال بعضهم ثقات ، وبعضها شواهد لبعض ، كما أوضحته في ( العواصم ) وأقل من هذا مع شهادة القرآن والبرهان لذلك ، يكفي المنصف . وما حدث بسبب الخوض من الضلالات زيادة عبرة وحيرة .

الأمر الثالث : من المتشابه : الحروف المقطعة أوائل السور ، فإن الجهل بالمراد بها معلوم ، كالألم والصحة ، والفرق بينها وبين أقيموا الصلاة ، ونحو ذلك ضروري ، ودعوى التمكن من معرفة معانيها تستلزم جواز أن ينزل الله سورة كلها كذلك أو كتابا من كتبه الكريمة ، ويستلزم جواز أن يتخاطب العقلاء بمثل ذلك ، ويلوموا من طلب منهم بيان مقاصدهم ، ونحو ذلك ، وهذا هو اختيار زيد بن علي عليه السلام ، والقاسم والهادي عليهما السلام ، وهو نص في تفسيرهما المجموع . وكذلك الإمام يحيى عليه السلام ، ذكره في ( الحاوي ) . وقولهم : [ ص: 795 ] إنا مخاطبون بها فيجب أن نفهمها ؛ مقلوب .

وصوابه : أن لا نفهمها ، فيجب أن لا نكون مخاطبين بفهمها . وقد ذكرت في الحجة على أنها غير معلومة أكثر من عشرين حجة في تكميلة ترجيح أساليب القرآن .

الأمر الرابع من المتشابه : المجمل الذي لا يظهر معناه بعلم ولا ظن ، سواء كان بسبب الاشتراك في معناه ، أو لغرابته ، أو عدم صحة تفسيره في اللغة والشرع ، أو غير ذلك . فقد وقع الوهم في المجمل لنوح عليه السلام ، كيف لغيره ؟ وذلك قوله : : إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين قال يا نوح إنه ليس من أهلك

وأما المحكوم فهو ما عدا المتشابه ، وغالبه النص الجلي ، والظاهر الذي لم يعارض والمفهوم والصحيح الذي لم يعارض ، والخاص والمقيد وإن عارضهما العام والمطلق . ويلحق بهذا فوائد :

الأولى : الصحيح في قوله تعالى : وما يعلم تأويله إلا الله الوقف على الله ، بدليل ذم مبتغي تأويل المتشابه في الآية . وهو اختيار الإمام يحيى في ( الحاوي ) واحتج بأن ( أما ( للتفصيل على بابها ، والتقدير : و ( أما الراسخون ( بدليل قوله تعالى : فأما الذين في قلوبهم زيغ كما تقول : أما زيد فعالم وعمرو جاهل ، أي : وأما عمرو فجاهل ، يوضحه أن المخالف مسلم أن هذا هو الظاهر منها ، لكنه يقول : إنه يجب تأويلها على أن المراد ذمهم بابتغاء تأويله الباطل ، فيقيد إطلاق الآية بغير حجة ، ويجعلها من المتشابه ، مع أنها الفارقة بين المحكم والمتشابه ، وهذا خلف .

[ ص: 796 ] وقد روى الحاكم عن ابن عباس أنه قرأ : (ويقول الراسخون ( وقال : صحيح . ورواه الزمخشري في كشافه قراءة عن أبي وغيره ، ورواه الإمام أبو طالب في أماليه عن علي عليه السلام ، ولم يتأوله ولم يطعن فيه . وهو في ( النهج ) أيضا ، وهو نص لا يمكن تأويله . فإن لفظه عليه السلام : اعلم أيها السائل أن الراسخين في العلم هم الذين أغناهم عن الاقتحام على السدد المضروبة دون الغيوب ، الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب ، فمدح الله اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علما ، وسمى تركهم التعمق ، فيما لم يكلفهم البحث عنه ؛ رسوخا . فاقتصر على ذلك . انتهى بحروفه .

وأيضا فلا يجب علم جميع المكلفين بذلك عند الخصوم ، إذ في المتكلفين الأمي والعجمي ونحوهم . وإذا كان علم البعض يكفي ويخرج الخطاب بذلك عن العبث ؛ جاز أن يكون ذلك البعض هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن شاء الله من ملائكته وخواص عباده . والله سبحانه أعلم .

الفائدة الثانية : إذا تعارض العام والخاص ، فالمحكم هو الخاص والبناء عليه واجب ، وفيه الجمع بينهما ، وفي العكس طرح الخاص مع رجحانه بالنصوصية ، وهي قاعدة كبيرة فاحفظها . ولا خلاف فيها في الاعتقاد ، لعدم القاعدة في التاريخ فيه ، ولذلك أجمعوا على إثبات الخلة للمتقين ، و تأويل نفي الخلة المطلق ، فتأمل ذلك .

الفائدة الثالثة : إذا كان التحسين العقلي مع بعض السمع فهو المحكم ، والمتشابه مخالفه ، لما وضح من تأويل الخضر بموافقة العقل ، وفي مخالفة هذه القاعدة عناد بين وضلال كبير ، فاعرفها واعتبر مواضعها ترشد - إن شاء الله تعالى .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 262.36 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 256.52 كيلو بايت... تم توفير 5.84 كيلو بايت...بمعدل (2.23%)]