الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله - الصفحة 15 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         إضاءات سلفية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 2 - عددالزوار : 281 )           »          تأديب الأولاد :المهمة يسيرة والنتائج غزيرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          الإحسان إلى النفس باللباس (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          أخطاء الواقفين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 2 - عددالزوار : 217 )           »          مهــارات بنــاءمجمـوعـات العـمـل الدعوي والتربوي وتفـعيـلها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 162 )           »          ما نصيبنا بعد تقسيم الأرض والعلوم والأخلاق بين الأمم؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          (الهالووين) اليوم المقدس لعبدة الشياطين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          المرتكزات الاقتصادية للمشروع الإيراني في المنطقتين العربية والإسلامية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          منهج العلماء في رفع التعارض بين النصوص الشرعية‏ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 68 - عددالزوار : 10691 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام > فتاوى وأحكام منوعة
التسجيل التعليمـــات التقويم

فتاوى وأحكام منوعة قسم يعرض فتاوى وأحكام ومسائل فقهية منوعة لمجموعة من العلماء الكرام

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #141  
قديم 30-06-2022, 06:33 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,744
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الرابع
الحلقة (141)
صـ61 إلى صـ 70




فإن قيل : اقتناص المعاني الكلية من الوقائع الجزئية غير بين ، من أوجه : أحدها : أن ذلك إنما يمكن في العقليات لا في الشرعيات ; لأن المعاني العقلية بسائط لا تقبل التركيب ، ومتفقة لا تقبل الاختلاف ; فيحكم العقل [ ص: 61 ] فيها على الشيء بحكم مثله شاهدا وغائبا ; لأن فرض خلافه محال عنده ، بخلاف الوضعيات ; فإنها لم توضع وضع النقليات ، وإلا كانت هي هي بعينها ; فلا تكون وضعية ، هذا خلف ، وإذا لم توضع وضعها ، وإنما وضعت على وفق الاختيار الذي يصح معه التفرقة بين الشيء ومثله ، والجمع بين الشيء وضده ونقيضه ; لم يصح مع ذلك أن يقتنص فيها معنى كلي عام من معنى جزئي خاص .

والثاني : أن الخصوصيات تستلزم من حيث الخصوص معنى زائدا على ذلك المعنى العام ، أو معاني كثيرة ، وهذا واضح في المعقول ; لأن ما به الاشتراك غير ما به الامتياز ، وإذ ذاك لا يتعين تعلق الحكم الشرعي في ذلك الخاص بمجرد الأمر العام دون التعلق بالخاص على الانفراد ، أو بهما معا ; فلا يتعين متعلق الحكم ، وإذا لم يتعين ; لم يصح نظم المعنى الكلي من تلك الجزئيات إلا عند فرض العلم بأن الحكم لم يتعلق إلا بالمعنى المشترك العام دون غيره وذلك لا يكون إلا بدليل ، وعند وجود ذلك الدليل لا يتبقى تعلق بتلك الجزئيات في استفادة معنى عام للاستغناء بعموم صيغة ذلك الدليل عن هذا العناء الطويل .

والثالث : أن التخصيصات في الشريعة كثيرة ; فيخص محل [ ص: 62 ] بحكم ويخص مثله بحكم آخر وكذلك يجمع بين المختلفات في حكم واحد .

ولذلك أمثلة كثيرة ; كجعل التراب طهورا كالماء ، وليس بمطهر كالماء ، بل هو بخلافه ، وإيجاب الغسل من خروج المني دون المذي والبول وغيرهما ، وسقوط الصلاة والصوم عن الحائض ثم قضاء الصوم دون الصلاة ، وتحصين الحرة لزوجها ولم تحصن الأمة سيدها ، والمعنى واحد ، ومنع النظر إلى محاسن الحرة دون محاسن الأمة ، وقطع السارق دون الغاصب والجاحد والمختلس ، والجلد بقذف الزنى دون غيره ، وقبول شاهدين في كل حد ما سوى الزنى ، والجلد بقذف الحر دون قذف العبد ، والتفرقة بين عدتي الوفاة والطلاق ، وحال الرحم لا يختلف فيهما واستبراء الحرة بثلاث حيض ، والأمة بواحدة ، وكالتسوية في الحد بين القذف وشرب الخمر وبين الزنى والمعفو عنه في دم العمد ، وبين المرتد والقاتل ، وفي الكفارة بين الظهار والقتل وإفساد الصوم ، وبين قتل المحرم الصيد عمدا أو خطأ [ ص: 63 ] وأيضا ; فإن الرجل والمرأة مستويان في أصل التكليف على الجملة ، ومفترقان بالتكليف اللائق بكل واحد منهما ; كالحيض ، والنفاس ، والعدة ، وأشباهها بالنسبة إلى المرأة ، والاختصاص في مثل هذا لا إشكال فيه .

وأما الأول فقد وقع الاختصاص فيه في كثير من المواضع ; كالجمعة ، والجهاد ، والإمامة ولو في النساء ، وفي الخارج النجس من الكبير والصغير ; ففرق بين بول الصبي والصبية ، إلى غير ذلك من المسائل ، مع فقد الفارق في القسم المشترك ، ومثل ذلك العبد ، فإن له اختصاصات في القسم المشترك أيضا ، وإذا ثبت هذا ;لم يصح القطع بأخذ عموم من وقائع مختصة .

فالجواب عن الأول أنه يمكن في الشرعيات إمكانه في العقليات ، والدليل على ذلك قطع السلف الصالح به في مسائل كثيرة ، كما تقدم التنبيه عليه ، فإذا وقع مثله ; فهو واضح في أن الوضع الاختياري الشرعي مماثل للعقلي الاضطراري ; لأنهم لم يعملوا به حتى فهموه من قصد الشارع .

وعن الثاني أنهم لم ينظموا المعنى العام من القضايا الخاصة حتى علموا [ ص: 64 ] أن الخصوصيات وما به الامتياز غير معتبرة وكذلك الحكم فيمن بعدهم ولو كانت الخصوصيات معتبرة بإطلاق لما صح اعتبار القياس ولارتفع من الأدلة رأسا ، وذلك باطل فما أدى إليه مثله .

وعن الثالث أنه الإشكال المورد على القول بالقياس ; فالذي أجاب به الأصوليون هو الجواب هنا .
ولهذه المسألة فوائد تنبني عليها أصلية وفرعية وذلك أنها إذا تقررت عند المجتهد ، ثم استقرى معنى عاما من أدلة خاصة ، واطرد له ذلك المعنى [ ص: 65 ] لم يفتقر بعد ذلك إلى دليل خاص على خصوص نازلة تعن بل يحكم عليها وإن كانت خاصة بالدخول تحت عموم المعنى المستقرى من غير اعتبار بقياس أو غيره ; إذ صار ما استقرئ من عموم المعنى كالمنصوص بصيغة عامة فكيف يحتاج مع ذلك إلى صيغة خاصة بمطلوبه ؟ ومن فهم هذا هان عليه الجواب عن إشكال القرافي الذي أورده على أهل مذهب مالك ، حيث استدلوا في سد الذرائع على الشافعية بقوله تعالى ولا تسبوا [ الأنبياء : 108 ] وقوله ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت [ البقرة : 65 ] وبحديث لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها إلخ وقوله : لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين [ ص: 66 ] قال فهذه وجوه كثيرة يستدلون بها وهي لا تفيد فإنها تدل على اعتبار الشرع سد الذرائع في الجملة ، وهذا مجمع عليه ، وإنما النزاع في ذرائع خاصة ، وهي بيوع الآجال ونحوها ; فينبغي أن تذكر أدلة خاصة بمحل النزاع ، وإلا ; فهذه لا تفيد .

قال : وإن قصدوا القياس على هذه الذرائع المجمع عليها فينبغي أن تكون حجتهم القياس خاصة ويتعين عليهم حينئذ إبداء الجامع حتى يتعرض الخصم لدفعه بالفارق ، ويكون دليلهم شيئا واحدا وهو القياس ، وهم لا يعتقدون ذلك ، بل يعتقدون أن مدركهم النصوص ، وليس كذلك ، بل ينبغي أن يذكروا نصوصا خاصة بذرائع بيوع الآجال خاصة ويقتصرون عليها ; كحديث [ ص: 67 ] أم ولد زيد بن أرقم هذا ما قال في إيراد هذا الإشكال .

وهو غير وارد على ما تقدم بيانه لأن الذرائع قد ثبت سدها في خصوصات كثيرة بحيث أعطت في الشريعة معنى السد مطلقا عاما وخلاف الشافعي هنا غير قادح في أصل المسألة ولا خلاف أبي حنيفة .

أما الشافعي ; فالظن به أنه تم له الاستقراء في سد الذرائع على العموم ، ويدل عليه قوله بترك الأضحية إعلاما بعدم وجوبها ، وليس في ذلك دليل صريح من كتاب أو سنة ، وإنما فيه عمل جملة من الصحابة ، وذلك عند الشافعي ليس [ ص: 68 ] بحجة ، لكن عارضه في مسألة بيوع الآجال دليل آخر راجح على غيره فأعمله ; فترك سد الذريعة لأجله ، وإذا تركه لمعارض راجح لم يعد مخالفا في أصله وأما أبو حنيفة ، فإن ثبت عنه جواز إعمال الحيل ; لم يكن من أصله في بيوع الآجال إلا الجواز ولا يلزم من ذلك تركه لأصل سد الذرائع وهذا واضح إلا أنه نقل عنه موافقة مالك في سد الذرائع فيها وإن خالفه في بعض التفاصيل ، وإذا كان كذلك فلا إشكال [ ص: 69 ] المسألة
السابعة

العمومات إذا اتحد معناها ، وانتشرت في أبواب الشريعة ، أو تكررت في مواطن بحسب الحاجة من غير تخصيص ; فهي مجراة على عمومها على كل حال وإن قلنا بجواز التخصيص بالمنفصل .

والدليل على ذلك الاستقراء ; فإن الشريعة قررت أن لا حرج علينا في الدين في مواضع كثيرة ، ولم تستثن منه موضعا ولا حالا ; فعده علماء الملة أصلا مطردا وعموما مرجوعا إليه من غير استثناء ، ولا طلب مخصص ولا احتشام من إلزام الحكم به ، ولا توقف في مقتضاه ، وليس ذلك إلا لما فهموا بالتكرار والتأكيد من القصد إلى التعميم التام .

وأيضا قررت أن ولا تزر وازرة وزر أخرى [ الأنعام : 164 ] ، فأعملت العلماء المعنى في مجاري عمومه ، وردوا ما خالفه من أفراد الأدلة بالتأويل [ ص: 70 ] وغيره وبينت بالتكرار أن لا ضرر ولا ضرار فأبى أهل العلم من تخصيصه ، وحملوه على عمومه ، وأن من سن سنة حسنة أو سيئة كان له ممن اقتدى به حظ إن حسنا وإن سيئا وأن من مات مسلما دخل الجنة ، ومن مات كافرا دخل النار .

وعلى الجملة فكل أصل تكرر تقريره وتأكد أمره وفهم ذلك من مجاري الكلام فهو مأخوذ على حسب عمومه ، وأكثر الأصول تكرارا الأصول المكية كالأمر بالعدل والإحسان ، وإيتاء ذي القربى ، والنهي عن الفحشاء والمنكر ، والبغي ، وأشباه ذلك .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #142  
قديم 30-06-2022, 06:35 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,744
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الرابع
الحلقة (142)
صـ71 إلى صـ 80




فأما إن لم يكن العموم مكررا ولا مؤكدا ولا منتشرا في أبواب الفقه ; فالتمسك بمجرده فيه نظر ; فلابد من البحث عما يعارضه أو يخصصه ، وإنما حصلت التفرقة بين الصنفين ; لأن ما حصل فيه التكرار والتأكيد والانتشار صار ظاهره باحتفاف القرائن به إلى منزلة النص القاطع الذي لا احتمال فيه بخلاف [ ص: 71 ] ما لم يكن كذلك فإنه معرض لاحتمالات ; فيجب التوقف في القطع بمقتضاه حتى يعرض على غيره ويبحث عن وجود معارض فيه .
وعلى هذا ينبني القول في العمل بالعموم وهل يصح من غير المخصص أم لا فإنه إذا عرض على هذا التقسيم أفاد أن القسم الأول غير محتاج فيه إلى بحث إذ لا يصح تخصيصه إلا حيث تخصص القواعد بعضها بعضا فإن قيل : قد حكي الإجماع في أنه يمنع العمل بالعموم حتى يبحث هل له مخصص أم لا ؟ وكذلك دليل مع معارضه ; فكيف يصح القول بالتفصيل فالجواب أن الإجماع إن صح فمحمول على غير القسم المتقدم جمعا بين الأدلة وأيضا فالبحث يبرز أن ما كان من العمومات على تلك الصفة فغير مخصص بل هو على عمومه فيحصل من ذلك بعد بحث المتقدم ما يحصل للمتأخر دون بحث بناء على ما ثبت من الاستقراء والله أعلم .
[ ص: 72 ] [ ص: 73 ] إن النبي كان مبينا بقوله وفعله وإقراره لما كان مكلفا بذلك في قوله تعالى وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم [ النحل : 44 ] فكان يبين بقوله عليه الصلاة والسلام كما قال في حديث الطلاق فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء [ ص: 74 ] وقال لعائشة حين سألته عن قول الله تعالى : فسوف يحاسب حسابا يسيرا [ الانشقاق : 8 ] إنما ذلك العرض وقال لمن سأله عن قوله آية المنافق ثلاث إنما عنيت بذلك كذا وكذا وهو لا يحصى كثرة وكان أيضا يبين بفعله ألا أخبرته أني أفعل ذلك [ ص: 75 ] وقال الله تعالى : زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج الآية [ الأحزاب : 50 ] وبين لهم كيفية الصلاة والحج بفعله ، وقال عند ذلك : صلوا كما رأيتموني أصلي و خذوا عني مناسككم إلى غير ذلك .

وكان إقراره بيانا أيضا إذا علم بالفعل ولم ينكره مع القدرة على إنكاره لو كان باطلا أو حراما حسبما قرره الأصوليون في مسألة مجزز المدلجي وغيره ، وهذا كله مبين في الأصول ، ولكن نصير منه إلى معنى آخر ، وهي :
[ ص: 76 ] وذلك أن العالم وارث النبي ; فالبيان في حقه لابد منه من حيث هو عالم ، والدليل على ذلك أمران : أحدهما : ما ثبت من كون العلماء ورثة الأنبياء وهو معنى صحيح [ ص: 77 ] ثابت ويلزم من كونه وارثا قيامه مقام موروثه في البيان ، وإذا كان البيان فرضا على الموروث لزم أن يكون فرضا على الوارث أيضا ، ولا فرق في البيان بين ما هو مشكل أو مجمل من الأدلة ، وبين أصول الأدلة في الإتيان بها ; فأصل التبليغ بيان لحكم الشريعة ، وبيان المبلغ مثله بعد التبليغ .

والثاني : ما جاء من الأدلة على ذلك بالنسبة إلى العلماء ; فقد قال : إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى الآية [ البقرة : 159 ] ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون [ البقرة : 42 ] ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله [ البقرة : 140 ] والآيات كثيرة .

وفي الحديث ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب وقال : لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالا ; فسلطه على هلكته [ ص: 78 ] في الحق ورجل آتاه الله الحكمة ; فهو يقضي بها ويعلمها وقال : من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويظهر الجهل .

والأحاديث في هذا كثيرة ، ولا خلاف في وجوب البيان على العلماء ، والبيان يشمل البيان الابتدائي والبيان للنصوص الواردة والتكاليف المتوجهة ; فثبت أن العالم يلزمه البيان من حيث هو عالم وإذا كان كذلك انبنى عليه معنى آخر وهي :[ ص: 79 ] فنقول : إذا كان البيان يتأتى بالقول والفعل ; فلابد أن يحصل ذلك بالنسبة إلى العالم ، كما حصل بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهكذا كان السلف الصالح ممن صار قدوة في الناس ، دل على ذلك المنقول عنهم حسبما يتبين في أثناء المسائل على أثر هذا بحول الله ، فلا نطول به هاهنا لأنه تكرار .
إذا حصل البيان بالقول والفعل المطابق للقول ; فهو الغاية في البيان كما إذا بين الطهارة أو الصوم أو الصلاة أو الحج أو غير ذلك من العبادات أو العادات ، فإن حصل بأحدهما فهو بيان أيضا ; إلا أن كل واحد منهما على انفراده قاصر عن غاية البيان من وجه ، بالغ أقصى الغاية من وجه آخر .

فالفعل بالغ من جهة بيان الكيفيات المعينة المخصوصة التي لا يبلغها البيان القولي ، ولذلك بين عليه الصلاة والسلام الصلاة بفعله لأمته ، كما فعل [ ص: 80 ] به جبريل حين صلى به ، وكما بين الحج كذلك والطهارة كذلك ، وإن جاء فيها بيان بالقول ; فإنه إذا عرض نص الطهارة في القرآن على عين ما تلقي بالفعل من الرسول عليه الصلاة والسلام كان المدرك بالحس من الفعل فوق المدرك بالعقل من النص لا محالة مع أنه إنما بعث ليبين للناس ما نزل إليهم .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #143  
قديم 30-06-2022, 06:38 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,744
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الرابع
الحلقة (143)
صـ81 إلى صـ 90



وهبه عليه الصلاة والسلام زاد بالوحي الخاص أمورا لا تدرك من النص على الخصوص ; فتلك الزيادات بعد البيان إذا عرضت على النص لم ينافها بل يقبلها ; فآية الوضوء إذا عرض عليها فعله عليه الصلاة والسلام في الوضوء شمله بلا شك ، وكذلك آية الحج مع فعله عليه الصلاة والسلام فيه ، ولو تركنا والنص ; لما حصل لنا منه كل ذلك ، بل أمر أقل منه ، وهكذا نجد الفعل مع [ ص: 81 ] القول أبدا ، بل يبعد في العادة أن يوجد قول لم يوجد لمعناه المركب نظير في الأفعال المعتادة المحسوسة ، بحيث إذا فعل الفعل على مقتضى ما فهم من القول ; كان هو المقصود من غير زيادة ولا نقصان ولا إخلال ، وإن كانت بسائطه معتادة كالصلاة والحج والطهارة ونحوها وإنما يقرب مثل هذا القول الذي معناه الفعلي بسيط ، ووجد له نظير في المعتاد ، وهو إذ ذاك إحالة على فعل معتاد فبه حصل البيان لا بمجرد القول ، وإذا كان كذلك ; لم يقم القول هنا في [ ص: 82 ] البيان مقام الفعل من كل وجه ; فالفعل أبلغ من هذا الوجه وهو يقصر عن القول من جهة أخرى : وذلك أن القول بيان للعموم والخصوص ، في الأحوال والأزمان والأشخاص ; فإن القول ذو صيغ تقتضي هذه الأمور وما كان نحوها ، بخلاف الفعل فإنه مقصور على فاعله ، وعلى زمانه ، وعلى حالته ، وليس له تعد عن محله ألبتة ، فلو تركنا والفعل الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم مثلا ; لم يحصل لنا منه غير العلم بأنه فعله في هذا الوقت المعين ، وعلى هذه الحالة المعينة .

فيبقى علينا النظر : هل ينسحب طلب هذا الفعل منه في كل حالة أو في هذه الحالة ، أو يختص بهذا الزمان ، أو هو عام في جميع الأزمنة ، أو يختص به وحده ، أو يكون حكم أمته حكمه ؟ .

ثم بعد النظر في هذا يتصدى نظر آخر في حكم هذا الفعل الذي فعله : من أي نوع هو من الأحكام الشرعية ؟ .

وجميع ذلك وما كان مثله لا يتبين من نفس الفعل ; فهو من هذا الوجه قاصر عن غاية البيان ; فلم يصح إقامة الفعل مقام القول من كل وجه ، وهذا بين بأدنى تأمل ، ولأجل ذلك جاء قوله تعالى : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [ الأحزاب : 21 ] وقال حين بين بفعله العبادات : صلوا كما رأيتموني أصلي ، وخذوا عني مناسككم ، ونحو ذلك ; ليستمر البيان إلى أقصاه .
فصل [ ص: 83 ] وإذا ثبت هذا ; لم يصح إطلاق القول بالترجيح بين البيانين ; فلا يقال : أيهما أبلغ في البيان ; القول ، أم الفعل ؟ إذ لا يصدقان على محل واحد إلا في الفعل البسيط المعتاد مثله إن اتفق ; فيقوم أحدهما مقام الآخر ، وهنالك يقال : أيهما أبلغ ، أو أيهما أولى ؟ كمسألة الغسل من التقاء الختانين مثلا ; فإنه بين من جهة الفعل ومن جهة القول عند من جعل هذه المسألة من ذلك [ ص: 84 ] والذي وضع إنما هو فعله ثم غسله ; فهو الذي يقوم كل واحد من القول والفعل مقام صاحبه ، أما حكم الغسل من وجوب أو ندب وتأسي الأمة به فيه فيختص بالقول
[ ص: 85 ] المسألة الخامسة إذا وقع القول بيانا ; فالفعل شاهد له ومصدق ، أو مخصص أو مقيد ، وبالجملة عاضد للقول حسبما قصد بذلك القول ، ورافع لاحتمالات فيه تعترض في وجه الفهم ، إذا كان موافقا غير مناقض ، ومكذب له أو موقع فيه ريبة أو شبهة أو توقفا إن كان على خلاف ذلك .

وبيان ذلك بأشياء منها أن العالم إذا أخبر عن إيجاب العبادة الفلانية أو الفعل الفلاني ، ثم فعله هو ولم يخل به في مقتضى ما قال فيه ; قوي اعتقاد إيجابه ، وانتهض العمل به عند كل من سمعه يخبر عنه ورآه يفعله وإذا أخبر عن تحريمه مثلا ، ثم تركه فلم ير فاعلا له ولا دائرا حواليه ; قوي عند متبعه ما أخبر به عنه ، بخلاف ما إذا أخبر عن إيجابه ثم قعد عن فعله أو أخبر عن تحريمه ثم فعله فإن نفوس الأتباع لا تطمئن إلى ذلك القول منه طمأنينتها إذا ائتمر وانتهى بل يعود من الفعل إلى القول ما يقدح فيه على الجملة ; إما من تطريق احتمال إلى القول ، وإما من تطريق تكذيب إلى القائل ، أو استرابة في بعض مآخذ القول ، مع أن التأسي في الأفعال والتروك بالنسبة إلى من يعظم في دين أو دنيا كالمغرور في الجبلة ، كما هو معلوم بالعيان ; فيصير القول بالنسبة إلى القائل كالتبع للفعل ; فعلى حسب ما يكون القائل في موافقة فعله لقوله يكون اتباعه والتأسي به ، أو عدم ذلك [ ص: 86 ] ولذلك كان الأنبياء عليهم السلام في الرتبة القصوى من هذا المعنى ، وكان المتبعون لهم أشد اتباعا ، وأجرى على طريق التصديق بما يقولون ، مع ما أيدهم الله به من المعجزات والبراهين القاطعة ، ومن جملتها ما نحن فيه ; فإن شواهد العادات تصدق الأمر أو تكذبه ; فالطبيب إذا أخبرك بأن هذا المتناول سم فلا تقربه ، ثم أخذ في تناوله دونك ، أو أمرك بأكل طعام أو دواء لعلة بك ومثلها به ، ثم لم يستعمله مع احتياجه إليه ; دل هذا كله على خلل في الإخبار ، أو في فهم الخبر ; فلم تطمئن النفس إلى قبول قوله ، وقد قال تعالى أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم الآية [ البقرة : 44 ] وقال تعالى : يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون الآية [ الصف : 2 ] ويخدم هذا المعنى الوفاء بالعهد وصدق الوعد ; فقد قال تعالى : رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه [ الأحزاب : 23 ] .

وقال في ضده : لئن آتانا من فضله لنصدقن إلى قوله : وبما كانوا يكذبون [ التوبة : 75 77 ] فاعتبر في الصدق كما ترى مطابقة الفعل القول ، وهذا هو حقيقة الصدق عند العلماء العاملين ; فهكذا إذا أخبر العالم بأن هذا واجب أو محرم ; فإنما [ ص: 87 ] يريد على كل مكلف وأنا منهم ; فإن وافق صدق وإن خالف كذب .

ومن الأدلة على ذلك أن المنتصب للناس في بيان الدين منتصب لهم بقوله وفعله ; فإنه وارث النبي ، والنبي كان مبينا بقوله وفعله ; فكذلك الوارث لابد أن يقوم مقام الموروث ، وإلا لم يكن وارثا على الحقيقة ، ومعلوم أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يتلقون الأحكام من أقواله وأفعاله وإقراراته وسكوته وجميع أحواله ; فكذلك الوارث ، فإن كان في التحفظ في الفعل كما في التحفظ في القول ; فهو ذلك وصار من اتبعه على هدى ، وإن كان على خلاف ذلك صار من اتبعه على خلاف الهدى ، لكن بسببه .

وكان الصحابة رضي الله عنهم ربما توقفوا عن الفعل الذي أباحه لهم السيد المتبوع عليه الصلاة والسلام ولم يفعله هو ، حرصا منهم على أن يكونوا متبعين لفعله وإن تقدم لهم بقوله ; لاحتمال أن يكون تركه أرجح ، ويستدلون على ذلك بتركه عليه الصلاة والسلام له ; حتى إذا فعله اتبعوه في فعله كما في التحلل من العمرة ، والإفطار في السفر ، هذا وكل صحيح ; فما ظنك بمن [ ص: 88 ] ليس بمعصوم من العلماء ؟ فهو أولى بأن يبين قوله بفعله ، ويحافظ فيه على نفسه وعلى كل من اقتدى به .

ولا يقال : إن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم ; فلا يتطرق إلى فعله أو تركه المبين خلل ، بخلاف من ليس بمعصوم .

لأنا نقول : إن اعتبر هذا الاحتمال في ترك الاقتداء بالفعل ; فليعتبر في ترك اتباع القول ، وإذ ذاك يقع في الرتبة فساد لا يصلح ، وخرق لا يرقع ; فلابد أن يجري الفعل مجرى القول ، ولهذا تستعظم شرعا زلة العالم ، وتصير صغيرته كبيرة من حيث كانت أقواله وأفعاله جارية في العادة على مجرى الاقتداء ، فإذا زل حملت زلته عنه قولا كانت أو فعلا لأنه موضوع منارا يهتدى به ، فإن علم كون زلته زلة ; صغرت في أعين الناس وجسر عليها الناس تأسيا به ، وتوهموا فيها رخصة علم بها ولم يعلموها هم تحسينا للظن به ، وإن جهل كونها زلة ; [ ص: 89 ] فأحرى أن تحمل عنه محمل المشروع وذلك كله راجع عليه .

وقد جاء في الحديث : " إني لأخاف على أمتي من بعدي من أعمال ثلاثة قالوا : وما هي يا رسول الله ؟ قال : أخاف عليهم من زلة العالم ، ومن حكم جائر ، ومن هوى متبع " وقال عمر بن الخطاب : " ثلاث يهدمن الدين : زلة عالم ، وجدال منافق بالقرآن ، وأئمة مضلون " .

ونحوه عن أبي الدرداء ولم يذكر فيه الأئمة المضلين .

وعن معاذ بن جبل يا معشر العرب ! كيف تصنعون بثلاث : دنيا تقطع [ ص: 90 ] أعناقكم ، وزلة عالم ، وجدال منافق بالقرآن ومثله عن سلمان أيضا وشبه العلماء زلة العالم بكسر السفينة ; لأنها إذا غرقت غرق معها خلق كثير وعن ابن عباس : ويل للأتباع من عثرات العالم قيل : كيف ذلك ؟ قال : يقول العالم شيئا برأيه ، ثم يجد من هو أعلم برسول الله منه ; فيترك قوله ذلك ، ثم يمضي الأتباع وهذه الأمور حقيق أن تهدم الدين ، أما زلة العالم ; فكما تقدم ، ومثال كسر السفينة واقع فيها ، وأما الحكم الجائر ; فظاهر أيضا ، وأما الهوى المتبع فهو أصل ذلك كله ، وأما الجدال بالقرآن ; فإنه من اللسن الألد من أعظم الفتن لأن القرآن مهيب جدا ، فإن جادل به منافق على باطل أحاله حقا

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #144  
قديم 30-06-2022, 06:39 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,744
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الرابع
الحلقة (144)
صـ91 إلى صـ 100






[ ص: 91 ] وصار مظنة للاتباع على تأويل ذلك المجادل ، ولذلك كان الخوارج فتنة على الأمة ; إلا من ثبت الله لأنهم جادلوا به على مقتضى آرائهم الفاسدة ، ووثقوا تأويلاتهم بموافقة العقل لها ; فصاروا فتنة على الناس ، وكذلك الأئمة المضلون لأنهم بما ملكوا من السلطنة على الخلق وقدروا على رد الحق باطلا والباطل حقا ، وأماتوا سنة الله وأحيوا سنن الشيطان ، وأما الدنيا ; فمعلوم فتنتها للخلق .

فالحاصل أن الأفعال أقوى في التأسي والبيان إذا جامعت الأقوال من انفراد الأقوال ، فاعتبارها في نفسها لمن قام في مقام الاقتداء أكيد لازم ، بل يقال : إذا اعتبر هذا المعنى في كل من هو في مظنة الاقتداء ومنزلة التبيين ; ففرض عليه تفقد جميع أقواله وأعماله ، ولا فرق في هذا بين ما هو واجب وما هو مندوب أو مباح أو مكروه أو ممنوع ; فإن له في أفعاله وأقواله اعتبارين أحدهما : من حيث إنه واحد من المكلفين فمن هذه الجهة يتفصل الأمر في حقه إلى الأحكام الخمسة .

والثاني : من حيث صار فعله وقوله وأحواله بيانا وتقريرا لما شرع الله عز وجل إذا انتصب في هذا المقام ; فالأقوال كلها والأفعال في حقه إما واجب وإما محرم ، ولا ثالث لهما لأنه من هذه الجهة مبين ، والبيان واجب لا غير ، فإذا [ ص: 92 ] كان مما يفعل ; أو يقال ; كان واجب الفعل على الجملة ، وإن كان مما لا يفعل ; فواجب الترك حسبما يتقرر بعد بحول الله ، وذلك هو تحريم الفعل لكن هذا بالنسبة إلى المقتدى به إنما يتعين حيث توجد مظنة البيان ; إما عند الجهل بحكم الفعل أو الترك ، وإما عند اعتقاد خلاف الحكم ، أو مظنة اعتقاد خلافه .

فالمطلوب فعله بيانه بالفعل ، أو القول الذي يوافق الفعل إن كان واجبا ، وكذلك إن كان مندوبا مجهول الحكم ، فإن كان مندوبا ومظنة لاعتقاد الوجوب ; فبيانه بالترك ، أو بالقول الذي يجتمع إليه الترك ، كما فعل في ترك الأضحية وترك صيام الست من شوال ، وأشباه ذلك ، وإن كان مظنة لاعتقاد عدم الطلب أو مظنة للترك ; فبيانه بالفعل والدوام فيه على وزان المظنة ; كما في السنن والمندوبات التي تنوسيت في هذه الأزمنة .

والمطلوب تركه بيانه بالترك ، أو القول الذي يساعده الترك إن كان حراما ، وإن كان مكروها ; فكذلك إن كان مجهول الحكم ، فإن كان مظنة لاعتقاد [ ص: 93 ] التحريم وترجح بيانه بالفعل تعين الفعل على أقل ما يمكن وأقر به وقد قال الله تعالى : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [ الأحزاب : 21 ] وقال : فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها الآية [ الأحزاب : 50 ] وفي حديث المصبح جنبا قوله : وأنا أصبح جنبا وأنا أريد الصيام وفي حديث أبي بكر بن عبد الرحمن من قول عائشة : يا عبد الرحمن أترغب عما كان رسول الله يصنع ؟ قال عبد الرحمن : لا والله قالت عائشة : [ ص: 94 ] فأشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يصبح جنبا من جماع غير احتلام ثم يصوم ذلك اليوم .

وفي حديث أم سلمة : ألا أخبرتيها أني أفعل ذلك إلى آخر الحديث .

وروى إسماعيل القاضي عن زياد بن حصين عن أبيه ; قال : رأيت ابن عباس وهو يسوق راحلته وهو يرتجز وهو محرم وهو يقول :
وهن يمشين بنا هميسا إن تصدق الطير نفعل لميسا
قال : فذكر الجماع باسمه ; فلم يكن عنه قال فقلت : يا ابن عباس ! أتتكلم بالرفث وأنت محرم ؟ فقال : إنما الرفث ما روجع به النساء [ ص: 95 ] كأنه رأى مظنة هذا الاعتقاد فنفاه بذلك القول بيانا لقوله تعالى : فلا رفث ولا فسوق الآية [ البقرة : 197 ] وأن الرفث ليس إلا ما كان بين الرجل والمرأة ، وإن كان مظنة لاعتقاد الطلب أو مظنة لأن يثابر على فعله ; فبيانه بالترك جملة إن لم يكن له أصل أو كان له أصل لكن في الإباحة أو في نفي الحرج في الفعل ; كما في سجود الشكر عند مالك وكما في غسل اليدين قبل الطعام ، حسبما بينه مالك في مسألة عبد الملك بن صالح ، وستأتي إن شاء [ ص: 96 ] الله وعلى الجملة فالمراعى هاهنا مواضع طلب البيان الشافي المخرج عن الأطراف والانحرافات ، والراد إلى الصراط المستقيم ، ومن تأمل سير السلف الصالح في هذا المعنى ; تبين ما تقرر بحول الله ، ولابد من بيان هذه الجملة بالنسبة إلى الأحكام الخمسة أو بعضها حتى يظهر فيها الغرض المطلوب ، والله المستعان .
[ ص: 97 ] المسألة السادسة المندوب من حقيقة استقراره مندوبا أن لا يسوى بينه وبين الواجب ، لا في القول ولا في الفعل ، كما لا يسوى بينهما في الاعتقاد ، فإن سوي بينهما في القول أو الفعل ; فعلى وجه لا يخل بالاعتقاد ، وبيان ذلك بأمور أحدها : أن التسوية في الاعتقاد باطلة باتفاق ، بمعنى أن يعتقد فيما ليس بواجب أنه واجب ، والقول أو الفعل إذا كان ذريعة إلى مطلق التسوية وجب أن يفرق بينهما ، ولا يمكن ذلك إلا بالبيان القولي والفعل المقصود به التفرقة ، وهو ترك الالتزام في المندوب الذي هو من خاصة كونه مندوبا .

والثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث هاديا ومبينا للناس ما نزل إليهم ، وقد كان من شأنه ذلك في مسائل كثيرة ; كنهيه عن إفراد يوم الجمعة بصيام أو ليلته [ ص: 98 ] بقيام وقوله : " لا يجعل أحدكم للشيطان حظا في صلاته " بينه حديث ابن عمر ، قال واسع بن حبان انصرفت من قبل شقي الأيسر ، فقال لي عبد الله بن عمر : ما منعك أن تنصرف عن يمينك ؟ قلت : رأيتك فانصرفت إليك قال : أصبت إن قائلا يقول : انصرف عن يمينك وأنا أقول : انصرف كيف شئت ، عن يمينك وعن يسارك .

وفي بعض الأحاديث بعد ما قرر حكما غير واجب : من فعل فقد أحسن ، ومن لا فلا حرج .

[ ص: 99 ] [ ص: 100 ] وقال الأعرابي : هل علي غيرهن ؟ قال : لا إلا أن تطوع .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #145  
قديم 30-06-2022, 06:41 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,744
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الرابع
الحلقة (145)
صـ101 إلى صـ 110




وقال لما سئل عن تقديم بعض أفعال الحج على بعض مما ليس تأخيره بواجب : لا حرج قال الراوي : فما سئل يومئذ عن شيء قدم أو أخر ; إلا قال افعل ولا حرج مع أن تقديم بعض الأفعال على بعض مطلوب ، لكن لا على الوجوب ونهى عليه الصلاة والسلام عن أن يتقدم رمضان بيوم أو يومين وحرم صيام يوم العيد [ ص: 101 ] ونهى عن التبتل مع قوله تعالى : وتبتل إليه تبتيلا [ المزمل : 8 ] ونهى عن الوصال وقال : خذوا من العمل ما تطيقون مع أن الاستكثار من الحسنات خير إلى غير ذلك من الأمور التي بينها بقوله وفعله وإقراره مما خلافه مطلوب ولكن تركه وبينه خوفا أن يصير من قبيل آخر في الاعتقاد .

ومسلك آخر ، وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يترك العمل وهو يحب أن يعمل به ; خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم ، قالت عائشة : وما سبح النبي صلى الله عليه وسلم سبحة الضحى قط ، وإني لأسبحها [ ص: 102 ] وقد قام ليالي من رمضان في المسجد ; فاجتمع إليه ناس يصلون بصلاته ، ثم كثروا فترك ذلك ، وعلل بخشية الفرض .

ويحتمل وجهين : أحدهما : أن يفرض بالوحي ، وعلى هذا جمهور الناس .

والثاني : في معناه وهو الخوف أن يظن فيها أحد من أمته بعده إذا داوم عليها الوجوب ، وهو تأويل متمكن .

والثالث : أن الصحابة عملوا على هذا الاحتياط في الدين لما فهموا هذا الأصل من الشريعة ، وكانوا أئمة يقتدى بهم ; فتركوا أشياء وأظهروا ذلك ليبينوا أن تركها غير قادح وإن كانت مطلوبة ; فمن ذلك ترك عثمان القصر في السفر في خلافته ، وقال إني إمام الناس فينظر إلي الأعراب وأهل البادية أصلي ركعتين ; فيقولون : هكذا فرضت وأكثر المسلمين على أن القصر [ ص: 103 ] مطلوب وقال حذيفة بن أسيد : " شهدت أبا بكر وعمر وكانا لا يضحيان مخافة أن يرى الناس أنها واجبة " وقال بلال : لا أبالي أن أضحي بكبش أو بديك وعن ابن عباس أنه كان يشتري لحما بدرهمين يوم الأضحى ، ويقول [ ص: 104 ] لعكرمة : " من سألك فقل هذه أضحية ابن عباس ، وكان غنيا وقال بعضهم : إني لأترك أضحيتي وإني لمن أيسركم ; مخافة أن يظن الجيران أنها واجبة وقال أبو أيوب الأنصاري : " كنا نضحي عن النساء وأهلينا ; فلما تباهى الناس بذلك تركناها " ولا خلاف في أن الأضحية مطلوبة .

وقال ابن عمر في صلاة الضحى : إنها بدعة وحمل على أحد [ ص: 105 ] وجهين : إما أنهم كانوا يصلونها جماعة ، وإما أفذاذا على هيئة النوافل في أعقاب الفرائض ، وقد منع النساء المساجد مع ما في الحديث من قوله : لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ; لما أحدثن في خروجهن ولما يخاف فيهن والرابع : أن أئمة المسلمين استمروا على هذا الأصل على الجملة وإن اختلفوا في التفاصيل ; فقد كره مالك وأبو حنيفة صيام ست من شوال وذلك [ ص: 106 ] للعلة المتقدمة ، مع أن الترغيب في صيامها ثابت صحيح ; لئلا يعتقد ضمها إلى رمضان .

قال القرافي : " وقد وقع ذلك للعجم " وقال الشافعي في [ ص: 107 ] الأضحية بنحو من ذلك حيث استدل على عدم الوجوب بفعل الصحابة المذكور وتعليلهم والمنقول عن مالك من هذا كثير ، وسد الذريعة أصل عنده متبع ، مطرد في العادات والعبادات ; فبمجموع هذه الأدلة نقطع بأن التفريق بين الواجب والمندوب إذا استوى القولان أو الفعلان مقصود شرعا ، ومطلوب من كل من يقتدى به قطعا كما يقطع بالقصد إلى الفرق بينهما اعتقادا .
فصل

والتفرقة بينهما تحصل بأمور : منها بيان القول إن اكتفي به وإلا ; فالفعل وهو أحرى بل هو في هذا النمط مقصود ، وقد يكون في سوابق الشيء المندوب وفي قرائنه وفي لواحقه ، وأمثلة ذلك ظاهرة مما تقدم وأشباهه .

وأكثر ما يحصل الفرق في الكيفيات العديمة النص ، وأما المنصوصة فلا كلام فيها ، فالفعل أقوى إذا في هذا المعنى ; لما تقدم من أن الفعل يصدق القول أو يكذبه .
[ ص: 108 ] فصل

وكما أن من حقيقة استقرار المندوب أن لا يسوى بينه وبين الواجب في الفعل كذلك من حقيقة استقراره أن لا يسوى بينه وبين بعض المباحات في الترك المطلق من غير بيان ; فإنه لو وقعت التسوية بينهما لفهم من ذلك مشروعية الترك كما تقدم ، ولم يفهم كون المندوب مندوبا ، هذا وجه .

ووجه آخر وهو أن في ترك المندوب إخلالا بأمر كلي فيه ، ومن المندوبات ما هو واجب بالكل ; فيؤدي تركه مطلقا إلى الإخلال بالواجب ، بل لابد من العمل به ليظهر للناس فيعملوا به ، وهذا مطلوب ممن يقتدى به ، كما كان شأن السلف الصالح .

وفي الحديث الحسن عن أنس ; قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا بني إن قدرت أن تصبح وتمسي وليس في قلبك غش لأحد فافعل ، ثم قال لي : يا بني وذلك من سنتي ، ومن أحيا سنتي ; فقد أحبني ، ومن أحبني ; كان معي في الجنة " فجعل العمل بالسنة إحياء لها ; فليس بيانها مختصا بالقول [ ص: 109 ] وقد قال مالك في نزول الحاج بالمحصب من مكة ، وهو الأبطح : أستحب للأئمة ولمن يقتدى به أن لا يجاوزوه حتى ينزلوا به ; فإن ذلك من حقهم لأن ذلك أمر قد فعله النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء ، فيتعين على الأئمة ومن يقتدى به من أهل العلم إحياء سننه ، والقيام به لئلا يترك هذا الفعل جملة ، ويكون للنزول بهذا الموضع حكم النزول بسائر المواضع ، لا فضيلة للنزول به بل لا يجوز النزول به على وجه القربة هكذا نقل الباجي .

وهو ظاهر من مذهب مالك في أن المندوب لابد من التفرقة بينه وبين ما ليس بمندوب ، وذلك بفعله وإظهاره .

وقال بعضهم في حديث عمر " بل أغسل ما رأيت ، وأنضح ما لم أر " : في هذا الحديث أن عمر رأى أن أعماله وأقواله نهج للسنة وأنه موضع للقدوة ، يعني : فعمل هنا على مقتضى الأخذ عنه في ذلك الفعل ، وصار ذلك أصلا في التوسعة على الناس في ترك تكلف ثوب آخر للصلاة ، وفي تأخير الصلاة لأجل غسل الثوب .

وفي الحديث : " واعجبا لك يا ابن العاص ! لئن كنت تجد ثيابا ; أفكل [ ص: 110 ] الناس يجد ثيابا ؟ والله لو فعلتها لكانت سنة الحديث .

ولمكان هذا ونحوه اقتدى به عمر بن عبد العزيز حفيده ; ففي العتبية قيل لعمر بن عبد العزيز : أخرت الصلاة شيئا فقال : إن ثيابي غسلت .

قال ابن رشد : يحتمل أنه لم يكن له غير تلك الثياب لزهده في الدنيا ، أو لعله ترك أخذ سواها مع سعة الوقت تواضعا لله ليقتدى به في ذلك ، ائتساء بعمر بن الخطاب ; فقد كان أتبع الناس لسيرته وهديه في جميع الأحوال .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #146  
قديم 30-06-2022, 06:42 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,744
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الرابع
الحلقة (146)
صـ111 إلى صـ 120




ومما نحن فيه ما قال الماوردي فيمن صار ترك الصلاة في الجماعة له إلفا وعادة ، وخيف أن يتعدى إلى غيره في الاقتداء به ، أن للحاكم أن يزجره ، واستشهد على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم : لقد هممت أن آمر أصحابي أن يجمعوا حطبا الحديث [ ص: 111 ] وقال : أيضا فيما إذا تواطأ أهل بلد على تأخير الصلاة إلى آخر وقتها أن له أن ينهاهم قال : لأن اعتياد جميع الناس لتأخيرها مفض بالصغير الناشئ إلى اعتقاد أن هذا هو الوقت دون ما تقدمه .

وأشار إلى نحو هذا في مسائل أخر ، وحكى قولين في مسألة اعتراض المحتسب على أهل القرية في إقامة الجمعة بجماعة اختلف في انعقاد الجمعة بهم في بعض وجوهها ، وذلك إذا كان هو يرى إقامتها وهم لا يرونها ، ووجه القول بإقامتها على رأيه باعتبار المصلحة ; لئلا ينشأ الصغير على تركها ، فيظن أنها تسقط مع زيادة العدد كما تسقط بنقصانه .

وهذا الباب يتسع ، ومما يجري مجراه في تقوية اعتبار البيان في هذه المسائل وأشباهها مما ذكر أو لم يذكر قصة عمر بن عبد العزيز مع عروة بن عياض حين نكت بالخيزرانة بين عينيه ، ثم قال : هذه غرتني منك لسجدته التي بين عينيه ، ولولا أني أخاف أن تكون سنة من بعدي ; لأمرت بموضع السجود فقور .

وقد عول العلماء على هذا المعنى وجعلوه أصلا يطرد ، وهو راجع إلى سد الذرائع الذي اتفق العلماء على إعماله في الجملة وإن اختلفوا في التفاصيل كقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا [ البقرة : 104 ] [ ص: 112 ] وقوله : ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم [ الأنعام : 108 ] وقد منع مالك لمن رأى هلال شوال وحده أن لا يفطر لئلا يكون ذريعة إلى إفطار الفساق محتجين بما احتج به ، وقال بمثله فيمن شهد عليه شاهدا زور بأنه طلق امرأته ثلاثا ولم يفعل ; فمنعه من وطئها إلا أن يخفى ذلك عن الناس .

وراعى زياد مثل هذا في صلاة الناس في جامع البصرة والكوفة فإنهم إذا صلوا في صحنه ورفعوا من السجود مسحوا جباههم من التراب ; فأمر بإلقاء الحصى في صحن المسجد ، وقال : " لست آمن أن يطول الزمان فيظن الصغير إذا نشأ أن مسح الجبهة من أثر السجود سنة في الصلاة " .

ومسألة مالك مع أبي جعفر المنصور حين أراد أن يحمل الناس على الموطأ ; فنهاه مالك عن ذلك من هذا القبيل أيضا [ ص: 113 ] ولقد دخل ابن عمر على عثمان وهو محصور ; فقال له : انظر ما يقول هؤلاء ، يقولون : اخلع نفسك أو نقتلك قال له : أمخلد أنت في الدنيا ؟ قال : لا قال : هل يملكون لك جنة أو نارا ؟ قال لا قال : فلا تخلع قميص الله عليك فتكون سنة ، كلما كره قوم خليفتهم خلعوه أو قتلوه .

ولما هم أبو جعفر المنصور أن يبني البيت على ما بناه ابن الزبير على قواعد إبراهيم شاور مالكا في ذلك ; فقال له مالك : أنشدك الله يا أمير المؤمنين أن لا تجعل هذا البيت ملعبة للملوك بعدك لا يشاء أحد منهم أن يغيره إلا غيره ; فتذهب هيبته من قلوب الناس فصرفه عن رأيه فيه ; لما ذكر من أنها تصير سنة متبعة باجتهاد أو غيره ; فلا يثبت على حال .
[ ص: 114 ] المسألة السابعة

المباحات من حقيقة استقرارها مباحات أن لا يسوى بينها وبين المندوبات ولا المكروهات ; فإنها إن سوي بينها وبين المندوبات بالدوام على الفعل على كيفية فيها معينة أو غير ذلك توهمت مندوبات كما تقدم في مسح الجباه بأثر الرفع من السجود ، ومسألة عمر بن الخطاب في غسل ثوبه من الاحتلام وترك الاستبدال به .

وقد حكى عياض عن مالك أنه دخل على عبد الملك بن صالح أمير المدينة ; فجلس ساعة ثم دعا بالوضوء والطعام ، فقال : ابدءوا بأبي عبد الله فقال مالك : إن أبا عبد الله يعني نفسه لا يغسل يده فقال : لم ؟ قال : ليس هو الذي أدركت عليه أهل العلم ببلدنا إنما هو من رأي الأعاجم ، وكان عمر إذا أكل مسح يده بباطن قدمه فقال له عبد الملك : أأترك يا أبا عبد الله ؟ قال : إي والله فما عاد إلى ذلك ابن صالح قال مالك : ولا نأمر الرجل أن لا يغسل [ ص: 115 ] يده ولكن إذا جعل ذلك كأنه واجب عليه ; فلا ، أميتوا سنة العجم ، وأحيوا سنة العرب ، أما سمعت قول عمر : تمعددوا واخشوشنوا وامشوا حفاة وإياكم وزي العجم .

وهكذا إن سوى في الترك بينها وبين المكروهات ربما توهمت مكروهات ; فقد كان عليه الصلاة والسلام يكره الضب ويقول : لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه وأكل على مائدته ; فظهر حكمه .

وقدم إليه طعام فيه ثوم لم يأكل منه قال له أبو أيوب وهو الذي بعث به إليه يا رسول الله : أحرام هو ؟ قال : لا ولكني أكرهه من أجل ريحه وفي رواية أنه قال لأصحابه : كلوا فإني لست كأحدكم ، إني أخاف أن أؤذي صاحبي [ ص: 116 ] وروي في الحديث أن سودة بنت زمعة خشيت أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت لا تطلقني ، وأمسكني ، واجعل يومي لعائشة ففعل ; فنزلت : فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا الآية [ النساء : 128 ] فكان هذا تأديبا وبيانا بالقول والفعل لأمر ربما استقبح بمجرى العادة ; حتى يصير كالمكروه ، وليس بمكروه .

والأدلة على هذا الفصل نحو من الأدلة على استقرار المندوبات .
[ ص: 117 ] المسألة الثامنة

المكروهات من حقيقة استقرارها مكروهات أن لا يسوى بينها وبين المحرمات ولا بينها وبين المباحات .

أما الأول ; فلأنها إذا أجريت ذلك المجرى توهمت محرمات ، وربما طال العهد فيصير الترك واجبا عند من لا يعلم .

ولا يقال : إن في بيان ذلك ارتكابا للمكروه وهو منهي عنه ; لأنا نقول : البيان آكد وقد يرتكب النهي الحتم إذا كانت له مصلحة راجحة ; ألا ترى إلى كيفية تقرير الحكم على الزاني ، وما جاء في الحديث من قوله عليه الصلاة والسلام له : أنكتها هكذا من غير كناية ، مع أن ذكر هذا اللفظ في غير معرض البيان مكروه أو ممنوع ؟ غير أن التصريح هنا آكد ، فاغتفر لما يترتب عليه ; فكذلك هنا ، ألا ترى إلى إخبار عائشة عما فعلته مع رسول الله في التقاء الختانين وقوله عليه الصلاة والسلام : ألا أخبرتيها أني أفعل ذلك مع أن ذكر مثل هذا في غير محل البيان منهي عنه ؟ [ ص: 118 ] وقد تقدم ما جاء عن ابن عباس في ارتجازه وهو محرم بقوله : إن تصدق الطير ننك لميسا مثل هذا لا حرج فيه .

وأما الثاني ; فلأنها إذا عمل بها دائما وترك اتقاؤها توهمت مباحات فينقلب حكمها عند من لا يعلم وبيان ذلك يكون بالتغيير والزجر على ما يليق به في الإنكار ، ولا سيما المكروهات التي هي عرضة لأن تتخذ سننا ، وذلك المكروهات المفعولة في المساجد ، وفي مواطن الاجتماعات الإسلامية ، والمحاضر الجمهورية ، ولأجل ذلك كان مالك شديد الأخذ على من فعل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من هذه المكروهات ، بل ومن المباحات ; كما أمر بتأديب من وضع رداءه أمامه من الحر وما أشبه ذلك .
فصل

ما تقدم من هذه المسائل يتفرع عنها قواعد فقهية وأصولية ، منها أنه لا ينبغي لمن التزم عبادة من العبادات البدنية الندبية أن يواظب عليها مواظبة يفهم [ ص: 119 ] الجاهل منها الوجوب ، إذا كان منظورا إليه مرموقا ، أو مظنة لذلك ، بل الذي ينبغي له أن يدعها في بعض الأوقات حتى يعلم أنها غير واجبة ; لأن خاصية الواجب المكرر الالتزام والدوام عليه في أوقاته ، بحيث لا يتخلف عنه ، كما أن خاصية المندوب عدم الالتزام ، فإذا التزمه فهم الناظر منه نفس الخاصية التي للواجب ; فحمله على الوجوب ، ثم استمر على ذلك ; فضل .

وكذلك إذا كانت العبادة تتأتى على كيفيات يفهم من بعضها في تلك العبادة ما لا يفهم منها على الكيفية الأخرى ، أو ضمت عبادة أو غير عبادة إلى العبادة قد يفهم بسبب الاقتران ما لا يفهم دونه ، أو كان المباح يتأتى فعله على وجوه فيثابر فيه على وجه واحد تحريا له ويترك ما سواه ، أو يترك بعض المباحات جملة من غير سبب ظاهر ، بحيث يفهم منه في الترك أنه مشروع .

ولذلك لما قرأ عمر بن الخطاب السجدة على المنبر ثم سجد وسجد معه الناس ، قرأها في كرة أخرى ، فلما قرب من موضعها تهيأ الناس للسجود ; فلم يسجدها ، وقال : إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء .

وسئل مالك عن التسمية عند الوضوء ; فقال : أيحب أن يذبح ؟ إنكارا لما يوهمه سؤاله من تأكيد الطلب فيها عند الوضوء [ ص: 120 ] ونقل عن عمر ; أنه قال : لا نبالي أبدأنا بأيماننا أم بأيسارنا يعني : في الوضوء ، مع أن المستحب التيامن في الشأن كله .

ومثال العبادات المؤداة على كيفيات يلتزم فيها كيفية واحدة إنكار مالك لعدم تحريك الرجلين في القيام للصلاة .

ومثال ضم ما ليس بعبادة إلى العبادة حكاية الماوردي في مسح الوجه عند القيام من السجود وحديث عمر مع عمرو : لو فعلتها لكانت سنة ، بل أغسل ما رأيت وأنضح ما لم أر .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #147  
قديم 30-06-2022, 06:44 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,744
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الرابع
الحلقة (147)
صـ121 إلى صـ 130


ومثال فعل الجائز على وجه واحد ما نقل عن مالك أنه سئل عن المرة الواحدة في الوضوء قال : لا ، الوضوء مرتان مرتان ، أو ثلاث ثلاث ، مع أنه [ ص: 121 ] لم يحد في الوضوء ولا في الغسل إلا ما أسبغ .

قال اللخمي : وهذا احتياط وحماية ; لأن العامي إذا رأى من يقتدي به يتوضأ مرة مرة فعل مثل ذلك ، وقد لا يحسن الإسباغ بواحدة فيوقعه فيما لا تجزئ الصلاة به .

والأمثلة كثيرة ، وهذا كله إنما هو فيما فعل بحضرة الناس ، وحيث يمكن الاقتداء بالفاعل ، وأما من فعله في نفسه وحيث لا يطلع عليه مع اعتقاده على ما هو به ; فلا بأس كما قاله المتأخرون في صيام ست من شوال : إن من فعل ذلك في نفسه معتقدا وجه الصحة ; فلا بأس ، وكذا قال مالك في المرة الواحدة : حيث لا أحب ذلك إلا للعالم بالوضوء ، وما ذكره اللخمي يشعر بأنه إذا فعل الواحدة حيث لا يقتدى به ، فلا بأس وهو جار على المذهب ; لأن أصل مالك فيه عدم التوقيت .

فأما إن أحب الالتزام وأن لا يزول عنه ولا يفارقه ; فلا ينبغي أن يكون ذلك بمرأى من الناس ، لأنه إن كان كذلك ; فربما عده العامي واجبا أو مطلوبا أو متأكد الطلب بحيث لا يترك ، ولا يكون كذلك شرعا ; فلابد في إظهاره من عدم التزامه في بعض الأوقات ، ولابد في التزامه من عدم إظهاره كذلك في بعض الأوقات ، وذلك على الشرط المذكور في أول كتاب الأدلة [ ص: 122 ] ولا يقال : إن هذا مضاد لما تقدم من قصد الشارع للدوام على الأعمال ، وقد كان عليه الصلاة والسلام إذا عمل عملا أثبته لأنا نقول : كما يطلق الدوام على مالا يفارق ألبتة كذلك يطلق على ما يكون في أكثر الأحوال ، فإذا ترك في بعض الأوقات ; لم يخرج صاحبه عن أصل الدوام ، كما لا نقول في الصحابة حين تركوا التضحية في بعض الأوقات : إنهم غير مداومين عليها ; فالدوام على الجملة لا يشترط في صحة إطلاقه عدم الترك رأسا ، وإنما يشترط فيه الغلبة في الأوقات أو الأكثرية ، بحيث يطلق على صاحبه اسم الفاعل إطلاقا حقيقيا في اللغة .

ولما كانت الصوفية قد التزمت في السلوك ما لا يلزمها حتى سوت بين الواجب والمندوب في التزام الفعل ، وبين المكروهات والمحرمات في التزام الترك ، بل سوت بين كثير من المباحات والمكروهات في الترك ، وكان هذا النمط ديدنها لا سيما مع ترك أخذها بالرخص ; إذ من مذاهبها عدم التسليم للسالك فيها من حيث هو سالك ، إلى غير ذلك من الأمور التي لا تلزم الجمهور ، بنوا طريقهم بينهم وبين تلاميذهم على كتم أسرارهم وعدم إظهارها ، والخلوة بما التزموا من وظائف السلوك وأحوال المجاهدة خوفا من تعريض من يراهم ولا يفهم مقاصدهم إلى ظن ما ليس بواجب واجبا أو ما هو [ ص: 123 ] جائز غير جائز أو مطلوبا ، أو تعريضهم لسوء القال فيهم فلا عتب عليهم في ذلك ، كما لا عتب عليهم في كتم أسرار مواجدهم ; لأنهم إلى هذا الأصل يستندون ، ولأجل إخلال بعضهم بهذا الأصل ; إما لحال غالبة ، أو لبناء بعضهم على غير أصل صحيح ، انفتح عليهم باب سوء الظن من كثير من العلماء ، وباب فهم الجهال عنهم ما لم يقصدوه ، وهذا كله محظور .
[ ص: 124 ] المسألة التاسعة

الواجبات لا تستقر واجبات إلا إذا لم يسو بينها وبين غيرها من الأحكام فلا تترك ولا يسامح في تركها ألبتة ، كما أن المحرمات لا تستقر كذلك إلا إذا لم يسو بينها وبين غيرها من الأحكام ; فلا تفعل ولا يسامح في فعلها ، وهذا ظاهر ، ولكنا نسير منه إلى معنى آخر ، وذلك أن من الواجبات ما إذا تركت لم يترتب عليها حكم دنيوي ، وكذلك من المحرمات ما إذا فعلت لم يترتب عليها أيضا حكم في الدنيا ، ولا كلام في مترتبات الآخرة ; لأن ذلك خارج عن تحكمات العباد .

كما أن من الواجبات ما إذا تركت ومن المحرمات ما إذا فعلت ترتب عليهما حكم دنيوي من عقوبة أو غيرها .

فما ترتب عليه حكم يخالف ما لم يترتب عليه حكم ; فمن حقيقة استقرار كل واحد من القسمين أن لا يسوى بينه وبين الآخر ; لأن في تغيير أحكامها تغييرها في أنفسها ; فكل ما يحذر في عدم البيان في الأحكام المتقدمة يحذر هنا لا فرق بين ذلك والأدلة التي تقدمت هنالك يجري مثلها هنا .

ويتبين هذا الموضع أيضا بأن يقال : إذا وضع الشارع حدا في فعل مخالف فأقيم ذلك الحد على المخالف ; كان الحكم الشرعي فيه مقررا مبينا فإذا لم يقم فقد أقر على غير ما أقره الشارع ، وغير إلى الحكم المخالف الذي لا يترتب عليه مثل ذلك الحكم ، ووقع بيانه مخالفا ; فيصير المنتصب [ ص: 125 ] لتقرير الأحكام قد خالف قوله فعله ; فيجري فيه ما تقدم ، فإذا رأى الجاهل ما جرى ; توهم الحكم الشرعي على خلاف ما هو عليه ، فإذا قرر المنتصب الحكم على وجه ثم أوقع على وجه آخر ; حصلت الريبة ، وكذب الفعل القول كما تقدم بيانه ، وكل ذلك فساد ، وبهذا المثال يتبين أن وارث النبي يلزمه إجراء الأحكام على موضوعاتها ; في أنفسها ، وفي لواحقها ، وسوابقها ، وقرائنها ، وسائر ما يتعلق بها شرعا ; حتى يكون دين الله بينا عند الخاص والعام ، وإلا ; كان من الذين قال الله تعالى فيهم : إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى الآية [ البقرة : 159
[ ص: 126 ] المسألة العاشرة

لا يختص هذا البيان المذكور بالأحكام التكليفية ، بل هو لازم أيضا في الأحكام الراجعة إلى خطاب الوضع ; فإن الأسباب والشروط والموانع والعزائم والرخص وسائر الأحكام المعلومة أحكام شرعية ، لازم بيانها قولا وعملا ، فإذا قررت الأسباب قولا وعمل على وفقها إذا انتهضت ; حصل بيانها للناس ، فإن قررت ، ثم لم تعمل مع انتهاضها كذب القول الفعل ، وكذلك الشروط إذا انتهض السبب مع وجودها فأعمل ، أو مع فقدانها فلم يعمل ; وافق القول الفعل ، فإن عكست القضية وقع الخلاف ; فلم ينتهض القول بيانا ، وهكذا الموانع وغيرها .

وقد أعمل النبي صلى الله عليه وسلم مقتضى الرخصة في الإحلال من العمرة والإفطار في السفر ، وأعمل الأسباب ، ورتب الأحكام حتى في نفسه ، حين أقص من نفسه صلى الله عليه وسلم ، وكذلك في غيره ، والشواهد على هذا لا تحصى ، والشريعة كلها داخلة تحت هذه الجملة ، والتنبيه كاف
[ ص: 127 ] المسألة الحادية عشرة

بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم بيان صحيح لا إشكال في صحته ; لأنه لذلك بعث ، قال تعالى : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم [ النحل : 44 ] ولا خلاف فيه .

وأما بيان الصحابة فإن أجمعوا على ما بينوه ; فلا إشكال في صحته أيضا ، [ ص: 128 ] كما أجمعوا على الغسل من التقاء الختانين المبين لقوله تعالى : وإن كنتم جنبا فاطهروا [ المائدة : 6 ] وإن لم يجمعوا عليه ; فهل يكون بيانهم حجة ، أم لا ؟ هذا فيه نظر وتفصيل ، ولكنهم يترجح الاعتماد عليهم في البيان من وجهين : أحدهما : معرفتهم باللسان العربي فإنهم عرب فصحاء ، لم تتغير ألسنتهم ولم تنزل عن رتبتها العليا فصاحتهم ; فهم أعرف في فهم الكتاب والسنة من غيرهم ، فإذا جاء عنهم قول أو عمل واقع موقع البيان ; صح اعتماده من هذه الجهة .

والثاني : مباشرتهم للوقائع والنوازل وتنزيل الوحي بالكتاب والسنة ; فهم أقعد في فهم القرائن الحالية وأعرف بأسباب التنزيل ; ويدركون ما لا يدركه غيرهم بسبب ذلك ، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب .

فمتى جاء عنهم تقييد بعض المطلقات أو تخصيص بعض العمومات فالعمل عليه صواب ، وهذا إن لم ينقل عن أحد منهم خلاف في المسألة ، فإن خالف بعضهم ; فالمسألة اجتهادية [ ص: 129 ] مثاله قوله عليه الصلاة والسلام : لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر فهذا التعجيل يحتمل أن يقصد به إيقاعه قبل الصلاة ، ويحتمل أن لا ; فكان عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان يصليان المغرب قبل أن يفطرا ، ثم يفطران بعد الصلاة بيانا أن هذا التعجيل لا يلزم أن يكون قبل الصلاة ، بل إذا كان بعد الصلاة ; فهو تعجيل أيضا ، وأن التأخير الذي يفعله أهل المشرق شيء [ ص: 130 ] آخر داخل في التعمق المنهي عنه ، وكذلك ذكر عن اليهود أنهم يؤخرون الإفطار ; فندب المسلمون إلى التعجيل .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #148  
قديم 30-06-2022, 06:46 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,744
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الرابع
الحلقة (148)
صـ131 إلى صـ 140



وكذلك لما قال عليه الصلاة والسلام : لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه احتمل أن تكون الرؤية مقيدة بالأكثر وهو أن يرى بعد [ ص: 131 ] غروب الشمس فبين عثمان بن عفان أن ذلك غير لازم فرأى الهلال في خلافته قبل الغروب ، فلم يفطر حتى أمسى وغابت الشمس .

وتأمل ; فعادة مالك بن أنس في موطئه وغيره الإتيان بالآثار عن الصحابة مبينا بها السنن ، وما يعمل به منها وما لا يعمل به ، وما يقيد به مطلقاتها ، وهو دأبه ومذهبه لما تقدم ذكره .

ومما بين كلامهم اللغة أيضا ، كما نقل مالك في دلوك الشمس وغسق الليل كلام ابن عمر وابن عباس ، وفي معنى السعي عن عمر بن الخطاب أعني قوله تعالى : فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع [ الجمعة : 9 ] وفي معنى الإخوة أن السنة مضت أن الإخوة اثنان فصاعدا كما تبين بكلامهم [ ص: 132 ] معاني الكتاب والسنة .

لا يقال : إن هذا المذهب راجع إلى تقليد الصحابي ، وقد عرفت ما فيه من النزاع والخلاف ; لأنا نقول : نعم ، هو تقليد ، ولكنه راجع إلى ما لا يمكن الاجتهاد فيه على وجهه ; إلا لهم لما تقدم من أنهم عرب وفرق بين من هو عربي الأصل والنحلة وبين من تعرب غلب التطبع شيمة المطبوع وأنهم شاهدوا من أسباب التكاليف وقرائن أحوالها ما لم يشاهد من بعدهم ، ونقل قرائن الأحوال على ما هي عليه كالمتعذر ; فلابد من القول بأن فهمهم في الشريعة أتم وأحرى بالتقديم ، فإذا جاء في القرآن أو في السنة من بيانهم ما هو موضوع موضع التفسير ، بحيث لو فرضنا عدمه لم يمكن تنزيل النص عليه على وجهه ; انحتم الحكم بإعمال ذلك البيان لما ذكر ، ولما جاء في [ ص: 133 ] السنة من اتباعهم والجريان على سننهم ، كما جاء في قوله عليه الصلاة والسلام : عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، وتمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وغير ذلك من الأحاديث ; فإنها عاضدة لهذا [ ص: 134 ] المعنى في الجملة أما إذا علم أن الموضع موضع اجتهاد لا يفتقر إلى ذينك الأمرين ; فهم ومن سواهم فيه شرع سواء ; كمسألة العول ، والوضوء من النوم ، وكثير من مسائل الربا التي قال فيها عمر بن الخطاب : مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا آية الربا ; فدعوا الربا والريبة ، أو كما قال ; فمثل هذه المسائل موضع اجتهاد للجميع لا يختص به الصحابة دون غيرهم من المجتهدين ، وفيه خلاف بين العلماء أيضا ; فإن منهم من يجعل قول الصحابي ورأيه حجة يرجع إليها ويعمل عليها من غير نظر ; كالأحاديث والاجتهادات النبوية ، وهو مذكور في كتب الأصول ; فلا يحتاج إلى ذكره هاهنا
[ ص: 135 ] المسألة الثانية عشرة الإجمال إما متعلق بما لا ينبني عليه تكليف ، وإما غير واقع في الشريعة .

وبيان ذلك من أوجه : أحدها : النصوص الدالة على ذلك ; كقوله تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي الآية [ المائدة : 3 ] وقوله : هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين [ آل عمران : 138 ] وقوله وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون [ النحل : 44 ] وقوله تعالى : هدى للمتقين [ البقرة : 2 ] ، هدى ورحمة للمحسنين [ لقمان : 3 ] وإنما كان هدى لأنه مبين ، والمجمل لا يقع به بيان ، وكل ما في هذا المعنى من الآيات .

وفي الحديث : تركتكم على البيضاء : ليلها كنهارها وفيه : تركت فيكم اثنين لن تضلوا ما تمسكتم بهما ; كتاب الله [ ص: 136 ] وسنتي ويصحح هذا المعنى قوله تعالى : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول [ النساء : 59 ] ويدل على أنهما بيان لكل مشكل ، وملجأ من كل معضل .

وفي الحديث : ما تركت شيئا مما أمركم الله به إلا وقد أمرتكم به ولا تركت شيئا مما نهاكم الله عنه إلا وقد نهيتكم عنه .

وهذا المعنى كثير ، فإن كان في القرآن شيء مجمل ; فقد بينته السنة كبيانه للصلوات الخمس في مواقيتها وركوعها وسجودها وسائر أحكامها ، وللزكاة ومقاديرها وأوقاتها وما تخرج منه من الأموال ، وللحج إذ قال : خذوا عني مناسككم وما أشبه ذلك [ ص: 137 ] ثم بين عليه الصلاة والسلام ما وراء ذلك مما لم ينص عليه في القرآن ، والجميع بيان منه عليه الصلاة والسلام .

فإذا ثبت هذا ، فإن وجد في الشريعة مجمل ، أو مبهم المعنى ، أو ما لا يفهم ; فلا يصح أن يكلف بمقتضاه لأنه تكليف بالمحال ، وطلب ما لا ينال ، وإنما يظهر هذا الإجمال في المتشابه الذي قال الله تعالى فيه : وأخر متشابهات [ آل عمران : 7 ] [ ص: 138 ] ولما بين الله تعالى أن في القرآن متشابها ; بين أيضا أنه ليس فيه تكليف إلا الإيمان به على المعنى المراد منه ، لا على ما يفهم المكلف منه ; فقد قال الله تعالى : فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه إلى قوله : كل من عند ربنا [ آل عمران : 7 ] والناس في المتشابه المراد هاهنا على مذهبين : فمن قال : إن الراسخين يعلمونه ; فليس بمتشابه عليهم وإن تشابه على غيرهم ، كسائر المبينات المشتبهة على غير العرب ، أو على غير العلماء من الناس ، ومن قال إنهم لا يعلمونه وإن الوقف على قوله إلا الله [ آل عمران : 7 ] ; فالتكليف بما يراد به مرفوع باتفاق ; فلا يتصور أن يكون ثم مجمل لا يفهم معناه ثم يكلف به ، وهكذا إذا قلنا : إن الراسخين هم المختصون بعلمه دون غيرهم ; فذلك الغير ليسوا بمكلفين بمقتضاه ، ما دام مشتبها عليهم ; حتى يتبين باجتهاد أو تقليد ، وعند ذلك يرتفع تشابهه ; فيصير كسائر المبينات .

فإن قيل : قد أثبت القرآن متشابها في القرآن ، وبينت السنة أن في الشريعة مشتبهات بقوله : الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات وهذه المشتبهات متقاة بأفعال العباد لقوله : فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه [ ص: 139 ] وعرضه ; فهي إذا مجملات وقد انبنى عليها التكليف ، كما أن قوله تعالى وأخر متشابهات [ آل عمران : 7 ] قد انبنى عليها التكليف وذلك قوله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا [ آل عمران : 7 ] فكيف يقال : إن الإجمال والتشابه لا يتعلقان بما ينبني عليه تكليف ؟ فالجواب : إن الحديث في المتشابهات ليس مما نحن بصدده وإنما كلامنا في التشابه الواقع في خطاب الشارع ، وتشابه الحديث في مناط الحكم ، وهو راجع إلى نظر المجتهد حسبما مر في فصل التشابه ، وإن سلم ; فالمراد أن لا يتعلق تكليف بمعناه المراد عند الله تعالى وقد يتعلق به التكليف من حيث هو مجمل ، وذلك بأن يؤمن أنه من عند الله ، وبأن يجتنب فعله إن كان من أفعال العباد ، ولذلك قال : فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ويجتنب النظر فيه إن كان من غير أفعال العباد كقوله : الرحمن على العرش استوى [ طه : 5 ] وفي الحديث : ينزل ربنا إلى سماء الدنيا وأشباه ذلك هذا معنى أنه لا يتعلق به تكليف ، وإلا ; فالتكليف متعلق بكل موجود من حيث يعتقد على ما هو عليه ، أو يتصرف فيه إن صح تصرف العباد فيه ، إلى [ ص: 140 ] غير ذلك من وجوه النظر .

الوجه الثاني : أن المقصود الشرعي من الخطاب الوارد على المكلفين تفهيم ما لهم وما عليهم ، مما هو مصلحة لهم في دنياهم وأخراهم وهذا يستلزم كونه بينا واضحا لا إجمال فيه ولا اشتباه ، ولو كان فيه بحسب هذا القصد اشتباه وإجمال ; لناقض أصل مقصود الخطاب ، فلم تقع فائدة وذلك ممتنع من جهة رعي المصالح ; تفضلا أو انحتاما ، أو عدم رعيها ; إذ لا يعقل خطاب مقصود من غير تفهيم مقصود .

والثالث : أنهم اتفقوا على امتناع تأخير البيان عن وقت الحاجة إلا عند من يجوز تكليف المحال ، وقد مر بيان امتناع تكليف المحال سمعا فبقي الاعتراف بامتناع تأخير البيان عن وقته ، وإذا ثبت ذلك ; فمسألتنا من قبيل هذا المعنى ، لأن خطاب التكليف في وروده مجملا غير مفسر ، إما أن يقصد التكليف به مع عدم بيانه ، أو لا ، فإن لم يقصد ; فذلك ما أردنا ، وإن قصد ; رجع إلى تكليف ما لا يطاق ، وجرت دلائل الأصوليين هنا في المسألة .

وعلى هذين الوجهين أعني : الثاني والثالث إن جاء في القرآن مجمل ; فلابد من خروج معناه عن تعلق التكليف به ، وكذلك ما جاء منه في الحديث النبوي ، وهو المطلوب .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #149  
قديم 30-06-2022, 06:47 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,744
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الرابع
الحلقة (149)
صـ141 إلى صـ 150





[ ص: 141 ] [ ص: 142 ] [ ص: 143 ] الطرف الثاني

في الأدلة على التفصيل

وهي : الكتاب ، والسنة ، والإجماع ، والرأي

ولما كان الكتاب والسنة هما الأصل لما سواهما ; اقتصرنا على النظر فيهما .

وأيضا ; فإن في أثناء الكتاب كثيرا مما يفتقر إليه الناظر في غيرهما ، مع أن الأصوليين تكفلوا بما عداهما كما تكفلوا بهما ; فرأينا السكوت عن الكلام في الإجماع والرأي ، والاقتصار على الكتاب والسنة ، والله المستعان .

فالأول أصلها ، وهو الكتاب ، وفيه مسائل : [ ص: 144 ] المسألة الأولى

إن الكتاب قد تقرر أنه كلية الشريعة وعمدة الملة ، وينبوع الحكمة ، وآية الرسالة ، ونور الأبصار والبصائر ، وأنه لا طريق إلى الله سواه ، ولا نجاة بغيره ، ولا تمسك بشيء يخالفه ، وهذا كله لا يحتاج إلى تقرير واستدلال عليه ; لأنه معلوم من دين الأمة ، وإذا كان كذلك ; لزم ضرورة لمن رام الاطلاع على كليات الشريعة وطمع في إدراك مقاصدها ، واللحاق بأهلها ، أن يتخذه سميره وأنيسه ، وأن يجعله جليسه على مر الأيام والليالي نظرا وعملا ، لا اقتصارا على أحدهما ; فيوشك أن يفوز بالبغية ، وأن يظفر بالطلبة ، ويجد نفسه من السابقين وفي الرعيل الأول ، فإن كان قادرا على ذلك ، ولا يقدر عليه إلا من زوال ما يعينه على ذلك من السنة المبينة للكتاب ، وإلا فكلام الأئمة السابقين ، والسلف المتقدمين آخذ بيده في هذا المقصد الشريف ، والمرتبة المنيفة .

وأيضا ; فمن حيث كان القرآن معجزا أفحم الفصحاء ، وأعجز البلغاء أن يأتوا بمثله ; فذلك لا يخرجه عن كونه عربيا جاريا على أساليب كلام العرب ، ميسرا للفهم فيه عن الله ما أمر به ونهى ، لكن بشرط الدربة في اللسان العربي ، كما تبين في كتاب الاجتهاد ; إذ لو خرج بالإعجاز عن إدراك العقول معانيه ; لكان خطابهم به من تكليف ما لا يطاق ، وذلك مرفوع عن الأمة ، وهذا من جملة الوجوه الإعجازية فيه ; إذ من العجب إيراد كلام من جنس كلام البشر في اللسان والمعاني والأساليب ، مفهوم معقول ، ثم لا يقدر البشر على الإتيان بسورة مثله [ ص: 145 ] ولو اجتمعوا وكان بعضهم لبعض ظهيرا فهم أقدر ما كانوا على معارضة الأمثال أعجز ما كانوا عن معارضته وقد قال الله تعالى : ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر [ القمر : 17 ] وقال : فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا [ مريم : 97 ] وقال : قرآنا عربيا لقوم يعلمون [ فصلت : 3 ] وقال : بلسان عربي مبين [ الشعراء : 195 ] وعلى أي وجه فرض إعجازه ; فذلك غير مانع من الوصول إلى فهمه وتعقل معانيه ، كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب [ ص : 29 ] فهذا يستلزم إمكان الوصول إلى التدبر والتفهم ، وكذلك ما كان مثله ، وهو ظاهر .
[ ص: 146 ] المسألة الثانية

معرفة أسباب التنزيل لازمة لمن أراد علم القرآن ، والدليل على ذلك أمران : أحدهما : أن علم المعاني والبيان الذي يعرف به إعجاز نظم القرآن فضلا عن معرفة مقاصد كلام العرب ; إنما مداره على معرفة مقتضيات الأحوال : حال الخطاب من جهة نفس الخطاب ، أو المخاطب ، أو المخاطب ، أو الجميع ; إذ الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حالين ، وبحسب مخاطبين ، وبحسب غير ذلك ; كالاستفهام ، لفظه واحد ، ويدخله معان أخر من تقرير وتوبيخ وغير ذلك وكالأمر يدخله معنى الإباحة والتهديد والتعجيز وأشباهها ولا يدل على معناها المراد إلا الأمور الخارجة ، وعمدتها مقتضيات الأحوال ، وليس كل حال ينقل ولا كل قرينة تقترن بنفس الكلام المنقول ، وإذا فات نقل بعض القرائن الدالة ; فات فهم الكلام جملة ، أو فهم شيء منه ، ومعرفة الأسباب رافعة لكل مشكل في هذا النمط ; فهي من المهمات في فهم الكتاب بلابد ومعنى معرفة السبب هو معنى معرفة مقتضى الحال ، وينشأ عن هذا الوجه : الوجه الثاني وهو أن الجهل بأسباب التنزيل موقع في الشبه والإشكالات ، ومورد للنصوص الظاهرة مورد الإجمال حتى يقع الاختلاف ، وذلك مظنة وقوع النزاع .

[ ص: 147 ] [ ص: 148 ] ويوضح هذا المعنى ما روى أبو عبيد عن إبراهيم التيمي ; قال : خلا عمر ذات يوم ; فجعل يحدث نفسه : كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد ، وقبلتها واحدة ؟ فأرسل إلى ابن عباس ; فقال : كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد وقبلتها واحدة ؟ فقال ابن عباس : يا أمير المؤمنين ! إنا أنزل علينا القرآن فقرأناه ، وعلمنا فيم نزل ، وإنه سيكون بعدنا أقوام يقرءون القرآن ولا يدرون فيم نزل ، فيكون لهم فيه رأي ، فإذا كان لهم فيه رأي اختلفوا ، فإذا اختلفوا اقتتلوا قال : فزجره عمر وانتهره ; فانصرف ابن عباس ، ونظر عمر فيما قال ; فعرفه فأرسل إليه ; فقال : أعد علي ما قلت فأعاده عليه ; فعرف عمر قوله وأعجبه [ ص: 149 ] وما قاله صحيح في الاعتبار ويتبين بما هو أقرب فقد روى ابن وهب عن بكير ; أنه سأل نافعا : كيف كان رأي ابن عمر في الحرورية ؟ قال : يراهم شرار خلق الله ، إنهم انطلقوا إلى آيات أنزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين .

فهذا معنى الرأي الذي نبه ابن عباس عليه ، وهو الناشئ عن الجهل بالمعنى الذي نزل فيه القرآن .

وروي أن مروان أرسل بوابه إلى ابن عباس وقال : قل له لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا ; لنعذبن أجمعون فقال ابن عباس : ما لكم ولهذه الآية ؟ إنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم يهود فسألهم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره ، فأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم ، وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم ثم قرأ : وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب [ ص: 150 ] إلى قوله : ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا [ آل عمران : 187 188 ] فهذا السبب بين أن المقصود من الآية غير ما ظهر لمروان .

والقنوت يحتمل وجوها من المعنى يحمل عليه قوله : وقوموا لله قانتين [ البقرة : 238 ] فإذا عرف السبب تعين المعنى المراد وروي أن عمر استعمل قدامة بن مظعون على البحرين ; فقدم الجارود على عمر ، فقال : إن قدامة شرب فسكر فقال عمر : من يشهد على ما تقول ؟ قال الجارود : أبو هريرة يشهد على ما أقول وذكر الحديث ; فقال عمر : يا قدامة ! إني جالدك قال : والله لو شربت كما يقولون ما كان لك أن تجلدني قال عمر : ولم ؟ قال : لأن الله يقول : ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح [ المائدة : 93 ] إلخ : فقال عمر : إنك أخطأت التأويل يا قدامة ، إذا اتقيت الله اجتنبت ما حرم الله .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #150  
قديم 30-06-2022, 06:48 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,744
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله



الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الرابع
الحلقة (150)
صـ151 إلى صـ 160



وفي رواية : فقال لم تجلدني ؟ بيني وبينك كتاب الله فقال عمر وأي كتاب الله تجد أن لا أجلدك قال : إن الله يقول في كتابه : ليس على الذين آمنوا [ المائدة : 93 ] إلى آخر الآية فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا شهدت مع رسول الله بدرا وأحدا والخندق والمشاهد فقال عمر : ألا تردون عليه قوله ؟ فقال ابن عباس : إن [ ص: 151 ] هؤلاء الآيات أنزلن عذرا للماضين ، وحجة على الباقين ، فعذر الماضين بأنهم لقوا الله قبل أن تحرم عليهم الخمر وحجة على الباقين لأن الله يقول يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر [ المائدة : 90 ] ثم قرأ إلى آخر الآية الأخرى فإن كان من الذين آمنوا ، وعملوا الصالحات ، ثم اتقوا وآمنوا ، ثم اتقوا وأحسنوا ; فإن الله قد نهى أن يشرب الخمر قال عمر : صدقت الحديث وحكى إسماعيل القاضي ; قال : شرب نفر من أهل الشام الخمر ، وعليهم يزيد بن أبي سفيان ، فقالوا : هي لنا حلال ، وتأولوا هذه الآية ليس على الذين آمنوا [ المائدة : 93 ] الآية قال : فكتب فيهم إلى عمر ، قال : فكتب عمر إليه : أن ابعث بهم إلي قبل أن يفسدوا من قبلك فلما أن قدموا على عمر استشار فيهم الناس ; فقالوا : يا أمير المؤمنين ! نرى أنهم قد كذبوا على الله ، وشرعوا في دينه ما لم يأذن به إلى آخر الحديث .

ففي الحديثين بيان أن الغفلة عن أسباب التنزيل تؤدي إلى الخروج عن المقصود بالآيات .

[ ص: 152 ] وجاء رجل إلى ابن مسعود ; فقال : تركت في المسجد رجلا يفسر القرآن برأيه ، يفسر هذه الآية يوم تأتي السماء بدخان مبين [ الدخان : 10 ] قال يأتي الناس يوم القيامة دخان ، فيأخذ بأنفسهم حتى يأخذهم كهيئة الزكام فقال ابن مسعود : من علم علما فليقل به ، ومن لم يعلم فليقل : الله أعلم ; فإن من فقه الرجل أن يقول لما لا علم له به : الله أعلم ، إنما كان هذا لأن قريشا استعصوا على النبي صلى الله عليه وسلم ، دعا عليهم بسنين كسني يوسف ; فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام ، فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد ; فأنزل الله فارتقب يوم تأتي السماء بدخان الآية [ الدخان : 10 ] إلى آخر القصة .
وهكذا شأن أسباب النزول في التعريف بمعاني المنزل ، بحيث لو فقد ذكر السبب ; لم يعرف من المنزل معناه على الخصوص ، دون تطرق الاحتمالات وتوجه الإشكالات ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : خذوا القرآن من أربعة ، منهم عبد الله بن مسعود ، وقد قال في خطبة خطبها : والله ; لقد [ ص: 153 ] علم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أني من أعلمهم بكتاب الله وقال في حديث آخر : والذي لا إله غيره ; ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت ، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم أنزلت ؟ ولو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لركبت إليه وهذا يشير إلى أن علم الأسباب من العلوم التي يكون العالم بها عالما بالقرآن .

وعن الحسن ; أنه قال : ما أنزل الله آية ; إلا وهو يحب أن يعلم فيم أنزلت ؟ وما أراد بها ؟ وهو نص في الموضع مشير إلى التحريض على تعلم علم الأسباب .

وعن ابن سيرين ; قال : سألت عبيدة عن شيء من القرآن ; فقال اتق الله ، وعليك بالسداد ; فقد ذهب الذين يعلمون فيم أنزل القرآن وعلى الجملة ; فهو ظاهر بالمزاولة لعلم التفسير .
[ ص: 154 ] فصل

ومن ذلك معرفة عادات العرب في أقوالها وأفعالها ومجاري أحوالها حالة التنزيل ، وإن لم يكن ثم سبب خاص لابد لمن أراد الخوض في علم القرآن منه ، وإلا وقع في الشبه والإشكالات التي يتعذر الخروج منها إلا بهذه المعرفة ويكفيك من ذلك ما تقدم بيانه في النوع الثاني من كتاب المقاصد ; فإن فيه ما يثلج الصدر ويورث اليقين في هذا المقام ، ولابد من ذكر أمثلة تعين على فهم المراد وإن كان مفهوما : أحدها قول الله تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله [ البقرة : 196 ] فإنما أمر بالإتمام دون الأمر بأصل الحج لأنهم كانوا قبل الإسلام آخذين به ، لكن على تغيير بعض الشعائر ، ونقص جملة منها ; كالوقوف بعرفة وأشباه ذلك مما غيروا ، فجاء الأمر بالإتمام لذلك ، وإنما جاء إيجاب الحج نصا في قوله تعالى : ولله على الناس حج البيت [ آل عمران : 97 ] وإذا عرف هذا تبين هل في الآية دليل على إيجاب الحج أو إيجاب العمرة ، أم لا ؟ والثاني : قوله تعالى : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [ البقرة : 286 ] نقل عن أبي يوسف أن ذلك في الشرك لأنهم كانوا حديثي عهد بكفر [ ص: 155 ] فيريد أحدهم التوحيد فيهم فيخطئ بالكفر ; فعفا لهم عن ذلك كما عفا لهم عن النطق بالكفر عند الإكراه ، قال فهذا على الشرك ، ليس على الأيمان في الطلاق والعتاق والبيع والشراء ، لم تكن الأيمان بالطلاق والعتاق في زمانهم والثالث : قوله تعالى يخافون ربهم من فوقهم [ النحل : 50 ] أأمنتم من في السماء [ تبارك : 16 ] وأشباه ذلك ، إنما جرى على معتادهم في اتخاذ الآلهة في الأرض ، وإن كانوا مقرين بإلهية الواحد الحق ; فجاءت الآيات بتعيين الفوق وتخصيصه تنبيها على نفي ما ادعوه في الأرض ; فلا يكون فيه دليل على إثبات جهة ألبتة ، ولذلك قال تعالى : فخر عليهم السقف من فوقهم [ النحل : 26 ] فتأمله واجر على هذا المجرى في سائر الآيات والأحاديث .

والرابع : قوله تعالى : وأنه هو رب الشعرى [ النجم : 49 ] فعين هذا الكوكب لكون العرب عبدته ، وهم خزاعة ابتدع ذلك لهم أبو كبشة ، ولم تعبد العرب من الكواكب غيرها ; فلذلك عينت
فصل

وقد يشارك القرآن في هذا المعنى السنة ; إذ كثير من الأحاديث وقعت على أسباب ، ولا يحصل فهمها إلا بمعرفة ذلك ، ومنه أنه نهى عليه الصلاة [ ص: 156 ] والسلام عن ادخار لحوم الأضاحي بعد ثلاث ، فلما كان بعد ذلك ; قيل لقد كان الناس ينتفعون بضحاياهم ، ويحملون منها الودك ، ويتخذون منها الأسقية فقال : وما ذاك ؟ قالوا : نهيت عن لحوم الضحايا بعد ثلاث فقال عليه الصلاة والسلام : إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت عليكم ; فكلوا ، وتصدقوا ، وادخروا ومنه حديث التهديد بإحراق البيوت لمن تخلف عن صلاة الجماعة ; فإن حديث ابن مسعود يبين أنه مختص بأهل النفاق ، بقوله : ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق وحديث : الأعمال بالنيات واقع عن سبب ، وهو أنهم لما أمروا [ ص: 157 ] بالهجرة هاجر ناس للأمر وكان فيهم رجل هاجر بسبب امرأة أراد نكاحها تسمى أم قيس ، ولم يقصد مجرد الهجرة للأمر ; فكان بعد ذلك يسمى : مهاجر أم قيس وهو كثير .
[ ص: 158 ] المسألة الثالثة

كل حكاية وقعت في القرآن ; فلا يخلو أن يقع قبلها أو بعدها وهو الأكثر رد لها أو لا ، فإن وقع رد فلا إشكال في بطلان ذلك المحكي وكذبه ، وإن لم يقع معها رد فذلك دليل صحة المحكي وصدقه .

أما الأول ; فظاهر ، ولا يحتاج إلى برهان ، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى : إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء [ الأنعام : 91 ] فأعقب بقوله : قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى الآية [ الأنعام : 91 ] وقال : وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا الآية [ الأنعام : 136 ] فوقع التنكيت على افتراء ما زعموا بقوله : بزعمهم [ الأنعام : 138 ] وبقوله ساء ما يحكمون [ الأنعام : 136 ] ثم قال : وقالوا هذه أنعام وحرث حجر [ الأنعام : 138 ] إلى تمامه ورد بقوله : سيجزيهم بما كانوا يفترون [ الأنعام : 138 ] ثم قال : وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة الآية [ الأنعام : 139 ] [ ص: 159 ] فنبه على فساده بقوله : سيجزيهم وصفهم [ الأنعام : 139 ] زيادة على ذلك .

وقال تعالى : وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون [ الفرقان : 4 ] فرد عليهم بقوله : فقد جاءوا ظلما وزورا [ الفرقان : 4 ] ثم قال : وقالوا أساطير الأولين الآية [ الفرقان : 5 ] فرد بقوله : قل أنزله الذي يعلم السر الآية [ الفرقان : 6 ] ثم قال : وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا [ الفرقان : 8 ] ثم قال تعالى : انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا [ الفرقان : 9 ] وقال تعالى : وقال الكافرون هذا ساحر كذاب أجعل الآلهة إلها واحدا إلى قوله : أؤنزل عليه الذكر من بيننا [ ص : 4 8 ] ثم رد عليهم بقوله : بل هم في شك من ذكري [ ص : 8 ] إلى آخر ما هنالك .

وقال وقالوا اتخذ الله ولدا [ البقرة : 116 ، وغيرها ] ثم رد عليهم بأوجه كثيرة ثبتت في أثناء القرآن ; كقوله : بل عباد مكرمون [ الأنبياء : 26 ] وقوله : بل له ما في السماوات والأرض [ البقرة : 116 ] وقوله : سبحانه هو الغني الآية [ يونس : 68 ] [ ص: 160 ] وقوله : تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض [ مريم : 90 ] إلى آخره ، وأشباه ذلك .

ومن قرأ القرآن وأحضره في ذهنه عرف هذا بيسر .

وأما الثاني ; فظاهر أيضا ، ولكن الدليل على صحته من نفس الحكاية وإقرارها ، فإن القرآن سمي فرقانا ، وهدى ، وبرهانا ، وبيانا ، وتبيانا لكل شيء ، وهو حجة الله على الخلق على الجملة والتفصيل والإطلاق والعموم ، وهذا المعنى يأبى أن يحكى فيه ما ليس بحق ثم لا ينبه عليه .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 200.65 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 194.80 كيلو بايت... تم توفير 5.85 كيلو بايت...بمعدل (2.91%)]