فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام - الصفحة 14 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 13207 - عددالزوار : 349963 )           »          كتاب قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 7 - عددالزوار : 1553 )           »          الشرح الممتع للشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-(سؤال وجواب) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 19 - عددالزوار : 4551 )           »          العودة إلى المدارس.. نصائح وتوجيهات للآباء والأمهات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 144 )           »          الدعاة وفقه إدارة العاطفة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 245 )           »          الدعاة بين التكتيكي والإستراتيجي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 259 )           »          كان من أبرز تلاميذ الشيخ عبدالعزيز ابن باز -رحمه الله- الشيخ عمر بن سعود العيد في ذمة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 112 )           »          السنن الإلهية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 11 - عددالزوار : 2583 )           »          انفعالات المراهق- عندما ننظر للمراهق على أنه إنسان.. عندها فقط نعرف ما يريد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 6 - عددالزوار : 1346 )           »          وقفات مع دعاء الاستفتاح...مقدمة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 210 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #131  
قديم 10-06-2022, 08:43 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,367
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الرابع
الحلقة (131)

من صــ 221 الى صـ
ـ 228




و " أيضا " فالقاعدون إذا كانوا من غير أولي الضرر والجهاد ليس بفرض عين فقد حصلت الكفاية بغيرهم؛ فإنه لا حرج عليهم في القعود؛ بل هم موعودون بالحسنى كأولي الضرر وهذا مثل قوله: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل} الآية فالوعد بالحسنى شامل لأولي الضرر وغيرهم. فإن قيل: قد قال في الأولى في فضلهم درجة ثم قال في فضلهم {درجات منه ومغفرة ورحمة} كما قال: {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين} {الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون} {يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم}.

فقوله: {أعظم درجة} كما قال في السابقين {أعظم درجة} وهذا نصب على التمييز: أي درجتهم أعظم درجة وهذا يقتضي تفضيلا مجملا يقال: منزلة هذا أعظم وأكبر كذلك قوله: {وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما} الآيات؛ ليس المراد به أنهم لم يفضلوا عليهم إلا بدرجة فإن في الحديث الصحيح الذي يرويه أبو سعيد وأبو هريرة: {إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض} الحديث وفي حديث أبي سعيد: {من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا وجبت له الجنة فعجب لها أبو سعيد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرى يرفع الله بها العبد مائة درجة في الجنة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض فقال: وما هي يا رسول الله؟ قال الجهاد في سبيل الله} فهذا الحديث الصحيح بين أن المجاهد يفضل على القاعد الموعود بالحسنى من غير أولي الضرر مائة درجة وهو يبطل قول من يقول: إن الوعد بالحسنى والتفضيل بالدرجة مختص بأولي الضرر فهذا القول مخالف للكتاب والسنة.
وقد يقال: إن (درجة منصوب على التمييز كما قال أعظم درجة أي فضل درجتهم على درجتهم أفضل كما يقال: فضل هذا على هذا منزلا ومقاما وقد يراد (بالدرجة جنس الدرج وهي المنزلة والمستقر لا يراد به درجة واحدة من العدد وقوله: {وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما} {درجات} منصوب (بفضل لأن التفضيل زيادة للمفضل فالتقدير زادهم عليهم أجرا عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة فهذا النزاع في العازم الجازم إذا فعل مقدوره هل يكون كالفاعل في الأجر والوزر أم لا؟ وأما في استحقاق الأجر والوزر فلا نزاع في ذلك وقوله: {إذا التقى المسلمان بسيفيهما} فيه حرص كل واحد منهما على قتل صاحبه وفعل مقدوره فكلاهما مستحق للنار ويبقى الكلام في تساوي القعودين بشيء آخر.

وهكذا حال المقتتلين من المسلمين في الفتن الواقعة بينهم فلا تكون عاقبتهما إلا عاقبة سوء الغالب والمغلوب فإنه لم يحصل له دنيا ولا آخرة كما قال الشعبي: أصابتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء ولا فجرة أشقياء وأما الغالب فإنه يحصل له حظ عاجل ثم ينتقم منه في الآخرة وقد يعجل الله له الانتقام في الدنيا كما جرى لعامة الغالبين في الفتن فإنهم أصيبوا في الدنيا كالغالبين في الحرة وفتنة أبي مسلم الخراساني ونحو ذلك.

وأما من قال: إنه لا يؤاخذ بالعزم القلبي فاحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم {إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها} وهذا ليس فيه أنه عاف لهم عن العزم بل فيه أنه عفا عن حديث النفس إلى أن يتكلم أو يعمل فدل على أنه ما لم يتكلم أو يعمل لا يؤاخذ؛ ولكن ظن من ظن أن ذلك عزما وليس كذلك؛ بل ما لم يتكلم أو يعمل لا يكون عزما؛ فإن العزم لا بد أن يقترن به المقدور وإن لم يعمل العازم إلى المقصود فالذي يعزم على القتل أو الزنا أو نحوه عزما جازما لا بد أن يتحرك ولو برأسه أو يمشي أو يأخذ آلة أو يتكلم كلمة أو يقول أو يفعل شيئا فهذا كله ما يؤاخذ به كزنا العين واللسان والرجل فإن هذا يؤاخذ به وهو من مقدمات الزنا التام بالفرج وإنما وقع العفو عما ما لم يبرز خارجا بقول أو فعل ولم يقترن به أمر ظاهر قط فهذا يعفى عنه لمن قام بما يجب على القلب من فعل المأمور به سواء كان المأمور به في القلب وموجبه في الجسد أو كان المأمور به ظاهرا في الجسد وفي القلب معرفته وقصده فهؤلاء إذا حدثوا أنفسهم بشيء كان عفوا مثل هم ثابت بلا فعل ومثل الوسواس الذي يكرهونه وهم يثابون على كراهته وعلى ترك ما هموا به وعزموا عليه لله تعالى وخوفا منه.
(آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير (285)
وقال الشيخ - رحمه الله تعالى -:
اعلم أن الله سبحانه وتعالى أعطى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وبارك خواتيم (سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يؤت منه نبي قبله ومن تدبر هذه الآيات وفهم ما تضمنته من حقائق الدين وقواعد الإيمان الخمس والرد على كل مبطل وما تضمنته من كمال نعم الله تعالى على هذا النبي صلى الله عليه وسلم وأمته ومحبة الله سبحانه لهم وتفضيله إياهم على من سواهم فليهنه العلم ولو ذهبنا نستوعب الكلام فيها لخرجنا عن مقصود الكتاب ولكن لا بد من كليمات يسيرة تشير إلى بعض ذلك فنقول: لما كانت (سورة البقرة) سنام القرآن وأكثر سوره أحكاما وأجمعها لقواعد الدين: أصوله وفروعه وهي مشتملة على ذكر " أقسام الخلق ": المؤمنين والكفار والمنافقين وذكر أوصافهم وأعمالهم. وذكر الأدلة الدالة على إثبات الخالق - سبحانه وتعالى - وعلى وحدانيته وذكر نعمه وإثبات نبوة رسوله صلى الله عليه وسلم،وتقرير المعاد وذكر الجنة والنار وما فيهما من النعيم والعذاب. ثم ذكر تخليق العالم العلوي والسفلي. ثم ذكر خلق آدم عليه السلام وإنعامه عليه بالتعليم وإسجاد ملائكته له وإدخاله الجنة ثم ذكر محنته مع إبليس وذكر حسن عاقبة آدم عليه السلام. ثم ذكر " المناظرة " مع أهل الكتاب من اليهود وتوبيخهم على كفرهم وعنادهم ثم ذكر النصارى والرد عليهم وتقرير عبودية المسيح ثم تقرير النسخ والحكمة في وقوعه.
ثم بناء البيت الحرام وتقرير تعظيمه وذكر بانيه والثناء عليه ثم تقرير الحنيفية ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام وتسفيه من رغب عنها ووصية بنيه بها وهكذا شيئا فشيئا إلى آخر السورة فختمها الله تعالى بآيات جوامع مقررة لجميع مضمون السورة فقال تعالى: {لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير}. فأخبر تعالى: أن ما في السموات وما في الأرض ملكه وحده لا يشاركه فيه مشارك وهذا يتضمن انفراده بالملك الحق والملك العام لكل موجود وذلك يتضمن توحيد ربوبيته وتوحيد إلهيته فتضمن نفي الولد والصاحبة والشريك؛ لأن ما في السموات وما في الأرض إذا كان ملكه وخلقه لم يكن له فيهم ولد ولا صاحبة ولا شريك.
وقد استدل سبحانه بعين هذا الدليل في سورة الأنعام وسورة مريم فقال تعالى: {بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء} وقال تعالى في سورة مريم: {وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا} {إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا} ويتضمن ذلك أن الرغبة والسؤال والطلب والافتقار لا يكون إلا إليه وحده؛ إذ هو المالك لما في السموات والأرض.
ولما كان تصرفه سبحانه في خلقه لا يخرج عن العدل والإحسان وهو تصرف بخلقه وأمره وأخبر أن ما في السموات وما في الأرض ملكه فما تصرف خلقا وأمرا إلا في ملكه الحقيقي وكانت سورة البقرة مشتملة من الأمر والخلق على ما لم يشتمل عليه سورة غيرها - أخبر تعالى أن ذلك صدر منه في ملكه قال تعالى: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} فهذا متضمن لكمال علمه سبحانه وتعالى بسرائر عباده وظواهرهم وأنه لا يخرج شيء من ذلك عن علمه كما لم يخرج شيء ممن في السموات والأرض عن ملكه فعلمه عام وملكه عام. ثم أخبر تعالى عن محاسبته لهم بذلك وهي تعريفهم ما أبدوه أو أخفوه فتضمن ذلك علمه بهم وتعريفهم إياه ثم قال: {فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} فتضمن ذلك قيامه عليهم بالعدل والفضل فيغفر لمن يشاء فضلا ويعذب من يشاء عدلا وذلك يتضمن الثواب والعقاب المستلزم للأمر والنهي المستلزم للرسالة والنبوة.
ثم قال تعالى:
{والله على كل شيء قدير} فتضمن ذلك أنه لا يخرج شيء عن قدرته ألبتة وأن كل مقدور واقع بقدره ففي ذلك رد على المجوس الثنوية والفلاسفة والقدرية المجوسية وعلى كل من أخرج شيئا من المقدورات عن خلقه وقدرته - وهم طوائف كثيرون. فتضمنت الآية إثبات التوحيد وإثبات العلم بالجزئيات والكليات وإثبات الشرائع والنبوات وإثبات المعاد والثواب والعقاب وقيام الرب على خلقه بالعدل والفضل وإثبات كمال القدرة وعمومها وذلك يتضمن حدوث العالم بأسره؛ لأن القديم لا يكون مقدورا ولا مفعولا.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #132  
قديم 10-06-2022, 08:51 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,367
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الرابع
الحلقة (132)

من صــ 229 الى صـ
ـ 236




ثم إن إثبات كمال علمه وقدرته يستلزم إثبات سائر صفاته العلى وله من كل صفة اسم حسن فيتضمن إثبات أسمائه الحسنى وكمال القدرة يستلزم أن يكون فعالا لما يريد وذلك يتضمن تنزيهه عن كل ما يضاد كماله فيتضمن تنزيهه عن الظلم المنافي لكمال غناه وكمال علمه؛ إذ الظلم إنما يصدر عن محتاج أو جاهل وأما الغني عن كل شيء العالم بكل شيء سبحانه فإنه يستحيل منه الظلم كما يستحيل عليه العجز المنافي لكمال قدرته والجهل المنافي لكمال علمه.
فتضمنت الآية هذه المعارف كلها بأوجز عبارة وأفصح لفظ وأوضح معنى. وقد عرفت بهذا أن الآية لا تقتضي العقاب على خواطر النفوس المجردة؛ بل إنما تقتضي محاسبة الرب عبده بها وهي أعم من العقاب والأعم لا يستلزم الأخص وبعد محاسبته بها يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وعلى هذا فالآية محكمة لا نسخ فيها ومن قال من السلف: نسخها ما بعدها فمراده بيان معناها والمراد منها وذلك يسمى نسخا في لسان السلف كما يسمون الاستثناء نسخا.
ثم قال تعالى: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله} فهذه شهادة الله تعالى لرسوله عليه الصلاة والسلام بإيمانه بما أنزل إليه من ربه وذلك يتضمن إعطاءه ثواب أكمل أهل الإيمان - زيادة على ثواب الرسالة والنبوة - لأنه شارك المؤمنين في الإيمان ونال منه أعلى مراتبه وامتاز عنهم بالرسالة والنبوة وقوله: {أنزل إليه من ربه} يتضمن أنه كلامه الذي تكلم به ومنه نزل لا من غيره كما قال تعالى: {قل نزله روح القدس من ربك} وقال: {تنزيل من رب العالمين}.
وهذا أحد ما احتج به أهل السنة على المعتزلة القائلين بأن الله لم يتكلم بالقرآن قالوا: فلو كان كلاما لغير الله لكان منزلا من ذلك المحل لا من الله؛ فإن القرآن صفة لا تقوم بنفسها؛ بخلاف قوله: {وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه} فإن تلك أعيان قائمة بنفسها فهي منه خلقا وأما " الكلام " فوصف قائم بالمتكلم فلما كان منه فهو كلامه؛ إذ يستحيل أن يكون منه ولم يتكلم به. ثم شهد تعالى للمؤمنين بأنهم آمنوا بما آمن به رسولهم ثم شهد لهم جميعا بأنهم آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله فتضمنت هذه الشهادة إيمانهم بقواعد الإيمان الخمسة التي لا يكون أحد مؤمنا إلا بها وهي: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
وقد ذكر تعالى هذه الأصول الخمسة في أول السورة ووسطها وآخرها فقال في أولها: {والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون} فالإيمان بما أنزل إليه وما أنزل من قبله يتضمن الإيمان بالكتب والرسل والملائكة ثم قال: {وبالآخرة هم يوقنون} والإيمان بالله يدخل في الإيمان بالغيب وفي الإيمان بالكتب والرسل فتضمنت الإيمان بالقواعد الخمس. وقال في وسطها: {ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين} ثم حكى عن أهل الإيمان أنهم قالوا: {لا نفرق بين أحد من رسله} فنؤمن ببعض ونكفر ببعض فلا ينفعنا إيماننا بمن آمنا به منهم كما لم ينفع أهل الكتاب ذلك؛ بل نؤمن بجميعهم ونصدقهم ولا نفرق بينهم وقد جمعتهم رسالة ربهم فنفرق بين من جمع الله بينهم ونعادي رسله ونكون معادين له.

فباينوا بهذا الإيمان جميع طوائف الكفار المكذبين لجنس الرسل. والمصدقين لبعضهم المكذبين لبعضهم. وتضمن إيمانهم بالله إيمانهم بربوبيته وصفات كماله ونعوت جلاله وأسمائه الحسنى وعموم قدرته ومشيئته وكمال علمه وحكمته فباينوا بذلك جميع طوائف أهل البدع والمنكرين لذلك أو لشيء منه؛ فإن كمال الإيمان بالله يتضمن إثبات ما أثبته لنفسه وتنزيهه عما نزه نفسه عنه فباينوا بهذين الأمرين جميع طوائف الكفر وفرق أهل الضلال الملحدين في أسماء الله وصفاته.

ثم قالوا: {سمعنا وأطعنا} فهذا إقرار منهم بركني الإيمان الذي لا يقوم إلا بهما وهما السمع المتضمن للقبول؛ لا مجرد سمع الإدراك المشترك بين المؤمنين والكفار؛ بل سمع الفهم والقبول و " الثاني " الطاعة المتضمنة لكمال الانقياد وامتثال الأمر وهذا عكس قول الأمة الغضبية سمعنا وعصينا. فتضمنت هذه الكلمات كمال إيمانهم وكمال قبولهم وكمال انقيادهم ثم قالوا: {غفرانك ربنا وإليك المصير} لما علموا أنهم لم يوفوا مقام الإيمان حقه مع الطاعة والانقياد الذي يقتضيه منهم وأنهم لا بد أن تميل بهم غلبات الطباع ودواعي البشرية إلى بعض التقصير في واجبات الإيمان وأنه لا يلم شعث ذلك إلا مغفرة الله تعالى لهم سألوه غفرانه الذي هو غاية سعادتهم ونهاية كمالهم؛ فإن غاية كل مؤمن المغفرة من الله تعالى فقالوا: {غفرانك ربنا} ثم اعترفوا أن مصيرهم ومردهم إلى مولاهم الحق لا بد لهم من الرجوع إليه فقالوا: {وإليك المصير}.
فتضمنت هذه الكلمات إيمانهم به ودخولهم تحت طاعته وعبوديته واعترافهم بربوبيته واضطرارهم إلى مغفرته واعترافهم بالتقصير في حقه وإقرارهم برجوعهم إليه. ثم قال تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} فنفى بذلك ما توهموه من أنه يعذبهم بالخطرات التي لا يملكون دفعها وأنها داخلة تحت تكليفه فأخبرهم أنه لا يكلفهم إلا وسعهم فهذا هو البيان الذي قال فيه ابن عباس وغيره فنسخها الله عنهم بقوله: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} وقد تضمن ذلك أن جميع ما كلفهم به أمرا ونهيا فهم مطيقون له قادرون عليه وأنه لم يكلفهم ما لا يطيقون وفي ذلك رد صريح على من زعم خلاف ذلك.
والله تعالى أمرهم بعبادته وضمن أرزاقهم فكلفهم من الأعمال ما يسعونه وأعطاهم من الرزق ما يسعهم فتكليفهم يسعونه وأرزاقهم تسعهم فهم في الوسع في رزقه وأمره: وسعوا أمره ووسعهم رزقه ففرق بين ما يسع العبد وما يسعه العبد وهذا هو اللائق برحمته وبره وإحسانه وحكمته وغناه؛ لا قول من يقول إنه كلفهم ما لا قدرة لهم عليه ألبتة ولا يطيقونه ثم يعذبهم على ما لا يعملونه. وتأمل قوله عز وجل: {إلا وسعها} كيف تجد تحته أنهم في سعة ومنحة من تكاليفه؛ لا في ضيق وحرج ومشقة؛ فإن الوسع يقتضي ذلك فاقتضت الآية أن ما كلفهم به مقدور لهم من غير عسر لهم ولا ضيق ولا حرج؛ بخلاف ما يقدر عليه الشخص فإنه قد يكون مقدورا له ولكن فيه ضيق وحرج عليه وأما وسعه الذي هو منه في سعة فهو دون مدى الطاقة والمجهود؛ بل لنفسه فيه مجال ومتسع وذلك مناف للضيق والحرج {وما جعل عليكم في الدين من حرج} بل {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} قال سفيان بن عيينة في قوله: {إلا وسعها} إلا يسرها لا عسرها ولم يكلفها طاقتها ولو كلفها طاقتها لبلغ المجهود.

فهذا فهم أئمة الإسلام وأين هذا من قول من قال إنه كلفهم ما لا يطيقونه ألبتة ولا قدرة لهم عليه؟ ثم أخبر تعالى أن ثمرة هذا التكليف وغايته عائدة عليهم وأنه تعالى يتعالى عن انتفاعه بكسبهم وتضرره باكتسابهم؛ بل لهم كسبهم ونفعه. وعليهم اكتسابهم وضرره فلم يأمرهم بما أمرهم به حاجة منه إليهم؛ بل رحمة وإحسانا وتكرما ولم ينههم عما نهاهم عنه بخلا منه عليهم بل حمية وحفظا وصيانة وعافية. وفيه أيضا أن نفسا لا تعذب باكتساب غيرها ولا تثاب بكسبه ففيه معنى قوله: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} {ولا تزر وازرة وزر أخرى}.

وفيه أيضا إثبات كسب النفس المنافي للجبر.
وفيه أيضا اجتماع الحكمة فيه فإما كسب خيرا أو اكتسب شرا لم يبطل اكتسابه كسبه كما يقوله أهل الإحباط والتخليد؛ فإنهم يقولون: إن عليه ما اكتسب وليس له ما كسب فالآية رد على جميع هذه الطوائف فتأمل كيف أتى فيما لها بالكسب الحاصل ولو لأدنى ملابسة وفيما عليها بالاكتساب الدال على الاهتمام والحرص والعمل؛ فإن اكتسب أبلغ من كسب ففي ذلك تنبيه على غلبة الفضل للعدل والرحمة للغضب. ثم لما كان ما كلفهم به عهودا منه ووصايا وأوامر تجب مراعاتها والمحافظة عليها وأن لا يخل بشيء منها؛ ولكن غلبة الطباع البشرية تأبى إلا النسيان والخطأ والضعف والتقصير أرشدهم الله تعالى إلى أن يسألوه مسامحته إياهم في ذلك كله ورفع موجبه عنهم بقولهم: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا} أي لا تكلفنا من الآصار التي يثقل حملها ما كلفته من قبلنا؛ فإنا أضعف أجسادا وأقل احتمالا. ثم لما علموا أنهم غير منفكين مما يقضيه ويقدره عليهم كما أنهم غير منفكين مما يأمرهم به وينهاهم عنه سألوه التخفيف في قضائه وقدره كما سألوه التخفيف في أمره ونهيه فقالوا: {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} فهذا في القضاء والقدر والمصائب وقولهم {ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا} في الأمر والنهي والتكليف فسألوه التخفيف في النوعين.

ثم سألوه العفو والمغفرة والرحمة والنصر على الأعداء؛ فإن بهذه الأربعة تتم لهم النعمة المطلقة ولا يصفو عيش في الدنيا والآخرة إلا بها وعليها مدار السعادة والفلاح فالعفو متضمن لإسقاط حقه قبلهم ومسامحتهم به والمغفرة متضمنة لوقايتهم شر ذنوبهم وإقباله عليهم ورضاه عنهم؛ بخلاف العفو المجرد؛ فإن العافي قد يعفو ولا يقبل على من عفا عنه ولا يرضى عنه فالعفو ترك محض والمغفرة إحسان وفضل وجود والرحمة متضمنة للأمرين مع زيادة الإحسان والعطف والبر فالثلاثة تتضمن النجاة من الشر والفوز بالخير والنصرة تتضمن التمكين من إعلان عبادته وإظهار دينه وإعلاء كلمته وقهر أعدائه وشفاء صدورهم منهم وإذهاب غيظ قلوبهم وحزازات نفوسهم وتوسلوا في خلال هذا الدعاء إليه باعترافهم أنه مولاهم الحق الذي لا مولى لهم سواه فهو ناصرهم وهاديهم وكافيهم ومعينهم ومجيب دعواتهم ومعبودهم.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #133  
قديم 10-06-2022, 09:03 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,367
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الرابع
الحلقة (133)

من صــ 237 الى صـ
ـ 244




فلما تحققت قلوبهم بهذه المعارف وانقادت وذلت لعزة ربها ومولاها وأجابتها جوارحهم أعطوا كلما سألوه من ذلك فلم يسألوا شيئا منه إلا قال الله تعالى: قد فعلت كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. فهذه كلمات قصيرة مختصرة في معرفة مقدار هذه الآيات العظيمة الشأن الجليلة المقدار التي خص الله بها رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته من كنز تحت العرش. وبعد ففيها من المعارف وحقائق العلوم ما تعجز عقول البشر عن الإحاطة به والله المرغوب إليه أن لا يحرمنا الفهم في كتابه إنه رحيم ودود. والحمد لله وحده وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده وآله وصحبه أجمعين.
(لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ... (286)
(هل الأفعال الاختيارية من العباد تحصل بخلق الله تعالى وبخلق العبد؟)
سئل شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:

ما قول أهل الإسلام الراسخين في جذر الكلام الباسقين في فن الأحكام حياكم العلام في صدور دار السلام؛ وحباكم القيام بتوضيح ما استبهم على الأفهام في معتقد أهل السنة والجماعة. نضر الله أرواح السلف وكثر أعداد الخلف وأمدهم بأنواع اللطف. بأن الأفعال الاختيارية من العباد تحصل بخلق الله تعالى وبخلق العبد فحقيقة كسب العبد ما هي؟ وبعد هذا هل هو مؤثر في وجود الفعل؟ أم غير مؤثر؟. فإن كان فيصير العبد مشاركا للخالق في خلق الفعل فلا يكون العبد كاسبا؛ بل شريكا خالقا - وأهل السنة بررة برآء من هذا القول - وإن لم يكن مؤثرا في وجود الفعل فقد وجد الفعل بكماله بالحق سبحانه وتعالى وليس للعبد في ذلك شيء فلزم الجبر الذي يطوي بساط الشرع وأهل السنة الغراء والمحجة البيضاء فارون من هذه الكلمة الشنعاء والعقيدة العوراء. ولم ينسب إلى العبد الطاعة والعصيان والكفر والإيمان حتى يستحق الغضب والرضوان.
فكيف السلوك أيها الهداة الأدلاء على اللحب المستقيم والمنهج القويم؟ وطرفي قصد الأمور ذميم. فبينوا بيانا يطلق العقول من هذا العقال ويشفي القلوب من هذا الداء العضال. أيدكم بروح القدس من له صفات الكمال فأجاب الشيخ الإمام العالم الرباني، المقذوف في قلبه النور الإلهي الجامع أشتات الفضائل، مفتي المسلمين تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية - رحمه الله تعالى -
قال: رضي الله عنه تلخيص الجواب: أن الكسب هو الفعل الذي يعود على فاعله بنفع أو ضر كما قال تعالى: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} فبين سبحانه أن كسب النفس لها أو عليها والناس يقولون: فلان كسب مالا أو حمدا أو شرفا كما أنه ينتفع بذلك ولما كان العباد يكملون بأفعالهم ويصلحون بها إذ كانوا في أول الخلق خلقوا ناقصين صح إثبات السبب إذ كمالهم وصلاحهم عن أفعالهم والله سبحانه وتعالى فعله وصنعه عن كماله وجلاله فأفعاله عن أسمائه وصفاته ومشتقة منها كما قال سبحانه وتعالى: {أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها من اسمي} والعبد أسماؤه وصفاته عن أفعاله فيحدث له اسم العالم والكامل بعد حدوث العلم والكمال فيه. ومن هنا ضلت " القدرية " حيث شبهوا أفعاله - سبحانه وتعالى - عما يقولون علوا كبيرا - بأفعال العباد وكانوا هم المشبهة في الأفعال فاعتقدوا أن ما حسن منهم حسن منه مطلقا وما قبح منهم قبح منه مطلقا بقدر علمهم وعقلهم أو ما علموا أنها إنما حسنت منهم لإفضائها إلى ما فيه صلاحهم وفلاحهم؛ وقبحت لإفضائها إلى ما فيه فسادهم والله سبحانه متعال عن أن يلحقه ما لا يليق به سبحانه.

وأما قوله: هل هو مؤثر في وجود الفعل أو غير مؤثر؟ فالكلام في مقامين:
(أحدهما) أن هذا سؤال فاسد إن أخذ على ظاهره؛ لأن كسب العبد هو نفس فعله وصنعه فكيف يقال: هل يؤثر كسبه في فعله أو هل يكون الشيء مؤثرا في نفسه؟ وإن حسب حاسب أن الكسب هو التعاطي والمباشرة وقصد الشيء ومحاولته فهذه كلها أفعال يقال فيها ما يقال في أفعال البدن من قيام وقعود.

وأظن السائل فهم هذا وتشبث بقول من يقول: إن فعل العبد يحصل بخلق الله عز وجل وكسب العبد. وتحقيق الكلام أن يقال: فعل العبد خلق لله - عز وجل - وكسب للعبد؛ إلا أن يراد أن أفعال بدنه تحصل بكسبه: أي بقصده وتأخيه. وكأنه قال: أفعاله الظاهرة تحصل بأفعاله الباطنة؛ وغير مستنكر عدم تجديد هذا السؤال فإنه مزلة أقدام ومضلة أفهام. وحسن المسألة نصف العلم. إذا كان السائل قد تصور السؤال. وإنما يطلب إثبات الشيء أو نفيه ولو حصل التصور التام لعلم أحد الطرفين.
والمقام الثاني: في تحرير السؤال وجوابه - وهو أن يقال هل قدرة العبد المخلوقة مؤثرة في وجود فعله فإن كانت مؤثرة لزم الشرك؛ وإلا لزم الجبر والمقام مقام معروف؛ وقف فيه خلق من الفاحصين والباحثين والبصراء والمكاشفين وعامتهم فهموا صحيحا. ولكن قل منهم من عبر فصيحا. فنقول: التأثير اسم مشترك قد يراد بالتأثير الانفراد بالابتداع والتوحيد بالاختراع فإن أريد بتأثير قدرة العبد هذه القدرة فحاشا لله لم يقله سني وإنما هو المعزو إلى أهل الضلال. وإن أريد بالتأثير نوع معاونة إما في صفة من صفات الفعل. أو في وجه من وجوهه كما قاله كثير من متكلمي أهل الإثبات.

فهو أيضا باطل بما به بطل التأثير في ذات الفعل؛ إذ لا فرق بين إضافة الانفراد بالتأثير إلى غير الله سبحانه في ذرة أو فيل. وهل هو إلا شرك دون شرك وإن كان قائل هذه المقالة ما نحا إلا نحو الحق. وإن أريد بالتأثير أن خروج الفعل من العدم إلى الوجود كان بتوسط القدرة المحدثة. بمعنى أن القدرة المخلوقة هي سبب وواسطة في خلق الله - سبحانه وتعالى - الفعل بهذه القدرة. كما خلق النبات بالماء وكما خلق الغيث بالسحاب.

وكما خلق جميع المسببات والمخلوقات بوسائط وأسباب فهذا حق وهذا شأن جميع الأسباب والمسببات. وليس إضافة التأثير بهذا التفسير إلى قدرة العبد شركا وإلا فيكون إثبات جميع الأسباب شركا. وقد قال الحكيم الخبير: {فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات}. {فأنبتنا به حدائق ذات بهجة} وقال تعالى: {قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم}.
فبين أنه المعذب، وأن أيدينا أسباب وآلات وأوساط وأدوات في وصول العذاب إليهم وقال صلى الله عليه وسلم {لا يموتن أحد منكم إلا آذنتموني حتى أصلي عليه فإن الله جاعل بصلاتي عليه بركة ورحمة}. فالله سبحانه هو الذي يجعل الرحمة وذلك إنما يجعله بصلاة نبينا صلى الله عليه وسلم وعلى هذا التحرير فنقول: خلق الله سبحانه أعمال الأبدان بأعمال القلوب ويكون لأحد الكسبين تأثير في الكسب الآخر بهذا الاعتبار ويكون ذلك الكسب من جملة القدرة المعتبرة في الكسب الثاني؛ فإن القدرة هنا ليست إلا عبارة عما يكون الفعل به لا محالة: من قصد وإرادة وسلامة الأعضاء والقوى المخلوقة في الجوارح وغير ذلك ولهذا وجب أن تكون مقارنة للفعل وامتنع تقديمها على الفعل بالزمان.
وأما القدرة التي هي مناط الأمر والنهي فذاك حديث آخر ليس هذا موضعه.
وبالتمييز بين هاتين القدرتين يظهر لك قول من قال: القدرة مع الفعل ومن قال: قبله، ومن قال: الأفعال كلها تكليف ما لا يطاق، ومن منع ذلك؛ وتقف على أسرار المقالات وإذا أشكل عليك هذا البيان فخذ مثلا من نفسك: أنت إذا كتبت بالقلم وضربت بالعصا ونجرت بالقدوم هل يكون القلم شريكك أو يضاف إليه شيء من نفس الفعل وصفاته؟ أم هل يصلح أن تلغي أثره وتقطع خبره، وتجعل وجوده كعدمه؟ أم يقال: به فعل وبه صنع - ولله المثل الأعلى - فإن الأسباب بيد العبد ليست من فعله وهو محتاج إليها لا يتمكن إلا بها والله سبحانه خلق الأسباب ومسبباتها وجعل خلق البعض شرطا وسببا في خلق غيره وهو مع ذلك غني عن الاشتراط والتسبب ونظم بعضها ببعض لكن لحكمة تتعلق بالأسباب وتعود إليها والله عزيز حكيم.
وأما قوله: إذا نفينا التأثير لزم انفراد الله سبحانه بالفعل. ولزم الجبر، وطي بساط الشرع الأمر والنهي.
فنقول: إن أردت بالتأثير المنفي التأثير على سبيل الانفراد في نفس الفعل أو في شيء من صفاته فلقد قلت الحق وإن كان بعض أهل الاستنان يخالفك في القسم الثاني.
وإن أردت به أن القدرة وجودها كعدمها وأن الفعل لم يكن بها ولم يصنع بها فهذا باطل كما تقدم بيانه وحينئذ لا يلزم الجبر بل ينبسط بساط الشرع وينشر علم الأمر والنهي ويكون لله الحجة البالغة. فقد بان لك أن إطلاق القول بإثبات التأثير أو نفيه دون الاستفصال، وبيان معنى التأثير ركوب جهالات واعتقاد ضلالات ولقد صدق القائل: أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء وبأن لك ارتباط الفعل المخلوق بالقدرة المخلوقة. ارتباط الأسباب بمسبباتها ويدخل في عموم ذلك جميع ما خلقه الله تعالى في السموات والأرض والدنيا والآخرة فإن اعتقاد تأثير الأسباب على الاستقلال دخول في الضلال، واعتقاد نفي أثرها وإلغاؤه ركوب المحال وإن كان لقدرة الإنسان شأن ليس لغيرها كما سنومئ إليه إن شاء الله تعالى. فلعلك أن تقول بعد هذا البيان: أنا لا أفهم الأسباب ولا أخرج عن دائرة التقسيم والمطالبة بأحد القسمين وما أنت إن قلت هذا:

إلا مسبوق بخلق من الضلال: {كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم} وموقفك هذا مفرق طرق إما إلى الجنة وإما إلى النار فيعاد عليك البيان بأن لها تأثيرا من حيث هي سبب كتأثير القلم وليس لها تأثير من حيث الابتداع والاختراع ونضرب لك الأمثال لعلك تفهم صورة الحال ويبين لك أن إثبات الأسباب مبتدعات هو الإشراك وإثباتها أسبابا موصولات هو عين تحقيق التوحيد عسى الله أن يقذف بقلبك نورا ترى هذا البيان {ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور}.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #134  
قديم 10-06-2022, 09:12 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,367
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الرابع
الحلقة (134)

من صــ 245 الى صـ
ـ 252



فإن قلت: إثبات القدرة سبب نفي للتأثير في الحقيقة فما بال الفعل يضاف إلى العبد؟ وما باله يؤمر وينهى؟ ويثاب ويعاقب وهل هذا إلا محض الجبر؟ وإذا كنت مشبها لقدرة الإنسان بقلم الكاتب وعصا الضارب فهل رأيت القلم يثاب أو العصا تعاقب؟ وأقول لك الآن إن شاء الله وجب هداك بمعونة مولاك وإن لم تطلع من أسرار القدر إلا على مثل ضرب الأثر وألق السمع وأنت شهيد عسى الله أن يمدك بالتأييد.
اعلم أن العبد فاعل على الحقيقة وله مشيئة ثابتة وله إرادة جازمة وقوة صالحة وقد نطق القرآن بإثبات مشيئة العباد في غير ما آية كقوله:
{لمن شاء منكم أن يستقيم} {وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين} {فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا} {فمن شاء ذكره} {وما يذكرون إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة} ونطق بإثبات فعله في عامة آيات القرآن: {يعملون} {يفعلون} {يؤمنون} {يكفرون} {يتفكرون} {يحافظون} {يتقون}. وكما أنا فارقنا مجوس الأمة بإثبات أنه تعالى خالق فارقنا الجبرية بإثبات أن العبد كاسب فاعل صانع عامل والجبر المعقول الذي أنكره سلف الأمة وعلماء السنة هو أن يكون الفعل صادرا على الشيء من غير إرادة ولا مشيئة ولا اختيار مثل حركة الأشجار بهبوب الرياح وحركة. . . (1) بإطباق الأيدي ومثله في الأناسي حركة المحموم والمفلوج والمرتعش فإن كل عاقل يجد تفرقة بديهية بين قيام الإنسان وقعوده وصلاته وجهاده وزناه وسرقته وبين ارتعاش المفلوج وانتفاض المحموم ونعلم أن الأول قادر على الفعل مريد له مختار وأن الثاني غير قادر عليه ولا مريد له ولا مختار.
والمحكي عن جهم وشيعته " الجبرية " أنهم زعموا: أن جميع أفاعيل العباد قسم واحد وهو قول ظاهر الفساد وبما بين القسمين من الفرقان انقسمت الأفعال: إلى اختياري واضطراري واختص المختار منها بإثبات الأمر والنهي عليه ولم يجئ في الشرائع ولا في كلام حكيم أمر الأعمى بنقط المصحف والمقعد بالاشتداد أو المحموم بالسكون وشبه ذلك وإن اختلفوا في تجويزه عقلا أو سمعا فإنما منع وقوعه بإجماع العقلاء أولى العقل من جميع الأصناف.
فإن قيل: هب أن فعلي الذي أردته واخترته هو واقع بمشيئتي وإرادتي أليست تلك الإرادة وتلك المشيئة من خلق الله تعالى؟ وإذا خلق الأمر الموجب للفعل. فهل يتأتى ترك الفعل معه؟ أقصى ما في الباب أن الأول جبر بغير توسط الإرادة من العبد وهذا جبر بتوسط الإرادة.
فنقول: الجبر المنفي هو الأول كما فسرناه وأما إثبات القسم الثاني فلا ريب فيه عند أهل الاستنان والآثار وأولي الألباب والأبصار لكن لا يطلق عليه اسم الجبر خشية الالتباس بالقسم الأول وفرارا من تبادر الأفهام إليه وربما سمي جبرا إذا أمن من اللبس وعلم القصد قال علي رضي الله عنه في الدعاء المشهور عنه في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم اللهم داحي المدحوات وباري المسموكات جبار القلوب على فطراتها شقاها أو سعدها.
فبين أنه سبحانه جبر القلوب على ما فطرها عليه: من شقاوة أو سعادة وهذه الفطرة الثانية ليست الفطرة الأولى وبكلا الفطرتين فسر قوله صلى الله عليه وسلم {كل مولود يولد على الفطرة} وتفسيره بالأولى واضح قاله محمد بن كعب القرظي - وهو من أفاضل تابعي أهل المدينة وأعيانهم وربما فضل على أكثرهم - في قوله {الجبار} قال جبر العباد على ما أراد وروي ذلك عن غيره وشهادة القرآن والأحاديث ورؤية أهل البصائر والاستدلال التام لتقليب الله سبحانه وتعالى قلوب العباد وتصريفه إياها وإلهامه فجورها وتقواها وتنزيل القضاء النافذ من عند العزيز الحكيم في أدنى من لمح البصر على قلوب العالمين حتى تتحرك الجوارح بما قضي لها وعليها بين غاية البيان إلا لمن أعمى الله بصره وقلبه.
فإن قلت: أنا أسألك على هذا التقدير بعد خروجي عن تقدير الجبر الذي نفوه وأبطلوه وثباتي على ما قالوه وبينوه كيف انبنى الثواب والعقاب على فعله وصح تسميته فاعلا على حقيقته وانبنى فعله على قدرته؟.

فأقول: - والله الهادي إلى سواء الصراط - اعلم أن الله تعالى خلق فعل العبد سببا مقتضيا لآثار محمودة أو مذمومة والعمل الصالح مثل صلاة أقبل عليها بقلبه ووجهه وأخلص فيها وراقب وفقه ما بنيت عليه من الكلمات الطيبات والأعمال الصالحات يعقبه في عاجل الأمر نور في قلبه وانشراح في صدره وطمأنينة في نفسه ومزيد في علمه وتثبيت في يقينه وقوة في عقله إلى غير ذلك من قوة بدنه وبهاء وجهه وانتهائه عن الفحشاء والمنكر وإلقاء المحبة له في قلوب الخلق ودفع البلاء عنه وغير ذلك مما يعلمه ولا نعلمه. ثم هذه الآثار التي حصلت له من النور والعلم واليقين وغير ذلك أسباب مفضية إلى آثار أخر من جنسها ومن غير جنسها أرفع منها وهلم جرا.

ولهذا قيل: إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها وإن من عقوبة السيئة السيئة بعدها وكذلك العمل السيئ مثل الكذب - مثلا - يعاقب صاحبه في الحال بظلمة في القلب وقسوة وضيق في صدره ونفاق واضطراب ونسيان ما تعلمه وانسداد باب علم كان يطلبه ونقص في يقينه وعقله واسوداد وجهه وبغضه في قلوب الخلق واجترائه على ذنب آخر من جنسه أو غير جنسه وهلم جرا. إلا أن يتداركه الله برحمته.
فهذه الآثار هي التي تورثها الأعمال هي الثواب والعقاب وإفضاء العمل إليها واقتضاؤه إياها كإفضاء جميع الأسباب التي جعلها الله - سبحانه وتعالى - أسبابا إلى مسبباتها والإنسان إذا أكل أو شرب حصل له الري والشبع وقد ربط الله سبحانه وتعالى الري والشبع بالشرب والأكل ربطا محكما ولو شاء أن لا يشبعه ويرويه مع وجود الأكل والشرب فعل إما أن لا يجعل في الطعام قوة أو يجعل في المحل قوة مانعة أو بما يشاء سبحانه وتعالى ولو شاء أن يشبعه ويرويه بلا أكل ولا شرب أو بأكل شيء غير معتاد فعل. كذلك في الأعمال: المثوبات والعقوبات حذو القذة بالقذة فإنه إنما سمي الثواب ثوابا؛ لأنه يثوب إلى العامل من عمله:
أي يرجع والعقاب عقابا لأنه يعقب العمل: أي يكون بعده ولو شاء الله أن لا يثيبه على ذلك العمل إما بأن لا يجعل في العمل خاصة تفضي إلى الثواب أو لوجود أسباب تنفي ذلك الثواب أو غير ذلك لفعل - سبحانه وتعالى - وكذلك في العقوبات. وبيان ذلك أن نفس الأكل والشرب باختيار العبد ومشيئته. التي هي من فعل الله سبحانه وتعالى أيضا وحصول الشبع عقب الأكل ليس للعبد فيه صنع ألبتة حتى لو أراد دفع الشبع بعد تعاطي الأسباب الموجبة له لم يطق وكذلك نفس العمل هو بإرادته واختياره فلو شاء أن يدفع أثر ذلك العمل وثوابه بعد وجود موجبه لم يقدر.
فهذه حكمة الله تعالى ومشيئته في جميع الأسباب في الدنيا والآخرة لكن العلم بالأعمال النافعة في الدار الآخرة والأعمال الضارة أكثره غيب عن عقول الخلق وكذلك مصير العباد ومنقلبهم بعد فراق هذه الدار. فبعث الله سبحانه وتعالى رسله وأنزل كتبه مبشرين ومنذرين؛ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وحكمته في ذلك تضارع حكمته في جميع خلق الأسباب والمسببات. وما ذاك إلا أن علمه الأزلي ومشيئته النافذة وقدرته القاهرة اقتضت ما اقتضته وأوجبت ما أوجبته من مصير أقوام إلى الجنة بأعمال موجبة لذلك منهم. وخلق أعمالهم وساقهم بتلك الأعمال إلى رضوانه وكذلك أهل النار كما قال: الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم لما قيل: له {ألا ندع العمل ونتكل على الكتاب؟ فقال: لا اعملوا فكل ميسر لما خلق له. أما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة وأما من كان من أهل الشقاوة فييسر لعمل أهل الشقاوة}. فبين صلى الله عليه وسلم أن السعيد قد ييسر للعمل الذي يسوقه الله تعالى به إلى السعادة وكذلك الشقي.

وتيسيره له هو نفس إلهامه ذلك العمل وتهيئة أسبابه وهذا هو تفسير خلق أفعال العباد فنفس خلق ذلك العمل هو السبب المفضي إلى السعادة أو الشقاوة. ولو شاء لفعله بلا عمل بل هو فاعله فإنه ينشئ للجنة خلقا لما يبقى فيها من الفضل. يبقى أن يقال: فالحكمة الكلية التي اقتضت ما اقتضته من الأسباب الأول وحقائق ما الأمر صائر إليه في العواقب والتخصيصات والتمييزات الواقعة في الأشخاص والأعيان إلى غير ذلك من كليات القدر التي لا تختص بمسألة خلق أفعال العباد. وليس هذا الاستفتاء معقودا لها وتفسير جمل ذلك لا يليق بهذا الموضع. فضلا عن بعض تفصيله. ويكفي العاقل أن يعلم أن الله عز وجل عليم حكيم رحيم بهرت الألباب حكمته ووسعت كل شيء رحمته.

وأحاط بكل شيء علمه وأحصاه لوحه وقلمه وأن لله تعالى في قدره سرا مصونا وعلما مخزونا احترز به دون جميع خلقه واستأثر به على جميع بريته؛ وإنما يصل به أهل العلم وأرباب ولايته إلى جمل من ذلك وقد لا يؤذن لهم في ذكر ما وربما كلم الناس في ذلك على قدر عقولهم وقد سأل موسى وعيسى وعزير ربنا - تبارك وتعالى - عن شيء من سر القدر وأنه لو شاء أن يطاع لأطيع وأنه مع ذلك يعصى فأخبرهم - سبحانه وتعالى - أن هذا سره. وفي هذا المقام تاهت عقول كثير من الخلائق وفيه ضل القائلون بقدم العالم، وأن صانعه موجب بذاته ومقتضي بنفسه اقتضاء العلة للمعلول وأنه ليس في الإمكان أبدع مما صنع ودب بعض هذا الداء إلى بعض أهل الكتاب وأتباع الرسل فقد قرروا انحصار الممكن في الموجود وكل ذلك طلبا للاستراحة من مؤمنة تعليل الأفعال الإلهية ووجود الأسباب الحادثة للأمور الحادثة وعلله أهل القدر بعللهم العائلة في التعديل والتجويز ووجوب رعاية الصالح أو الأصلح؛ ولم يستقم لواحد من الفريقين أصلهم ولم يطرد لهم.
ومن هنا ذهب أهل التثنية والتمجس إلى الأصلين والقول بقدم النور والظلمة وسلم بعض السلامة - وإن كان فيه نوع من ظن السوء بالله وضرب من الجفاء - أكثر متكلمي أهل الإثبات حيث ردوا الأمر إلى محض المشيئة وصرف الإرادة وأن إنشاءها جميع الجائزات واقتضاءها كل الممكنات على نحو واحد ووتيرة واحدة وأنها بذاتها تخصص وتميز.

ولو خلط بهذا الكلام ضرب من وجوه الرحمة وأنواع الحكمة - علمناها أو جهلناها - لكان أقرب إلى القبول. وبكل حال فلام التعليل في فعله - سبحانه وتعالى - ليست على ما يعقله أكثر الخلق من لام التعليل في أفعالهم ووراء ما يعلمه هؤلاء ويقولون: مما أنار الله - سبحانه وتعالى - به قلوب أوليائه وقذف في أفئدة أصفيائه ممن استمسك فيما يظهر من الكلام بسبيل أهل الآثار، واعتصم فيما يبطن عن الأفهام بحبل أهل الأبصار.

__________
Q (1) بياض في الأصل


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #135  
قديم 10-06-2022, 09:46 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,367
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الرابع
الحلقة (135)

من صــ 253 الى صـ
ـ 262




وفي هذا المقام تعرف أولوا الألباب سر قوله: {سبقت رحمتي غضبي} وقوله: {الشر ليس إليك} وقوله: {بيدك الخير} وقوله: {من شر ما خلق} وقوله: {وإذا مرضت فهو يشفين}. {وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا}؟ وما شاكل ذلك من أن الشر إما أن يحذف فاعله أو يضاف إلى الأسباب أو يندرج في العموم وأما إفراده بالذكر مضافا إلى خالق كل شيء فلا يقتضيه كلام حكيم لما توجبه الحقيقة المقتضية للأدب المؤسس لا لمحض. . . (1) متميز. وهنا يعرف سبب دخول خلق كثير الجنة بلا عمل وإنشاء خلق لها.
وأما النار فلا تدخل إلا بعمل ولن يدخلها إلا أهل الدنيا ويعرف حقيقة: {وما أصابك من سيئة فمن نفسك} {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} مع أن السيئة من القدر، وقول الصديق وغيره من الصحابة: إن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان إلى غير ذلك مما فيه ما قد لحظ كل ناظر منه شعبة من الحق وتعلق بسبب من الصواب وما يتبع وجوه الحق ويؤمن بالكتاب كله إلا أولو الألباب وقليل ما هم فهذه إشارة يسيرة إلى كلي التقدير.
وأما كون قدرة العبد وكسبه له شأن من بين سائر الأسباب. فإن الله - عز وجل - خص الإنسان بأن علمه يورثه في الدنيا أخلاقا وأحوالا وآثارا. وفي الآخرة أيضا أمورا أخر لم يحصل هذا لغيره من مخلوقاته والوجوه التي خص بها الإنسان في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله شخصا ونوعا أكثر من أن تحصى وما من عاقل إلا وعنده منها طرف ولهذا حسن توجيه الأمر والنهي إليه. وصح إضافة الفعل إليه حقيقة وكسبا مع أنه خلق الله تعالى فإن الله تعالى خلق العبد وعمله وجعل هذا العمل له عملا قام به وصدر عنه وحدث بقدرته الحادثة. وأدنى أحوال " الفعل " أن يكون بمنزلة الصفات والأخلاق المخلوقة في العبد إذا جعلت مفضية إلى أمور أخر فهل يصح تجريد العبد عنها؟ كلا ولم؟.
وأما " الأمر " فإنه في حق المطيعين من الأسباب التي بها يكون الفعل منهم؛ فإنه يبعث داعيتهم ثم إنه يوجب لهم الطاعة ومحض الانقياد والاستسلام فهو من جملة القدر السابق لهم إلى السعادة وفي حق العاصين هو السبب الذي يستحقون به العصيان إذ لولا هو لما تميز مطيع من عاص. و " أيضا " في حقهم من القدر السابق لهم إلى المعصية؛ ليضل به كثيرا ويهدي به كثيرا عن إدخال الأمر والنهي في جملة المقادير. . . (2) يحل عقدة كثيرة هذا. . . (3) سبحانه وتعالى لعلمه بالعواقب.
وأما أمر العباد فظاهر العدم. . . (4) من المعاصي في علمهم وأن قصدهم نفس صدور الفعل من الجميع فهو. . . (5) في ظاهر الأمر الشرعي على لسان المرسلين بالكتب المنزلة والله كله. . . (6) مظهر أمر وحكم يمضيه فالإرادة والأمر كل منهما منقسم. . . (7) عام الوقوع جامع للقسمين وإلى شرع وربما بعد وربما وقف. . . (8) القدر له والخير كل الخير في نفوذه وهو خاص الوقوع بفرق إلى القسمين واضع الأشياء في مراتبها.

وإذا صح نسبة الطاعة والمعصية إلى من خلقت فيه ولو أنه يخلق الصفات. أفيحسن بالإنسان أن يقول: أسود وأحمر وطويل وقصير وذكي وبليد وعربي وعجمي فيضيف إليه جميع الصفات التي ليس للإنسان فيها إرادة أصلا ألبتة لقيامها به، وتأثيرها فيه تارة بما يلائمه وتارة بما ينافره ثم يستبعد أن يضاف إليه ما خلق فيه من الفعل بواسطة قصده وإرادته المخلوقين أيضا؟ ثم يقول: ليس للعبد في السيئ شيء فهل الجميع إلا له؟ بل ليست لأحد غيره؛ لكن الله سبحانه وتعالى خلقها له وإضافة الفعل إلى خالقه ومبدعه لا تنافي إضافته إلى صاحبه ومحله الذي هو فاعله وكاسبه وقد بينا الجبر المذموم ما هو.

ونختم الكلام بكلام وجيز في سبب الفرق بين الخلق والكسب.
فنقول: الخلق يجمع معنيين: أحدهما: الإبداع والبرء، والثاني: التقدير والتصوير.
فإذا قيل: خلق فلا بد أن يكون أبدع إبداعا مقدرا ولما كان - سبحانه وتعالى - أبدع جميع الأشياء من العدم وجعل لكل شيء قدرا صح إضافة الخلق إليه بالقول المطلق. والتقدير في المخلوق لازم إذ هو عبارة عن تحديده والإحاطة به وهذا لازم لجميع الكائنات لا كما زعم من حسب أن الخلق في. . . (10) ذوات المساحة وهي الأجسام مفرقا بين الخلق والأمر بذلك فإنه قول باطل مبتدع والأمر هو كلامه كما فسره الأولون والخلق مفسر. . . (11) يجعل الخلق بإزاء إبداع الصور الذهنية وتقديرها ومنه تسمية. . . (12) اختلافا إذ هو صور ذهنية ليس لها حقيقة خارجة عن الذهن و. . . (13) جعل الخلق بمعنى التقدير فقط مقطوعا عنه النظر إلى الإبداع بما قال. . . (14) سدى ما خلقت وكما قال علي في تمثال صنعه: أنا خلقته والفرق. . . (15) الأولى من حيث إن تلك الصورة مبتدعة لكان قولا. . . (16) يكون إلا الله سبحانه وتعالى صح وصفه سبحانه بأنه خالق كل شيء.
وأما الكسب فقد ذكرنا أنه إنما ينظر فيه إلى تأثيره في محله ولو لم يكن له عليه قدرة حتى يقال: الثوب قد اكتسب من ريح المسك، والمسجد قد اكتسب الحرمة من أفعال العابدين والجلد قد اكتسب الحرمة لمجاورة المصحف والثمرة قد اكتسبت لونا وريحا وطعما فكل محل تأثر عن شيء مؤثرا وملائما ومنافرا صح وصفه بالاكتساب بناء على تأثره وتغيره وتحوله من حال إلى حال والإنسان يتأثر عن الأفعال الاختيارية ولا يتأثر عن الأفعال الاضطرارية فتورثه أخلاقا وأحوالا على أي حال كان حتى على رأي من يطلق اسم الجبر على مجموع أفعاله فإنه يستيقن تأثير الأفعال الاختيارية في نفسه بخلاف الاضطرارية اللهم إلا من حيث قد توجب الأفعال الاضطرارية أمرا في نفسه فيكون ذلك اختيارا.
ثم اعلم أن الاضطرار إنما يكون في بدنه دون قلبه إما بفعل الله تعالى كالأمراض والأسقام وإما بفعل العباد كالقيد والحبس وأما أفعال روحه المنفوخة فيه؛ إذا حركت يديه فهي كلها اختيارية ومن وجه قد بيناه كلها اضطرارية فاضطرارها هو عين. . . (17) واختيارها إنما هو بالاضطرار وحقيقة الاضطرار هو أن اضطرار. . . (18) وربما أحبت من وجه وكرهت من وجه آخر وهذا كله لا يمنع ورود التكليف واقتضاء الثواب والعقاب. هذا الذي تيسر كتابته في الحال: {والله يقول الحق وهو يهدي السبيل} والحمد لله وحده.

(ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين (286)
وقال - رحمه الله -:
فصل:

في الدعاء المذكور في آخر (سورة البقرة) وهو قوله: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} إلى آخرها.
قد ثبت في صحيح مسلم: {أنه قال قد فعلت} وكذلك في صحيحه من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {أعطيت فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم تقرأ بحرف منها إلا أعطيته} وفي صحيحه أيضا عن ابن مسعود قال: {لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهي به إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السابعة إليها ينتهي ما يعرج من الأرض فيقبض منها وإليها ينتهي ما يهبط من فوقها فيقبض منها قال: {إذ يغشى السدرة ما يغشى} قال: فراش من ذهب قال: فأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا أعطي الصلوات الخمس وأعطي خواتيم سورة البقرة وغفر لمن مات من أمته لا يشرك بالله شيئا المقحمات}.
قال بعض الناس إذا كان هذا الدعاء قد أجيب فطلب ما فيه من باب تحصيل الحاصل وهذا لا فائدة فيه فيكون هذا الدعاء عبادة محضة ليس المقصود به السؤال وهذا القول قد قاله طائفة في جميع الدعاء أنه إن كان المطلوب مقدرا فلا حاجة إلى سؤاله وطلبه وإن كان غير مقدر لم ينفع الدعاء - دعوت أو لم تدع - فجعلوا الدعاء تعبدا محضا كما قال ذلك طائفة أخرى في التوكل. وقد بسطنا الكلام على هؤلاء في غير هذا الموضع وذكرنا قول من جعل ذلك أمارة أو علامة بناء على أنه ليس في الوجود سبب يفعل به؛ بل يقترن أحد الحادثين بالآخر قاله طائفة من القدرية النظار وأول من عرف عنه ذلك الجهم بن صفوان ومن وافقه وذكرنا أن " القول الثالث " هو الصواب وهو أن الدعاء والتوكل والعمل الصالح سبب في حصول المدعو به من خير الدنيا والآخرة والمعاصي سبب وأن الحكم المعلق بالسبب قد يحتاج إلى وجود الشرط وانتفاء الموانع فإذا حصل ذلك حصل المسبب بلا ريب. والمقصود هنا الكلام في الدعاء الذي قد علم أنه أجيب فقال بعض الناس: هذا تعبد محض لحصول المطلوب بدون دعائنا فلا يبقى سببا ولا علامة وهذا ضعيف.

أما أولا فإن العمل الذي لا مصلحة للعبد فيه لا يأمر الله به وهذا بناء على قول السلف: إن الله لم يخلق ولم يأمر إلا لحكمة كما لم يخلق ولم يأمر إلا لسبب. والذين ينكرون الأسباب والحكم يقولون بل يأمر بما لا منفعة فيه للعباد ألبتة وإن أطاعوه وفعلوا ما أمرهم به كما بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع. والمقصود أن كل ما أمر الله به أمر به لحكمة وما نهى عنه نهى لحكمة وهذا مذهب أئمة الفقهاء قاطبة وسلف الأمة وأئمتها وعامتها فالتعبد المحض بحيث لا يكون فيه حكمة لم يقع.

نعم قد تكون الحكمة في المأمور به وقد تكون في الأمر وقد تكون في كليهما فمن المأمور به ما لو فعله العبد بدون الأمر حصل له منفعة: كالعدل والإحسان إلى الخلق وصلة الرحم وغير ذلك. فهذا إذ أمر به صار فيه " حكمتان " حكمة في نفسه وحكمة في الأمر فيبقى له حسن من جهة نفسه ومن جهة أمر الشارع وهذا هو الغالب على الشريعة وما أمر الشرع به بعد أن لم يكن إنما كانت حكمته لما أمر به. وكذلك ما نسخ زالت حكمته وصارت في بدله كالقبلة.
وإذا قدر أن الفعل ليست فيه حكمة أصلا فهل يصير بنفس الأمر فيه حكمة الطاعة؟ وهذا جائز عند من يقول بالتعبد المحض وإن لم يقل بجواز الأمر لكل شيء؛ لكن يجعل من باب الابتلاء والامتحان فإذا فعل صار العبد به مطيعا كنهيهم عن الشرب إلا من اغترف غرفة بيده. والتحقيق أن الأمر الذي هو ابتلاء وامتحان يحض عليه من غير منفعة في الفعل متى اعتقده العبد وعزم على الامتثال حصل المقصود وإن لم يفعله كإبراهيم لما أمر بذبح ابنه وكحديث أقرع وأبرص وأعمى لما طلب منهم إعطاء ابن السبيل فامتنع الأبرص والأقرع فسلبا النعمة وأما الأعمى فبذل المطلوب فقيل له أمسك مالك فإنما ابتليتم فقد رضي عنك وسخط على صاحبيك وهذا هو الحكمة الناشئة من نفس الأمر والنهي لا من نفس الفعل فقد يؤمر العبد وينهى وتكون الحكمة طاعته للأمر وانقياده له وبذله للمطلوب كما كان المطلوب من إبراهيم تقديم حب الله على حبه لابنه حتى تتم خلته به قبل ذبح هذا المحبوب لله فلما أقدم عليه وقوي عزمه بإرادته لذلك تحقق بأن الله أحب إليه من الولد وغيره ولم يبق في قلبه محبوب يزاحم محبة الله. وكذلك أصحاب طالوت ابتلوا بالامتناع من الشرب ليحصل من إيمانهم وطاعتهم ما تحصل به الموافقة والابتلاء هاهنا كان بنهي لا بأمر وأما رمي الجمار والسعي بين الصفا والمروة فالفعل في نفسه مقصود لما تضمنه من ذكر الله.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا بقوله في الحديث الذي في السنن {إنما جعل السعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله} رواه أبو داود والترمذي وغيرهما فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا له حكمة فكيف يقال لا حكمة؛ بل هو تعبد وابتلاء محض. وأما فعل مأمور في الشرع ليس فيه مصلحة ولا منفعة ولا حكمة إلا مجرد الطاعة والمؤمنون يفعلونه فهذا لا أعرفه بل ما كان من هذا القبيل نسخ بعد العزم كما نسخ إيجاب الخمسين صلاة إلى خمس.

و " المعتزلة " تنكر الحكمة الناشئة من نفس الأمر؛ ولهذا لم يجوزوا النسخ قبل التمكن وقد وافقهم على ذلك طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم كأبي الحسن التميمي وبنوه على أصلهم وهو أن الأمر عندهم كاشف عن حسن الفعل الثابت في نفسه لا مثبت لحسن الفعل وأن الأمر لا يكون إلا بحسن وغلطوا في المقدمتين فإن الأمر وإن كان كاشفا عن حسن الفعل فالفعل بالأمر يصير له حسن آخر غير الحسن الأول وإذا كان مقصود الآمر الامتحان للطاعة فقد يأمر بما ليس بحسن في نفسه وينسخه قبل التمكن إذا حصل المقصود من طاعة المأمور وعزمه وانقياده وهذا موجود في أمر الله وأمر الناس بعضهم بعضا.
__________
Q (1) سقط بالأصل
Q (5، 2) هكذا بالأصل
Q (9، 6) هكذا بالأصل
Q (16، 10) بياض بالأصل
Q (18، 17) بياض بالأصل

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #136  
قديم 10-06-2022, 09:57 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,367
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الرابع
الحلقة (136)

من صــ 263 الى صـ
ـ 270




والجهمية تنكر أن يكون في الفعل حكمة أصلا في نفسه ولا في نفس الأمر بناء على أصلهم أنه لا يأمر لحكمة وعلى أن الأفعال بالنسبة إليه سواء ليس بعضها حسنا وبعضها قبيحا وكلا الأصلين قد وافقتهم عليه الأشعرية ومن اتبعهم من الفقهاء كأصحاب الشافعي ومالك وأحمد وغيرهم وهما أصلان مبتدعان؛ فإن مذهب السلف والأئمة أن الله يخلق لحكمة ويأمر لحكمة ومذهب السلف والأئمة أن الله يحب الإيمان والعمل الصالح ويرضى ذلك ولا يحب الكفر والفسوق والعصيان؛ وإن كان قد شاء وجود ذلك وقد بسط هذا في موضع آخر.
وقد قال تعالى: {وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة} فإن نفس السجود خضوع لله ولو فعله الإنسان لله مع عدم علمه أنه أمر به انتفع كالسحرة الذين سجدوا قبل الأمر بالسجود. وكذلك قول العبد حط عنا خطايانا دعاء لله وخضوع وقد قال تعالى: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان} وهذه الأفعال المدعو بها في آخر البقرة أمور مطلوبة للعباد. وقد أجيب بجواب آخر وهو أن الله تعالى إذا قدر أمرا فإنه يقدر أسبابه والدعاء من جملة أسبابه كما أنه لما قدر النصر يوم بدر وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم قبل وقوعه أصحابه بالنصر وبمصارع القوم كان من أسباب ذلك استغاثة النبي صلى الله عليه وسلم ودعاؤه وكذلك ما وعده به ربه من الوسيلة وقد قضى بها له وقد أمر أمته بطلبها له وهو سبحانه قدرها بأسباب منها ما سيكون من الدعاء.
وعلى هذا فالداخل في السبب هو ما وقع من الدعاء المأمور به والله أعلم بذلك فيثيب هذا الداعي على ما فعله من الدعاء بجعله تمام السبب ولا يكون على هذا الدعاء سببا في اختصاصه بشيء من ذلك؛ بل في حصوله لمجموع الأمة؛ لكن هو يثاب على الدعاء لكونه من جملة الأسباب وهذا لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما من عبد يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى خصال ثلاث:
إما أن يعجل له دعوته وإما أن يدخر له من الخير مثلها وإما أن يكفر عنه من الذنوب مثلها وإما أن يدفع عنه من البلاء مثلها قالوا يا رسول الله إذا نكثر قال: الله أكثر} (1) فالداعي بهذا كالداعي بالوسيلة يحصل له من الأجر ما يخصه كالداعي للأمة ولأخيه الغائب ودعاؤه من أسباب الخير التي بها رحمة الأمة كما يثاب على سؤاله الوسيلة للنبي صلى الله عليه وسلم بأن تحل عليه الشفاعة يوم القيامة. وهنا " جواب ثالث " وهو أن كل من دعا بهذا الدعاء حصل له من المدعو المطلوب ما لا يحصل بدون المطلوب من الدعاء فيكون الدعاء به كدعائه بسائر مطالبه من المغفرة والرحمة وليس هو كدعاء الغائب للغائب؛ فإن الملك يقول هناك: ولك بمثله فيدعو له الملك بمثل ما دعا به للغائب وهنا هو داع لنفسه وللمؤمنين. وبيان هذا أن الشرع وإن كان قد استقر بموت النبي صلى الله عليه وسلم وقد أخبر أن الله تجاوز لأمته عن الخطأ والنسيان وقد أخبر أن الرسول يضع عن أمته إصرهم والأغلال التي كانت عليهم وسأل ربه لأمته أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فيجتاحهم فأعطاه ذلك؛ لكن ثبوت هذا الحكم في حق آحاد الأمة قد لا يحصل إلا بطاعة الله ورسوله فإذا عصى الله ذلك الشخص العاصي عوقب عن ذلك بسلب هذه النعمة وإن كانت الشريعة لم تنسخ.

يبين هذا أن في هذا الدعاء سؤال الله بالعفو والمغفرة والرحمة والنصر على الكفار ومعلوم أن هذا ليس حاصلا لكل واحد من أفراد الأمة بل منهم من يدخل النار ومنهم من ينصر عليه الكفار ومنهم من يسلب الرزق لكونهم فرطوا في طاعة الله ورسوله فيسلبون ذلك بقدر ما فرطوا أو قصروا وقول الله: " قد فعلت " يقال فيه شيئان.

أحدهما: أنه قد فعل ذلك بالمؤمنين المذكورين في الآية والإيمان المطلق يتضمن طاعة الله ورسوله. فمن لم يكن كذلك نقص إيمانه الواجب فيستحق من سلب هذه النعم بقدر النقص ويعوق الله عليه ملاذ ذلك ولم يستحق من الجزاء ما يستحقه من قام بالإيمان الواجب.
الثاني: أن يقال: هذا الدعاء استجيب له في جملة الأمة ولا يلزم من ذلك ثبوته لكل فرد وكلا الأمرين صحيح؛ فإن ثبوت هذا المطلوب لجملة الأمة حاصل ولولا ذلك لأهلكوا بعذاب الاستئصال كما أهلكت الأمم قبلهم. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {سألت ربي لأمتي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة سألته أن لا يهلك أمتي بسنة عامة فأعطانيها وسألته أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فيجتاحهم فأعطانيها وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها. وقال: يا محمد إني إذا قضيت قضاء لم يرد}.
وكذلك في الصحيحين: {لما نزل قوله تعالى {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم} قال النبي صلى الله عليه وسلم أعوذ بوجهك {أو من تحت أرجلكم} قال: أعوذ بوجهك {أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض} قال: هاتان أهون} وهذا لأنه لا بد أن تقع الذنوب من هذه الأمة ولا بد أن يختلفوا؛ فإن هذا من لوازم الطبع البشري لا يمكن أن يكون بنو آدم إلا كذلك ولهذا لم يكن ما وقع فيها من الاختلاف والقتال والذنوب دليلا على نقصها؛ بل هي أفضل الأمم وهذا الواقع بينهم من لوازم البشرية وهو في غيرها أكثر وأعظم وخير غيرها أقل والخير فيها أكثر والشر فيها أقل فكل خير في غيرها فهو فيها أعظم وكل شر فيها فهو في غيرها أعظم.

وأما حصول المطلوب للآحاد منها فلا يلزم حصوله لكل عاص؛ لأنه لم يقم بالواجب ولكن قد يحصل للعاصي من ذلك بحسب ما معه من طاعة الله تعالى أما حصول المغفرة والعفو والرحمة بحسب الإيمان والطاعة فظاهر؛ لأن هذا من الأحكام القدرية الخلقية من جنس الوعد والوعيد وهذا يتنوع بتنوع الإيمان والعمل الصالح. وأما دفع المؤاخذة بالخطأ والنسيان ودفع الآصار فإن هذا قد يشكل لأنه من باب الأحكام الشرعية أحكام الأمر والنهي.

فيقال: الخطأ والنسيان المرفوع عن الأمة مرفوع عن عصاة الأمة؛ فإن العاصي لا يأثم بالخطأ والنسيان؛ فإنه إذا أكل ناسيا أتم صومه سواء كان مطيعا في غير ذلك أو عاصيا فهذا هو الذي يشكل وعنه جوابان. (أحدهما أن الذنوب والمعاصي قد تكون سببا لعدم العلم بالحنيفية السمحة؛ فإن الإنسان قد يفعل شيئا ناسيا أو مخطئا ويكون لتقصيره في طاعة الله علما وعملا لا يعلم أن ذلك مرفوع عنه؛ إما لجهله وإما لكونه ليس هناك من يفتيه بالرخصة في الحنيفية السمحة. والعلماء قد تنازعوا في كثير من مسائل الخطأ والنسيان واعتقد كثير منهم بطلان العبادات أو بعضها به كمن يبطل الصوم بالنسيان وآخرون بالخطأ وكذلك الإحرام وكذلك الكلام في الصلاة وكذلك إذا فعل المخلوق عليه ناسيا أو مخطئا فإذا كان الله سبحانه قد نفى المؤاخذة بالخطأ والنسيان وخفي ذلك في مواضع كثيرة على كثير من علماء المسلمين كان هذا عقوبة لمن لم يجد في نفسه ثقة إلا هؤلاء فيفتونه بما يقتضي مؤاخذته بالخطأ والنسيان فلا يكون مقتضى هذا الدعاء حاصلا في حقه لعدم العلم لا لنسخ الشريعة.
والله سبحانه جعل مما يعاقب به الناس على الذنوب سلب الهدى والعلم النافع كقوله: {وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم} وقال: {وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم} وقال: {وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون} {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة} وقال: {في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا} وقال: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم}وهذا كما أنه حرم على بني إسرائيل طيبات أحلت لهم لأجل ظلمهم وبغيهم فشريعة محمد لا تنسخ ولا تعاقب أمته كلها بهذا ولكن قد تعاقب ظلمتهم بهذا بأن يحرموا الطيبات أو بتحريم الطيبات: إما تحريما كونيا بأن لا يوجد غيثهم وتهلك ثمارهم وتقطع الميرة عنهم أو أنهم لا يجدون لذة مأكل ولا مشرب ولا منكح ولا ملبس ونحوه كما كانوا يجدونها قبل ذلك وتسلط عليهم الغصص وما ينغص ذلك ويعوقه ويجرعون غصص المال والولد والأهل كما قال تعالى: {فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا} وقال: {أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين} {نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون} وقال: {إنما أموالكم وأولادكم فتنة} فيكون هذا كابتلاء أهل السبت بالحيتان.
وإما أن يعاقبوا باعتقاد تحريم ما هو طيب حلال لخفاء تحليل الله ورسوله عندهم كما قد فعل ذلك كثير من الأمة اعتقدوا تحريم أشياء فروج عليهم بما يقعون فيه من الأيمان والطلاق وإن كان الله ورسوله لم يحرم ذلك؛ لكن لما ظنوا أنها محرمة عليهم عوقبوا بحرمان العلم الذي يعلمون به الحل فصارت محرمة عليهم تحريما كونيا وتحريما شرعيا في ظاهر الأمر؛ فإن المجتهد عليه أن يقول ما أدى إليه اجتهاده فإذا لم يؤد اجتهاده إلا إلى تحريم هذه الطيبات لعجزه عن معرفة الأدلة الدالة على الحل كان عجزه سببا للتحريم في حق المقصرين في طاعة الله.
وكذلك اعتقدوا تحريم كثير من المعاملات التي يحتاجون إليها كضمان البساتين والمشاركات وغيرها وذلك لخفاء أدلة الشرع فثبت التحريم في حقهم بما ظنوه من الأدلة وهذا كما أن الإنسان يعاقب بأن يخفى عليه من الطعام الطيب والشراب الطيب ما هو موجود وهو مقدور عليه لو علمه؛ لكن لا يعرف بذلك عقوبة له وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه وقد قال تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا} {ويرزقه من حيث لا يحتسب} فهو سبحانه إنما ضمن الأشياء على وجهها واستقامتها للمتقين كما ضمن هذا للمتقين.

فتبين أن المقصرين في طاعته من الأمة قد يؤاخذون بالخطأ والنسيان ومن غير نسخ بعد الرسول لعدم علمهم بما جاء به الرسول من التيسير ولعدم علم من عندهم من العلماء بذلك؛ ولهذا يوجد كثير ممن لا يصلي في السفر قصرا يرى الفطر في السفر حراما فيصوم في السفر مع المشقة العظيمة عليه وهذا عقوبة له لتقصيره في الطاعة؛ لكنه مما يكفر الله به من خطاياه ما يكفره كما يكفر خطايا المؤمنين بسائر مصائب الدنيا.
__________
Q (1) في الأصل والمطبوعة زيادة خصلة وهي: " وإما أن يكفر عنه من الذنوب مثلها " وعليه فالخصال أربع، وهو ما يتعارض مع مقدمة الحديث " خصال ثلاث ". والصواب ما أثبتناه من أحمد وابن أبي شيبة والطبراني.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #137  
قديم 10-06-2022, 10:08 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,367
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الرابع
الحلقة (137)

من صــ 271 الى صـ
ـ 278




وكذلك منهم من يعتقد التربيع في السفر واجبا فيربع فيبتلى بذلك لتقصيره في الطاعة ومنهم من يعتقد تحريم أمور كثيرة من المباحات التي بعضها مباح بالاتفاق وبعضها متنازع فيه؛ لكن الرسول لم يحرمه؛ فهؤلاء الذين اعتقدوا وجوب ما لم يوجبه الله ورسوله وتحريم ما لم يحرمه حمل عليهم إصرا ولم توضع عنهم جميع الآصار والأغلال وإن كان الرسول قد وضعها لكنهم لم يعلموها.
وقد يبتلون بمطاع يلزمهم ذلك فيكون آصارا وأغلالا من جهة مطاعهم: مثل حاكم ومفت وناظر وقف وأمير ينسب ذلك إلى الشرع؛ لاعتقاده الفاسد أن ذلك من الشرع ويكون عدم علم مطاعيهم تيسير الله عليهم عقوبة في حقهم لذنوبهم كما لو قدر أنه سار بهم في طريق يضرهم وعدل بهم عن طريق فيه الماء والمرعى لجهله لا لتعمده مضرتهم أو أقام بهم في بلد غالي الأسعار مع إمكان المقام ببلد آخر.
وهذا لأن الناس كما قد يبتلون بمطاع يظلمهم ويقصد ظلمهم يبتلون أيضا بمطاع يجهل مصلحتهم الشرعية والكونية فيكون جهل هذا من أسباب عقوبتهم كما أن ظلم ذلك من أسباب مضرتهم فهؤلاء لم ترفع عنهم الآصار والأغلال لذنوبهم ومعاصيهم وإن كان الرسول ليس في شرعه آصار وأغلال فلهذا تسلط عليهم حكام الجور والظلم وتساق إليهم الأعداء وتقاد بسلاسل القهر والقدر وذلك من الآصار والأغلال التي لم ترفع عنهم مع عقوبات لا تحصى؛ وذلك لضعف الطاعة في قلوبهم وتمكن المعاصي وحب الشهوات فيها فإذا قالوا {ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا} دخل فيه هذا.
(فصل في أن الخطأ في دقيق العلم مغفور للأمة وإن كان ذلك في المسائل العلمية)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:

ولا ريب أن الخطأ في دقيق العلم مغفور للأمة وإن كان ذلك في المسائل العلمية ولولا ذلك لهلك أكثر فضلاء الأمة. وإذا كان الله يغفر لمن جهل تحريم الخمر لكونه نشأ بأرض جهل؛ مع كونه لم يطلب العلم فالفاضل المجتهد في طلب العلم بحسب ما أدركه في زمانه ومكانه إذا كان مقصوده متابعة الرسول بحسب إمكانه هو أحق بأن يتقبل الله حسناته ويثيبه على اجتهاداته ولا يؤاخذه بما أخطأ تحقيقا لقوله: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا}. وأهل السنة جزموا بالنجاة لكل من اتقى الله تعالى؛ كما نطق به القرآن وإنما توقفوا في شخص معين؛ لعدم العلم بدخوله في المتقين.
وحال سائر أهل الأقوال الضعيفة الذين يحتجون بظاهر القرآن على ما يخالف السنة إذا خفي الأمر عليهم مع أنه لم يوجد في ظاهر القرآن ما يخالف السنة كمن قال: من الخوارج: لا يصلي في السفر إلا أربعا. ومن قال إن الأربع أفضل. ومن قال: لا نحكم بشاهد ويمين. وما دل عليه ظاهر القرآن حق وأنه ليس بعام مخصوص فإنه ليس هناك عموم لفظي وإنما هو مطلق كقوله: {فاقتلوا المشركين} فإنه عام في الأعيان مطلق في الأحوال وقوله: {يوصيكم الله في أولادكم} عام في الأولاد مطلق في الأحوال. ولفظ الظاهر يراد به ما يظهر للإنسان وقد يراد به ما يدل عليه اللفظ. فالأول يكون بحسب مفهوم الناس وفي القرآن مما يخالف الفهم الفاسد شيء كثير.
وأما قوله: {ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} فعلى قولين:
قيل: هو من باب التحميل القدري لا من باب التكليف الشرعي أي: لا تبتلينا بمصائب لا نطيق حملها كما يبتلى الإنسان بفقر لا يطيقه أو مرض لا يطيقه أو حدث أو خوف أو حب أو عشق لا يطيقه ويكون سبب ذلك ذنوبه.
وهذا مما يبين أن الذنوب عواقبها مذمومة مطلقا. وقوله: {من يعمل سوءا يجز به} و {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره} {ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} قول حق وقال تعالى في قصة قوم لوط: {وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم}.
فما من أحد يبتلى بجنس عملهم إلا ناله شيء من العذاب الأليم حتى تعمد النظر يورث القلب علاقة يتعذب بها الإنسان وإن قويت حتى صارت غراما وعشقا زاد العذاب الأليم سواء قدر أنه قادر على المحبوب أو عاجز عنه؛ فإن كان عاجزا فهو في عذاب أليم من الحزن والهم والغم وإن كان قادرا فهو في عذاب أليم من خوف فراقه ومن السعي في تأليفه وأسباب رضاه فإن نزل به الموت أو افتقر تضاعف عليه العذاب وإن صار إلى غيره استبدالا به أو مشاركة قوي عذابه فإن هذا الجنس يحصل فيه من العذاب ما لا يحصل في عشق البغايا وما يحصل مثله في الحلال وإن حصل في الحلال نوع عذاب كان أخف من نظيره وكان ذلك سبب ذنوب أخرى. فإذا دعا الإنسان بهذا الدعاء يخص نفسه ويعم المسلمين فله من ذلك أعظم نصيب كيف لا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم {الآيتان من آخر سورة البقرة ما قرأ بهما أحد في ليلة إلا كفتاه} وكيف لا تكفيانه وما دعا به من ذلك لم يحصل له إلا ما حصل لسائر المؤمنين الذين لم يقرءوهما فإن الداعي بهذا الدعاء له منه نصيب يخصه كسائر الأدعية. ومما يبين ذلك أن الصحابة إنما استجيب لهم هذا الدعاء لما التزموا الطاعة لله مطلقا بقولهم:

{سمعنا وأطعنا} ثم أنزل هذا الدعاء فدعوا به فاستجيب لهم. ولهذا كانوا في الحنيفية السمحة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا فيها على عهد أبي بكر خيرا مما كانوا فيها على عهد عمر فلما كانوا في زمن عمر حدث من بعضهم ذنوب أوجبت اجتهاد الإمام في نوع من التشديد عليهم كمنعهم من متعة الحج وكإيقاع الثلاث إذا قالوها بكلمة وكتغليظ العقوبة في الخمر وكان أطوعهم لله وأزهدهم مثل أبي عبيدة ينقاد له عمر ما لا ينقاد لغيره وخفي عليهم بعض مسائل الفرائض وغيرها حتى تنازعوا فيها وهم مؤتلفون متحابون كل منهم يقر الآخر على اجتهاده.

فلما كان في آخر خلافة " عثمان " زاد التغير والتوسع في الدنيا وحدثت أنواع من الأعمال لم تكن على عهد عمر فحصل بين بعض القلوب تنافر حتى قتل عثمان فصاروا في فتنة عظيمة قد قال تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} أي هذه الفتنة لا تصيب الظالم فقط؛ بل تصيب الظالم والساكت عن نهيه عن الظلم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه}.
وصار ذلك سببا لمنعهم كثيرا من الطيبات وصاروا يختصمون في متعة الحج ونحوها مما لم تكن فيه خصومة على عهد عمر فطائفة تمنع المتعة مطلقا كابن الزبير وطائفة تمنع الفسخ كبني أمية وأكثر الناس وصاروا يعاقبون من تمتع وطائفة أخرى توجب المتعة وكل منهم لا أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم}. والمقصود هنا أن من الذنوب ما يكون سببا لخفاء العلم النافع أو بعضه؛ بل يكون سببا لنسيان ما علم ولاشتباه الحق بالباطل تقع الفتن بسبب ذلك.
والله سبحانه كان أسكن آدم وزوجه الجنة وقال لهما: {وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين} {فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو} فكل عداوة كانت في ذريتهما وبلاء ومكروه تكون إلى قيام الساعة وفي النار يوم القيامة سببها الذنوب ومعصية الرب تعالى. فالإنسان إذا كان مقيما على طاعة الله باطنا وظاهرا كان في نعيم الإيمان والعلم وارد عليه من جهاته وهو في جنة الدنيا كما في الحديث: {إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا. قيل: وما رياض الجنة؟ قال: مجالس الذكر} وقال:
{ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة} فإنه كان يكون هنا في رياض العلم والإيمان. وكلما كان قلبه في محبة الله وذكره وطاعته كان معلقا بالمحل الأعلى فلا يزال في علو ما دام كذلك فإذا أذنب هبط قلبه إلى أسفل فلا يزال في هبوط ما دام كذلك ووقعت بينه وبين أمثاله عداوة؛ فإن أراد الله به خيرا ثاب وعمل في حال هبوط قلبه إلى أن يستقيم فيصعد قلبه قال تعالى: {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم} فتقوى القلوب هي التي تنال الله كما قال: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} فأما الأمور المنفصلة عنا من اللحوم والدماء فإنها لا تنال الله.

و " الباطنية " المنكرون لخلق العالم في ستة أيام ومعاد الأبدان الذين يجعلون للقرآن تأويلا يوافق قولهم عندهم ما ثم " جنة " إلا لذة ما تتصف بها النفس من العلم والأخلاق الحميدة وما ثم " نار " إلا ألم ما تتصف به النفس من الجهل والأخلاق الذميمة السيئة فنار النفوس ألمها القائم بها كحسراتها لفوات العلم أو لفوات الدنيا المحبوبة لها وحجبها إنما هي ذنوبها.
وهذا الكلام مما يذكره أبو حامد في " المضنون به على غير أهله " لكن قد يقول هذا: ليس هو عذاب القبر المذكور في الأجسام؛ بل ذاك أمر آخر مما بينه أهل السنة. ولا نعيم عندهم إلا ما يقوم بالنفس من هذا ولهذا ليس عندهم نعيم منفصل عن النفس ولا عذاب.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #138  
قديم 10-06-2022, 10:29 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,367
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
المجلد الرابع
الحلقة (138)

من صــ 279 الى صـ
ـ 288





وهذا القول من أفسد الأقوال شرعا وعقلا؛ فإن الناس في الدنيا يثابون ويعاقبون بأمور منفصلة عنهم فكيف في دار الجزاء. ولكن الذي أثبتوه من هذا وهذا منه ما هو حق ولكن الباطل جحدهم ما جحدوه مما أخبر الله به ورسوله فهؤلاء عندهم أن آدم لم يكن إلا في جنة العلم وهبوطه انخفاض درجته في العلم وهذا كذب؛ ولكن ما أثبتوه من الحق حق وقصة آدم تدل عليه بطريق الاعتبار الذي تسميه الصوفية الإشارة؛ لا أنه هو المراد بالآية؛ لكن قد دل عليه آيات أخر تدل على أن من كذب بالحق عوقب بأن يطبع على قلبه فلا يفهم العلم أو لا يفهم المراد منه وأنه يسلط عليه عدوه ويجد ذلا كما قال تعالى عن اليهود:
{وضربت عليهم الذلة والمسكنة} {ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون}. ولا ريب أن لذة العلم أعظم اللذات و " اللذة " التي تبقى بعد الموت وتنفع في الآخرة هي لذة العلم بالله والعمل له وهو الإيمان به وهم يجعلون ذلك الوجود المطلق.
وأيضا فنفس العلم به إن لم يكن معه حب له وعبادة له بل كان مع حب لغيره كائنا من كان فإن عذاب هذا قد يكون من أعظم العذاب في الدنيا والآخرة وهم لا يجعلون كمال اللذة إلا في نفس العلم.
و" أيضا " فاقتصارهم على اللذة العقلية خطأ والنصارى زادوا عليهم السمع والشم فقالوا: يتمتعون بالأرواح المتعشقة والنغمات المطربة ولم يثبتوا هم ولا اليهود الأكل والشرب ولا النكاح - وهي لذة اللمس - والمسلمون أثبتوا جميع أنواع اللذات: سمعا وبصرا وشما وذوقا ولمسا للروح والبدن جميعا وكان هذا هو الكمال؛ لا ما يثبته أهل الكتاب ومن هو شر منهم من الفلاسفة الباطنية وأعظم لذات الآخرة لذة النظر إلى الله سبحانه كما في الحديث الصحيح: {فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه} وهو ثمرة معرفته وعبادته في الدنيا فأطيب ما في الدنيا معرفته وأطيب ما في الآخرة النظر إليه سبحانه؛ ولهذا كان التجلي يوم الجمعة في الآخرة على مقدار صلاة الجمعة في الدنيا.
وأبو حامد يذكر في كتبه هو وأمثاله " الرؤية " وأنها أفضل أنواع النعيم ويذكر كشف الحجب وأنهم يرون وجه الله ولكن هذا كله يريد به ما تقوله الجهمية والفلاسفة؛ فإن " الرؤية " عندهم ليست إلا العلم؛ لكن كما أن الإنسان قد يرى الشيء بعينيه وقد يمثل له خياله إذا غاب عنه فهكذا العلم ففي الدنيا ليس عندهم من العلم إلا مثال كالخيال في الحساب وفي الآخرة يعلمونه بلا مثال وهو عندهم " وجود لا داخل العالم ولا خارجه " و " كشف الحجاب "عندهم رفع المانع الذي في الإنسان من الرؤية وهو أمر عدمي فحقيقته جعل العبد عالما وهذا كله مما تقول به الفلاسفة والباطنية.
وهؤلاء إنما يأمرون بالزهد في الدنيا لينقطع تعلق النفس بها وقت فراق النفس فلا تبقى النفس مفارقة لشيء يحبه؛ لكن أبو حامد لا يبيح محظورات الشرع قط؛ بل يقول قتل واحد من هؤلاء خير من قتل عدد كثير من الكفار. وأما هؤلاء فالواصل عندهم إلى العلم المطلوب قد يبيحون له محظورات الشرائع حتى الفواحش والخمر وغيرها إذا كانوا ممن يعتقد تحريم الخمر وإلا فغالب هؤلاء لا يوجبون شريعة الإسلام؛ بل يجوزون التهود والتنصر وكل من كان من هؤلاء واصلا إلى علمهم فهو سعيد.
وهكذا تقول الاتحادية منهم: كابن سبعين؛ وابن هود والتلمساني ونحوهم ويدخلون مع النصارى بيعهم ويصلون معهم إلى الشرق ويشربون معهم ومع اليهود الخمر ويميلون إلى دين النصارى أكثر من دين المسلمين لما فيه من إباحة المحظورات؛ ولأنهم أقرب إلى الاتحاد والحلول ولأنهم أجهل فيقبلون ما يقولونه أعظم من قبولهم لقول المسلمين وعلماء النصارى جهال إذا كان فيهم متفلسف عظموه وهؤلاء يتفلسفون.

والواحد من هؤلاء يفرح إذا قيل له لست بمسلم؛ ويحكي عن نفسه - كما كان أحمد المارديني وهو من أصحاب ابن عربي يحكي عن نفسه - أنه دخل إلى بعض ديارات النصارى ليأخذ منهم ما يأكله هو ورفيقه فأخذ بعضهم يتكلم في المسلمين ويقول: يقولون: كذا وكذا فقال له آخر: لا تتكلم في المسلمين فهذا واحد منهم فقال ذلك المتكلم هذا وجهه وجه مسلم؟ أي ليس هذا بمسلم فصار يحكيها المارديني أن النصراني قال عنه ليس هذا بمسلم ويفرح بقول النصراني ويصدقه فيما يقول أي ليس هو بمسلم. والمتفلسفة يصرحون بهذا.

يقولون: قلنا: كذا وكذا وقال المسلمون: كذا وكذا وربما قالوا قلنا: كذا وقال المليون: أي أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى وكتبهم مشحونة بهذا ولا بد لأحدهم عند أهل الملل أن يكون على دينهم. لكن دخولهم في هذا كدخولهم في سياسة الملوك كما كانوا مع الترك الكفار وكانوا مع هولاكو " ملك المغول الكفار ومع القان " الذي هو أكبر منه خليفة جنكزخان " ببلاد الخطا وانتساب الواحد منهم هناك إلى الإسلام انتساب إلى إسلام يرضاه ذلك الملك بحسب غرضه كما كان النصير الطوسي " وأمثاله مع هولاكو " ملك الكفار وهو الذي أشار عليهم بقتل الخليفة ببغداد لما استولى عليها وأخذ كتب الناس: ملكها ووقفها وأخذ منها ما يتعلق بغرضه وأفسد الباقي وبنى الرصد ووضعها فيه وكان يعطي من وقف المسلمين لعلماء المشركين البخشية والطوينية ويعطي في رصده الفيلسوف والمنجم والطبيب أضعاف ما يعطي الفقيه ويشرب هو وأصحابه الخمر في شهر رمضان ولا يصلون.

وكذلك كان بالشام ومصر طائفة مع تصوفهم وتألههم وتزهدهم يشرب أحدهم الخمر في نهار رمضان وتارة يصلون وتارة لا يصلون. فإنهم لا يدينون بإيجاب واجبات الإسلام وتحريم محرماته عليهم؛ بل يقولون: هذا للعامة والأنبياء وأما مثلنا فلا يحتاج إلى الأنبياء. ويحكون عن بعض الفلاسفة أنه قيل له: قد بعث نبي فقال: لو كان الناس كلهم مثلي ما احتاجوا إلى نبي. ومثل هذه الحكاية يحكيها من يكون رئيس الأطباء ولا يعرف الزندقة ولا يدري مضمون هذه الكلمة ما هو لجهله بالنبوات وقيل لرئيسهم الأكبر في زمن موسى ألا تأتيه فتأخذ عنه؟ فقال: نحن قوم مهديون فلا نحتاج إلى من يهدينا.

وأما ما ذكروه من حصول اللذة في القلب والنعيم بالإيمان بالله والمعرفة به فهو حق وهو سبب دخول الجنة وقد قال صلى الله عليه وسلم {إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين} وما ذاك إلا لأنه في شهر رمضان تنبعث القلوب إلى الخير والأعمال الصالحة التي بها وبسببها تفتح أبواب الجنة ويمتنع من الشرور التي بها تفتح أبواب النار وتصفد الشياطين فلا يتمكنون أن يعملوا ما يعملونه في الإفطار فإن المصفد هو المقيد لأنهم إنما يتمكنون من بني آدم بسبب الشهوات فإذا كفوا عن الشهوات صفدت الشياطين.
والجنة والنار التي تفتح وتغلق غير ما في القلوب؛ ولكن ما في القلوب سبب له ودليل عليه وأثر من آثاره وقد قال تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا} وقال صلى الله عليه وسلم {الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم} فقيل: يأكلون ويشربون ما سيصير نارا وقيل: هو سبب النار. والله سبحانه وتعالى أعلم.
سورة آل عمران
وقال شيخ الإسلام أبو العباس تقي الدين ابن تيمية - قدس الله روحه ونور ضريحه -:
فصل:
في قوله تعالى {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم} {إن الدين عند الله الإسلام}: قد تنوعت عبارات المفسرين في لفظ (شهد فقالت طائفة منهم مجاهد والفراء وأبو عبيدة: أي حكم وقضى. وقالت طائفة منهم ثعلب والزجاج: أي بين.
وقالت طائفة: أي أعلم. وكذلك قالت طائفة معنى شهادة الله الإخبار والإعلام ومعنى شهادة الملائكة والمؤمنين الإقرار وعن ابن عباس أنه شهد بنفسه لنفسه قبل أن يخلق الخلق حين كان ولم يكن سماء ولا أرض ولا بر ولا بحر فقال: {شهد الله أنه لا إله إلا هو}. وكل هذه الأقوال وما في معناها صحيحة؛ وذلك أن الشهادة تتضمن كلام الشاهد وقوله وخبره عما شهد به وهذا قد يكون مع أن الشاهد نفسه يتكلم بذلك ويقوله ويذكره وإن لم يكن معلما به لغيره ولا مخبرا به لسواه. فهذه أول مراتب الشهادة. ثم قد يخبره ويعلمه بذلك فتكون الشهادة إعلاما لغيره وإخبارا له ومن أخبر غيره بشيء فقد شهد به سواء كان بلفظ الشهادة أو لم يكن كما في قوله تعالى {وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون} قوله تعالى {وما شهدنا إلا بما علمنا} الآية. ففي كلا الموضعين إنما أخبروا خبرا مجردا وقد قال: {واجتنبوا قول الزور} {حنفاء لله غير مشركين به}.
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {عدلت شهادة الزور الإشراك بالله قالها مرتين أو ثلاثا ثم تلا هذه الآية: {واجتنبوا قول الزور} وهذا يعم كل قول زور بأي لفظ كان وعلى أي صفة وجد فلا يقوله العبد ولا يحضره ولا يسمعه من قول غيره. و " الزور " هو الباطل الذي قد ازور عن الحق والاستقامة أي تحول وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم شهادة الزور وقد قال في المظاهرين من نسائهم {وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا}.
وفي الصحيحين عن {ابن عباس قال: شهد عندي رجال مرضيون - وأرضاهم عندي عمر - أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغرب الشمس} وهؤلاء حدثوه أنه نهى عن ذلك؛ ولم يقولوا: نشهد عندك؛ فإن الصحابة لم يكونوا يلتزمون هذا اللفظ في التحديث وإن كان أحدهم قد ينطق به ومنه قولهم في ماعز: فلما شهد على نفسه أربع مرات رجمه النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه كان إقرارا ولم يقل: أشهد.

ومنه قوله تعالى {كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم} وشهادة المرء على نفسه هي إقراره وهذا لا يشترط فيه لفظ الشهادة باتفاق العلماء وإنما تنازعوا في الشهادة عند الحاكم هل يشترط فيها لفظ أشهد؟ على قولين في مذهب أحمد وكلام أحمد يقتضي أنه لا يعتبر ذلك وكذلك مذهب مالك و " الثاني " يشترط ذلك كما يحكى عن مذهب أبي حنيفة والشافعي. و " المقصود هنا " الآية. فالشهادة تضمنت مرتبتين: " إحداهما " تكلم الشاهد وقوله وذكره لما شهد في نفسه به. و " الثاني " إخباره وإعلامه لغيره بما شهد به؛ فمن قال:حكم وقضى فهذا من باب اللازم فإن الحكم والقضاء هو إلزام وأمر.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #139  
قديم 10-06-2022, 10:48 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,367
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
المجلد الرابع
الحلقة (139)

من صــ 289 الى صـ
ـ 296



ولا ريب أن الله ألزم الخلق التوحيد وأمرهم به وقضى به وحكم فقال: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه} وقال: {أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون} وقال: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} الآية وقال تعالى: {وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون} وقال: {وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء} وهذا كثير في القرآن يوجب على العباد عبادته وتوحيده ويحرم عليهم عبادة ما سواه فقد حكم وقضى: أنه لا إله إلا هو.

ولكن الكلام في دلالة لفظ الشهادة على ذلك؛ وذلك أنه إذا شهد أنه لا إله إلا هو فقد أخبر وبين وأعلم أن ما سواه ليس بإله فلا يعبد وأنه وحده الإله الذي يستحق العبادة وهذا يتضمن الأمر بعبادته والنهي عن عبادة ما سواه فإن النفي والإثبات في مثل هذا يتضمن الأمر والنهي كما إذا استفتى شخص شخصا فقال له قائل: هذا ليس بمفت هذا هو المفتي ففيه نهي عن استفتاء الأول وأمر وإرشاد إلى استفتاء الثاني.
وكذلك إذا تحاكم إلى غير حاكم أو طلب شيئا من غير ولي الأمر فقيل له: ليس هذا حاكما ولا هذا سلطانا؛ هذا هو الحاكم وهذا هو السلطان فهذا النفي والإثبات يتضمن الأمر والنهي وذلك أن الطالب إنما يطلب من عنده مراده ومقصوده فإذا ظنه شخصا فقيل له: ليس مرادك عنده وإنما مرادك عند هذا كان أمرا له بطلب مراده عند هذا دون ذاك. والعابدون إنما مقصودهم أن يعبدوا من هو إله يستحق العبادة فإذا قيل لهم كل ما سوى الله ليس بإله إنما الإله هو الله وحده كان هذا نهيا لهم عن عبادة ما سواه وأمرا بعبادته.
و " أيضا " فلو لم يكن هناك طالب للعبادة فلفظ الإله يقتضي أنه يستحق العبادة فإذا أخبر أنه هو المستحق للعبادة دون ما سواه كان ذلك أمرا بما يستحقه. وليس المراد هنا " بالإله " من عبده عابد بلا استحقاق فإن هذه الآلهة كثيرة؛ ولكن تسميتهم آلهة والخبر عنهم بذلك واتخاذهم معبودين أمر باطل كما قال تعالى: {إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان} وقال: {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل}.
فالآلهة التي جعلها عابدوها آلهة يعبدونها كثيرة؛ لكن هي لا تستحق العبادة فليست بآلهة كمن جعل غيره شاهدا أو حاكما أو مفتيا أو أميرا وهو لا يحسن شيئا من ذلك. ولا بد لكل إنسان من إله يألهه ويعبده {تعس عبد الدينار وعبد الدرهم} فإن بعض الناس قد أله ذلك محبة وذلا وتعظيما كما قد بسط في غير هذا الموضع.
فإذا شهد الله أنه لا إله إلا هو فقد حكم وقضى بأن لا يعبد إلا إياه. و " أيضا " فلفظ الحكم والقضاء يستعمل في الجمل الخبرية فيقال: للجمل الخبرية قضية ويقال: قد حكم فيها بثبوت هذا المعنى وانتفاء هذا المعنى وكل شاهد ومخبر هو حاكم بهذا الاعتبار قد حكم بثبوت ما أثبته ونفي ما نفاه حكما خبريا قد يتضمن حكما طلبيا.
فصل:
وشهادة الرب وبيانه وإعلامه يكون بقوله تارة وبفعله تارة. فالقول هو ما أرسل به رسله وأنزل به كتبه وأوحاه إلى عباده كما قال: {ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون} إلى غير ذلك من الآيات. وقد علم بالتواتر والاضطرار أن جميع الرسل أخبروا عن الله أنه شهد ويشهد أن لا إله إلا هو بقوله وكلامه؛ وهذا معلوم من جهة كل من بلغ عنه كلامه ولهذا قال تعالى:

{أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي} وأما شهادته بفعله فهو ما نصبه من الأدلة الدالة على وحدانيته التي تعلم دلالتها بالعقل وإن لم يكن هناك خبر عن الله وهذا يستعمل فيه لفظ الشهادة والدلالة والإرشاد فإن الدليل يبين المدلول عليه ويظهره فهو بمنزلة المخبر به الشاهد به كما قيل: سل الأرض من فجر أنهارها وغرس أشجارها وأخرج ثمارها وأحيا نباتها وأغطش ليلها وأوضح نهارها؛ فإن لم تجبك حوارا أجابتك اعتبارا. وهو سبحانه شهد بما جعلها دالة عليه؛ فإن دلالتها إنما هي بخلقه لها فإذا كانت المخلوقات دالة على أنه لا إله إلا هو وهو سبحانه الذي جعلها دالة عليه؛ فإن دلالتها إنما هي بخلقه وبين ذلك؛ فهو الشاهد المبين بها أنه لا إله إلا هو وهذه الشهادة الفعلية ذكرها طائفة.
قال ابن كيسان: {شهد الله} بتدبيره العجيب وأموره المحكمة عند خلقه أنه لا إله إلا هو.

فصل:
وقوله: {قائما بالقسط} هو نصب على الحال وفيه وجهان: قيل: هو حال من (شهد) : أي شهد قائما بالقسط. وقيل: من (هو أي لا إله إلا هو قائما بالقسط كما يقال: لا إله إلا هو وحده وكلا المعنيين صحيح. وقوله: {قائما بالقسط} يجوز أن يعمل فيه كلا العاملين على مذهب الكوفيين في أن المعمول الواحد يعمل فيه عاملان كما قالوا في قوله: {هاؤم اقرءوا كتابيه} {آتوني أفرغ عليه قطرا} و {عن اليمين وعن الشمال قعيد} ونحو ذلك.
وسيبويه وأصحابه يجعلون لكل عامل معمولا ويقولون حذف معمول أحدهما لدلالة الآخر عليه وقول الكوفيين أرجح كما قد بسطته في غير هذا الموضع. وعلى المذهبين فقوله: {بالقسط} يخرج على هذا إما كونه يشهد قائما بالقسط؛ فإن القائم بالقسط هو القائم بالعدل كما في قوله {كونوا قوامين بالقسط} فالقيام بالقسط يكون في القول وهو القول العدل ويكون في الفعل. فإذا قيل: شهد {قائما بالقسط} أي: متكلما بالعدل مخبرا به آمرا به: كان هذا تحقيقا لكون الشهادة شهادة عدل وقسط وهي أعدل من كل شهادة كما أن الشرك أظلم من كل ظلم وهذه الشهادة أعظم الشهادات.

وقد ذكروا في سبب نزول هذه الآية ما يوافق ذلك فذكر ابن السائب: {أن حبرين من أحبار الشام قدما على النبي صلى الله عليه وسلم فلما أبصرا المدينة قال أحدهما لصاحبه: ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي الذي يخرج في آخر الزمان فلما دخلا على النبي صلى الله عليه وسلم عرفاه بالصفة فقالا: أنت محمد؟ قال: نعم قالا: وأحمد؟ قال: نعم. قالا: نسألك عن شهادة فإن أخبرتنا بها آمنا بك. فقال: سلاني. فقالا: أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله فنزلت هذه الآية}.

ولفظ " القيام بالقسط " كما يتناول القول يتناول العمل فيكون التقدير: بشهد وهو قائل بالقسط عامل به لا بالظلم؛ فإن هذه الشهادة تضمنت قولا وعملا فإنها تضمنت أنه هو الذي يستحق العبادة وحده فيعبد وأن غيره لا يستحق العبادة وأن الذين عبدوه وحده هم المفلحون السعداء وأن المشركين به في النار فإذا شهد قائما بالعدل المتضمن جزاء المخلصين بالجنة وجزاء المشركين بالنار كان هذا من تمام تحقيق موجب هذه الشهادة وكان قوله: {قائما بالقسط} تنبيها على جزاء المخلصين والمشركين كما في قوله: {أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت} قال طائفة من المفسرين منهم البغوي نظم الآية شهد الله قائما بالقسط ومعنى قوله: {قائما بالقسط} أي بتدبير الخلق كما يقال: فلان قائم بأمر فلان أي يدبره ويتعاهد أسبابه وقائم بحق فلان أي مجاز له فالله تعالى مدبر رزاق مجاز بالأعمال.
وإذا اعتبر القسط في الإلهية كان المعنى: " لا إله إلا هو قائما بالقسط " أي هو وحده الإله قائما بالقسط فيكون وحده مستحقا للعبادة مع كونه قائما بالقسط كما يقال: أشهد أن لا إله إلا الله إلها واحدا أحدا صمدا وهذا الوجه أرجح؛ فإنه يتضمن أن الملائكة وأولي العلم يشهدون له مع أنه لا إله إلا هو وأنه قائم بالقسط.
و " الوجه الأول " لا يدل على هذا؛ لأن كونه قائما بالقسط كما شهد به أبلغ من كونه حال الشاهد وقيامه بالقسط يتضمن أنه يقول الصدق ويعمل بالعدل كما قال: {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا} وقال هود: {إن ربي على صراط مستقيم} فأخبر أن الله على صراط مستقيم وهو العدل الذي لا عوج فيه.
وقال: {هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم} وهو مثل ضربه الله لنفسه ولما يشرك به من الأوثان كما ذكر ذلك في قوله: {قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق} الآية. وقال: {أفمن يخلق كمن لا يخلق} الآيات. إلى قوله: {وما يشعرون أيان يبعثون} فأخبر أنه خالق منعم عالم وما يدعون من دونه لا تخلق شيئا ولا تنعم بشيء ولا تعلم شيئا وأخبر أنها ميتة فهل يستوي هذا وهذا؟ فكيف يعبدونها من دون الله مع هذا الفرق الذي لا فرق أعظم منه؟ ولهذا كان هذا أعظم الظلم والإفك.

ومن هذا الباب قوله تعالى {قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أم ما يشركون} فقوله تعالى: {ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون} {وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم} كلاهما مثل بين الله فيه أنه لا يستوي هو وما يشركون به كما ذكر نظير ذلك في غير موضع وإن كان هذا الفرق معلوما بالضرورة لكل أحد؛ لكن المشركون مع اعترافهم بأن آلهتهم مخلوقة مملوكة له يسوون بينه وبينها في المحبة والدعاء والعبادة ونحو ذلك.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #140  
قديم 10-06-2022, 10:56 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,367
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام





فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
المجلد الرابع
الحلقة (140)

من صــ 297 الى صـ
ـ 304



و " المقصود هنا " أن الرب سبحانه على صراط مستقيم وذلك بمنزلة قوله: {قائما بالقسط} فإن الاستقامة والاعتدال متلازمان فمن كان قوله وعمله بالقسط كان مستقيما ومن كان قوله وعمله مستقيما كان قائما بالقسط. ولهذا أمرنا الله سبحانه أن نسأله أن يهدينا الصراط المستقيم؛ صراط الذين أنعم عليهم: من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وصراطهم هو العدل والميزان؛ ليقوم الناس بالقسط والصراط المستقيم هو العمل بطاعته وترك معاصيه فالمعاصي كلها ظلم مناقض للعدل مخالف للقيام بالقسط والعدل. والله سبحانه أعلم.

فصل:
ثم قال تعالى: {لا إله إلا هو العزيز الحكيم}. ذكر عن جعفر بن محمد أنه قال: الأولى وصف وتوحيد والثانية رسم وتعليم. أي قوله: {لا إله إلا هو العزيز الحكيم}. ومعنى هذا أن الأولى هو ذكر أن الله شهد بها فقال: {شهد الله أنه لا إله إلا هو} والتالي للقرآن إنما يذكر أن الله شهد بها هو والملائكة وأولو العلم وليس في ذلك شهادة من التالي نفسه بها فذكرها الله مجردة ليقولها التالي فيكون التالي قد شهد بها أنه لا إله إلا هو. فالأولى خبر عن الله بالتوحيد لنفسه بشهادته لنفسه وهذه خبر عن الله بالتوحيد. وختمها بقوله: {العزيز الحكيم} والعزة تتضمن القدرة والشدة والامتناع والغلبة.
تقول العرب: عز يعز بفتح العين إذا صلب وعز يعز بكسرها إذا امتنع وعز يعز بضمها إذا غلب. فهو سبحانه في نفسه قوي متين وهو منيع لا ينال وهو غالب لا يغلب. والحكيم يتضمن حكمه وعلمه وحكمته فيما يقوله ويفعله فإذا أمر بأمر كان حسنا وإذا أخبر بخبر كان صدقا وإذا أراد خلق شيء كان صوابا فهو حكيم في إراداته وأفعاله وأقواله.
فصل:
وقد تضمنت هذه الآية ثلاثة أصول: شهادة أن لا إله إلا الله وأنه قائم بالقسط وأنه العزيز الحكيم؛ فتضمنت وحدانيته المنافية للشرك وتضمنت عدله المنافي للظلم وتضمنت عزته وحكمته المنافية للذل والسفه وتضمنت تنزيهه عن الشرك والظلم والسفه ففيها إثبات التوحيد وإثبات العدل وإثبات الحكمة وإثبات القدرة.

والمعتزلة قد تحتج بها على ما يدعونه من التوحيد والعدل والحكمة ولا حجة فيها لهم؛ لكن فيها حجة عليهم وعلى خصومهم الجبرية أتباع الجهم بن صفوان؛ الذين يقولون: كل ما يمكن فعله فهو عدل وينفون الحكمة. فيقولون: يفعل لا لحكمة فلا حجة فيها لهم؛ فإنه أخبر أنه لا إله إلا هو وليس في ذلك نفي الصفات وهم يسمون نفي الصفات توحيدا؛ بل الإله هو المستحق للعبادة والعبادة لا تكون إلا مع محبة المعبود. والمشركون جعلوا لله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله؛ فدل ذلك على أن المؤمنين يحبون الله أعظم من محبة المشركين لأندادهم؛ فعلم أن الله محبوب لذاته ومن لم يقل بذلك لم يشهد في الحقيقة أن لا إله إلا هو. والجهمية والمعتزلة يقولون: إن ذاته لا تحب فهم في الحقيقة منكرون إلهيته وهذا مبسوط في غير هذا الموضع.

وقيامه بالقسط مقرون بأنه لا إله إلا هو؛ فذكر ذلك على أنه لا يماثله أحد في شيء من أموره والمعتزلة تجعل القسط منه مثل القسط من المخلوقين؛ فما كان عدلا من المخلوقين كان عدلا من الخالق وهذا تسوية منهم بين الخالق والمخلوق؛ وذلك قدح في أنه لا إله إلا هو.
والجهمية عندهم أي شيء أمكن وقوعه كان قسطا فيكون قوله: {قائما بالقسط} كلاما لا فائدة فيه ولا مدح؛ فإنه إذا كان كل مقدور قسطا كان المعنى أنه قائم بما يفعله والمعنى أنه فاعل لما يفعله وليس في هذا مدح ولا هو المفهوم من كونه قائما بالقسط؛ بل المفهوم منه أنه يقوم بالقسط لا بالظلم مع قدرته عليه؛ لكنه سبحانه مقدس منزه أن يظلم أحدا كما قال: {ولا يظلم ربك أحدا} وقد أمر عباده أن يكونوا قوامين بالقسط وقال: {أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت} فهو يقوم عليها بكسبها لا بكسب غيرها وهذا من قيامه بالقسط. وقال: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا} الآية.
وأيضا فمن قيامه بالقسط وقيامه على كل نفس بما كسبت: أنه لا يظلم مثقال ذرة كما قال: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره} إلى آخرها.
والمعتزلة تحبط الحسنات العظيمة الكثيرة بكبيرة واحدة وتحبط إيمانه وتوحيده بما هو دون ذلك من الذنوب وهذا مما تفردوا به من الظلم الذي نزه الله نفسه عنه فهم ينسبون الله إلى الظلم لا إلى العدل. والله أعلم.
فصل:
وقوله: {هو العزيز الحكيم} إثبات لعزته وحكمته وفيها رد على الطائفتين الجبرية والقدرية؛ فإن الجبرية - أتباع جهم - ليس له عندهم في الحقيقة حكمة؛ ولهذا لما أرادت الأشعرية أن تفسر حكمته فسروها إما بالقدرة وإما بالعلم وإما بالإرادة. ومعلوم أنه ليس في شيء من ذلك إثبات لحكمته فإن القادر والعالم والمريد قد يكون حكيما وقد لا يكون والحكمة أمر زائد على ذلك وهم يقولون: إن الله لا يفعل لحكمة ويقولون أيضا: الفعل لغرض إنما يكون ممن ينتفع ويتضرر ويتألم ويلتذ؛ وذلك ينفى عن الله. والمعتزلة أثبتوا أنه يفعل لحكمة.
وسموا ذلك غرضا: هم وطائفة من المثبتة؛ لكن قالوا: الحكمة أمر منفصل عنه لا يقوم به كما قالوا في كلامه وإرادته؛ فاستطال عليهم المجبرة بذلك فقالوا: الحكيم من يفعل لحكمة تعود إلى نفسه فإن لم تعد إلى نفسه لم يكن حكيما؛ بل كان سفيها. فيقال للمجبرة: ما نفيتم به الحكمة هو بعينه حجة من نفى الإرادة من المتفلسفة ونحوهم قالوا: الإرادة لا تكون إلا لمن ينتفع ويتضرر ويتألم ويلتذ وإثبات إرادة بدون هذا لا يعقل وأنتم تقولون: نحن موافقون للسلف وسائر أهل السنة على إثبات الإرادة فما كان جوابا لكم عن هذا السؤال فهو جواب سائر أهل السنة لكم حيث أثبتم إرادة بلا حكمة يراد الفعل لها. وقد بسط هذا في غير هذا الموضع وبين ما في لفظ هذه الحجة من الكلمات المجملة. والله أعلم.
فصل:
وإثبات شهادة أولي العلم يتضمن أن الشهادة له بالوحدانية يشهد بها له غيره من المخلوقين الملائكة والبشر. وهذا متفق عليه يشهدون أن لا إله إلا الله ويشهدون بما شهد به لنفسه.
وزعم طائفة من الاتحادية أنه لا يوحد أحد الله وأنشدوا:
ما وحد الواحد من واحد ... إذ كل من وحده جاحد

وهؤلاء حقيقة قولهم من جنس قول النصارى في المسيح يدعون أن حقيقة التوحيد أن يكون الموحد هو الموحد؛ فيكون الحق هو الناطق على لسان العبد والله الموحد لنفسه لا العبد. وهذا في زعمهم هو السر الذي كان الحلاج يعتقده وهو بزعمهم قول خواص العارفين؛ لكن لا يصرحون به.
وحقيقة قولهم: أنهم اعتقدوا في عموم الصالحين ما اعتقدته النصارى في المسيح؛ لكن لم يمكنهم إظهاره؛ فإن دين الإسلام يناقض ذلك مناقضة ظاهرة فصاروا يشيرون إليه ويقولون: إنه من السر المكتوم ومن علم الأسرار الغيبية فلا يمكن أن يباح به وإنما هو قول ملحد وهو شر من قول النصارى فإن النصارى إنما قالوا ذلك في المسيح لم يقولوه في جميع الصالحين. وقد بسط الكلام على ذلك في غير موضع؛ إذ المقصود التنبيه على ما في هذه الآية من أصول الإيمان والتوحيد وإبطال قول المبتدعين.
فصل:
وإذا كانت شهادة الله تتضمن بيانه للعباد ودلالته لهم وتعريفهم بما شهد به لنفسه فلا بد أن يعرفهم أنه شهد فإن هذه الشهادة أعظم الشهادات وإلا فلو شهد شهادة لم يتمكن من العلم بها لم ينتفع بذلك ولم تقم عليهم حجة بتلك الشهادة كما أن المخلوق إذا كانت عنده شهادة لم يبينها بل كتمها لم ينتفع أحد بها ولم تقم بها حجة.

ولهذا ذم سبحانه من كتم العلم الذي أنزله وما فيه من الشهادة كما قال تعالى: {ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله} أي عنده شهادة من الله وكتمها وهو العلم الذي بينه الله فإنه خبر من الله وشهادة منه بما فيه. وقد ذم من كتمه كما كتم بعض أهل الكتاب ما عندهم من الخبر والشهادة لإبراهيم وأهل بيته وكتموا إسلامهم وما عندهم من الأخبار بمثل ما أخبر به محمد صلى الله عليه وسلم وبصفته وغير ذلك قال تعالى: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون}.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع



مجموعة الشفاء على واتساب


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 328.17 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 322.33 كيلو بايت... تم توفير 5.84 كيلو بايت...بمعدل (1.78%)]