|
ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث ملتقى يختص في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلوم الحديث وفقهه |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
![]() - التتار من البداية إلى عين جالوت النصر قرين الإيمان (129) راغب السرجاني مع أن موقعة عين جالوت هذه كانت موقعة واحدة، وتمت في يوم واحد، إلا أن آثارها كانت من القوة بحيث لا يتخيل أصلاً، فقد كانت من الكثرة بحيث لا تحصى، وكانت آثارها في غاية الأهمية، ولا نستطيع في هذه العجالة أن نمر عليها كلها، ولكن سنمر على طرف بسيط منها. وعلى الدارسين والمحللين أن يبحثوا في هذه الآثار بمزيد من التفصيل والدراسة، فالموضوع فعلاً في غاية الأهمية، وسنقص هنا بعض هذه الآثار لموقعة عين جالوت الخالدة: الأثر الأول والأهم: عودة المسلمين إلى الله عز وجل أثناء التحضير والإعداد لهذا اللقاء، وأثناء المعركة وبعدها ولمدة طويلة من الزمان؛ فقد وضحت المعادلة جداً في أذهان الناس، فالمسلمون عندما ابتعدوا عن الله عز وجل تمكن التتار من رقابهم، ولما عادوا إلى الله تحقق النصر الذي اعتبره كثير من المحللين معجزة حقيقية، وفي الحقيقة أن هذا النصر ليس بمستغرب، فإن النتيجة الطبيعية لعودة المسلمين إلى الله عز وجل أن يتم نصرهم على أعدائهم. وتبين المسلمون أيضاً بعد موقعة عين جالوت أن الحرب دينية في المقام الأول، فقد تحالف كثير من النصارى كما رأينا مع التتار أكثر من مرة، مع أن مصالحهم على المستوى البعيد كان مع المسلمين وليس مع التتار، فالتتار لا عهد لهم، بينما يحترم المسلمون عهودهم جداً؛ لأن هذا الاحترام للعهود أصل من الأصول في دين الإسلام، وواقع المسلمين يشهد بذلك في معظم فترات التاريخ، والمخالفات الإسلامية للعهود قليلة جداً في التاريخ، ومع ذلك آثر النصارى أن يتحالفوا مع التتار ضد المسلمين، ولذلك استقر في نفوس المسلمين تماماً بعد انتصار عين جالوت، أن الحروب التي دارت بينهم وبين التتار والنصارى لم تكن حروب مصالح فقط، كما يصورها كثير من الغربيين والعلمانيين على أن المحرك الرئيسي للحروب أبداً هو الاقتصاد، أو يجعلون الأغراض العسكرية أو الإستراتيجية هي الهدف الأساسي، فنحن لم نر هذا في قصتنا هذه، بل رأينا في هذه القصة الواقعية أن الدين هو المحرك الأساسي للنصارى في حرب المسلمين، وكان له كذلك أكبر أثر في تحريك المسلمين أنفسهم لحرب التتار والنصارى في هذه الموقعة الخالدة، والله عز وجل نبهنا إلى ذلك في كتابه مراراً أكثر من مرة، قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]. فجعل الرضا عندهم مقروناً باتباع الملة، وليس مقروناً ببقاء المصالح. وكذلك قال ربنا في كتابه الكريم: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217]. فوضح أن القتال سيستمر حتماً إلى أن يترك المسلمون دينهم، وأما قبل ذلك فالحرب لن تتوقف، ولن يكتفي اليهود والنصارى والتتار والمشركون والهندوس في أي وقت من أوقات الدنيا بالسيطرة على الديار والأموال والبترول والناس وغير ذلك أبداً، فسيظل الهدف الأسمى لهؤلاء هو السيطرة على الدين الإسلامي، أو إن شئت فقل: محو الدين الإسلامي. وما نراه الآن من متابعة لكل الحركات الإسلامية والتوجهات الدينية، ومحاولات تغيير مناهج المسلمين الدراسية، وحرب في وسائل الإعلام المختلفة، كل هذا ما هو إلا صور للتعبير عن شدة الكراهية لبقاء الدين، وليس لبقاء القوة أو الحدود، فالمعركة في أصلها هي معركة وجود أساساً، فهم لا يقبلون بوجود الدين الإسلامي على وجه الأرض، ولذلك فالحرب لن تنتهي أبداً؛ لأن دين الإسلام لن ينتهي أبداً بإذن الله. وهكذا لا يصلح كما ذكرنا قبل ذلك مراراً أن يكون السلام خياراً إستراتيجياً أبدياً مهما تغيرت الظروف، وأنت إن تنازلت عن كل شيء في مقابل السلام، فهم لن يقبلوا إلا أن تتنازل عن الدين بوضوح. إذاً: فقه المسلمون بعد موقعة عين جالوت أن الصراع ديني في المقام الأول، ومن ثم إذا أردت أن تنتصر في هذا الصراع الديني فلابد أن تكون مستمسكاً تماماً بهذا الدين. كان هذا هو الأثر الأول الخالد والهام جداً من موقعة عين جالوت الخالدة، وهو عودة المسلمين إلى الله عز وجل عودة كاملة، ليس في مصر والشام فقط، بل وفي كثير من بقاع العالم الإسلامي آنذاك، ولمدة عشرات السنين بعد ذلك، فالحقيقة وضحت تماماً أمام أعين الناس، فما لم تكن مستمسكاً بالدين فلا تبحث عن النصر.
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() - التتار من البداية إلى عين جالوت هزيمة التتار وهروبهم ومقتل كتبغانوين قائد التتار (122) راغب السرجاني تقدم أمير من أمراء المماليك المهرة من أمراء الشام الذين انضموا إلى جيش قطز رحمه الله قبل موقعة عين جالوت، من أمراء جيش الناصر الأيوبي الذي فر قبل ذلك، وهو الأمير جمال الدين آقوش الشمسي رحمه الله، فتقدم وأبلى بلاء حسناً في القتال، واخترق صفوف التتار حتى وصل إلى كتبغا القائد النصراني العجوز الخبير وقاتله، ورفع المسلم سيفه، ورفع الكافر سيفه، وأهوى المسلم بكل طاقته على الكافر، فأراد الله عز وجل أن يُقتل الكافر {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]. فقُطعت رقبة الطاغية المتغطرس كتبغا على أرض القتال وسقط زعيم التتار، وبسقوطه سقطت كل عزيمة عند جيش التتار، {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]. كان مقتل كتبغا نقطة محورية في القتال، وتغير السيناريو تماماً عند التتار، فما أصبح لهم من هَمّ إلا أن يفتحوا لأنفسهم طريقاً في المدخل الشمالي لسهل عين جالوت ليتمكنوا من الهرب، وانطلق المسلمون الصادقون خلف التتار يقتلون فريقاً ويأسرون فريقاً. وسقطت جحافل التتار تحت أقدام المسلمين صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية، فضاعت السمعة، وضاعت الهيبة، ومُزّق الجيش الرهيب تمزيقاً، وركز جهده على فتح ثغرة في مدخل سهل عين جالوت الشمالي، واستطاعوا بعد جهد شديد أن يفتحوا ثغرة، ووصلوا بالفعل إلى الخروج من سهل عين جالوت، وبدءوا في الفرار في اتجاه الشمال، ولكن جيوش المسلمين كانت تجري خلفهم، فلم يكن الغرض أبداً في هذه الموقعة هو الانتصار في موقعة عابرة، أو تحقيق كسب سياسي مؤقت يتفاوضون بعده أبداً، وإنما كان الغرض الواضح هو تحرير البلاد بكاملها عن طريق الجهاد في سبيل الله.
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() - التتار من البداية إلى عين جالوت معركة بيسان وإبادة جيش التتار (123) راغب السرجاني كان التتار يقطعون الأرض شمالاً، والمسلمون لا يتركونهم، ووصل التتار الفارون إلى بيسان، وهي على بعد حوالي (20) كيلو متر شمال شرق عين جالوت، فوجدوا أن المسلمين جادون في طلبهم، فلم يجدوا إلا أن يصطفوا من جديد للقتال، ولتدور موقعة أخرى عند بيسان، أجمع المؤرخون على أنها أصعب من عين جالوت وقاتل التتار قتالاً رهيباً، ودافعوا عن حياتهم بكل قوة، وبدءوا يضغطون على المسلمين, وكادوا أن يقلبوا الأمور لمصلحتهم، وابتلي المؤمنون وزُلزلوا زلزالاً شديداً، وكانت هذه اللحظات من أحرج اللحظات في حياة القوات الإسلامية مطلقاً، ورأى قطز رحمه الله كل ذلك، فهو لم يكن أبداً قريباً من الأحداث، وإنما كان في وسطها رحمه الله، فانطلق رحمه الله يحفز الناس، ويدعوهم للثبات، ثم أطلق صيحته الخالدة مرة أخرى وقال: وا إسلاماه، وا إسلاماه، وا إسلاماه، قالها ثلاث مرات، ثم قال في تضرع: يا الله! انصر عبدك قطز على التتار. الله أكبر، ما أحسن اعترافك يا قطز بعبوديتك في هذا المقام! فلستُ أنا الملكَ المظفر، ولستُ أنا أميرَ المسلمين، ولستُ أنا سلطانَ مصر، وإنما أنا عبدك. ويا أيها المؤمنون الصادقون! كيف يلجأ العبد بصدق إلى الله عز وجل ويتركه الله عز وجل؟ هذا أبداً لا يكون. دق قطز رحمه الله على الباب الذي ما طرقه صادق إلا وفُتح له، وتقرب رحمه الله إلى من بيده ملكوت السماوات والأرض، وعندما يخشع ملوك الأرض فلابد أن يرحم جبار السماوات والأرض، وكان خشوع قطز الصادق هو الجبل الذي وقع على جيش التتار، فأهلكهم بكاملهم، فما إن انتهى من دعائه وطلبه رحمه الله إلا وخارت قوى التتار تماماً، وبدأ الجنود الذين روعوا الأرض قبل ذلك يتساقطون كالذباب على أرض بيسان، وقضى المسلمون تماماً على أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، وارتفعت راية الإسلام وتهاوت راية التتار. وجاءت اللحظة التي انتظرها المسلمون منذ أربعين سنة أو يزيد،{وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الروم:4 - 5]. وتخيلوا أنه في موقعة عين جالوت أُبيد جيش التتار بكامله، هل سمعتم عن هذا؟! أو هل سمعتم عن مثل ذلك؟! لقد أبيد جيش التتار بكامله! ولم يبق على قيد الحياة من هذا الجيش أحد أبداً، وفني الجيش الذي اجتاح نصف الكرة الأرضية، وسفك دماء الملايين وخرّب مئات المدن، وعاث في الأرض فساداً، وانتصر الجيش الإسلامي العظيم. فهنيئاً لكم أيها المسلمون! بالنصر العظيم، وهنيئاً لك يا قطز! فقد حان وقت قطف الثمار. ولما رأى قطز رحمه الله جموع التتار صرعى على أرض بيسان المباركة، لم يفق ليتلقى التهنئة في ذلك الوقت ويرفع رأسه ويفتخر، بل إن أول شيء فعله رحمه الله أن نزل من على فرسه، ومرّغ وجهه على الأرض يسجد لله شكراً، ولم يدخله غرور المنتصرين، أو يرفع رأسه بزهو المتكبرين، ولم يشعر أنه قد فعل شيئاً، بل إن الفضل والمنة لله عز وجل، فهو الذي أنعم عليه واختاره ليكون مجاهداً، وهو الذي منّ عليه بالثبات، وهو الذي ألهمه الحكمة في القتال، والصواب في الرأي، وهو الذي هداه السبيل. وهنا أيها المؤمنون! بيت القصيد، أن تعرف أنك عبد لله عز وجل، لا تُنصر إلا بنصره، ولا تنجو إلا برحمته، ولا تتحرك إلا بإرادته {لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم:4].
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() - التتار من البداية إلى عين جالوت قطز رحمه الله في ميزان الإسلام (124) راغب السرجاني إذا أردتم أن تعرفوا قيمة قطز رحمه الله في ميزان الإسلام، فانظروا إلى كثير من الزعماء الذين ينتفخون كِبراً وزهواً وفخراً، ويتطاولون على خلق الله، ويُصَعِّرون خدودهم للناس، ويمشون في الأرض مرحاً، وكأنهم يخرقون الأرض أو يبلغون الجبال طولاً! وما فعلوا لأمتهم معشار ما فعله قطز رحمه الله، بل على العكس كانوا وبالاً على شعوبهم، وكانوا مصيبة على أممهم. وهنا تبرز قيمة قطز الحقيقية، وبضدها تتميز الأشياء. ومن هنا فلا عجب أبداً أن يُنصر قطز رحمه الله، ولا عجب أيضاً أن يُخذل غيره، والله عز وجل لا يظلم أحداً أبداً. يقول تعالى في كتابه الكريم: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10]. فالإنسان هو الذي يختار، فلم يأت قطز رحمه الله في زمان تمكين ولا سيادة، ولا في ظروف طيبة ومريحة، ولم يحكم البلاد وهي قوية قاهرة، لم يجلس على الكرسي وأموال دولته لا تحصى، بل كانت كل الظروف تقريباً ضده، لكنه استعان بالله، وعمل بصدق وإخلاص، وحفّز الآخرين على العمل معه، فكان لابد من الوصول. ويوم يعمل المسلمون كما عمل قطز رحمه الله سيصلون حتماً إلى ما وصل إليه، وليس بالضرورة -كما تبين لنا في هذه القصة- أن يحتاج التغيير إلى سنوات أو قرون أو عقود، فقد كانت عين جالوت بعد عشرة أشهر فقط من تولي قطز مقاليد الأمور، ولكن من الضروري فعلاً أن يوجد المخلصون الصادقون العالمون العاملون، ووعد الله عز وجل لا يُخلف أبداً، وقد قال ربنا في كتابه الكريم: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51]. إن معركة عين جالوت من أعظم المعارك في تاريخ الأرض، ولا شك أن آثارها لا تحصى ونتائجها لا تُعد، لا شك أن وراء هذا النصر أسباباً معروفة ووسائل معلومة، ولكن هذا الحديث يطول شرحه، وسنتحدث عنه بإذن الله في المحاضرة القادمة. أسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يجعل لنا في التاريخ عبرة، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه، {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44].
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
![]() - التتار من البداية إلى عين جالوت أسباب تسلط التتار على المسلمين قبل موقعة عين جالوت (125) راغب السرجاني أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. في المقالات السابقة تحدثنا عن موقعة عين جالوت، تلك الموقعة التي غيرت فعلاً من خريطة العالم، ومن جغرافية الأرض. والتعليقات على هذه الموقعة لا تنتهي، والدروس والعبر والفوائد والعظات لا تحصى، فكل خطوة من خطوات الجيش المسلم، وكل خطوة من خطوات الملك المظفر سيف الدين قطز رحمه الله تحتاج إلى وقفات طويلة؛ لأن موقعة عين جالوت سقط فيها الجيش التتري، الذي أفسد في الأرض إفساداً عظيماً، والله عز وجل لا يصلح عمل المفسدين، مع كون هذا الجيش جيشاً مفسداً إلا أنه سلط على المسلمين فترة طويلة من الزمان، مدة أربعين سنة متصلة، عاشها المسلمون في قهر وتعذيب وبطش وإجرام من التتار، وهزم فيها المسلمون في عشرات بل مئات المواقع الحربية، ثم دارت الأيام وتمت المعركة الهائلة عين جالوت، وانتصر المسلمون انتصاراً مبهراً حقاً، يقول ربنا في كتابه الكريم: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140]. وهنا يبرز سؤالان: ولابد لمن يتوسع في هذه الأحداث أن يخطر على ذهنه هذان السؤالان، وهذان السؤالان لهما إجابة واحدة: السؤال الأول: كيف سلط جيش التتار الفاسد المفسد على أمة الإسلام وهي خير منه، فمهما خالفت أمة الإسلام منهجها، ومهما بعدت وقصرت في واجباتها فهي ما زالت أمة الإسلام، فلماذا يسلط الله عز وجل أمة التتار المفسدة على أمة الإسلام؟ السؤال الثاني: لماذا انتصر جيش التتار على المسلمين في كل المواقع السابقة، ثم هزم في موقعة عين جالوت وهو نفس الجيش؟ فلماذا انتصر سابقاً ثم هلك بكامله بهذه الصورة العجيبة في موقعة عين جالوت؟ إن الإجابة على السؤالين نجدها في خطاب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه الصحابي العظيم الملهم إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه، الذي كان يقود الجيوش الإسلامية المتجهة لحرب فارس في موقعة القادسية الكبرى، فقد قال له: (فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب، وآمرك ومن معك أن تكون أشد احترازاً من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة؛ لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم، فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وإلا ننصر عليهم بفضلنا لن نغلبهم بقوتنا، واعلموا أن عليكم في سيركم حفظة من الله عز وجل يعلمون ما تفعلون، فاستحيوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله، ولا تقولوا: إن عدونا شر منا، فلن يسلط علينا). أي: كما نقول: إن التتار شر من المسلمين، فلن يسلطوا على المسلمين، أو نقول: إن اليهود شر من المسلمين، فلن يسلطوا على المسلمين، أو نقول: إن الأمريكان شر من المسلمين، فلن يسلطوا على المسلمين، أو نصف أي عدو من أعداء الله عز وجل بأنه شر، ولن يسلط على المسلمين. ثم قال: فرب قوم سلط عليهم من هو شر منهم، كما سلط على بني إسرائيل لما عملوا بمساخط الله كفار المجوس، فجاسوا خلال الديار، وكان وعداً مفعولاً. فاليهود لما أفسدوا في الأرض وعملوا ما يسخط الله من المعاصي، وابتعدوا عن شرعه عز وجل، سلط الله عليهم المجوس عباد النار، واليهود أهل كتاب، ومهما عصوا فهم أفضل من المجوس، ومع ذلك سلط الله عز وجل المجوس، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه. ورسالة الفاروق عمر رضي الله عنه وأرضاه هذه من أنفس ما قال رضي الله عنه، ومن أعظم الرسائل مطلقاً، والرسالة طويلة، وقد درسناها بالتفصيل في فتوح فارس، ودراستها في منتهى الأهمية في بناء الأمة الإسلامية. ومن هذا الجزء الذي ذكرناه من الرسالة يتضح أنه إذا عمل المسلمون بمعاصي الله، فإنهم يهزمون ويسلط عليهم الكفار من أهل الأرض. وإذا التزم المسلمون بتقوى الله عز وجل، وساروا على منهج ربهم، ومنهج رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، انتصروا على الجيوش التي طالما انتصرت عليهم؛ فهم لا ينتصرون على هذه الجيوش بقوة الجسد، أو بكثرة العدد، أو بكفاءة العدد، وإنما ينتصرون عليهم بارتباطهم بربهم، وبعد أعدائهم عن رب العالمين سبحانه وتعالى. ومن هنا نفهم سبب تسلط جيش التتار أربعين سنة على المسلمين في الأرض، ثم سبب انتصار المسلمين في عين جالوت على هذا الجيش الذي دوخ بلاد المسلمين، وبلاد الأرض جميعاً عشرات الأعوام، وأيضاً نفهم أحداثاً كثيرة جداً تتكرر في التاريخ
__________________
|
#6
|
||||
|
||||
![]() - التتار من البداية إلى عين جالوت تحرير بلاد الشام من التتار وتوحيدها مع مصر (127) راغب السرجاني في اليوم التالي مباشرة لدخول قطز رحمه الله إلى دمشق كان عيد الفطر، وكان أعظم عيد مر على المسلمين منذ أربعين سنة، فلم يكن عيداً للفطر فقط، بل كان أيضاً عيداً للنصر والتمكين، {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:40]. ولم يضيع قطز رحمه الله وقتاً، بل أرسل مقدمة الجيش بقيادة الظاهر بيبرس رحمه الله لتتبع الفارين من التتار، وتطهير المدن الشامية الأخرى من الحاميات التتارية، حتى وصلت القوات الإسلامية إلى حمص، واقتحمت على التتار معسكراتهم ففروا مذعورين، وانقلبت الصورة تماماً، وأطلق المسلمون آلاف الأسرى المسلمين، وانطلقوا خلف التتار، فقتلوا أكثرهم وأسروا الباقين، ولم يفلت من التتار إلا الشريد، وهكذا حررت حمص بسرعة، واتجهت القوات الإسلامية إلى حلب، ففر منها التتار كالفئران المذعورة، وانطلق المسلمون خلفهم يقتلون ويأسرون، وسبحان مغير الأحوال! ما بين طرفة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلى حال! طهر المسلمون بلاد الشام بكاملها في غضون أسابيع قليلة جداً، وعادت من جديد أرض الشام إلى ملك الإسلام والمسلمين، ونسأل الله عز وجل لها ولسائر بلاد المسلمين دوام التحرر والعزة. ثم جاءت بعد ذلك خطوة هامة من أعظم خطوات قطز رحمه الله، فقد أعلن قطز رحمه الله بعد هذا الانتصار المهيب توحيد مصر والشام من جديد في دولة واحدة تحت زعامته، وذلك بعد عشر سنوات كاملة من الفرقة والشتات، منذ وفاة نجم الدين الصالح أيوب رحمه الله في سنة (648هـ)، حيث انفصل في ذلك الوقت الشام عن مصر، حتى عاد الآن قطز رحمه الله ليوحدهما. والشام يضم سوريا ولبنان وفلسطين والأردن، فضم الشام إلى مصر، وأصبحا دولة واحدة، وخطب لـ قطز رحمه الله على المنابر في كل المدن المصرية والشامية، حتى خطب له في أعالي بلاد الشام، وفي المدن التي حول نهر الفرات، وعاش المسلمون أياماً من أسعد أيامهم.
__________________
|
#7
|
||||
|
||||
![]() - التتار من البداية إلى عين جالوت تعيين قطز للأمراء على بلاد الشام (128) راغب السرجاني بدأ قطز رحمه الله يوزع الولايات الإسلامية على الأمراء المسلمين. ومن حكمته رحمه الله أنه أرجع بعضاً من الأمراء الأيوبيين إلى مناصبهم؛ وذلك ليضمن عدم حدوث فتنة في بلاد الشام، ولاشك أن هؤلاء لهم أتباع من المسلمين، وقطز لا يخشى الآن من خيانتهم؛ لأنه تبين لهم جداً أنهم لا طاقة لهم بـ قطز رحمه الله وبجنوده الأبرار، فأعطى رحمه الله إمارة حمص للأشرف الأيوبي الذي كان موالياً للتتار، ولكنه أظهر الندم والانكسار والتوبة وعاد إلى صف المسلمين، بل وانكسر بين أيديهم في موقعة عين جالوت كما أشار بذلك صارم الدين أيبك في الرسالة التي تحدثنا عنها في الدرس السابق، وأعطى قطز رحمه الله إمارة حلب لـ علا الدين بن بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل الذي كان والده بدر الدين لؤلؤ من أشد الموالين للتتار، ومات منذ شهور قليلة ولكن ابنه علاء الدين أظهر الولاء والانقياد لـ قطز رحمه الله، وأظهر الحمية للإسلام، فلم يجعل قطز رحمه الله التاريخ الأسود لأبيه حائلاً عن تقليده علاء الدين إمارة حلب، فقد كان يقدر كل رجل بقدره، وأعطى إمارة حماة إلى صاحبها الأسبق الأمير المنصور، الذي قاتل مع القوات الإسلامية المشتركة في عين جالوت، واشترك منذ بداية الإعداد مع قطز رحمه الله، وعين الأمير جمال الدين آقوش الذي قتل كتبغاً كما فصلنا في الدرس السابق على فلسطين وغزة. وأما دمشق فقد عين عليها الأمير علم الدين سنجر الحلبي، وهكذا استقرت الأوضاع تماماً في بلاد الشام وفلسطين وقويت شوكة الإسلام، واختفى كل تهديد يمس المسلمين من النصارى أو اليهود. واستمر هذا الإعداد والترتيب قدر حوالي (25) يوماً، وفي يوم (26) من شهر شوال سنة (658هـ) يعني: بعد حوالي شهر كامل من يوم عين جالوت، بدأ السلطان قطز رحمه الله رحلة عودته إلى عاصمته القاهرة في مصر، فكثير من الأوضاع السياسية هناك تحتاج إلى استقرار وإدارة، وأصبحت دولة قطز رحمه الله تمتد من الفرات إلى حدود ليبيا، ولابد من إعادة تنسيق كثير من الأوراق. ولا ننسى أن قطز رحمه الله لم يمض عليه في الحكم حتى ذلك اليوم إلا أحد عشر شهراً فقط، فقد تولى الحكم في (24) من ذي القعدة سنة (657) من الهجرة، وها هو يعود في أواخر شهر شوال سنة (658) من الهجرة، فما زالت تنتظره آلاف الأعمال في مصر. وهكذا تم النصر المبين على التتار، واستيقظ المسلمون من الكابوس المزعج الذي آلمهم في كل السنوات الماضية.
__________________
|
#8
|
||||
|
||||
![]() - التتار من البداية إلى عين جالوت القضاء على التتار في بلاد الشام وعودة الهيبة (130) راغب السرجاني الأثر الثالث: عودة الهيبة للأمة الإسلامية بعد غياب دام أكثر من ستين سنة، فبعد أن كانت الأمة الإسلامية في أواخر القرن السادس الهجري في درجة عظيمة جداً من درجات النصر والفخر والسيادة، وذلك بعد انتصاري حطين في المشرق في فلسطين، والأرك في المغرب في الأندلس، حدث بعد ذلك انكسار شديد في حالة الأمة الإسلامية، وضاعت هيبتها، حتى بدأت الكلاب تنهش في جسدها، والأفاعي تجول بأرضها، ولكن بعد عين جالوت ألقي الجلال والمهابة على الأمة الإسلامية، حتى إن هولاكو الذي كان يستقر في تبريز في فارس، ومعه عدد ضخم جدًا من القوات التترية لم يفكر في إعادة احتلال بلاد الشام مرة أخرى، بل أقصى ما فعله هو إرسال حملة انتقامية أغارت على حلب، وسفكت دماء بعض أهلها كنوع من إثبات الوجود، والانتقام لقائده الشهير كتبغانوين، لكن هيبة الأمة الإسلامية وقرت في صدره، فلم يشأ أن يلقي بجيشه في مهلكة جديدة، وما فكر مرة ثانية في احتلال الشام، وهيبة الأمة لا تعود إلا بعين جالوت أو أشباهها، وصدق الخليفة الراشد العظيم عثمان بن عفان رضي الله عنه حين قال: إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. الأثر الرابع من آثار عين جالوت: فناء قوة التتار العسكرية في منطقة الشام وتركيا وفلسطين كما فصلنا، ولم يسمع عن التتار في هذه المنطقة لمدة عشرات السنين بعد ذلك، فقد اختفى القهر والظلم والبطش والتشريد، وأمن الناس على أرواحهم وأموالهم وأرضهم وأعراضهم، ولم يروع الناس أحد في هذه المناطق إلا بعد عين جالوت بأكثر من مائة وأربعين عاماً، حين دخل السفاح التتري الجديد تيمورلنك بلاد الشام، فاجتاح حلب ودمشق سنة (804) هجرية، وهذا الكلام إن شاء الله سنتكلم عليه بالتفصيل عند الحديث عن دولة المماليك في مجموعة خاصة بها من المحاضرات، وعند الحديث أيضاً عن الخلافة العثمانية العظيمة، ولكن ما يهمنا في هذا المجال هو أن موقعة عين جالوت الخالدة أمنت المسلمين (146) سنة كاملة.
__________________
|
#9
|
||||
|
||||
![]() - التتار من البداية إلى عين جالوت إعطاء الشرعية لدولة المماليك (131) راغب السرجاني الأثر الخامس لموقعة عين جالوت: إعطاء شهادة الميلاد الحقيقية لدولة المماليك العظيمة، فقد حملت هذه الدولة العظيمة راية الإسلام لمدة (270) سنة، وقد كانت بداية حكم المماليك منذ سنة (648) هجرية عند ولاية شجرة الدر، أي: قبل موقعة عين جالوت بعشر سنوات، ثم زوجها الملك المعز عز الدين أيبك المملوكي، ولكن عين جالوت هي التي أعطت الشرعية أمام جميع المسلمين لدولة المماليك، فقد حقق المماليك في غضون عشر سنوات انتصارين هائلين على أعداء الإسلام: الانتصار الأول: انتصار المنصورة وفارسكور على جيوش الصليبيين بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا. الانتصار الثاني: انتصار عين جالوت، ولئن كانت القيادة العامة لجيش المسلمين في موقعة المنصورة ثم في موقعة فارسكور قيادة أيوبية، فإن الجيش كان معتمداً في الأساس على المماليك، أما في عين جالوت فالانتصار كان مملوكياً خالصاً، فكانت القيادة مملوكية والجيش مملوكي، ولذلك شعر الجميع أن هؤلاء المماليك هم أقدر الناس على قيادة الأمة، فسلموا لهم. وهكذا نشأت الدولة المملوكية، وحملت على عاتقها صد هجمات أعداء الله عز وجل من تتار أو صليبيين، وكانت دولة جهادية في معظم فتراتها. ومع أن دولة المماليك حاولت أن تضفي شرعية على وجودها بصورة أكبر بعد ذلك حين استضافت أبناء بني العباس في القاهرة ابتداءً من سنة (659) هجرية بعد سنة من عين جالوت مباشرة، وفي عهد الظاهر بيبرس رحمه الله، إلا أن دولة المماليك لم تكن تمثل الخلافة الحقيقية للمسلمين؛ لأنها لم تكن في أقصى اتساعها تسيطر إلا على أجزاء محدودة من العالم الإسلامي، فكانت تسيطر على مصر والشام والحجاز واليمن وأجزاء من العراق وأجزاء من ليبيا، وأما بقية العالم الإسلامي فكان موزعاً بين طوائف شتى، ولم يجد المسلمون معنى الخلافة الحقيقية الجامعة لكل المسلمين، إلا بعد قيام الخلافة العثمانية العظيمة التي أعادت جمع المسلمين بعد سنوات من التفرق. وعلى العموم فدولة المماليك كانت أقوى دول المسلمين في فترة وجودها، وكانت أكثرها جدية، وأعظمها هيبة، ولذلك كثيراً ما يطلق المؤرخون على العهد الذي عاش فيه المماليك العهد المملوكي، متجاهلين بذلك كثيراً من الممالك والدول الصغيرة التي عاشت إلى جوار دولة المماليك. إذاً: فدولة المماليك ولدت ميلاداً حقيقياً بعد عين جالوت، وحملت راية الإسلام حوالي (270) سنة، إلى أن جاءت الخلافة العثمانية الكبرى، لتحمل راية المسلمين بقوة بعد دولة المماليك.
__________________
|
#10
|
||||
|
||||
![]() - التتار من البداية إلى عين جالوت أسباب النصر في عين جالوت (135) راغب السرجاني لا يفوتنا في هذا المقام أن نقف ونتدبر في أسباب هذا النصر العظيم في عين جالوت، وهي وقفة في غاية الأهمية. تكلمنا بالتفصيل في محاضرة سابقة على خطوات قطز رحمه الله في إعداد الأمة، وفي إعداد الجيش المنتصر، ونعيد في إيجاز شديد بعض الأسباب التي أخذ بها قطز ونجملها في هذا الحديث الآتي: السبب الأول وهو أعظم الأسباب: الإيمان بالله عز وجل، والاعتقاد الجازم بأن النصر لا يكون إلا من عند الله عز وجل؛ ولذلك اهتم قطز رحمه الله بالناحية الإيمانية عند الجيش والأمة، وعظم جداً دور العلماء، وحفز على حرب التتار من منطلق إسلامي، وليس من منطلق قومي أو عنصري، ولخص ذلك في عين جالوت بكلمته الموفقة: واإسلاماه! ولم يقل: وامصراه! أو واملكاه! أو واعروبتاه! فقد كانت الغاية واضحة جداً عند قطز رحمه الله، وكانت هويته إسلامية تماماً، فوضوح الرؤية ونقاء الهوية كان سبباً مباشراً من أسباب النصر، بل هو أعظمها على الإطلاق. وقد ظهر لنا بوضوح رسوخ هذا الأمر في نفس قطز رحمه الله عندما لجأ إلى الله عز وجل عند الأزمة الخطيرة في عين جالوت، حيث وقف متضرعاً يناجي ربه ويقول: يا الله! انصر عبدك قطز على التتار. فالدعاء هو العبادة، وهو اعتراف من العبد بعبوديته لله عز وجل، وإعلان صريح من العبد أنه محتاج لرب العالمين. وكان قطز رحمه الله يدرك في كل خطوة من خطوات إعداده أنه لن يفلح إلا إذا أراد الله عز وجل ذلك، ولابد أن يطلب من الله عز وجل باستمرار وبإلحاح وبخشوع وبتضرع أن ينصر الإسلام والمسلمين، فلم ينسب قطز رحمه الله النصر لنفسه ولو مرة واحدة، بل كان دائماً ينسبه إلى الله عز وجل؛ لأنه يعلم أنه قد طلب النصر من الله عز وجل كثيراً، وأن الله عز وجل قد تفضل وتكرم عليه وعلى المؤمنين بالنصر والتوفيق، فلله تعالى المنة والفضل. السبب الثاني وهو أيضاً هام جداً: الوحدة بين المسلمين، فالأمة المتفرقة لا تنصر، وقد حرص قطز رحمه الله منذ اليوم الأول لارتقائه عرش مصر أن يوحد المسلمين قدر ما يستطيع، فقد عفا عن المماليك البحرية وجمعهم مع المماليك المعزية، وراسل ملوك الشام الأيوبيين، وتقرب منهم، وضمهم إلى قواته، مع كونهم قد حاربوه قبل ذلك سنين طويلة، وضم الجنود الشامية والخوارزمية والمتطوعين إلى جيشه بغض النظر عن أصولهم وأعراقهم، ونجح في تحقيق ما كان يعتقد الكثيرون أنه من المستحيل، وهو الوحدة بين المسلمين. السبب الثالث: إذكاء روح الجهاد في الأمة، فقد تيقن قطز رحمه الله أن أهم السبل لاستعادة حقوق المسلمين هو الجهاد، وأنه وإن كان الإسلام دين السلام إلا أنه دين الجهاد والقوة والكرامة والعزة كذلك، وأدرك رحمه الله أن اختيار الحرب أحياناً يكون هو الاختيار الشريف الوحيد. السبب الرابع: الإعداد الجيد للمعركة، فقد أخذ قطز رحمه الله بكل الأسباب المادية لتقوية جيشه، من إعداد للسلاح، وتدريب للجنود، وترتيب للصفوف، ووضع الخطة المناسبة، واختيار المكان المناسب، وعقد الأحلاف الدبلوماسية المناسبة، وتهيئة الجو على أفضل ما يكون، ويكفي أن نذكر هنا بالصورة الجميلة البهية الرائعة التي كانت عليها جيوش المماليك في عين جالوت، وكأنها تتجه إلى عرض عسكري، وليس إلى معركة ضارية، ومن لم يعد العدة فلا شك أنه واهم، وليس هذا مخالفاً لشرع الله عز وجل، ولا مضاداً بأي صورة من الصور للتوكل على الله عز وجل؛ فالتوكل: هو الأخذ بالأسباب كاملة، واللجوء إلى الله عز وجل لجوءاً كاملاً كذلك. السبب الخامس: القدوة التي ضربها قطز رحمه الله لجنوده ولأمته في كل الأعمال، وتربية القدوة أفضل بآلاف المرات من تربية الخطب والمقالات. وقد كان قطز رحمه الله قدوة في كل شيء، فقد كان قدوة في أخلاقه وفي نظافة يده وفي جهاده وفي إيمانه وفي عفوه، وفي كل شيء. فلم يشعر الجنود أبداً بأنهم غرباء عن قطز، فقد نزل رحمه الله بنفسه إلى خندق الجنود وقاتل معهم، فكان حتماً أن يقاتلوا معه. السبب السادس: عدم موالاة أعداء الأمة، فلم يوال قطز رحمه الله التتار أبداً مع فارق القوة والإعداد بينهما، كما لم يوال أمراء النصارى في الشام أبداً مع احتياجه لذلك، وقد سقط الكثير من الزعماء قبله في مستنقع الموالاة للكفار، وكان منطلقهم في ذلك أن يجنبوا أنفسهم أساساً ثم شعوبهم كما يدَّعون ويلات الحروب، فارتكبوا خطأً شرعياً شنيعاً، بل أخطاءً مركبة، فتجنب الجهاد مع الحاجة إليه خطأ، وتربية الشعب على الخنوع لأعدائه هذا خطأ آخر، وموالاة العدو واعتباره صديقاً خطأ ثالث. وأما قطز رحمه الله فقد كان واضح الرؤية، وقد تحقق له هذا الوضوح في الرؤية بفضل تمسكه بشرع الله عز وجل، فلم يوال كافراً أبداً على حساب المسلمين. السبب السابع: بث روح الأمل في الجيش والأمة. فالأمة المحبطة من المستحيل أن تنتصر، فالإحباط والقنوط واليأس ليست أبداً من صفات المؤمنين، {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87]، فعمل قطز رحمه الله على رفع الروح المعنوية للجيش وللأمة، ووضح لهم أن نصر الله عز وجل للأمة التي سارت في طريقه عز وجل ليس أمراً محتملاً، بل هو أمر مؤكد يقيني، وهو أمر عقائدي كتبه الله، {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21]. السبب الثامن من أسباب النصر في عين جالوت: الشورى الحقيقية التي سار على هداها قطز رحمه الله في كل خطواته تقريباً، وأقصد بالشورى الحقيقية الشورى التي تسعى حقيقة للوصول إلى أفضل الآراء، لا التي تسعى إلى تثبيت وتدعيم وتأكيد رأي الزعيم، والشورى أصل من أصول الحكم في الإسلام، وليست أمراً تجميلياً أو تكميلياً، ولا يصلح لأمة تريد النهوض أن تهمل هذا الأمر الأصولي في الإسلام. السبب التاسع: توسيد الأمر إلى أهله، فقد ولى قطز رحمه الله أولئك الذين يتصفون بصفتين رئيسيتين وهما: الكفاءة، والأمانة، {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26]، أي: القوي في مجال عمله، المتفوق على أقرانه، السابق لهم المتقن لعمله المبدع فيه، والأمين الذي لا يضيع حق الله ولا حق العباد، ولا حق الأمة، ولا حق نفسه، فقد ولى قطز رحمه الله فارس الدين أقطاي الصغير رئاسة الجيش مع كونه من المماليك البحرية، وولى ركن الدين بيبرس على مقدمة جيش المسلمين في عين جالوت، مع كونه منافساً له، وصاحب تاريخ وقوة، وزعيماً للمماليك البحرية، وكذلك ولى رحمه الله أمراء الشام على بلادهم، ولم يول أصحابه وأقاربه، ومن كان على هذه الصورة فلابد أن ينصر، فمن حفظ الأمانة فلابد أن يحفظه رب العالمين سبحانه وتعالى. السبب العاشر وهو من أهم أسباب النصر: الزهد في الدنيا، وما فشل الزعماء الوهميون سواءً في زمان قطز، أو في زماننا، أو إلى يوم القيامة إلا بغرقهم في الدنيا وانغماسهم فيها، وما ظلموا شعوبهم، ووالوا أعداءهم إلا جرياً وراء المادة وسعياً وراء الدنيا. وقد رأينا في هذه السلسلة الذين تعلقوا بالدنيا كيف كانت حياتهم وطموحاتهم وأحلامهم، ثم كيف باعوا أنفسهم وشعوبهم وأخلاقهم، بل وعقيدتهم من أجل أغراض رخيصة جداً من أغراض الدنيا، ورأينا كيف عاشوا في ذلة ثم ماتوا في ذلة كذلك، فقد رأينا محمد بن خوارزم، وجلال الدين بن خوارزم، والمستعصم بالله، وبدر الدين لؤلؤ، والناصر يوسف الأيوبي وغيرهم وغيرهم، كل هؤلاء عاشوا في ذلة وماتوا في ذلة. وأما قطز رحمه الله فقد فطن إلى هذا المرض الذي ابتلي به هؤلاء الضعفاء فزهد فيه وتجنبه، وعلم أن متاع الدنيا مهما زاد فهو قليل، وأن نعيمها مهما كان له بريق فهو زائل ومنقطع، فلذلك لم يفتن بالدنيا لحظة، ولم يطمع فيها قيد أنملة، بل حرص على أن يبيع دنياه كلها، ويشتري الجنة، فترك المال الغزير الذي كان تحت يده، ولم يطمع فيه، وباع ما يملك ليجهز جيوش المسلمين المتجهة لحرب التتار، ولم يطمع في كرسي الحكم, فعرض القيادة على الناصر يوسف الأيوبي على ضحالة قدره إذا قبل بالوحدة بين مصر والشام، ولم يطمع رحمه الله في استقرار عائلي أو اجتماعي أو أمن وأمان، بل كرس حياته للجهاد والقتال على صعوبته وخطورته، بل لم يطمع في طول حياة، فقد خرج بنفسه وهو الشاب الصغير على رأس الجيوش ليحارب التتار في حرب مهلكة، ولا شك أنه كان يعلم أنه سيكون أول المطلوبين للقتل، لكنه كان مشتاقاً بصدق إلى الجهاد، ومتمنياً للموت في سبيل الله، فقد كان زاهداً حقاً في الدنيا، ولم يتردد لحظة، وكانت حياته تطبيقاً عملياً جداً لكل كلماته؛ لذلك أعطاه الله عز وجل الدنيا التي فر منها، وأعطاه الكرسي الذي زهد فيه، وأعطاه الغنائم الهائلة والمال الوفير الذي لم يحرص عليه أبداً، فعاش رحمه الله عزيزاً شريفاً، رافعاً رأسه، معزاً لدينه، محبوباً من شعبه، مرهوباً من أعدائه. فرحم الله هذا العلم الجليل والقائد الفذ قطز الذي تعلمنا منه وما زلنا نتعلم كيف يعيش المسلم بالقرآن، وكيف تخالط كلمات الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم كل ذرة في كيانه. ونسأل الله عز وجل أن يصلح آخرته كما أصلح دنياه، وأن يعزه أمام الخلائق يوم العرض الأكبر، كما أعزه في عين جالوت، وأن يكتب اسمه في سجل الصادقين المخلصين المجاهدين، كما كتب اسمه قبل ذلك في سجل الخالدين. هذه هي أسباب النصر في هذه الموقعة الجليلة. نسأل الله عز وجل أن ييسر لنا تحقيقها حتى نرى رجلاً أو رجالاً كـ قطز، وحتى ننعم بنصر أو انتصارات كعين جالوت، وما ذلك على الله بعزيز. كما نسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يجعل لنا في التاريخ عبرة، إنه ولي ذلك والقادر عليه. {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44]. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |