|
|||||||
| ملتقى الحوارات والنقاشات العامة قسم يتناول النقاشات العامة الهادفة والبناءة ويعالج المشاكل الشبابية الأسرية والزوجية |
![]() |
|
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
|
|
#1
|
||||
|
||||
|
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (93) دين إبراهيم وهو دين جميع الأنبياء واحد وهو قائم على الوحي المُنَزَّل (13) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا . وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا . رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (النساء: 163-165). قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وهذا مع أني دائمًا ومَن جالسني يعلم ذلك أني من أعظم الناس نهيًا عن أن يُنسَب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية؛ إلا إذا عُلِم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي مَن خالفها كان كافرًا تارة، وفاسقًا أخرى وعاصيًا أخرى، وأني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية" (مجموع الفتاوى). وقال أيضًا: "لكن ليس كلُّ مَن تكلَّم بالكفر يكفر حتى تقوم عليه الحجة المثبتة لكفره، فإذا قامت عليه الحجة كفر حينئذٍ" (مجموع الفتاوى). وقال أيضًا: "وليس لأحدٍ أن يكفِّر أحدًا من المسلمين، وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة، وتُبَيَّن له المحجة، ومَن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة" (مجموع الفتاوى). وقال أيضًا: "وإذا عرف هذا؛ فتفكير المعين من هؤلاء الجهال وأمثالهم بحيث يحكم عليه بأنه من الكفار لا يجوز الإقدام عليه؛ إلا بعد أن تقوم على أحدهم الحجة الرسالية التي يثبت بها أنهم مخالفون للرسل، وإن كانت هذه المقالة لا ريب أنها كفر" (مجموع الفتاوى). وقال أيضًا: "فإن هذا فيه تعطيل صفات الخالق وجحد كماله، ما هو مِن أعظم الإلحاد وهو قول الجهمية الذين كفَّرهم السلف والأئمة تكفيرًا مطلقًا، وإن كان الواحد المعين لا يكفَّر إلا بعد قيام الحجة التي يكفر تاركها" (مجموع الفتاوى). وقال أيضًا: "ومَن قال: إن لقول هؤلاء سرًّا خفيًّا وباطنَ حقٍّ، وأنه من الحقائق التي لا يطلع عليها إلا خواص خواص الخلق؛ فهو أحد رجلين: إما أن يكون من كبار الزنادقة أهل الإلحاد والمحال، وإما أن يكون من كبار أهل الجهل والضلال؛ فالزنديق يجب قتله، والجاهل يُعَرَّف حقيقة الأمر، فإن أصر على هذا الاعتقاد الباطل بعد قيام الحجة عليه وَجَب قتله" (مجموع الفتاوى). وقال أيضًا: "ونحن نعلم بالضرورة: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحدًا من الأحياء والأموات، ولا الأنبياء، ولا الصالحين، ولا غيرهم؛ لا بلفظ الاستغاثة، ولا بغيرها، ولا بلفظ الاستعانة، ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت ولا إلى ميت، ونحو ذلك، بل نعلم أنه نهى عن ذلك كله، وأنه من الشرك الذي حرَّمه الله ورسوله، لكن لغلبة الجهل، وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين، لم يمكن تكفيرهم بذلك، حتى يبيَّن لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم" (مجموع الفتاوى). ومما ذكر رحمه الله تعالى في معرض جوابه عن السؤال التالي: ما تقول السادة العلماء أئمة الدِّين رضي الله عنهم أجمعين، في قوم يعظِّمون المشايخ، بكون أنهم يستغيثون بهم في الشدائد، ويتضرعون إليهم، ويزورون قبورهم ويقبلونها ويتبركون بترابها، ويوقدون المصابيح طوال الليل، ويتخذون لها مواسم يقدِمون عليها من البعد يسمونها ليلة المحيا، فيجعلونها كالعيد عندهم، وينذرون لها النذور ويصلون عندها. قوله: "الحمد لله رب العالمين، مَن استغاث بميت أو غائب من البشر بحيث يدعوه في الشدائد والكربات، ويطلب منه قضاء الحوائج، فيقول: يا سيدي الشيخ فلان! أنا في حسبك وجوارك؟ أو يقول عند هجوم العدو عليه: يا سيدي فلان، يَستوحِيْه ويستغيث به؟ أو يقول ذلك عند مرضه وفقره، وغير ذلك من حاجاته؛ فإن هذا ضال جاهل مشرك عاصٍ لله باتفاق المسلمين؛ فإنهم متفقون على أن الميت لا يُدعَى ولا يطلب منه شيء؛ سواء كان نبيًّا، أو شيخًا، أو غير ذلك... وهذا الشرك إذا قامت على الإنسان الحجة فيه ولم ينتهِ، وجب قتله كقتل أمثاله من المشركين، ولم يدفن في مقابر المسلمين، ولم يُصلَّ عليه، وأما إن كان جاهلًا لم يبلغه العلم، ولم يعرف حقيقة الشرك الذي قاتل عليه النبي صلى الله عليه وسلم المشركين، فإنه لا يحكم بكفره، ولا سيما وقد كثر هذا الشرك في المنتسبين إلى الإسلام، ومَن اعتقد مثل هذا قربة وطاعة؛ فإنه ضال باتفاق المسلمين، وهو بعد قيام الحجة كافر. والواجب على المسلمين عمومًا، وعلى ولاة الأمور خصوصًا: النهي عن هذه الأمور، والزجر عنها بكلِّ طريق، وعقوبة مَن لم ينتهِ عن ذلك العقوبة الشرعية. والله أعلم" (جامع المسائل). وقال رحمه الله تعالى: "ومنهم مَن يطلب مِن الميت ما يطلب مِن الله فيقول: اغفر لي، وارزقني، وانصرني، ونحو ذلك كما يقول المصلي في صلاته لله تعالى، إلى أمثال هذه الأمور التي لا يشك مَن عرف دين الإسلام أنها مخالفة لدين المرسلين أجمعين، فإنه مِن الشرك الذي حرَّمه الله ورسوله، بل من الشرك الذي قاتل عليه الرسول صلى الله عليه وسلم المشركين، وأن أصحابها إن كانوا يعذرون بالجهل، وأن الحجة لم تقم عليهم، كما يعذر مَن لم يبعث إليه رسول، كما قال تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) (الإسراء: 15). وقال: "كذلك مَن دعا غير الله وحج إلى غير الله؛ هو أيضًا مشرك، والذي فعله كفر، لكن قد لا يكون عالمًا بأن هذا شرك محرم، كما أن كثيرًا من الناس دخلوا في الإسلام من التتار وغيرهم، وعندهم أصنام لهم صغار من لبد وغيره، وهم يتقرَّبون إليها ويعظمونها، ولا يعلمون أن ذلك محرم في دين الإسلام، ويتقربون إلى النار أيضًا، ولا يعلمون أن ذلك محرَّم، فكثير مِن أنواع الشرك قد يخفى على بعض مَن دخل في الإسلام ولا يعلم أنه شرك، فهذا ضال وعمله الذي أشرك فيه باطل، لكن لا يستحق العقوبة حتى تقوم عليه الحجة، قال تعالى: (فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة: 22)". وقال رحمه الله: "والتحقيق في هذا: أن القول قد يكون كفرًا كمقالات الجهمية الذين قالوا: إن الله لا يتكلم، ولا يُرى في الآخرة! ولكن قد يخفى على بعض الناس أنه كفر، فيُطلَق القول بتكفير القائل كما قال السلف: مَن قال: القرآن مخلوق فهو كافر، ومَن قال: إن الله لا يرى في الآخرة فهو كافر، ولا يُكَفَّر الشخص المعيَّن حتى تقوم عليه الحجة" (مجموع الفتاوى). وللحديث بقية إن شاء الله.
__________________
|
|
#2
|
||||
|
||||
|
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (94) دين إبراهيم وهو دين جميع الأنبياء واحد وهو قائم على الوحي المُنَزَّل (14) كتبه/ ياسر برهامي قال الله -تعالى-: (رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (النساء: 165). نُقُول أهل العلم في شروط إقامة الحجة الرسالية قبل تكفير المعين: قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "ففي الجملة: الأجر هو على اتباعه الحق بحسب اجتهاده، ولو كان في الباطن حق يناقضه هو أولى بالاتباع لو قَدَر على معرفته، لكنه لم يقدر؛ فهذا كالمجتهدين في جهة الكعبة، وكذلك كل من عبد عبادة نهي عنها ولم يعلم بالنهي، لكنها من جنس المأمور به، مثل مَن صلَّى في أوقات النهي وبلغه الأمر العام بالصلاة ولم يبلغه النهي، أو تمسك بدليل خاص مرجوح، مثل: صلاة جماعة من السلف ركعتين بعد العصر؛ لأن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- صلاهما. ومثل صلاة رويت فيها أحاديث ضعيفة أو موضوعة كألفية نصف شعبان وأول رجب وصلاة التسبيح، كما جوزها ابن المبارك، وغير ذلك -(قلتُ: أما صلاة التسابيح؛ فقد صحح أحاديثها جماعة من العلماء، وهي ليست في الضَّعْف مثل: ألفية نصف شعبان وأول رجب؛ فإنها موضوعة بلا شك، أما صلاة التسابيح فحديثها حسنة، وإن كان غيرها أولى منها إذا كان فيها تطويل للقراءة، وأما مَن لا يحسن تطويل القراءة؛ فصلاة التسابيح مشروعة له)-. قال: فإنها إذا دخلت في عموم استحباب الصلاة ولم يبلغه ما يوجب النهي أُثِيب على ذلك، وإن كان فيها نهي من وجه لم يعلم بكونها بدعة تُتخذ شعارًا، ويُجتمع عليها كل عام؛ فهو مثل أن يحدث صلاة سادسة؛ ولهذا لو أراد أن يصلي مثل هذه الصلاة بلا حديثٍ لم يكن له ذلك، لكن لما روي الحديث اعتقد أنه صحيح فغلط في ذلك؛ فهذا يغفر له خطؤه ويُثَاب على جنس المشروع، وكذلك مَن صام يوم العيد ولم يعلم بالنهي، بخلاف ما لم يشرع جنسه مثل الشرك، فإن هذا لا ثواب فيه وإن كان الله لا يعاقب صاحبه إلا بعد بلوغ الرسالة، كما قال -تعالى-: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) (الإسراء: 15)، لكنه وإن كان لا يعذب؛ فإن هذا لا يُثَاب، بل هذا كما قال -تعالى-: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا) (الفرقان: 23)، قال ابن المبارك: هي الأعمال التي عُمِلَت لغير الله. وقال مجاهد: هي الأعمال التي لم تُقبَل. وقال -تعالى-: (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ) (إبراهيم: 18). فهؤلاء أعمالهم باطله لا ثواب فيها، وإذا نهاهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- عنها فلم ينتهوا عُوقِبوا، فالعقاب عليها مشروط بتبليغ الرسول، وأما بطلانها في نفسها؛ فلأنها غير مأمور بها، فكل عبادة غير مأمور بها؛ فلا بد أن يُنهَى عنها، ثم إن علم أنها منهي عنها وفعلها استحق العقاب، فإن لم يعلم لم يستحق العقاب، وإن اعتقد أنها مأمور بها وكانت مِن جنس المشروع فإنه يُثَاب عليها، وإن كانت من جنس الشرك فهذا الجنس ليس فيه شيء مأمور به، لكن قد يحسَب بعض الناس في بعض أنواعه أنه مأمور به، وهذا لا يكون مجتهدا؛ لأن المجتهد لا بد أن يتبع دليلًا شرعيًّا، وهذه لا يكون عليها دليل شرعي، لكن قد يفعلها باجتهاد مثله، وهو تقليده لمن فعل ذلك من الشيوخ والعلماء، والذين فعلوا ذلك قد فعلوه؛ لأنهم رأوه ينفع أو لحديث كذب سمعوه، فهؤلاء إذا لم تقم عليهم الحجة بالنهي لا يعذبون، وأما الثواب بالتقرب إلى الله فلا يكون بمثل هذه الأعمال" (مجموع الفتاوى، 20 / 32-32). (قلتُ: ومعنى قوله: "قد يكون ثوابهم أنهم أرجح من أهل جنسهم"؛ يعني بذلك أن أهل الكتاب مع كفرهم أرجح من عُبَّاد الأوثان، وكلهم من جنس واحد في الشرك، لكن الذين يقرون بالوحدانية في الجملة وبالنبوة والكتب المنزَّلة، أرجح من جنسهم، وأهون شرًّا منهم). وقال -رحمه الله-: "ومَن أثبت لغير الله ما لا يكون إلا لله فهو أيضًا كافر، إذا قامتْ عليه الحجة التي يكفر تاركها" (مجموع الفتاوى 1 /112). وقال -رحمه الله-: "وهكذا الأقوال التي يُكفَّر قائلها قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون عنده ولم تثبت عنده، أو لم يتمكَّن مِن فهمها، وقد يكون قد عَرَضَت لها شبهات يعذره الله بها، فمَن كان مِن المؤمنين مجتهدًا في طلب الحق وأخطأ فإن الله يغفر له خطأه كائنًا ما كان؛ سواء كان في المسائل النظرية أو العملية؛ هذا الذي عليه أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وجماهير أئمة الإسلام، وما قسموا المسائل إلى مسائل أصول يكفَّر بإنكارها ومسائل فروع لا يكفَّر بإنكارها؛ فأما التفريق بين نوع وتسميته مسائل الأصول وبين نوع آخر وتسميته مسائل الفروع؛ فهذا الفرق ليس له أصل لا عن الصحابة، ولا عن التابعين لهم بإحسان، ولا أئمة الإسلام، وإنما هو مأخوذ عن المعتزلة وأمثالهم مِن أهل البدع وعنهم تلقَّاه مَن ذكره مِن الفقهاء في كتبهم" (مجموع الفتاوى 23/ 346). قلتُ: (وهذا النقل والذي قبله واضح تمام الوضوح في بيان أن العذر بالجهل في أحكام الدنيا كما هو في أحكام الآخرة؛ فهو يتكلم عن التكفير وعن العقوبة في الآخرة، وفي هذا الرد الواضح على مَن يزعمون أن العذر بالجهل يكون في أحكام الآخرة دون أحكام الدنيا، فيحكمون على مَن نطق الشهادتين أو وُلِد مسلمًا وثَبَت له الإسلام ووقع في أشياء من الشرك جاهلًا بأنه كافر في الدنيا ويعامل كالكفار، ويكون في أحكام الآخرة معذورًا ممتحنًا فهذا الكلام باطل يخالف ما نَصَّ عليه شيخُ الإسلام بناءً على ما ثَبَت من الأدلة التي سبق أن ذكرناها في أول هذه المسائل. ثم هو ينص على أن بدعة تقسيم المسائل في قضية العذر بالجهل وإقامة الحجة، إلى مسائل أصول ومسائل فروع، كما يقوله بعض أهل زماننا مِن أن مسائل الشرك لا يُعذَر فيها بالجهل ولو ثبت أنه لم تقم عليه الحجة، وإنما العذر بالجهل في المسائل الخفية؛ هذا القول باطل مأخوذ عن المعتزلة، ليس عند أئمة السنة. وإن كان التقسيم إلى مسائل أصول وفروع؛ لتسهيل التعلُّم، وتوضيح الأقسام، تقسيم اصطلاحي لا مشاحة فيه طالما لم يبنى عليه حكم، أما أن يبني عليه حكم فيقال هذه المسائل لا عذر بالجهل فيها، ولا تلزم إقامة الحجة الرسالية فيها؛ فهذا القول باطل محدث لا شك في بدعته). قال -رحمه الله-: "والخطأ المغفور في الاجتهاد هو في نوعي المسائل الخبرية والعلمية، كمَن اعتقد ثبوت شيء لدلالة آية أو حديث، وكان لذلك ما يعارضه ويبيِّن المراد، ولم يعرفه، مثل مَن اعتقد أن الذبيح إسحاق لحديث اعتقد ثبوته، أو اعتقد أن الله لا يُرَى؛ لقوله -تعالى-: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ) (الأنعام: 103)، ولقوله: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) (الشورى: 51)، كما احتجت عائشة بهاتين الآيتين على انتفاء الرؤية في حق النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإنما يدلان بطريق العموم. وكما نُقِل عن بعض التابعين: أن الله لا يُرَى وفسَّروا قوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ . إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) (القيامة: 22-23)، بأنها تنتظر ثواب ربها، كما نقل عن مجاهد وأبي صالح، أو مَن اعتقد أن الميت لا يعذَّب ببكاء الحي؛ لاعتقاده أن قوله: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (الأنعام: 164) يدل على ذلك؛ وأن ذلك يقدَّم على رواية الراوي؛ لأن السمع يغلط، كما اعتقد ذلك طائفة من السلف والخلف، أو اعتقد أن الميت لا يسمع خطاب الحي؛ لاعتقاده أن قوله: (فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى) (الروم: 52) يدل على ذلك.
__________________
|
|
#3
|
||||
|
||||
|
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (95) دين إبراهيم وهو دين جميع الأنبياء واحد وهو قائم على الوحي المُنَزَّل (15) كتبه/ ياسر برهامي قال الله -تعالى-: (رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (النساء: 165). ونستكمل في هذا المقال النقول عن أهل العلم في مسألة وجوب إقامة الحجة الرسالية، والعذر بالجهل الناشئ عن عدم البلاغ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله -عن طوائف من أهل البدع: كالخوارج، والرافضة، وغيرهم-: "وأما تكفيرهم وتخليدهم: ففيه أيضًا للعلماء قولان مشهوران، وهما روايتان عن أحمد. والقولان في الخوارج والمارقين من الحرورية والرافضة ونحوهم، والصحيح أن هذه الأقوال التي يقولونها التي يُعلَم أنها مخالفة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كفر، وكذلك أفعالهم التي هي من جنس أفعال الكفار بالمسلمين هي كفر أيضًا. وقد ذكرت دلائل ذلك في غير هذا الموضع، لكن تكفير الواحد المعين منهم، والحكم بتخليده في النار موقوف على ثبوت شروط التكفير وانتفاء موانعه، فإنا نطلق القول بنصوص الوعد والوعيد والتكفير والتفسيق، ولا نحكم للمعين بدخوله في ذلك العام حتى يقوم فيه المقتضي الذي لا معارض له. وقد بسطتُ هذه القاعدة في (قاعدة التكفير)؛ ولهذا لم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم بكفر الذي قال: (إذَا أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اسْحَقُونِي، ثُمَّ ذروني فِي الْيَمِّ فَوَاَللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ لَيُعَذِّبَنِي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ)، مع شكه في قدرة الله وإعادته؛ ولهذا لا يكفِّر العلماء مَن استحل شيئًا مِن المحرمات؛ لقرب عهده بالإسلام أو لنشأته ببادية بعيدة، فإن حكم الكفر لا يكون إلا بعد بلوغ الرسالة. وكثير مِن هؤلاء قد لا يكون قد بلغته النصوص المخالفة لما يراه، ولا يعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم بُعِث بذلك، فيطلق أن هذا القول كفر، ويكفِّر مَن قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها دون غيره. والله أعلم" (مجموع الفتاوى 28 /500-501). (قلتُ: وهذا دليل واضح على العذر بالجهل في مسائل التكفير في أحكام الدنيا والعذاب في الآخرة عند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله). وقال -رحمه الله-: "والتكفير هو مِن الوعيد؛ فإنه وإن كان القول تكذيبًا لما قاله الرسول -صلى الله عليه وسلم-، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة. ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة، وقد يكون الرجل لا يسمع تلك النصوص أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها، وإن كان مخطئًا. وكنتُ دائمًا أذكر الحديث الذي في الصحيحين في الرجل الذي قال: (إذَا أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اسْحَقُونِي، ثُمَّ ذروني فِي الْيَمِّ فَوَاَللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ لَيُعَذِّبَنِي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ، فَفَعَلُوا بِهِ ذَلِكَ فَقَالَ اللَّهُ لَهُ: مَا حَمَلَك عَلَى مَا فَعَلْت. قَالَ خَشْيَتُك: فَغَفَرَ لَهُ). فهذا رجل شك في قدرة الله، وفي إعادته إذا ذري، بل اعتقد أنه لا يعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلًا لا يعلم ذلك، وكان مؤمنًا يخاف الله أن يعاقبه، فغُفِر له بذلك" (مجموع الفتاوى 3/ 231). وقال أيضًا في الرد على البكري: "ولهذا كنت أقول للجهمية من الحلولية والنفاة الذين نفوا أن يكون الله تعالى فوق العرش: أنا لو وافقتكم كنتُ كافرًا؛ لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون؛ لأنكم جهال" (الرد على البكري 2/ 494). وبهذه النقول الواضحة عن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في مسائل من أصول العقيدة، وفي توحيد الألوهية، والأسماء والصفات تعرف خطأ مَن قال: إن العذر بالجهل مقصور على المسائل التي قد تخفى، مثل: مسائل المعاملات، وبعض شئون الصلاة! وكذلك مَن يجعل الناسَ في نحو مجاهل إفريقيا وغيرها ممَّن دخل في الإسلام وأتي بشيء من الشركيات معذورًا؛ بمعنى أن حكمه حكم أهل الفترة الذين يُمتحَنون في القيامة، كما قد يُفهَم مِن بعض فتاوى اللجنة الدائمة بالمملكة العربية السعودية قديمًا، فالظاهر، بل المنصوص عليه مِن كلام أهل العلم: التفرقة بين مَن دخل في الإسلام وصَدَّق الرسول صلى الله عليه وسلم إجمالًا ونطق الشهادتين، وبين مَن لم يدخل فيه أصلًا ممَّن لم تبلغه الدعوة ولم يأتِ بـ"لا إله إلا الله وأصل التوحيد"؛ فالذي دَخَل في الإسلام ونطق الشهادتين وصدَّق الرسولَ صلى الله عليه وسلم إجمالًا عنده أصل الإيمان والدين، والثاني كافر معذور لعدم بلوغ الرسالة؛ فلا يصح أن يجعل الأول من أهل الامتحان وهو قد آمن بالله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وما وقع فيه مِن الشرك؛ فإن حكمه يسقط في حقه؛ لعذره بعدم بلوغ الحجة الرسالية، ولو كان مُقَصِّرًا في طلب العلم -مع تمكُّنه من ذلك-؛ لكان آثمًا، لكن لا يُعَامَل معاملة الكافر. وأما قضية الخفاء والظهور التي اشترطها بعض مشايخ الدعوة النجدية -كالشيخ: أبي بطين غفر الله له-؛ فإن الظهور والخفاء أمر نسبي، فما يظهر لهؤلاء القوم يكون خافيًا عند آخرين، وما يظهر في هذا البلد يكون خافيًا في بلد أخرى وما يظهر لقوم نشأوا في وسط أهل البدع يختلف عن الذي ظهر لقوم نشأوا في وسط أهل السنة، وإن كنا لا نقصد بأن هذا الأمر نسبي: أن كلَّ الأمور كذلك، فلا يكون فيها مطلق، بل هناك ما يقطع ويقطع كل أحدٍ بانتشاره بين المسلمين، والذي لا يقبل دعوى الجهل فيه إلا بقرينة -كما سبق أن بيَّنَّا-، وذلك مثل: تعظيم القرآن، وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأن الدين عند الله الإسلام، ونحو ذلك مما انتشر علمه بين المسلمين؛ فمن كان ناشئًا اليوم في بلادنا ثم جحد وجوب الصلاة مثلًا أو بعضها -كمَن يفتي بأن الصلوات الخمس ليست واجبة، وإنما تجب صلاة في الصباح وفي المساء-؛ فهذا لا شك في كفره؛ لأنه مخالف للمعلوم للدِّين بالضرورة الذي انتشر علمه بين المسلمين. وكذلك مَن قال عن أحكام الإسلام في الجلد والرجم والقطع: إنها من نفايات القرون الوسطى الوحشية! أو قال بأن الزنا واللواط طالما كانا بالتراضي؛ فهو من حقوق الناس يجوز لهم أن يفعلوهما إذا تراضوا عليها؛ فلا شك في ردة مَن قال ذلك مِن ساعته؛ لأن الحجة بمثل ذلك قائمة على كلِّ أحدٍ، ولا يتصور خفاؤها. وفي بعض بلاد المسلمين التي انتشرت فيها دعوة التوحيد، والتحذير من شرك عبادة القبور، تكون هذه المسائل منتشرة في تلك البلاد؛ أما في غيرها، فكثير من بلاد المسلمين اليوم ينتشر فيها الجهل والتلبيس بالباطل مِن علماء سوء الذين يلبِّسون على العوام، وخاصة في مسائل الغلو في الصالحين، فيلتبس الأمر عندهم بحب الصالحين بالغلو فيهم وصرف العبادات لهم من دون الله، وكذلك قضية الحكم بالشريعة دون القوانين الوضعية؛ هناك في بعض البلاد -أو كثير منها- تلبيس على الناس في هذا الأمر، ونحو ذلك مما يشك فيه مَن خالط هؤلاء الناس، فلا يمكنه تكفير أعيانهم حتى تبلغهم الحجة الرسالية التي يكفر منكرها. والحجة الرسالية تنقسم إلى أقسام؛ فهناك الحجة التي انتشر علمها فهي مِن المعلوم من الدين بالضرورة، فهذه يكفر مخالفها، وهناك حجة رسالية قطعية غير معلومة من الدين بالضرورة كالتي انتشرت عند العلماء، لكن لم تبلغ عامة الناس؛ فهذه يضلل مَن خالفها ويبدع ويأثم؛ لأنه خالف أهل العلم وترك سؤالهم وقصر، وهناك حجة رسالية لم يُجمَع عليها وليست قطعية ككثير من مسائل الأحكام، وكل فريق يحتج بحجة رسالية بفهمه لنصوص الكتاب أو السنة، ومع ذلك فلا يضلل ولا يبدع المخالف؛ لأن هذه الحجة ليست قطعية ولا منتشرة العلم، وإنما هي محل اجتهاد. فالمقصود بالحجة الرسالية التي يكفر منكرها: النوع الأول، وهو المعلوم من الدين بالضرورة، والنوع الثاني إذا علمه صاحبه وأقر بعلمه؛ فهذا الذي يعامل بناءً على ذلك. والله أعلم. وللحديثة بقية إن شاء الله.
__________________
|
|
#4
|
||||
|
||||
|
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (97) دعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (1) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ . وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ . فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83). إن الدعوة إلى الله، وتوحيده وعبادته، والبراءة مِن كلِّ ما يُعبَد مِن دونه هي تكميل واجب لعقيدة المؤمن؛ طالما قدر على شيء من هذه الدعوة، كما قال الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف: 108)، وهذا المعنى العظيم قد وضَّحه وبيَّنه كلُّ الأنبياء صلوات الله وسلامهم عليهم؛ ليكونوا قدوة للمؤمنين عبر الزمان في دعوتهم وقيامهم بهذه المهمة العظيمة؛ التي بها يحافظون على أنفسهم ودينهم وهويتهم مما يُرَاد بها مِن تلبيس وطمس وتغيير؛ يريده الشيطان وأتباعه، كما توعَّد بني آدم فقال: (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ) (النساء: 119). وأشد هذا التغيير: تغيير الملة من الحنيفية إلى اليهودية، أو النصرانية، أو المجوسية، أو إلى ما هو أسوأ من ذلك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَثَلِ الْبَهِيمَةِ تُنْتَجُ الْبَهِيمَةَ، هَلْ تَرَى فِيهَا جَدْعَاءَ) (متفق عليه)، وفي رواية: (مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا عَلَى هَذِهِ الْمِلَّةِ... ) (رواه مسلم). وقد قام إبراهيم صلى الله عليه وسلم بهذا الواجب في جميع مراحل حياته، وفي كلِّ مكان نَزَل به؛ فمنذ كان فتى شابًا؛ دعا أباه وقومَه إلى الله وحده، وعبادته، وأظهر البراءة مِن ضلالهم وشركهم، وعبادتهم غير الله، ثم لما ذهب إلى مصر دعا إلى الله عز وجل، ولما ذهب إلى الشام وأقام بها في القدس دعا إلى الله عز وجل، ونشَّأ أولاده وأحفاده وأهله على توحيد الله سبحانه وتعالى. ولما أمره الله عز وجل أن يعمِّرَ مكة، عمَّرها على توحيد الله سبحانه وتعالى والبراءة من الشرك، وبنى بيته الحرام على ذلك، ووَرَّث أبناءه هذا الإسلام الذي جدَّده الرسول صلى الله عليه وسلم، وأكمله الله عز وجل لنا وارتضاه لنا دينًا، فاللهم لك الحمد كما تقول وخيرًا مما نقول، لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وإلى تفسير الآيات ثم فوائدها. قال ابن كثير رحمه الله: "قال الضحاك عن ابن عباس: إن أبا إبراهيم لم يكن اسمه آزر، وإنما كان اسمه تارح. رواه ابن أبي حاتم. (قلتُ: هذا أثر ضعيف منقطع؛ فإن الضحاك لم يلقَ ابن عباس). وروى بسنده عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ) يعني بآزر: الصنم، وأبو إبراهيم اسمه: تارح، وأمه اسمها: مَثَانِي، وامرأته: اسمها سارة، وأم إسماعيل اسمها: هاجر، وهي سرية إبراهيم. وهكذا قال غير واحد من علماء النَّسَب: إن اسمه تارح. وقال مجاهد والسدي: آزر اسم صنم. قلت: كأنه غلب عليه آزر؛ لخدمته ذلك الصنم، فالله أعلم. وقال ابن جرير: وقال آخرون: هو سب وعيب بكلامهم، ومعناه: معوج" ولم يسنده ولا حكاه عن أحدٍ. وقد قال ابن أبي حاتم: ذُكِر عن معتمر بن سليمان، سمعتُ أبي يقرأ: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ) قال: بلغني أنها أعوج، وأنها أشد كلمة قالها إبراهيم -عليه السلام-. ثم قال ابن جرير: والصواب أن اسم أبيه آزر. ثم أورد على نفسه قول النَّسَّابين أن اسمه تارح، ثم أجاب بأنه قد يكون له اسمان كما لكثيرٍ مِن الناس، أو يكون أحدهما لقبًا، وهذا الذي قاله جيد قوي، والله أعلم. (قلتُ: ونحن لا يلزمنا قول النَّسَّابين الذين لا يعتمدون على أسانيد بينهم وبين زمن إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وإنما هي حكايات أخذوها عن أهل الكتاب الذين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا نصدقهم ولا نكذبهم فيما لم يَرِد فيه عندنا عِلْم من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا ليس منه؛ لأن الكتاب قد نَصَّ على أن إبراهيم قد كَلَّم أباه آزر في المواضع المختلفة، فيجب التسليم لذلك، وعدم معارضته بقول النَّسَّابين). واختلف القراء في أداء قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ) فحكى ابن جرير عن الحسن البصري وأبي يزيد المدني، أنهما كانا يقرآن: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرُ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً) معناه: يا آزرُ، أتتخذ أصنامًا آلهة؟! وقرأ الجمهور بالفتح؛ إما على أنه عَلَم أعجمي لا ينصرف، وهو بدل من قوله: (لِأَبِيهِ) أو عطف بيان، وهو أشبه. وعلى قول مَن جعله نعتًا لا ينصرف أيضًا: كأحمر وأسود؛ فأما مَن زعم أنه منصوب؛ لكونه معمولًا لقوله: (أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا) تقديره: يا أبت، أتتخذ آزر أصنامًا آلهة؛ فإنه قول بعيد في اللغة، فإن ما بعد حرف الاستفهام لا يعمل فيما قبله؛ لأن له صدر الكلام، كذا قرَّره ابن جرير وغيره. وهو مشهور في قواعد العربية. والمقصود: أن إبراهيم عليه السلام وَعَظ أباه في عبادة الأصنام وزجره عنها، ونهاه فلم ينتهِ، كما قال: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً) أي: أتتأله لصنمٍ تعبده من دون الله؟! (إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ) أي: السالكين مسلكك (فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) أي: تائهين لا يهتدون أين يسلكون، بل في حيرة وجهل، وأمركم في الجهالة والضلال بيِّنٌ واضحٌ لكلِّ ذي عقلٍ سليمٍ. وقال تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا . يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا . يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا . يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا . قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا . قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا . وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا) (مريم: 41-48)، فكان إبراهيم عليه السلام، يستغفر لأبيه مدة حياته، فلما مات على الشرك وتبيَّن إبراهيم ذلك؛ رجع عن الاستغفار له وتبرأ منه، كما قال تعالى: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (التوبة: 114). وثبت في الصحيح: أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم (يَلْقَى أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَعَلَى وَجْهِ آزَرَ قَتَرَةٌ وَغَبَرَةٌ، فَيَقُولُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ لَا تَعْصِنِي، فَيَقُولُ أَبُوهُ: فَالْيَوْمَ لَا أَعْصِيكَ، فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: يَا رَبِّ إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَنْ لَا تُخْزِيَنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ؛ فَأَيُّ خِزْيٍ أَخْزَى مِنْ أَبِي الْأَبْعَدِ؟! فَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى: إِنِّي حَرَّمْتُ الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ ثُمَّ يُقَالُ: يَا إِبْرَاهِيمُ مَا تَحْتَ رِجْلَيْكَ فَيَنْظُرُ فَإِذَا هُوَ بِذِيخٍ -ضبع- مُلْتَطِخٍ فَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ) (رواه البخاري)" (انتهى من تفسير ابن كثير بتصرفٍ يسيرٍ). وللحديث بقية إن شاء الله.
__________________
|
|
#5
|
||||
|
||||
|
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (98) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (2) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ . وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ . فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83). قوله -تعالى-: (وَكَذَ?لِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ). قال ابن كثير -رحمه الله-: "أي: نبيِّن له وجه الدلالة في نظره إلى خلقهما على وحدانية الله عز وجل، في ملكه وخلقه، وأنه لا إله غيره، ولا رب سواه، كقوله: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) (يُونُسَ: 101)، وَقَالَ: (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) (الْأَعْرَافِ: 185)، وَقَالَ: (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) (سَبَأٍ: 9). فَأَمَّا مَا حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وعَطاء، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْر، والسُّدِّي، وَغَيْرِهِمْ قَالُوا -وَاللَّفْظُ لِمُجَاهِدٍ-: فُرِجَتْ لَهُ السَّمَوَاتُ، فَنَظَرَ إِلَى مَا فِيهِنَّ، حَتَّى انْتَهَى بَصَرُهُ إِلَى الْعَرْشِ، وَفُرِجَتْ لَهُ الْأَرْضُونَ السَّبْعُ، فَنَظَرَ إِلَى مَا فِيهِنَّ -وَزَادَ غَيْرُهُ-: فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى الْعِبَادِ عَلَى الْمَعَاصِي فَيَدْعُوَا عَلَيْهِمْ، فَقَالَ اللَّهُ لَهُ: إِنِّي أَرْحَمُ بِعِبَادِي مِنْكَ، لَعَلَّهُمْ أَنْ يَتُوبُوا وَيُرَاجِعُوا. وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَرْدُوَيه فِي ذَلِكَ حَدِيثَيْنِ مَرْفُوعَيْنِ، عَنْ مُعَاذٍ، وَعْلَيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَلَكِنْ لَا يَصِحُّ إِسْنَادُهُمَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ العَوْفي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) فَإِنَّهُ -تعالى- جَلا لَهُ الْأَمْرَ؛ سِرَّهُ وَعَلَانِيَتَهُ، فَلَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِ الْخَلَائِقِ، فَلَمَّا جَعَلَ يَلْعَنُ أَصْحَابَ الذُّنُوبِ، قَالَ اللَّهُ: إِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ هَذَا، فَرَدَّهُ اللَّهُ -كَمَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ- فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَشَفَ لَهُ عَنْ بَصَرِهِ، حَتَّى رَأَى ذَلِكَ عَيَانًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَنْ بَصِيرَتِهِ حَتَّى شَاهَدَهُ بِفُؤَادِهِ وَتَحَقَّقَهُ وَعَرَفَهُ، وَعَلِمَ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكَمِ الْبَاهِرَةِ وَالدَّلَالَاتِ الْقَاطِعَةِ، كَمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حَدِيثِ الْمَنَامِ: (أَتَانِي رَبِّي فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى؟ فَقُلْتُ: لَا أَدْرِي يَا رَبِّ، فَوَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ كَتِفِي، حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ أَنَامِلِهِ بَيْنَ ثَدْيِي، فَتَجَلَّى لِي كُلُّ شَيْءٍ وَعَرَفْتُ … ) وَذَكَرَ الْحَدِيثَ (رواه الترمذي، وصححه الألباني). وَقَوْلُهُ: (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) قِيلَ: "الْوَاوُ" زَائِدَةٌ، تَقْدِيرُهُ: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ، كَقَوْلِهِ: (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) (الْأَنْعَامِ: 55). وَقِيلَ: بَلْ هِيَ عَلَى بَابِهَا، أَيْ نُرِيهِ ذَلِكَ لِيَكُونَ عَالِمًا وَمُوقِنًا. وَقَوْلُهُ: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) أَيْ: تَغَشَّاهُ وَسَتَرَهُ (رَأَى كَوْكَبًا) أَيْ: نَجْمًا، (قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ) أَيْ: غَابَ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ: "الْأُفُولُ" الذَّهَابُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يُقَالُ: أَفَلَ النَّجْمُ يأفلُ ويأفِل أُفُولًا وأفْلا إِذَا غَابَ، وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ: مَصَابِيحُ لَيْسَتْ بِاللَّوَاتِي تَقُودُها نُجُومٌ وَلَا بِالْآفِلَاتِ الدَّوَالِكِ قَالَ: (قَالَ لَا أُحِبُّ الآفِلِينَ) قَالَ قَتَادَةُ: عَلِمَ أَنَّ رَبَّهُ دَائِمٌ لَا يَزُولُ، (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا) أَيْ: طَالِعَا (قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ . فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي) أَيْ: هَذَا الْمُنِيرُ الطَّالِعُ رَبِّي (هَذَا أَكْبَرُ) أَيْ: جِرْمًا مِنَ النَّجْمِ وَمِنَ الْقَمَرِ، وَأَكْثَرَ إِضَاءَةً. (فَلَمَّا أَفَلَتْ) أَيْ: غَابَتْ، (قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ) أَيْ: أَخْلَصْتُ دِينِيَ وَأَفْرَدْتُ عِبَادَتِي (لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ) أَيْ: خَلَقَهُمَا وَابْتَدَعَهُمَا عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ. (حَنِيفًا) أَيْ: فِي حَالِ كَوْنِي حَنِيفًا، أَيْ: مَائِلًا عَنِ الشِّرْكِ إِلَى التَّوْحِيدِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ). وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذَا الْمَقَامِ: هَلْ هُوَ مَقَامُ نَظَرٍ أَوْ مُنَاظَرَةٍ؟ فَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ مَقَامُ نَظَرٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ: (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ). وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: قَالَ ذَلِكَ حِينَ خَرَجَ مِنَ السَّرَبِ الَّذِي وَلَدَتْهُ فِيهِ أُمُّهُ، حِينَ تَخَوَّفَتْ عَلَيْهِ النَّمْرُودَ بْنَ كَنْعَانَ، لَمَّا أنْ قَدْ أُخْبِرَ بِوُجُودِ مَوْلُودٍ يَكُونُ ذَهَابُ مُلْكِكَ عَلَى يَدَيْهِ، فَأَمَرَ بِقَتْلِ الْغِلْمَانِ عامئذٍ. فَلَمَّا حَمَلَتْ أُمُّ إِبْرَاهِيمَ بِهِ وَحَانَ وَضْعُهَا، ذَهَبَتْ بِهِ إِلَى سَرَبٍ ظاهر البلد، فولدت فيه إِبْرَاهِيمَ وَتَرَكَتْهُ هُنَاكَ، وَذَكَرَ أَشْيَاءَ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ -كَمَا ذَكَرَهَا غَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ-. وَالْحَقُّ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- كَانَ فِي هَذَا الْمَقَامِ مُنَاظِرًا لِقَوْمِهِ، مُبَيِّنًا لَهُمْ بُطْلَانَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الْهَيَاكِلِ وَالْأَصْنَامِ؛ فَبَيَّنَ فِي الْمَقَامِ الْأَوَّلِ مَعَ أَبِيهِ خَطَأَهُمْ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ الْأَرْضِيَّةِ، الَّتِي هِيَ عَلَى صُورَةِ الْمَلَائِكَةِ السَّمَاوِيَّةِ، لِيَشْفَعُوا لَهُمْ إِلَى الْخَالِقِ الْعَظِيمِ الَّذِينَ هُمْ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ أَحْقَرُ مِنْ أَنْ يَعْبُدُوهُ، وَإِنَّمَا يَتَوَسَّلُونَ إِلَيْهِ بِعِبَادَةِ مَلَائِكَتِهِ، لِيَشْفَعُوا لَهُمْ عِنْدَهُ فِي الرِّزْقِ وَالنَّصْرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ. وَبَيَّنَ فِي هَذَا الْمَقَامِ خَطَأَهُمْ وَضَلَالَهُمْ فِي عِبَادَةِ الْهَيَاكِلِ، وَهِيَ الْكَوَاكِبُ السَّيَّارَةُ السَّبْعَةُ الْمُتَحَيِّرَةُ، وَهِيَ: الْقَمَرُ، وَعُطَارِدُ، وَالزَّهْرَةُ، وَالشَّمْسُ، وَالْمِرِّيخُ، وَالْمُشْتَرَى، وَزُحَلُ، وَأَشُدُّهُنَّ إِضَاءَةً وَأَشْرَقُهُنَّ عِنْدَهُمُ الشَّمْسُ، ثُمَّ الْقَمَرُ، ثُمَّ الزُّهَرَةُ؛ فَبَيَّنَ أَوَّلًا: أَنَّ هَذِهِ الزُّهْرَةَ لَا تَصْلُحُ لِلْإِلَهِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا مُسَخَّرَةٌ مَقَدَّرَةٌ بِسَيْرٍ مُعَيَّنٍ، لَا تَزِيغُ عَنْهُ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا وَلَا تَمْلِكُ لِنَفْسِهَا تَصَرُّفًا، بَلْ هِيَ جِرْمٌ مِنَ الْأَجْرَامِ خَلَقَهَا اللَّهُ مُنِيرَةً؛ لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكَمِ الْعَظِيمَةِ، وَهِيَ تَطْلُعُ مِنَ الْمَشْرِقِ، ثُمَّ تَسِيرُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ حَتَّى تَغِيبَ عَنِ الْأَبْصَارِ فِيهِ، ثُمَّ تَبْدُو فِي اللَّيْلَةِ الْقَابِلَةِ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ، وَمِثْلُ هَذِهِ لَا تَصْلُحُ لِلْإِلَهِيَّةِ. ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الْقَمَرِ فَبَيَّنَ فِيهِ مِثْلَ مَا بَيَّنَ فِي النَّجْمِ. ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الشَّمْسِ كَذَلِكَ، فَلَمَّا انْتَفَتِ الْإِلَهِيَّةُ عَنْ هَذِهِ الْأَجْرَامِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي هِيَ أَنْوَرُ مَا تَقَعُ عَلَيْهِ الْأَبْصَارُ، وَتَحَقَّقَ ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ الْقَاطِعِ، (قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) أَيْ: أَنَا بَرِيءٌ مِنْ عِبَادَتِهِنَّ وَمُوَالَاتِهِنَّ، فَإِنْ كَانَتْ آلِهَةً، فَكِيدُونِي بِهَا جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونَ، (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أَيْ: إِنَّمَا أَعْبُدُ خَالِقَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَمُخْتَرِعَهَا وَمُسَخِّرَهَا وَمُقَدِّرَهَا وَمُدَبِّرَهَا، الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ، وَخَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ وَإِلَهُهُ، كَمَا قَالَ -تعالى-: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (الْأَعْرَافِ: 54)" (انتهى من تفسير ابن كثير). قلتُ: والذي اختاره ابن كثير -رحمه الله- مِن أن إبراهيم عليه السلام كان مُنَاظِرًا لقومه، يقيم عليهم الحجة وليس ناظرًا باحثًا عن ربه -سبحانه-؛ هو الصواب؛ فهو كان يقول ذلك تعريضًا لإقامة الحجة على قومه. وللحديث بقية إن شاء الله.
__________________
|
|
#6
|
||||
|
||||
|
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (99) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (3) كتبه/ ياسر برهامي قال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ . وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ . فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83). قال ابن كثير رحمه الله بعد أن رجَّح أن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- كان مُنَاظِرًا لقومة، وليس ناظرًا باحثًا عن الله: "وكيف يجوز أن يكون إبراهيم ناظرًا في هذا المقام، وهو الذي قال الله في حقه: (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ . إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ) (الأنبياء:51-52) الآيات؟! وقال -تعالى-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل: 120-123)، (قلتُ: الاحتجاج بالآيتين ظاهر؛ لأن الله نَفَى عن إبراهيم أن يكون كان مِن المشركين؛ فَدَلَّ ذلك على أنه مِن أول أمره على رُشْدٍ، ولم يكن مِن المشركين قط على عموم الآية)، وقال -تعالى-: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (الأنعام: 161). وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ)، وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: قال الله -تعالى-: (قَالَ اللَّهُ إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ)، وقال الله في كتابه العزيز: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) (الروم: 30)، وقال -تعالى-: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى) (الأعراف: 172)، ومعناه على أحد القولين كقوله: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) -كما سيأتي بيانه- (قلتُ: القولُ الذي ذكره ابن كثير في أمر الميثاق أنه الفطرة؛ ليس صحيحًا، بل الصواب -الذي عليه السلف جميعًا-: أنه هناك ميثاق أخذه الله عز وجل على جميع بني آدم حين أخذهم من ظهر آدم، وأشهدهم على أنفسهم، وأخذ عليهم أن لا يشركوا به شيئًا، ومِن ضمنهم إبراهيم كما دَلَّ عليه العموم، وأَثَر هذا الميثاق هو الفطرة، وليس أن الميثاق هو الفطرة؛ لمخالفة ذلك لظاهر القرآن والسنة، بل لنصهما). قال: فإذا كان هذا في حقِّ سائر الخليقة، فكيف يكون إبراهيم الخليل -صلى الله عليه وسلم- الذي جعله الله (أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ناظرًا في هذا المقام؟! بل هو أولى الناس بالفطرة السليمة، والسجية المستقيمة بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بلا شك، ولا ريب. ومما يؤيِّد أنه كان في هذا المقام مناظرًا لقومه فيما كانوا فيه من الشرك، لا ناظرًا: قوله -تعالى-: (وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ) (الأنعام: 80). يقول -تعالى- عن خليلة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- حين جادله قومُه فيما ذهب إليه من التوحيد، وناظروه بِشُبَه من القول أنه قال: (أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ) أي: تجادلونني في أمر الله، وأنه لا إله إلا هو، وقد بَصَّرَني وهداني إلى الحق، وأنا على بينةٍ منه؟! فكيف ألتفت إلى أقوالكم الفاسدة وشبهكم الباطلة؟! وقوله: (وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا) أي: ومِن الدليل على بطلان قولكم فيما ذهبتم إليه: أن هذه الآلهة التي تعبدونها؛ لا تؤثِّر شيئًا، وأنا لا أخافها، ولا أباليها؛ فإن كان لها صنع، فكيدوني بها ولا تُنظِرون، بل عاجلوني بذلك. وقوله -تعالى-: (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا) استثناء منقطع؛ أي: لا يضر ولا ينفع إلا الله -عز وجل- (قلتُ: (إِلَّا) بمعنى لكن، أي لكن إن شاء ربي شيئًا مِن الضرر؛ فعندئذٍ يقع ذلك). (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا) أي: أحاط علمه بجميع الأشياء، فلا يخفى عليه خافية. (أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ) أي: فيما بيَّنته لكم، فتعتبرون أن هذه الآلهة باطلة، فتنزجروا عن عبادتها؟ وهذه الحجة نظير ما احتج به نبي الله هود -عليه السلام- على قومه عاد، فيما قص عنهم في كتابه حيث يقول: (قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ . إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ . إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (هود:53-56)، وقوله: (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ) أي: كيف أخاف من هذه الأصنام التي تعبدون من دون الله، (وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا) قال ابن عباس وغير واحد من السلف: أي: حجة، وهذا كقوله -تعالى-: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) (الشورى: 21)، وقال: (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ) (النجم: 23). وقوله: (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)أي: فأي الطائفتين أصوب؟ الذي عبد مَن بيده الضر والنفع أو الذي عبد مَن لا يضر ولا ينفع بلا دليل؟! أيهما أحق بالأمن من عذاب الله يوم القيامة؟! قال الله -تعالى-: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) أي: هؤلاء الذين أخلصوا العبادة لله وحده لا شريك له، ولم يشركوا به شيئًا؛ هم الآمنون يوم القيامة، المهتدون في الدنيا والآخرة. روى البخاري عن عبد الله، قال: لَمَّا نَزَلَتْ: (وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) قَالَ أَصْحَابُهُ: وَأَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟! فَنَزَلَتْ: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (لقمان: 13) (قلتُ: أي: نزلت أن يجيبهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بالآية التي كانوا يعلمونها قبل ذلك، كما دَلَّت عليه الروايات الأخرى في الصحيحين، وغيرهما). وروى الإمام أحمد بسنده عن عبد الله قال: "لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) شَقَّ ذَلِكَ على الناس، فقالوا: يا رسول الله أينا لم يَظْلِمُ نَفْسَهُ؟ قَالَ: (إِنَّهُ لَيْسَ الَّذِي تَعْنُونَ أَلَمْ تَسْمَعُوا مَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ إِنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ). وروى ابن أبي حاتم عن عبد الله قال: لَمَّا نَزَلَتْ: (وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالُوا: وَأَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لَيْسَ كما تظنون، إنما قال لِابْنِهِ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)، وروى عن عبد الله بن مسعود: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، فنزلت: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (رواه البخاري)، وفي لفظ قالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: (ليس بالذي تَعْنُونَ، أَلَمْ تَسْمَعُوا مَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ إِنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ)، ولابن أبي حاتم عن عبد الله مرفوعًا قال: (لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) قال: "بشرك". وقال وروي عن أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وأُبَي بن كعب، وسلمان، وحذيفة، وابن عباس، وابن عمر، وعمرو بن شرحبيل، وأبي عبد الرحمن السلمي، ومجاهد، وعكرمة، والنخعي، والضحاك، وقتادة، والسدي، وغير واحد، نحو ذلك. وللحديث بقية إن شاء الله.
__________________
|
|
#7
|
||||
|
||||
|
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (100) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (4) كتبه/ ياسر برهامي قال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّين َ. فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83). قال ابن كثير -رحمه الله-: "وقال ابن مردويه بسنده عن عبد الله قال: لما نزلت: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قيل لي: أنت منهم" (قلتُ: هذه فضيلة عظيمة لابن مسعود -رضي الله عنه-). وروى الإمام أحمد بسنده عن جرير بن عبد الله قال: "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَلَمَّا بَرَزْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ إِذَا رَاكِبٌ يُوضِعُ نَحْوَنَا -(قلتُ: أي: يسرع نحونا)-، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: كَأَنَّ هَذَا الرَّاكِبَ إِيَّاكُمْ يُرِيدُ. فَانْتَهَى إِلَيْنَا الرَّجُلُ، فَسَلَّمَ فَرَدَدْنَا عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ؟ قَالَ: مِنْ أَهْلِي وَوَلَدِي وَعَشِيرَتِي. قَالَ: فَأَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: أريدُ رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: فَقَدْ أَصَبْتَهُ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنِي مَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: تَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ. قَالَ: قَدْ أَقْرَرْتُ. قَالَ: ثُمَّ إن بَعِيرَه دَخَلَتْ يَدُهُ فِي جُحْرِ جُرْذَان، فَهَوَى بِعِيرُهُ -(قلتُ: أي: في جحر فئران فسقط بعيره)- وَهَوَى الرَّجُلُ، فَوَقَعَ عَلَى هَامَتِهِ فَمَاتَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: عَلَيَّ بِالرَّجُلِ. فَوَثَبَ إِلَيْهِ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ فَأَقْعَدَاهُ، فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُبِضَ الرَّجُلُ! قَالَ: فَأَعْرَضَ عَنْهُمَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ثم قَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَمَا رَأَيْتُمَا إِعْرَاضِي عَنِ الرَّجُلِ، فَإِنِّي رَأَيْتُ مَلَكَيْنِ يَدُسَّانِ فِي فِيهِ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ مَاتَ جَائِعًا، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: هَذَا مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) ثُمَّ قَالَ: دُونَكُمْ أَخَاكُمْ. قَالَ: فَاحْتَمَلْنَاهُ إِلَى الْمَاءِ، فَغَسَّلْنَاهُ وَحَنَّطْنَاهُ وَكَفَّنَّاهُ، وَحَمَلْنَاهُ إِلَى الْقَبْرِ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى جَلَسَ عَلَى شَفِير الْقَبْرِ، فَقَالَ: الْحِدُوا وَلَا تَشُقُّوا، فَإِنَّ اللَّحْدَ لَنَا وَالشَّقُّ لِغَيْرِنَا"، ثم رواه أحمد بنحوه، وقال فيه: "هذا ممَّن عَمِل قليلًا، وأجر كثيرًا". وروى ابن أبي حاتم بسنده عن ابن عباس قال: "كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي مَسِيرٍ سَارَهُ، إِذْ عَرَضَ لَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَقَدْ خَرَجْتُ مِنْ بِلَادِي وَتِلَادِي وَمَالِي لِأَهْتَدِيَ بِهُدَاكَ، وَآخُذَ مِنْ قَوْلِكَ، وَمَا بَلَغْتُكَ حَتَّى مَا لِي طَعَامٌ إِلَّا مِنْ خَضِر الْأَرْضِ، فاعْرِضْ عَلَيّ. فَعَرَضَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَبِلَ، فَازْدَحَمْنَا حَوْلَهُ، فَدَخَلَ خُفُّ بَكْرِهِ -(أي: بعيره)- فِي بَيْتِ جُرْذَان، فَتَرَدَّى الْأَعْرَابِيُّ، فَانْكَسَرَتْ عُنُقُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: صَدَقَ وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ، لَقَدْ خَرَجَ مِنْ بِلَادِهِ وَتِلَادِهِ وَمَالِهِ لِيَهْتَدِيَ بِهُدَايَ وَيَأْخُذَ مِنْ قَوْلِي، وَمَا بَلَغَنِي حَتَّى مَا لَهُ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ خَضِرِ الْأَرْضِ، أَسَمِعْتُمْ بِالَّذِي عَمِلَ قَلِيلًا وَأُجِرَ كَثِيرًا هَذَا مِنْهُمْ! أَسَمِعْتُمْ بِالَّذِينِ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ؟ فَإِنَّ هَذَا مِنْهُمْ. وفِي لَفْظٍ قَالَ: "هَذَا عَمِلَ قَلِيلًا وَأُجِرَ كَثِيرًا". وَرَوَى ابْنُ مَرْدُوَيه عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَخْبَرَة، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مِنْ أُعْطِيَ فَشَكَرَ، وَمُنِعَ فَصَبَرَ، وَظَلَمَ فَاسْتَغْفَرَ، وَظُلِمَ فَغَفَرَ. وَسَكَتَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَهُ؟ قَالَ: (أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ). وَقَوْلُهُ: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ) أَيْ: وَجَّهْنَا حُجَّتَهُ عَلَى قَوْمِهِ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: يَعْنِي بِذَلِكَ قَوْلَهُ: (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)، وَقَدْ صَدَّقَهُ اللَّهُ، وَحَكَمَ لَهُ بِالْأَمْنِ وَالْهِدَايَةِ فَقَالَ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ)؛ قُرِئَ بِالْإِضَافَةِ (نَرْفَعُ دَرَجَاتِ مَنْ نَشَاءُ)، وَبِلَا إِضَافَةٍ (نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ)، كَمَا فِي سُورَةِ يُوسُفَ -(قلتُ: أي: فيها أيضًا القراءتان بالإضافة وبالتنوين)-، وَكِلَاهُمَا قَرِيبٌ فِي الْمَعْنَى. وَقَوْلُهُ: (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) أَيْ: حَكِيمٌ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ، (عَلِيمٌ) أَيْ: بِمَنْ يَهْدِيهِ وَمَنْ يُضِلُّهُ، وَإِنْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَجُ وَالْبَرَاهِينُ، كَمَا قَالَ: (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ . وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ) (يونس: 96، 97)؛ وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ). ثم ذكر -تعالى- أنه وَهَب لإبراهيم إسحاق، بعد أن طَعَن فِي السِّنِّ، وَأَيِسَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ "سَارَةُ" مِنَ الْوَلَدِ، فَجَاءَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُمْ ذَاهِبُونَ إِلَى قَوْمِ لُوطٍ، فَبَشَّرُوهُمَا بِإِسْحَاقَ، فَتَعَجَّبَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَتْ: (يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ . قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) (هُودٍ: 72، 73)، فَبَشَّرُوهما مَعَ وُجُودِهِ بِنُبُوَّتِهِ، وَبِأَنَّ لَهُ نَسْلًا وَعَقِبَا، كَمَا قَالَ: (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) (الصَّافَّاتِ: 112)، وَهَذَا أَكْمَلُ فِي الْبِشَارَةِ، وَأَعْظَمُ فِي النِّعْمَةِ، وَقَالَ: (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ) (هُودٍ: 71) أَيْ: وَيُولَدُ لِهَذَا الْمَوْلُودِ وَلَدٌ فِي حَيَاتِكُمَا، فَتَقَرُّ أَعْيُنُكُمَا بِهِ كَمَا قَرَّتْ بِوَالِدِهِ، فَإِنَّ الْفَرَحَ بِوَلَدِ الْوَلَدِ شَدِيدٌ لِبَقَاءِ النَّسْلِ وَالْعَقِبِ، وَلَمَّا كَانَ وَلَدُ الشَّيْخِ وَالشَّيْخَةِ قَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ لَا يَعْقب لِضَعْفِهِ، وَقَعَتِ الْبِشَارَةُ بِهِ وَبِوَلَدِهِ بَاسِمِ "يَعْقُوبَ"، الَّذِي فِيهِ اشْتِقَاقُ الْعَقِبِ وَالذُّرِّيَّةِ، وَكَانَ هَذَا مُجَازَاةً لِإِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- حِينَ اعْتَزَلَ قَوْمَهُ وَتَرَكَهُمْ، وَنَزَحَ عَنْهُمْ وَهَاجَرَ مِنْ بِلَادِهِمْ ذَاهِبًا إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، فَعَوَّضَهُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، عَنْ قَوْمِهِ وَعَشِيرَتِهِ بِأَوْلَادٍ صَالِحِينَ مِنْ صُلْبِهِ عَلَى دِينِهِ، لِتَقَرَّ بِهِمْ عَيْنُهُ، كَمَا قَالَ -تَعَالَى-: (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلا جَعَلْنَا نَبِيًّا) (مريم: 49)، وَقَالَ هَاهُنَا: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلا هَدَيْنَا)" (تفسير ابن كثير، 3/ 297).
__________________
|
|
#8
|
||||
|
||||
|
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (102) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (6) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّين َ. فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83). الفائدة الرابعة: الوضوح في الدعوة إلى الله وبيان ضلال الباطل، ضرورة من ضرورات الدعوة الربانية، وقد صَرَّح إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه بأنه يراه وقومه في ضلال مبين؛ لأنه يتخذ الأصنام التي نحتوها آلهة، وهذه أول مراتب البراءة من الشرك، وهذا فيه أوضح الردِّ على زنادقة زماننا ممَّن يأبون وصف الملل المخالفة للدين الإسلامي بالضلال والكفر، بل يعتبرون مَن يفعل ذلك تكفيريًّا ومتطرفًا، وشاذًّا، إلى غير ذلك من الأقوال المنفِّرة للناس عن الحق بتسميته بغير اسمه، وتسمية الباطل بأنه مِن: الحرية، والمساواة، وغير ذلك! وشر من ذلك: التصريح بإيمان الكفار من اليهود والنصارى، وغيرهم، والمناداة بمساواة الأديان، وأن حقيقتها واحدة وإن عَبَدوا البقر وعبدوا الأشخاص: كبوذا، وعبدوا الصليب والمسيح، والأحبار والرهبان، وعزير؛ فكل ذلك حقيقته واحدة عندهم -نعوذ بالله من هذا الضلال-. بل بعضهم يتبرك بأصنامهم، ويهمس في أذن بقرتهم المقدسة! يطلب منها حاجته كما يطلبون، وبعضهم يصرح بجواز تسمية قتلاهم بالشهداء، وبعضهم يصلي عليهم صلاة الجنازة التي يصليها المسلمون، ويقرا فيها الفاتحة على أرواحهم، وهي التي تنص على ضلالهم! ولا شك أن القول بوحدة الأديان كفر صريح؛ لأنه يهدم شهادة: "أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم" مِن أصلها؛ إذ تصحيح ملة مَن يعبد غير الله يهدم شهادة: "أن لا إله إلا الله"، وتصحيح ملة مَن يكذِّب الرسول -صلى الله عليه وسلم- يهدم شهادة: "أن محمدًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، عند القائل بذلك؛ فلا بد لأهل العلم والدعوة أن يبينوا بكلِّ جلاء ووضوح: أن كلَّ ما يخالف دين الإسلام، هو ضلال مبين. الفائدة الخامسة: هذا الوضوح في بيان ضلال ملل الكفر لا ينافي حسنَ الأسلوب في الدعوة، كما قال -تعالى-: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل: 125)؛ لأن مطالبةَ الكفار بترك دينهم الباطل لا يعني أن نسبَّهم ونسبَّ آلهتهم إذا كان يترتَّب على ذلك المفسدة الراجحة، كما قال -تعالى-: (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) (الأنعام: 108). ولكن ليس معنى ذلك أن نوهمَ الناس باعترافنا بآلهتهم، أو صحة عبادتها، بل نتكلَّم بالكلام الحَسَن، نحو: "يا أبتِ، يا قومي، يا عمي"، كما قال إبراهيم -عليه السلام- لأبيه، وقالها كل الأنبياء -عليهم السلام- لأقوامهم: "يا قوم"، وقالها النبي -صلى الله عليه وسلم- لعمه: "يا عم"؛ تذكيرًا برابطة النَّسَب أو القومية، التي تقتضي مزيدَ النصح ورعاية الحق بالدعوة إلى الحق -سبحانه-، وكما قال نوح -عليه السلام- لابنه: (يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا) (هود: 42). وما أروعَ الأسلوب الذي استعمله مؤمن آل ياسين في التَّلَطُّف لبيان الحق في نسبة الكلام إلى نفسه في قوله -رضي الله عنه-: (وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ . أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ . إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ . إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) (يس: 22-25). فبيَّن الضلالَ الذي هم عليه منسوبًا إلى نفسه لو فعل فعلهم، وإبراهيم -صلى الله عليه وسلم- كان أوضح في التصريح بالضلال؛ لحاجتهم إلى ذلك التصريح في إقامة الحجة، كما كانوا يحتاجون حتى تتضحَ لهم الحجة في عجز الأصنام وعدم قدرتها في الدفاع عن نفسها إلى كسر الأصنام التي كسرها إبراهيم إلا كبيرًا لهم، لعلهم إليه يرجعون. وقوله -تعالى-: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ)، فيه فوائد: الأولى: أن الله خالق أفعال العباد، وخالق نَظَرِهم، وخالق قدرتهم، وخالق مشيئتهم؛ يري مَن شاء هدايته ملكَه -سبحانه- الظاهرَ تمام الظهور في السماوات والأرض، والله -سبحانه- كما أرى إبراهيم ضلالَ أبيه وقومه في عبادة الأصنام، فكذلك هو الذي أراه مُلْكَ الله في السماوات والأرض، ولتكون هذه الرؤيا من إبراهيم سببًا لحصول اليقين في قلبه بالوحدانية، فالله الذي أرى إبراهيم الذي رأى، وإبراهيم هو الذي أيقن، والله هو الذي جعله بهذه الأسباب التي هداه لها مِن الموقنين؛ فالعبد هو الفاعل لأفعاله، والله هو الذي جعله فاعلًا، فالعبد هو المهتدي والله هداه، والعبد هو الذي ضلَّ والله أضله، والله -عز وجل- خَلَقَ هذه النتائج بأسباب قدَّرها، وهو أيضًا الذي خلقها -سبحانه وتعالى-. فطريقة التفكير فيما يشاهده الإنسان مِن الكون حوله هبةٌ مِن الله ومِنَّة؛ إذا أراه أدلة ملكة في خلقها، ثم في تدبيرها. والخذلان -وهو خلق الضلال في قلب العبد- مِن خلقه أيضًا -سبحانه وتعالى-؛ فهو الذي خَذَل مَن خذل، وأضل مَن أضل؛ بحكمته، وعدله، وعلمه -سبحانه وتعالى- بالمهتدين، وعلمه بالظالمين، وعلمه بالشاكرين، وعلمه بما يناسب كل عبد؛ فهو يوفِّقه لما شاء كيف شاء، وهو -سبحانه- الذي يضع البذر الطيب في الأرض الطيبة، وهو الذي جَعَل الخبيث في الأرض النكدة؛ فلا يخرجُ إلا نكدًا، وهو سبحانه وتعالى الحكيم العليم، الحَكَم العَدْل، ومَن تأمل مظاهر أسمائه وصفاته في الكون أيقن بوحدانيته، وربوبيته، وإلهيته. والله المستعان.
__________________
|
|
#9
|
||||
|
||||
|
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (103) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (7) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّين َ. فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83). قوله -تعالى-: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ)، فيه فوائد: الثانية: إن طريقة التفكير فيما يشاهده الإنسان مِن الكون حوله هبة من الله -عز وجل- ومِنَّة وتوفيق؛ إذ أراه أدلة ملكه في السماوات والأرض، في خلقها ثم في تدبيرها لحظة بلحظة، بما يظهر للقلب معاينة آثار الملك، فهذه الكائنات تعجز عن خلق نفسها؛ إذ هي مدبَّرة في حركاتها وسكناتها، فالشمس التي نراها تشرق وتغرب هي كائن جماد لا يملك لنفسه شيئًا، وكذلك القمر، وهذه الأرض بما فيها من جبال منصوبة، وأرض مبسوطة، وأنهار جارية، وأمطار نازلة؛ كل قطرة منها بقدر نزلت في وقت محدد هي لم تحدده، واستقرت في باطن الأرض في مكان لم تحدده الأرض، ولا القطرة، ولا السحابة، أو جرت في مجرى النهر؛ هي لم تصنع أخدوده، ولا حددت قوانين قوى سير الماء واندفاعه! بل هذه الأجرام السماوية في دقتها وإتقانها مع كبر حجمها الهائل بالنسبة لنا، (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) (غافر: 57)؛ لها قوانينها في حركتها، وقَدْر يومها وليلها ونهارها وسنتها، وتكوين أجزائها وتربتها وغلافها الجوي، والتفاعلات الهائلة التي تفوق إدراكنا في باطنها؛ كتلك الانفجارات داخل الشمس، ففي كل ثانية يتولد منها طاقة هائلة تصل إلى جميع أجزاء المجموعة الشمسية بنسب متفاوتة، ولكنها مقدَّرة من حرارة وإشعاع، ونور، ومغناطيسية، وطاقات نووية، وغيرها، مما لا نحيط به علمًا؛ مما يجزم معه كلُّ عاقل بأن خالقها ومدبرها له كمال العلم، وكمال القدرة، وكمال الحكمة، وكمال الخبرة، وكمال العدل. وكذلك فيما يجري على الأرض من موت وحياة لا يملكها أعلى المخلوقات شأنًا، في العقل والقدرة، والعلم والإدراك، وهو: الإنسان؛ إذ هو لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياة، ولا نشورًا، وقطعًا هو لا يملك كذلك ضرًّا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا لما حوله مِن الكائنات الحية، وهي الموت والحياة يحدث فيها في كلِّ لحظة وفي كل دقيقة، وإن كان البعضُ قد يتصوَّر أنه يحيي ويميت، ولكنه مجرد سبب محدود للغاية، وأما مليارات عمليات الإحياء والإماتة فيستحيل أن ينسبها إنسان إلى نفسه، أو إلى غيره مِن الخلق، وهي موجودة أمامه يشهدها بكلِّ وضوح تقع في كلِّ أجزاء الأرض. وكذلك لوازم الحياة مِن: الهواء، والغذاء، والماء، واستعمال كل هذه الطاقات المبذولة بكلِّ إتقان في الانتفاع بها داخل أجساد هذه الكائنات من خلال ملايين المواد، وملايين التفاعلات في كلِّ لحظة وثانية في كل خلية من الخلايا، ثم كل في عضو من الأعضاء، ثم كل في كل جهاز من الأجهزة، ثم في انتظام الجسم كله بما لا يحيط به مخلوق ساعة حصوله في داخله؛ فضلًا عن غيره، وهو لا يملك من ذلك ذرة واحدة، ولا خلية واحدة، ولا يملك موتها ولا حياتها، ولا يملك حركة واحدة لا يطرف إلا بأمر خالقه ومدبره، ولا يمسك بيده، ولا يتحرك برجله، ولا يفكر بعقله إلا بإذن الغني الحميد، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ . إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ . وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ) (فاطر: 15-17). وكذلك الانتفاع بالغذاء والمواد الغذائية داخل الخلايا لتحترق؛ لتخرج الطاقة التي تحرِّك هذا المخلوق وتجعله يفكِّر ويتذكَّر، ويحفظ ويتعلم، ويحلل ويستنتج؛ بأدوات لم يصنعها هو، ولا يملك منها شيئًا، مثل: عقله، وقلبه، ويده ورجله، ومخه وعظمه، وشرايينه وأوردته، وأعصابه وعضلاته، وهو يرى ذلك أمامه كما يراه كل الناس؛ لكن مَن الذي انتفع بالنظرة؟! ومَن الذي نظر كالأبله أو الأعمى؛ لا يرى؟! (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) (الرعد: 16)، فالله الذي أرى مَن شاء ملكه في السماوات والأرض، وطَبَع على قلب مَن شاء فأضله بعدله وعلمه وحكمته؛ بإعراضه عن التفكير السديد، بعد أن أعطاه الله أدواته، فسبحانه وبحمده -ونسأل الله أن يهدينا فيمَن هدى مِن عباده الصالحين-. وقد ذكر الله -عز وجل- امتنانه على إبراهيم بأنه أراه ملكوت السماوات والأرض، وأنه بهذه الرؤيا صار مِن الموقنين: (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ)، وهذا اليقين إنما هو نابع مِن شهودٍ تامٍّ لربوبية الله -سبحانه وتعالى-، وأفعاله في الكون؛ التي يستحيل أن ينكرها أحدٌ، ويستحيل أن يدعيها أحدٌ، ويستحيل أن ينسبها أحدٌ إلى مجرد الصُّدَف العمياء، نعوذ بالله من الضلال! وهذا الأمر الذي لا يقبله عاقلٌ إذا وَجَد مجرد حفرية يسيرة في أدوات حَجَريَّة منذ ملايين السنين، بل يجعلها دليلًا قطعيًّا على وجود صانعٍ لها، هو الإنسان العاقل، وأن ذلك دليل على وجود الإنسان في ذلك العمر؛ لأن القرود -فضلًا عن الطيور، فضلًا عن الضفادع والأسماك- يستحيل بكلِّ حال من الأحوال أن تصنع هذه الأدوات الحجرية، وإذا وَجَد التماثيل عَلِم أنها من صنع اليونان أو الرومان أو الفراعنة، أو غيرهم؛ فدلَّ ذلك يقينًا عنده لا يحتمل التردد على وجود صانع لها؛ فكيف بهذا الكون العظيم الذي فيه هذه المعجزات الباهرة والأحداث التي تقع في كلِّ ثانية بكمال الإتقان والإحسان؟! فلا بد لها مِن صانع -سبحانه وتعالى-. ولذلك كانت هذه الطريقة هي التي يستعملها الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-؛ لأنها أقصر طريقة إلى اليقين، بعيدًا عن الجدل الكلامي، والمناقشات الفلسفية التي لا تُثمِن ولا تغني من جوع؛ قال الله -عز وجل- عن فرعون: (وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ . قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ . قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ . قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ . قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ . قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ) (الشعراء: 23-28). وقال -سبحانه وتعالى-: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (فصلت: 53)، وقال -سبحانه-: (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى) (إبراهيم: 10)، وقال -سبحانه وتعالى-: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى . الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى . وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى) (الأعلى: 1-3). هذه هي طريقة الكتاب والسنة، وطريقة عقلاء هذه الأمة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا شك أنها الطريقة الحقيقية التي يوصل بها إلى اليقين. نسأل الله أن يَمُنَّ علينا بكمال اليقين، وأن يزيدنا علمًا.
__________________
|
|
#10
|
||||
|
||||
|
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (104) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (8) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّين َ. فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83). قوله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّين َ. فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ). الفائدة الثالثة من فوائد الآيات الكريمة: دَلَّ قوله -تعالى-: (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) على عظم منزلة اليقين؛ إذ هو مِن منازل الأنبياء الذين يرقيهم الله -عز وجل- في رؤية ملكوته ليصلوا إليه. قال ابن القيم -رحمه الله-: (ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين: "منزلة اليقين"، وهو من الإيمان منزلة الروح من الجسد، وبه تفاضل العارفون، وفيه تنافس المتنافسون، وإليه شمر العاملون. وعَمَلُ القوم إنما كان عليه، وإشاراتهم كلها إليه، وإذا تزوج الصبر باليقين: وُلِد بينهما حصول الإمامة في الدين، قال الله -تعالى-، وبقوله يهتدي المهتدون: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة: 24). وخَصَّ -سبحانه- أهل اليقين بالانتفاع بالآيات والبراهين، فقال -وهو أصدق القائلين-: (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ) (الذاريات: 20)، (قلتُ: وقد دَلَّتِ الآيةُ على أنه لا يَرَى الآيات إلا الموقنون؛ لأن كلَّ الناس يرون ما يرون في الأرض من إحيائها بعد موتها، ونمو النبات فيها، ووجود الموت والحياة فيها وهم لا يعون أنها آيات، وإنما ينتفع بذلك مَن أيقن وحدانية الله). قال: وخَصَّ أهلَ اليقين بالهدى والفلاح من بين العالمين، فقال: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ . أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (البقرة: 4 - 5). (قلت: وهذه الآية دليل على وجوب اليقين بالآخرة، كما يجب اليقين بالله -عز وجل- ووحدانيته، ولا هدى إلا بذلك، وذلك يحصل في قلب العبد إذا صدَّق تصديقًا جازمًا لا شك فيه؛ فأول درجات اليقين: زوال الشك، ثم قد ينتقل إلى منزلة أعلى من مجرد زوال الشك التي يكون معه فيها احتمال الفتنة إذا فُتِن؛ فالذين في درجة زوال الشك كمُسْلِمَة الأعراب الذين قال الله -عز وجل- عنهم: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (الحجرات: 14-15). وكذلك هؤلاء الذين في منزلة زوال الشك فقط، دون أن يصلوا إلى مراتب اليقين الأعلى، مثل مَن قال الله فيهم: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) (الحج: 11)، فهؤلاء قبل الفتنة في حالٍ ناقصٍ من اليقين، لكن ليس عندهم الشك المحبط للإيمان، لكن إذا فُتِنوا افتتنوا، فزال عنهم الإيمان، والواجب على المؤمن إذا فُتِن أن لا يفتن؛ لأن يقينه يقاوم الشبهات التي يلقيها الشيطان عند الفتنة، فهؤلاء الذين إن أصابتهم فتنة انقلبوا على وجوههم، قد خَرَجوا من الإيمان عند الفتنة، وكذلك مِن هؤلاء مَن قال الله -عز وجل- عنهم مِن المنافقين: (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا) (الأحزاب: 14)، فهؤلاء قبل أن تُدخَل عليهم المدينة لم يكونوا كفارًا، ولا منافقين النفاق الأكبر، بل عندهم شعبة نفاق؛ لأن المنافقين النفاق الأكبر يفرحون بأن تُدخل عليهم المدينة، ولا يتوقفون عن إعطاء الشرك إذا طُلِب منهم، بل قبل أن يطلب منهم، وأما هؤلاء فإنهم يتوقفون قليلًا ثم يعطون ذلك، فإذا قدَّر الله أن لا تدخَل عليهم بقوا على إيمانهم الضعيف الذي لم يصل إلى درجات اليقين الواجبة. ثم بعد ذلك هناك درجة من اليقين والتصديق، هي درجة أعلى مِن ذلك، وهي درجة عدم الفتنة إذا اُفتُتِن وإن بقيتِ الوساوس؛ فالوساوس لا تقدح في أصل الإيمان، ولا الإيمان الواجب، بل هي تقدح في كماله؛ ولذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لمَن سأله: إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، قَالَ: (وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟) قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: (ذَاكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ) (رواه مسلم)، فالذي يدافع الوسوسة عنده اليقين الواجب، وأما مَن هو في المنزلة أعلى مِن ذلك؛ فهو الذي لا تأتيه الوساوس، وقد اطمئن قلبُه بأدلة اليقين. وأما ما هو أعلى مِن ذلك؛ فهو درجة المعاينة التي سألها إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- بقوله: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) (البقرة: 260)، والتي أعطاها الله نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- دون سؤالٍ؛ قال -تعالى-: (أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى . وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى . عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى . عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى . إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى . مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى . لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) (النجم: 12-18)؛ رأى جبريل -عليه السلام-، ورأى الجنة والنار في آياتٍ أراه الله -عز وجل- إياها). قال: وأخبر عن أهل النار: بأنهم لم يكونوا مِن أهل اليقين، فقال -تعالى-: (وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) (الجاثية: 32). فاليقين روح أعمال القلوب التي هي أرواح أعمال الجوارح، وهو حقيقة الصديقية، وهو قطب هذا الشأن الذي عليه مداره. وروى خالد بن يزيد عن السفيانين عن التيمي عن خيثمة عن عبد الله بن مسعود عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا ترضين أحدًا بسخط الله، ولا تحمدن أحدًا على فضل الله، ولا تذمن أحدًا على ما لم يؤتك الله؛ فإن رزق الله لا يسوقه إليك حرص حريص، ولا يرده عنك كراهية كاره، وإن الله بعدله وقسطه جَعَل الروح والفرح في الرضا واليقين، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط" (قلتُ: صحيح موقوفًا، وليس معناه: أن لا يشكر الإنسان الناس على ما أحسنوا إليه، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا يَشْكُرُ اللَّهَ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني)، ولكن المعنى أن لا تحمدهم على أنهم مصدر النعمة، وأنهم هم الذين تولوا إسداءها إليك من دون الله، وإنما هم أسباب يسرها الله -عز وجل- لكَ؛ لكي تصلك النعمة، وكذلك الذم على ما لم يؤتك الله؛ فأنت تنظر أولًا إلى أن هذا لم يكن لك برزق طالما فاتك؛ فإن (مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَأَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني)، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإنما يذم الناس على تقصيرهم: كالسارق الذي سَرَق من الناس ما لا يستحق، والغاش والمختلس والمغتصب؛ فكل هؤلاء مذمومون بلسان الشرع؛ نذمهم على ذلك، ولا نظن أنهم منعوا عنا رزق الله). قال: واليقين قرين التوكل؛ ولهذا فُسِّر التوكل بقوة اليقين. والصواب: أن التوكل ثمرته ونتيجته، ولهذا حَسُن اقتران الهدى به؛ قال الله -تعالى-: (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) (النمل: 79)، فالحق هو اليقين، وقالت رسلُ الله: (وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا) (إبراهيم: 12)، ومتى وصل اليقينُ إلى القلب؛ امتلأ نورًا وإشراقًا، وانتفى عنه كلُّ ريب وشك وسخط، وهم وغم؛ فامتلأ محبة لله وخوفًا منه، ورضًا به، وشكرًا له، وتوكلًا عليه، وإنابة إليه؛ فهو مادةُ جميع المقامات، والحاملُ لها. واختلف فيه: هل هو كسبي أو موهبي؟ (قلتُ: أي: هل يستطيع العبد أن يكتسبه أم هو مجرد هبة من الله؟). فقيل: هو العلم المستودع في القلوب؛ يشير إلى أنه غير كسبي. وقال سهل: اليقين من زيادة الإيمان، ولا ريب أن الإيمان كسبي. والتحقيق: أنه كسبي باعتبار أسبابه، موهبي باعتبار نفسه وذاته. (قلتُ: معناه: أن العبدَ عليه أن يأخذ بالأسباب التي يحصل بها اليقين مِن النظر في ملكوت السماوات والأرض، ثم الله -عز وجل- هو الذي يخلق اليقين في قلبه، على العبد أن ينظر في أدلة الكتاب والسنة التي تأخذ بالقلب إلى اليقين، ولكن الله -عز وجل- هو الذي يري العبد الآيات، وهو الذي يهدي مَن يشاء إلى صراط مستقيم). وقد ذكر الله -سبحانه وتعالى- في كتابه: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين، قال -سبحانه وتعالى-: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ . حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ . كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ . ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ . كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ . لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ . ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ . ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) (التكاثر). وقال سبحانه و-تعالى-: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) (الواقعة: 95). وللحديث بقية -إن شاء الله-.
__________________
|
![]() |
| الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 5 ( الأعضاء 0 والزوار 5) | |
|
|
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |