|
هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
![]() ![]() تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن الإمام محمد بن جرير الطبري الجزء التاسع عشر تَفْسِيرِ سُّورَةِ النور الحلقة (1071) صــ 211 لى صــ 220 الذي يصيرون إليه ذلك المأوى. وقد كان بعضهم يقول: "لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا" بالياء، وهو مذهب ضعيف عند أهل العربية; وذلك أنّ "تَحْسَبَ" محتاج إلى منصوبين. وإذا قرئ "يَحْسَبَنَّ" لم يكن واقعا إلا على منصوب واحد، غير أني أحسب أن قائله بالياء ظنّ أنه قد عمل في "مُعْجِزِينَ" وأن منصوبه الثاني "في الأرض" ، وذلك لا معنى له، إن كان ذلك قصد. القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) } اختلف أهل التأويل في المعنِّي بقوله: (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) فقال بعضهم: عني بذلك: الرجال دون النساء، ونهوا عن أن يدخلوا عليهم في هذه الأوقات الثلاثة، هؤلاء الذين سموا في هذه الآية إلا بإذن. * ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن ليث، عن نافع، عن ابن عمر، قوله: (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) قال: هي على الذكور دون الإناث. وقال آخرون: بل عني به الرجال والنساء. * ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي حصين، عن أبي عبد الرحمن، في قوله: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) قال: هي في الرجال والنساء، يستأذنون على كلّ حال، بالليل والنهار. وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال: عُني به الذكور والإناث; لأن الله عمّ بقوله: (الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) جميع أملاك أيماننا، ولم يخصص منهم ذكرا ولا أنثى فذلك على جميع مَنْ عمه ظاهر التنزيل. فتأويل الكلام: يا أيُّها الذين صدقوا الله ورسوله، ليستأذنكم في الدخول عليكم عبيدكم وإماؤكم، فلا يدخلوا عليكم إلا بإذن منكم لهم. (وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) يقول: والذين لم يحتلموا من أحراركم (ثَلاثَ مَرَّاتٍ) ، يعني: ثلاث مرات في ثلاثة أوقات، من ساعات ليلكم ونهاركم. كما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، في قوله: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) قال: عبيدكم المملوكون (وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) قال: لم يحتلموا من أحراركم. قال ابن جُرَيج: قال لي عطاء بن أبي رباح: فذلك على كل صغير وصغيرة أن يستأذن، كما قال (ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ) قالوا: هي العتمة. قلت: فإذا وضعوا ثيابهم بعد العتمة استأذنوا عليهم حتى يصبحوا؟ قال: نعم. قلت لعطاء: هل استئذانهم إلا عند وضع الناس ثيابهم؟ قال: لا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن صالح بن كيسان ويعقوب بن عتبة وإسماعيل بن محمد، قالوا: لا استئذان على خدم الرجل عليه إلا في العورات الثلاث. حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) يقول: إذا خلا الرجل بأهله بعد صلاة العشاء، فلا يدخل عليه خادم ولا صبيّ إلا بإذن حتى يصلي الغداة، فإذا خلا بأهله عند صلاة الظهر فمثل ذلك. حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني قرة بن عبد الرحمن، عن ابن شهاب، عن ثعلبة، عن أبي مالك القرظي: أنه سأل عبد الله بن سويد الحارثي - وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - عن الإذن في العورات الثلاث، فقال: إذا وضعت ثيابي من الظهيرة لم يلج عليّ أحد من الخدم الذي بلغ الحلم، ولا أحد ممن لم يبلغ الحلم من الأحرار إلا بإذن. حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن ابن جُرَيج، قال: سمعت عطاء يقول: قال ابن عباس: ثلاث آيات جحدهنّ الناس: الإذن كله، وقال: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) وقال الناس: أكرمكم أعظمكم بيتا، ونسيت الثالثة. حدثني ابن أبي الشوارب، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا يونس، عن الحسن، في هذه الآية (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) قال: كان الحسن يقول: إذا أبات الرجل خادمه معه فهو إذنه، وإن لم يبته معه استأذن في هذه الساعات. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا سفيان، قال: ثني موسى بن أبي عائشة، عن الشعبي في قوله: (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) قال: لم تُنسخ، قلت: إن الناس لا يعملون به، قال: الله المستعان! قال ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن موسى بن أبي عائشة، عن الشعبي، وسألته عن هذه الآية: (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) قلت: منسوخة هي؟ قال: لا والله ما نُسخت، قلت: إن الناس لا يعملون بها، قال: الله المستعان! قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جُبير، قال: إن ناسا يقولون نسخت، ولكنها مما يتهاون الناس به. قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جُبير في هذه الآية (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) ... إلى آخر الآية، قال: لا يعمل بها اليوم. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنا حنظلة، أنه سمع القاسم بن محمد يسأل عن الإذن، فقال: يستأذن عند كلّ عورة، ثم هو طوّاف، يعني الرجل على أمه. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عثمان بن عمر، قال: أخبرنا عبد العزيز بن أبي روّاد، قال: أخبرني رجل من أهل الطائف، عن غيلان بن شُرَحبيل، عن عبد الرحمن بن عوف، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يَغْلِبَنَّكُمْ الأعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلاتِكُمْ، قال الله: (وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ) وإنَّمَا العَتَمَةُ عَتَمَةُ الإبِلِ" . وقوله: (ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة: (ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ) برفع "الثلاث" ، بمعنى الخبر عن هذه الأوقات التي ذكرت كأنه عندهم، قيل: هذه الأوقات الثلاثة التي أمرناكم بأن لا يدخل عليكم فيها من ذكرنا إلا بإذن، ثلاث عورات لكم، لأنكم تضعون فيها ثيابكم، وتخلون بأهليكم. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة "ثَلاثَ عَوْرَاتٍ" بنصب الثلاث على الرد على الثلاث الأولى. وكأن معنى الكلام عندهم: ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم، والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرّات، ثلاثَ عورات لكم. والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان متقاربتا المعنى، وقد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القراء، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. وقوله: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ) يقول تعالى ذكره: (ليس عليكم) معشر أرباب البيوت والمساكن، (ولا عليهم) يعني: ولا على الذين ملكت أيمانكم من الرجال والنساء، والذين لم يبلغوا الحلم من أولادكم الصغار، حرج ولا إثم بعدهنّ، يعني بعد العورات الثلاث، والهاء والنون في قوله: (بعدهن) عائدتان على "الثلاث" من قوله: (ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ) وإنما يعني بذلك أنه لا حرج ولا جناح على الناس أن يدخل عليهم مماليكهم البالغون، وصبيانهم الصغار بغير إذن بعد هذه الأوقات الثلاث اللاتي ذكرهنّ في قوله: (مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ) . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قال: ثم رخص لهم في الدخول فيما بين ذلك بغير إذن، يعني فيما بين صلاة الغداة إلى الظهر، وبعد الظهر إلى صلاة العشاء، أنه رخص لخادم الرجل والصبيّ أن يدخل عليه منزله بغير إذن، قال: وهو قوله: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ) فأما من بلغ الحُلم فإنه لا يدخل على الرجل وأهله إلا بإذن على كل حال. وقوله: (طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ) رفع الطوّافون بمضمر، وذلك هم. يقول: هؤلاء المماليك والصبيان الصغار هم طوّافون عليكم أيها الناس، ويعني بالطوّافين: أنهم يدخلون ويخرجون على مواليهم وأقربائهم في منازلهم غدوة وعشية بغير إذن يطوفون عليهم، بعضكم على بعض في غير الأوقات الثلاث التي أمرهم أن لا يدخلوا على ساداتهم وأقربائهم فيها إلا بإذن (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ) يقول جلّ ثناؤه: كما بينت لكم أيها الناس أحكام الاستئذان في هذه الآية، كذلك يبين الله لكم جميع أعلامه وأدلته وشرائع دينه (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) يقول: والله ذو علم بما يصلح عباده، حكيم في تدبيره إياهم، وغير ذلك من أموره. القول في تأويل قوله تعالى: وَإِذَا بَلَغَ الأطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) يقول تعالى ذكره: إذا بلغ الصغار من أولادكم وأقربائكم، ويعني بقوله: (منكم) من أحراركم (الحلم) يعني الاحتلام، واحتلموا (فليستأذنوا) يقول: فلا يدخلوا عليكم فى وقت من الأوقات إلا بإذن، لا في أوقات العورات الثلاث ولا في غيرها. وقوله: (كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يقول: كما استأذن الكبار من ولد الرجل وأقربائه الأحرار، وخصّ الله تعالى ذكره في هذه الآية الأطفال بالذكر، وتعريف حكمهم عباده في الاستئذان دون ذكر ما ملكت أيماننا، وقد تقدّمت الآية التي قبلها بتعريفهم حكم الأطفال الأحرار والمماليك; لأن حكم ما ملكت أيمانكم في ذلك حكم واحد، سواء فيه حكم كبارهم وصغارهم في أن الإذن عليهم في الساعات الثلاث التي ذكرها الله في الآية التي قبل. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قال: أما من بلغ الحلم فإنه لا يدخل على الرجل وأهله، يعني من الصبيان الأحرار إلا بإذن على كل حال، وهو قوله: (وَإِذَا بَلَغَ الأطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) . حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: قال عطاء: (وَإِذَا بَلَغَ الأطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا) قال: واجب على الناس أجمعين أن يستأذنوا إذا احتلموا على من كان من الناس. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب، قال: يستأذن الرجل على أمه؟ قال: إنما أنزلت (وَإِذَا بَلَغَ الأطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ) فِي ذَلِكَ (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ) يقول: هكذا يبين الله لكم آياته، أحكامه وشرائع دينه، كما بين لكم أمر هؤلاء الأطفال في الاستئذان بعد البلوغ (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) يقول: والله عليم بما يصلح خلقه وغير ذلك من الأشياء، حكيم في تدبيره خلقه. القول في تأويل قوله تعالى: وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) يقول تعالى ذكره: واللواتي قد قعدن عن الولد من الكبر من النساء، فلا يحضن ولا يلدن، واحدتهنّ قاعد (اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا) يقول: اللاتي قد يئسن من البعولة، فلا يطمعن في الأزواج (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ) يقول: فليس عليهنّ حرج ولا إثم أن يضعن ثيابهنّ، يعني جلابيبهنّ، وهي القناع الذي يكون فوق الخمار، والرداء الذي يكون فوق الثياب، لا حرج عليهن أن يضعن ذلك عند المحارم من الرجال، وغير المحارم من الغرباء غير متبرجات بزينة. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا) وهي المرأة لا جناح عليها أن تجلس في بيتها بدرع وخمار، وتضع عنها الجلباب ما لم تتبرّج لما يكره الله وهو قوله: (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ ثُمَّ قَالَ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ) . حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله: (يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ) يعني الجلباب، وهو القناع، وهذا للكبيرة التي قد قعدت عن الولد، فلا يضرّها أن لا تجلبب فوق الخمار. وأما كلّ امرأة مسلمة حرّة، فعليها إذا بلغت المحيض أن تدني الجلباب على الخمار، وقال الله في سورة الأحزاب (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ) وكان بالمدينة رجال من المنافقين إذا مرت بهم امرأة سيئة الهيئة والزيّ، حسب المنافقون أنها مزنية وأنها من بغيتهم، فكانوا يؤذون المؤمنات بالرفث ولا يعلمون الحرّة من الأمة، فأنزل الله في ذلك (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ) يقول: إذا كان زيهنّ حسنا لم يطمع فيهن المنافقون. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جُرَيج، في قوله: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ) التي قعدت من الولد وكبرت. قال ابن جُرَيج: قال مجاهد: (اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا) قال: لا يُردنه (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ) قال: جلابيبهنّ. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ) قال: وضع الخمار، قال: التي لا ترجو نكاحا، التي قد بلغت أن لا يكون لها في الرجال حاجة. ولا للرجال فيها حاجة، فإذا بلغن ذلك وضعن الخمار. غير متبرّجات بزينة، ثم قال: (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ) كان أبي يقول هذا كله. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى وعبد الرحمن، قالا ثنا سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن ذرّ، عن أبي وائل، عن عبد الله، في قوله: (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ) قال: الجلباب أو الرداء، شكّ سفيان. قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن مالك بن الحارث، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ) قال: الرداء. حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي، قال: ثنا أبي، عن أبيه، عن جده، عن الأعمش، عن مالك بن الحارث، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: قال عبد الله في هذه الآية (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ) قال: هي الملحفة. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، قال: سمعت أبا وائل قال: سمعت عبد الله يقول في هذه الآية (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ) قال: الجلباب. حدثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، قال: أخبرني الحكم، عن أبي وائل، عن عبد الله، مثله. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن الثوري، عن الأعمش، عن مالك بن الحارث عن عبد الرحمن بن يزيد، عن ابن مسعود، في قوله: (أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ) قال: هو الرداء. قال الحسن، قال: عبد الرزاق، قال الثوري: وأخبرني أبو حصين وسالم الأفطس، عن سعيد بن جُبير، قال: هو الرداء. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي (أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ) قال: تضع الجلباب المرأة التي قد عجزت ولم تزوّج. قال الشعبيّ: فإن أُبيّ بن كعب يقرأ "أنْ يَضَعْنَ مِنْ ثِيَابِهِنَّ" . حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال: قلت لابن أبي نجيح، قوله: (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ) قال: الجلباب، قال يعقوب: قال أبو يونس: قلت له: عن مجاهد؟ قال: نعم، في الدار والحجرة. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ) قال: جلابيبهنَّ. وقوله: (غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ) يقول: ليس عليهنّ جناح في وضع أرديتهنّ إذا لم يردن بوضع ذلك عنهنّ أن يبدين ما عليهنّ من الزينة للرجال. والتبرّج: هو أن تظهر المرأة من محاسنها ما ينبغي لها أن تستره. وقوله: (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ) يقول: وإن تعففن عن وضع جلابيبهنّ وأرديتهنّ، فيلبسنها خير لهنّ من أن يضعنها. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ) قال: أن يلبسن جلابيبهنّ. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبيّ (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ) قال: ترك ذلك، يعني: ترك وضع الثياب. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ) والاستعفاف: لبس الخمار على رأسها، كان أبي يقول هذا كله (وَاللَّهُ سَمِيعٌ) ما تنطقون بألسنتكم (عليم) بما تضمره صدوركم، فاتقوه أن تنطقوا بألسنتكم ما قد نهاكم عن أن تنطقوا بها، أو تضمروا في صدوركم ما قد كرهه لكم، فتستوجبوا بذلك منه عقوبة. القول في تأويل قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61) قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في هذه الآية في المعنى الذي أنزلت فيه، فقال بعضهم: أنزلت هذه الآية ترخيصا للمسلمين في الأكل مع العميان والعرجان والمرضى وأهل الزمانة من طعامهم، من أجل أنهم كانوا قد امتنعوا من أن يأكلوا معهم من طعامهم، خشية أن يكونوا قد أتوا بأكلهم معهم من طعامهم شيئًا مما نهاهم الله عنه بقوله: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) . * ذكر من قال ذلك: حدثني عليّ، قال: ثني عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا) من بيوتكم ... إلى قوله: (أَوْ أَشْتَاتًا) وذلك لما أنزل الله (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) فقال المسلمون: إن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل، والطعام من أفضل الأموال، فلا يحلّ لأحد منا أن يأكل عند أحد، فكفّ الناس عن ذلك، فأنزل الله بعد ذلك (لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ) ... إلى قوله: (أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ) . حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ) ... الآية، كان أهل المدينة قبل أن يبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يخالطهم في طعامهم أعمى ولا مريض، فقال بعضهم: إنما كان بهم التقذّر والتقزّز. وقال بعضهم: المريض لا يستوفي الطعام، كما يستوفي الصحيح والأعرج المنحبس، لا يستطيع المزاحمة على الطعام، والأعمى لا يبصر طيب الطعام، فأنزل الله (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ) حرج في مؤاكلة المريض والأعمى والأعرج، فمعنى الكلام على تأويل هؤلاء: ليس عليكم أيها الناس في الأعمى حرج أن تأكلوا منه ومعه، ولا في الأعرج حرج، ولا في المريض حرج، ولا في أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم، فوجّهوا معنى "على" في هذا الموضع إلى معنى "في" . وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية ترخيصا لأهل الزمانة في الأكل من بيوت من سمى الله في هذه الآية، لأن قوما كانوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لم يكن عندهم في بيوتهم ما يطعمونهم، ذهبوا بهم إلى بيوت آبائهم وأمهاتهم، أو بعض من سمّى الله في هذه الآية، فكان أهل الزمانة يتخوّفون من أن يطعموا ذلك الطعام، لأنه أطعمهم غير ملكه. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ) قال: كان رجال زمنى. قال ابن عمرو في حديثه: عميان وعرجان. وقال الحارث: عمي عرج أولوا حاجة، يستتبعهم رجال إلى بيوتهم، فإن لم يجدوا طعاما ذهبوا بهم إلى بيوت آبائهم، ومن عدّد منهم من البيوت، فكره ذلك المستتبعون، فأنزل الله في ذلك (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ) وأحلّ لهم الطعام حيث وجدوه. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: كان الرجل يذهب بالأعمى والمريض والأعرج إلى بيت أبيه، أو إلى بيت أخيه، أو عمه، أو خاله، أو خالته، فكان الزمني يتحرّجون من ذلك، يقولون: إنما يذهبون بنا إلى بيوت غيرهم، فنزلت هذه الآية رخصة لهم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، نحو حديث ابن عمرو، عن أبي عاصم. وقال آخرون: بل نزلت ترخيصا لأهل الزمانة الذين وصفهم الله في هذه الآية أن يأكلوا من بيوت من خلَّفهم في بيوته من الغزاة. * ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، قال: قلت للزهري، في قوله: (لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ) ما بال الأعمى ذكر هاهنا، والأعرج والمريض؟ فقال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله أن المسلمين كانوا إذا غزوا خلفوا زمناهم، وكانوا يدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم، يقولون: قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا، وكانوا يتحرّجون من ذلك، يقولون: لا ندخلها وهم غُيَّب، فأنزلت هذه الآية رخصة لهم. وقال آخرون: بل عنى بقوله: (لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) في التخلف عن الجهاد في سبيل الله، قالوا: وقوله: (وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) كلام منقطع عما قبله. ![]()
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() ![]() تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن الإمام محمد بن جرير الطبري الجزء التاسع عشر تَفْسِيرِ سُّورَةِ الفرقان الحلقة (1076) صــ 261 لى صــ 270 قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن عكرمة في قوله: (يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ) يقول: والملائكة حوله. قال: ثني حجاج، عن مبارك بن فضالة، عن عليّ بن زيد بن جُدعان، عن يوسف بن مهران، أنه سمع ابن عباس يقول: إن هذه السماء إذا انشقت نزل منها من الملائكة أكثر من الجنّ والإنس، وهو يوم التلاق، يوم يلتقي أهل السماء وأهل الأرض، فيقول أهل الأرض: جاء ربنا، فيقولون: لم يجيء وهو آت، ثم تَتَشقق السماء الثانية، ثم سماء سماء على قدر ذلك من التضعيف إلى السماء السابعة، فينزل منها من الملائكة أكثر من جميع من نزل من السماوات ومن الجنّ والإنس. قال: فتنزل الملائكة الكُروبيون، ثم يأتي ربنا تبارك وتعالى في حملة العرش الثمانية، بين كعب كل ملك وركبته مسيرة سبعين سنة، وبين فخذه ومنكبه مسيرة سبعين سنة، قال: وكل ملك منهم لم يتأمل وجه صاحبه، وكلّ ملك منهم واضع رأسه بين ثدييه يقول: سبحان الملك القدوس، وعلى رءوسهم شيء مبسوط كأنه القباء، والعرش فوق ذلك، ثم وقف. قال: ثنا الحسن، قال: ثنا جعفر بن سليمان، عن هارون بن وثاب، عن شهر بن حوشب، قال: حملة العرش ثمانية، فأربعة منهم يقولون: سبحانك اللهمّ وبحمدك، لك الحمد على حلمك بعد علمك. وأربعة يقولون: سبحانك اللهمّ وبحمدك، لك الحمد على عفوك بعد قدرتك. قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي بكر بن عبد الله، قال: إذا نظر أهل الأرض إلى العرش يهبط عليهم فوقهم شخصت إليه أبصارهم، ورجفت كُلاهم في أجوافهم، قال: وطارت قلوبهم من مقرّها في صدورهم إلى حناجرهم. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنزلَ الْمَلائِكَةُ تَنزيلا) يعني يوم القيامة حين تشقق السماء بالغمام، وتنزل الملائكة تنزيلا. وقوله: (وَنزلَ الْمَلائِكَةُ تَنزيلا) يقول: ونزل الملائكة إلى الأرض تنزيلا (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ) يقول: الملك الحقّ يومئذ خالص للرحمن دون كلّ من سواه، وبطلت الممالك يومئذ سوى ملكه. وقد كان في الدنيا ملوك، فبطل الملك يومئذ سوى ملك الجبار (وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا) يقول: وكان يومُ تشقُّق السماء بالغمام يوما على أهل الكفر بالله عسيرا، يعني صعبا شديدا. القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإنْسَانِ خَذُولا (29) } يقول تعالى ذكره: ويوم يعضّ الظالم نفسه المشرك بربه على يديه ندما وأسفًا على ما فرط في جنب الله، وأوبق نفسه بالكفر به في طاعة خليله الذي صدّه عن سبيل ربه، يقول: يا ليتني اتخذت في الدنيا مع الرسول سبيلا يعني طريقا إلى النجاة من عذاب الله، وقوله (يَاوَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا) . اختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله: (الظَّالِمُ) وبقوله: (فُلانًا) فقال بعضهم: عني بالظالم: عقبة بن أبي معيط، لأنه ارتدّ بعد إسلامه، طلبا منه لرضا أُبيّ بن خلف، وقالوا: فلان هو أُبيّ. * ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثني الحسين، قال: ثني حجاج عن ابن جُرَيج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس قال: كان أُبيّ بن خلف يحضر النبيّ صلى الله عليه وسلم، فزجره عقبة بن أبي معيط، فنزل: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا) ... إلى قوله (خَذُولا) قال: (الظالم) : عقبة، وفلانا خليلا أُبيّ بن خلف. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبيّ في قوله: (لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا) قال: كان عقبة بن أبي معيط خليلا لأمية بن خلف، فأسلم عقبة، فقال أمية: وجهي من وجهك حرام إن تابعت محمدا فكفر; وهو الذي قال: (لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا) . حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن قتادة وعثمان الجزري، عن مقسم في قوله: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا) قال: اجتمع عقبة بن أبي معيط وأبيّ بن خلف، وكانا خليلين، فقال أحدهما لصاحبه: بلغني أنك أتيت محمدا فاستمعت منه، والله لا أرضى عنك حتى تتفل في وجهه وتكذّبه، فلم يسلطه الله على ذلك، فقتل عقبة يوم بدر صبرا (1) . وأما أُبيّ بن خلف فقتله النبيّ صلى الله عليه وسلم بيده يوم أُحد في القتال، وهما اللذان أنزل الله فيهما: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا) . حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن ابن عباس، (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ) ... إلى قوله: (فُلانًا خَلِيلا) قال: هو أُبيّ بن خلف، كان يحضر النبيّ صلى الله عليه وسلم، فزجره عقبة بن أبي معيط. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ) قال: عقبة بن أبي معيط دعا مجلسا فيهم النبيّ صلى الله عليه وسلم لطعام، فأبى النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يأكل، وقال: "ولا آكُل حتى تَشْهَدَ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ، وأنَّ مُحمَّدًا رسُولُ الله" ، فقال: ما أنت بآكل حتى أشهد؟ قال: "نعم" ، قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنَّ مُحمَّدًا رسُولُ الله. فلقيه أمية بن خلف فقال: صبوت؟ فقال: إن أخاك على ما تعلم، ولكني صنعت طعاما فأبى أن يأكل حتى أقول ذلك، فقلته، وليس من نفسي. وقال آخرون: عنى بفلان: الشيطان. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (فُلانًا خَلِيلا) قال: الشيطان. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، مثله. وقوله: (لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي) يقول جلّ ثناؤه مخبرا عن هذا النادم على ما سلف منه في الدنيا، من معصية ربه في طاعة خليله: لقد أضلني عن الإيمان بالقرآن، وهو الذكر، بعد إذ جاءني من عند الله، فصدّني عنه، يقول الله: (وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإنْسَانِ خَذُولا) يقول: مسلما لما ينزل به من البلاء غير منقذه ولا منجيه. (1) يقال: قتل فلان صبرًا: قدم فقتل، وهو يرى وينظر، وهو غير من يقتل في حرب أو حادث. السقا. القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31) } يقول تعالى ذكره: وقال الرسول يوم يعضّ الظالم على يديه: يا ربّ إن قومي الذين بعثتني إليهم لأدعوهم إلى توحيدك اتخذوا هذا القرآن مهجورا. واختلف أهل التأويل في معنى اتخاذهم القرآن مهجورا، فقال بعضهم: كان اتخاذهم ذلك هجرا، قولهم فيه السييء من القول، وزعمهم أنه سحر، وأنه شعر. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) قال: يهجُرون فيه بالقول، يقولون: هو سحر. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، قوله: (وَقَالَ الرَّسُولُ) ... الآية: يهجرون فيه بالقول. قال مجاهد: وقوله: (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ) قال: مستكبرين بالبلد سامرا مجالس تهجرون، قال: بالقول السييء في القرآن غير الحقّ. حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال، ثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم، في قول الله: (إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) قال: قالوا فيه غير الحقّ، ألم تر إلى المريض إذا هذي قال غير الحق. وقال آخرون: بل معنى ذلك: الخبر عن المشركين أنهم هجروا القرآن وأعرضوا عنه ولم يسمعوا له. * ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول الله: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) لا يريدون أن يسمعوه، وإن دعوا إلى الله قالوا لا. وقرأ (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) قال: ينهون عنه، ويبعدون عنه. قال أبو جعفر: وهذا القول أولى بتأويل ذلك، وذلك أن الله أخبر عنهم أنهم قالوا: (لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه) ، وذلك هجرهم إياه. وقوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وكما جعلنا لك يا محمد أعداء من مشركي قومك، كذلك جعلنا لكل من نبأناه من قبلك عدوّا من مشركي قومه، فلم تخصص بذلك من بينهم. يقول: فاصبر لما نالك منهم كما صبر من قبلك أولو العزم من رسلنا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن عباس: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) قال: يوطن محمدا صلى الله عليه وسلم أنه جاعل له عدوّا من المجرمين كما جعل لمن قبله. وقوله: (وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا) يقول تعالى ذكره لنبيه: وكفاك يا محمد بربك هاديا يهديك إلى الحقّ، ويبصرك الرشد، ونصيرا: يقول: ناصرا لك على أعدائك، يقول: فلا يهولنك أعداؤك من المشركين، فإني ناصرك عليهم، فاصبر لأمري، وامض لتبليغ رسالتي إليهم. القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نزلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا (32) } يقول تعالى ذكره: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله (لَوْلا نزلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ) يقول: هلا نزل على محمد صلى الله عليه وسلم القرآن (جُمْلَةً وَاحِدَةً) كما أنزلت التوراة على موسى جملة واحدة؟ قال الله: (كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ) تنزيله عليك الآية بعد الآية، والشيء بعد الشيء، لنثبت به فؤادك نزلناه. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نزلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا) قال: كان الله ينزل عليه الآية، فإذا علمها نبيّ الله نزلت آية أخرى ليعلمه الكتاب عن ظهر قلب، ويثبت به فؤاده. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قوله: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نزلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً) كما أنزلت التوراة على موسى، قال: (كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ) قال: كان القرآن ينزل عليه جوابا لقولهم: ليعلم محمد أن الله يجيب القوم بما يقولون بالحقّ، ويعني بقوله: (لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ) لنصحح به عزيمة قلبك ويقين نفسك، ونشجعك به. وقوله (وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا) يقول: وشيئا بعد شيء علمناكه حتى تحفظنه، والترتيل في القراءة: الترسل والتثبت. وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم، في قوله: (وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا) قال: نزل متفرّقا. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الحسن، في قوله: (وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا) قال: كان ينزل آية وآيتين وآيات جوابا لهم إذا سألوا عن شيء أنزله الله جوابا لهم، وردّا عن النبيّ فيما يتكلمون به. وكان بين أوله وآخره نحو من عشرين سنة. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قوله: (وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا) قال: كان بين ما أنزل القرآن إلى آخره أنزل عليه لأربعين، ومات النبيّ صلى الله عليه وسلم لثنتين أو لثلاث وستين. وقال آخرون: معنى الترتيل: التبيين والتفسير. * ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا) قال: فسرناه تفسيرا، وقرأ: (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا) . القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلا (34) } يقول تعالى ذكره: ولا يأتيك يا محمد هؤلاء المشركون بمثل يضربونه إلا جئناك من الحق، بما نبطل به ما جاءوا به، وأحسن منه تفسيرًا. كما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج: (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ) قال: الكتاب بما تردّ به ما جاءوا به من الأمثال التي جاءوا بها وأحسن تفسيرا. وعنى بقوله (وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا) وأحسن مما جاءوا به من المثل بيانا وتفصيلا. وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن ابن عباس قوله: (وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا) يقول: أحسن تفصيلا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد: (وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا) قال: بيانا. حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا) يقول: تفصيلا. وقوله: (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا) يقول تعالى ذكره لنبيه: هؤلاء المشركون يا محمد، القائلون لك (لَوْلا نزلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً) ومن كان على مثل الذي هم عليه من الكفر بالله، الذين يحشرون يوم القيامة على وجوههم إلى جهنم، فيساقون إلى جهنم شرّ مستقرّا في الدنيا والآخرة من أهل الجنة في الجنة، وأضل منهم في الدنيا طريقا. وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ) قال: الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم (أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا) من أهل الجنة (وَأَضَلُّ سَبِيلا) قال: طريقا. حدثني محمد بن يحيى الأزدي، قال: ثنا الحسين بن محمد، قال: ثنا شيبان، عن قتادة، قوله: (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ) قال: حدثنا أنس بن مالك أن رجلا قال: يا رسول الله، كيف يحشر الكافر على وجهه؟ قال: الَّذِي أَمْشَاهُ عَلى رِجْلَيْهِ قادرٌ عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُ عَلَى وَجْهِهِ "." حدثنا أبو سفيان الغنوي يزيد بن عمرو، قال: ثنا خلاد بن يحيى الكوفي، قال: ثنا سفيان الثوري، عن إسماعيل بن أبي خالد، قال: أخبرني من سمع أنس بن مالك يقول: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: كيف يحشرهم على وجوههم؟ قال: "الَّذِي يَحْشُرُهُمْ عَلى أرْجُلِهِمْ قادِرٌ بأنْ يَحْشُرُهُمْ عَلى وُجُوههمْ" . حدثنا عبيد بن محمد الورّاق، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي داود، عن أنس بن مالك، قال: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يُحشر أهل النار على وجوههم؟ فقال: إنَّ الَّذِي أمْشاهُمْ عَلى أقْدامِهِمْ قَادِرٌ عَلى أنْ يُمْشِيَهُمْ عَلى وُجُوهِهِمْ" . حدثني أحمد بن المقدام قال: ثنا حزم، قال: سمعت الحسن يقول: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ) فقالوا: يا نبي الله، كيف يمشون على وجوههم؟ قال: أرأيْتَ الَّذِي أمْشاهُمْ عَلى أقْدَامِهِمْ ألَيْس قَادِرًا أَنْ يُمْشِيَهُمْ عَلى وُجُوهِهم "." حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا منصور بن زاذان، عن علي بن زيد بن جدعان، عن أبي خالد، عن أبي هريرة، قال: "يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف: صنف على الدوابّ، وصنف على أقدامهم، وصنف على وجوههم، فقيل: كيف يمشون على وجوههم؟ قال: إن الذي أمشاهم على أقدامهم، قادر أن يمشيهم على وجوههم." القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36) } يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم يتوعد مشركي قومه على كفرهم بالله، وتكذيبهم رسوله ويخوّفهم من حلول نقمته بهم، نظير الذي يحلّ بمن كان قبلهم من الأمم المكذّبة رسلها (وَلَقَدْ آتَيْنَا) يا محمد (مُوسَى الْكِتَابَ) يعني التوراة، كالذي آتيناك من الفرقان (وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا) يعني معينا وظهيرا (فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) يقول: فقلنا لهما: اذهبا إلى فرعون وقومه الذين كذبوا بإعلامنا وأدلتنا، فدمرناهم تدميرا. وفي الكلام متروك استغني بدلالة ما ذكر من ذكره وهو: فذهبا فكذبوهما فدمرناهم حينئذ. القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) } يقول تعالى ذكره: وقوم نوح لما كذبوا رسلنا، وردّوا عليهم ما جاءوهم به من الحقّ، أغرقناهم بالطوفان (وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً) يقول: وجعلنا تغريقنا إياهم وإهلاكنا عظة وعبرة للناس يعتبرون بها (وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا) يقول: وأعددنا لهم من الكافرين بالله في الآخرة عذابا أليما، سوى الذي حلّ بهم من عاجل العذاب في الدنيا. القول في تأويل قوله تعالى: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلا ضَرَبْنَا لَهُ الأمْثَالَ وَكُلا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39) } يقول تعالى ذكره: ودمرنا أيضا عادا وثمود وأصحاب الرسّ. واختلف أهل التأويل في أصحاب الرسّ، فقال بعضهم: أصحاب الرسّ من ثمود. * ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: قال ابن عباس: (وَأَصْحَابَ الرَّسِّ) قال: قرية من ثمود. وقال آخرون: بل هي قرية من اليمامة يقال لها الفلْج (1) . * ذكر من قال ذلك: حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن وهب، قال: ثنا جرير بن حازم، قال: قال قتادة: الرسّ: قرية من اليمامة يقال لها الفلج. (1) في تاج العروس: وقيل (فلج) : بلد. ومنه قيل لطريق مأخذه من البصرة إلى اليمامة: طريق بطن فلج. اهـ. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جُرَيج، قال عكرمة: أصحاب الرسّ بفلج هم أصحاب يس. وقال آخرون: هم قوم رسوا نبيهم في بئر. * ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي بكر، عن عكرمة، قال: كان الرسّ بئرا رسُّوا فيها نبيهم. وقال آخرون: هي بئر كانت تسمى الرسّ. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (وَأَصْحَابَ الرَّسِّ) قال: هي بئر كانت تسمى الرّسّ. حدثني محمد بن عمارة، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبي يحيى عن مجاهد في قوله: (وَأَصْحَابَ الرَّسِّ) قال: الرّسّ بئر كان عليها قوم. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك، قول من قال: هم قوم كانوا على بئر، وذلك أن الرّسّ في كلام العرب: كلّ محفور مثل البئر والقبر ونحو ذلك; ومنه قول الشاعر: سَبَقْتَ إلى فَرطٍ باهِلٍ ... تنابِلَةٍ يَحْفِرُونَ الرِّساسا (1) يريد أنهم يحفِرون المعادن، ولا أعلم قوما كانت لهم قصة بسبب حفرة، ذكرهم الله في كتابه إلا أصحاب الأخدود، فإن يكونوا هم المعنيين بقوله: (وَأَصْحَابَ الرَّسِّ) فإنا سنذكر خبرهم إن شاء الله إذا انتهينا إلى سورة البروج، وإن يكونوا غيرهم فلا نعرف لهم خبرا، إلا ما جاء من جملة الخبر عنهم أنهم قوم رَسوا نبيهم في حفرة. إلا ما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن كعب القرظي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يَدخُلُ" (1) البيت للنابغة الجعدي (اللسان: رسس) . والفرط بالتحريك: القوم يتقدمون إلى الماء قبل الورود، فيهيئون لهم الأرسال والدلاء، ويملئون الحياض، ويستقون لهم (عن اللسان) . والباهل: المتردد بلا عمل. والتنابلة جمع تنبل، بوزن جَعْفَر، وهو الرجل القصير. ولعله كناية عن البطء والعجز عن العمل. والرساس جمع رس، وهي البئر القديمة أو المعدن (المنجم تستخرج منه المعادن كالحديد ونحوه) . استشهد به المؤلف على أن كل محفور مثل البئر والقبر والمعدن فهو رس عند العرب. ![]()
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() ![]() تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن الإمام محمد بن جرير الطبري الجزء التاسع عشر تَفْسِيرِ سُّورَةِ النور الحلقة (1072) صــ 221 لى صــ 230 * ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) قال: هذا في الجهاد في سبيل الله، وفي قوله: (وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) ... إلى قوله: (أَوْ صَدِيقِكُمْ) قال: هذا شيء قد انقطع، إنما كان هذا في الأوّل، لم يكن لهم أبواب، وكانت الستور مرخاة، فربما دخل الرجل البيت وليس فيه أحد، فربما وجد الطعام وهو جائع، فسوّغه الله أن يأكله. قال: وقد ذهب ذلك اليوم، البيوت اليوم فيها أهلها، وإذا خرجوا أغلقوها، فقد ذهب ذلك. وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية ترخيصا للمسلمين الذين كانوا يتقون مؤاكلة أهل الزمانة في مؤاكلتهم إذا شاءوا ذلك. * ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن مِقْسم، في قوله: (لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ) قال: كانوا يتقون أن يأكلوا مع الأعمى والأعرج، فنزلت (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا) . واختلفوا أيضا في معنى قوله: (أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ) فقال بعضهم: عني بذلك: وكيل الرجل وقيمه، أنه لا بأس عليه أن يأكل من ثمر ضيعته، ونحو ذلك. * ذكر من قال ذلك: حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنا معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: (أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ) وهو الرجل يوكل الرجل بضيعته، فرخص الله له أن يأكل من ذلك الطعام والتمر ويشرب اللبن. وقال آخرون: بل عُني بذلك: منزل الرجل نفسه أنه لا بأس عليه أن يأكل. * ذكر من قال ذلك: حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ) يعني: بيت أحدهم، فإنه يملكه، والعبيد منهم مما ملكوا. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قَتادة، في قوله: (أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ) مما تحبون يا ابن آدم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، قال: (أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ) قال: خزائن لأنفسهم، ليست لغيرهم. وأشبه الأقوال التي ذكرنا في تأويل قوله: (لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ) ... إلى قوله: (أَوْ صَدِيقِكُمْ) القول الذي ذكرنا عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، وذلك أن أظهر معاني قوله: (لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ) أنه لا حرج على هؤلاء الذين سموا في هذه الآية أن يأكلوا من بيوت من ذكره الله فيها، على ما أباح لهم من الأكل منها؛ فإذ كان ذلك أظهر معانيه فتوجيه معناه إلى الأغلب الأعرف من معانيه أولى من توجيهه إلى الأنكر منها. فإذ كان ذلك كذلك؛ كان ما خالف من التأويل قول من قال: معناه: ليس في الأعمى والأعرج حرج أولى بالصواب. وكذلك أيضا الأغلب من تأويل قوله: (وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) أنه بمعنى: ولا عليكم أيها الناس، ثم جمع هؤلاء والزَّمنَى الذين ذكرهم قبل في الخطاب، فقال: أن تأكلوا من بيوت أنفسكم، وكذلك تفعل العرب إذا جمعت بين خبر الغائب والمخاطب غلبت المخاطب، فقالت: أنت وأخوك قمتما، وأنت وزيد جلستما، ولا تقول: أنت وأخوك جلسا، وكذلك قوله: (وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ) والخبر عن الأعمى والأعرج والمريض غلب المخاطب، فقال: أن تأكلوا، ولم يقل: أن يأكلوا. فإن قال قائل: فهذا الأكل من بيوتهم قد علمناه، كان لهم حلالا إذ كان ملكا لهم، أو كان أيضا حلالا لهم الأكل من مال غيرهم. قيل له: ليس الأمر في ذلك على ما توهمت، ولكنه كما ذكرناه عن عبيد الله بن عبد الله، أنهم كانوا إذا غابوا في مغازيهم، وتخلف أهل الزمانة منهم، دفع الغازي مفتاح مسكنه إلى المتخلف منهم، فأطلق له في الأكل مما يخلف في منزله من الطعام، فكان المتخلفون يتخوّفون الأكل من ذلك وربه غائب، فأعلمه الله أنه لا حرج عليه في الأكل منه، وأذن لهم في أكله فإذ كان ذلك كذلك تبين أن لا معنى لقول من قال: إنما أنزلت هذه الآية من أجل كراهة المستتبع أكل طعام غير المستتبع، لأن ذلك لو كان كما قال من قال ذلك، لقيل: ليس عليكم حرج أن تأكلوا من طعام غير من أضافكم، أو من طعام آباء من دعاكم، ولم يقل: أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم، وكذلك لا وجه لقول من قال: معنى ذلك: ليس على الأعمى حرج في التخلف عن الجهاد في سبيل الله، لأن قوله: (أَنْ تَأْكُلُوا) خبر ليس، وأن في موضع نصب على أنها خبر لها، فهي متعلقة بليس، فمعلوم بذلك أن معنى الكلام: ليس على الأعمى حرج أن يأكل من بيته، لا ما قاله الذين ذكرنا من أنه لا حرج عليه في التخلف عن الجهاد؛ فإذ كان الأمر في ذلك على ما وصفنا، تبين أن معنى الكلام: لا ضيق على الأعمى، ولا على الأعرج، ولا على المريض، ولا عليكم أيها الناس أن تأكلوا من بيوت أنفسكم، أو من بيوت آبائكم، أو من بيوت أمهاتكم، أو من بيوت إخوانكم، أو من بيوت أخواتكم، أو من بيوت أعمامكم، أو من بيوت عماتكم، أو من بيوت أخوالكم، أو من بيوت خالاتكم، أو من البيوت التي ملكتم مفاتحها، أو من بيوت صديقكم إذا أذنوا لكم في ذلك، عند مغيبهم ومشهدهم. والمفاتح: الخزائن، واحدها: مفتح إذا أريد به المصدر، وإذا كان من المفاتيح التي يفتح بها فهي مفتح ومفاتح، وهي هاهنا على التأويل الذي اخترناه جمع مِفتح الذي يفتح به. وكان قَتادة يتأوّل في قوله: (أَوْ صَدِيقِكُمْ) ما حدثنا به الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قَتادة (أَوْ صَدِيقِكُمْ) فلو أكلت من بيت صديقك من غير أمره، لم يكن بذلك بأس، قال معمر: قلت لقتادة: أو لا أشرب من هذا الحُبّ؟ قال: أنت لي صديق. وأما قوله: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا) فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله، فقال بعضهم: كان الغنيّ من الناس يتخوّف أن يأكل مع الفقير، فرخص لهم في الأكل معهم. * ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس، قوله: (أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا) قال: كان الغنيّ يدخل على الفقير من ذوي قرابته وصديقه، فيدعوه إلى طعامه ليأكل معه، فيقول: والله إني لأجنح أن آكل معك، والجنح: الحرج وأنا غنيّ وأنت فقير،، فأمروا أن يأكلوا جميعا أو أشتاتا. وقال آخرون: بل عني بذلك حيّ من أحياء العرب، كانوا لا يأكل أحدهم وحده، ولا يأكل إلا مع غيره، فأذن الله لهم أن يأكل من شاء منهم وحده، ومن شاء منهم مع غيره. * ذكر من قال ذلك: حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قال: كانوا يأنفون ويتحرّجون أن يأكل الرجل الطعام وحده، حتى يكون معه غيره، فرخص الله لهم، فقال: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا) . حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: كانت بنو كنانة يستحي الرجل منهم أن يأكل وحده، حتى نزلت هذه الآية. حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول: كانوا لا يأكلون إلا جميعا، ولا يأكلون متفرّقين، وكان ذلك فيهم دينا، فأنزل الله: ليس عليكم حرج في مؤاكلة المريض والأعمى، وليس عليكم حرج أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا) قال: كان من العرب من لا يأكل أبدا جميعا، ومنهم من لا يأكل إلا جميعا. فقال الله ذلك. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قَتادة، قال: نزلت (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا) في حيّ من العرب كان الرجل منهم لا يأكل طعامه وحده، كان يحمله بعض يوم حتى يجد من يأكله معه قال: وأحسب أنه ذكر أنهم من كنانة. وقال آخرون: بل عُني بذلك قوم كانوا لا يأكلون إذا نزل بهم ضيف إلا مع ضيفهم، فرخص لهم في أن يأكلوا كيف شاءوا. * ذكر من قال ذلك: حدثني أبو السائب، قال: ثنا حفص، عن عمران بن سليمان، عن أبي صالح وعكرمة، قالا كانت الأنصار إذا نزل بهم الضيف لا يأكلون حتى يأكل الضيف معهم، فرخص لهم، قال الله: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا) . وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله وضع الحرج عن المسلمين أن يأكلوا جميعا معا إذا شاءوا، أو أشتاتا متفرّقين إذا أرادوا، وجائز أن يكون ذلك نزل بسبب من كان يتخوّف من الأغنياء الأكل مع الفقير، وجائز أن يكون نزل بسبب القوم الذين ذكر أنهم كانوا لا يطعمون وحدانا، وبسبب غير ذلك، ولا خبر بشيء من ذلك يقطع العذر، ولا دلالة في ظاهر التنزيل على حقيقة شيء منه، والصواب التسليم لما دلّ عليه ظاهر التنزيل، والتوقف فيما لم يكن على صحته دليل. وقوله: (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) اختلف أهل التأويل في ذلك. فقال بعضهم: معناه: فإذا دخلتم أيها الناس بيوت أنفسكم، فسلموا على أهليكم وعيالكم. * ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري وقتادة في قوله: (فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ) قالا بيتك، إذا دخلته فقل: سلام عليكم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ) قال: سلم على أهلك، قال ابن جريح: وسُئل عطاء بن أبي رباح: أحقّ على الرجل إذا دخل على أهله أن يسلم عليهم؟ قال: نعم. وقالها عمرو بن دينار، وتلوا: (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً) قال عطاء بن أبي رباح: ذلك غير مرّة. قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: أخبرني أبو الزبير، قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: إذا دخلت على أهلك فسلم عليهم (تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً) قال: ما رأيته إلا يوجبه. قال ابن جُرَيج، وأخبرني زياد، عن ابن طاوس أنه كان يقول: إذا دخل أحدكم بيته فليسلم. قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: قلت لعطاء: إذا خرجت أواجب السلام، هل أسلم عليهم؟ فإنما قال: (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا) ؟ قال: ما أعلمه واجبا، ولا آثِرُ عن أحد وجوبه ولكن أحبّ إليّ وما أدعه إلا ناسيا. قال ابن جُرَيج، وقال عمرو بن دينار: لا قال: قلت لعطاء: فإن لم يكن في البيت أحد؟ قال: سلم، قل: السلام على النبيّ ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، السلام على أهل البيت ورحمة الله، قلت له: قولك هذا إذا دخلت بيتا ليس فيه أحد عمن تأثره؟ قال: سمعته ولم يؤثر لي عن أحد. قال ابن جُرَيج، وأخبرني عطاء الخراساني، عن ابن عباس، قال: السلام علينا من ربنا، وقال عمرو بن دينار: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. حدثنا أحمد بن عبد الرحيم، قال: ثنا عمرو بن أبي سلمة، قال: ثنا صدقة، عن زهير، عن ابن جُرَيج، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، قال: إذا دخلت على أهلك فسلم عليهم، تحية من عند الله مباركة طيبة. قال: ما رأيته إلا يوجبه. حدثنا محمد بن عباد الرازي، قال: ثنا حجاج بن محمد الأعور، قال: قال لي ابن جُرَيج: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول، فذكر مثله. حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ) يقول: سلموا على أهاليكم إذا دخلتم بيوتكم، وعلى غير أهاليكم، فسلموا إذا دخلتم بيوتهم. وقال آخرون: بل معناه: فإذا دخلتم المساجد فسلموا على أهلها. * ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا عبد الله بن المبارك عن معمر، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ) قال: هي المساجد، يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، في قوله: (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ) قال: إذا دخلت المسجد فقل: السلام على رسول الله، وإذا دخلت بيتا ليس فيه أحد، فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وإذا دخلت بيتك فقل: السلام عليكم. وقال آخرون: بل معنى ذلك: إذا دخلتم بيوتا من بيوت المسلمين فيها ناس منكم، فليسلم بعضكم على بعض. * ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الحسن، في قوله: (فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ) أي: ليسلم بعضكم على بعض، كقوله: (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) . حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فى قوله: (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ) قال: إذا دخل المسلِّمُ سُلِّم عليه، كمثل قوله: (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) إنما هو: لا تقتل أخاك المسلم. وقوله: (ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) قال: يقتل بعضكم بعضا، قريظة والنضير. وقال آخرون: معناه: فإذا دخلتم بيوتا ليس فيها أحد، فسلموا على أنفسكم. * ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن أبي مالك، قال: إذا دخلت بيتا ليس فيه أحد، فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وإذا دخلت بيتا فيه ناس من المسلمين وغير المسلمين، فقل مثل ذلك. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي سنان، عن ماهان، قال: إذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم، قال: تقولوا: السلام علينا من ربنا. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: أخبرنا شعبة عن منصور، قال شعبة: وسألته عن هذه الآية: (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) قال: قال إبراهيم: إذا دخلت بيتا ليس فيه أحد، فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن بكير بن الأشجّ عن نافع أن عبد الله كان إذا دخل بيتا ليس فيه أحد، قال: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، قال: ثنا منصور، عن إبراهيم: (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ) قال: إذا دخلت بيتا فيه يهود، فقل: السلام عليكم، وإن لم يكن فيه أحد فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال معناه: فإذا دخلتم بيوتا من بيوت المسلمين، فليسلم بعضكم على بعض. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب لأن الله جلّ ثناؤه قال: (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا) ولم يخصصْ من ذلك بيتا دون بيت، وقال: (فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ) يعني: بعضكم على بعض، فكان معلوما إذ لم يخصص ذلك على بعض البيوت دون بعض، أنه معنيّ به جميعها، مساجدها وغير مساجدها. ومعنى قوله: (فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ) نظير قوله: (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) . وقوله: (تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) ونصب تحية، بمعنى: تحيون أنفسكم تحية من عند الله السلام تحية، فكأنه قال: فليحيّ بعضكم بعضا تحية من عند الله، وقد كان بعض أهل العربية يقول: إنما نصبت بمعنى: أمركم بها تفعلونها تحية منه، ووصف جلّ ثناؤه هذه التحية المباركة الطيبة لما فيها من الأجر الجزيل والثواب العظيم. وقوله: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ) يقول تعالى ذكره: هكذا يفصل الله لكم معالم دينكم، فيبينها لكم، كما فصل لكم في هذه الآية ما أحلّ لكم فيها، وعرّفكم سبيل الدخول على من تدخلون عليه (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) يقول: لكي تفقهوا عن الله أمره ونهيه وأدبه. القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ (62) } يقول تعالى ذكره: ما المؤمنون حقّ الإيمان، إلا الذين صدقوا الله ورسوله (وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ) يقول: وإذا كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم (عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ) يقول: على أمر يجمع جميعهم من حرب حضرت، أو صلاة اجتمع لها، أو تشاور في أمر نزل (لَمْ يَذْهَبُوا) يقول: لم ينصرفوا عما اجتمعوا له من الأمر، حتى يستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) يقول: إذا كان أمر طاعة لله. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: قال ابن عباس: قوله: (وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ) قال: أمر من طاعة الله عامّ. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا محمد بن بكر، قال: أخبرنا ابن جُرَيج، قال: سأل مكحولا الشامي إنسان وأنا أسمع، ومكحول جالس مع عطاء عن قول الله في هذه الآية (وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) فقال مكحول: في يوم الجمعة، وفي زحف، وفي كلّ أمر جامع، قد أمر أن لا يذهب أحد في يوم جمعة حتى يستأذن الإمام، وكذلك في كل جامع، ألا ترى أنه يقول: (وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ) . حدثني يعقوب، قال: ثني ابن علية، قال: أخبرنا هشام بن حسان، عن الحسن، قال: كان الرجل إذا كانت له حاجة والإمام يخطب، قام فأمسك بأنفه، فأشار إليه الإمام أن يخرج، قال: فكان رجل قد أراد الرجوع إلى أهله، فقام إلى هرم بن حيان وهو يخطب، فأخذ بأنفه، فأشار إليه هرم أن يذهب، فخرج إلى أهله فأقام فيهم، ثم قدم، قال له هرم: أين كنت؟ قال: في أهلي؟ قال: أبإذن ذهبت؟ قال: نعم، قمت إليك وأنت تخطب فأخذتُ بأنفي، فأشرتَ إليّ أن اذهب فذهبت، فقال: أفاتخذت هذا دغلا؟ أو كلمة نحوها، ثم قال: اللهمّ أخر رجال السوء إلى زمان السوء. حدثني الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، في قوله: (وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ) قال: هو الجمعة إذا كانوا معه لم يذهبوا حتى يستأذنوه. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) قال: الأمر الجامع حين يكونوا معه في جماعة الحرب أو جمعة، قال: والجمعة من الأمر الجامع لا ينبغي لأحد أن يخرج إذا قعد الإمام على المنبر يوم الجمعة إلا بإذن سلطان، إذا كان حيث يراه أو يقدر عليه، ولا يخرج إلا بإذن، وإذا كان حيث لا يراه ولا يقدر عليه، ولا يصل إليه، فالله أولى بالعذر. وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) يقول تعالى ذكره: إن الذين لا ينصرفون يا محمد إذا كانوا معك في أمر جامع عنك إلا بإذنك لهم طاعة منهم لله ولك، وتصديقا بما أتيتهم به من عندي، أولئك الذين يصدقون الله ورسوله حقا، لا من يخالف أمر الله وأمر رسوله، فينصرف عنك بغير إذن منك له، بعد تقدّمك إليه أن لا ينصرف عنك إلا بإذنك. وقوله: (فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) يقول تعالى ذكره: فإذا استأذنك يا محمد الذين لا يذهبون عنك إلا بإذنك في هذه المواطن لبعض شأنهم، يعني: لبعض حاجاتهم التي تعرض لهم، فأذن لمن شئت منهم في الانصراف عنك لقضائها (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) يقول: وادع الله لهم بأن يتفضل عليهم بالعفو عن تبعات ما بينه وبينهم (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ) لذنوب عباده التائبين، (رحيم) بهم أن يعاقبهم عليها بعد توبتهم منها. القول في تأويل قوله تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) يقول تعالى ذكره لأصحاب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (لا تَجْعَلُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا) . واختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم: نهى الله بهذه الآية المؤمنين أن يتعرضوا لدعاء الرسول عليهم، وقال لهم: اتقوا دعاءه عليكم، بأن تفعلوا ما يسخطه، فيدعو لذلك عليكم فتهلكوا، فلا تجعلوا دعاءه كدعاء غيره من الناس، فإن دعاءه موجبة. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا) دعوة الرسول عليكم موجبة، فاحذروها. وقال آخرون: بل ذلك نهي من الله أن يدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلظ وجفاء، وأمر لهم أن يدعوه بلين وتواضع. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا) قال: أمرهم أن يدعوا: يا رسول الله، في لين وتواضع، ولا يقولوا: يا محمد، في تجهم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد مثله، (لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا) قال: أمرهم أن يدعوه: يا رسول الله، في لين وتواضع. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قَتادة، في قوله: (لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا) قال: أمرهم أن يفخِّموه ويشرّفوه. وأولى التأويلين في ذلك بالصواب عندي التأويل الذي قاله ابن عباس، وذلك أن الذي قبل قوله: (لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا) نهي من الله المؤمنين أن يأتوا من الانصراف عنه في الأمر الذي يجمع جميعهم ما يكرهه، والذي بعده وعيد للمنصرفين بغير إذنه عنه، فالذي بينهما بأن يكون تحذيرا لهم سخطه أن يضطّره إلى الدعاء عليهم أشبه من أن يكون أمرا لهم بما لم يجر له ذكر من تعظيمه وتوقيره بالقول والدعاء. ![]()
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() ![]() تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن الإمام محمد بن جرير الطبري الجزء التاسع عشر تَفْسِيرِ سُّورَةِ الفرقان الحلقة (1073) صــ 231 لى صــ 240 وقوله: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا) يقول تعالى ذكره: إنكم أيها المنصرفون عن نبيكم بغير إذنه، تسترا وخفية منه، وإن خفي أمر من يفعل ذلك منكم على رسول الله صلى الله عليه وسلم،فإن الله يعلم ذلك، ولا يخفى عليه، فليتق من يفعل ذلك منكم، الذين يخالفون أمر الله في الانصراف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بإذنه، أن تصيبهم فتنة من الله، أو يصيبهم عذاب أليم، فيطبع على قلوبهم، فيكفروا بالله. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا الحكم بن بشير، قال: ثنا عمرو بن قيس، عن جُويبر، عن الضحاك، في قول الله: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا) قال: كانوا يستتر بعضهم ببعض، فيقومون، فقال: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ) قال: يطبع على قلبه، فلا يأمن أن يظهر الكفر بلسانه فتُضرب عنقه. حدثنا ابن القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، قوله: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا) قال: خلافا. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قَال ابن زيد، في قوله: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا) قال: هؤلاء المنافقون الذين يرجعون بغير إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: اللواذ: يلوذ عنه، ويروغ ويذهب بغير إذن النبيّ صلى الله عليه وسلم (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) الذين يصنعون هذا أن تصيبهم فتنة، أو يصيبهم عذاب أليم. الفتنة هاهنا: الكفر، واللواذ: مصدر لاوذت بفلان ملاوذة ولواذا، ولذلك ظهرت الواو، ولو كان مصدرا للذتُ لقيل: لياذا، كما يقال: قمت قياما، وإذا قيل: قاومتك، قيل: قواما طويلا. واللواذ: هو أن يلوذ القوم بعضهم ببعض، يستتر هذا بهذا، وهذا بهذا، كما قال الضحاك. وقوله: (أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) يقول: أو يصيبهم في عاجل الدنيا عذاب من الله موجع، على صنيعهم ذلك، وخلافهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) وأدخلت "عن" ؛ لأن معنى الكلام: فليحذر الذين يلوذون عن أمره، ويدبرون عنه معرضين. القول في تأويل قوله تعالى: أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64) يقول تعالى ذكره: ألا إن لله ملك جميع السماوات والأرض: يقول: فلا ينبغي لمملوك أن يخالف أمر مالكه فيعصيه، فيستوجب بذلك عقوبته، يقول: فكذلك أنتم أيها الناس لا يصلح لكم خلاف ربكم الذي هو مالككم فأطيعوه، وأتمروا لأمره، ولا تنصرفوا عن رسوله إذا كنتم معه على أمر جامع إلا بإذنه. وقوله: (قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ) من طاعتكم إياه فيما أمركم ونهاكم من ذلك، كما حدثني أيضا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ) صنيعكم هذا أيضا (وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ) يقول: ويوم يرجع إلى الله الذين يخالفون عن أمره (فينبئهم) يقول: فيخبرهم حينئذ، (بِمَا عَمِلُوا) في الدنيا، ثم يجازيهم على ما أسلفوا فيها، من خلافهم على ربهم (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) يقول: والله ذو علم بكل شيء عملتموه أنتم وغيركم وغير ذلك من الأمور، لا يخفى عليه شيء، بل هو محيط بذلك كله، وهو موفٍّ كلّ عامل منكم أجر عمله يوم ترجعون إليه. آخر تفسير سورة النور. تفسير سورة الفرقان بسم الله الرحمن الرحيم القول في تأويل قوله جلّ ثناؤه وتقدست أسماؤه: {تَبَارَكَ الَّذِي نزلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) } قال أبو جعفر: تبارك: تفاعل من البركة، كما حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثمان بن سعيد، قال: ثنا بشر بن عمارة، قال: ثنا أبو روق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس، قال: تبارك: تفاعل من البركة. وهو كقول القائل: تقدّس ربنا، فقوله: (تَبَارَكَ الَّذِي نزلَ الْفُرْقَانَ) يقول: تبارك الذي نزل الفصل بين الحقّ والباطل، فصلا بعد فصل وسورة بعد سورة، على عبده محمد صلى الله عليه وسلم، ليكون محمد لجميع الجنّ والإنس، الذين بعثه الله إليهم داعيا إليه، نذيرا: يعني منذرا ينذرهم عقابه ويخوِّفهم عذابه، إن لم يوحدوه ولم يخلصوا له العبادة، ويخلعوا كلّ ما دونه من الآلهة والأوثان. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (تَبَارَكَ الَّذِي نزلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) قال: النبيّ النذير. وقرأ (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ) وقرأ (وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلا لَهَا مُنْذِرُونَ) قال: رسل. قال: المنذرون: الرسل. قال: وكان نذيرا واحدا بلَّغ ما بين المشرق والمغرب، ذو القرنين، ثم بلغ السدّين، وكان نذيرا، ولم أسمع أحدا يحق أنه كان نبيا (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) قال: من بلغه القرآن من الخلق، فرسول الله نذيره. وقرأ (يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) وقال: لم يرسل الله رسولا إلى الناس عامة إلا نوحا، بدأ به الخلق، فكان رسول أهل الأرض كلهم، ومحمد صلى الله عليه وسلم ختم به. القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) } يقول تعالى ذكره: تبارك الذي نزل الفرقان (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) فالذي الثانية من نعت الذي الأولى، وهما جميعا في موضع رفع، الأولى بقوله تبارك، والثانية نعت لها ويعني بقوله: (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) الذي له سلطان السماوات والأرض ينفذ في جميعها أمره وقضاءه، ويمضي في كلها أحكامه، يقول: فحقّ على من كان كذلك أن يطيعه أهل مملكته، ومن في سلطانه، ولا يعصوه، يقول: فلا تعصوا نذيري إليكم أيها الناس، واتبعوه، واعملوا بما جاءكم به من الحق (وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا) يقول: تكذيبا لمن أضاف إليه الولد، وقال: الملائكة بنات الله، ما اتخذ الذي نزل الفرقان على عبده ولدا، فمن أضاف إليه ولدا فقد كذب وافترى على ربه (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) يقول تكذيبا لمن كان يضيف الألوهة إلى الأصنام ويعبدها من دون الله من مشركي العرب، ويقول في تلبيته: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك، كذب قائلو هذا القول، ما كان لله من شريك في مُلكه وسلطانه، فيصلح أن يعبد من دونه. يقول تعالى ذكره: فأفردوا أيها الناس لربكم الذي نزل الفرقان على عبده محمد نبيه صلى الله عليه وسلم الألوهة، وأخلصوا له العبادة دون كلّ ما تعبدونه من دونه من الآلهة والأصنام والملائكة والجنّ والإنس، فإن كلّ ذلك خلقه وفي ملكه، فلا تصلح العبادة إلا لله الذي هو مالك جميع ذلك، وقوله: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) يقول تعالى ذكره: وخلق الذي نزل على محمد الفرقان كل شيء، فالأشياء كلها خلقه وملكه، وعلى المماليك طاعة مالكهم، وخدمة سيدهم دون غيره. يقول: وأنا خالقكم ومالككم، فأخلصوا لي العبادة دون غيري، وقوله: (فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) يقول: فسوّى كل ما خلق، وهيأه لما يصلح له، فلا خلل فيه ولا تفاوت. القول في تأويل قوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا (3) } يقول تعالى ذكره مقرعا مشركي العرب بعبادتهم ما دونه من الآلهة، ومعجبا أولي النهى منهم، ومنبههم على موضع خطأ فعلهم وذهابهم عن منهج الحقّ، وركوبهم من سبل الضلالة ما لا يركبه إلا كل مدخول الرأي، مسلوب العقل: واتخذ هؤلاء المشركون بالله من دون الذي له مُلك السماوات والأرض وحده. من غير شريك، الذي خلق كل شيء فقدّره، آلهة: يعني أصناما بأيديهم يعبدونها، لا تخلق شيئا وهي تخلق، ولا تملك لأنفسها نفعا تجرّه إليها، ولا ضرّا تدفعه عنها ممن أرادها بضرّ، ولا تملك إماتة حيّ، ولا إحياء ميت، ولا نشره من بعد مماته، وتركوا عبادة خالق كلّ شيء، وخالق آلهتهم، ومالك الضرّ والنفع، والذي بيده الموت والحياة والنشور. والنشور: مصدر نُشر الميت نشورا، وهو أن يُبعث ويحيا بعد الموت. القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) } يقول تعالى ذكره: وقال هؤلاء الكافرون بالله، الذين اتخذوا من دونه آلهة: ما هذا القرآن الذي جاءنا به محمد (إِلا إِفْكٌ) يعني: إلا كذب وبهتان (افْتَرَاهُ) اختلقه وتخرّصه بقوله: (وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) ذكر أنهم كانوا يقولون: إنما يعلِّم محمدا هذا الذي يجيئنا به اليهود، فذلك قوله: (وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) يقول: وأعان محمدا على هذا الإفك الذي افتراه يهود. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) قال: يهود. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، مثله. وقوله: (فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا) يقول تعالى ذكره: فقد أتى قائلو هذه المقالة، يعني الذين قالوا: (إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) ظلما، يعني بالظلم نسبتهم كلام الله وتنزيله إلى أنه إفك افتراه محمد صلى الله عليه وسلم. وقد بيَّنا فيما مضى أن معنى الظلم: وضع الشيء في غير موضعه، فكان ظلم قائلي هذه المقالة القرآن بقيلهم هذا وصفهم إياه بغير صفته، والزور: أصله تحسين الباطل. فتأويل الكلام: فقد أتى هؤلاء، القوم في قيلهم (إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) كذبا محضا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، وحدثني القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد (فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا) قال: كذبًا. القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا (5) قُلْ أَنزلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6) } ذكر أن هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث، وأنه المعني بقوله: (وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ) . * ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يونس بن بكير، قال: ثنا محمد بن إسحاق، قال: ثنا شيخ من أهل مصر، قدم منذ بضع وأربعين سنة، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصيّ من شياطين قريش، وكان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينصب له العداوة، وكان قد قدم الحيرة، تعلَّم بها أحاديث ملوك فارس، وأحاديث رستم وأسفنديار، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس مجلسا، فذكّر بالله وحدّث قومه ما أصاب من قبلهم من الأمم، من نقمة الله خلفه في مجلسه إذا قام، ثم يقول: أنا والله يا معشر قُريش أحسن حديثا منه. فهلموا فأنا أحدثكم أحسن من حديثه، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم وأسفنديار، ثم يقول: ما محمد أحسن حديثا مني، قال: فأنزل الله تبارك وتعالى في النضر ثماني آيات من القرآن، قوله: (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ) وكل ما ذُكِر فيه الأساطير في القرآن. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد أو عكرمة، عن ابن عباس نحوه، إلا أنه جعل قوله: "فأنزل الله في النضر ثماني آيات" ، عن ابن إسحاق، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج (أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ) أشعارهم وكهانتهم، وقالها النضر بن الحارث. فتأويل الكلام: وقال هؤلاء المشركون بالله، الذين قالوا لهذا القرآن (إن هذا إلا إفك افتراه) محمد صلى الله عليه وسلم: هذا الذي جاءنا به محمد أساطير الأوّلين، يعنون أحاديثهم التي كانوا يسطرونها في كتبهم، اكتتبها محمد صلى الله عليه وسلم من يهود، (فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ) يعنون بقوله: (فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ) فهذه الأساطير تقرأ عليه، من قولهم: أمليت عليك الكتاب وأمللت (بُكْرَةً وَأَصِيلا) يقول: وتملى عليه غدوة وعشيا. وقوله: (قُلْ أَنزلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لهؤلاء المكذّبين بآيات الله من مشركي قومك: ما الأمر كما تقولون من أن هذا القرآن أساطير الأولين، وأن محمد صلى الله عليه وسلم افتراه وأعانه عليه قوم آخرون، بل هو الحقّ، أنزله الربّ الذي يعلم سرّ من في السماوات ومن في الأرض، ولا يخفى عليه شيء، ومحصي ذلك على خلقه، ومجازيهم بما عزمت عليه قلوبهم، وأضمروه في نفوسهم (إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا) يقول: إنه لم يزل يصفح عن خلقه ويرحمهم، فيتفضل عليهم بعفوه، يقول: فلأن ذلك من عادته في خلقه، يمهلكم أيها القائلون ما قلتم من الإفك، والفاعلون ما فعلتم من الكفر. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج (قُلْ أَنزلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) قال: ما يسرّ أهل الأرض وأهل السماء. القول في تأويل قوله تعالى: وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأسْوَاقِ لَوْلا أُنزلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنز أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَسْحُورًا (8) ذُكر أن هاتين الآيتين نزلتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كان مشركو قومه قالوا له ليلة اجتماع أشرافهم بظهر الكعبة، وعرضوا عليه أشياء، وسألوه الآيات. فكان فيما كلموه به حينئذ، فيما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ثني محمد بن أبي محمد، مولى زيد بن ثابت، عن سعيد بن جُبير، أو عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس أن قالوا له: فإن لم تفعل لنا هذا- يعني ما سألوه من تسيير جبالهم عنهم، وإحياء آبائهم، والمجيء بالله والملائكة قبيلا وما ذكره الله في سورة بني إسرائيل، فخذ لنفسك، سل ربك يبعث معك ملَكا يصدّقك بما تقول، ويراجعنا عنك، وسله فيجعل لك قصورا وجنانا، وكنوزا من ذهب وفضة، تغنيك عما نراك تبتغي، فإنك تقوم بالأسواق، وتلتمس المعاش كما نلتمسه، حتى نعلم فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنا بفاعل، فأنزل الله في قولهم: أن خذ لنفسك ما سألوه، أن يأخذ لها، أن يجعل له جنانا وقصورا وكنوزا، أو يبعث معه ملَكا يصدّقه بما يقول، ويردّ عنه من خاصمه. (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأسْوَاقِ لَوْلا أُنزلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنز أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَسْحُورًا) . فتأويل الكلام: وقال المشركون ما لهذا الرسول يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم، الذي يزعم أن الله بعثه إلينا يأكل الطعام كما نأكل، ويمشي في أسواقنا كما نمشي (لَوْلا أُنزلَ إِلَيْهِ) يقول: هلا أنزل إليه ملَك إن كان صادقا من السماء، فيكون معه منذرا للناس، مصدّقا له على ما يقول، أو يلقى إليه كنز من فضة أو ذهب، فلا يحتاج معه إلى التصرّف في طلب المعاش (أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ) يقول: أو يكون له بستان (يَأْكُلُ مِنْهَا) . واختلف القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين (يَأْكُلُ) بالياء، بمعنى: يأكل منها الرسول. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين (نَأْكُلُ مِنْهَا) بالنون، بمعنى: نأكل من الجنة. وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأه بالياء، وذلك للخبر الذي ذكرنا قبل بأن مسألة من سأل من المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يسأل ربه هذه الخلال لنفسه لا لهم. فإذ كانت مسألتهم إياه ذلك كذلك، فغير جائز أن يقولوا له: ![]()
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
![]() ![]() تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن الإمام محمد بن جرير الطبري الجزء التاسع عشر تَفْسِيرِ سُّورَةِ الفرقان الحلقة (1074) صــ 241 لى صــ 250 سل لنفسك ذلك لنأكل نحن. وبعدُ، فإن في قوله تعالى ذكره: (تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ) دليلا بيِّنا على أنهم إنما قالوا له: اطلب ذلك لنفسك، لتأكل أنت منه، لا نحن. وقوله: (وَقَالَ الظَّالِمُونَ) يقول: وقال المشركون للمؤمنين بالله ورسوله: (إِنْ تَتَّبِعُونَ) أيها القوم باتباعكم محمدا (إِلا رَجُلا) به سحر. القول في تأويل قوله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10) } يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: انظر يا محمد إلى هؤلاء المشركين الذين شبهوا لك الأشباه بقولهم لك: هو مسحور، فضلوا بذلك عن قصد السبيل، وأخطؤوا طريق الهدى والرشاد، فلا يستطيعون يقول: فلا يجدون سبيلا إلى الحقّ، إلا فيما بعثتك به، ومن الوجه الذي ضلوا عنه. وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ثني محمد بن أبى محمد، عن سعيد بن جُبير، أو عكرمة، عن ابن عباس (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا) أي التمسوا الهدى في غير ما بعثتك به إليهم فضلوا، فلن يستطيعوا أن يصيبوا الهدى في غيره. وقال آخرون في ذلك ما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا) قال: مخرجا يخرجهم من الأمثال التي ضربوا لك. وقوله: (تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ) يقول تعالى ذكره: تقدس الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك. واختلف أهل التأويل في المعني ب: "ذلك" التي في قوله: (جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ) فقال بعضهم: معنى ذلك: خيرا مما قال هؤلاء المشركون لك يا محمد: هلا أوتيته وأنت لله رسول، ثم بين تعالى ذكره عن الذي لو شاء جعل له من خير مما قالوا، فقال: (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ) . * ذكر من قال ذلك. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ) خيرا مما قالوا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، قوله: (تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ) قال: مما قالوا وتمنوا لك، فيجعل لك مكان ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار. وقال آخرون: عني بذلك المشي في الأسواق، والتماس المعاش. * ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، فيما يرى الطبري، عن سعيد بن جُبير، أو عكرمة، عن ابن عباس قال: ثم قال: (تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ) من أن تمشي في الأسواق، وتلتمس المعاش كما يلتمسه الناس، (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا) . قال أبو جعفر: والقول الذي ذكرناه عن مجاهد في ذلك أشبه بتأويل الآية، لأن المشركين إنما استعظموا أن لا تكون له جنة يأكل منها، وأن لا يلقى إليه كنز واستنكروا أن يمشي في الأسواق، وهو لله رسول، فالذي هو أولى بوعد الله إياه أن يكون وعدا بما هو خير مما كان عند المشركين عظيما، لا مما كان منكرا عندهم، وعني بقوله: (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ) بساتين تجري في أصول أشجارها الأنهار. كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ) قال: حوائط. وقوله: (وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا) يعني بالقصور: البيوت المبنية. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: قال أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا) قال: بيوتا مبنية مشيدة، كان ذلك في الدنيا، قال: كانت قريش ترى البيت من الحجارة قصرا كائنا ما كان. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد (وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا) مشيدة في الدنيا، كل هذا قالته قريش. وكانت قريش ترى البيت من حجارة ما كان صغيرا (1) قصرا. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن حبيب قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن شئت أن نعطيك من خزائن الأرض ومفاتيحها ما لم يعط نبي قبلك، ولا يعطى من بعدك، ولا ينقص ذلك مما لك عند الله تعالى، فقال: "اجمعوها لي في الآخرة" ، فأنزل الله في ذلك (تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا) . القول في تأويل قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) } (1) الظاهر أنه سقط من قلم الناسخ "أو كبيرًا" كما يفيده ما قبله. والذي في ابن كثير "صغيرًا كان أو كبيرًا" القول في تأويل قوله تعالى: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) } يقول تعالى ذكره: ما كذب هؤلاء المشركون بالله، وأنكروا ما جئتهم به يا محمد من الحق من أجل أنك تأكل الطعام، وتمشي في الأسواق، ولكن من أجل أنهم لا يوقنون بالمعاد، ولا يصدقون بالثواب والعقاب تكذيبا منهم بالقيامة، وبعث الله الأموات أحياء لحشر القيامة. (واعتدنا) يقول: وأعددنا لمن كذب ببعث الله الأموات أحياء بعد فنائهم لقيام الساعة، نارا تسعر عليهم وتتقد (إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) ، يقول: إذا رأت هذه النار التي اعتدناها لهؤلاء المكذبين أشخاصهم من مكان بعيد، تغيظت عليهم، وذلك أن تغلي وتفور، يقال: فلان تغيظ على فلان، وذلك إذ غضب عليه، فغلى صدره من الغضب عليه، وتبين في كلامه، (وَزَفِيرًا) ، وهو صوتها. فإن قال قائل: وكيف قيل (سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا) والتغيظ: لا يسمع، قيل معنى ذلك: سمعوا لها صوت التغيظ من التلهب والتوقد. حدثني محمود بن خداش، قال: ثنا محمد بن يزيد الواسطي، قال: ثنا أصبع بن زيد الوَرَّاقُ، عن خالد بن كثير، عن فديك، عن رجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يَقُولُ عَليَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ بَيْنَ عَيْنَيْ جَهَنَّمَ مَقْعَدًا" قالوا: يا رسول الله، وهل لها من عين؟ قال: "أَلَمْ تَسْمَعُوا إلى قَوْلِ اللهِ (إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) " ... الآية. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر في قوله: (سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا) قال: أخبرني المنصور بن المعتمر، عن مجاهد، عن عبيد بن عمير، قال: إن جهنم لتزفر زفرة لا يبقى ملك ولا نبي إلا خر ترعد فرائضه حتى إن إبراهيم ليجثو على ركبتيه، فيقول: يا رب لا أسألك اليوم إلا نفسي!. حدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: إن الرجل ليجر إلي النار، فتنزوي، وينقبض بعضها إلى بعض، فيقول لها الرحمن: ما لك؟ فتقول: إنه ليستجير مني! فيقول: أرسلوا عبدي. وإن الرجل ليجر إلى النار، فيقول: يا رب ما كان هذا الظن بك؟ فيقول: ما كان ظنك؟ فيقول: أن تسعني رحمتك، قال: فيقول أرسلوا عبدي. وإن الرجل ليجرُّ إلى النار، فتشهق إليه النار شهوق البغلة إلى الشعير، وتزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف. القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14) } يقول تعالى ذكره: وإذا ألقي هؤلاء المكذّبون بالساعة من النار مكانا ضيقا، قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال (دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا) . واختلف أهل التأويل في معنى الثبور، فقال بعضهم: هو الويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس. في قوله: (وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا) يقول: ويلا. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا) يقول: لا تدعوا اليوم ويلا واحدا، وادعوا ويلا كثيرا. وقال آخرون: الثبور الهلاك. * ذكر من قال ذلك: حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله: (لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا) الثبور: الهلاك. قال أبو جعفر: والثبور في كلام العرب: أصله انصراف الرجل عن الشيء، يقال منه: ما ثبرك عن هذا الأمر: أي ما صرفك عنه، وهو في هذا الموضع دعاء هؤلاء القوم بالندم على انصرافهم عن طاعة الله في الدنيا، والإيمان بما جاءهم به نبيّ الله صلى الله عليه وسلم حتى استوجبوا العقوبة منه، كما يقول القائل: وا ندامتاه، وا حسرتاه على ما فرطت في جنب الله: وكان بعض أهل المعرفة بكلام العرب من أهل البصرة يقول في قوله: (دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا) أي هلكة، ويقول: هو مصدر من ثبر الرجل: أي أهلك، ويستشهد لقيله في ذلك ببيت ابن الزّبَعْرى: إذ أُجاري الشَّيطَان في سَنَن الغ ... يّ ومن مَال مَيْلَهُ مَثْبُورا (1) وقوله: (لا تَدْعُوا الْيَوْمَ) أيها المشركون ندمًا واحدًا: أي مرة واحدة، ولكن ادعوا ذلك كثيرا. وإنما قيل: (لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا) لأن الثبور مصدر؛ والمصادر لا تجمع، وإنما توصف بامتداد وقتها وكثرتها، كما يقال: قعد قعودا طويلا وأكل أكلا كثيرا. حدثنا محمد بن مرزوق، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد قال: ثنا عليّ بن زيد، عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أوَّلُ مَنْ يُكْسَى حُلَّةً مِنَ النَّار إِبْلِيسُ،" (1) البيت لعبد الله بن الزبعرى شاعر قريش الذي كان يهجو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه ثم خرج إليه وأسلم بعد فتح مكة، وقال حين أسلم شعرًا، منه هذا البيت من مقطوعة أربعة أبيات أنشدها ابن إسحاق في السيرة (طبعة الحلبي 4: 61) ومعنى أجاري: أباري وأعارض. والسنن بالتحريك: وسط الطريق. ومثبور: هالك. والشاهد فيه عند المؤلف أن الثبور معناه الهلاك والمثبور: الهالك فَيَضَعُها عَلى حاجبَيْه، ويَسْحَبُها مِنْ خَلْفِهِ، وَذُرَّيَّتُهُ مِنْ خَلْفِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: يا ثُبُورَاه، وَهُمْ يُنَادُونَ: يا ثُبُورَهُمْ فيقال: (لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا) "." القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولا (16) } يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لهؤلاء المكذّبين بالساعة: أهذه النار التي وصف لكم ربكم صفتها وصفة أهلها خير؟ أم بستان الخلد الذي يدوم نعيمه ولا يبيد، الذي وعد من اتقاه في الدنيا بطاعته فيما أمره ونهاه؟ وقوله: (كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا) يقول: كانت جنة الخلد للمتقين جزاء أعمالهم لله في الدنيا بطاعته، وثواب تقواهم إياه، ومصيرا لهم، يقول: ومصيرا للمتقين يصيرون إليها في الآخرة. وقوله: (لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ) يقول: لهؤلاء المتقين في جنة الخلد التي وعدهموها الله ما يشاءون مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، (خَالِدِينَ) فيها، يقول: لابثين فيها ماكثين أبدا، لا يزولون عنها ولا يزول عنهم نعيمها. وقوله: (كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولا) وذلك أن المؤمنين سألوا ربهم ذلك في الدنيا حين قالوا: (وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ) يقول الله تبارك وتعالى: وكان إعطاء الله المؤمنين جنة الخلد التي وصف صفتها في الآخرة وعدا وعدهم الله على طاعتهم إياه في الدنيا، ومسألتهم إياه ذلك. وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس (كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولا) قال: فسألوا الذي وعدهم وتنجزوه. حدثني يونس. قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولا) قال: سألوه إياها في الدنيا، طلبوا ذلك فأعطاهم وعدهم إذ سألوه أن يعطيهم، فأعطاهم، فكان ذلك وعدا مسئولا كما وقَّت أرزاق العباد في الأرض قبل أن يخلقهم فجعلها أقواتا للسائلين، وقَّت ذلك على مسألتهم، وقرأ (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ) . وقد كان بعض أهل العربية يوجه معنى قوله: (وَعْدًا مَسْئُولا) إلى أنه معنيّ به وعدا واجبا، وذلك أن المسئول واجب، وإن لم يُسأل كالدين، ويقول ذلك نظير قول العرب: لأعطينك ألفا وعدا مسئولا بمعنى واجب لك، فتسأله. القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) } يقول تعالى ذكره: ويوم نحشر هؤلاء المكذّبين بالساعة، العابدين الأوثان، وما يعبدون من دون الله من الملائكة والإنس والجنّ. كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) فيقول: (أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ) قال: عيسى وعُزير والملائكة. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، نحوه. واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأه أبو جعفر القارئ وعبد الله بن كثير: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ) بالياء جميعا، بمعنى: ويوم يحشرهم ربك، ويحشر ما يعبدون من دون فيقول. وقرأته عامة قرّاء الكوفيين (نَحْشُرُهُمْ) بالنون، فنقول. وكذلك قرأه نافع. وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان متقاربتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. وقوله: (فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ) يقول: فيقول الله للذين كان هؤلاء المشركون يعبدونهم من دون الله: أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء: يقول: أنتم أزلتموهم عن طريق الهدى، ودعوتموهم إلى الغيّ والضلالة حتى تاهوا وهلكوا، أم هم ضلوا السبيل، يقول: أم عبادي هم الذين ضلوا سبيل الرشد والحقّ وسلكوا العطب. القول في تأويل قوله تعالى: قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) يقول تعالى ذكره: قالت الملائكة الذين كان هؤلاء المشركون يعبدونهم من دون الله وعيسى: تنزيها لك يا ربنا، وتبرئة مما أضاف إليك هؤلاء المشركون، ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء نواليهم، أنت ولينا من دونهم، ولكن متعتهم بالمال يا ربنا في الدنيا والصحة، حتى نسوا الذكر وكانوا قوما هَلْكى، قد غلب عليهم الشقاء والخذلان. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا) يقول: قوم قد ذهبت أعمالهم وهم في الدنيا، ولم تكن لهم أعمال صالحة. حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا) يقول: هلكى. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا) يقول: هلكى. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن الحسن (وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا) قال: هم الذين لا خير فيهم، حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا) قال: يقول: ليس من الخير في شيء. البور: الذي ليس فيه من الخير شيء. واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ) فقرأ ذلك عامة قراء الأمصار (نَتَّخِذَ) بفتح النون سوى الحسن ويزيد بن القعقاع، فإنهما قرآه: (أنَّ نُتَّخَذَ) بضم النون. فذهب الذين فتحوها إلى المعنى الذي بَيَّنَّاه في تأويله من أن الملائكة وعيسى، ومن عُبِد من دون الله من المؤمنين، هم الذين تبرّءوا أن يكون كان لهم وليّ غير الله تعالى ذكره. وأما الذين قرءوا ذلك بضمّ النون، فإنهم وجهوا معنى الكلام إلى أن المعبودين في الدنيا إنما تبرّءوا إلى الله أن يكون كان لهم أن يعبدوا من دون الله جلّ ثناؤه، كما أخبر الله عن عيسى، أنه قال إذا قيل: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ....* مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأه بفتح النون، لعلل ثلاث: إحداهن إجماع من القرّاء عليها. والثانية: أن الله جلّ ثناؤه ذكر نظير هذه القصة في سورة سبأ، فقال: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ) ، فأخبر عن الملائكة أنهم إذا سُئلوا عن عبادة من عبدهم تبرّءوا إلى الله من ولايتهم، فقالوا لربهم: (أنت ولينا من دونهم) فذلك يوضح عن صحة قراءة من قرأ ذلك (مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ) بمعنى: ما كان ينبغي لنا أن نتخذهم من دونك أولياء. والثالثة: أن العرب لا تدخل "مِن" هذه التي تدخل في الجحد إلا في الأسماء، ولا تدخلها في الأخبار، لا يقولون: ما رأيت أخاك من رجل، وإنما يقولون: ما رأيت من أحد، وما عندي من رجل، وقد دخلت ها هنا في الأولياء، وهي في موضع الخبر، ولو لم تكن فيها "من" كان وجها حسنا. وأما البور: فمصدر واحد وجمع للبائر، يقال: أصبحت منازلهم بورا: أي خالية لا شيء فيها، ومنه قولهم: بارت السوق وبار الطعام إذا خلا من الطلاب والمشتري، فلم يكن له طالب، فصار كالشيء الهالك; ومنه قول ابن الزبعْرى: يَا رَسُولَ المَلِيكِ إنَّ لسانِي ... رَاتقٌ ما فَتَقْتُ إذْ أنا بُورُ (1) وقد قيل: إن بور: مصدر، كالعدل والزور والقطع، لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث، وإنما أريد بالبور في هذا الموضع أن أعمال هؤلاء الكفار كانت باطلة؛ لأنها لم تكن لله كما ذكرنا عن ابن عباس. (1) البيت لعبد الله بن الزبعرى قاله حين أسلم عند فتح مكة. وهو في أول المقطوعة قبل البيت الذي مضى شرحه قبل هذا. وراتق: مصلح لما أفسدت، وأصل الرتق السد للثوب الممزق بإصلاح ما تقطع منه. وفتقت: أي أفسدت من الدين، فكل إثم فتق وتمزيق، وكل ثوبة رتق وإصلاح. وبور: هالك. يقال: رجل بور وبائر، وقوم بور، وأصل البور: مصدر بار يبور بورًا، ثم وصف به فلزم الإفراد لأن المصادر لا تجمع. وقال المؤلف: إنه مصدر واحد (غير مجموع) ، وجمع للبائر، قال يقال: أصبحت منازلهم بورًا، أي خالية القول في تأويل قوله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا (19) } يقول تعالى ذكره مخبرا عما هو قائل للمشركين عند تبرّي من كانوا يعبدونه في الدنيا من دون الله منهم: قد كذّبوكم أيها الكافرون من زعمتم أنهم أضلوكم، ودعوكم إلى عبادتهم بما تقولون، يعني بقولكم، يقول: كذّبوكم بكذبكم. وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ![]()
__________________
|
#6
|
||||
|
||||
![]() ![]() تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن الإمام محمد بن جرير الطبري الجزء التاسع عشر تَفْسِيرِ سُّورَةِ الفرقان الحلقة (1075) صــ 251 لى صــ 260 ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ) يقول الله للذين كانوا يعبدون عيسى وعُزيرا والملائكة، يكذّبون المشركين. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ) قال: عيسى وعُزيرا والملائكة، يكذّبون المشركين بقولهم. وكان ابن زيد يقول في تأويل ذلك: ما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا) قال: كذّبوكم بما تقولون بما جاء من عند الله جاءت به الأنبياء والمؤمنون آمنوا به، وكذب هؤلاء فوجه ابن زيد تأويل قوله: (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ) إلى: فقد كذّبوكم أيها المؤمنون المكذّبون بما جاءهم به محمد من عند الله، بما تقولون من الحقّ، وهو أن يكون خبرا عن الذين كذّبوا الكافرين في زعمهم أنهم دعوهم إلى الضلالة، وأمروهم بها على ما قاله مجاهد من القول الذي ذكرناه عنه أشبه وأولى; لأنه في سياق الخبر عنهم، والقراءة في ذلك عندنا (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ) بالتاء على التأويل الذي ذكرناه، لإجماع الحجة من قرّاء الأمصار عليه. وقد حُكي عن بعضهم أنه قرأه (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا يَقُولُونَ) بالياء، بمعنى: فقد كذبوكم بقولهم. وقوله جلّ ثناؤه (فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا) يقول: فما يستطيع هؤلاء الكفار صرف عذاب الله حين نزل بهم عن أنفسهم، ولا نصرها من الله حين عذّبها وعاقبها. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (فَمَا يَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا) قال: المشركون لا يستطيعونه. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد (فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا) قال: المشركون. قال ابن جُرَيج: لا يستطيعون صرف العذاب عنهم، ولا نصر أنفسهم. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (فَمَا يَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا) قال: لا يستطيعون يصرفون عنهم العذاب الذي نزل بهم حين كذّبوا، ولا أن ينتصروا قال: وينادي مناد يوم القيامة حين يجتمع الخلائق: ما لكم لا تناصرون، قال: من عبد من دون الله لا ينصر اليوم من عبده، وقال العابدون من دون الله: لا ينصره اليوم إلهه الذي يعبد من دون الله، فقال الله تبارك وتعالى: (بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ) وقرأ قول الله جلّ ثناؤه (فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ) . ورُوي عن ابن مسعود في ذلك ما حدثنا به أحمد بن يونس، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا حجاج، عن هارون، قال: هي في حرف عبد الله بن مسعود (فَمَا يَسْتَطِيعُونَ لكَ صَرْفًا) فإن تكن هذه الرواية عنه صحيحة صحّ التأويل الذي تأوّله ابن زيد في قوله: (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ) ويصير قوله (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ) خبرا عن المشركين أنهم كذّبوا المؤمنين، ويكون تأويل قوله حينئذ (فَمَا يَسْتَطِيعُونَ لكَ صَرْفًا) فما يستطيع يا محمد هؤلاء الكفار لك صرفا عن الحق الذي هداك الله له، ولا نصر أنفسهم، مما بهم من البلاء الذي هم فيه، بتكذيبهم إياك. القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19) } يقول تعالى ذكره للمؤمنين به: (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ) أيها المؤمنون- يعني بقوله: (وَمَنْ يَظْلِمْ) ومن يشرك بالله فيظلم نفسه، فذلك نذقه عذابا كبيرا كالذي ذكرنا أنَّا نذيقه الذين كذّبوا بالساعة. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثني الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جُرَيج، في قوله: (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ) قال: يشرك (نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا) . حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الحسن، في قوله: (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ) قال: هو الشرك: القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20) } وهذا احتجاج من الله تعالى ذكره لنبيه على مشركي قومه الذين قالوا: (مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأسْوَاقِ) وجواب لهم عنه يقول لهم جلّ ثناؤه: وما أنكر يا محمد هؤلاء القائلون: ما لهذا الرسول يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق، من أكلك الطعام، ومشيك في الأسواق، وأنت لله رسول، فقد علموا أنا ما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، كالذي تأكل أنت وتمشي، فليس لهم عليك بما قالوا من ذلك حجة. فان قال قائل: فإن (من) ليست في التلاوة، فكيف قلت: معنى الكلام: إلا من إنهم ليأكلون الطعام؟ قيل: قلنا في ذلك: معناه: أن الهاء والميم في قوله: إنهم، كناية أسماء لم تذكر، ولا بد لها من أن تعود على من كُني عنه بها، وإنما ترك ذكر "من" وإظهاره في الكلام اكتفاء بدلالة قوله: (مِنَ الْمُرْسَلِينَ) عليه، كما اكتفي في قوله: (وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ) من إظهار "من" ، ولا شكّ أن معنى ذلك: وما منا إلا من له مقام معلوم، كما قيل (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا) ومعناه: وإن منكم إلا من هو واردها، فقوله: (إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ) صلة لمن المتروك، كما يقال في الكلام: ما أرسلت إليك من الناس إلا من إنه ليبلغك الرسالة، فإنه ليبلغك الرسالة، صلة لمن. وقوله: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً) يقول تعالى ذكره: وامتحنا أيها الناس بعضكم ببعض، جعلنا هذا نبيا وخصصناه بالرسالة، وهذا ملِكا وخصصناه بالدنيا، وهذا فقيرًا وحرمناه الدنيا لنختبر الفقير بصبره على ما حرم مما أعطيه الغنيّ، والملك بصبره على ما أعطيه الرسول من الكرامة، وكيف رضي كل إنسان منهم بما أعطى، وقسم له، وطاعته ربه مع ما حرم مما أعطى غيره. يقول فمن أجل ذلك لم أعط محمدا الدنيا، وجعلته يطلب المعاش في الأسواق، ولأبتليكم أيها الناس، وأختبر طاعتكم ربكم وإجابتكم رسوله إلى ما دعاكم إليه، بغير عرض من الدنيا ترجونه من محمد أن يعطيكم على اتباعكم إياه، لأني لو أعطيته الدنيا، لسارع كثير منكم إلى اتباعه طمعا في دنياه أن يَنال منها. وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، قال: ثني عبد القدوس، عن الحسن، في قوله: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً) ... الآية، يقول هذا الأعمى: لو شاء الله لجعلني بصيرا مثل فلان، ويقول هذا الفقير: لو شاء الله لجعلني غنيا مثل فلان، ويقول هذا السقيم: لوشاء الله لجعلني صحيحا مثل فلان. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، في قوله: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ) قال: يمسك عن هذا، ويوسع على هذا، فيقول: لم يعطني مثل ما أعطى فلانا، ويبتلى بالوجع كذلك، فيقول: لم يجعلني ربي صحيحا مثل فلان في أشباه ذلك من البلاء، ليعلم من يصبر ممن يجزع. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني ابن إسحاق، قال: ثني محمد بن أبي محمد، فيما يرى الطبري، عن عكرمة، أو عن سعيد، عن ابن عباس، قال: وأنزل عليه في ذلك من قولهم: (مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأسْوَاقِ) ... الآية: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ) : أي جعلت بعضكم لبعض بلاء لتصبروا على ما تسمعون منهم، وترون من خلافهم، وتتبعوا الهدى بغير أن أعطيهم عليه الدنيا، ولو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي، فلا يخالفون لفعلت، ولكني قد أردت أن أبتلي العباد بكم وأبتليكم بهم. وقوله: (وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا) يقول: وربك يا محمد بصير بمن يجزع ومن يصبر على ما امتحن به من المحن. كما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج (وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا) إن ربك لبصير بمن يجزع، ومن يصبر. القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) } يقول تعالى ذكره: وقال المشركون الذين لا يخافون لقاءنا، ولا يَخْشَون عقابنا، هلا أنزل الله علينا ملائكة، فتخبرَنا أن محمدًا محقّ فيما يقول، وأن ما جاءنا به صدق، أو نرى ربنا فيخبرنا بذلك، كما قال جلّ ثناؤه مخبرا عنهم: (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا) ثم قال بعد: (أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا) يقول الله: لقد استكبر قائلو هذه المقالة في أنفسهم، ونعظموا، (وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا) يقول: وتجاوزوا في الاستكبار بقيلهم ذلك حدّه. وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: قال كفار قريش: (لَوْلا أُنزلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ) فيخبرونا أن محمدا رسول الله (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا) لأن "عتا" من ذوات الواو، فأخرج مصدره على الأصل بالواو، وقيل في سورة مريم (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) وإنما قيل ذلك كذلك لموافقة المصادر في هذا الوجه جمع الأسماء كقولهم: قعد قعودا، وهم قوم قعود، فلما كان ذلك كذلك، وكان العاتي يجمع عتيا بناء على الواحد، جعل مصدره أحيانا موافقا لجمعه، وأحيانا مردودا إلى أصله. القول في تأويل قوله تعالى: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) } يقول تعالى ذكره: يوم يرى هؤلاء الذين قالوا: (لَوْلا أُنزلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا) بتصديق محمد الملائكة، فلا بشرى لهم يومئذ بخير (وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا) يعني أن الملائكة يقولون للمجرمين حجرا محجورا، حراما محرّما عليكم اليوم البشرى أن تكون لكم من الله; ومن الحجر قول المتلمس: حَنَّتْ إلى نَخْلَةَ القُصْوَى فَقُلْتُ لَهَا ... حِجْرٌ حَرَامٌ ألا تِلْكَ الدَّهاريسُ (1) ومنه قولهم: حجر القاضي على فلان، وحجر فلان على أهله; ومنه حجر الكعبة، لأنه لا يدخل إليه في الطواف، وإنما يطاف من ورائه; ومنه قول الآخر. فَهَمَمْتُ أنْ أَلْقَى إلَيْها مَحْجَرًا ... فَلَمِثْلُهَا يُلْقَى إلَيْهِ المَحْجَرُ (2) أي مثلها يُركب منه المُحْرَمُ. واختلف أهل التأويل في المخبر عنهم بقوله: (وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا) ومن قائلوه؟ فقال بعضهم: قائلو ذلك الملائكة للمجرمين نحو الذي قلنا فيه. * ذكر من قال ذلك: حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي، قال: ثنا أبو أسامة، عن الأجلح، قال: سمعت الضحاك بن مزاحم، وسأله رجل عن قول الله (وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا) قال: تقول الملائكة: حراما محرما أن تكون لكم البُشرى. حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد، قال: ثني أبي، عن جدي، عن الحسن، عن قتادة (وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا) قال: هي كلمة كانت العرب تقولها، كان الرجل إذا نزل به شدّة قال: حجرا، يقول: حراما محرّما. (1) البيت للمتلمس جرير بن عبد المسيح (عن معجم ما استعجم لأبي عبيد البكري: رسم نخلة) .. وحنت: اشتاقت. وفي (اللسان: دهرس) : حجت. ونخلة القصوى: موضع على ليلة من مكة. وقيل: هما نخلة الشامية ونخلة اليمانية؛ فالشامية واد ينصب من الغمير. واليمانية: واد ينصب من بطن قرن المنازل، وهو طريق اليمن إلى مكة. وحجر: مثلث الحاء بمعنى حرام، وفي المعجم البكري: بسل عليك، وهو الحرام أيضًا. والدهاريس جمع دهرس، مثلث الدال، وهي الداهية (عن اللسان) . والبيت من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن (الورقة 167 من مصورة الجامعة رقم 26059) وعنه أخذه المؤلف (2) البيت لحميد بن ثور الهلالي (اللسان: حجر. والديوان طبعة دار الكتب المصرية ص 84) . وفي رواية الديوان واللسان: أغشى في موضع ألقى. والمحجر: الحرام. قال في اللسان: لمثلها يؤتى إليه الحرام. وقبل البيت ثلاثة أبيات وهي: لَمْ أَلْقَ عَمْرَةَ بَعْدَ إذْ هِيَ نَاشِئٌ ... خَرَجَتْ مُعَطَّفَةً عَلَيْهَا مئْزَرُ بَرَزَتْ عَقِيلَةَ أَرْبَع هَادَيْنَهَا ... بِيضِ الوُجُوهِ كأنهُنَّ الْعُنْقَرُ ذَهَبَتْ بِعَقْلِكَ رَيطَةٌ مَطْوِيَّةٌ ... وَهِيَ التي تُهْدَي بِهَا لَوْ تَشْعُرُ والبيت شاهد على أنت المحجر الحرام. وقال الفراء في معاني القرآن (الورقة 224 من مصورة الجامعة 24059) : ألقى: من لقيت أي مثلها يركب منه المحرم. وعنه أخذ المؤلف حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا) لما جاءت زلازل الساعة، فكان من زلازلها أن السماء انشقت (فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا) على شفة كل شيء تشقَّق من السماء، فذلك قوله: (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ) : يعني الملائكة تقول للمجرمين حراما محرمًا أيها المجرمون أن تكون لكم البشرى اليوم حين رأيتمونا. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ) قال: يوم القيامة (وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا) قال: عوذا معاذا. حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله، وزاد فيه: الملائكة تقوله. وقال آخرون: ذلك خبر من الله عن قيل المشركين إذا عاينوا الملائكة. * ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثني الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا) قال ابن جُرَيج: كانت العرب إذا كرهوا شيئا قالوا حجرا، فقالوا حين عاينوا الملائكة. قال ابن جُرَيج: قال مجاهد: (حِجْرًا) عوذا، يستعيذون من الملائكة. قال أبو جعفر: وإنما اخترنا القول الذي اخترنا في تأويل ذلك من أجل أن الحِجْر هو الحرام، فمعلوم أن الملائكة هي التي تخبر أهل الكفر أن البُشرى عليهم حرام. وأما الاستعاذة فإنها الاستجارة، وليست بتحريم، ومعلوم أن الكفار لا يقولون للملائكة حرام عليكم، فيوجه الكلام إلى أن ذلك خبر عن قيل المجرمين للملائكة. القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا (24) } يقول تعالى ذكره: (وَقَدِمْنَا) وعمدنا إلى ما عمل هؤلاء المجرمون (مِنْ عَمَلِ) ; ومنه قول الراجز: وَقَدِمَ الخَوَارِجُ الضُّلالُ ... إلَى عِبادِ رَبِّهِمْ وَقالُوا إنَّ دِمَاءَكُم لَنا حَلالُ (1) يعني بقوله: قدم: عمد. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (وَقَدِمْنَا) قال: عَمَدنا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، مثله وقوله: (فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا) يقول: فجعلناه باطلا لأنهم لم يعملوه لله وإنما عملوه للشيطان. والهباء: هو الذي يرى كهيئة الغبار إذا دخل ضوء الشمس من كوّة يحسبه الناظر غبارًا ليس بشيء تقبض عليه الأيدي ولا تمسه، ولا يرى ذلك في الظل. واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم نحو الذي قلنا فيه. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد، قال: ثنا شعبة، عن سماك، عن عكرمة أنه قال في هذه الآية (هَبَاءً مَنْثُورًا) قال: الغبار الذي يكون في الشمس. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن، في قوله: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا) قال: الشعاع في كوّة أحدهم إن ذهب يقبض عليه لم يستطع. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (هَبَاءً مَنْثُورًا) قال: شعاع الشمس من الكوّة. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، مثله. (1) الرجز من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن (الورقة 167 مصورة الجامعة 26059) وقدم إلى الشيء: عمد إليه وقصده. وهو محل الشاهد عند المؤلف حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الحسن، في قوله: (هَبَاءً مَنْثُورًا) قال: ما رأيت شيئا يدخل البيت من الشمس تدخله من الكوّة، فهو الهباء. وقال آخرون: بل هو ما تسفيه الرياح من التراب، وتذروه من حطام الأشجار، ونحو ذلك. * ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس، قوله: (هَبَاءً مَنْثُورًا) قال: ما تسفي الريح تَبُثُّهُ. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة (هَبَاءً مَنْثُورًا) قال: هو ما تذرو الريح من حطام هذا الشجر. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (هَبَاءً مَنْثُورًا) قال: الهباء: الغبار. وقال آخرون: هو الماء المهراق. * ذكر من قال ذلك: حدثني علي، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: (هَبَاءً مَنْثُورًا) يقال: الماء المهراق. وقوله جلّ ثناؤه: (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا) يقول تعالى ذكره: أهل الجنة يوم القيامة خير مستقرّا، وهو الموضع الذي يستقرّون فيه من منازلهم في الجنة من مستقرّ هؤلاء المشركين الذين يفتخرون بأموالهم، وما أوتوا من عرض هذه الدنيا في الدنيا، وأحسن منهم فيها مقيلا. فإن قال قائل: وهل في الجنة قائلة؟ فيقال: (وَأَحْسَنُ مَقِيلا) فيها؟ قيل: معنى ذلك: وأحسن فيها قرارا في أوقات قائلتهم في الدنيا، وذلك أنه ذكر أن أهل الجنة لا يمرّ فيهم في الآخرة إلا قدر ميقات النهار من أوّله إلى وقت القائلة، حتى يسكنوا مساكنهم في الجنة، فذلك معنى قوله: (وَأَحْسَنُ مَقِيلا) . * ذكر الرواية عمن قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا) يقول: قالوا في الغرف في الجنة، وكان حسابهم أن عرضوا على ربهم عرضة واحدة، وذلك الحساب اليسير، وهو مثل قوله: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا) . حدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، في قوله: (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا) قال: كانوا يرون أنه يفرغ من حساب الناس يوم القيامة في نصف النهار، فيقيل هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا) قال: لم ينتصف النهار حتى يقضي الله بينهم، فيقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار. قال: وفي قراءة ابن مسعود: (ثُمَّ إِنَّ مَقِيلَهُمْ لإلى الجَحيم) . حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا) قال: قال ابن عباس: كان الحساب من ذلك في أوّله، وقال القوم حين قالوا في منازلهم من الجنة، وقرأ (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا) . حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا عمرو بن الحارث أن سعيدًا الصوّاف حدثه أنه بلغه أن يوم القيامة يقضي على المؤمنين حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس، وأنهم يقيلون في رياض الجنة حتى يفرغ من الناس، فذلك قول الله: (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا) . قال أبو جعفر: وإنما قلنا: معنى ذلك: خير مستقرا في الجنة منهم في الدنيا، لأن الله تعالى ذكره عَمَّ بقوله: (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا) جميع أحوال الجنة في الآخرة أنها خير في الاستقرار فيها، والقائلة من جميع أحوال أهل النار، ولم يخُصّ بذلك أنه خير من أحوالهم في النار دون الدنيا، ولا في الدنيا دون الآخرة، فالواجب أن يعمَّ كما عمّ ربنا جلّ ثناؤه، فيقال: أصحاب الجنة يوم القيامة خير مستقرًّا في الجنة من أهل النار في الدنيا والآخرة، وأحسن منهم مقيلا وإذا كان ذلك معناه، صحّ فساد قول من توهم أن تفضيل أهل الجنة بقول الله: (خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا) على غير الوجه المعروف من كلام الناس بينهم في قولهم: هذا خير من هذا، وهذا أحسن من هذا. القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنزلَ الْمَلائِكَةُ تَنزيلا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) } اختلف القرّاء في قراءة قوله (تَشَقَّقُ) فقرأته عامَّة قرّاء الحجاز (وَيَوْمَ تَشَّقَّقُ) بتشديد الشين بمعنى: تَتَشقق، فأدغموا إحدى التاءين في الشين فشدّدوها، كما قال: (لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإ الأعْلَى) وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الكوفة: (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ) بتخفيف الشين والاجتزاء بإحدى التاءين من الأخرى. والقول في ذلك عندي: أنهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار بمعنى واحد، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. وتأويل الكلام: ويوم تُشقق السماء عن الغمام. وقيل: إن ذلك غمام أبيض مثل الغمام الذي ظلل على بني إسرائيل، وجعلت الباء، في قوله: (بِالْغَمَامِ) مكان "عن" كما تقول: رميت عن القوس وبالقوس وعلى القوس، بمعنى واحد. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، قوله: (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ) قال: هو الذي قال: (فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ) الذي يأتي الله فيه يوم القيامة، ولم يكن في تلك قطّ إلا لبني إسرائيل. قال ابن جُرَيج: الغمام الذي يأتي الله فيه غمام زعموا في الجنة. قال: ثنا الحسين، قال: ثنا معتمر بن سليمان، عن عبد الجليل، عن أبي حازم، عن عبد الله بن عمرو قال: يهبط الله حين يهبط، وبينه وبين خلقه سبعون حجابا، منها النور والظلمة والماء، فيصوّت الماء صوتا تنخلع له القلوب. ![]()
__________________
|
#7
|
||||
|
||||
![]() ![]() تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن الإمام محمد بن جرير الطبري الجزء التاسع عشر تَفْسِيرِ سُّورَةِ الفرقان الحلقة (1077) صــ 271 لى صــ 280 الجَنَّةَ يَوْمَ القِيَامَةِ الْعَبْدُ الأسْوَدُ ". وذلك أن الله تبارك وتعالى بعث نبيا إلى أهل قرية فلم يؤمن مِنْ أهلها أحد إلا ذلك الأسود، ثم إن أهل القرية عدوا على النبيّ عليه السلام، فحفروا له بئرا فألقوه فيها، ثم أطبقوا عليه بحجر ضخم، قال: وكان ذلك العبد يذهب فيحتطب على ظهره، ثم يأتي بحطبه فيبيعه، فيشتري به طعاما وشرابا، ثم يأتي به إلى ذلك البئر، فيرفع تلك الصخرة، فيعينه الله عليها، فيدلي إليه طعامه وشرابه، ثم يعيدها كما كانت، قال: فكان كذلك ما شاء الله أن يكون. ثم إنه ذهب يوما يحتطب، كما كان يصنع، فجمع حطبه، وحزم حزمته وفرغ منها; فلما أراد أن يحتملها وجد سِنة، فاضطجع فنام، فضرب الله على أذنه سبع سنين نائما. ثم إنه هبّ فتمطى، فتحوّل لشقة الآخر، فاضطجع، فضرب الله على أذنه سبع سنين أخرى. ثم إنه هبّ فاحتمل حزمته، ولا يحسب إلا أنه نام ساعة من نهار، فجاء إلى القرية فباع حزمته، ثم اشترى طعاما وشرابا كما كان يصنع ثم ذهب إلى الحفرة في موضعها التي كانت فيه فالتمسه فلم يجده، وقد كان بدا لقومه فيه بداء، فاستخرجوه وآمنوا به وصدّقوه، قال: فكان النبي عليه السلام يسألهم عن ذلك الأسود ما فعل؟ فيقولون: ما ندري، حتى قبض الله النبيّ، فأهبّ الله الأسود من نومته بعد ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إِنَّ ذَلكَ الأسْودَ لأوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الجَنَّةَ "غير أن هؤلاء في هذا الخبر يذكر محمد بن كعب عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنهم آمنوا بنبيهم واستخرجوه من حفرته، فلا ينبغي أن يكونوا المعنيين بقوله: (وَأَصْحَابَ الرَّسِّ) لأن الله أخبر عن أصحاب الرّسّ أنه دمرهم تدميرا، إلا أن يكونوا دمروا بأحداث أحدثوها بعد نبيهم الذي استخرجوه من الحفرة وآمنوا به، فيكون ذلك وجها (وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا) يقول: ودمرنا بين أضعاف هذه الأمم التي سمَّيناها لكم أمما كثيرة." كما حدثنا الحسن بن شبيب، قال: ثنا خلف بن خليفة، عن جعفر بن عليّ بن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خلفت بالمدينة عمي ممن يفتي على أن القرن سبعون سنة، وكان عمه عبيد الله بن أبي رافع كاتب عليّ رضي الله عنه. حدثنا عمرو بن عبد الحميد، قال: ثنا حفص بن غياث، عن الحجاج، عن الحكم، عن إبراهيم قال: القرن أربعون سنة. وقوله: (وَكُلا ضَرَبْنَا لَهُ الأمْثَالَ) يقول تعالى ذكره: وكل هذه الأمم التي أهلكناها التي سميناها لكم أو لم نسمها ضربنا له الأمثال يقول: مثلنا له الأمثال ونبهناها على حججنا عليها، وأعذرنا إليها بالعبر والمواعظ، فلم نهلك أمة إلا بعد الإبلاغ إليهم في المعذرة. وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (وَكُلا ضَرَبْنَا لَهُ الأمْثَالَ) قال: كلّ قد أعذر الله إليه، ثم انتقم منه. وقوله: (وَكُلا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا) يقول تعالى ذكره: وكل هؤلاء الذين ذكرنا لكم أمرهم استأصلناهم، فدمرناهم بالعذاب إبادة، وأهلكناهم جميعا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الحسن، في قوله: (وَكُلا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا) قال: تبر الله كلا بعذاب تتبيرا. حدثنا أبو كريب قال: ثنا ابن يمان، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد بن جُبير (وَكُلا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا) قال: تتبير بالنبطية. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جُرَيج، قوله: (وَكُلا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا) قال: بالعذاب. القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا (40) } يقول تعالى ذكره: ولقد أتى هؤلاء الذين اتخذوا القرآن مهجورا على القرية التي أمطرها الله مطر السوء وهي سدوم، قرية قوم لوط. ومطر السوء: هو الحجارة التي أمطرها الله عليهم فأهلكهم بها. كما: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج (وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ) قال: حجارة، وهي قرية قوم لوط، واسمها سدوم. قال ابن عباس: خمس قرَّيات، فأهلك الله أربعة، وبقيت الخامسة، واسمها صعوة. لم تهلك صعوة، كان أهلها لا يعملون ذلك العمل، وكانت سدوم أعظمها، وهي التي نزل بها لوط، ومنها بعث، وكان إبراهيم صلى الله عليه وسلم ينادي نصيحة لهم: يا سدوم، يوم لكم من الله، أنهاكم أن تعرضوا لعقوبة الله، زعموا أن لوطا ابن أخي إبراهيم صلوات الله عليهما. وقوله: (أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا) يقول جلّ ثناؤه: أو لم يكن هؤلاء المشركون الذين قد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء يرون تلك القرية، وما نزل بها من عذاب الله بتكذيب أهلها رسلهم، فيعتبروا ويتذكروا، فيراجعوا التوبة من كفرهم وتكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم (بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا) يقول تعالى ذكره: ما كذّبوا محمدا فيما جاءهم به من عند الله، لأنهم لم يكونوا رأوا ما حلّ بالقرية التي وصفت، ولكنهم كذّبوه من أجل أنهم قوم لا يخافون نشورًا بعد الممات، يعني أنهم لا يوقنون بالعقاب والثواب، ولا يؤمنون بقيام الساعة، فيردعهم ذلك عما يأتون من معاصي الله. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج (أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا) بعثا. القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا (41) } يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وإذا رآك هؤلاء المشركون الذين قصصت عليك قصصهم (إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا) يقول: ما يتخذونك إلا سخرية يسخرون منك، يقولون: (أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ) إلينا (رَسُولا) من بين خلقه. القول في تأويل قوله تعالى: {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلا (42) } يقول تعالى ذكره مخبرا عن هؤلاء المشركين الذين كانوا يهزءون برسول الله صلى الله عليه وسلم إنهم يقولون إذا رأوه: قد كاد هذا يضلنا عن آلهتنا التي نعبدها، فيصدّنا عن عبادتها لولا صبرنا عليها، وثبوتنا على عبادتها (وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ) يقول جلّ ثناؤه: سيبين لهم حين يعاينون عذاب الله قد حلّ بهم على عبادتهم الآلهة (مَنْ أَضَلُّ سَبِيلا) يقول: من الراكب غير طريق الهدى، والسالك سبيل الردى أنت أوهم. وبنحو ما قلنا في تأويل قوله: (لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا) قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا حجاج، عن ابن جُرَيج (إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا) قال: ثبتنا عليها. القول في تأويل قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا (43) } القول في تأويل قوله تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا (44) } يعني تعالى ذكره: (أَرَأَيْتَ) يا محمد (مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ) شهوته التي يهواها وذلك أن الرجل من المشركين كان يعبد الحجر، فإذا رأى أحسن منه رمى به، وأخذ الآخر يعبده، فكان معبوده وإلهه ما يتخيره لنفسه، فلذلك قال جلّ ثناؤه (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا) يقول تعالى ذكره: أفأنت تكون يا محمد على هذا حفيظا في أفعاله مع عظيم جهله؟ (أَمْ تَحْسَبُ) يا محمد أن أكثر هؤلاء المشركين (يَسْمَعُونَ) ما يتلى عليهم، فيعون (أَوْ يَعْقِلُونَ) ما يعاينون من حجج الله، فيفهمون (إِنْ هُمْ إِلا كَالأنْعَامِ) يقول: ما هم إلا كالبهائم التي لا تعقل ما يقال لها، ولا تفقه، بل هم من البهائم أضلّ سبيلا لأن البهائم تهتدي لمراعيها، وتنقاد لأربابها، وهؤلاء الكفرة لا يطيعون ربهم، ولا يشكرون نعمة من أنعم عليهم، بل يكفرونها، ويعصون من خلقهم وبرأهم. القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) } يقول تعالى ذكره: (أَلَمْ تَرَ) يا محمد (كَيْفَ مَدَّ) ربك (الظِّلَّ) وهو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ) يقول: ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ) قال: مدّه ما بين صلاة الصبح إلى طلوع الشمس. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بن جُبير، في قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا) قال: الظلّ: ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع، قال: ثنا أبو محصن، عن حصين، عن أبي مالك، قال: (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ) قال: ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ) قال. ظلّ الغداة قبل أن تطلع الشمس. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، قال: الظلّ: ظلّ الغداة. قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن عكرمة، قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ) قال: مدّه من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ) يعني: من صلاة الغداة إلى طلوع الشمس. قوله: (وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا) يقول: ولو شاء لجعله دائما لا يزول، ممدودا لا تذهبه الشمس، ولا تنقصه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا) يقول: دائما. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال، ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا) قال: لا تصيبه الشمس ولا يزول. حدثنا القاسم. قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد (وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا) قال: لا يزول. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا) قال: دائما لا يزول. وقوله: (ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلا) يقول جلّ ثناؤه: ثم دللناكم أيها الناس بنسخ الشمس إياه عند طلوعها عليه، أنه خلْق من خلق ربكم، يوجده إذا شاء، ويفنيه إذا أراد; والهاء في قوله: "عليه" من ذكر الظلّ. ومعناه: ثم جعلنا الشمس على الظلّ دليلا. قيل: معنى دلالتها عليه أنه لو لم تكن الشمس التي تنسخه لم يعلم أنه شيء، إذا كانت الأشياء إنما تعرف بأضدادها، نظير الحلو الذي إنما يعرف بالحامض والبارد بالحارِّ، وما أشبه ذلك. وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلا) يقول: طلوع الشمس. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلا) قال: تحويه. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، مثله. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول الله: (ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلا) قال: أخرجت ذلك الظل فذهبت به وقوله: (ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا) يقول تعالى ذكره: ثم قبضنا ذلك الدليل من الشمس على الظلّ إلينا قبضا خفيا سريعا بالفيء الذي نأتي به بالعشيّ. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا) قال: حوى الشمس الظلّ. وقيل: إن الهاء التي في قوله: (ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا) عائدة على الظلّ، وإن معنى الكلام: ثم قبضنا الظلّ إلينا بعد غروب الشمس، وذلك أن الشمس إذا غربت غاب الظلّ الممدود، قالوا: وذلك وقت قبضه. واختلف أهل التأويل في معنى قوله: (يَسِيرًا) فقال بعضهم: معناه: سريعا. * ذكر من قال ذلك: حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا) يقول: سريعا. وقال آخرون: بل معناه: قبضا خفيا. * ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن عبد العزيز بن رفيع، عن مجاهد (ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا) قال: خفيا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جُرَيج (قَبْضًا يَسِيرًا) قال: خفيا، قال: إن ما بين الشمس والظلّ مثل الخيط، واليسير الفعيل من اليسر، وهو السهل الهين في كلام العرب. فمعنى الكلام إذ كان ذلك كذلك، يتوجه لما روي عن ابن عباس ومجاهد؛ لأن سهولة قبض ذلك قد تكون بسرعة وخفاء. وقيل: إنما قيل (ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا) لأن الظلّ بعد غروب الشمس لا يذهب كله دفعة، ولا يقبل الظلام كله جملة، وإنما يقبض ذلك الظلّ قبضا خفيا، شيئا بعد شيء ويعقب كل جزء منه يقبضه جزء من الظلام. القول في تأويل قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) } يقول تعالى ذكره: الذي مدّ الظل ثم جعل الشمس عليه دليلا هو الذي جعل لكم أيها الناس الليل لباسا. وإنما قال جلّ ثناؤه (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا) لأنه جعله لخلقه جنة يجتنون فيها ويسكنون، فصار لهم سترا يستترون به، كما يستترون بالثياب التي يُكسونها. وقوله: (وَالنَّوْمَ سُبَاتًا) يقول: وجعل لكم النوم راحة تستريح به أبدانكم، وتهدأ به جوارحكم. وقوله: (وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا) يقول تعالى ذكره: وجعل النهار يقظة وحياة من قولهم: نَشر الميتُ، كما قال الأعشى: حَتى يقُولَ النَّاسُ مِمَّا رأَوْا ... يا عَجَبا للْمَيِّتِ النَّاشِرِ (1) ومنه قول الله: (وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا) وكان مجاهد يقول في تأويل ذلك ما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا) قال: ينشر فيه. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، مثله. وإنما اخترنا القول الذي اخترنا في تأويل ذلك، أنه عقيب قوله: (وَالنَّوْمَ سُبَاتًا) في الليل. فإذ كان ذلك كذلك، فوصف النهار بأن فيه اليقظة والنشور من النوم أشبه إذ كان النوم أخا الموت. والذي قاله مجاهد غير بعيد من الصواب؛ لأن الله أخبر أنه جعل النهار معاشا، وفيه الانتشار للمعاش، ولكن النشور مصدر من قول القائل: نشر، (1) البيت لأعشى بني قيس بن ثعلبة (ديوان طبعة القاهرة، بشرح الدكتور محمد حسين 141) وهو من قصيدة يهجو بها علقمة بن علاثة، ويمدح عامر بن الطفيل في المنافرة التي جرت بينهما. وقبل البيت قوله: لَو أسْنَدَتْ مَيْتًا إلى صَدْرِهَا ... عَاشَ وَلَمْ يَنْقَلْ إلى قَابِرِ والبيت كذلك في (اللسان: نشر) قال: ونشر الله الميت ينشره نشرًا ونشورًا، وأنشره، فنشر الميت (برفع الميت) لا غير: أحياه قال الأعشى: حتى يقول ... "البيت. وهذا محل الشاهد عند المؤلف." فهو بالنشر من الموت والنوم أشبه، كما صحّت الرواية عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا أصبح وقام من نومه: "الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَما أماتَنا، وإلَيْهِ النُّشُورُ" . القول في تأويل قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) } يقول تعالى ذكره: والله الذي أرسل الرياح الملقحة (بُشْرًا) : حياة أو من الحيا والغيث الذي هو منزله على عباده (وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا) يقول: وأنزلنا من السحاب الذي أنشأناه بالرياح من فوقكم أيها الناس ماء طهورا. (لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا) يعني أرضا قَحِطة عذية لا تُنبت. وقال: (بَلْدَةً مَيْتًا) ولم يقل ميتة، لأنه أريد بذلك لنحيي به موضعًا ومكانًا ميتًا (وَنُسْقِيَهُ) من خلقنا (أَنْعَامًا) من البهائم (وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا) يعني الأناسيّ: جمع إنسان وجمع أناسي، فجعل الياء عوضا من النون التي في إنسان، وقد يجمع إنسان: إناسين، كما يجمع النَشْيان (1) نشايين. فإن قيل: أناسيّ جمع واحده إنسيّ، فهو مذهب أيضًا محكي، وقد يجمع أناسي مخففة الياء، وكأن من جمع ذلك كذلك أسقط الياء التي بين عين الفعل ولامه، كما يجمع القرقور: قراقير وقراقر. ومما يصحح جمعهم إياه بالتخفيف، قول العرب: أناسية كثيرة. القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا (50) } يقول تعالى ذكره: ولقد قسمنا هذا الماء الذي أنزلناه من السماء طهورا لنحيي به الميت من الأرض بين عبادي، ليتذكروا نعمي عليهم، ويشكروا أيادي عندهم وإحساني إليهم (فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا) يقول: إلا جحودا لنعمي عليهم، وأياديّ عليهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. (1) يقال: رجل نشوان، من السكر؛ ونشيان للخبر: يختبر الأخبار أول ورودها، ويبحث عنها. وأصلها الواو. * ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا معتمر بن سليمان، عن أبيه، قال: سمعت الحسن بن مسلم يحدّث طاوسا، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس قال: ما عام بأكثر مطرا من عام، ولكنّ الله يصرّفه بين خلقه; قال: ثم قرأ: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ) . حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن سليمان التيمي، قال: ثنا الحسن بن مسلم، عن سعيد بن جُبير، قال: قال ابن عباس: ما عام بأكثر مطرا من عام، ولكنه يصرفه في الأرضين، ثم تلا (وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا) . حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، قوله: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ) قال: المطر ينزله في الأرض، ولا ينزله في الأرض الأخرى، قال: فقال عكرِمة: صرفناه بينهم ليذّكروا. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا) قال: المطر مرّة هاهنا، ومرّة هاهنا. حدثنا سعيد بن الربيع الرازي، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن يزيد بن أبي زياد، أنه سمع أبا جحيفة يقول: سمعت عبد الله بن مسعود يقول: ليس عام بأمطر من عام، ولكنه يصرفه، ثم قال عبد الله: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ) . وأما قوله: (فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا) فإن القاسم حدثنا قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج عن ابن جُرَيج، عن عكرمة: (فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا) قال: قولهم في الأنواء. القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) } يقول تعالى ذكره: ولو شئنا يا محمد لأرسلنا في كلّ مصر ومدينة نذيرا ينذرهم بأسنا على كفرهم بنا، فيخفّ عنك كثير من أعباء ما حملناك منه، ويسقط عنك بذلك مؤنة عظيمة، ولكنا حملناك ثقل نذارة جميع القرى، لتستوجب بصبرك عليه إن صبرت ما أعدّ الله لك من الكرامة عنده، والمنازل الرفيعة قِبَله، فلا تطع الكافرين فيما يدعونك ![]()
__________________
|
#8
|
||||
|
||||
![]() ![]() تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن الإمام محمد بن جرير الطبري الجزء التاسع عشر تَفْسِيرِ سُّورَةِ الفرقان الحلقة (1078) صــ 281 لى صــ 290 إليه من أن تعبد آلهتهم، فنذيقك ضعف الحياة وضعف الممات، ولكن جاهدهم بهذا القرآن جهادا كبيرا، حتى ينقادوا للإقرار بما فيه من فرائض الله، ويدينوا به ويذعنوا للعمل بجميعه طوعا وكرها. وبنحو الذي قلنا في قوله: (وَجَاهِدْهُمْ بِهِ) قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: قال ابن عباس، قوله (فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ) قال: بالقرآن. وقال آخرون في ذلك بما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) قال: الإسلام. وقرأ (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) وقرأ (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) وقال: هذا الجهاد الكبير. القول في تأويل قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) } يقول تعالى ذكره: والله الذي خلط البحرين، فأمرج أحدهما في الآخر، وأفاضه فيه. وأصل المرج الخلط، ثم يقال للتخلية مرج؛ لأن الرجل إذا خلى الشيء حتى اختلط بغيره، فكأنه قد مرجه، ومنه الخبر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقوله لعبد الله بن عمرو: "كَيْفَ بِكَ يا عَبْدَ اللهِ إذَا كُنْتَ في حُثَالَةٍ مِنَ النَّاسِ، قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وأماناتُهُمْ، وصَارُوا هَكَذا وشبَّك بين أصابعه. يعني بقوله: قد مرجت: اختلطت، ومنه قول الله: (فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) أي مختلط. وإنما قيل للمرج مرج من ذلك، لأنه يكون فيه أخلاط من الدوابّ، ويقال: مَرَجْت دابتك: أي خليتها تذهب حيث شاءت. ومنه قول الراجز:" رَعَى بِهَا مَرَجَ رَبيعٍ مَمْرَج (1) وبنحو ما قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. (1) البيت من مشطور الرجز، للعجاج الراجز (ديوانه طبع ليبسك سنة 1093 ص 9) وهو البيت الثاني والثمانون من أرجوزته التي مطلعها * ما هاج أحزانا وشجوا قد شجا * وضبط ناشره لفظ ممرج، بضم الميم الأول وكسر الراء، والصواب ما في اللسان، ونقلناه عنه، وهو اسم مكان من مرج الدابة يمرجها (من باب نصر) إذا أرسلها ترعى في المرج. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) يعني أنه خلع أحدهما على الآخر. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) أفاض أحدهما على الآخر. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، مثله. حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) يقول: خلع أحدهما على الآخر. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو تميلة، عن أبي حمزة، عن جابر، عن مجاهد (مَرَجَ) أفاض أحدهما على الآخر. وقوله (هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ) الفرات: شديد العذوبة، يقال: هذا ماء فرات: أي شديد العذوبة وقوله (وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ) يقول: وهذا ملح مرّ، يعني بالعذب الفرات: مياه الأنهار والأمطار، وبالملح الأجاج: مياه البحار. وإنما عنى بذلك أنه من نعمته على خلقه، وعظيم سلطانه، يخلط ماء البحر العذب بماء البحر الملح الأجاج، ثم يمنع الملح من تغيير العذب عن عذوبته، وإفساده إياه بقضائه وقدرته، لئلا يضرّ إفساده إياه بركبان الملح منهما، فلا يجدوا ماء يشربونه عند حاجتهم إلى الماء، فقال جلّ ثناؤه: (وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا) يعني حاجزا يمنع كل واحد منهما من إفساد الآخر (وَحِجْرًا مَحْجُورًا) يقول: وجعل كلّ واحد منهما حراما محرّما على صاحبه أن يغيره ويفسده. وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك، قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ) يعني أنه خلع أحدهما على الآخر، فليس يفسد العذب المالح، وليس يفسد المالح العذب، وقوله: (وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا) قال: البرزخ: الأرض بينهما (وَحِجْرًا مَحْجُورًا) يعني: حجر أحدهما على الآخر بأمره وقضائه، وهو مثل قوله (وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا) . وحدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا) قال: محبسا، قوله: (وَحِجْرًا مَحْجُورًا) قال: لا يختلط البحر بالعذب. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد (وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا) قال: حاجزا لا يراه أحد، لا يختلط العذب في البحر. قال ابن جُرَيج: فلم أجد بحرا عذبا إلا الأنهار العذاب، فإن دجلة تقع في البحر، فأخبرني الخبير بها أنها تقع في البحر، فلا تمور فيه بينهما مثل الخيط الأبيض، فإذا رجعت لم ترجع في طريقها من البحر، والنيل يصبّ في البحر. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني أبو تميلة، عن أبي حمزة، عن جابر، عن مجاهد (وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا) قال: البرزخ أنهما يلتقيان فلا يختلطان، وقوله (حِجْرًا مَحْجُورًا) : أي لا تختلط ملوحة هذا بعذوبة هذا، لا يبغي أحدهما على الآخر. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن رجاء، عن الحسن، في قوله: (وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا) قال: هذا اليبس. حدثنا الحسن، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: (وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا) قال: جعل هذا ملحا أجاجًا، قال: والأجاج: المرّ. حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ) يقول: خلع أحدهما على الآخر، فلا يغير أحدهما طعم الآخر (وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا) هو الأجل ما بين الدنيا والآخرة (وَحِجْرًا مَحْجُورًا) جعل الله بين البحرين حجرا، يقول: حاجزا حجز أحدهما عن الآخر بأمره وقضائه. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا) وجعل بينهما سترا لا يلتقيان. قال: والعرب إذا كلم أحدهم الآخر بما يكره قال حجرا، قال: سترا دون الذي تقول. قال أبو جعفر: وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في معنى قوله: (وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا) دون القول الذي قاله من قال معناه: إنه جعل بينهما حاجزا من الأرض أو من اليبس، لأن الله تعالى ذكره أخبر في أوّل الآية أنه مرج البحرين، والمرج: هو الخلط في كلام العرب على ما بيَّنت قبل، فلو كان البرزخ الذي بين العذب الفرات من البحرين، والملح الأجاج أرضا أو يبسا لم يكن هناك مرج للبحرين، وقد أخبر جلّ ثناؤه أنه مرجهما، وإنما عرفنا قدرته بحجزه هذا الملح الأجاج عن إفساد هذا العذب الفرات، مع اختلاط كلّ واحد منهما بصاحبه. فأما إذا كان كلّ واحد منهما في حيز عن حيز صاحبه، فليس هناك مرج، ولا هناك من الأعجوبة ما ينبه عليه أهل الجهل به من الناس، ويذكرون به، وإن كان كلّ ما ابتدعه ربنا عجيبا، وفيه أعظم العبر والمواعظ والحجج البوالغ. القول في تأويل قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54) } يقول تعالى ذكره: والله الذي خلق من النطف بشرا إنسانا فجعله نسبا، وذلك سبعة، وصهرا، وهو خمسة. كما حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا) النسب: سبع، قوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ) ... إلى قوله (وَبَنَاتُ الأخْتِ) والصهر خمس، قوله: (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) ... إلى قوله (وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) . وقوله: (وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا) يقول: وربك يا محمد ذو قدرة على خلق ما يشاء من الخلق، وتصريفهم فيما شاء وأراد. القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55) } يقول تعالى ذكره: ويعبد هؤلاء المشركون بالله من دونه آلهة لا تنفعهم، فتجلب إليهم نفعا إذا هم عبدوها، ولا تضرّهم إن تركوا عبادتها، ويتركون عبادة من أنعم عليهم هذه النعم التي لا كفاء لأدناها، وهي ما عدّد علينا جلّ جلاله في هذه الآيات من قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ) إلى قوله: (قَدِيرًا) ، ومن قدرته القدرة التي لا يمتنع عليه معها شيء أراده، ولا يتعذّر عليه فعل شيء أراد فعله، ومن إذا أراد عقاب بعض من عصاه من عباده أحلّ به ما أحلّ بالذين وصف صفتهم من قوم فرعون وعاد وثمود وأصحاب الرّسّ، وقرونا بين ذلك كثيرا، فلم يكن لمن غضب عليه منه ناصر، ولا له عنه دافع (وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا) يقول تعالى ذكره: وكان الكافر معينا للشيطان على ربه، مظاهرا له على معصيته. وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن ليث، عن مجاهد (وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا) قال: يظاهر الشيطان على معصية الله بعينه. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا) قال: معينا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، مثله. قال ابن جُرَيج: أبو جهل معينا ظاهر الشيطان على ربه. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الحسن، في قوله: (وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا) قال: عونا للشيطان على ربه على المعاصي. حدثني يونس. قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا) قال: على ربه عوينا. والظهير: العوين. وقرأ قول الله: (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ) قال: لا تكونن لهم عوينا. وقرأ أيضا قول الله: (وَأَنزلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ) قال: ظاهروهم: أعانوهم. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا) يعني: أبا الحكم الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبا جهل بن هشام. وقد كان بعضهم يوجه معنى قوله: (وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا) أي وكان الكافر على ربه هينا، من قول العرب: ظهرت به، فلم ألتفت إليه، إذا جعله خلف ظهره فلم يلتفت إليه، وكأنّ الظهير كان عنده فعيل صرف من مفعول إليه من مظهور به، كأنه قيل: وكان الكافر مظهورا به. والقول الذي قلناه هو وجه الكلام، والمعنى الصحيح، لأن الله تعالى ذكره أخبر عن عبادة هؤلاء الكفار من دونه، فأولى الكلام أن يتبع ذلك ذمه إياهم، وذمّ فعلهم دون الخبر عن هوانهم على ربهم، ولم يجر لاستكبارهم عليه ذكر، فيتبع بالخبر عن هوانهم عليه. القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا (57) } يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ) يا محمد إلى من أرسلناك إليه (إِلا مُبَشِّرًا) بالثواب الجزيل، من آمن بك وصدّقك، وآمن بالذي جئتهم به من عندي، وعملوا به (وَنَذِيرًا) من كذّبك وكذّب ما جئتهم به من عندي، فلم يصدّقوا به، ولم يعملوا (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) يقول له: قل لهؤلاء الذين أرسلتك إليهم، ما أسألكم يا قوم على ما جئتكم به من عند ربي أجرا، فتقولون: إنما يطلب محمد أموالنا بما يدعونا إليه، فلا نتبعه فيه، ولا نعطيه من أموالنا شيئا، (إِلا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا) يقول: لكن من شاء منكم اتخذ إلى ربه سبيلا طريقا بإنفاقه من ماله في سبيله، وفيما يقربه إليه من الصدقة والنفقة في جهاد عدوّه، وغير ذلك من سبل الخير. القول في تأويل قوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) } يقول تعالى ذكره: وتوكل يا محمد على الذي له الحياة الدائمة التي لا موت معها، فثق به في أمر ربك وفوّض إليه، واستسلم له، واصبر على ما نابك فيه. قوله: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) يقول: واعبده شكرا منك له على ما أنعم به عليك. قوله: (وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا) يقول: وحسبك بالحي الذي لا يموت خابرا بذنوب خلقه، فإنه لا يخفى عليه شيء منها، وهو محص جميعها عليهم حتى يجازيهم بها يوم القيامة. القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) } يقول تعالى ذكره: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) (الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) فقال: (وَمَا بَيْنَهُمَا) وقد ذكر السماوات والأرض، والسماوات جماع، لأنه وجه ذلك إلى الصنفين والشيئين، كما قال القطامي: ألَمْ يَحْزُنْكَ أنَّ حِبالَ قَيْسٍ ... وتَغْلِبَ قَدْ تَبايَنَتا انقِطاعا (1) يريد: وحبال تغلب فثنى، والحبال جمع، لأنه أراد الشيئين والنوعين. وقوله: (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) قيل: كان ابتداء ذلك يوم الأحد، والفراغ يوم الجمعة (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ) يقول: ثم استوى على العرش الرحمن وعلا عليه، وذلك يوم السبت فيما قيل. وقوله: (فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا) يقول: فاسأل يا محمد خبيرا بالرحمن، خبيرا بخلقه، فإنه خالق كلّ شيء، ولا يخفى عليه ما خلق. وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قوله: (فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا) قال: يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم: إذا أخبرتك شيئا، فاعلم أنه كما أخبرتك، أنا الخبير، والخبير في قوله: (فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا) منصوب على الحال من الهاء التي في قوله به. القول في تأويل قوله تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا (1) البيت للقطامي، وقد سبق الكلام عنه مفصلا، والشاهد فيه هنا: أن الشاعر قال: "تباينتا" بالتثنية، مع أن حبال جمع حبل. والمسوغ لذلك: أن حبال قيس جماعة، وحبال تغلب جماعة أخرى، فعاملهما في إعادة الضمير عليهما معاملة المفردين، ومثله في القرآن: {الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما} لأنه وجه ذلك إلى الصفتين. وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60) يقول تعالى ذكره: وإذا قيل لهؤلاء الذين يعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم: (اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ) أي اجعلوا سجودكم لله خالصا دون الآلهة والأوثان. قالوا: (أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا) . واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة: (لِمَا تَأْمُرُنَا) بمعنى: أنسجد نحن يا محمد لما تأمرنا أنت أن نسجد له. وقرأته عامة قرّاء الكوفة "لمَا يَأْمُرُنا" بالياء، بمعنى: أنسجد لما يأمر الرحمن، وذكر بعضهم أن مُسيلمة كان يُدعى الرحمن، فلما قال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم اسجدوا للرحمن، قالوا: أنسجد لما يأمرنا رحمن اليمامة؟ يعنون مُسَيلمة بالسجود له. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك، أنهما قراءتان مستفيضتان مشهورتان، قد قرأ بكل واحد منهما علماء من القرّاء، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. وقوله: (وَزَادَهُمْ نُفُورًا) يقول: وزاد هؤلاء المشركين قول القائل لهم: اسجدوا للرحمن من إخلاص السجود لله، وإفراد الله بالعبادة بعدا مما دعوا إليه من ذلك فرارا. القول في تأويل قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) } يقول تعالى ذكره: تقدّس الربّ الذي جعل في السماء بروجا، ويعني بالبروج: القصور، في قول بعضهم. * ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن العلاء ومحمد بن المثنى وسلم بن جنادة، قالوا: ثنا عبد الله بن إدريس، قال: سمعت أبي، عن عطية بن سعد، في قوله: (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا) قال: قصورا في السماء، فيها الحرس. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثني أبو معاوية، قال: ثني إسماعيل، عن يحيى بن رافع، في قوله: (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا) قال: قصورا في السماء. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن إبراهيم (جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا) قال: قصورًا في السماء. حدثني إسماعيل بن سيف، قال: ثني عليّ بن مسهر، عن إسماعيل، عن أبي صالح، في قوله: (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا) قال: قصورا في السماء فيها الحرس. وقال آخرون: هي النجوم الكبار. * ذكر من قال ذلك: حدثني ابن المثنى، قال: ثنا يعلى بن عبيد، قال: ثنا إسماعيل، عن أبي صالح (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا) قال: النجوم الكبار. قال: ثنا الضحاك، عن مخلد، عن عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: الكواكب. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: (بُرُوجًا) قال: البروج: النجوم. قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: هي قصور في السماء، لأن ذلك في كلام العرب (وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) وقول الأخطل: كَأَنَّهَا بُرْجُ رُوميّ يُشَيِّدُهُ ... بانٍ بِجِصّ وآجُر وأحْجارِ (1) يعني بالبرج: القصر. قوله: (وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا) اختلف القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة (وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا) على التوحيد، ووجهوا تأويل ذلك إلى أنه جعل فيها الشمس، وهي السراج التي عني عندهم بقوله: (وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا) . كما حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قَتادة، في قوله: (وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا) قال: السراج: الشمس. وقرأته عامة قرّاء الكوفيين "وَجَعَلَ فِيها سُرُجا" على الجماع، كأنهم وجهوا تأويله: وجعل فيها نجوما (وَقَمَرًا مُنِيرًا) وجعلوا النجوم سرجا إذ كان يهتدي بها. (1) البيت للأخطل كما قال المؤلف. والبرج: المراد به القصر كما قاله. وقد كثر في كلام العرب تشبيه إبل السفر القوية الموثقة الخلق بأبنية الرومي، ومن ذلك قول طرفة في وصف ناقته: كَقَنْطَرَةِ الرُّوميّ أقسَمَ رَبُّهَا ... لَتُكْتَفَنْ حَتَى تُشَادَ بِقَرْمَدِ والبيت شاهد على أن البرج معناه: القصر. والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان في قراءة الأمصار، لكل واحدة منهما وجه مفهوم، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. وقوله: (وَقَمَرًا مُنِيرًا) يعني بالمنير: المضيء. القول في تأويل قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62) } اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً) فقال بعضهم: معناه: أن الله جعل كل واحد منهما خلفًا من الآخر، في أن ما فات أحدهما من عمل يعمل فيه لله، أدرك قضاؤه في الآخر. * ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب القمي، عن حفص بن حميد، عن شمر بن عطية، عن شقيق قال: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: فاتتني الصلاة الليلة، فقال: أدرك ما فاتك من ليلتك في نهارك، فإن الله جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر، أو أراد شكورا. حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً) يقول: من فاته شيء من الليل أن يعمله أدركه بالنهار، أو من النهار أدركه بالليل. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الحسن، في قوله: (جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً) قال: جعل أحدهما خلفا للآخر، إن فات رجلا من النهار شيء أدركه من الليل، وإن فاته من الليل أدركه من النهار. وقال آخرون: بل معناه أنه جعل كل واحد منهما مخالفا صاحبه، فجعل هذا أسود وهذا أبيض. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً) قال: أسود وأبيض. ![]()
__________________
|
#9
|
||||
|
||||
![]() ![]() تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن الإمام محمد بن جرير الطبري الجزء التاسع عشر تَفْسِيرِ سُّورَةِ الفرقان الحلقة (1079) صــ 291 لى صــ 300 حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، مثله. حدثنا أبو هشام الرفاعي، قال: ثنا يحيى بن يمان، قال: ثنا سفيان، عن عمر بن قيس بن أبي مسلم الماصر، عن مجاهد (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً) قال: أسود وأبيض. وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن كل واحد منهما يخلف صاحبه، إذا ذهب هذا جاء هذا، وإذا جاء هذا ذهب هذا. * ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا أبو أحمد الزبيري، قال: ثنا قيس، عن عمر بن قيس الماصر، عن مجاهد، قوله: (جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً) قال: هذا يخلف هذا، وهذا يخلف هذا. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً) قال: لو لم يجعلهما خلفة لم يدر كيف يعمل، لو كان الدهر ليلا كله كيف يدري أحد كيف يصوم، أو كان الدهر نهارا كله كيف يدري أحد كيف يصلي. قال: والخلفة: مختلفان، يذهب هذا ويأتي هذا، جعلهما الله خلفة للعباد، وقرأ (لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) والخلفة: مصدر، فلذلك وحدت، وهي خبر عن الليل والنهار; والعرب تقول: خلف هذا من كذا خلفة، وذلك إذا جاء شيء مكان شيء ذهب قبله، كما قال الشاعر: وَلهَا بالمَاطِرُونَ إذَا ... أَكَلَ النَّمْلُ الَّذِي جَمَعَا خِلْفَةٌ حَتَّى إذَا ارْتَبَعَتْ ... سَكَنَتْ مِنْ جِلَّقٍ بِيَعَا (1) (1) البيتان ليزيد بن معاوية من مقطوعة له ذكرها صاحب (خزانة الأدب الكبرى 3: 278- 280) قالها متغزلا في امرأة نصرانية كانت قد ترهبت في دير عند الماطرون وهو بستان بظاهر دمشق. وفي الأبيات "خرفة" في موضع "خلفة" وخرافة بضم الخاء: ما يخترف ويجتنى، وهذه رواية المبرد في الكامل. ورواية المؤلف موافقة لرواية صاحب العباب، وكذلك رواها العيني عن أبي القوطية قال: الرواية: هي الخلفة باللام، وهو ما يطلع من الثمر بعد الثمر الطيب. قال البغدادي: والجيد عندي رواية الخلفة، على أنها اسم من الاختلاف، أي التردد. وارتبعت: دخلت في الربيع. ويروى: ربعت، بمعناه. ويروى: ذكرت: بدل سكنت، وجلق: مدينة بالشام، والبيع: جمع بيعة بكسر الباء، وهي متعبد. قال الجوهري وصاحبا العباب، والمصباح: هي للنصارى، وقال العيني: البيعة: لليهود، والكنيسة للنصارى، وهذا لا يناسب قوله إن الشعر في نصرانية. ومعنى البيتين: إن لهذه المرأة ترددًا إلى الماطرون في الشتاء، فإن النمل يخزن الحب في الصيف، ليأكله في الشتاء؛ وإذا دخلت في أيام الربيع ارتحلت إلى البيع التي بجلق. اهـ. وأورد المؤلف الشعر شاهدًا على معنى الخلفة كما شرحه البغدادي. وكما قال زهير: بِهَا العِيْنُ والآرَامُ يَمْشِينَ خِلْفَةً ... وأطْلاؤُها يَنْهَضْنَ مِنْ كُلّ مَجْثَمِ (1) يعني بقوله: يمشين خلفة: تذهب منها طائفة، وتخلف مكانها طائفة أخرى. وقد يحتمل أن زُهَيرا أراد بقوله: خلفة: مختلفات الألوان، وأنها ضروب في ألوانها وهيئاتها. ويحتمل أن يكون أراد أنها تذهب في مشيها كذا، وتجيء كذا. وقوله (لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ) يقول تعالى ذكره: جعل الليل والنهار، وخلوف كل واحد منهما الآخر حجة وآية لمن أراد أن يذكَّر أمر الله، فينيب إلى الحق (أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) أو أراد شكر نعمة الله التي أنعمها عليه في اختلاف الليل والنهار. وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) قال: شكر نعمة ربه عليه فيهما. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، قوله: (لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ) ذاك آية له (أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) قال: شكر نعمة ربه عليه فيهما. واختلف القرّاء في قراءة قوله: (يَذَّكَّرَ) فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين: (يَذَّكَّرَ) مشددة، بمعنى يتذكر. وقرأه عامة قرّاء الكوفيين: "يَذْكُرَ" (1) البيت من معلقة زهير بن أبي سلمى (مختار شعر الجاهلي، بشرح مصطفى السقا، طبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده ص 228) قال شارحه: العين: جمع عيناء، بقر الوحش. والآرام: جمع رئم، وهو الظبي الخالص البياض. وخلفة: يخلف بعضها بعضًا. والأطلاء: جمع الطلا، وهو الولد من ذوات الظلف. والمجثم: المربض، والشاهد في البيت عند المؤلف في قوله "خلفة" كما في الشاهد الذي قبله: أي يذهب بعضها ويخلفه بعض. مخففة، وقد يكون التشديد والتخفيف في مثل هذا بمعنى واحد. يقال: ذكرت حاجة فلان وتذكرتها. والقول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان متقاربتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب فيهما. القول في تأويل قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا (63) } يقول تعالى ذكره: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا) بالحلم والسكينة والوقار غير مستكبرين، ولا متجبرين، ولا ساعين فيها بالفساد ومعاصي الله. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، غير أنهم اختلفوا، فقال بعضهم: عنى بقوله: (يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا) أنهم يمشون عليها بالسكينة والوقار. * ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا) قال: بالوقار والسكينة. قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا محمد بن أبي الوضاح، عن عبد الكريم، عن مجاهد: (يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا) قال: بالحلم والوقار. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال ثنا عيسى; وحدثني الحارث; قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، قوله: (يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا) قال: بالوقار والسكينة. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، مثله. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا) بالوقار والسكينة. حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي، قال: ثنا شريك، عن سالم، عن سعيد وعبد الرحمن (الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا) قالا بالسكينة والوقار. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن شريك، عن جابر، عن عمار، عن عكرمة، في قوله: (يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا) قال: بالوقار والسكينة. قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، مثله. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن أيوب، عن عمرو الملائي (يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا) قال: بالوقار والسكينة. وقال آخرون: بل معنى ذلك: أنهم يمشون عليها بالطاعة والتواضع. * ذكر من قال ذلك: حدثني علي، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا) بالطاعة والعفاف والتواضع. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا) قال: يمشون على الأرض بالطاعة. حدثني أحمد بن عبد الرحمن، قال: ثني عمي عبد الله بن وهب، قال: كتب إليّ إبراهيم بن سويد، قال: سمعت زيد بن أسلم يقول: التمست تفسير هذه الآية (الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا) فلم أجدها عند أحد، فأُتيت في النوم فقيل لي: هم الذين لا يريدون يفسدون في الأرض. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن أسامة بن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: لا يفسدون في الأرض. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا) قال: لا يتكبرون على الناس، ولا يتجبرون، ولا يفسدون. وقرأ قول الله (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) وقال آخرون: بل معنى ذلك: أنهم يمشون عليها بالحلم لا يجهلون على من جهل عليهم. * ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن أبي الأشهب، عن الحسن في (يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا) قال: حلماء، وإن جُهِلَ عليهم لم يجهلوا. حدثنا ابن حميد قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين، عن يزيد، عن عكرمة (يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا) قال: حلماء. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الحسن، في قوله: (يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا) قال: علماء حلماء لا يجهلون. وقوله: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا) يقول: وإذا خاطبهم الجاهلون بالله بما يكرهونه من القول، أجابوهم بالمعروف من القول، والسداد من الخطاب. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا أبو الأشهب، عن الحسن (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ) ... الآية، قال: حلماء، وإن جُهل عليهم لم يجهلوا. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا ابن المبارك، عن معمر، عن يحيى بن المختار، عن الحسن، في قوله (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا) قال: إن المؤمنين قوم ذُلُلٌ، ذلّت منهم والله الأسماع والأبصار والجوارح، حتى يحسبهم الجاهل مرضى، وإنهم لأصحاء القلوب، ولكن دخلهم من الخوف ما لم يدخل غيرهم، ومنعهم من الدنيا علمهم بالآخرة، فقالوا: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) والله ما حزنهم حزن الدنيا، ولا تعاظم في أنفسهم ما طلبوا به الجنة، أبكاهم الخوف من النار، وإنه من لم يتعز بعزاء الله تَقَطَّعَ نفسه على الدنيا حسرات، ومن لم ير لله عليه نعمة إلا في مطعم ومشرب، فقد قلّ علمه وحضر عذابه. حدثنا ابن بشار قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا) قال: سدادا. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا محمد بن أبي الوضاح، عن عبد الكريم، عن مجاهد (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا) قال: سَدَادا من القول. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن الثوريّ، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا) حلماء. قال: ثنا الحسين، قال: ثنا يحيى بن يمان، عن أبي الأشهب، عن الحسن، قال: حلماء لا يجهلون، وإن جُهِل عليهم حلموا ولم يسفهوا، هذا نهارهم فكيف ليلهم - خير ليل - صفوا أقدامهم، وأجْرَوا دموعهم على خدودهم يطلبون إلى الله جلّ ثناؤه في فكاك رقابهم. قال: ثنا الحسين، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا عبادة، عن الحسن، قال: حلماء لا يجهلون وإن جهل عليهم حلموا. القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) } يقول تعالى ذكره: والذين يبيتون لربهم يصلون لله، يراوحون بين سجود في صلاتهم وقيام. وقوله: (وَقِيَامًا) جمع قائم، كما الصيام جمع صائم (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ) يقول تعالى ذكره: والذين يدعون الله أن يصرف عنهم عقابه وعذابه حذرا منه ووجلا. وقوله: (إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا) يقول: إن عذاب جهنم كان غراما ملحا دائما لازما غير مفارق من عذِّب به من الكفار، ومهلكا له. ومنه قولهم: رجل مُغْرم، من الغُرْم والدَّين. ومنه قيل للغريم غَريم لطلبه حقه، وإلحاحه على صاحبه فيه. ومنه قيل للرجل المولع للنساء: إنه لمغرَم بالنساء، وفلان مغرَم بفلان: إذا لم يصبر عنه; ومنه قول الأعشى: إنْ يُعَاقِب يَكُنْ غَرَاما وَإِنْ يُعْـ ... ـطِ جَزِيلا فَإِنَّهُ لا يبالي (1) يقول: إن يعاقب يكن عقابه عقابا لازما، لا يفارق صاحبه مهلكا له، وقول (1) البيت لأعشى بني قيس بن ثعلبة (ديوانه طبع القاهرة، بشرح الدكتور محمد حسين، ص 9) وهو من قصيدة يمدح بها الأسود بن المنذر اللخمي، وأولها ما بكاء الكبير بالأطلال والغرام الشر الدائم، ومنه قوله تعالى {إن عذابها كان غرامًا} أي هلاكًا ولزامًا لهم. يقول: إن عاقب كان غرامًا، وإن أعطى لم يبال العذال. بشر بن أبي خازم: وَيوْمَ النِّسارِ وَيَوْمَ الجِفا ... رِ كَانَ عِقَابًا وَكَانَ غَرَاما (1) وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني علي بن الحسن اللاني، قال: أخبرنا المعافي بن عمران الموصلي، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب في قوله: (إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا) قال: إن الله سأل الكفار عن نعمه، فلم يردّوها إليه، فأغرمهم، فأدخلهم النار. قال: ثنا المعافي، عن أبي الأشهب، عن الحسن، في قوله: (إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا) قال: قد علموا أن كلّ غريم مفارق غريمه إلا غريم جهنم. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا) قال: الغرام: الشرّ. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، في قوله: (إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا) قال: لا يفارقه. وقوله (إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا) يقول: إن جهنم ساءت مستقرًّا ومقاما، يعني بالمستقرّ: القرار، وبالمقام: الإقامة; كأن معنى الكلام: ساءت جهنم منزلا (1) البيت لبشر بن أبي خازم كما قال المؤلف. وفي اللسان نسبه للطرماح. قال: والغرام: اللازم من العذاب، والشر الدائم، والبلاء، والحب، والعشق، وما لا يستطاع أن يتفصى منه، وقال الزجاج: هو أشد العذاب في اللغة. قال الله عز وجل: {إن عذابها كان غرامًا} ، وقال الطرماح: "ويوم النسار.. ." البيت. وقوله عز وجل: {إن عذابها كان غرامًا} : أي ملحًا دائمًا ملازمًا. وفي معجم ما استعجم للبكري (طبعة القاهرة ص 385) الجفار: بكسر أوله، وبالراء المهملة: موضع بنجد، وهو الذي عنى بشر بن أبي خازم بقوله: "ويوم الجفار.. ." البيت. وقال أبو عبيدة: الجفار: في بلاد بني تميم. وقال البكري في رسم النسار: النسار، بكسر أوله: على لفظ الجمع، وهي أجبل صغار، شبهت بأنسر واقعة، وذكر ذلك أبو حاتم. وقال في موضع آخر: هي ثلاث قارات سود، تسمى الأنسر. وهناك أوقعت طيئ وأسد وغطفان، وهم حلفاء لبني عامر وبني تميم، ففرت تميم، وثبتت بنو عامر، فقتلوهم قتلا شديدًا؛ فغضبت بنو تميم لبني عامر، فتجمعوا ولقوهم يوم الجفار، فلقيت أشد مما لقيت بنو عامر، فقال بشر ابن أبي خازم: غَضِبَتْ تَمِيمٌ أنْ تُقْتَّلَ عَامِر ... يَوْمَ النِّسَارِ فَأُعْقِبُوا بِالصَّيْلَمِ قلت: الصيلم: الداهية المستأصلة. وفي رواية: فأعتبوا ومقاما. وإذا ضمت الميم من المقام فهو من الإقامة، وإذا فتحت فهو من قمت، ويقال: المقام إذا فتحت الميم أيضا هو المجلس، ومن المُقام بضمّ الميم بمعنى الإقامة، قول سلامة بن جندل: يَوْمانِ: يَوْمُ مُقَاماتٍ وأَنْدِيَةٍ ... وَيَوْمُ سَيْرٍ إلى الأعْداءِ تَأوِيبَ (1) ومن المُقام الذي بمعنى المجلس، قول عباس بن مرداس: فأيِّي ما وأيُّكَ كانَ شَرًّا ... فقِيدَ إلى المَقَامَة لا يَرَاها (2) يعني: المجلس. القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) } يقول تعالى ذكره: والذين إذا أنفقوا أموالهم لم يسرفوا في إنفاقها. ثم اختلف أهل التأويل في النفقة التي عناها الله في هذا الموضع، وما الإسراف فيها والإقتار. فقال بعضهم: الإسراف ما كان من نفقة في معصية الله وإن قلت: قال: وإياها عني الله، وسماها إسرافا. قالوا: والإقتار: المنع من حقّ الله. * ذكر من قال ذلك: حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) قال: هم المؤمنون لا يسرفون فينفقون في معصية الله، ولا يُقترون فيمنعون حقوق الله تعالى. (1) البيت لسلامة بن جندل، كما قال المؤلف. (وانظر اللسان: أوب) . والمقامات جمع مقامة، بمعنى الإقامة، والتأويب في كلام العرب: سير النهار كله إلى الليل. يقول: إننا نمضي حياتنا على هذا النحو: نجعل يوماً للإقامة، يجتمع أولو الرأي فينا في أنديتهم ومجالسهم، ليتشاوروا ويدبروا أمر القبيلة؛ واليوم الآخر نجعله للإغارة على الأعداء نشنها عليهم، ولو سرنا إليهم النهار كله فما نبالي، لأننا أهل عزة ومنعة. واستشهد به المؤلف عند قوله تعالى في صفة جهنم: {إنها ساءت مستقرًا ومقامًا} أي إقامة. (2) البيت لعباس بن مرداس، أنشده ابن بري في (اللسان: قوم) وهو شاهد على أن المقام والمقامة، بفتح الميم: المجلس. وقال البغدادي في الخزانة (2: 230) يدعو على الشر منهما، أي من كان منا شرَّا أعماه الله في الدنيا، فلا يبصر حتى يقاد إلى مجلسه. وقال شارح اللباب: أي قيد إلى مواضع إقامة الناس وجمعهم في العرصات لا يراها، أي قيد أعمى لا يرى المقامة. والبيت من جملة أبيات للعباس بن مرداس السلمي، قالها لخفاف بن ندبه في أمر شجر بينهما. حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا ابن يمان، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد، قال: لو أنفقت مثل أبي قبيس ذهبا في طاعة الله ما كان سرفا، ولو أنفقت صاعا فى معصية الله كان سرفا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قوله: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا) قال: في النفقة فيما نهاهم وإن كان درهما واحدا، ولم يقتروا ولم يُقصِّروا عن النفقة في الحق. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) قال: لم يسرفوا فينفقوا في معاصي الله كلّ ما أنفق في معصية الله، وإن قلّ فهو إسراف، ولم يقتروا فيمسكوا عن طاعة الله. قال: وما أُمْسِكَ عن طاعة الله وإن كثر فهو إقتار. قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني إبراهيم بن نشيط، عن عمر مولى غُفرة أنه سئل عن الإسراف ما هو؟ قال: كلّ شيء أنفقته في غير طاعة الله فهو سرف. وقال آخرون: السرف: المجاوزة في النفقة الحدّ، والإقتار: التقصير عن الذي لا بدّ منه. * ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا عبد السلام بن حرب، عن مغيرة، عن إبراهيم، قوله: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا) قال: لا يجيعهم ولا يعريهم ولا ينفق نفقة يقول الناس قد أسرف. حدثني سليمان بن عبد الجبار، قال: ثنا محمد بن يزيد بن خنيس أبو عبد الله المخزومي المكي، قال: سمعت وهيب بن الورد أبا الورد مولى بني مخزوم، قال: لقي عالم عالما هو فوقه في العلم، فقال: يرحمك الله أخبرني عن هذا البناء الذي لا إسراف فيه ما هو؟ قال: هو ما سترك من الشمس، وأكنك من المطر، قال: يرحمك الله، فأخبرني عن هذا الطعام الذي نصيبه لا إسراف فيه ما هو؟ قال: ما سدّ الجوع ودون الشبع، قال: يرحمك الله، فأخبرني عن هذا اللباس الذي لا إسراف فيه ما هو؟ قال: ما ستر عورتك، وأدفأك من البرد. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عبد الرحمن بن شريح، عن يزيد بن أبي حبيب في هذه الآية: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا) ... الآية، قال: كانوا لا يلبسون ثوبا للجمال، ولا يأكلون طعاما للذّة، ولكن كانوا يريدون من اللباس ما يسترون به عورتهم، ويكتَنُّون به من الحرّ والقرّ، ويريدون من الطعام ما سدّ عنهم الجوع، وقواهم على عبادة ربهم. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن العلاء بن عبد الكريم، عن يزيد بن مرّة الجعفي. قال: العلم خير من العمل، والحسنة بين السيئتين، يعني: إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا، وخير الأعمال أوساطها. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا كعب بن فروخ، قال: ثنا قتادة، عن مطرِّف بن عبد الله، قال: خير هذه الأمور أوساطها، والحسنة بين السيئتين. فقلت لقتادة: ما الحسنة بين السيئتين؟ فقال: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا) ... الآية. وقال آخرون: الإسراف هو أن تأكل مال غيرك بغير حق. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا سالم بن سعيد، عن أبي مَعْدان، قال: كنت عند عون بن عبد الله بن عتبة، فقال: ليس المسرف من يأكل ماله، إنما المسرف من يأكل مال غيره. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك، قول من قال: الإسراف في النفقة الذي عناه الله في هذا الموضع: ما جاوز الحدّ الذي أباحه الله لعباده إلى ما فوقه، والإقتار: ما قصر عما أمر الله به، والقوام: بين ذلك. وإنما قلنا إن ذلك كذلك، لأن المسرف والمقتر كذلك، ولو كان الإسراف والإقتار في النفقة مرخصا فيهما ما كانا مذمومين، ولا كان المسرف ولا المقتر مذموما، لأن ما أذن الله في فعله فغير مستحقّ فاعله الذمّ. فإن قال قائل: فهل لذلك من حدّ معروف تبينه لنا؟ قيل: نعم ذلك مفهوم في كلّ شيء من المطاعم والمشارب والملابس والصدقة وأعمال البرّ وغير ذلك، نكره تطويل الكتاب بذكر كلّ نوع من ذلك مفصلا غير أن جملة ذلك هو ما بيَّنا وذلك نحو أكل آكل من الطعام فوق الشبع ما يضعف بدنه، وينهك قواه ويشغله عن طاعة ![]()
__________________
|
#10
|
||||
|
||||
![]() ![]() تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن الإمام محمد بن جرير الطبري الجزء التاسع عشر تَفْسِيرِ سُّورَةِ الفرقان الحلقة (1080) صــ 301 لى صــ 310 ربه، وأداء فرائضه؛ فذلك من السرف، وأن يترك الأكل وله إليه سبيل حتى يضعف ذلك جسمه وينهك قواه ويضعفه عن أداء فرائض ربه؛ فذلك من الإقتار وبين ذلك القوام على هذا النحو، كل ما جانس ما ذكرنا، فأما اتخاذ الثوب للجمال يلبسه عند اجتماعه مع الناس، وحضوره المحافل والجمع والأعياد دون ثوب مهنته، أو أكله من الطعام ما قوّاه على عبادة ربه، مما ارتفع عما قد يسدّ الجوع، مما هو دونه من الأغذية، غير أنه لا يعين البدن على القيام لله بالواجب معونته، فذلك خارج عن معنى الإسراف، بل ذلك من القوام، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر ببعض ذلك، وحضّ على بعضه، كقوله: "مَا عَلى أحَدِكُمْ لَوْ اتَّخَذَ ثَوْبَيْنِ: ثَوْبًا لِمِهْنَتِهِ، وَثَوْبًا لجُمْعَتِهِ وَعِيدِه" وكقوله: "إذَا أنْعَمَ اللهُ عَلَى عبْدٍ نِعْمَةً أَحَبَّ أَنْ يَرَى أَثَرَهَا عَلَيْهِ" وما أشبه ذلك من الأخبار التي قد بيَّناها في مواضعها. وأما قوله: (وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) فإنه النفقة بالعدل والمعروف على ما قد بيَّنا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا سفيان، عن أبي سليمان، عن وهب بن منبه، في قوله: (وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) قال: الشطر من أموالهم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قوله: (وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) النفقة بالحقّ. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) قال: القوام: أن ينفقوا في طاعة الله، ويمسكوا عن محارم الله. قال: أخبرني إبراهيم بن نشيط، عن عمر مولى غُفْرة، قال: قلت له: ما القوام؟ قال: القوام: أن لا تنفق في غير حقّ، ولا تمسك عن حقّ هو عليك. والقوام في كلام العرب، بفتح القاف، وهو الشيء بين الشيئين. تقول للمرأة المعتدلة الخلق: إنها لحسنة القوام في اعتدالها، كما قال الحطيئة: طَافَتْ أُمَامَةُ بالرُّكْبانِ آونَةً ... يا حُسْنَهُ مِنْ قَوَام ما وَمُنْتَقَبا (1) (1) البيت للحطيئة: وآونة: جمع أوان. والقوام: حسن الطول. والمنتقب: مصدر ميمي بمعنى الانتقاب. يقول: إن أمامة كانت أحيانًا تطوف بالركبان، فما أعدل قوامها، وأحسن نقبتها. والنقاب: ما وضع على مارن الأنف من أغطية الوجه. والنقبة: هيئة الانتقاب به، يقال: إن فلانة لحسنة النقبة. ويكون معنى القوام كذلك: الشيء الوسط بين الشيئين. وقد حمل عليه المؤلف معنى البيت. فأما إذا كسرت القاف فقلت: إنه قِوام أهله، فإنه يعني به: أن به يقوم أمرهم وشأنهم. وفيه لغات أُخَر، يقال منه: هو قيام أهله وقيّمهم في معنى قوامهم. فمعنى الكلام: وكان إنفاقهم بين الإسراف والإقتار قواما معتدلا لا مجاوزة عن حد الله، ولا تقصيرا عما فرضه الله، ولكن عدلا بين ذلك على ما أباحه جلّ ثناؤه، وأذن فيه ورخص. واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (وَلَمْ يَقْتُرُوا) فقرأته عامة قرّاء المدينة "ولمْ يُقْتروا" بضم الياء وكسر التاء من أقتر يَقْتِر. وقرأته عامة قرّاء الكوفيين (وَلَمْ يَقْتُرُوا) بفتح الياء وضم التاء من قتر يَقْتُر. وقرأته عامة قرّاء البصرة "وَلمْ يَقْتِروا" بفتح الياء وكسر التاء من قتر يَقْتِر. والصواب من القول في ذلك، أن كل هذه القراءات على اختلاف ألفاظها لغات مشهورات في العرب، وقراءات مستفيضات وفي قرّاء الأمصار بمعنى واحد، فبأيتها قرأ القارئ فمصيب. وقد بيَّنا معنى الإسراف والإقتار بشواهدهما فيما مضى في كتابنا في كلام العرب، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. وفي نصب القَوام وجهان: أحدهما ما ذكرت، وهو أن يجعل في كان اسم الإنفاق بمعنى: وكان إنفاقهم ما أنفقوا بين ذلك قواما: أي عدلا والآخر أن يجعل بين هو الاسم، فتكون وإن كانت في اللفظة نصبا في معنى رفع، كما يقال: كان دون هذا لك كافيا، يعني به: أقلّ من هذا كان لك كافيا، فكذلك يكون في قوله: (وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) لأن معناه: وكان الوسط من ذلك قواما. القول في تأويل قوله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) يقول تعالى ذكره: والذين لا يعبدون مع الله إلها آخر، فيشركون في عبادتهم إياه، ولكنهم يخلصون له العبادة ويفردونه بالطاعة (وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ) قتلها (إِلا بِالْحَقِّ) إما بكفر بالله بعد إسلامها، أو زنا بعد إحصانها، أو قتل نفس، فتقتل بها (وَلا يَزْنُونَ) فيأتون ما حرم الله عليهم إتيانه من الفروج (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ) يقول: ومن يأت هذه الأفعال، فدعا مع الله إلها آخر، وقتل النفس التي حرّم الله بغير الحق، وزنى (يَلْقَ أَثَامًا) يقول: يلق من عقاب الله عقوبة ونكالا كما وصفه ربنا جلّ ثناؤه، وهو أنه (يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا) ، ومن الأثام قول بَلْعَاءَ بن قيس الكناني: جَزَى اللهُ ابْنَ عُرْوَةَ حيْثُ أمْسَى ... عُقُوقا والعُقُوقُ لَهُ أثامُ (1) يعني بالأثام: العقاب. وقد ذُكر أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل قوم من المشركين أرادوا الدخول في الإسلام، ممن كان منه في شركه هذه الذنوب، فخافوا أن لا ينفعهم مع ما سلف منهم من ذلك إسلام، فاستفتَوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية، يعلمهم أن الله قابل توبة من تاب منهم. (1) البيت لبلعام بن قيس بن ربيعة بن عبد الله بن يعمر، واسمه حميضة وهو من كنانة بن خزيمة، وكان بلعاء رأس بني كنانة في أكثر حروبهم ومغازيهم، وكان كثير الغارات على العرب، وله أخبار في حروب الفجار. وهو شاعر محسن، قال في كل فن أشعاراً جيادًا (انظر المؤتلف والمختلف 106 ومعجم الشعراء للمرزباني 357) . والبيت أنشده صاحب (اللسان: أثم) ونسبه إلى شافع الليثي. ونسبه أبو عبيدة في مجاز القرآن إلى بلعاء بن قيس الكناني، وعنه أخذ المؤلف قال في اللسان: "قال أبو إسحاق: تأويل الأثام: المجازاة وفال أبو عمرو الشيباني: لقي فلان أثام ذلك: أي جزاء ذلك، فإن الخليل وسيبويه يذهبان إلى أن معناه: يلقى جزاء الأثام. وقول شافع الليثي في ذلك جزى الله ابن عروة ... له أثام" أي عقوبة مجازاة العقوق، وهي قطيعة الرحم. وقال الليث: الأثام في جملة التفسير عقوبة الإثم. وقيل في قوله تعالى {يلق أثاما} قيل: هو واد في جهنم. قال ابن سيده: والصواب عندي: أن معناه: يلق عقاب الأثام. اهـ. * ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: ثني يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن ناسا من أهل الشرك قَتَلُوا فأكثروا، فأتوا محمدًا صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن الذي تدعونا إليه لحسن، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزلت (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ) ونزلت: (قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ) إلى قوله: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) قال ابن جُرَيج: وقال مجاهد مثل قول ابن عباس سواء. حدثنا عبد الله بن محمد الفريابي، قال: ثنا سفيان، عن أبي معاوية، عن أبي عمرو الشيباني، عن عبد الله، قال: سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم: ما الكبائر؟ قال: أنْ تَدْعُوَ للهِ نِدّا وهُوَ خَلَقَكَ وأنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَأَكُلَ مَعَكَ، وأنْ تَزْنِي بِحَلِيلَةِ جَارِكَ، وقرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من كتاب الله (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ) . حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا سفيان عن الأعمش ومنصور، عن أبي وائل، عن عمرو بن شرحبيل، عن عبد الله، قال: قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ أنْ تَجْعَلَ للهِ نِدّا وهُوَ خَلَقَكَ، قلت: ثم أي؟ قال: أنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَأَكُلَ مَعَكَ، قلت: ثم أي؟ قال: أنْ تُزَاني حَلِيلَةِ جَارِكَ "فأنزل تصديق قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ) " ... الآية. حدثنا سليمان بن عبد الجبار، قال: ثنا عليّ بن قادم، قال: ثنا أسباط بن نصر الهمداني، عن منصور، عن أبي وائل، عن أبي ميسرة، عن عبد الله بن مسعود، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، نحوه. حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي، قال: ثني عمي يحيى بن عيسى، عن الأعمش، عن سفيان، عن عبد الله قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أي الذنب أكبر؟ ثم ذكر نحوه. حدثني أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: ثنا عامر بن مدرك، قال: ثنا السريّ - يعني ابن إسماعيل - قال: ثنا الشعبي، عن مسروق، قال: قال عبد الله: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فاتبعته، فجلس على نشَز من الأرض، وقعدت أسفل منه، ووجهي حيال ركبتيه، فاغتنمت خلوته وقلت: بأبي وأمي يا رسول الله، أي الذنوب أكبر؟ قال:" أنْ تَدْعُوَ للهِ نِدّا وهُوَ خَلَقَكَ. قلت: ثم مه؟ قال: "أنْ تَقْتَلَ وَلَدَكَ كَرَاهِيَةَ أنْ يَطْعَمَ مَعَكَ" . قلت: ثم مه؟ قال: "أنْ تُزَانِي حَلِيلَةِ جَارِكَ" ، ثم تلا هذه الآية: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) ... إلى آخر الآية. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا طلق بن غنام، عن زائدة، عن منصور، قال: ثني سعيد بن جُبير، أو حُدثت عن سعيد بن جُبير، أن عبد الرحمن بن أبزى أمره أن يسأل ابن عباس عن هاتين الآيتين التي في النساء (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا) ... إلى آخر الآية، والآية التي في الفرقان (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا) إلى (وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا) قال ابن عباس: إذا دخل الرجل في الإسلام وعلم شرائعه وأمره، ثم قتل مؤمنا متعمدا، فلا توبة له، والتي في الفرقان لما أنزلت قال المشركون من أهل مكة: فقد عدلنا بالله، وقتلنا النفس التي حرّم الله بغير الحقّ، فما ينفعنا الإسلام؟ قال: فنزلت (إِلا مَنْ تَابَ) قال: فمن تاب منهم قُبل منه. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، قال: ثني سعيد بن جبير، أو قال: حدثني الحكم عن سعيد بن جُبير، قال: أمرني عبد الرحمن بن أبزي، فقال: سل ابن عباس، عن هاتين الآيتين، ما أمرهما عن الآية التي في الفرقان (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ) الآية، والتي في النساء (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ) فسألت ابن عباس عن ذلك، فقال: لما أنزل الله التي في الفرقان، قال مشركو أهل مكة: قد قتلنا النفس التي حرّم الله، ودعونا مع الله إلها آخر، فقال: (إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا) الآية. فهذه لأولئك. وأما التي في النساء (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ) ... الآية، فإن الرجل إذا عرف الإسلام، ثم قتل مؤمنا متعمدا، فجزاؤه جهنم، فلا توبة له. فذكرته لمجاهد، فقال: إلا من ندم. حدثنا محمد بن عوف الطائي، قال: ثنا أحمد بن خالد الذهني، قال: ثنا شيبان، عن منصور بن المعتمر، قال: ثني سعيد بن جُبير، قال لي سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى: سل ابن عباس، عن هاتين الآيتين عن قول الله: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) ... إلى (مَنْ تَابَ) وعن قوله (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا) ... إلى آخر الآية، قال: فسألت عنها ابن عباس، فقال: أنزلت هذه الآية في الفرقان بمكة إلى قوله (وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا) فقال المشركون: فما يغني عنا الإسلام، وقد عدلنا بالله، وقتلنا النفس التي حرّم الله، وأتينا الفواحش، قال: فأنزل الله (إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا) ... إلى آخر الآية، قال: وأما من دخل في الإسلام وعقله، ثم قتل، فلا توبة له. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال في هذه الآية (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ) ... الآية، قال: نزلت في أهل الشرك. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن منصور، عن سعيد بن جُبير، قال: أمرني عبد الرحمن بن أبزي أن أسأل ابن عباس عن هذه الآية (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) فذكر نحوه. حدثني عبد الكريم بن عمير، قال: ثنا إبراهيم بن المنذر، قال: ثنا عيسى بن شعيب بن ثوبان، مَولى لبني الديل من أهل المدينة، عن فليح الشماس، عن عبيد بن أبي عبيد، عن أبي هريرة، قال: "صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العَتَمة، ثم انصرفت فإذا امرأة عند بابي، ثم سلمت، ففتحت ودخلت، فبينا أنا في مسجدي أصلي، إذ نقرت الباب، فأذنت لها، فدخلت فقالت: إني جئتك أسألك عن عمل عملت، هل لي من توبة؟ فقالت: إني زنيت وولدت، فقتلته، فقلت: ولا لا نعمت العين ولا كرامة، فقامت وهي تدعو بالحسرة تقول: يا حسرتاه، أخُلق هذا الحسن للنار؟ قال: ثم صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح من تلك الليلة، ثم جلسنا ننتظر الإذن عليه، فأذن لنا، فدخلنا، ثم خرج من كان معي، وتخلفت، فقال: مَا لَكَ يا أبا هُرَيْرَةَ، ألَكَ حَاجَة؟ فقلت له: يا رسول الله صليت معك البارحة ثم" انصرفت. وقصصت عليه ما قالت المرأة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما قُلْت لَهَا؟ قال: قلت لها: لا والله، ولا نعمت العين ولا كرامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بِئسَ مَا قُلتَ، أمَا كُنْتَ تَقْرَأ هذِهِ الآية (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ) ... الآية (إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا) فقال أبو هريرة: فخرجت، فلم أترك بالمدينة حصنا ولا دارًا إلا وقفت عليه، فقلت: إن تكن فيكم المرأة التي جاءت أبا هريرة الليلة، فلتأتني ولتبشر; فلما صليت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم العشاء، فإذا هي عند بابي، فقلت: أبشري، فإني دخلت على النبيّ، فذكرت له ما قلت لي، وما قلت لك، فقال: وبئس ما قلت لها، أما كنت تقرأ هذه الآية؟ فقرأتها عليها، فخرّت ساجدة، فقالت: الحمد لله الذي جعل مخرجًا وتوبة مما عملت، إن هذه الجارية وابنها حرَّان لوجه الله، وإني قد تبت مما عملت" . حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا جعفر بن سليمان، عن عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، قال: اختلفت إلى ابن عباس ثلاث عشرة سنة، فما شيء من القرآن إلا سألته عنه، ورسولي يختلف إلى عائشة، فما سمعته ولا سمعت أحدا من العلماء يقول: إن الله يقول لذنب: لا أغفره. وقال آخرون: هذه الآية منسوخة بالتي في النساء. * ذكر من قال ذلك: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني المغيرة بن عبد الرحمن الحراني، عن أبي الزناد، عن خارجة بن زيد أنه دخل على أبيه وعنده رجل من أهل العراق، وهو يسأله عن هذه الآية التي في تبارك الفرقان، والتي في النساء (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا) فقال زيد بن ثابت: قد عرفت الناسخة من المنسوخة، نسختها التي في النساء بعدها بستة أشهر. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: قال الضحاك بن مزاحم: هذه السورة بينها وبين النساء (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا) ثمان حجج. وقال ابن جُرَيج: وأخبرني القاسم بن أبي بزة أنه سأل سعيد بن جُبير: هل لمن قتل مؤمنا متعمدا توبة؟ فقال: لا فقرأ عليه هذه الآية كلها، فقال سعيد بن جُبير: قرأتها على ابن عباس كما قرأتها علي، فقال: هذه مكية، نسختها آية مدنية، التي في سورة النساء، وقد أتينا على البيان عن الصواب من القول في هذه الآية التي في سورة النساء بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وبنحو الذي قلنا في الأثام من القول، قال أهل التأويل، إلا أنهم قالوا: ذلك عقاب يعاقب الله به من أتى هذه الكبائر بواد في جهنم يُدعى أثاما. * ذكر من قال ذلك: حدثني أحمد بن المقدام، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت أبي يحدّث، عن قتادة، عن أبي أيوب الأزدي، عن عبد الله بن عمرو، قال: الأثام: واد في جهنم. حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (يَلْقَ أَثَامًا) قال: واديا في جهنم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، حدثنا ابن حميد قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين، عن يزيد، عن عكرمة، في قوله: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا) قال: واديا في جهنم فيه الزناة. حدثني العباس بن أبي طالب، قال: ثنا محمد بن زياد، قال: ثنا شرقي بن قطاميّ، عن لقمان بن عامر الخزاعيّ، قال: جئت أبا أمامة صديّ بن عجلان الباهلي، فقلت: حدثني حديثًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فدعا لي بطعام، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَوْ أَنَّ صَخْرَةً زِنَةَ عَشْر عَشْرَوَاتٍ قُذِفَ بِها مِنْ شَفِيرِ جَهَنَّمَ ما بَلَغَتْ قَعْرَهَا خَمْسِينَ خَرِيفا، ثُمَّ تَنْتَهِي إلى غَيٍّ وأثامٍ" . قلت: وما غيّ وأثام؟ قال: بِئْرَان فِي أَسْفَلِ جَهَنَّمَ يَسِيلُ فِيهِمَا صَدِيدُ أهْلِ النَّار، وهما اللذان ذكر الله في كتابه (أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) وقوله في الفرقان (وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا) . حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (يَلْقَ أَثَامًا) قال: الأثام الشرّ، وقال: سيكفيك ما وراء ذلك: (يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا) . حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: (يَلْقَ أَثَامًا) قال: نكالا قال: وقال: إنه واد في جهنم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن هشيم، قال: أخبرنا زكريا بن أبي مريم قال: سمعت أبا أمامة الباهلي يقول: إن ما بين شفير جهنم إلى قعرها مسيرة سبعين خريفا بحجر يهوي فيها أو بصخرة تهوي، عظمها كعشر عشراوات سمان، فقال له رجل: فهل تحت ذلك من شيء؟ قال: نعم غيّ وأثام. قوله: (يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) اختلفت القرّاء في قراءته، فقرأته عامة قراء الأمصار سوى عاصم (يُضَاعفْ) جزما (وَيَخْلُدْ) جزما. وقرأه عاصم: (يضَاعَفُ) رفعا (وَيَخْلُدُ) رفعا كلاهما على الابتداء، وأن الكلام عنده قد تناهى عند (يَلْقَ أَثَامًا) ثم ابتدأ قوله: (يُضَاعَفُ لَهُ الْعَذَابُ) . والصواب من القراءة عندنا فيه: جزم الحرفين كليهما: يضاعفْ، ويخلدْ، وذلك أنه تفسير للأثام لا فعل له، ولو كان فعلا له كان الوجه فيه الرفع، كما قال الشاعر: مَتى تأْتِهِ تَعْشُو إلى ضَوْءِ نَارِهِ ... تَجِدْ خَيْرَ نَارٍ عِنْدَهَا خَيْرُ مُوقِدِ (1) فرفع تعشو، لأنه فعل لقوله تأته، معناه: متى تأته عاشيا. وقوله (وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا) ويبقى فيه إلى ما لا نهاية في هوان. وقوله: (إِلا مَنْ (1) البيت للحطيئة (اللسان: عشا) . قال: عشا إلى النار وعشاها عشوًا وعشوًا (كفعول) واعتشاها واعتشى بها: كله: رآها ليلا على بعد، فقصدها مستضيئا بها؛ قال الحطيئة: * متى تأته تعشو * البيت. أي متى تأته لا تتبين ناره من ضعف بصرك. اهـ. وجملة تعشو: في محل نصب على الحال. ولذلك قال المؤلف: فرفع تعشو لأنه فعل لقوله تأته، أي: هو حال من فاعل تأته. أي متى تأته عاشيًا. أما ما رواه الطبري من أن القراء مختلفون في قراءة: (يضاعف) جزمًا ورفعًا فهو كلام وجيه، ولكل قراءة تأويلها من جهة النحو، ولكنه يؤثر رواية الجزم على التفسير، أي البدل مما قبله، وهو (يلق) والذي ذهب إليه المؤلف تبع فيه الفراء في معاني القرآن (مصور الجامعة رقم 24059 ص 226) قال: وقوله: {ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة} : قرأت القراء بجزم {يضاعف} ورفعه عاصم بن أبي النجود؛ والوجه الجزم. وذلك إن فسرته ولم يكن فعلا لما قبله (أي مصاحبا الفعل الذي قبله) فالوجه الجزم. وما كان فعلا لما قبله رفعته، فأما المفسر للمجزوم (أي المبدل منه) فقوله: {ومن يفعل ذلك يلق أثاما} ثم فسر الأثام، فقال {يضاعف له العذاب} . ومثله في الكلام: "إن تكلمني توصني بالخير والبر أقبل منك" . ألا ترى أنك فسرت الكلام بالبر، ولم يكن له فعلا له، فلذلك جزمت، ولو كان الثاني فعلا للأول لرفعته، كقولك: "إن تأتنا تطلب الخير تجده" . ألا ترى تجد تطلب فعلا للإتيان، كقيلك: إن تأتنا طالبًا للخير تجده، قال الشاعر: متى تأته تعشو ... "البيت، فرفع تعشو لأنه أراد: متى تأته عاشيًا. ورفع عاصم {يضاعف له} ، لأنه أراد الاستئناف، كما تقول: إن تأتنا نكرمك، نعطيك كل ما تريد، لا على الجزاء." تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا) يقول تعالى ذكره: ومن يفعل هذه الأفعال التي ذكرها جلّ ثناؤه يلق أثاما (إِلا مَنْ تَابَ) يقول: إلا من راجع طاعة الله تبارك وتعالى بتركه ذلك، وإنابته إلى ما يرضاه الله (وَآمَنَ) يقول: وصدّق بما جاء به محمد نبيّ الله (وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا) يقول: وعمل بما آمره الله من الأعمال، وانتهى عما نهاه الله عنه. قوله: (فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) . اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معناه: فأولئك يبدّل الله بقبائح أعمالهم في الشرك، محاسن الأعمال في الإسلام، فيبدله بالشرك إيمانا، وبقيل أهل الشرك بالله قيل أهل الإيمان به، وبالزنا عفة وإحصانا. * ذكر من قال ذلك: حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) قال: هم المؤمنون كانوا قبل إيمانهم على السيئات، فرغب الله بهم عن ذلك، فحوّلهم إلى الحسنات، وأبدلهم مكان السيئات حسنات. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا) ... إلى آخر الآية، قال: هم الذين يتوبون فيعملون بالطاعة، فيبدّل الله سيئاتهم حسنات حين يتوبون. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن سعيد، قال: نزلت (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) ... إلى آخر الآية في وحشي وأصحابه، قالوا: كيف لنا بالتوبة، وقد عبدنا الأوثان، وقتلنا المؤمنين، ونكحنا المشركات، فأنزل الله فيهم (إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) فأبدلهم الله بعبادة الأوثان عبادة الله، وأبدلهم بقتالهم مع المشركين قتالا مع المسلمين للمشركين، وأبدلهم بنكاح المشركات نكاح المؤمنات. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جُرَيج، قال ابن عباس، في قوله: (فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) قال: بالشرك إيمانا، وبالقتل إمساكا، والزنا إحصانا. حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت ![]()
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 16 ( الأعضاء 0 والزوار 16) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |