صور من محن علماء المسلمين عبر التاريخ ..... يوميا فى رمضان . - الصفحة 2 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         ما أفضل حمية للمصابات بسكر الحمل؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 48 )           »          دليلك الشامل لأنواع السرطان! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 36 )           »          ما لا تعرفه عن أسباب العقم! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 36 )           »          العصبية وصحة القلب: هل الغضب يدمّر صحتك؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 37 )           »          أعراض مرض الزهري: كل ما تحتاج معرفته (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 34 )           »          أطعمة غنية بسكر الفركتوز: هل هي ضارة أم مفيدة؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »          7 نصائح ذكية حول كيفية الوقاية من داء القطط للحامل! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 31 )           »          أسباب وعوامل خطر الإصابة بسوء التغذية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 29 )           »          أطعمة تحتوي على الكربوهيدرات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          إنقاص الوزن بعد الولادة: طرق آمنة وفعالة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 42 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العام > الملتقى العام > ملتقى أعلام وشخصيات
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى أعلام وشخصيات ملتقى يختص بعرض السير التاريخية للشخصيات الاسلامية والعربية والعالمية من مفكرين وأدباء وسياسيين بارزين

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 11-03-2025, 09:59 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,335
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صور من محن علماء المسلمين عبر التاريخ ..... يوميا فى رمضان .



الإمام سفيان الثوري
شريف عبدالعزيز الزهيري
(11)



من أهم مهمات العلماء الربانيين في الأمة الإسلامية إرشاد الناس وتعليمهم، وتبصيرهم بالحق، ووعظهم وزجرهم عن الباطل، ولا يزال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم بنود هذه المهمة المقدسة؛ فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو قطب الدين الأعظم، عليه يدور الدين، ومن أجله أرسلت الأنبياء والمرسلين، وقام سوق الجنة والنار، وانقسم به الناس بين دعاة ومدعوين، كما لا يزال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم أسباب المحن والابتلاءات التي تعرض لها كثير من علماء الأمة، خاصة في الفترات التي يحكم فيها الطغاة؛ حيث لا تجد الأمة من يتصدى لهؤلاء الطغاة سوى علمائها، وهذه محنة واحد منهم، بل واحد من أعظمهم.
التعريف به:
• هو شيخ الإسلام، إمام الحفاظ، سيد العلماء العاملين في زمانه، أمير المؤمنين في الحديث، المجتهد المطلق، العابد الزاهد، قدوة العصر، الإمام أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق بن حبيب

الثوري، وُلد سنة 97هـ بالكوفة، في بيت علم وورع وديانة، فأبوه المحدث الثقة: سعيد الثوري وهو طبقة صغار التابعين، وأمه كانت امرأة صالحة، دفعت ولدها منذ صغره نحو طلب العلم، وقالت له: اذهب فاطلب العلم حتى أعولك بمغزلي، وكان أبوه فقيرًا مشغولا بالحديث.
• انطلق الثوري كالشهاب يطلب العلم من مشايخ الوقت، وعلماء العراق، وأكثر من ذلك حتى بلغ عدد شيوخه ستمائة شيخ، وعلا ذكره، وطارت شهرته، وعرفه الناس، وهو شاب دون العشرين؛ وذلك لعلو همته، وكثرة رحلته، وشدة زهده وورعه، وفرط ذكائه، وسعة محفوظاته، وما زال أمره في علو ورفعة، وخبره في ذيوع وشهرة، حتى لقب بأمير المؤمنين في الحديث، وكان أحفظ
أهل زمانه، على الرغم من وجود العديد من الحفاظ الأعلام، والأئمة والأثبات في زمانه، إلا أنه يفوقهم جميعًا.
• جمع الثوري بين العلم والعمل، والزهد والورع والعبادة، والجهر بالحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومجافاة السلاطين والأمراء، والفرار من المناصب، والتحرز من الشبهات، حتى صار درة الدهر، وبركة العصر، وحجة الله على الخلق.
ثناء الناس عليه:
• للثوري منزلة خاصة عند المسلمين عامة، وأهل العلم والحديث خاصة؛ فلقد كان الإمام الثوري كلمة إجماع بين العالمين، لم يختلف عليه اثنان، ولم يؤثر عن أحد من المسلمين مهما كان حاله أنه نال الثوري بكلمة ذم أو انتقاص، فهو من سادات المسلمين، ومن الأئمة الأعلام المتبوعين، ولقد ظل مذهبة واختياراته الفقهية والعلمية معمولا بها حينًا من الدهر، ولو وجد الثوري من التلاميذ والأتباع من يقوم بمذهبه وعلمه لظل مذهبه قائمًا حتى الآن، ومن بين المذاهب المتبوعة المعروفة، ولكنه مثل الليث بن سعد، وأبي ثور والأوزاعي، وغيرهم من الأئمة الذين لم يجدوا من يقوم بهم،

وينشر علمهم، وهذه طائفة من كلام وثناء الناس على الإمام الثوري:
• قال شعبة بن الحجاج: سفيان أمير المؤمنين في الحديث، ساد الناس بالورع والعلم.
• قال أبو حنيفة: لو حضر علقمة والأسود من كبار التابعين لاحتاجا إلى سفيان.
• قال سفيان بن عينية: ما رأيت رجلا أعلم بالحلال والحرام من سفيان الثوري.
• قال الفضيل بن عياض: كان سفيان الثوري - والله - أعلم من أبي حنيفة.
• قال بشر الحافي: كان الثوري عندنا إمام الناس، وسفيان في زمانه كأبي بكر وعمر في زمانهما.
• قال شعيب بن حرب: إني لأحسب أنه يجاء غدًا بسفيان حجة من الله على خلقه، يقول لهم: لم تدركوا نبيكم، قد رأيتم سفيان.
• قال يحيى بن معين: ما خالف أحد سفيان في شيء إلا كان القول قول سفيان.

• قال ابن المبارك: ما نعت لي أحد فرأيته إلا وجدته دون نعته إلا سفيان الثوري.
• قال يوسف بن أسباط: كان سفيان إذا أخذ في ذكر الآخرة يبول الدم.
• قال الأوزاعي: لو قيل لي اختر لهذه الأمة رجلا يقول فيها بكتاب الله وسنة نبيه لاخترت لهم سفيان الثوري.
• قال الشافعي: ما رأيت بالكوفة رجلا أتبع للسنة، ولا أود أني في مسلاخه من سفيان الثوري.
• قال يحيى القطان: سفيان الثوري فوق مالك في كل شيء.
• قال أحمد بن حنبل: أتدري من الإمام؟ الإمام سفيان الثوري، لا يتقدمه أحد في قلبي.
• قال الذهبي: قد كان سفيان رأسًا في الزهد والتأله والخوف، رأسًا في الحفظ، رأسًا في معرفة الآثار، رأسًا في الفقه، لا يخاف في الله لومة لائم، من أئمة الدين.
محنته:

• محنة الإمام سفيان الثوري ترجع في المقام الأول لوجوده في عصرين مختلفين، وشهوده لقيام دولة وانهيار أخرى، ومعاينته للأهوال والملاحم التي وقعت خلال ذلك القيام والانهيار، فآثر ذلك في نفسه بشدة، وكوَّن الإمام رؤيته وحكمه على الدولة الجديدة من خلال الفتن والملاحم التي وقعت، وجعلت الإمام يفر من أية علائق مع تلك الدولة، ويرفض أي منصب تعرضه عليه السلطة الجديدة؛ لاعتراضه بالكامل عليها شكلا وموضوعًا.
• وُلد سفيان الثوري سنة 97هـ بالكوفة كما أسلفنا، ونشأ وترعرع وطلب العلم في عهد الدولة الأموية المجاهدة، وطاف البلاد، ولاقى الشيوخ، ولما صار في سن الكهولة في الخامسة والثلاثين - أي في سنة 132هـ - وقع الزلزال الكبير في الأمة الإسلامية، وقامت الدولة العباسية على أنقاض الدولة الأموية، وذلك بعد سلسلة رهيبة من المعارك الطاحنة، والمجازر المروعة، وكان إعلان قيام الدولة في الكوفة نفسها، ورأى سفيان الثوري ذلك كله، وكان وقتها قد صار من علماء الكوفة وشيوخها المعروفين، إليه يفزع الناس عند النوازل والملمات طلبًا للفتيا والسؤال، وكان سفيان الثوري لا يرى الخروج على الأئمة ولو جاروا؛ من باب درء الفتنة، وارتكاب أخف الضررين من أجل دفع أعظمهما، ومنع المفاسد العظيمة، ولكنه في الوقت نفسه يرى وجوب الإنكار على الملوك والأمراء والسلاطين، والصدع بالحق مهما كان.

• ومن أجل تلك الرؤية والفكرة تعرض الإمام سفيان الثوري للكثير من المحن والفتن، حيث طلبه خلفاء الدولة العباسية الواحد تلو الآخر، وعرضوا عليه منصب القضاء، ولكنه رفض بشدة، وفر منهم؛ فقضى شطر حياته الأخير طريدًا شريدًا، لا يأويه بلد ولا صديق إلا ينتقل منه لآخر، وهكذا.
محنته مع الخليفة أبي جعفر المنصور:
• مر بناء أثناء الحديث عن محنة الإمام أبي حنيفة كيف قام الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور بالضغط عليه من أجل تولي منصب القضاء؛ فضربه وحبسه وتهدده، والإمام يرفض بكل شدة حتى مات قتيلا في سجون المنصور، وبعد وفاة الإمام أبي حنيفة سأل المنصور عمن يلي الأمر فوصفوا إليه سفيان الثوري، وأخبروه أنه أعلم أهل الأرض، فأرسل في طلبه مرة بعد مرة، وسفيان يرفض
القدوم عليه.
• اشتد أبو جعفر المنصور في طلب سفيان الثوري، والثوري مصر على عدم تولي القضاء، حتى اضطر سفيان للخروج من الكوفة إلى مكة، فأرسل المنصور في الأقاليم بمنادٍ يقول: من جاء بسفيان الثوري فله عشرة آلاف، فاضطر الثوري للخروج من مكة إلى البصرة، وهناك عمل في حراسة أحد البساتين، ولنا أن نتخيل حجم المعاناة النفسية التي تعرض لها إمام العصر، وهو يستخفي من

الناس، ويفر من مكان لآخر.
• لم يلبث الثوري في البصرة كثيرًا حتى عرفه الناس، وهموا به؛ فخرج منها إلى بلاد اليمن، وهناك تعرض الإمام لمحنة أشد وأنكى؛ إذ اتهموه بالسرقة، وكان غير معروف في تلك البلاد البعيدة، ورفعوه إلى الوالي، وهو الأمير معن بن زائدة، وكان مشهورًا بالدهاء والمروءة وكرم الأخلاق، فلما تكلم معه قال له: ما اسمك؟ قال سفيان: عبدالله بن الرحمن، فقال معن: نشدتك الله لما انتسبت، قال الثوري: أنا سفيان بن سعيد بن مسروق، قال الأمير معن: الثوري؟ قال: نعم الثوري. قال معن: أنت بغية أمير المؤمنين، قلت: أجل، فأطرق ساعة، ثم قال: ماشئت فأقم، ومتى شئت فارحل؛ فوالله لو كنت تحت قدمي ما رفعتها.
• طالت غربة الثوري وتشريده في البلاد أيام الخليفة المنصور، وهو يتنقل من مكان لآخر: تارة بالعراق، وأخرى بالحجاز، وثالثة باليمن، ثم قرر الثوري في النهاية أن يذهب إلى مكة حاجًا وعائدًا، وكان المنصور قد عزم على الحج في نفس السنة 158هـ، وقد وصلت إليه الأخبار أن الثوري بمكة؛ فأرسل إلى واليها يطلب منه القبض على الثوري وصلبه، وبالفعل نصبوا الخشب، وأخذوا في البحث عن الثوري لصلبه، فلما علم الثوري قام وتعلق بأستار الكعبة، وأقسم على الله عز وجل ألا يدخل المنصور مكة، وبالغ في الدعاء والقسم، وبالفعل وقعت كرامة باهرة للثوري؛ إذ مرض

المنصورة بقدرة الله عز وجل، ومات قبل أن يدخل مكة، فعد ذلك من كرامات وبركات الثوري، وهي كرامة ثابتة لا حجة لمن ردها بسبب عدم فهم ألفاظها.
• وكان السر وراء رفض الثوري للمنصب، وإيثاره للفرار، والتشرد في البلاد، أنه كان لا يصبر على أي منكر يراه، وكان يقول عن نفسه: إذا رأيت منكرًا ولم أتكلم بُلْتُ دمًا من شدة الكمد، وهو يعلم أنه سيرى كثيرًا من المنكرات، ولا يستطيع أن يتكلم؛ لذلك فضل الفرار والخوف والتشرد على أن يسكت على المنكر والباطل.
محنته مع الخليفة المهدي:
• ظن الإمام الثوري أن محنته قد انتهت بوفاة الخليفة المنصور، فعاد إلى بلده الكوفة، وبرز للناس، وأخذ في التحديث والتدريس كما هي العادة، ولكنه فوجئ بالخليفة الجديد: وهو محمد المهدي
بن الخليفة المنصور يستدعيه على وجه السرعة، فلما دخل عليه دار هذا الحوار العجيب:
قال الخليفة المهدي: يا أبا عبد الله، هذا خاتمي، فاعمل في هذه الأمة بالكتاب والسنة.
قال الإمام الثوري: تأذن لي في الكلام يا أمير المؤمنين على أني آمن، قال المهدي: نعم، قال الثوري: لا تبعث إلىَّ حتى آتيك، ولا تعطني حتى أسالك.
فغضب المهدي، وهمَّ أن يقع به، فقال له كاتبه: أليس قد أمنته؟ قال المهدي: نعم:، ولكن اكتب إليه العهد بالقضاء، فكتبه وأعطاه للثوري رغمًا عنه.

• خرج الثوري من عند الخليفة المهدي ومعه عهد القضاء مختوم بخاتم الخليفة نفسه؛ فلما مر على نهر دجلة رمى العهد في النهر، وكان معه أصحابه فنهوه، ونصحوه بقبول القضاء، والعمل بالكتاب والسنة، فسفه قولهم، واستصغر عقولهم، ثم خرج هاربًا إلى البصرة، واستخفى عند المحدث يحيى بن سعيد القطان، فلما عرف المحدَّثون أخذوا في التوافد إلى بيت يحيى القطان حتى
انكشف أمره، فخرج من البصرة إلى الكوفة، واختبأ في دار عبد الرحمن بن مهدي.
• اشتد الخليفة في طلب الإمام الثوري، ووضع على رأسه جائزة مالية قدرها مائة ألف درهم، خاصة بعد أن عرف أن الثوري قد ألقى كتاب عهده في النهر، وظل الثوري يفر من بلد لآخر، وجنود الخليفة من ورائه، لا يقدرون على الإمساك به، وقضى الإمام العامين الأخيرين من حياته شريدًا طريدًا خائفًا، ومع ذلك لم يفكر للحظة واحدة أن يقبل المنصب، وسبحان الله: الإمام
العلامة، الذي هو أجدر الناس بالمنصب يفر منه، ويحتمل هذه المحن والابتلاءات، وآخرون لا يزن الواحد منهم عند الله عز وجل، ولا عند الناس جناح بعوضة من علم يلهثون وراء أدنى المناصب بكل سبيل.
• ظل الثوري في محنته حتى جاءه الفرج من عند رب السماء، وأنهى الله عز وجل محنته وآلامه وأحزانه، وأكرمه أعظم كرامة بأن توفاه إلى حضرته العلية قبل أن ينال منه من شردوه، وآذوه، والعجيب أن الثوري قد كتب إلى الخليفة المهدي يقول: طردتني وشرَّدتني وخوفتني، والله بيني وبينك، وأرجو أن يخير الله لي قبل مرجوع الكتاب، فرجع الكتاب وقد مات الإمام، وانتهت محنته.

المصادر والمراجع:
• طبقات ابن سعد: (6/ 371).
• تاريخ خليفة: (319).

• تاريخ الرسل والملوك: (8/ 58).
• حلية الأولياء: (6/ 356).
• تاريخ بغداد: (9/ 151).

• الكامل في التاريخ: (5/ 143).
• البداية والنهاية: (9/ 143).
• سير أعلام النبلاء: (7/ 229).
• تذكرة الحفاظ: (1/ 386).
• وفيات الأعيان: (25/ 386).
• شذرات الذهب: (2/ 250).

• صفة الصفوة: (2/ 85).
راجع كتاب: ترويض المحن - دراسة تحليلية لهم المحن التي مرَّ بها كبار علماء الأمة، والصادر عن دار الصفوة بالقاهرة، 1430 هـ، 2009 م.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 15-03-2025, 10:05 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,335
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صور من محن علماء المسلمين عبر التاريخ ..... يوميا فى رمضان .



سيرة العز بن عبد السلام
شريف عبدالعزيز الزهيري
(15)



صلاح الدنيا بصلاح الرؤساء والأمراء، وصلاح الرؤساء والأمراء بصلاح العلماء؛ لذلك العلاقة بين الصنفين علاقة خاصة ومتشابكة، لا يستغني أحدهما عن الآخر، ومتى أصبحت هذه العلاقة متضادة أو مختلفة أدى ذلك لكثير من المحن والابتلاءات، وتفسد الدنيا، وتضطرب الأحوال، ومتى كان العلماء صادعين بالحق، ثابتين على الشرع صلحت الدنيا والآخرة، ونهضت الأمة، وصمدت أمام أعدائها، ومتى نسي العلماء دورهم الريادي في إرشاد الأمراء والحكام، ونصحهم وتوجهيهم ضاعت الأمة، وصارت في مهب الريح، لا تعرف الحلال من الحرام، ولا العدو من الصديق.
التعريف به:
• سلطان العلماء، وبائع الملوك والأمراء، العالم الفذ، والشيخ العلامة، والمجتهد المطلق، شيخ الإسلام، وأحد الأئمة الأعلام، صاحب التصانيف النافعة، والمواقف السائرة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كبير الشافعية، المفتي الكبير، الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن حسن بن محمد بن مهذب السلمي، المشهور بالعز بن عبد السلام.

• وُلد سنة 577هـ بمدينة دمشق حاضرة الشام، وكانت وقتها قلب الإسلام النابض، وعاصمة الجهاد ضد الصليبين تحت حكم الناصر صلاح الدين الأيوبي، وكانت دمشق وقتها زاخرة بالعلماء والشيوخ والمجاهدين، وفي ذلك الجو العلمي والإيماني والجهادي نشأ الإمام العز بن عبد السلام، وبدأ في طلب العلم متأخرًا على خلاف عادة العلماء الكبار؛ فجلس إلى علماء الوقت بدمشق: مثل فخر الدين بن عساكر، وسيف الدين الآمدي، وابن الحافظ، وجعل يجتهد ويتبحر في العلوم، خاصة في الفقه الشافعي، حتى صار شيخ الشافعية في دمشق، وقد اشتهر بجودة ذهنه، وسلامة
بحثه، ودقة فتواه.

• جمع الإمام العز بن عبد السلام بين العلم والعمل، فلقد كان مشهورًا بالزهد والورع وشدة التحري، ومحاربة البدع والمخالفات الشرعية، محترزًا عن مواطن الشبهات، آية من آيات الله في الصدع بالحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يهاب أحدًا في الله عز وجل، له كثير من المواقف المشهورة التي جلبت عليه كثيرًا من المتاعب والمحن، التي جعلته رأس العلماء وإمامهم في زمانه.
ثناء الناس عليه:
رغم أن العصر الذي نشأ فيه العز بن عبد السلام كان زاخرًا بالعلماء والشيوخ والأعلام إلا أن العز بن عبد السلام كان شامتهم ورأسهم، ومقدمهم في كل فن، واعترف معاصروه ومن جاء بعده بإمامته وفضله وعلمه، وهذه طائفة من أقوالهم:
• قال عنه تاج الدين السبكي: شيخ الإسلام والمسلمين، وأحد الأئمة الأعلام، سلطان العلماء، إمام عصره بلا مدافعة، القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في زمانه، المطلع على حقائق الشريعة وغوامضها، العارف بمقاصدها، ولم ير مثل نفسه، ولا رأى من رآه مثله علمًا وورعًا وقيامًا في الحق، وشجاعة، وقوة جنان، وسلاطة لسان.
• قال عنه تلميذه أبو شامة: كان أحق الناس بالخطابة والإمامة، وأزال كثيرًا من البدع التي كان الخطباء يفعلونها: من دق السيف على المنبر، وأبطل صلاتي الرغائب، ونصف شعبان.
• قال عز الدين الحسيني: كان علم عصره في العلم، جامعًا لفنون متعددة، مضافًا إلى ما جبل عليه من ترك التكليف، مع الصلابة في الدين.
• قال الذهبي: بلغ رتبة الاجتهاد، وانتهت إليه رياسة المذهب، مع الزهد والورع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصلابة في الدين.
• قال ابن كثير: العز بن عبد السلام شيخ المذهب، ومفيد أهله، وله مصنفات حسان، وبرع في المذهب، وجمع علومًا كثيرة، وأفاد الطلبة، ودرَّس بعده مدارس، وانتهت إليه رياسة الشافعية، وقُصِدَ بالفتاوى من الآفاق.

• قال جلال الدين السيوطي: الشيخ عز الدين أبو محمد، شيخ الإسلام، سلطان العلماء، أخذ الأصول، وسمع الحديث، وبرع في الفقه والأصول والعربية، وقدم مصر فأقام بها أكثر من عشرين عامًا ناشرًا للعلم، آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، يغلظ على الملوك فمن دونهم، وله من المصنفات والكرامات الكثير، ثم كان في آخر عمره لا يتقيد بالمذهب - يقصد الشافعي - بل اتسع نطاقه، وأفتى بما أدى إليه اجتهاده.
• قال عنه ابن شاكر الكتبي: شيخ الإسلام، بقية الأعلام، الشيخ عز الدين، سمع وتفقه ودرس وأفتى، وبرع في المذهب، وبلغ رتبة الاجتهاد، وقصده الطلبة من البلاد، وتخرج به أئمة، وله الفتاوى السديدة، وكان ناسكًا ورعًا، أمَّارًا بالمعروف، نهَّاءً عن المنكر، لا يخاف في الله لومة لائم.
• قال عنه العلَّامة اليافعي: سلطان العلماء، وفحل النجباء، المقدم في عصره على سائر الأقران، بحر العلوم والمعارف، والمعظم في البلدان، ذو التحقيق والإتقان والعرفان والإيقان، وهو من الذين قيل فيهم: علمهم أكثر من تصانيفهم، لا من الذين عبارتهم دون درايتهم، ومرتبته في العلوم الظاهرة مع السابقين في الرعيل الأول.
• قال العلَّامة الإسنوي: الشيخ عز الدين كان رحمه الله شيخ الإسلام علمًا وعملا وورعًا، وتصانيف وتلاميذ، آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، يهين الملوك فمن دونهم، ويغلظ القول، وكان فيه مع ذلك حسن محاضرة بالنوادر والأشعار.

• قال الداودي: كان كل أحد يضرب به - يقصد العز بن عبد السلام - في الزهد والعلم.
مصنفاته:
لم يكن للشيخ العز بن عبد السلام مصنفات كثيرة تناسب حجمه العلمي، ومكانته في علماء الأمة، ولكنه ترك مصنفات نافعة عظيمة، مازال الناس ينتفعون بها، ومن أمثلة مصنفات الشيخ رحمه الله ما يلي:

1- القواعد الكبرى المعروف، بقواعد الأحكام، وهو من أشهر كتبه، وأكثرها نفعًا وتداولا بين الناس حتى وقتنا الحاضر.
2- شجرة المعارف.
3- الدلائل المتعلقة.

4- تفسير مختصر للقرآن.
5- مختصر صحيح مسلم.
6- الغاية في اختصار النهاية.
7- بداية السول في تفضيل الرسول.
8- الفتاوى الموصلية والمصرية.

9- بيان أحوال الناس يوم القيامة.
فوائد البلوى والمحن، وفيه يذكر من الآيات والأحاديث ما يصبر به أهل المحن والبلاء ويسليهم به، وقد كتبه بعد سلسلة المحن التي تعرض لها في الشام، وأجبرته على الرحيل إلى مصر.
محنته:
• محنة الإمام العز بن عبد السلام ترجع في الأساس لإدراكه لمهمة العلماء الربانيين، ودورهم في صيانة المجتمعات المسلمة، خاصة وقت الأزمات والنوازل، محنة العز بن عبد السلام التي تعرض لها في كل مكان حط فيه، ورحل إليه، ترجع في الأساس لشعوره الدائم والحي بأن العلماء هم أولو الأمر الحقيقيون للأمة، ولا بد من أخذ رأيهم، والعمل بمشورتهم لضمان مشروعية العمل، وسلامته
من المخالفات والبدع، فلقد أراد العز أن يجعل من العلم والعلماء أئمة يسير ورائهم الناس، ويقتفون آثارهم، ويعملون بأقوالهم؛ لذلك أطلق عليه أهل العلم ومعاصروه لقب سلطان العلماء.
محنته في الشام:
• وُلد العز بن عبد السلام بدمشق أيام حكم الناصر صلاح الدين، ونشأ وترعرع في أيام العزة والكرامة والنصر، واسترجاع بيت المقدس، وشهد العز انحسار الوجود الصليبي بالشام، وشهد أيضًا الحملة الصليبية الخامسة والسادسة على العالم الإسلامي، والبطولات العظيمة التي أبداها المسلمون في صد تلك الحملات البربرية، ثم شهد الإمام التراجعات التي حصلت على مستوى القيادة في العالم الإسلامي، والصراع الشرس الذي حدث بين أمراء الأسرة الأيوبية على أماكن النفوذ في مصر والشام، الذي هوى ببعضهم - وهو الملك الصالح إسماعيل صاحب دمشق - لأحد دركات الأخلاق والدين؛ حيث تحالف مع الصليبين ضد ابن أخيه الملك نجم الدين أيوب صاحب مصر، وذلك من أجل الاستيلاء على حكم مصر.

• ففي سنة 639هـ تحالف الصالح إسماعيل مع الصليبيين ضد ابن أخيه نجم الدين أيوب، وأعطاهم نظير ذلك مدينة صيدا الساحلية، وقلعة الشقيف، وأباح لهم دخول دمشق؛ وذلك لأول مرة
منذ اشتعال الحملات الصليبية، وأباح لهم شراء السلاح والمؤن، وكان العز بن عبد السلام وقتها خطيب الجامع الأموي، ومفتي الشافعية، ورأس علماء دمشق، فصعد الشيخ العز على منبر الجامع يوم الجمعة، وألقى خطبة نادرة من العيار الثقيل: أفتى فيها بحرمة البيع والشراء مع الصليبين، وشدد على التحريم، وأنكر على الصالح إسماعيل فعلته، وفي آخر الخطبة ترك الدعاء للصالح إسماعيل كما هي العادة، وقال بدلاً من ذلك قولته الشهيرة التي صارت مثلاً سائرًا، ودعاءً متداولاً: اللهم أبرم لهذه الأمَّة أمر رشد يُعز فيه أهل طاعتك، ويُذل فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر.
• كان قطع الدعاء في الخطبة للصالح إسماعيل بمثابة إعلان خلعٍ وعزلٍ من قبل العز بن عبد السلام، فاستشاط الصالح إسماعيل غضبًا، وقامت قيامته، وعزل الشيخ العز عن الخطابة والإفتاء، وأمر باعتقاله، فأخذ الغضب يسري في أوساط الشعب الدمشقي الذي كره الصالح إسماعيل وجرائمه، وكان للصالح إسماعيل وزير سوء يزين له كل جرائمه - وهو غزال المسلماني - فنصحه باستمالة الشيخ العز بن عبد السلام، وإغرائه بإرجاعه لكافة مناصبه الدينية من خطابة وإفتاء، مع امتيازات أخرى، وذلك نظير خضوع العز بن عبد السلام للصالح إسماعيل، وتقبيله ليده في محضر عام من الناس.
• فلما جاء الرسول للشيخ العز بن عبد السلام برسالة الصالح إسماعيل جاءت إجابته غرة على جبين العلم والعلماء، ومفخرة لكل عالم رباني عبر العصور تتناقلها الأجيال، حيث قال للرسول: يا

مسكين، ما أرضاه أن يُقَبلَ يدِي فضلاً أن أقبل يده، يا قوم أنتم في واد، والحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به. وعندها أمر الصالح إسماعيل باعتقاله مرة أخرى، والتشديد عليه.
• استعد الصالح إسماعيل للخروج من دمشق بصحبة الصليبين للهجوم على مصر، وأخذها من ابن أخيه نجم الدين أيوب، ولكنه خاف من وجود الشيخ العز في دمشق، وتخوف من قيام الناس بإخراجه من السجن، وثورتهم عليه، فاصطحب الشيخ العز معه في معسكره مع الصليبين، وفي الطريق وقعت عدة كرامات للشيخ، وأثنى عليه الصليبيون كثيرًا، حتى قال كبيرهم للصالح إسماعيل:
لو كان هذا الشيخ قسيسنا لغسلنا رجليه، وشربنا مرقتها.
• وبعد أن أعيت الصالح إسماعيل السبل، وفشلت كل ضغوطه على الشيخ العز بن عبد السلام، قرر أن ينفيه عن بلاد الشام كلها، فخرج الشيخ العز بن عبد السلام، ومعه أبو عمرو الحاجب شيخ المالكية، وكان مثله في العلم والصدع بالحق، وتوجه الإمامان إلى بلاد مصر ليبدآ فصلا جديدًا من العزة، وأيضًا المحنة.
محنته في مصر:
• خرج الشيخ العز بن عبد السلام من دمشق باتجاه مصر، فلما مر بمدينة الكرك تلقاه صاحبها "الناصر داود"، وطلب منه الإقامة عنده فقال له الشيخ العز: بلدك صغير على علمي، وهكذا يبرهن الشيخ العز على مدى اعتزازه بعلمه، وبمنزلة العلماء وقدرهم؛ فهو كما قلنا كان يؤكد في كل مرة، وفي كل موطن على مكانة العلم والعلماء، وقيادتهم للأمة.
• توجه الشيخ إلى القاهرة، وهناك تلقاه السلطان نجم الدين أيوب، وأحسن استقباله وقدَّر مواقفه التي أبداها بالشام، وولاه خطابة جامع عمرو بن العاص وقضاء الوجه القبلي، وانبسط الشيخ،

وأخذ في التدريس والإفتاء، وكان أول من تصدى لعمل التفسير في الجامع على شكل دروس يومية، والتف حوله الناس وطلبة العلم والعلماء، والشيخ مستمر على حاله: من الصدع بالحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والاحتساب على السلطان نفسه فما دونه، حتى هابه الجميع.
• شيئًا فشيئًا ثَقلت وطأة الشيخ العز على الأمراء والأعيان، ورجال الدولة الذين لم يعجبهم وجود مثل ذلك الشيخ، الذي أحيا شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين الناس؛ ووصلت قوة
الشيخ وجرأته في الحق إلى أن يسقط عدالة وشهادة نائب السلطان: الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ، بسبب قيامه ببناء طبلخانة - دار للطبول التي تدق أوقات الصلوات، وخروج السلطان - على ظهر جامع بالقاهرة، وقد ظل الأمير فخر الدين ساقط الشهادة حتى مات، حتى إن الخليفة العباسي المستعصم ببغداد رفض رسالة جاءته من السلطان نجم الدين أيوب بسبب أن مؤدي الرسالة هو الأمير فخر الدين، وبعد تلك الحادثة عزل الشيخ نفسه عن القضاء.
• ثم وقعت حادثة أخرى، وهي الأشهر في تاريخ الشيخ، والتي تدل على مدى عزته ومكانته، وهي حادثة بيعه للأمراء المماليك، فقد ثبت عنده أن معظم هؤلاء الأمراء ما زالوا رقيقًا لا يصح لهم أي تعامل من أي نوع، فاستشاط الأمراء غضبًا، وأوغروا صدر السلطان على الشيخ العز؛ فاستدعاه، وأغلظ له القول، فما كان من الشيخ العز إلا أن حمل متاعه على حمار، وأركب عائلته على حمار آخر، وخرج من مصر؛ فمشى خلفه رجال ونساء، وخرج معه العلماء والصالحون والتجار، فبلغ الخبر السلطان، وقيل له: متى خرج الشيخ العز ذهب ملكك، فركب السلطان بنفسه
واسترضاه وطيب قلبه، وترجاه من أجل العودة.

• عاد الشيخ للقاهرة بشرط أن يتم بيع الأمراء والأرقاء، فوافق السلطان، فلما علم كبير الأمراء بذلك حاول استمالة الشيخ ليرجع عن رأيه، ولكن الشيخ صمم، فانزعج كبير الأمراء بشدة، وقرر قتل الشيخ بنفسه، وذهب إلى دار الشيخ في جماعة من فرسانه، وأحاطوا بالدار، وسيوفهم مشهرة، فلما رآهم عبد اللطيف ابن الشيخ العز ارتعد فزعًا، ودخل على أبيه يخبره، فما اكترث لذلك، ولا تغير، وقال كلمته الشهيرة: يا ولدي أبوك أقل من أن يقتل في سبيل الله، ثم خرج كأنه قضاء الله قد نزل عليهم؛ فحين وقع بصره على الأمير يبست يد النائب، وسقط السيف منها، وارتعدت مفاصله وبكى، وسأل الشيخ أن يدعو له، ووافق على أن يباع هو وزملاؤه الأمراء، وتم ما أراد الشيخ، ونادى على الأمراء واحدًا واحدًا، وغالى في ثمنهم، وقبضه، وصرفه في وجوه الخير.
• ولما تولى سيف الدين قطز السلطنة، والتتار على أبواب الشام ومصر، وجمع قطز العلماء والفقهاء واستشارهم في جمع الأموال من الناس لتمويل الجيش ضد التتار؛ فما تكلم أحد من الحاضرين مهابة من السلطان غير الشيخ العز الذي قال: لا يجوز ذلك إلا بعد أن ينفق السلطان والأمراء وقادة الجند ما في قصورهم من كنوز وأموال حتى يستووا مع سائر الناس في المأكل والملبس والسلاح، عندها يجوز للسلطان أن يأخذ من أموال الشعب للتمويل الحربي.
• بالجملة كانت حياة الشيخ العز بن عبد السلام عبارة عن سلسلة متواصلة من الصدع بالحق، والثبات على الدين، والتصدي للباطل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مما جعل حياة الشيخ
مقترنة بالمحن والابتلاءات والتهديدات الدائمة، ومع ذلك لم يهادن ولم يداهن، ولم يتراجع، بل ثبات حتى الممات، لذلك استحق لقب سلطان العلماء.
المصادر والمراجع:

• طبقات الشافعية: (8/ 214).
• البداية والنهاية: (13/ 264).

• العبر للذهبي: (5/ 260).
• شذرات الذهب: (5/ 302).
• حسن المحاضرة: (1/ 343).
• طبقات المفسرين: (1/ 312).
• العز بن عبد السلام/ للدكتور الزحيلي.

• تراجم أعلام السلف: (621).
ترويض المحن - دراسة تحليلية لهم المحن التي مرَّ بها كبار علماء الأمة، دار الصفوة بالقاهرة، 1430 هـ، 2009م





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 16-03-2025, 10:00 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,335
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صور من محن علماء المسلمين عبر التاريخ ..... يوميا فى رمضان .



محنة الإمام ابن القيم
شريف عبدالعزيز الزهيري
(16)



بين يدي المحنة:
الإسلام هو دين الفطرة الذي اختاره الله عز وجل للبشرية كلها، فيه سعادتها وراحتها، فيه الإجابة على كل سؤالات البشر، وفيه مواءمة طلباتهم الكثيرة والمتغيرة، لذلك كان الاجتهاد من أهم آليات وأدوات هذه الموائمة، وجعل الله عز وجل للمجتهد الأجر والثواب على كل حال، أصاب أم أخطأ، ولا يزال للاجتهاد والمجتهدين على مر العصور الأعداء والعقبات التي تعيق حركة هذا الدين ومرونته، ويعتبر التقليد والتعصب المذهبي من أشد أعداء الاجتهاد - وباسمه على يد أتباعه وحراسه وسدنته - نال المجتهدون على مر العصور الكثير من المحن والابتلاءات، وهذه محنة واحدة منهم.
التعريف به:
هو الإمام الفذ، والعلم المتبحر، والمفسر المحدث، طبيب القلوب وعللِها، وخبير النفوس وآفاتها، صاحب التصانيف الرائعة، والمصنفات النافعة، الإمام أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أبي بكر أيوب بن سعد بن حريز بن مكي الزرعي الدمشقي الحنبلي، المشهور بابن قيم الجوزية، أو ابن القيم، نسبة إلى أبيه الذي كان قَيمًا - ناظرًا - على المدرسة الجوزية (إحدى مدارس الفقه الحنبلي بدمشق).

ولد سنة 691هـ بدمشق - على الراجح من كلام المؤرخين - في أسرة علمية خالصة؛ إذ كان أبوه الشيخ أبو بكر قَيمًا على المدرسة الجوزية، فانتظم ابن القيم في الدرس، وطلب العلم وهو في السابعة، فدرس على يدي مدرسي الجوزية وغيرهم، وظهرت منه مثابرة عظيمة في طلب العلم، ورغبة صادقة في النبوغ والألمعية، حتى إنه قد أتقن علومًا عدة وهو دون العشرين من العمر، ولم يكتف بطلب العلم من مشايخ الحنابلة الذين ينتمي إلى مذهبهم، ولكن طلبه من سائر الشيوخ، وأرباب المذاهب؛ فلقد درس على يد العلامة ابن الزملكاني الشافعي، والحافظ المزي الشافعي،
ومجد الدين التونسي المالكي، والصفي الهندي الحنفي، وهكذا طاف على شيوخ المذاهب، وحتى من بساتين علومهم، حتى صار من العلماء المتبحرين الموسوعيين في تلك الفترة الزاخرة بالعلماء والأعلام.

كان ابن القيم كعادة العلماء الربانيين في الأمة يجمع بين العلم والعمل، فهو ليس كمن بليت بهم الأمة - أمة الإسلام - ممن ينتسب إلى العلم زورًا، فيقول ولا يعمل، وينصح ولا يرتدع، ويعظ ولا يتعظ، فلقد كان ابن القيم رحمه الله ذا عبادة وزهادة، وتهجد واجتهاد، سائرًا في مدارج الربانيين، دائم الذكر، طويل الفكر، يطيل الصلاة بصورة لم يقو على مثلها أشد أهل زمانه عبادة، حتى إن الناس كانوا يلومونه على طولها، ويقعون فيه بسبب ذلك، وهو لا يرجع عن طريقته تلك، التي هي من طراز السابقين الأولين.
وبجانب عبادته واجتهاده - الذي لم يلحق شأوه فيها أحد - كان ابن القيم سمح الأخلاق، كبير الاحتمال، سريع العفو، كثير التودد، وأوذي كثيرًا، فلم تسمع منه كلمة واحدة في حق من آذاه،
عفا عمن ظلمه، وجعل أجره على الله عز وجل، على الرغم من كثرة الوشايات والسعايات في عصره، إلا أنه لم يتلوث بشيء منها قط؛ لذلك طوى الزمان ذكر خصومه وأعدائه، على الرغم من كون بعضهم من العلماء الكبار، فلم يعد يعرفهم أحد، ورفع ذكره فصار أستاذا، وقدوة للسالكين حتى وقتنا الحاضر.
ثناء الناس عليه:
ثناء الناس وأهل العلم على ابن القيم رحمه لله - خاصة من معاصريه، ومن جاء بعده - أصدق شهادة على مكانة هذا الإمام الفذ، الذي اجتهد خصومه من أرباب التصوف الكاذب، والمقلدة
والمتعصبة والحسدة في طمس حسناته ومكانته وتشويه سيرته، ولكن كما قيل: كفا بالحاسد والحاقد عقوبة من نفسه، وثناء الناس وأهل العلم على ابن القيم من جملة عقوبة الله عز وجل لهؤلاء الحسدة والمتعصبة، وهذا طرفٌ من ثناء الناس على هذا الإمام الفذ:
قال عنه ابن رجب الحنبلي - وهو من أخص تلاميذه -:
تفقه في المذهب، وبرع وأفتى، ولازم الشيخ تقي الدين بن تيمية، وتفنن في علوم الإسلام، وكان عارفًا في التفسير، لا يجارى فيه، وبأصول الدين، وإليه فيه المنتهي، والحديث، ومعانيه، وفقهه، ودقائق الاستنباط منه، لا يلحق في ذلك، وبالفقه وأصوله، وبالعربية، وله فيها اليد الطولي، وعلم الكلام والنحو، وغير ذلك، وكان عالما بعلم السلوك، وكلام أهل التصوف وإشاراتهم ودقائقهم، له في كل فن من هذه الفنون اليد الطولي.

قال ابن ناصر الدمشقي: وكان ذا فنون من العلوم، وخاصة التفسير والأصول من المنطق والمفهوم.
وقال عنه ابن كثير: سمع الحديث، واشتغل بالعلم، وبرع في علوم متعددة، لا سيما علم التفسير والحديث والأصلين، ولما عاد شيخ الإسلام من الديار المصرية سنة 712هـ لازمه حتى مات الشيخ، فأخذ عنه علمًا جمًا جمع ما سلف له من الاشتغال، فصار فريدًا في بابه في فنون كثيرة، مع كثرة الطلب ليلا ونهارًا، وقال لا أعرف في هذا العالم في زماننا أكثر عبادة منه.
قال عنه القاضي الزرعي: ما تحت أديم السماء أوسع علمًا منه.
قال عنه الشوكاني: برع في شتى العلوم، وفاق الأقران، واشتهر في الآفاق، وتبحر في معرفة مذاهب السلف.
قال الحافظ ابن ناصر الدين الشافعي: الشيخ الإمام العلامة شمس الدين، أحد المحققين، عَلَمُ المصنفين، نادرة المفسرين، له التصانيف الأنيقة، والتآليف التي فيها علوم الشريعة والحقيقة.
قال عنه ابن رجب في موضع آخر: وكان رحمه الله ذا عبادة وتهجد، وطول صلاة إلى الغاية القصوى، وتأله ولهج بالذكر، وشغف بالمحبة والإنابة والاستغفار، والافتقار إلى الله، والانكسار له، ولم أشاهد مثله في ذلك، ولا رأيت أوسع منه علمًا، ولا أعرف بمعاني القرآن والسنة وحقائق الإيمان منه، وليس هو المعصوم، ولكن لم أر في معناه مثله.
قال عنه الحافظ السيوطي: وصار من الأئمة الكبار في التفسير والحديث والفروع والأصلين والعربية.
وقال عنه القاضي عبد الرحمن التفهني الحنفي في معرض سياقه لترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية: وتلميذه ابن قيم الجوزية الذي سارت تصانيفه في الآفاق، ولو لم يكن له - أي ابن تيمية - من آثار إلا ما اتصف به تلميذه ابن القيم من العلم لكفى.

مصنفاته:
أهم ما يميز هذا الإمام الفذ ابن القيم هو تراثه العلمي والفكري الذي تركه للأمة، وأثرى به المكتبة الإسلامية؛ فلقد رزقه الله عز وجل ذهنا سيالا، وقلما دفاقًا، وبركة في أوقاته التي كانت عامرة
كلها بالنافع والصالح لنفسه، وللأمة كلها، ورغم تبحره في علوم كثيرة، وتأليفه في شتى أبواب العلم، خاصة في الأصول والعقائد والحديث إلا أن أكثر ما يميزه كتاباته ومؤلفاته في علم السلوك والرقائق، وأدواء النفوس، ومقامات الإيمان، وله في ذلك المصنفات الرائعة الفائقة، والتي أربى فيها على المتقدمين، ولم يلحقه أحد من المتأخرين، والتي صارت بمثابة العلامات المضيئة في تاريخ التصنيف والتأليف في باب الرقائق، والتي جعلت الإمام ابن القيم يتبوأ مكانة ساحقة كواحد من أفضل من كتب في أحوال القلوب والنفوس، ومن أهم مصنفات الإمام ابن القيم، وكلها بفضل الله عز وجل مطبوعة ومتداولة - ما يلي:
أولا: مصنفاته في العقائد:
1- اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية.
2- الرسالة التبوكية.

3- شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل.
4- هداية الحياري في أجوبة اليهود والنصارى.
5- الكافية الشافية (النونية).

ثانيا: مصنفاته في الأصول والفقه:

1- إعلام الموقعين عن رب العالمين.
2- أحكام أهل الذمة.
3- إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان.
4- تحفة المودود في أحكام المولود.
5- حكم تارك الصلاة.
1- الطرق الحكمية في السياسية الشرعية.

ثالثا: مصنفاته في السلوك والرقائق وأحوال القلوب - وهي الأشهر-:
1- مدارج السالكين، وهو أشهر كتبه، وأكثرها تأثيرًا.
2- إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان.
3- بدائع الفوائد.

4- حادى الأرواح.
5- الداء والدواء.
6- روضة المحبين.
رابعا: مصنفاته في الحديث والسيرة وغير ذلك:

1- تهذيب مختصر سنن أبي داود.
2- زاد المعاد في هدي خير العباد.
3- التبيان في أقسام القرآن.

4- جلاء الأفهام.
5- الطب النبوي.
6- عدة الصابرين.

7- الفروسية الشرعية.
8- الكلم الطيب والعمل الصالح، المشهور باسم الوابل الصيب.
9- مفتاح دار السعادة.
10- المنار المنيف في الصحيح والضعيف.
محنته:
من لطف الله عز وجل وتقديره لابن القيم أنه التقى بشيخ الإسلام ابن تيمية؛ فلقد كان مع ابن القيم في بداياته صوفيًّا، مشغولا بما هم عليه من عوايد وطرق، حتى التقى مع ابن تيمية سنة 712هـ عند عودته من مصر مظفرًا مرفوع الرأس؛ بعد أن نصره الله عز وجل على خصومه الصوفية هناك بعد محن طويلة، وفصول عريضة، وكان لقاؤه مع ابن تيمية نقطة فاصلة في حياته؛ إذ
انتقل من التصوف إلى الحق والسنة، وطريقة السلف الصالح في العقائد والأصول، وقد أخذ ابن تيمية بمجامع قلب ابن القيم، وأصبح مرشده العلمي والدعوي، وأصبح ابن القيم من أخص وأنجب تلاميذ ابن تيمية، وأصبح كلاهما يعبر عن الآخر، وكذلك أصبح ابن القيم امتداد لابن تيمية، وقد لزم أقواله وآراءه وأفكاره، ولم يخرج عنها، وبالتالي تعرض ابن القيم لنفس المحن التي تعرض لها ابن

تيمية، وكان شريكه وقرينه فيها.
محنته مع شيخ الإسلام ابن تيمية:
قلنا من قبل أن حياة ابن تيمية كانت مسلسلا متواصلا من المحن والابتلاءات، وكانت بداية العلاقة بين ابن القيم وابن تيمية سنة 712هـ بعد عودته من مصر منتصرًا على خصومه من الصوفية، وقد شهدت هذه الفترة من سنة 712هـ إلى سنة 720هـ هدنة من المحن في حياة ابن تيمية مكنته من نشر أفكاره وفتاواه وعلمه، وتهيئته لمجموعة من التلاميذ الذين سيحملون المنهج السلفي، وينشرونه بين الناس، ومن هؤلاء - بل وعلى رأسهم - الإمام ابن القيم.
في سنة 725هـ خرج ابن القيم حاجًّا، وأثناء عودته عقد درسًا للوعظ والتفسير بالمسجد الأقصى، تكلم فيه عن مسألة الزيارة، وشد الرحال لزيارة قبر الخليل بفلسطين وأنكرها؛ فهاج عليه الناس وثاروا، ورفعوه إلى قاضي القضاة؛ فحكم بردته وقتله.
وانظر كيف وصل الحال بالتعصب والجهل، يهدر دم امرئ مسلم، بل عالم رباني على فتوى صحيحة، واستطال الأمر، وعظمت المحنة، وانتهز خصوم ابن تيمية من الصوفية والأشاعرة، وغيرهم
الفرصة، وألبوا الفقهاء والعلماء والسلطة على ابن تيمية، وكل من ينتمي إلى مدرسته، فقبضوا على ابن تيمية، وابن القيم، وابن كثير، والكتبي، والبرزالي، وغيرهم، وآذوهم بشدة، وشهروهم في دمشق، وكان لابن القيم النصيب الأوفر؛ إذ ضرب بين يدي القاضي والأمير، وأهين بشدة، ثم حمل على حمار مقلوبًا، وطيف به في أنحاء دمشق كما يفعل مع السراق والمفسدين، ثم ألقوا به في

السجن مع شيخه ابن تيمية، ولكن بصورة انفرادية، وظل رهين حبسه حتى مات شيخه ابن تيمية سنة 728هـ، وخلال تلك الفترة الطويلة انشغل ابن القيم بالذكر والمناجاة والدعاء، وقراءة القرآن؛ ففتح الله عز وجل له أبوابًا كثيرة من العلم والتدبر والفهم، والمواجد الصحيحة، وقد بان أثر ذلك في كتاباته بعدها؛ فجاءت من قلم مجرب، وقلب متبتل، ومعايشة محنة، وبعد وفاة شيخ الإسلام ابن تيمية أفرجوا عن ابن القيم.
محنته مع قاضي القضاة السبكي:
بعد خروج الإمام ابن القيم من سجنه ومحنته أخذ على عاتقه نشر أفكار شيخ الإسلام ابن تيمية، والمحافظة على منهجه ومدرسته التي أرسى دعائمها بكثير من الجهد والنصب والمحن، حتى مات من أجلها في سجون الظالمين، وقد أصبح ابن القيم هو رائد المدرسة التجديدية بعد رحيل ابن تيمية، لذلك كان من الطبيعي أن يتعرض ابن القيم لنفس الحملات التشويهية والتعريضية التي سبق وأن تعرض لها شيخه.
اجتهد الإمام ابن القيم كثيرًا لرد أهل عصره لهدي القرون الأولى، والتصدي للبدع التي تسربت لحياة المسلمين، والتي ليست من الدين في شيء، وكان الأشاعرة وقتها من أشد خصوم ابن تيمية
ومنهجه السلفي، وكل من ينتمي إلى السلفية، وكانت الدولة للأشاعرة؛ فاستخدموا نفوذهم، ومساندة السلطة لهم في قمع أتباع المنهج السلفي، وكان قاضي القضاة في بلاد الشام تقي الدين السبكي: وهو واحد من أسرة عريقة في العلم وفي القضاء، وأيضًا من أشهر الأسر تمسكا بالمذهب الأشعري، وكان للسبكية صولات وجولات مع أتباع المنهج السلفي، وبالأخص تقي الدين

السبكي كان أشدهم قسوة ونقدًا وتحاملا على ابن تيمية وتلاميذه.
تولى تقي الدين السبكي منصب قاضي القضاة بالشام سنة 739هـ، وابن القيم وقتها يعتبر علم المدرسة السلفية، فتحامل عليه بشدة، وصار يتتبعه في فتاواه وآرائه، وينتقده، ويؤلب عليه السلطة، حتى إن السبكي قد عقد له مجلسًا بسبب فتواه بجواز المسابقة بغير محلل، وأجبره على التراجع عنها، ثم سعى في سجنه بسبب تصديه لمسألة الطلاق الثلاث بلفظ واحد، وهي الفتوى التي سبق وأن أفتاها ابن تيمية، وأوذي بسببها، وبالفعل تسبب السبكي في سجن ابن القيم فترة من الوقت، ومن شدة تضييق تقي الدين السبكي على الإمام ابن القيم اضطره للرحيل إلى مكة؛ حيث جاور هناك فترة طويلة من الزمن، استغلها في العبادة والإقبال على الله عز وجل، والتأليف والتصنيف، فألف في تلك الفترة أروع كتبه مثل: بدائع الفوائد، ومدارج السالكين، وزاد المعاد، ومفتاح دار السعادة.
ورغم كثرة المحن والابتلاءات التي تعرض لها الإمام ابن القيم، والإهانة والضرب والجبس الذي تعرض له: صغيرًا وكبيرًا، تلميذًا وإمامًا، إلا أنه لم يغير موقفه وآراءه، ومنهجه ودعوته، وظل على
طريقه ودربه سائرًا، ينفع الناس، ويحارب البدع والخرافات والأفكار المخالفة للإسلام، وقد جعل هدفه في الحياة العودة بالناس لمنابع الدين الصافية النقية؛ لذلك لما رحل عن دنيانا في رجب 751هـ خرجت دمشق عن بكرة أبيها لتودع هذا الإمام الفذ العلامة، وقد تأسف الجميع لرحيله، حتى خصومه؛ لما كان عليه من العلم والفضل، والأخلاق الحسنة، ولم تنل المحنة منه، ولم تؤثر على مكانته ودرجته، وظل لوقتنا الحاضر يتبوأ منزلة ساحقة في تاريخ علماء الأمة وأعلامها.

المصادر والمراجع
• الدرر الكامنة: (4/ 21).
• البدر الطالع: (2/ 113).
• المختار المصون: (184).
• البداية والنهاية: (14/ 252).
• تراجم أعلام السلف: (695).
• ذيل طبقات الحنابلة: (20/ 448).

• شذرات الذهب: (3/ 168).
• النجوم الزاهرة: (10/ 249).
ترويض المحن - دراسة تحليلية لهم المحن التي مرَّ بها كبار علماء الأمة، دار الصفوة بالقاهرة، 1430 هـ، 2009م











__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 17-03-2025, 10:40 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,335
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صور من محن علماء المسلمين عبر التاريخ ..... يوميا فى رمضان .



الإمام أبو الفرج ابن الجوزي
شريف عبدالعزيز الزهيري
(17)


طريق العلماء الربانيين مليء بالابتلاءات والمحن، وهم يعرفون ذلك جيدًا، ولكن بعض البلايا والمحن تكون أشد وقعًا وأثرًا من غيرها، فمثلاً إذا كانت المحنة من أقارب العالم وأهله فهي أشد وقعًا من غيرها، وإذا كانت المحنة عند تقدم السن، واشتعال الرأس فهي أشد وقعًا من غيرها، وإذا كانت المحنة ستشرد صاحبها وتنفيه وحيدًا عن أهله وبلده فهي أشد وقعًا من غيرها، وإذا كانت المحنة ستنقل صاحبها من المكانة والشهرة والإمامة إلى الهجر والنسيان والإهانة فهي أشد وقعًا من غيرها، وأما إذا اجتمعت كل هذه الشروط والعناصر في المحنة والبلية، ثم يروضها صاحبها، ويستفيد منها، ويحولها إلى منحة عظيمة؛ فهذا أمر جدير بالكتابة، والاستفادة منه.
التعريف به:

هو الشيخ الإمام العلامة، الحافظ المفسر، شيخ صناعة الوعظ، درة المجالس، وجامع الفنون، وصاحب التصانيف الكثيرة، جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي بن عبيد الله بن الجوزي، ينتهي نسبه إلى أمير المؤمنين، وخليفة رسول صلى الله عليه وسلم أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
ولد ابن الجوزي سنة 510هـ ببغداد، ومات أبوه وله ثلاثة أعوام، فتولت عمته تربيته لزواج أمه، فنشأ ابن الجوزي يتيمًا: يتنقل بين أقاربه الذين كانوا يعملون في تجارة معدن النحاس، فلما أنست
منه عمته عزوفًا عن اللهو والتجارة دفعت به إلى طريق العلم، فلزم مسجد محمد بن ناصر الحافظ، وجلس لسماع الدروس والحديث، ثم لزم حلقة الشيخ ابن الزغواني شيخ حنابلة العراق، فظهر نجمه، وتقدم على أقرانه، وكان وهو صبي دينًا مجموعًا على نفسه لا يخالط أحدًا، ولا يجاري أترابه في لهوهم ولعبهم.
كان ابن الجوزي طموحًا، فيه بهاء وترفع في نفسه، دفعه لأن يطلب الجلوس مكان شيخه الزاغوني بعد وفاته، وكان وقتها شابًا دون العشرين، فأنكروا عليه ذلك؛ فاشتغل بالوعظ، وكان فنًّا رائجًا،
وبضاعة نافقة في تلك الأيام، وبغداد زاخرة بالوعاظ: الكبار منهم والصغار؛ فبذ الجميع، وتفرد بفن الوعظ، الذي لم يُسْبَقْ إليه، ولا يلحق شأوه فيه وفي طريقته وشكله، وفي فصاحته وبلاغته وعذوبته، وجمال عباراته، ورائع تشبيهاته، وغوصه في المعاني البديعة، وتقريبه الأشياء الغريبة فيما يشاهد من الأمور الحسية، بأيسر وأوجز عبارة، حتى صار إمام صناعة الوعظ والتذكير، ومفخرة بغداد بلا نظير، وتهافت الناس على حضور مجالسه، وحضرها الخلفاء والوزراء، والكبراء والأمراء، والعلماء، والأغنياء والفقراء، كل على حد السواء، حتى عد عشرات الألوف من الناس في المجلس الواحد من مجالسه، وله العبارات المأثورة، والكلمات المؤثرة المشهورة.
ورغم تفرده وإمامته لفن الوعظ إلا أن له مشاركات كثيرة في فنون شتى، وله اليد الطولى في فن التفسير والتاريخ والفقه، ودون ذلك في الحديث والحساب والفلك والطب، وله في كل فن عدة مصنفات، حتى صار رأس علماء العراق في زمانه، وهذا التقدم والرياسة والاحتشام والسؤدد، جلب عليه كثيرًا من عداوة الخصوم والأقران، وأتباع المذاهب الأخرى، وكان له دور ظاهر في تأجيج
تلك العداوات بحدة لسانه، وهجومه اللاذع على الصوفية والفقراء، وبعض معاصريه.
ثناء الناس عليه:

لم يكن ابن الجوزي مثل غيره من كبار علماء الأمة، الذين كانوا كلمة إجماع بين الناس، ولم يخض في حقهم أحد، ذلك أن لابن الجوزي عداوات كثيرة، وخصومات عديدة أزكاها بحدة لسانه، وقوة نقده، وجهره بآرائه، واعترازه الشديد بنفسه، ولكن لا يقلل ذلك كله من تقدير الناس لعلمه وإمامته، وتبحره في فنون شتى، وهذه طائفة من أقوال الناس عنه، وثنائهم عليه:
قال الإمام الذهبي: كان رأسًا في التذكير بلا مدافعة، يقول النظم الرائق، والنثر الفائق بديهًا، ويسهب، ويعجب، ويطرب، ويطنب، لم يأت قبله ولا بعده مثله؛ فهو حامل لواء الوعظ، والقيِّم بفنونه، مع الشكل الحسن، والصوت الطيب، والوقع في النفوس، وحسن السيرة، وكان بحرًا في التفسير، علامة في السير والتاريخ، موصوفًا بحسن الحديث، ومعرفة فنونه، فقيهًا، عليمًا بالإجماع والاختلاف، جيد المشاركة في الطب، ذا تفنن وفهم وذكاء، وحفظ واستحضار....
قال أبو عبد الله الدبيثي في تاريخه: شيخنا جمال الدين صاحب التصانيف في فنون العلوم: من التفسير والفقه والحديث والتواريخ وغير ذلك، وإليه انتهت معرفة الحديث وعلومه، والوقوف على صحيحه من سقيمه، وكان من أحسن الناس كلامًا، وأتمهم نظامًا، وأعذبهم لسانًا، وأجودهم بيانًا، وبورك له في عمره وعمله.
قال الموفق عبد اللطيف المقدسي: كان ابن الجوزي لطيف الصورة، حلو الشمائل، رخيم النغمة، موزون الحركات والنغمات، لذيذ المفاكهة، يحضر مجلسه مائة ألف أو يزيدون، لا يضيع من زمانه شيئًا، يكتب في اليوم أربع كراريس، وله في كل علم مشاركة، لكنه كان في التفسير من الأعيان، وفي الحديث من الحفاظ، وفي التاريخ من المتوسعين، ولديه فقه كاف، وأما السجع الوعظي فله فيه ملكة قوية.
قال الإمام ابن قدامة المقدسي: ابن الجوزي إمام أهل عصره في الوعظ، وصنف في فنون العلم تصانيف حسنة، وكان صاحب فنون، كان يصنف في الفقه، ويدرس وكان حافظًا للحديث، إلا أننا لم نرض تصانيفه في السنة، ذلك أن ابن الجوزي قد خالف الحنابلة في الكثير من مسائل الاعتقاد، حتى جلب على نفسه كثيرًا من المشاكل.
مصنفاته:

يعتبر الإمام ابن الجوزي من العلماء الموسوعيين الكبار في أمة الإسلام؛ فلقد كان متبحرًا في فنون كثيرة، له فيها مشاركات ومصنفات فائقة، ومؤلفات رائقة زادت على الثلاثمائة مصنف، كثير منها في فن الوعظ والتذكير، والأخلاق والرقائق، وله في كل فن عدة كتب، ومن أشهر مصنفاته كتاب زاد المسير في التفسير، وهو مطبوع متداول، وكتاب المنتظم في التاريخ، وهو من كتب التاريخ المشهورة والشاملة، أكمل كتاب تاريخ الرسل والملوك للطبري، وله كتاب الموضوعات في الحديث؛ وهو أول من أفرد الأحاديث الموضوعة بمصنف، وعلى منواله نسج من جاء بعده، وكتاب صفة الصفوة في أخبار الصحابة والتابعين، ومن جاء بعدهم من طبقات القرون الثلاث الفاضلة، وكتاب تلبيس إبليس في كشف فضائح الصوفية، وصيد الخاطر في اللطائف والإشارات، ومنهاج القاصدين؛ وهو مختصر لطيف لكتاب إحياء علوم الدين للغزالي، وله سلسلة المناقب والفضائل للنبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة والصالحين والأئمة والعلماء، وكثير من كتبه قد ضاعت في محنته؛ إذ تسلط عليها ابنه العاق أبو القاسم عليٌّ فباعها بالأحمال بيع العبيد لمن يزيد، ولكن معظم إنتاجه العلمي مطبوع متداول بفضل الله عز وجل، ومازال الناس ينتفعون به ويدرسونه، وما من خطيب ولا واعظ إلا ولابن الجوزي عليه فضل الاقتباس من كلامه، وكتبه الفائقة.
محنته:

رغم أن المحنة التي تعرض لها الإمام ابن الجوزي كانت في آخر عمره، إلا إن أسباب تلك المحنة كانت قديمة، وبعيدة الجذور، وذلك لأمرين: أولهما متعلق بالأجواء السائدة في بغداد خلال القرن
السادس الهجري، وثانيهما متعلق بطبيعة شخصية ابن الجوزي، والتي أورثته خصومة وعداوة الكثيرين.
فبغداد، ومنذ سيطرة الدولة السلجوقية على مقدرات الخلافة العباسية، وظهور شخصية الوزير الشهير نظام الملك، أخذ أتباع المذهب الشافعي، والعقيدة الأشعرية في الظهور والتحكم في الساحة العلمية لبغداد عاصمة الخلافة، والسيطرة على حلق العلم والمدارس الفقهية، ومحاريب الجوامع، وكانت تلك المكانة من قبل بيد أتباع المذهب الحنبلي، والعقيدة السلفية، فلما ظهر الشافعية استطالوا بشدة على الحنابلة، وضيقوا عليهم في المجالس والمدارس، ودخلوا معهم في مهاترات حامية بسبب العقائد، وشنعوا عليهم، وظل الأمر على ما هو عليه فترة طويلة، حتى ظهرت شخصية الإمام ابن الجوزي، الذي استطاع أن يستقطب الناس إلى مجالس وعظه، ويبهرهم بفريد عباراته، وفائق تذكيراته، فحضر مجالسه عشرات الآلاف من الكبار والصغار، والرجال والنساء، وحضرها الخليفة العباسي نفسه، والسلطان السلجوقي، والوزراء والأمراء والكبراء، والأغنياء والفقراء، حتى كان يحضرها الشيعة الذين بهرهم رائع بيانه، خاصة وابن الجوزي كان من يداري ويهادن، ولا يخوض في الخلافيات، بالجملة أصبح ابن الجوزي حديث الناس، وأشهر علماء بغداد والعراق، وقد أدى ذلك لارتفاع مكانة الحنابلة، وإقبال الناس على شيوخ المذهب، وذلك الأمر أغاظ أتباع باقي المذاهب عامة، والشافعية خاصة.
وفي سنة 550هـ استوزر الخليفة العباسي المقتفي بالله الوزير عون الدين بن هبيرة، وكان من خيار الوزراء، وأفاضل العلماء، وكان حنبليًّا سلفيًّا، وقد اجتهد ذلك الوزير الصالح في إقامة الدولة

العباسية، واستعادة هيبة الخلافة، وحسم مادة ملوك السلاجقة، وكان ذلك الوزير مصاحبًا لابن الجوزي قبل ذلك، فلما صار في الوزارة قرب ابن الجوزي واصطفاه لمجالسه ومشورته، وارتفعت مكانة ابن الجوزي أكثر مما قبل، وكذلك الحنابلة، وقد استمر ذلك الوزير في منصبه خلافة المقتفي، ثم ولده المستنجد، وكان له كثير من الخصوم لصلاحه، وكفاءته في الإدارة، والإخلاص للدولة العباسية، ومن كان خصمًا لابن هبيرة كان خصمًا لابن الجوزي معه للصداقة التي بينهما، وقد قتل ذلك الوزير الصالح بالسم سنة 560هـ، ولم يعلم قاتله، وبموته أخذ أعداء ابن الجوزي في التربص به، والكيد له.
هذا الشق كان فيما يتعلق بالأمر الأول، والمتعلق بأحوال الخلافة والأجواء السائدة في بغداد، أما فيما يتعلق بالأمر الثاني؛ وهو طبيعية شخصية ابن الجوزي نفسه، فإن ابن الجوزي كان مفخرة العراق في وقته، ودرة بغداد في زمانه، شهرته طغت على علماء الوقت، فحسدوه، وغاروا من إقبال الناس عليه، وقابل ذلك هو بمزيد من الاعتداد بالنفس، والاعتزاز بالقدر حتى داخله نوع من
العجب والغرور، كما أنه كان شديدًا في نقده، حادًا في ملاحظاته، لاذعًا في تعليقاته، خاصة على الوعاظ والعلماء من الشافعية والأحناف، لا يبالي بمكانة وقدر من ينتقد ويجرح، حتى خرج بنقده إلى نوع من التحامل والتعصب، وهي أمور كلها قد أورثته عداوة وخصومة الكثيرين، حتى من أصحابه الحنابلة، الذين غضبوا من انتقاده للشيخ الرباني عبد القادر الجيلاني، وكان رأس الوعاظ في العراق قبل ظهور ابن الجوزي، وفي نفس الوقت شيخ الحنابلة بالعراق.
محنة آخر العمر:

ظل ابن الجوزي على مكانته ومنزلته حتى تولى الخلافة الناصر لدين الله العباسي سنة 575هـ، وكان يخالف سيرة أبائه وأجداده، فقد كان أول وآخر خليفة عباسي يتشيع، ويتظاهر بذلك، ويجهر به، وقد عمل على تقريب الشيعة، فاستخدمهم في أعماله وشئونه، وبالطبع أخذت الأضواء تنحسر عن رجال أهل السنة وعلمائهم، ومنهم ابن الجوزي؛ فاستغل خصوم الرجل ذلك الأمر، وخططوا للإيقاع به.
كان ألد أعداء الشيخ ابن الجوزي رجل اسمه الركن عبد السلام بن عبد الوهاب، وهو حفيد الشيخ عبد القادر الجيلاني، وكان أبناء الشيخ عبد القادر وأحفاده يبغضون ابن الجوزي بشدة بسبب رأيه في الشيخ عبد القادر، وانتقاده الدائم له، وكان الركن عبد السلام ذلك أشدهم كراهية لابن الجوزي، ولكن لسبب آخر؛ وهو أنه كان رجلا رديء المعتقد على مذهب الفلاسفة، شروًبا للخمر، فأفتي ابن الجوزي بحرق كتبه؛ فأحرقت ومنعت، ثم أخذت منه مدرسة جدهم الشيخ عبد القادر الجيلاني، وأعطيت لابن الجوزي، فاغتم الركن لذلك، وقرر الإيقاع بالشيخ ابن الجوزي.

العجيب أن الذي تآمر مع الركن عبد السلام في مؤامرته ضد ابن الجوزي هو أقرب الناس لابن الجوزي، ولده الكبير أبو القاسم على، وكان ماجنًا فاسقًا نديم الركن في مجالس الخمر والفجور، وكان عاقًا لأبيه، وقد هجره أبوه وإخوته لسوء أخلاقه وأفعاله؛ فتآمر أبو القاسم عليّ مع الركن عبد السلام للنيل من الشيخ ابن الجوزي.
تولى الوزارة في تلك الفترة رجل شيعي اسمه ابن القصاب، وكان صديقًا للركن عبد السلام للموافقة في الاعتقاد، فسعى عنده للإيقاع بالشيخ عند الخليفة الناصر العباسي، فقال الوزير الرافضي

للخليفة العباسي: أين أنت من ابن الجوزي الناصبي؟ وهو أيضًا من أولاد أبي بكر الصديق، ثم ما زال بالخليفة حتى غير قلبه على ابن الجوزي، وفوض الأمر إليه في التصرف معه، وذلك سنة 590هـ، وكان ابن الجوزي وقتها في الثمانين من العمر؛ ففوض الوزير ابن القصاب الركن عبد السلام في التصرف مع الشيخ ابن الجوزي؛ فذهب إلى داره بنفسه، ومعه الكثير من الحراس، وأبناء الشيخ عبد القادر؛ فشتموه وأهانوه، وجذبوه بشدة من بين عياله، وكان عليه ملابس خفيفة بلا سراويل، وختموا على داره، ووضعوه في سفينة صغيرة، ونفوه إلى مدينة واسط، وهناك حبسوه في بيت ضيق بلا أحد يخدمه، وكان شيخًا مسنًا قد جاوز الثمانين، فبقي وحده يطبخ لنفسه، ويغسل ثيابه لنفسه، ممنوع عليه الاجتماع مع الناس، أو الجلوس للوعظ كما هي عادته، ولاقى ضروبًا من المحن والهم والتعب طيلة خمس سنوات في النفي.
لم يكتف الركن عبد السلام بما فعله مع الشيخ ابن الجوزي من الإهانة والنفي والتشريد، والسجن الانفرادي، بل حاول التوصل إلى والي مدينة واسط، وكان شيعيًا أيضًا ليقتل ابن الجوزي، فقال
الوالي للركن: يا زنديق، أفعل هذا بمجرد قولك؟ هات خط أمير المؤمنين، والله لو كان على مذهبي لبذلت روحي في خدمته، فخاب سعي الركن، وفشلت خطته، ولكن لم يمنع ذلك من التضييق على ابن الجوزي وحبسه.
تلك المحنة الكبيرة التي نزلت بالشيخ ابن الجوزي وهو في أواخر عمره، وبعد أن جاوز الثمانين قد زاد من ألمها جناية ولده أبي القاسم عليٌّ على تراث أبيه العلمي، ونتاجه الـتأليفي، إذ تسلط ذلك

الولد العاق الفاسق على كتب أبيه، وكانت مئات المجلدات في شتي الفنون، وباعها بالأحمال، وشرب بثمنها الخمر، وتجاهر بذلك الفحش والخسة، والأب يعاني في غربته ووحدته مرارة ذلك الجحود والنكران.
ظل الشيخ ابن الجوزي في محنته بين النفي والسجن والإهمال والإهانة خمس سنوات كاملة كانت كفيلة بتحطيم عزيمة أي رجل قوي، وليس شيخًا طاعنًا في السن، ولكن الشيخ العلامة ابن الجوزي، الذي طالما وعظ الناس، وذكرهم وصبرهم، ورغبهم ورهبهم، حول محنته إلى محنة عظيمة، وروض تلك المحنة الأليمة، فاستغل تلك السنوات الخمس في قراءة كتب الحديث، والتلاوة بالعشر قراءات للقرآن على يد الشيح ابن الباقلاني، وأبدى همة عالية في ذلك، حتى أتم حفظ القراءات العشر وهو في الرابعة والثمانين من العمر.
وفي سنة 595هـ أذن له الله عز وجل في رفع المحنة، وفك الكربة، وذلك بشفاعة أم الخليفة الناصر العباسي، وعاد ابن الجوزي من منفاه في واسط إلى بغداد، وأذن له في الوعظ كما كان، وعاد
إلى مكانته وعزه وسؤدده، وحضر الخليفة العباسي بنفسه أول مجالس وعظه، وكانت كلمات ابن الجوزي مؤثرة، ملهبة، وقد خرجت من قلب احترق بالمحن، حتى خرج نقيًا من كل شائبة، وبعد ذلك بقليل مرض ابن الجوزي، ثم مات في منتصف شهر رمضان سنة 597هـ فرحمة الله عليه، وتجاوز عنه، وغفر له ما خاض فيه من تأويل، وغير ذلك.

المصادر والمراجع:
• سير أعلام النبلاء: (21/ 365).

• البداية والنهاية: (13/ 35).
• الكامل في التاريخ: (10/ 276).
• وفيات الأعيان: (3/ 140)
• تذكرة الحفاظ: (4/ 1342).
• ذيل طبقات الحنابلة: (1/ 399).
• تراجم أعلام السلف: (597).

• شذرات الذهب: (2/ 329).
• النجوم الزاهرة: (6/ 174).
ترويض المحن - دراسة تحليلية لهم المحن التي مرَّ بها كبار علماء الأمة، دار الصفوة بالقاهرة، 1430 هـ، 2009م


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 19-03-2025, 10:45 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,335
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صور من محن علماء المسلمين عبر التاريخ ..... يوميا فى رمضان .



محنة الإمام الشافعي
شريف عبدالعزيز الزهيري
(19)



بين يدي المحنة:
العلم والفهم من أعظم نعم الله عز وجل على عبده، وكلما ازداد العبد علمًا وفهمًا ترقي في سلم الإمامة حتى يصل إلى العلا؛ حيث محبة الخالق، ومحبة المخلوقين، والعلم والفهم رزق يسوقه الله عز وجل لمن يشاء من عباده، فلربما يكون عند ذلك العالم ما ليس عند غيره من
العلماء في العلم والفهم، والناس على مر العصور يتنافسون في الرزق، ويتحاسدون عليه، ومما تحاسد الناس عليه سلفًا وخلفًا المكانة والمنزلة التي ينالها بعض العلماء عند الأمة، ولو فتشت عن كثير من المحن والابتلاءات التي تعرض لها كبار علماء الأمة لوجدت الحسد والغيرة تقف خلفها، فهي سنة ماضية، وأمر مقدور، لا يخلو منه عصر من العصور.
التعريف به:

فقيه الأمة، وعلمها المقدم، الإمام الفذ العبقري، ناصر الحديث، أستاذ الفنون، الأصولي اللغوي البديع، الشريف النسيب، العالم الكبير أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن
عثمان بن شافع بن السائب الهاشمي المطلبي القرشي، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
• ولد في غزة بفلسطين سنة 150هـ، ويقال: إنه ولد في نفس اليوم الذي مات فيه الإمام أبو
حنيفة، وقد مات أبوه إدريس شابًا، والإمام مازال في المهد، فانتقلت أمه إلى اليمن؛ لأنها كانت من الأزد، وهم من أكبر بطون اليمن، وظلت باليمن عدة سنوات؛ فخافت عليه ضيعة نسبه الشريف، فتحولت به إلى مكة، فنشأ بها وترعرع، وأقبل على الرمي حتى صار من أمهر الرماة، ثم أقبل على العربية والشعر، ثم ألقى الله عز وجل في قلبه حب العلم والفقه، وذلك من تقادير الله عز وجل له، وإرادة الخير به وبالأمة، فأقبل على العلوم ينهل منها بكل فروعها.
• جلس الشافعي إلى علماء مكة، وتفقه عليهم حتى صار أهلاً للفتوى، وأذن له شيوخه: مثل
مسلم بن خالد الزنجي بذلك، والشافعي وقتها في سن المراهقة، وقد قرأ القرآن على إسماعيل بن قسطنطين، وتنقل في البادية لفترة طويلة حتى أتقن لهجات العرب وأشعارها؛ فلما جاوز العشرين رحل إلى المدينة، وجلس للإمام مالك رحمه الله، وقرأ عليه كتابه الموطأ من حفظه، فانبهر الإمام مالك بقوة حفظه وفهمه، وتفرس فيه النجابة والعلم؛ فأوصاه بوصايا نافعة يحتاجها أي عالم يريد أن يسلك سبيل الربانية.
• يعتبر الإمام الشافعي ناشر مذهبه؛ فلقد طاف البلاد والأقاليم، فقد دخل العراق مرتين
واليمن ومصر عدة مرات، وقد استقر بها في النهاية، واختص به أهل مصر دون غيرهم، ولقد صنف التصانيف، ودون العلم، ورد على الأئمة متبعًا الأثر، وبعد صيته، وتكاثر عليه الطلبة، فلم يُعلم أحد من الأئمة له تلاميذ وطلبة نجباء مثل الإمام الشافعي؛ فتلاميذه ملأ السمع والبصر، كفي أن نذكر منهم الإمام أحمد بن حنبل والبويطي وأبو ثور، وغيرهم كثير.
• أما عن منهجه ومذهبه الذي اتبعه الإمام الشافعي في تقرير قواعد مذهبه، فلقد كان أثريًا سلفيًا يعتمد على الوحيين: القرآن والسنة، ثم القياس والإجماع، وكان يقول: كل متكلم على
الكتاب والسنة هو الجد، وما سواه هو الهذيان، ويقول: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا صح الحديث فهو مذهبي، وإذا صح الحديث فاضربوا بقولي عرض الحائط، أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إذا رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا فلم أقل به؟
• وهذا الاتباع للحديث، والعمل بالأثر جعل الإمام الشافعي يرجع عن كثير من أقواله بعد أن دخل مصر، وسمع ما عند المصريين من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصار في

المذهب قولان: القديم وهو في العراق حتى سنة 198هـ، الجديد وهو في مصر حتى وفاته سنة 204هـ، وهذا الرجوع للحديث والأثر والعمل به لا يقدم عليه إلا العلماء العاملون المخلصون الربانيون، وكم من فقيه ومتعالم يتبع رأي إمامه، ولا يخالفه أبدًا، ولو إلى الحق والثابت من الحديث والآثار؛ فيكون بذلك قد قدم رأي إمامه على قول الله ورسوله، وهذه المشاركة تحديدًا كانت من أسباب المحنة التي تعرض لها الإمام الشافعي رحمه الله.
• أما عن عقيدة الشافعي رحمه الله، فلقد كان الإمام من كبار علماء أهل السنة والجماعة،
رأسًا من رءوسهم الأعلام، انتدب للرد على المبتدعة والزنادقة خاصة المعتزلة والجهمية، وكان رحمه الله من أشد الناس فيهم؛ لذلك لم يجرؤ أحد من هؤلاء الضلال على أن يرفع رأسه أيام الإمام مالك ثم الشافعي، وكان ينهي أصحابه عن الخوض في كلام المبتدعة، وينهي عن الصلاة خلف الرافضي والمرجئي والقدري المعتزلي، وأفتي بكفر من يقول بخلق القرآن.
• أما عن عبادته وأخلاقه؛ فعلى الرغم من انشغاله الكبير بالعلم الشرعي والدرس والبحث، وعلى الرغم من أنه كان يقول: قراءة الحديث خير من صلاة التطوع، وقوله: طلب العلم أفضل
من صلاة النافلة، إلا إنه كان عابدًا ربانيًا زاهدًا، مقبلا على شأنه وآخرته، ليس للدنيا عليه سبيل، قال عنه راويته الربيع بن سليمان: كان الشافعي قد جزأ الليل: فثلثه الأول يكتب، والثاني يصلي، والثالث ينام. وكانت تمر عليه آية العذاب، أو حديث الترهيب فيخر مغشيًا عليه من رقة قلبه، وكان مشهورًا بتلاوة القرآن، تواتر عن أصحابه أنه كان يختم في كل ليلة ختمة في شهر رمضان يختم ستين ختمة، وهذا أظنه من المبالغات التي لا تصح، ولا يسمح الوقت بوقوعها، وعادة ما تكون التراجم والطبقات مليئة بالأخبار المبالغ فيها في شأن هؤلاء الأئمة الأعلام، وهذه الأخبار والآثار تحتاج لجهد مجموعة من العلماء والمتخصصين لتمحيصها، وتنقية كتب التراجم والسير منها، أما عن أخلاقه رحمه الله فلقد كان الشافعي شريف النفس والنسب، كريمًا سخيًا، شديد البذل والعطاء على ضيق ذات يده، لا يرد سائلا قط، تاركًا للمراء والجدل، مخلصًا ناصحًا للأمة، ويود لكافه المسلمين الخير، وكان يقول عن نفسه: وددت أن الناس تعلموا هذا العلم - يعني كتبه - على أن لا ينسب إلى منه شيء، فأين هؤلاء الذي يضنون بعلمهم، ويتاجرون به بيعًا وشراءً من هذا الإمام الفذ العظيم.

مصنفاته:
• لم يكن عصر الإمام الشافعي عصر التدوين والتصنيف، فلقد كان العلم مازال وقتها ينتقل ويتعلم بالتلقي والدروس المباشرة، وأضف إلى ذلك انشغال الشافعي نفسه بنشر مذهبه والتنقل في البلاد من أجل لقاء العلماء والمشايخ، ولكن لم تصنع هذه المهام كلها الشافعي
عن التدوين والتأليف، وإن كان علمه أكبر بكثير من كتبه ومؤلفاته.
• يعتبر الشافعي واضع علم أصول الفقه، وذلك في كتابه الشهير: (الرسالة) الذي كتبه عملا بنصيحة شيخه عبد الرحمن بن مهدي، ويعتبر كتاب الرسالة اللبنة الأولى في علم الأصول،
وقد ألفه الشافعي وهو شاب في الثلاثينيات، ووضع فيه حجة الإجماع، ومعاني القرآن، والناسخ والمنسوخ، وقبول الأخبار.
• وللشافعي أيضًا كتاب: (الأم) الذي جمع فيه مسائله وأقواله وفتاواه، وله كتب أخرى، كتبها
الشافعي بلغة سهلة يفهمها الجميع، على الرغم من بلاغته الفائقة، وفصاحته في المناظرة، والتي لم يقم له فيها أحد من أهل زمانه، وقد عد بعض أهل العلم للشافعي أكثر من مائة كتاب في علوم القرآن والسنن والمسانيد، وشتى فروع العلم، تسابق على حفظها وجمعها واقتنائها العلماء والأئمة، حتى إن إسحاق بن راهويه تزوج امرأة بمرو لم يتزوجها إلا لأنها أرملة رجل كانت عنده كتب الشافعي، وقال الجاحظ الأديب: نظرت في كتب هؤلاء النبغة الذين نبغوا في العلم، فلم أر أحسن تآليفًا من المطلبي - يقصد الشافعي - لأن لسانه ينظم الدرر.
ثناء الناس عليه:

• يعتبر الإمام الشافعي من أكثر علماء الإسلام الذين نالوا التقدير والثناء الوافر من الناس عالمهم وعاميهم، فلقد كان الإمام - وعلى مر العصور - كلمة إجماع بين الناس، وهو أكثر علماء الأمة الذين كتب في مناقبهم وفضائلهم كتب ومؤلفات، من أشهر مناقب الشافعي
للبيهقي، ومناقبه للخطيب البغدادي، وتوالي التأسيس لابن حجر.
وهذه طائفة من ثناء معاصريه عليه:
• قال عنه الإمام أحمد:
كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس، وإني لأدعو له في كل سحر، وما أحد مس محبرة ولا قلمًا إلا وللشافعي في عنقه منة، ولقد كان أفصح الناس، وما عرفنا العموم من الخصوص، وناسخ الحديث من منسوخه حتى جالسنا الشافعي، وصاحب الحديث لا يشبع من كتب الشافعي.
قال عنه عبد الرحمن مهدي وهو شيخه: ما أصلي صلاة إلا وأنا أدعو للشافعي فيها.
قال يونس بن عبد الأعلى: كانت ألفاظ الشافعي مثل السكر؛ فلقد أوتي عذوبة منطق، وحسن بلاغة، وفرط ذكاء، وسيلان ذهني، وكمال فصاحة، وحضور حجة.
وقال ابن عبد الحكم: ما رأيت الشافعي يناظر أحدًا إلا رحمته، ولو رأيت الشافعي يناظرك لظننت أنه سبع يأكلك، وهو الذي علم الناس الحجج.
قال عن أبي ثور الكلبي: كان الشافعي من معادن الفقه، ونقاد المعاني، وجهابذة الألفاظ.
قال عنه المبرد: كان الشافعي من أشهر الناس، وآدب الناس، وأعرفهم بالقراءات.
قال عنه يحيى القطان: ما رأيت أعقل ولا أفقه من الشافعي.
وورد عن جمع أهل العلم أنهم كانوا يخصون الشافعي بالدعاء في صلواتهم: منهم على سبيل المثال أحمد بن حنبل، وعبد الرحمن مهدي، ويحيى بن سعيد، وإسحاق بن راهويه، وأبو ثور،
وغيرهم.

قال عنه الحافظ أبو نعيم الأصبهاني: الإمام الكامل، العالم العامل، ذو الشرف المنيف، والخلق الظريف، له السخاء والكرم، وهو الضياء في الظلم، أوضح المشكلات، وأفصح عن المعضلات.
أما الحديث الذي رواه أبو داود الطيالسي في مسنده، وفيه: ((لا تَسبُّوا قُرَيْشًا؛ فإن عَالِمَهَا يَمْلأ الأَرْضَ عِلْمًا))، والذي حمله كثير من أهل العلم على الإمام الشافعي؛ فهو حديث ضعيف آفته
النضر بن حميد فهو متروك، ويرويه عن أبي الجارود، وهو مجهول.
محنته:
أصدق وصف، وأدق تعبير لأصل المحنة التي تعرض لها الإمام الشافعي ما قاله تلميذه الأنجب الإمام أحمد بن حنبل عندما سأله بعض الناس عن سبب هجوم بعض أهل العلم على
الإمام، إذ قال: لقد من الله علينا به، لقد كنا تعلمنا كلام القوم، وكتبا كتبهم، حتى قدم علينا؛ فلما سمعنا كلامه، علمنا أنه أعلم من غيره، وقد جالسناه الأيام والليالي، فما رأينا منه إلا كل خير، واعلموا حكم الله تعالى أن الرجل من أهل العلم إذا منحه الله شيئًا من العلم، وحُرِمَهُ قرناؤه وأشكاله، حسدوه فرموه بما ليس فيه، وبئست الخصلة في أهل العلم.

وحقًا كان الإمام الشافعي رحمه الله كما وصفه الإمام أحمد، فلقد رزقه الله عز وجل علمًا وفهمًا ومواهب لدنية كثيرة لم تكن عند غالبية أقرانه، بل لا نكون مجازفين إذا قلنا: إنه لم يكن في عصر الشافعي من هو مثله في العلم والفهم، وجودة الذهن، وحدة الذكاء، وذلك كله في إطار كبير من الأخلاق النبيلة والفضائل الكثيرة، أضف لذلك شرف النسب، وكرامة المحتد، مع جميل الصورة، وبهاء الطلعة؛ لذلك تعرض الإمام لمحن متتالية مردها وأساسها الحسد والغيرة.
نشأ الشافعي يتيمًا فقيرًا، كثير التنقل، ولم يكن عند أمه من النفقة ما تعطيه للمعلم، فكان الشافعي يقوم ببعض الأعمال المساعدة لمعلمه: مثل قيامه على صبيان الحلقة حال غيابه
نظير تعليمه مجانًا، وكان الشافعي لا يجد ما يكتب فيه؛ فكان يكتب في الأكتاف والظهور، ويذهب إلى ديوان البلد يستوهب منهم الأوراق المستعملة ليكتب على ظهرها.
بسبب ذلك الفقر اضطر الشافعي لأن يطلب العمل في القضاء، لينفق على نفسه وأمه
ورحلته في طلب العلم، وكان وقتها قد تأهل للفتيا، وجالس الأكابر، وسمع من الأعلام: مثل مالك وابن عيينة، وغيرهم، وبالفعل استطاع أحد أقاربه؛ وهو (مصعب بن عبد الله) أن يلحقه بالعمل قاضيًا باليمن.
استلم الشافعي عمله بالقضاء في بلاد اليمن، فكان شعلة نشاط وذكاء، يتوقد ذهنه بالعلم والفهم؛ فأحبه الناس ورضوا به، وكان الشافعي بجانب عمله في القضاء، يعمل على نشر العلم والفقه، فجالس العلماء والمحدثين، وعلا قدره، وظهر أمره، وتكلم عن فضله وشأنه في أهل اليمن كلهم، وذلك كله وهو في أوائل الثلاثينيات، عندها تحركت نوازع النفس البشرية، وبدأت علامات الحسد والغيرة تظهر عند أقرانه.

كانت بلاد اليمن في تلك الفترة البقاع التي يكثر فيها المنتسبون لفرقة الشيعة الضالة، ذلك لوجود الكثير من آل أبي طالب بها منذ أيام الحسين بن علي رضي الله عنهما، كما لا ننسي مؤسس فكر التشيع الأول هو اليمني الضال ابن سبأ الصنعاني الملقب بابن السوداء؛ لذلك كانت بلاد اليمن من المناطق التي توليها الدولة العباسية عناية خاصة، خوفًا من عبث الشيعة والروافض بأهلها؛ وذلك منذ أيام حركة النفس الزكية سنة 145هـ، وكان بنو العباس شديدي التوجس والحذر من بني عمومتهم الطالبيين، لعلمهم بأنهم يرون أنفسهم أحق بالخلافة منهم؛ لذلك كان بنو العباس يشتدون في مقابلة أدني تهمة بهذا الخصوص.
استغل خصوم الشافعي وحساده تلك السياسة العباسية في معاملة خصومهم السياسيين؛ فأسرع أحدهم واسمه (مطرف بن مازن). وكتب إلى الخليفة العباسي هارون الرشيد سنة 184هـ: إن أردت اليمن لا يفسد عليك، ولا يخرج من يدك، فأخرج عنه محمد بن إدريس الشافعي، وذكر أقوامًا من الطالبيين، حتى تكون المكيدة محكمة، والوشاية ليست بالشافعي وحده، وتخرج في إطار خطة ومؤامرة يدبرها الشيعة بقيادة الشافعي.
كانت تهمة قيادة تنظيم شيعي لقلب نظام الحكم في تلك الفترة، وفي غيرها من الفترات،
من أشد التهم خطورة، وأوخمها عاقبة؛ لذلك أسرع الخليفة العباسي هارون الرشيد بإرسال والٍ جديد لبلاد اليمن وهو (حماد البربري)، الذي ألقى القبض على الإمام الشافعي، وكل من ورد اسمه في وشاية الحاسد (مطرف بن مازن)، وأوثقهم في الحديد، وحملوهم بهذه الصورة المؤلمة من بلاد اليمن إلى (الرقة) في شمال بلاد العراق؛ حيث مقر إقامة الخليفة العباسي: (هارون الرشيد).
ولنا أن نتخيل حجم المعاناة والألم البدني والنفسي الشديد الذي وقع على الإمام الشافعي،
عالم قاضٍ، ومن نسب شريف، وبريء لا ذنب له، ورحلة طويلة وشاقة من أقصى البلاد جنوبا لأقصاها شمالا، وهو مكبول في الحديد، وفرية كاذبة، ليست تقدح في مهنته كقاضي، ولكن في سمعته كإمام ومحدث وفقيه.

ولكن رجل كامل مثل الإمام الشافعي لم تكن تلك المحنة لتنال من همته وإرادته ومكانته، فلقد استعد لمواجهة كافة التهم الموجهة إليه، وانتضى سيف بلاغته، وركب فرس حجته، وما أن أدخل على الخليفة هارون الرشيد، وسأله الرشيد عما نسب إليه من تشيع وتآمر، حتى رد
الإمام الشافعي ردًا بلغيًا مقنعًا، دحض به أباطيل التهم الكاذبة، ثم ختم دفاعه البليغ بجملة خلبت لب الخليفة الرشيد؛ إذ قال له: [أأدع من يقول أنه ابن عمي: (يقصد هارون الرشيد)، وأتولى من يقول أنه خالقي ورازقي: (يقصد إمام الشيعة الروافض، الذي يسبغون على أئمتهم صفات وخصائص لا تكون إلا لله عز وجل وحده: مثل علم الغيب، وتقدر المقادير، وغير ذلك)].
انشرح صدر الخليفة الرشيد؛ فلقد كان يحب العافية، ويكره أن يزج بطالبي آخر في السجون،
وقد مات في العام الماضي 183هـ الإمام موسى الملقب بالكاظم - وهو من أبناء عمه- في السجن بسبب الوشايات والسعايات، وكان حاضرًا لمجلس الشافعي مع الرشيد الإمام محمد بن الحسن تلميذ الإمام أبي حنيفة، فأحب الرشيد أن يتعرف على مكانة الشافعي العلمية، فطرح مسألة للمناظرة بين الإمامين: الشافعي ومحمد بن الحسن، فأبان الشافعي عن قوة علمية باهرة أذهلت الحاضرين، فازداد سرور هارون الرشيد، وعرف قدر الإمام؛ فأمر له بجائزة خمسة ألاف دينار، كانت بمثابة رد اعتبار لذلك الإمام، وتبرئة لساحته أمام الناس.
كانت تلك المحنة فاتحة خير للإمام الشافعي؛ فلقد مكث بالعراق، ولم يعد إلى بلاد اليمن بعدها إلا لجلب أهله وحاجاته وكتبه، بعدها مكث بالعراق عدة سنين، يفتي ويناظر ويعلم الناس، فانتشر ذكره بين الناس، فأقبلوا عليه، وتكونت مدرسته الفقهية في العراق، واعتني
بالحديث والأثر، واتبعهما كمنهج في الرد على المخالفين؛ لذلك أطلقوا عليه في بغداد لقب ناصر الحديث، وصنف التصانيف، ودون العلم، ورد على الأئمة متبعًا الأثر، وتكاثر عليه الطلبة، فأين حاسده ومبغضه الذي أراد إسكات صوته، وخنق علمه وفقهه في بلاد اليمن؟ فأعلى الله عز وجل ذكره في الأرض كلها، ونشر علمه في المشرق والمغرب، وكبت خصومه وحساده كما كبت كل حاسد وحاقد لأهل العلم الربانيين على مر العصور.

اجتمع عنده علم أهل الرأي أخذه من محمد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة، وعلم أهل الأثر أخذه من الإمام مالك بن أنس في المدينة، فمزج بين المدرستين، حتى أصل الأصول، وقعد القواعد، وأذعن لعلمه وفضله الموافق والمخالف، وانتقل إلى مصر سنة 198هـ، فلما استوطنها أتاه جلة أصحاب الإمام مالك، وأقبلوا عليه، فلما أن رأوه يخالف مالكًا، وينقض عليه كثيرًا من مسائله، أعرضوا عنه، وتنكروا له، حتى إنهم كانوا يدعون عليه في صلواتهم بالموت! حتى لا تندثر مدرسة الإمام مالك، وذلك من جملة المحن التي عاني منها الإمام الشافعي، فكم أعمي الحسد والتعصب من بصيرة؟ وكم طمس من فضل وعلم ورجال كبار؟
بجانب ما كان يعانيه الإمام الشافعي من محن بسبب الحسد والغيرة، وآثار التهمة القديمة بالتشيع والرفض؛ كان الشافعي يعاني من محنة من طراز آخر، محنة قدرية لا اختيار فيها، ولا سبيل لدفعها، بل هي علامة من علامات مرضاة الله عز وجل، كان الشافعي مريضًا بالبواسير
مرضًا مزمنًا، عاني منه أشد المعاناة، حتى إنه كان ينزف معظم الوقت، ولا يركب ولا يجلس إلى على لبد حتى يشرب الدم الذي ينزف بواسيره، حتى إنه كان يحدث ويعلم ويؤلف ويقرأ القرآن وتحته طست من شدة النزف، بل إنه ذلك المرض الشديد حرمه من لذة الجماع، ولم يولد له ولد إلا في أواخر حياته، بسبب عدم قدرته على الجماع من شدة البواسير.
وظل مرضه وسقمه يتعالى عليه حتى إنه لم يكد يقوى على الوقوف أو الجلوس، وكان يدخل عليه تلميذه يونس بن عبد الأعلى - وكان حسن الصوت - فيأمره الشافعي أن يقرأ عليه آيات
الصبر على البلاء، ليتقوى بها، ويقول له: يا يونس لا تغفل عني بقراءتك فإني مكروب؛ وذلك من شدة آلامه وأوجاعه، حتى مات صابرًا محتسبًا وهو في الرابعة والخمسين من عمره، فرحمه الله عز وجل رحمة واسعة، وأجزل له المثوبة.

المصادر والمراجع:
• سير أعلام النبلاء: (10/ 5).
• حلية الأولياء: (9/ 63).
• تاريخ بغداد: (2/ 56).
• البداية والنهاية: (10/ 274).
• الكامل في التاريخ: (5/ 453).
• وفيات الأعيان: (4/ 163).

• تذكرة الحفاظ: (4/ 361).
• طبقات للشافعية ص1 كله.
• شذرات الذهب: (2/ 9)

• صفة الصفوة: (1/ 433).
• النجوم الزاهرة: (2/ 176).
• طبقات الحفاظ: (152).
• تراجم أعلام السلف: (305).
ترويض المحن: دراسة تحليلية لأهم المحن التي مرَّ بها كبار علماء الأمة
دار الصفوة بالقاهرة، 1430 هـ، 2009 م



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 20-03-2025, 10:20 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,335
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صور من محن علماء المسلمين عبر التاريخ ..... يوميا فى رمضان .



محنة الإمام النسائي: عدوان الجهل والتعصب
شريف عبدالعزيز
(20)



لا يزال الجهل والتعصب أعدى أعداء العلم والعلماء؛ فهما نقيضان متضادان، كلاهما حرب على الآخر، كلاهما في حالة صراع قائمة ومستمرة عبر التاريخ، فالعلم نور وحق وبيان والعلماء أهله وحراسه ومناصروه، والجهل ظلم وظلام وباطل وبهتان والجهلاء أهله وحراسه ومناصروه، الجهل داء والعلم دواء، الجهل سقام القلوب والنفوس والعقول والعلم شفاؤها، لذلك فإن الله -عز وجل- قد أعلى من شأن العلم والعلماء وجعلهم ورثة الأنبياء، وجعل فضل العالم على العابد كفضل النبي -صلى الله عليه وسلم- على أدنى المسلمين، وعلى مر التاريخ عانى علماء الأمة الربانيون من سفاهة الجهلاء وحماقة المتعصبين الكثير من الويلات والمحن، بل إن بعضهم قد راح ضحية الجهل والتعصب، ففقدت الأمة العديد من كبار الأئمة والعلماء بسبب ذلك، وعلى رأس هؤلاء العلماء الذين راحوا ضحية الجهل والجهلاء الإمام (النسائي) صاحب السنن -رحمه الله.
ترجمة الإمام النسائي:

هو الإمام الحافظ الحجة الثبت، شيخ الإسلام، ناقد الحديث، وبحر العلوم، وواحد من كبار علماء الأمة، وصاحب السنن المشهورة، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي بن سنان بن بحر النسائي، ولد سنة 215هـ بمدينة نسا من أعمال خراسان - بين إيران وأفغانستان الآن - طلب العلم صغيرًا وقد ملك حب الحديث وطلبه والرحلة إليه مجامع فؤاده، فارتحل لطلب الحديث سنة 230هـ أي وهو في الخامسة عشر، فرحل أولاً إلى
المحدث الشهير (قتيبة بن سعيد) ومكث عنده عامًا كاملاً، سمع خلاله مروياته كلها، ثم انطلق بعدها يجول في طلب العلم والحديث في خراسان والحجاز ومصر والعراق والجزيرة والشام والثغور، ثم استوطن مصر، وصارت الرحلة إليه، وإليه ضربت أكباد الإبل، وارتحل إليه الحفاظ، ولم يبق له نظير في هذا الشأن.
أما عن شيوخه وتلاميذه، فقد سمع من: إسحاق بن راهويه، وهشام بن عمار، ومحمد بن النضر بن مساور، وسويد بن نصر، وعيسى بن حماد زغبة، وأحمد بن عبدة الضبي، وأبي الطاهر بن السرح، وأحمد بن منيع،
وإسحاق بن شاهين، وبشر بن معاذ العقدي، وبشر بن هلال الصواف، وتميم بن المنتصر، والحارث بن مسكين، والحسن بن صباح البزار، وحميد بن مسعدة، وزياد بن أيوب، وزياد بن يحيى الحساني، وغيرهم كثير، قال ابن حجر في تهذيب التهذيب: "سمع من خلائق لا يحصون".

وحدث عنه: أبو بشر الدولابي، وأبو جعفر الطحاوي، وأبو علي النيسابوري، وحمزة بن محمد الكناني، وأبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل النحاس النحوي، وأبو بكر محمد بن أحمد بن الحداد الشافعي، وعبد الكريم بن أبي عبد الرحمن النسائي، وأبو بكر أحمد بن محمد بن السني، وأبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، ومحمد بن معاوية بن الأحمر الأندلسي، والحسن بن رشيق، ومحمد بن عبد الله بن حويه النيسابوري، ومحمد بن موسى المأموني، وأبيض بن محمد بن أبيض، وخلق كثير.
أما عن صفاته الخلقية، فقد قال الذهبي: كان شيخنا مهيباً، مليح الوجه، ظاهر الدم، حسن الشيبة، وكان نضر الوجه مع كبر السن، كأن في وجهه قنديل، يؤثر لباس البرود النوبية والخضر، ويكثر الاستمتاع، له أربع
زوجات، فكان يقسم لهن، ومع ذلك فكان يصوم صوم داود ويتهجد ويكثر من تلاوة القرآن مع عذوبة معلومة في صوته شهد لها الجميع.
أما عن عقيدته (وهي مربط الفرس في محنته والسبب الرئيسي لمصرعه): قال قاضي مصر أبو القاسم عبد الله بن محمد بن أبي العوام السعدي: حدثنا أحمد بن شعيب النسائي، أخبرنا إسحاق بن راهويه، حدثنا محمد بن أعين قال: قلت لابن المبارك: إن فلانا يقول: من زعم أن قوله تعالى: (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي) [طه: 14] مخلوق، فهو كافر. فقال ابن المبارك: صدق، قال النسائي: بهذا أقول.

وأما ما رمي به من التشيع والانحراف عن المتعصبين جهلاً لمعاوية ضد علي -رضي الله عنهما-، فبسبب تأليفه لكتاب خصائص علي -رضي الله عنه-، فمن أحسن ما يعتذر له به ما قاله هو لما سُئل عن ذلك: قال الوزير ابن حنزابة: سمعت محمد بن موسى المأموني صاحب النسائي قال: سمعت قوما ينكرون على أبي عبد الرحمن النسائي كتاب: (الخصائص) لعلي -رضي الله عنه-، وتركه تصنيف فضائل الشيخين، فذكرت له ذلك، فقال: دخلت دمشق والمنحرف بها عن علي كثير، فصنفت كتاب: (الخصائص)، رجوت أن يهديهم الله –تعالى-. وبالنسبة لمذهبه الفقهي فقد قال ابن الأثير في أول (جامع الأصول): كان شافعياً، له مناسك على مذهب الشافعي، وكان ورعاً متحرياً.
مكانته العلمية وثناؤهم عليه:

يحتل النسائي مكانة سامقة في ثبت علماء الأمة، فهو يقف في مصاف كبار علماء الأمة، وإمامًا من أكبر أئمة الحديث، حتى إن السيوطي -رحمه الله- قد قال عنه: (النسائي مجدد المائة الثالثة). وثناء الناس عليه وإقرارهم بإمامته وريادته مذكور في كل كتب التراجم التي ترجمت كحياة هذا الإمام الكبير وهذه طائفة منتقاة من أقوالهم:

قال الحافظ أبو علي النيسابوري: "أبو عبد الرحمن النسائي الإمام في الحديث بلا مدافعة"، وقال الإمام الدار قطني: "أبو عبد الرحمن النسائي مقدم على كل من يذكر بهذا العلم من أهل عصره"، وقال محمد بن المظفر الحافظ: "سمعت مشايخنا بمصر يصفون اجتهاد النسائي في العبادة بالليل والنهار، وأنه خرج إلى الفداء مع أمير مصر، فوصف من شهامته وإقامته السنن المأثورة في فداء المسلمين، واحترازه عن مجالس السلطان الذي خرج معه"، وقال أبو بكر بن الحداد الفقيه: "رضيت بالنسائي حجة بيني وبين الله –تعالى-"، وقال أبو سعيد بن يونس: "كان أبو عبد الرحمن النسائي إمامًا حافظًا ثبتًا"، وقال الإمام الذهبي: "كان من بحور العلم، مع الفهم، والإتقان، والبصر، ونقد الرجال، وحسن التأليف، جال في طلب العلم في خراسان، والحجاز، ومصر، والعراق، والجزيرة، والشام، والثغور، ثم استوطن مصر، ورحل الحفاظ إليه، ولم يبق له نظير في هذا الشأن"، وقال أيضاً: "ولم يكن أحد في رأس الثلاث مائة أحفظ من النسائي، هو أحذق بالحديث وعلله ورجاله من مسلم، ومن أبي داود، ومن أبي عيسى، وهو جار في مضمار البخاري، وأبي زرعة"، وقال الإمام الطحاوي: "أبو عبد الرحمن النسائي إمام من أئمة المسلمين"، وقال مأمون المصري المحدث: "خرجنا إلى طرسوس مع النسائي، فاجتمع جماعة من الأئمة: عبد الله بن أحمد بن حنبل، ومحمد بن إبراهيم، وأبو الآذان، وأبو بكر الأنماطي، فتشاوروا: من ينتقي لهم على الشيوخ؟ فأجمعوا على أبي عبد الرحمن النسائي، وكتبوا كلهم بانتخابه"، وقال ابن الأثير في مقدمة كتابه (جامع الأصول): "النسائي من أئمة الحديث والفقه الشافعي، له مناسك على مذهبه، وكان ورعًا متحريًا، شديد التحري والضبط لرواياته حتى إنه قد أتى أحد رواة الحديث المشهورين وهو (الحارث بن مسكين) وكان الحارث خائفًا من أمور تتعلق بالسلطان، فخاف من النسائي أن يكون عينًا عليه، فمنعه من دخول بيته، فكان النسائي يجيء فيقعد خلف الباب ويسمع، وكان بعدها إذا روى الحديث عن الحارث لا يقول: حدثنا حارث، إنما يقال: قال الحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع، من شدة تحريه وصدقه وضبطه لألفاظ الرواية".
نقل الذهبي عن الحافظ بن طاهر أنه سأل سعد بن الزنجاني عن رجل فوثقه، فلما ذكر له أن النسائي قد ضعفه قال: "يا بنيّ إن لأبي عبد الرحمن شروطاً في الرجال، أشد من شروط البخاري ومسلم".
ويصادق الذهبي على كلام ابن طاهر فيقول:" قلت: صدق، فإنه قد ليَّنَ (أي ضعّف) جماعة من رجال صحيحي البخاري ومسلم". لقد كان هذا الإمام علماً في الحديث، حتى لم يكن أحد في زمانه.
محنة الإمام النسائي:

الإمام النسائي من كبار علماء الحديث في الإسلام، ومن دأب علماء الحديث الارتحال من بلد لآخر من أجل سماع الحديث وإسماعه، ونشر العلم بين المسلمين، وهذا هو حال العلماء الصالحين المصلحين الذين يحرصون على نشر العلم وبذر بذوره الطيبة في كل مكان؛ ليستفيد أكبر قدر من المسلمين.
طاف النسائي معظم أقاليم الإسلام، واستقر في مصر فترة طويلة، ارتفع بها شأنه وعلا ذكره، وأقبل عليه طلبة العلم والمحدثون وعموم الناس لسماع مجالسه، وهذا الأمر مجلبة للحسد والغيرة عند ذوي النفوس المريضة. بدأت محنة النسائي عندما بلغ أعلى المكانات العلمية في عصره وصارت الرحلة إليه وعيَّنه أمير مصر قاضيًا على عموم البلاد، وخرج معه للجهاد والفداء، وعندها حسده الأقران، وظهر ذلك منهم في قسمات وجوههم وفلتات ألسنتهم، وهذا الحسد أزعج النسائي وضاقت به نفسه حتى عزم على الخروج من البلد كلها، قال الإمام الدارقطني: "كان النسائي أفقه مشايخ مصر في عصره، وأعرفهم بالصحيح من السقيم من الآثار، وأعرفهم بالرجال، فلما بلغ هذا المبلغ، حسدوه، فخرج إلى الرملة بفلسطين وذلك في أواخر سنة 302هـ.
خرج النسائي إلى الشام وفي نيته نشر العلم النافع، ورد ما غالى من أهلها على أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه-، فلما وصل إلى الرملة بفلسطين، عقد مجلسًا للتحديث بجامعها الكبير، وأخذ في رواية الأحاديث في فضل علي -رضي الله عنه- وآل البيت وفي باقي الصحابة، وكانت بلاد الشام معقل الأسرة الأموية وقاعدة ملك بني أمية ودمشق ظلت عاصمة الخلافة الأموية وعاصمة الدولة الإسلامية، طوال حكم الأمويين، فلما أخذ النسائي في رواية أحاديث فضل الصحابة، طلبوا منه أن يروي حديثًا في فضل معاوية -رضي الله عنه-، فامتنع النسائي من ذلك؛ لأنه وبمنتهى البساطة لم يخرّج حديثًا في فضل معاوية، ومروياته كلها ليس فيها
حديث واحد في ذلك، فألحوا عليه، فرفض بشدة وكان كما قلنا ضابطًا متقنًا شديد التحري لألفاظه ورواياته للأحاديث، فألحوا عليه أكثر وشتموه، فرد عليهم بكلام شديد أحفظهم، إذ قال لهم:" أي شيء أخرج؟ حديث اللهم: لا تشبع بطنه"، وهو حديث صحيح أخرجه الإمام مسلم في صحيحه وكذلك أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده، ولكن ليس للنسائي سند في مروياته ليخرجه به ويحدثه للناس.
ولأن الجهل والتعصب يعمي البصائر، ويسوّد النفوس، فقد اعتبر الجهلة والمتعصبة لبني أمية أن النسائي شيعياً رافضياً، فسبوه وشتموه، وقاموا بجره من رجليه لخارج المسجد، وكان شيخاً كبيراً جاوز الثمانين، فلم يحتمل مثل هذه الإهانة الجسدية والنفسية، ومما زاد الطين بلة، ما ورد عن قيام بعض الجهلة والمتعصبة بضربه في خصيته ضربة مميتة، فحُمل الإمام النسائي مريضاً مدنفاً، فلما أفاق قال لمن معه: "احملوني إلى مكة كي أموت بها، ولكن القدر كان أسرع من مراده وبغيته، فمات في 13 صفر سنة 303هـ، فرزقه الله -عز وجل- حياة هنية وميتة سوية، وختم حياته بصيانة علمه وأحاديثه، وعده كثير من أهل العلم من الشهداء، ونعم الشهيد هو الذي يموت على يد الجهال والدهماء والأغبياء المتعصبة الذين لا يعرفون الحق من الباطل والعالم من الظالم.
هل كان الإمام النسائي شيعياً؟

من خلال البحث والدراسة لحياة المحدث النسائي وتراثه العلمي ومؤلفاته ومشايخه، لا يستطيع الباحث أن يقف عن أي دليل يقود إلى شبهة اتهام الإمام العظيم بالتشيع.
فمشايخه الذين تلقى عنهم العلم والحديث، أو الذين اتصل بهم من غير أساتذته من زملائه وأقرانه ليس فيهم من عرف بالتشيع أو كان شيعياً، حتى يظهر أثره في نفس النسائي بوضوح، كما أنه شافعي المذهب كما جاءت به النصوص التاريخية، وذكره تاج الدين السبكي في الطبقة الثالثة من طبقات الشافعية الكبرى وسبقه إلى هذا غيره من المؤرخين دون استثناء.

علماء الشيعة لهم موقف معروف من مرويات الصحابة -رضوان الله عليهم-، فهم يرفضونها جملةً وتفصيلاً، ولا يعتدون إلا بمرويات آل البيت من وجهة نظرهم فلا يوجد عالم حديث شيعي بالمعنى الاصطلاحي عند أهل السنّة. وكتب النسائي ومؤلفاته كلها مروية عن الصحابة جميعاً دون استثناء بمن فيهم معاوية -رضي الله عنه-، فكيف يقبل القول فيه بالتشيع حتى يتهم به، بل ويقتل بها.
موقف الإمام النسائي من معاوية -رضي الله عنه- غير ما هو ما يعتقده كثير من الجهلة والمتعصبة، فهو يحترم الصحابة جميعاً بمن فيهم معاوية، ففي "تاريخ ابن عساكر" لما سئل عن معاوية، قال: "الإسلام كدار لها باب فباب الإسلام الصحابة فمن آذى الصحابة إنما أراد الإسلام، كمن نقر الباب إنما يريد الدخول، قال: فمن أراد معاوية فإنما أراد الصحابة".
لماذا وصف بعض مؤرخي الإسلام النسائي بالتشيع؟

ورد وصف النسائي بالتشيع اليسير في عدد من كتب التاريخ والسير والتراجم منها:
قال ابن كثير: قيل عنه: "إنه كان ينسب إليه شيء من التشيع"، وقال الذهبي: "إلا أن فيه قليل تشيع وانحراف عن خصوم الإمام علي، كمعاوية وعمرو، والله يسامحه"، وقال ابن خلكان: "إن أبا عبد الرحمن فارق مصر في آخر عمره، وخرج إلى دمشق، فسئل عن معاوية وما روي من فضائله، فقال: أما يرضى معاوية أن يخرج رأساً برأس، حتى يفضل وفي رواية أخرى: ما أعرف له فضيلة إلا لا أشبع الله بطنك. وكان يتشيع"، وقال ابن تيمية: "وتشيع بعض أهل العلم بالحديث، كالنسائي وابن عبد البر وأمثالهما لا يبلغ إلى تفضيل علي على أبي بكر وعمر، ولا يعرف في أهل الحديث من يقدمه عليهما".
مناقشة هذه الدعوى:
قول ابن كثير عنه:" إنه كان ينسب إليه شئ من التشيع"، عبارة تشير الى تضعيف التهمة أو عدم ثبوتها لأن كلمة (قيل) من كلمات التضعيف أو عدم ثبوت الخبر وعبارة (شيء من التشيع) عبارة تفيد التقليل وليس المذهب أو الالتزام بمذهب الشيعة. وربما كان الشيء اليسير من التشيع هو موقف سياسي في تلك الفترة التي سيطر فيها أنصار معاوية -رضي الله عنه- على مقاليد السلطة فكانت التهمة بالتشيع تطلق لتصنيف المعارضين حتى ولو لم يلتزم بمنهج الشيعة.
قول الإمام الذهبي: "إلا أن فيه قليل تشيع وانحراف عن خصوم الإمام علي، كمعاوية وعمرو، والله يسامحه". الإمام الذهبي في تراجمه يذكر عبارة (فيه قليل تشيع) كثيراً عندما يترجم لكثير من العلماء في تلك الفترة والتي كانت قمة الصراع بين الطائفتين، وهي عبارة لا تضفي على من أطلقت عليه، قصة التشيع بمعناها المذهبي وإليك بعضاً من كبار العلماء السنة الذين أطلق عليهم الذهبي هذه العبارة:
ترجم للحاكم أبي عبد الله النيسابوري وجاء في ترجمته (وكان فيه تشيُّع وحطّ على معاوية. وهو ثقة حجة. توفي في صفر". وترجم لطاووس ابن كيسان فقال في ترجمته: "قلت: إن كان فيه تشيع، فهو يسير لا يضر إن شاء الله "، وترجم منصور بن المعتمر من ثقات التابعين فقال: "تشيع قليل وكان قد عمش من البكاء. قلت: تشيعه حب وولاء فقط."، وترجم لشيخ الإسلام، إمام الحفاظ، سيد العلماء العاملين سفيان الثوري فقال:
"من أئمة الدين، واغتفر له غير مسألة اجتهد فيها، وفيه تشيع يسير".

وغيرهم الكثير من كبار العلماء الذين أطلق الذهبي عليهم هذه العبارة، ومع أخذنا بالاعتبار إنصاف وعدل الذهبي في ترجمته نأخذ العبارة على (الحب والولاء فقط) وليس للمذهب الشيعي. ومما يؤكد ما ذهبت إليه عبارة ابن تيمية المذكورة أعلاه حيث قال:" وتشيع بعض أهل العلم بالحديث، كالنسائي وابن عبد البر وأمثالهما لا يبلغ الى تفضيل علي على أبي بكر وعمر، ولا يعرف في أهل الحديث من يقدمه عليهما". وعبارة ابن تيمية مستند براءة لنفي التشيع بمعناه المذهبي عن النسائي.
الفرق بين التشيع والرفض:
التشيع بمعناه المعروف عند سلف الأمة ليس مرادفاً للرفض، فالتشيع وجد عند بعض علماء السلف وأئمتهم، والتشيع عندهم كان على معنيين: الأول: غض الطرف عن ذكر معاوية -رضي الله عنه- بالكلية لا سلباً ولا إيجاباً، ومنهم النسائي وابن عبد البر والحاكم وغيرهم. والثاني: تقديم علي على عثمان -رضي الله عنهما-، مثل الثوري ووكيع وعبد الرازق وكثير من علماء الكوفة واليمن، وليس أحد منهم قاطبة يفضل علياً على أبي بكر وعمر -رضي الله عن الجميع-.
أما الرفض فكله ذم وشر وبدع وزندقة وانحلال وخروج عن الإسلام، بل يكاد أن يكون ديناً مستقلاً تماماً، ولا يوجد أحد من علماء الإسلام ينسب إلى الرفض.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 21-03-2025, 09:29 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,335
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صور من محن علماء المسلمين عبر التاريخ ..... يوميا فى رمضان .



محنة الإمام ابن حِبَّان
شريف عبدالعزيز الزهيري
(21)



خلال دراستنا التاريخية لأحداث وفعاليات المحن والابتلاءات التي تعرض لها علماء الأمة وجدنا أن غالبية هذه المحن كانت بسبب الحسد والتعصب المذهبي، أو بسبب فتوى أو قول أو رأي قال به العالم المبتلى، أو بسبب الثبات على الحق والجهر به، والتصدي للظلم والظلمة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهكذا، ولكن أن يبتلي العالم ويمتحن امتحانًا شديدًا، ويكفر ويهدر دمه بسبب كلمة قالها، لم يرد بها إلا الخير والحق؛ فهذه حقًا تعتبر من أعجب المحن؛ وهو عين ما جرى للإمام ابن حبان البستي.
التعريف به:

هو الإمام العالم العلاَّمة، الحافظ المجود، شيخ خراسان، أحد أوعية العلم الكبار، ورجل من كبار رجالات الحديث: أبو حاتم محمد بن حِبَّان البستي، صاحب الكتب الشهيرة، والمصنفات الفائقة، ولد في مدينة بُست من أعمال سجستان في خراسان [مدينة الآن في إيران] سنة 273هـ، فأخذ في طلب الحديث منذ بواكيره، وخرج على عادة طلاب الحديث لرحلة علمية كبيرة وواسعة لسماع الحديث من شيوخه وأعلامه في شتى أرجاء الدولة الإسلامية؛ فطاف أولاً أقاليم خراسان كلها، ثم العراق، ودخل مصر والشام، والسواحل والحجاز واليمن، حتى إنه قد حمل العلم والحديث
عن أكثر من ألفي شيخ، فيا لها من همة عالية رفعته لمصاف علماء الأمة الكبار، وحفاظها المعروفين.
مصنفاته:

لابن حبان مصنفات كثيرة وشهيرة لم يبق منها للأسف الشديد سوى النذر اليسير، أشهرها على الإطلاق كتاب الأنواع والتقاسيم، الذي أطلق عليه أهل العلم اسم: (المسند الصحيح)؛ وهو كتاب لا يقدر على الكشف منه إلا من حفظه تمامًا وقد التزم ابن حبان فيه بنظام دقيق، قال هو عنه في مقدمته: (شرطنا في نقله ما أودعناه في كتابنا ألا نحتج إلا بأن يكون في كل شيخ فيه
خمسة أشياء: الأول: العدالة في الدين بالستر الجميل، الثاني: الصدق في الحديث بالشهرة فيه، الثالث: العقل بما يحدَّث من الحديث، الرابع: العلم بما يحيل المعنى من معاني ما روى، الخامس: تعري خبره من التدليس).
كما أن له كتبًا أخرى مشهورة: مثل التاريخ، والضعفاء، العلل، مناقب الشافعي، موقوف ما رُفِعَ، الهداية، وكتبًا كثيرة ضاعت بسبب فساد الأحوال؛ ذلك لأنه قد أوقف كتبه كلها لطلبة العلم في دار، فلما انتشرت الفتن والاضطرابات، وضعف أمر الخلافة والسلطان، استولى المفسدون على داره، وضاعت كتبه العلمية.

ثناء الناس عليه:
لابن حبان مكانة كبيرة، ومنزلة عالية في سماء علم الحديث، بحيث إنه كان ممن يشد إليه الرحال لسماع كتبه وأسانيده، وقد اعترف له معاصروه، ومن جاء بعده بالعلم والفضل والتقدم؛ فهذا تلميذه أبو عبدالله الحاكم، وهو من كبار علماء الحديث، وصاحب كتاب المستدرك، يقول عنه: (كان ابن حبان من أوعية العلم في الفقه واللغة، والحديث والوعظ، ومن عقلاء الرجال، وقد أقام عندنا في نيسابور، وبنى الخانقاه (مثل المدرسة)، وقرئ عليه جملة من مصنفاته، ثم خرج إلى وطنه سجستان عام 340هـ، وكانت الرحلة إليه لسماع كتبه).

وق
ال عنه الحافظ أبو سعد الإدريسي: (كان ابن حبان من فقهاء الدين، وحفاظ الآثار، عالما بالطب وبالنجوم [يقصد الفلك] وفتون العلم، وقد صنف المسند الصحيح، وقد تولى قضاء سمرقند زمانًا؛ فنشر الفقه والعلم هناك بين الناس).
وقال عنه الخطيب البغدادي: كان ابن حبان ثقة نبيلا فهمًا.
ولو أن ابن حبان ما أقدم على توثيق المجاهيل في مسنده لارتفع شأن هذا المسند إلى مصاف الكتب الستة، وأيضًا لزادت مكانته ودرجته في مصاف العلم والعلماء.
محنته:

تعتبر المحنة التي تعرض لها الإمام ابن حبان، وكادت تودي بحياته، وتقضي على تراثه وعلمه من أعجب المحن والفتن التي يتعرض لها أحد من أهل العلم، وتدل على مدى خطورة الجهل بمعاني الألفاظ ومدلولاتها، وأيضًا تدل على مدى خطورة تحميل الألفاظ والأقوال من أوجه الكلام ما لا تحتمله، ولا يتفق مع دين وعقيدة ومكانة قائلها، ويحضرنا عند الحديث عن محنة ابن حبان العجيبة مقولة الإمام مالك الشهيرة: إذا قال الرجل قولا يحتمل الكفر من تسعة وتسعين وجهًا، والإيمان من وجه واحد حملناها على الإيمان، لأنها تكاد تنطبق على هذه المحنة الغريبة.
ومفاد الحادثة أن الإمام ابن حبان أثناء إلقائه لأحد الدروس في نيسابور سئل عن النبوة فقال: النبوة ((العلم والعمل))، وكان يحضر مجلسه بعض الوعاظ؛ فقام إليه واتهمه بالزندقة، والقول بأن النبوة مكتسبة، وارتفعت الأصوات في المجلس، وهاج الناس بين مؤيد للتهمة، ونافٍ لها، وخاضوا في هذا الخبر على كل وجه، حتى كتب خصوم ابن حبان محضرًا بالواقعة، وحكموا عليه بالزندقة،
ومنعوا الناس من الجلوس إليه، وهُجر الرجل بشدة، وبالغوا في أذية ابن حبان، وتمادوا في ذلك حتى كتبوا في أمر قتله وهدر دمه إلى الخليفة العباسي وقتها، فكتب بالتحري عن الأمر، وقتله إن ثبت عليه التهمة، وبعد أخد ورد اتضحت براءة ابن حبان، ولكنهم أجبروه على الخروج من نيسابور إلى سجستان، وهناك وجد أن الشائعات تطارده، والتهمة ما زالت تلاحقه، وتصدى له أحد الوعاظ هناك، واسمه يحيى بن عمار، وظل يؤلب عليه حتى خرج من سجستان، وعاد إلى بلده ((بست))، وظل بها حتى مات رحمه لله مهمومًا محزونًا من الأباطيل، وتهم الزندقة والإلحاد.

ولكن هل مجرد كلمة واحدة تجلب على هذا العلم الفذ كل هذه المتاعب؟ ونحن نقول: إن هذه الكلمة وأمثالها قد تفعل مثل ذلك وزيادة إذا ألقيت على أسماع من لا يفهم اللغة ومدلولاتها، وأيضًا إذا ألقيت على أسماع الحاسدين والموتورين، الذين يتربصون بأمثال هذا العالم العلامة الدوائر، وينتظرون أية مناسبة وفرصة، ولو بشطر كلمة للنيل منه.
فإن كلمة: النبوة العلم والعمل يقولها المسلم، ويقولها الزنديق، يقولها المسلم ويقصد بها مهمة النبوة، إذ من أكمل صفات النبي العلم والعمل، فما من نبي قط إلا وهو على أكمل حال من العلم والعمل، وليس كل من برز فيهما نبيًا، لأن النبوة محض اصطفاء من الله عز وجل، لا حيلة للعبد في نيلها، ولا اكتسابها، وابن حبان لم يرد حصر المبتدأ في الخبر، وذلك نظير قوله صلى الله عليه وسلم: ((الحَجُّ عَرَفَةُ))، ومعلوم أن عرفة هو ركن الحج الأعظم، ولكن لا يكفي وحده حتى يصير العبد حاجًّا، بل هناك أركان وفروض أخرى لشعيرة الحج، ولكن عرفة ركن الحج الأعظم، كما أن العلم والعمل مهم للنبوة، وهذا ما قصده وأراده ابن حبان، وهذا ما يجب أن يحمل كلامه عليه، وهذا اللائق؛ بمكانته وعلمه، وأيضًا اللائق بخلق المسلم الصادق الذي يحسن الظن بإخوانه المسلمين، وأيضًا هذه الكلمة يقولها الفيلسوف الزنديق وهو يقصد بها أن النبوة مكتسبة، ينتجها العلم والعمل، وكثرة الرياضات والمجاهدات، وهذا كفر مخالف للقرآن وللسنة، وإجماع المسلمين، وهذا ما لا يريده ابن حبان ولا يقصده أبدًا، وحاشاه، فهو من كبار علماء الأمة وأئمتها، ولكن الجهل والحقد والحسد أعمى قلوب معارضيه حتى خاضوا فيه، وأجبروه على الرحيل من مكان لآخر حتى استقر في بلده وبها مات، وما أشبه هذه الحادثة بما جرى للبخاري؛ فرحم الله الرجلين، وأجزل لهما المثوبة، وجعل من أبناء الأمة من يذبون عن أعراضهم، ويدفعون عنهم الأباطيل والأكاذيب، ويكشفون بطلان تهم خصومهم، ويعرفون أبناء المسلمين حقيقة علماء هذا الدين.

المصادر والمراجع:
• سير إعلام النبلاء: (16/ 92).
• البداية والنهاية: (11/ 276).
• الكامل: (7/ 291).
• تذكرة الحفاظ: (3/ 920).
• العبر: (2/ 300).

• طبقات الشافعية: (3/ 130).
• شذرات الذهب: (3/ 16).

• النجوم الزاهرة: (3/ 342).
ترويض المحن: دراسة تحليلية لهم المحن التي مرَّ بها كبار علماء الأمة، دار الصفوة بالقاهرة، 1430هـ، 2009م



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 22-03-2025, 12:12 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,335
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صور من محن علماء المسلمين عبر التاريخ ..... يوميا فى رمضان .



الإمام أبو يعقوب يوسف بن يحيى البويطي
شريف عبدالعزيز الزهيري
(22)



تاريخ الأمة المحمدية زاخر بالمواقف والمشاهد التي تكررت عبر عصور هذه الأمة، والتي تحكي وتكشف لنا عن حقيقة العلماء الربانيين، والأئمة الكبار، الذين يعلمون يقينًا الدور المنوط بهم، وتبعات هذا الدور الشريف؛ لذلك فإننا نعجب كثيرًا إذا ما رأينا أن رد فعل العلماء والأئمة الكبار واحد أمام المحن والفتن والابتلاءات، فردهم وجوابهم واحد، وشعارهم واحد، فديدن حياتهم الثبات حتى الممات، والأخذ بالعزمات، والإعراض عن الرخص، لا لشيء إلا لأنهم قدوات متبوعون، وبترخصهم يترخص الكثيرون، وبسقوطهم يسقطون، وهذه محنة واحد من هؤلاء الأئمة
الأعلام.
التعريف به:

هو الإمام العلامة، سيد الفقهاء، وكبير الشافعية، جبل العلم، أبو يعقوب يوسف بن يحيى القرشي البويطي، أخص تلاميذ الإمام الشافعي، وأنجبهم، وأقربهم لقلبه، وأعلمهم، وخليفته في حلقته بعد وفاته.

لا يُعلم على وجه التحديد متى ولد، ولكنه يرجع لأرومة قرشية أصيلة، أما نسبه البويطي فيرجع إلى قرية بويط بصعيد مصر؛ حيث استقرت أسرته منذ أيام الفتح الإسلامي للبلاد.
تلقى العلم في بداية حياته في قريته بويط، ثم انتقل إلى الفسطاط مع أبيه، وجلس لعبد الله ابن وهب شيخ المالكية في مصر، وحمل عنه علمًا كثيرًا؛ فلما دخل الشافعي رحمه لله إلى مصر سنة 198هـ لنشر علمه جلس إليه البويطي، فانبهر بعلمه؛ فلازم مجلسه ولم يفارقه، وتخرج به، وكان ذا حظ وافر من الفهم والذكاء؛ فصار أكبر أصحاب الإمام الشافعي، وأكثرهم فهمًا لدقائق مذهبه
ومسائله، حتى إنه لما مات الإمام الشافعي سنة 204هـ جلس البويطي مكانه في الحلقة، وتصدر وأفتى، وناظر وألف؛ وذلك كله وهو في شرخ الشباب.
ثناء الناس عليه:

لقد كان الإمام البويطي من الأئمة الأعلام، المقتدى بهم في العلم والعمل؛ فلقد كان إمامًا في العلم، قدوة في العمل، زاهدًا ربانيًا، متهجدًا، دائم الذكر والعمل، ولنسمع
ثناء أستاذه وإمامه الشافعي، وكلامه فيه لنعلم مدى مكانة هذا الإمام؛ فقد قال عنه الإمام الشافعي: ليس في أصحابي أحد أعلم من البويطي، وكانت المسائل تأتي الشافعي فيحيلها على البويطي ليجيب عليها، وقال مرة للمعترض على ذلك: البويطي لساني الذي أتكلم به، حتى إنه كان يرسله مع رجال الوالي من الحرس والشرط لردع العصاة، والاحتساب على الماجنين والفاسقين، ولما أوشك الإمام الشافعي على الموت سألوه عمن يرث مجلسه، فقال: ليس أحدًا أحق بمجلسي من يوسف، يقصد: البويطي.
وقال عنه قرينه ونظيره في حلقة الشافعي،
الإمام الربيع بن سليمان: كان البويطي أبدًا يحرك شفتيه بذكر الله، وما أبصرت أحدًا أنزع بحجة من كتاب الله من البويطي، وكان يسرد الصوم، ويختمفي الأسبوع الواحد عدة مرات، وكان من رجال العامة: يقوم مع الناس في حاجاتهم، وله صنائع المعروف مع الناس أجمعين.
قال عنه الإمام الذهبي: كان إمامًا في العلم، وقدوة في العمل، زاهدًا، ربانيًا، متهجدًا دائم الذكر والعكوف على الفقه.
قال عنه جاره ابن أبي الجارود: كان البويطي جاري، فما كنت أنتبه ساعة من الليل إلا سمعته يقرأ ويصلي.
قال ابن خلكان: البويطي صاحب الشافعي رضي الله عنه كان واسطة عقد جماعته، وأظهرهم نجابة، وكان صالحًا متنسكًا، عابدًا زاهدًا.
محنته:

يعتبر الحسد هو المحرك الرئيسي للمحنة التي وقعت للإمام البويطي، والتي أدت في النهاية إلى مصرعه رحمه الله بطريقة مأساوية، وإن كان هو نفسه رحمه الله قد جعل من محنته تلك مثلا من أروع أمثلة الثبات على الحق، والصبر واليقين.

فلقد مر بنا أن البويطي كان من أكبر وأعلم تلاميذ الإمام الشافعي رحمه الله، وقد فاق أقرانه في حلقة الشافعي؛ لدرجة أن المسائل كانت ترد إلى الشافعي فيطلب من البويطي الإجابة عليها، وأقرانه شاهدون لذلك، وكان يقول لمن يلومه في تقديم البويطي: إنه أعلم أصحابي، ولساني الذي أتكلم به، وكلها أمور كانت تحرك مكنونات الصدور، والحسد بين الأقران أمر مشهور، معروف عبر الدهور.

فلما اشتد المرض على الإمام الشافعي ولم يقدر على الجلوس للعلم تنازع تلاميذ الإمام في من حلقته بالمسجد، وكانت أكبر وأعظم حلقة وقتها، وكان تنازع فيها ثلاثة: البويطي، ومحمد بن عبد الحكم، والمزني، والثلاثة هم أكبر تلاميذ الإمام، وكان البويطي أحقهم: لعلمه وفقهه، ووصلت أخبار هذه المنازعة للإمام وهو على فراش المرض، فقال لأحد تلاميذه - واسمه الحميدي، وكان من أئمة الحديث والأثر، وأصله من الحجاز - قال له الشافعي: ليس أحد أحق بمجلسي من يوسف، ليس أحد في أصحابي أعلم منه؛ فانطلق الحميدي إلى الثلاثة، وأخبرهم بقول الإمام، فانظر
كيف كان رد فعل ابن عبد الحكم، وكان من أشد الثلاثة حرصًا على المنصب!!

عندما سمع ابن عبد الحكم ذلك الكلام انكسر له بشدة وغضب، وقال للحميدي: كذبت، فرد عليه الحميدي، وكان أكبر منه سنًا وقدرًا: بل كذبت أنت، وتنازعا الكلام حتى انتهى لأن جلس البويطي مكان شيخه وإمامه الشافعي، وأكلت الغيرة والحسد قلب محمد بن عبد الحكم حتى فارق مجلسهم، بل فارق مذهب الشافعي بالكلية، وعاد إلى مذهبه القديم - المالكي - ونال فيه
مراده، وصار شيخ المالكية في زمانه، وصار شديدًا على الإمام الشافعي، حتى صنف كتابًا في الرد على الشافعي، على الرغم من أن الإمام الشافعي كان يحبه كثيرًا، حتى إنه قد كان يتمنى أن يولد له ولد مثل ابن عبد الحكم هذا، ولكنها الغيرة، ومنافسة الأقران، التي أدت لذلك كله.
توفي الشافعي رحمه الله سنة 204هـ، وجلس البويطي وتصدر وقد حان أوانه؛ فصار كبير الشافعية، وإليه المنتهى في فقه الإمام، وأقبل هو على العلم والعبادة، وإرشاد الناس ونصحهم، والناس تبع
له، يحبونه ويجلونه، حتى قدر أتباع الشافعية في أيامه بعشرات الآلاف من أهل مصر.
في تلك الفترة أخذت بدعة القول بخلق القرآن في الظهور شيئًا فشيئًا على يد دعاة الاعتزال، حتى استطاعوا العبث بعقل الخليفة العباسي المأمون، وأقنعوه بتلك البدعة الشنيعة، وحملوه على امتحان الناس، وإجبار العلماء على ذلك، وذلك كما مر بنا الحديث أثناء محنة الإمام أحمد بن حنبل، فلما تولى الخلافة الواثق بن المعتصم العباسي سنه 227هـ كان من أشد الناس قولا بتلك
البدعة، وقد استحوذ قاضي المحن كلها أحمد ابن أبي دؤاد على عقله وقلبه، فلم يقطع الواثق قولا، ولا يصدر رأيًا إلا بمشورة هذا الضال الهالك أحمد بن أبي دؤاد.
استغل أحمد بن أبي دؤاد طاعة الواثق العمياء له؛ فوضع خطة واسعة لنشر تلك البدعة الخبيثة في كل البلاد الإسلامية، وبالفعل شرع في تنفيذها، وأقنع الواثق بعزل كل القضاة والأئمة والولاة الذين لا يقولون بتلك البدعة، وجعل مكانهم قضاة وولاة وأئمة من المعتزلين، القائلين بخلق القرآن، وأصدر أوامره لمعلمي الصبيان في الكتاتيب والمدارس لأن يلقنوا الصبيان الصغار عقيدة
الاعتزال، ووصل الأمر ذروته حتى امتحنوا أسرى المسلمين عند الروم: فمن قال بخلق القرآن افتدوه، ومن لم يقل تركوه في الأسر عند الكفار، وبالجملة غلت البلاد بتلك البدعة الخبيثة، وفارت بها أقاليم الخلافة كلها.

في ذلك الجو الخانق والمشحون بالبدع والضلالات ينشط الوشاة، وأصحاب النفوس المريضة من الحاسدين والحاقدين، وانتهز البعض الفرصة لتصفية الحسابات، والقضاء على الكفاءات، وكان
قاضي المحنة أحمد بن أبي دؤاد يتتبع الأئمة والعلماء وكبار المشايخ، ويعمل جاهدًا على إسكاتهم بأية صورة كانت، وبالترغيب أو بالترهيب، كلٌ حسب صموده وصبره، فانتهز ذلك الأمر بعض الحاسدين للإمام البويطي: وهم أبو بكر الأصم قاضي مصر، وكان معتزليًا، ورجل آخر، وهو بكل أسف وحزن عبد الله بن الإمام الشافعي نفسه، وكان مخالفًا لسيرة أبيه تمامًا، وقام الرجلان بالكتابة إلى قاضي المحنة أحمد بن أبي دؤاد في شأن البويطي وعقيدته السلفية، ومعارضته للقول بالبدعة الشنيعة، وعظَّما جدًا من خطورة البويطي على البدعة وأهلها.
كتب ابن أبي دؤاد إلى والي مصر يأمره بامتحان الإمام البويطي، وكان الوالي حسن الرأي فيه، ويحبه لعلمه وورعه؛ فقال له: قل فيما ببني وبينك، أي طلب منه التظاهر بالموافقة فقط ليأمن غائلة الطاغية ابن أبي داود، فإذا بالإمام البويطي يضرب أروع الأمثلة في فهم مكانة الإمام، وطبيعة الدور الذي يؤديه في قيادة الأمة وقت النوازل، وأبى أن يترخص في الأمر، وعمل بالعزيمة كما فعل أخوه الإمام أحمد بن حنبل، وقال للوالي المشفق عليه: إنه يقتدي بن مائة ألف، لا يدرون أني أتظاهر فقط بالموافقة، وإن أجبت أجابوا هم أيضًا؛ فلما علما الطاغية ابن أبي دؤاد أمر بالقبض
عليه، وحمله مقيدًا في الحديد الثقيل من الفسطاط إلى بغداد، وذلك سنة 230هـ.

ولنا أن نتخيل حجم المعاناة الشديدة، والمحنة الكبيرة التي كان فيها البويطي طوال الرحلة من الفسطاط إلى بغداد، وهو مقيد بسلسلة حديدية وزنها أربعون رطلا كما حكى لنا زميله وقرينه الربيع بن سليمان، في مشهد هو الأروع في تاريخ المحن، وصبر العلماء عليها.
قال الربيع: لقد رأيت الإمام البويطي على بغل في عنقه غل، وفي رجله قيد، وبينه وبين الغل سلسلة فيها لبنة وزنها أربعون رطلا، وهو يقول - أي البويطي -: إنما خلق الله الخلق بـ (كن)؛ فإذا كانت مخلوقة، فكأن مخلوقًا خلق بمخلوق، ولئن أدخلت عليه - يعني الخليفة الواثق - لأَصْدُقَنَّهُ: أي أقول الصدق، ولا أخاف منه، ولأموتن في حديدي هذا حتى يأتي قوم يعلمون أنه قد مات في هذا الشأن قوم في حديدهم.
ما أروع تلك الكلمات، والله إنها لتستحق أن تكتب بماء من ذهب، وحروف من نور في تاريخ علماء الأمة، ليتعلم منه العلماء والدعاة في كل زمان ومكان والصبر والثبات واليقين، والفداء والتضحية من اجل هذا الدين؛ فالبويطي رغم الإهانة العظيمة، والمحنة الشديدة أرسى العديد من المعالم الهامة، والعظات البالغة لعلماء الأمة أثناء المحن والنوازل منها:
1- جهره بالحق، وصدعه به رغم الآلام النفسية والبدنية الشديدة.

2- تعليمه للناس العقيدة الصحيحة، ودحض الباطل، حتى وهو في قمة المحنة في القيود والأغلال.
3- شجاعته وجرأته في الشدائد، وتمسكه بالصدع من القول حتى ولو كان أمام الخليفة الحاكم نفسه.
4- بذل نفسه وروحه لله عز وجل، والاستقبال لله عز وجل، وإصراره على الحق والثبات على الدين حتى الموت، ولو في السجون والأغلال.

5- حرصه على تعليم أجيال العلماء الآتية الفداء والتضحية من أجل الدين، حتى يعلموا كيف يواجهوا الشدائد والمحن.
فيالها من دروس وعظات كثيرة ضربها لنا ذلك الإمام الفذ.

وفاته:
حمل البويطي في القيود والأغلال من الفسطاط إلى بغداد، وكان طوال الرحلة الطويلة الشاقة يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر ويدحض البدع؛ مما جعل غيظ الطاغية ابن أبي داود يشتد عليه؛ فما
كاد الإمام أن يصل إلى بغداد حتى أمر ابن أبي داود بإلقائه في غياهب السجون، والتشديد عليه، ولم يمتحنه كما فعل مع غيره من العلماء، ولم يدخله على الخليفة كما هي العادة مع كبار العلماء خوفًا من أن يقنع الواثق بالحق، ويرده عن البدعة.
ظل البويطي في ظلمات السجون عدة شهور كان فيها مثالا للعالم الرباني، سائرًا على درب يوسف عليه السلام، يعلّم المساجين أمور دينهم، ويناظر المبتدعة، وكان في كل يوم جمعة يتطهر ويأتي
باب زنزانته ويطلب الخروج لأداء الجمعة، والسجان يردده فيقول: والله إنك تعلم أن المنع ليس مني، وظل دأبه هكذا فترة.
حاول ابن أبي دؤاد الضغط على الإمام البويطي حتى يكسر جموده وصبره، وحاول إرسال بعض المعتزلة لإقناعه فلم ينجح، وظل البويطي جبلا شامخًا، وطورًا عظيمًا أمام المحنة، عندها أمر الطاغية بتشديد الأغلال والقيود عليه حتى أنهم قد لفوه بالحديد من أعلاه إلى أدناه، واشتد الأمر على البويطي فلم يعد قادرا على الحركة إلا ببطء شديد، ومعاناة كبيرة، وأثر ذلك على نفسية الإمام،
ذلك أنه لم يعد قادرًا على التطهر والوضوء والصلاة إلا بشق الأنفس، وعرف أعداؤه كيف ينالون منه، في أعز ما يملك: طاعته وعبادته لله عز وجل، وها هو الإمام البويطي يصف لنا حاله برسالة

بعث بها للإمام الذهلي، وهو من كبار علماء الحديث في خراسان قال فيها: يا أبا يحيى قل لإخواني أصحاب الحديث، وطلبة العلم أن يدعو الله عز وجل أن يفك كربتي، فلقد كبلوني بالحديد حتى إني لم أعد أتطهر وأصلي كما ينبغي، عسى الله أن يفرج عني ما أنا فيه بدعائهم.
فلما قرأ الإمام الذهلي الرسالة على طلبة الحديث في حلقته بكى وبكوا جميعًا، وضجوا في الدعاء له.
سرعان ما استجاب الله عز وجل لهم، كأنا بأسباب السماء كانت مفتوحة وقتها، وخرجت دعوة المظلوم المكلوم لربها الذي سبق منه القول واليقين بإجابتها ولو بعد حين، نعم جاء الفرج للإمام البويطي من رب السماء، وأخرجه ربه عز وجل من السجن الكبير، أخرجه من سجن الدنيا التي لاقى من أهلها العنت والحسد والوشاية، أخرجه إلى الأفق الرحب، والسعادة السرمدية والراحة
الأبدية، أخرجه إلى جنات تجري من تحتها الأنهار، فيما نحتسبه عند الله عز وجل، مات الإمام البويطي في سجنه وقيوده وحديده، وخرجت روحه الطاهرة إلى ربها تشتكي ظلم الطغاة والوشاة؛ وذلك سنة 231هـ، وقد انتصر على خصومه فما نالوا إلا من دنياه، أما من آخرته فما نالوا إلا ما سيلاقونه غدًا من حسرة وندامة بين يدي الله عز وجل عندما يسألهم بأي ذنب سجنتموه وقتلتموه، والله عز وجل أعلم بالعواقب والخواتيم.

المصادر والمراجع:
1- سير أعلام النبلاء: (12/ 58).
2- تاريخ بغداد: (14/ 299).
3- وفيات الأعيان: (7/ 61).

4- البداية والنهاية: (10/ 333).
5- الكامل في التاريخ: (6/ 89).
6- العبر: (1/ 411).

7- طبقات الشافعية: (2/ 162).
8- النجوم الزاهرة: (2/ 260).
9- شذرات الذهب: (2/ 71).

10- المنتظم: (11/ 174).
ترويض المحن: دراسة تحليلية لهم المحن التي مرَّ بها كبار علماء الأمة، دار الصفوة بالقاهرة، 1430هـ، 2009م





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 23-03-2025, 10:20 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,335
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صور من محن علماء المسلمين عبر التاريخ ..... يوميا فى رمضان .



محنة الإمام ابن حزم الظاهري
شريف عبدالعزيز الزهيري
(23)


ما من عالم عامل إلا وله أدوات وآداب يتعاطى بها العلم طلبًا ودرسًا، وتصنيفًا وتأليفًا، وإلقاءً وتنظيرًا، هذه الآداب والأدوات بمثابة الزاد والمئونة للعالم، يسير بها على طريق العلم، من غير أن يتعرض للأزمات والنوازل، وقد ألفت العديد من الكتب في هذا الباب، منها آداب السامع والمتعلم لابن جماعة قديمًا، وحلية طالب العلم لبكر أبو زيد حديثًا، ويوم أن يتخلى العالم عن بعض أدواته، وينسى بعض آداب طلب العلم؛ فإنه يواجه الكثير من المحن والفتن، التي كان هو في غنى عنها وعن أمثالها، وهذه واحدة من تلك الفتن والمحن التي أدت لقمع واحد من أكبر علماء الإسلام، وأكثرهم تصنيفًا.
التعريف به:
• هو الإمام الكبير، والمجتهد المطلق، بحر العلوم، وجامع الفنون، إمام المذهب الظاهري ومجدده، الفقيه الحافظ، الأديب الوزير، المؤرخ الناقد، صاحب التصانيف الباهرة، الإمام أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي، الشهير بابن حزم الظاهري.

• وُلد في شهر رمضان سنة 384هـ بمدينة الزهراء إحدى ضواحي قرطبة، عاصمة الأندلس، في بيت عز وثراء ووزارة، فأبوه أحمد بن حزم كان أحد وزراء المنصور بن أبي عامر حاكم الأندلس القوي، فنشأ ابن حزم في تنعم ورفاهية، يلبس الحرير، ويتسور الذهب، يطالع الكتب على قناديل الذهب والفضة المضاءة بشموع العنبر والمسك، وقد كان أبوه يعده ليسير على درب الوزارة والرياسة مثله، وكان ابن حزم قد رزق ذكاءً مفرطًا، وذهنًا سيالا، فعكف على دراسة الآداب والأشعار والأخبار، وعلوم المنطق والفلسفة، وهو ما سيؤثر عليه في المستقبل، وليته لم يخض في ذلك الباب.
• وقعت حادثة لابن حزم وهو في أواسط العشرينات من عمره دفعت به إلى طريق العلم الشرعي، حيث تعرض لموقف حرج بان فيه قلة علمه وفقهه، فقرر سلوك طريق العلم والبحث، وترك طريق الوزارة والرياسة، فتفقهه أولا على مذهب الشافعي، ولم يكن مذهبًا رائجًا بالأندلس، فالسوق بها كان للمالكية، ومع تبحره في العلوم الشرعية، ونهمه الشديد في الأخذ من الأصول المباشرة، وصل إلى مرحلة الاجتهاد، وقد أدَّاه اجتهاده إلى نفي القياس كله جليه وخفيه، والأخذ بظاهر النصوص والعموميات الكلية، والقول بالبراءة الأصلية، واستصحاب الحال، وبالجملة جدد القول بالظاهر، وهو المذهب الذي وضعه الإمام داود بن علي بالعراق في القرن الثالث الهجري.
• كان ابن حزم ينهض بعلوم جمة، وفنون كثيرة، مع إجادة تامة للنقل والعرض والتصنيف، وفوق ذلك كله كان شاعرًا مطبوعًا، وأديبًا بليغًا، ومؤرخًا ناقدًا، عاصر فترة عصيبة في الأندلس، طارت شهرته في الأندلس كلها حتى تعدت البحر، ووصلت إلى بلاد المغرب والمشرق، وصار رأسًا من رءوس الإسلام، عديم النظير.
ثناء الناس عليه:

على الرغم من أن المحنة التي نالت ابن حزم كانت تدور على النيل منه، ومن مكانته العلمية، ومصنفاته الباهرة، إلا أن الناس خاضعون لعلومه، وسعة محفوظاته، مُقِرُّونَ بفضله، وهذه طائفة من أقوالهم في الثناء عليه:
• قال الإمام أبو القاسم صاعد بن محمد: كان ابن حزم أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام، وأوسعهم معرفة، مع توسعه في علم اللسان، ووفور حظه من البلاغة والشعر، والمعرفة بالسير والأخبار.
• قال الإمام الغزالي: وجدت في أسماء الله تعالى كتابًا ألفه أبو محمد بن حزم الأندلسي يدل على عظم حفظه، وسيلان ذهنه.
• قال أبو عبد الله الحميدي: كان ابن حزم حافظًا للحديث وفقهه، مستنبطًا للأحكام من الكتاب والسنة، متفننًا في علوم جمة، عاملا بعلمه، ما رأينا فيما اجتمع له من الذكاء وسرعة الحفظ، وكرم النفس والتدين، وكان له في الأدب والشعر نَفَسٌ واسع، وباع طويل.
• قال اليسع الغافقي: أما محفوظة فبحر عجاج، وماء ثجَّاج، يخرج من بحره مرجان الحكم، وينبت بثجاجه ألفاف النعم في رياض الهمم، لقد حفظ علوم المسلمين، وأربى على كل أهل دين.
• قال أبو مروان بن حيان: كان ابن حزم رحمه الله حامل فنونه من حديث وفقه وجدل ونسب، وما يتعلق بأذيال الأدب، مع المشاركة في أنواع التعاليم القديمة من المنطق والفلسفة.
• قال الحافظ الذهبي: بلغ ابن حزم رتبة الاجتهاد، وشهد له بذلك عدة أئمة، وكان ينهض بعلوم جمة، ويجيد النقل، ويحسن النظم والنثر، وفيه دين وخير، ومقاصده جميلة، ومصنفاته مفيدة، وقد زهد في الرئاسة.
مصنفاته:
• هناك اتفاق بين أهل العلم أن أكثر علماء الإسلام تصنيفًا وتأليفًا الإمام ابن جرير الطبري، يليه الإمام ابن حزم الأندلسي، فلقد ترك ابن حزم ثروة علمية ضخمة وشاملة في شتى أنواع الفنون، لا يعلم مثلها إلا من قلة نادرة من فطاحل أهل العلم، وله مصنفات بديعة، ومؤلفات باهرة في الفقه والحديث وأصول الدين، والمذاهب والفرق والتاريخ والأدب والطب، ويأتي على رأس مصنفاته كتاب (المحلي بالآثار) الذي قال عنه العز بن عبد السلام سلطان العلماء: ما رأيت في كتب الإسلام في العلم مثل ((المحلى)) لابن حزم، وكتاب ((المغني)) لابن قدامة، ولابن حزم كتب أخرى بلغت كما قال عن ذلك ولده أبو رافع الثمانين ألف ورقة، ومن أهم كتبه: ((الإيصال في فهم الخصال)) وهو في خمسة عشر ألف ورقة، وكتاب ((الجامع في صحيح الحديث))،


و ((اختلاف الفقهاء))، ((مراتب الإجماع))، ((الإملاء في قواعد الفقه))، ((الفرائض))، ((الفصل في الملل والنحل)) وهو من كتب الفرق الشهيرة، ((مختصر في علل الحديث))، ((طوق الحمامة)) وهو من الكتب المثيرة للجدل، والتي جلبت على ابن حزم كثيرًا من اللوم، ((نقط العروس)) وهو من الكتب الرائعة في التاريخ، وجلب عليه كثيرًا من المحن مع ملوك عصره، ((الرسائل الخمس، أو جوامع السيرة))، ((رسالة في الطب النبوي))، ((الإحكام في أصول الأحكام)) وهو من كتبه الفريدة في بابها، وعلى منوالها نسج من جاء بعده: مثل الآمدي والرازي وابن الحاجب وغيرهم، ((الآثار التي ظاهرها التعارض، ونفي التناقض عنها))، وهو في عشرة آلاف ورقة، وهو من أروع ما كتبه هذا الإمام الفذ العلَّامة، وله مصنفات أخرى كثيرة يضيق المقام بذكرها تدل على سعة علمه، وسيلان ذهنه، وذكائه المفرط، وبصيرته النافذة لأحوال عصره.
محنته:
• ذهب معظم المؤرخين الذين أرخوا لحياة الإمام ابن حزم الظاهري أن السبب الرئيس للمحن المتتالية التي أصابته هو حدة لسانه وقلمه، وأنه لم يتأدب مع الأئمة في الخطاب، وكان إذا عارضه أحد في مسألة صار كالبحر المغرق، والجحيم المحرق، فنفرت منه النفوس، واستحكمت عداوته في القلوب، فألبوا عليه الناس، ومنعوا طلبة العلم من الجلوس إليه، وطورد وشرد عن دياره، وأحرقت كتبه في مَحْضَرٍ عَامٍ بإشبيلية وقرطبة، وعاش منفيًا قرابة العشرين سنة حتى مات رحمه الله.
• ولكن عند التحقيق التاريخي، والتوثيق البحثي للمحن التي تعرض لها الإمام ابن حزم الظاهري نكتشف أن أسباب محنته أكبر وأبعد من شدته النقدية، وحدته وسلاطة لسانه، بل نستطيع أن نقول بكل اقتناع أن حدة لسانه وقلمه ما هي إلا عارض للأسباب الرئيسية التي كانت وراء المحن التي تعرض لها في حياته، وهذه الأسباب الثلاث هي:

1- نشأة ابن حزم وتربيته:
فلقد ولد ابن حزم في بيئه مترفة، وحياة ناعمة، في بيت وزارة ورياسة، وجاه وغنى، ومنذ نعومة أظفاره وأبو يعده ويهيئه للوزارة والزعامة، والمراتب العليا، وقد غرس ذلك في قلبه الصغير، فتربى ابن حزم على الزعامة والقيادة والسيادة، تربى على أن يقود ولا يقاد، يأمر ولا يؤمر، وقد تولى بالفعل الوزارة لعبد الرحمن بن هشام الملقب بالمستظهر الأموي، وهو في أوائل العشرينيات، قد مر ابن حزم بكل تلك المراحل قبل أن يسلك سبيل العلم والبحث والدراسة، فأثرت تلك التنشئة والتربية عليه، وجعلته يفتقد لسياسة العلم التي هي بعض الأحيان أهم أدوات العالم الرباني في نشر علمه، واجتماع الناس عليه، فكان ابن حزم إذا ناظر أحدًا من العلماء لا يبالي إلا بالنصوص الشرعية القطعية، فهو كما أسلفنا من أكبر أئمة الظاهرية، إن لم يكن أكبرهم، وكان يرد قول أي عالم مهما كانت درجته ومنزلته، ويسفه رأيه، ويقذع في نقده، طالما لم يستصحب لرأيه دليلا من القرآن والسنة، وكان لا يعرف تعريضًا ولا تورية، بل يلقى قوله ورأيه كالحجر الثقيل، بلا تزيين ولا تهذيب، وتلك الصراحة الفجة إنما تولدت في نفس ابن حزم بسبب تربيته الأولى، ونشأته القيادية في البداية.
2- مذهبية أهل الأندلس:

فلقد كان أهل الأندلس كبيرهم وصغيرهم، عالمهم وعاميهم متمذهبًا بالمالكية، وكان هو المذهب السائد بالأندلس منذ أيام الدولة الأموية التي أسسها عبد الرحمن الداخل، أو صقر قريش، وكانوا لا يعرفون إلا مُوَطَّأ مالك، وما عداه من مذاهب وكتب ومصنفات للحديث أو غيره كانت مهجورة أو مجهولة، ولقد عانى الإمام بقي بن مخلد رحمه الله والمتوفى سنة 276هـ من قبل من جمود علماء الأندلس، وانغلاقهم على مذهب المالكية فقط، وكان الإمام بقي بن مخلد قد أدخل حديث النبي صلى الله عليه وسلم إلى تلك البلاد، ويفتي بالأثر، وعلماء الأندلس لا يخرجون عن قول مالك وتفريعاته، فقاموا عليه ويدعوه، ورموه بالزندقة، وأغروا به السلطان، وجرت له محن كثيرة، وخطوب كبيرة نصره الله فيها، وأعلى ذكره وأمره.
ولما بدأ ابن حزم في طلب العلم اختار المذهب الشافعي، وبرع فيه، وناظر عليه، وفي تلك الفترة تعرض ابن حزم لنقد شديد من مالكية الأندلس، وضيقوا عليه كثيرًا، فلما
تحول ابن حزم للمذهب الظاهري، وترقى في سلم العلوم، وتوَّسع وتبحر، وصار من المجتهدين الذين لا يتقيدون بمذهب، زادت حدة النقد حتى وصلت لحملات حربية، ووقائع ومشاهد، استخدم فيها المالكية شتى الأساليب لتنفير الناس عن ابن حزم، وتبغيضه لديهم، وساعدهم ابن حزم نفسه على ذلك بحدة لسانه، وسطوة قلمه، وفجاجة عباراته، وتمامًا مثلما حدث مع الإمام بقي بن مخلد استعدى المالكية السلطان على ابن


حزم، فآذوه كثيرًا، وضيقوا عليه، وفضوا الناس من حوله، وأجبروه على الخروج من دياره يهيم في الأرض، كلما حط رحاله في بلد تنادى المالكية بها لطرده وزجره، ومنعه من الدرس والعلم، وهكذا ظل الإمام العشرين سنة الأخيرة من حياته شريدًا طريدًا منقطعًا عن التدريس، ضحية من ضحايا العصبية المذهبية، والجمود الفقهي، ضحية لعلماء يظنون أنهم يحسنون صنعًا، ويحمون مذهبًا، ويدافعون عن الدين والحق، وهم بلا شك مدانون حتى النخاع، متورطون في محنة هذا الإمام العظيم.
3- الظروف السياسة المحيطة:
من بين الأسباب الرئيسة والمهمة لمحنة الإمام ابن حزم الظاهري، الظروف والأوضاع
السياسية المحيطة بدولة الإسلام في الأندلس، فقد وُلد ابن حزم أيام الحاجب المنصور، والذي كان يحكم بمسمى الدولة الأموية - أحفاد عبد الرحمن الداخل - ولما شب ابن حزم وقعت أحداث الفتنة بقرطبة، والأهوال التي عانتها دولة الإسلام لفترة طويلة هناك، ورأى ابن حزم ذلك رأى العين، فتجول حينًا في ألمرية وبلنسية في كنف الفتيان العامريين - وهم موالي الحاجب المنصور - وكان مثلهم من أتباع الخلافة الأموية، ثم قامت دولة ملوك الطوائف، وانقسمت دولة الخلافة الأموية إلى أكثر من عشرين مملكة،


على رأس كل واحدة منها متغلب، ومستقو بعشيرة أو بعصبية أو بنفوذ وجاه، وأغلبهم لا دين له ولا أخلاق، وفي خضم تلك الأحداث المضطربة عاش ابن حزم، ورأى انحلال خلافة وقيام طوائف، وشهد الكثير من أحوال ذلك العصر وتقلباته، ورأى أيضًا تصرفات ملوك الطوائف ومثالبهم، وبغيهم ومجونهم وانحلالهم؛ فهزت هذه التقلبات مشاعر ابن حزم إلى الأعماق، فأطلق لحكمه العنان يؤرخ لتلك الفترة العصيبة من حياة دولة الإسلام في الأندلس، وحمل على ملوك الطوائف بعنف، وبعباراته اللاذعة على استهتارهم بالدين والعقيدة، حتى قال عنهم في كتابه الشهير ((نقط العروس)): والله لو علموا أن في عبادة الصلبان تمشية أمورهم لبادروا إليها، فنحن نراهم يستعدون النصارى، فيمكنونهم من حُرم المسلمين وأبنائهم ورجالهم، يحملونهم أسارى إلى بلادهم، وربما أعطوهم المدن والقلاع طوعًا فأخلوها من الإسلام، وعمروها بالنواقيس.
لذلك كره ملوك الطوائف ابن حزم، وحرصوا على إبعاده عن أراضيهم، ونفيه من مكان لآخر، فقد كانوا يخافون من آرائه النقدية، وحملاته الفكرية على فضائحهم وجرائمهم،
ولربما أحرقوا كتبه بمحضر عام من الناس، كما فعل ذلك طاغية إشبيلية المعتضد بن عباد، وحرضوا العوام عليه، ومنعوا الطلبة من الجلوس إليه، فقضى الإمام آخر عشرين عامًا في حياته منفيًا في مسقط رأس أسرته في قرية منت ليشم من أعمال لبلة في غرب الأندلس، ولكنه استفاد من تلك المحنة، وتفرغ بالكلية في التأليف والتصنيف؛ فأخرج دررًا وكنوزًا رائعة في شتى الفنون، وحول الإمام محنته ومنفاه إلى قلعة علمية للكتابة والتأليف، ليخرج بعد ذلك علمه للعالم بأسره ينتفع به الناس على مر العصور حتى الآن، وإلى أن يشاء الله عز وجل.


المصادر والمراجع:
• سير أعلام النبلاء: (18/ 184).
• البداية والنهاية: (12/ 99).
• جذوة المقتبس: (308).
• الصلة: (2/ 415).
• المغرب في حلى المغرب: (1/ 354).
• الإحاطة: (4/ 111).
• نفح الطيب: (2/ 77).
• وفيات الأعيان: (3/ 325).
• تذكرة الحفاظ: (3/ 1146).
• شذرات الذهب: (3/ 299).
• ابن حزم الأندلس - للدكتور/ عبد الحليم عويس.
• ابن حزم - للشيخ أبو زهرة.
ترويض المحن - دراسة تحليلية لهم المحن التي مرَّ بها كبار علماء الأمة، دار الصفوة بالقاهرة، 1430 هـ، 2009 م.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 25-03-2025, 11:14 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,335
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صور من محن علماء المسلمين عبر التاريخ ..... يوميا فى رمضان .



الإمام أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة
شريف عبدالعزيز الزهيري
(25)


يعتبر الحسد هو السبب الرئيسي لمعظم المحن والابتلاءات التي تعرض لها علماء الأمة، وعادة ما يكون الحسد بسبب مكانة العالم ومنزلته بين الناس، ومحبة العالمين له، أو بسبب جرأته في الحق، والصدع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي صفات غالبًا ما تكون في العلماء الربانيين، ولكن أن يحسد العالم بسبب نجابة تلاميذه، والتفوق العلمي لهم؛ فهذا هو العجيب حقًا، ومما يؤرخ له في مقامنا هذا.
التعريف به:

هو الإمام الحافظ الحجة الفقيه، شيخ الإسلام، إمام الأئمة، أحد أركان السنة أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة السلمي النيسابوري الشافعي، صاحب التصانيف الهامة، وُلد سنة 223هـ، وأخذ في طلب العلم في حداثته؛ فاعتنى بسماع الحديث والفقه، وتضلع فيهما، حتى صار يضرب به المثل في سعة العلم والإتقان، وقد شرب ماء زمزم في حجه بنية العلم النافع، فكأن الله عز وجل قد فتح على قلبه وفهمه ينابيع العلم والحكمة، فكان من أفراد العالم ذكاءً وفهمًا، مع زهد وعزوف عن الدنيا وزينتها، لا يدخر شيئًا، كل ما يملكه ينفقه على أهل العلم، حتى إنه لم يكن يميز بين العشرة والعشرين، ربما دفع العشرة على أنها خمسة.
ثناء الناس عليه:

كان ابن خزيمة درة زمانه في العلم والفقه والزهد والورع؛ لذلك كان كلمة إجماع، لم يختلف عليه أحد، بل الجميع: القاصي والداني مقر بفضله، معترف بمكانته وقدره، وهذه طائفة من ثناءات الناس عليه:
• قال الحافظ أبو علي النيسابوري: لم أر أحدًا مثل ابن خزيمة، وهو يقول مثل هذا، وقد رأى الإمام النسائي صاحب السنن.
• قال ابن حبان البستي: ما رأيت على وجه الأرض من يحفظ صناعة السنن ويحفظ ألفاظها الصحاح وزياداتها، حتى كأن السنن كلها بين عينيه إلا ابن خزيمة فقط.
• قال الدارقطني: كان ابن خزيمة إمامًا ثبتًا معدوم النظير.
• قال الإمام ابن سريج: ابن خزيمة يستخرج النكت من حديث رسول الله بالمنقاش.
• قال أبو عثمان الحيري: إن الله ليدفع البلاء عن أهل هذه المدينة: (يقصد نيسابور) لمكان أبي بكر بن خزيمة.
• سئل إمام الجرح والتعديل ابن أبي حاتم عن ابن خزيمة فقال لمن سألوه: ويحكم! هو يسأل عنا، ولا نسأل عنه، هو إمام يقتدي به.
مصنفاته:
لابن خزيمة مصنفات تزيد على مائة وأربعين كتابًا، سوى المسائل الفقهية؛ وهي تزيد وحدها على مائة جزء، ويعتبر ابن خزيمة واحدًا من أهم منظري العقيدة الصحيحة:
عقيدة السلف الصالح، وله كتاب التوحيد من أشهر كتب العقيدة السلفية في القرن الثالث الهجري، أطلق فيه عبارات قوية وحاسمة فيما يتعلق بالمذاهب المخالفة لعقيدة السلف، منها قوله السائر: من لم يقر بأن الله على عرشه قد استوى فوق سبع سماواته فهو كافر حلال الدم، وكان ماله فيئًا، وقال: القرآن كلام الله تعالى، ومن قال إنه مخلوق فهو كافر يستتاب؛ فإن تاب وإلا قتل، ولا يدفن في مقابر المسلمين.
محنته:

كان لابن خزيمة عظمة في النفوس، وجلالة في القلوب لعلمه ودينه، واتباعه السنة، وبلغ الإمام رتبة الاجتهاد، وتفرد على أهل زمانه، وتقدمهم في السن والعلم، وكان له أصحاب وتلاميذ صاروا في حياته نجوم عصرهم، وأئمة كبارًا يشد إلى حلقهم الرحال، ولعل ذلك سبب تسمية ابن خزيمة بإمام الأئمة، ومن هؤلاء الأصحاب الأئمة: أبو علي الثقفي، وهو أول من حمل علوم الشافعي، ودقائق ابن سريج إلى خراسان، وأبو بكر الصبغي خليفة ابن خزيمة في الفتوى، وأحسن الجماعة تصنيفًا، وأحسنهم سياسة في مجالس السلاطين، وأبو بكر بن أبي عثمان وهو آدبهم، وأكثرهم جمعًا للعلوم، ورحلة لها، وهو شيخ المجاهدين، وأبي محمد يحيى بن منصور، وكان من أصلح الناس للقضاء.


وتبدأ فصول محنة ابن خزيمة عندما ورد إلى نيسابور رجل معتزلي فاسد العقيدة والطريقة أيضًا اسمه منصور الطوسي، وأخذ هذا الرجل في حضور مجالس ابن خزيمة لسماع آرائه وأقواله في العقيدة، فلما عاين ما عاينه من الأربعة الذين سميناهم داخله الحسد، وأكل قلبه الغل، وأخذ يخطط من أجل إيقاع الفُرْقَةِ بين الإمام وأصحابه، واجتمع مع رجل على شاكلته هو أبو عبد الرحمن الواعظ القدري المعتزلي، واتفقا على تفاصيل المؤامرة، وعلى بث الوشايات الكاذبة عند الإمام ابن خزيمة بحق أصحابه، واتهامهم بالخوض في باب العقائد، وأنهم على مذهب الكلابية [منسوبة لابن سعيد بن كلاب]، وبالفعل أخذ الرجلان في الكلام بحق هؤلاء الأئمة عند أستاذهم ابن خزيمة.
وحدث ذات مرة أن تكلم أبو علي الثقفي عن مسألة كلام الله بعد أن ثار خلاف بشأنها في إحدى حلق العلم، وكان ابن خزيمة ينهى أصحابه عن هذه المسألة تحديدًا، وعن الخوض في الكلام عمومًا، فانتهز منصور الطوسي الفرصة، وأسرع إلى الشيخ ابن خزيمة، وقال له: ألم أقل للشيخ: إن هؤلاء يعتقدون مذهب الكلابية؟ فجمع ابن خزيمة أصحابه، وقال لهم: ألم أنهكم غير مرة عن الخوض في الكلام؟ ولم يزدهم على هذا ذلك اليوم.
لم يزل الطوسي يروح ويجول بفريته على مسامع الشيخ ابن خزيمة، حتى جرَّأه على أصحابه، واستحكمت الوحشة بين الشيخ وتلاميذه، وزادت الأمور سوءًا بتدخل بعض الأطراف الخارجية، حتى وصل الحال بابن خزيمة - وكان قد جاوز الثمانين من العمر، وضجر وضاق صدره - وصل به الحال أن أعلن في محضر من طلاب العلم بأن أصحابه الأربعة كذبة، وأنه محرم على كل طالب علم أن يقبل منهم شيئًا يروونه عن ابن خزيمة، وما هم بكذبة، بل أئمة اثبات، ولكنه فعل الطوسي المنحرف، الذي سعى بالنميمة والأكاذيب، حتى انحرف الشيخ عن أقرب وأخص أصحابه.


اغتنم الطوسي وأبو عبد الرحمن القدري الفتنة في نشر مذهبهما في الاعتزال، ووجدوا من بعض الحسدة: مثل البردعي وأبو بكر بن علي من يساعدهما على تأجيج الفتنة، فانتصب الحافظ أبو عمرو الحيري للصلح بين الجماعة، وشرح لابن خزيمة غرض المعتزلة في فساد الحال، حتى استطاع أن يجمع بين الشيخ وأصحابه في مجلس، وأصلح بينهما، وكتب الأصحاب عقيدتهم في محضر ووقع ابن خزيمة عليه بالصحة والسلامة، وأودع المحضر عند الحافظ الحيري حتى لا يبقى لمتقول كلام.
لم يكد ينقضي يوم واحد على الصلح، وكتابة المحضر حتى أسرع الطوسي ومن على شاكلته من المعتزلة إلى الشيخ ابن خزيمة، وقالوا له: إنهم قد غدروا بك، وغيروا من
كلام المحضر ليوافق عقيدتهم عقيدة ابن كلاب؛ فغضب ابن خزيمة بشدة، وكما قلنا أنه كان شيخًا كبيرًا جاوز الثمانين، فأرسل إلى أبي عمرو الحيري يطلب المحضر للتأكد من صحة الخبر، فرفض الحيري، فقوى ظن ابن خزيمة بأنهم قد غدروا به، وغيروا كلامه في المحضر، فظل ساخطًا مقاطعًا لأصحابه وتلاميذه الأئمة حتى مات بعد ذلك بقليل.
وهكذا نرى كيف أن أصحاب العقائد الباطلة، والمذاهب الفاسدة كانوا، وما زالوا يلعبون دورًا خطيرًا في فساد ذات البين، وفي محن العلماء الربانيين، وأية محنة أشد على العالم من أن يقاطع تلاميذه، ويعادي أخص أصحابه، الذين كانوا مصدر فخره، وأحد أسباب شهرته، والله أعلم بالعاقبة.
المصادر والمراجع:

• سير أعلام النبلاء: (14/ 365).
• البداية والنهاية: (11/ 159).
• المنتظم: (6/ 184).
• تذكرة الحفاظ: (2/ 720).
• النجوم الزاهرة: (3/ 209).
• شذرات الذهب: (2/ 262).
• طبقات الشافعية: (3/ 109).
• تراجم أعلام السلف: (521).
• العبر للذهبي (2/ 150).
ترويض المحن: دراسة تحليلية لهم المحن التي مرَّ بها كبار علماء الأمة، دار الصفوة بالقاهرة، 1430هـ، 2009م




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 241.62 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 235.73 كيلو بايت... تم توفير 5.89 كيلو بايت...بمعدل (2.44%)]