الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال - الصفحة 22 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 230 - عددالزوار : 4318 )           »          خطبة جمعة عن الهواتف والإنترنت ووسائل التواصل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          خطبة الاستسقاء 1447 هـ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          في ظلال آية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          بلزوم الاستغفار والدعاء يدوم الخير والرخاء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          الجنة ونعيمها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          ظاهرة كسب المال الحرام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          من الفائز؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          الداخلون الجنة بغير حساب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          الذين يصلي عليهم الله وتصلي عليهم الملائكة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العام > ملتقى الحوارات والنقاشات العامة
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الحوارات والنقاشات العامة قسم يتناول النقاشات العامة الهادفة والبناءة ويعالج المشاكل الشبابية الأسرية والزوجية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 07-09-2025, 05:04 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,870
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (213) تحطيم إبراهيم صلى الله عليه وسلم للأصنام وإنجاء الله له من النار (9)




كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال -تعالى-: (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ . قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ . قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ . قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ . قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ . وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ . فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ . قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ . قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ . قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ . قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ . قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ . فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ . ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ . قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ . أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ . قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ . قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ . وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ . وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ . وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ. وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) (الأنبياء: 51-73).
الفائدة الحادية عشرة:
دَلَّ قوله -سبحانه وتعالى- عن قوم إبراهيم: (قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ) على أنهم يعرفون أن الأصنام لم تصنع شيئًا، ومع ذلك يسمونها: آلهة! ويجعلون مَن فعل بها ذلك ظالمًا؛ كما يصنع عُبَّاد البقر في زماننا، ويسومون مَن تحت أيديهم من المسلمين سوء العذاب إذا صنعوا شيئًا ببقرة! فهذا العجب الذي يقع فيه كثيرٌ من البشر من عُبَّاد الأوثان كمن يعبدون تماثيل بوذا أو من يعبدون البقر والفئران، أو يكذبون الرسل الكرام وخاتمهم محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، ثم يرون من صدقه واتبعه، وعمل بما أمر به ظالمًا، ومن كفر بما هم عليه من الشرك والكفر، وعبادة غير الله؛ يجعلون من كفر بذلك ظالمًا!
كان بعض قوم إبراهيم قد سمع إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول: (وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) فسرعان ما أرشدهم إلى ما يبحثون عنه: (قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ)؛ فهذه الأمور غالبًا لا تخفى، وإبراهيم -صلى الله عليه وسلم- ما كان يقصد الاختفاء أو عدم إعلان دعوة التوحيد، وإنما صنع ذلك وهو يريد أن يقيم عليهم الحجة؛ فلا يتصور في هذه الأمور أن تختفي، وإنما الغرض منها إقامة الحجة ببيانها أمام الناس، وإنما الذي يتصور أن يُخفَى: خطط المعارك والهجرة، والتخطيط لمستقبل البلاد، ونحو ذلك؛ كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يفعل في حروبه وغزواته، وفي هجرته كذلك، لكن أن يُتصوَّر أن دعوة التوحيد يمكن أن لا تُعلَن؛ هذا لا يصح. يمكن أن يبدأ بها في بعض الأصدقاء والمقربين في البداية، ولكن يستحيل أن تستمر سرًّا، وإنما جاءت لهداية العالمين، وفي قوله -سبحانه وتعالى-: (قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ) فائدة عظيمة في أهمية دور الشباب في الدعوة إلى الله، وهي:
المسألة الثانية عشرة:
(قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى) أي: شابًا، وهذا دليل على أن الشباب عليهم دور عظيم في الدعوة إلى الله، وأن مقام إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- وهو فتى شاب يدعو إلى الله، ويكسر الأصنام، ويقيم الحجة، ويضحي بنفسه في سبيل الله والأسوة الحسنة لهم في هذه الحياة، وليس يصح أن يكون أسوة للشباب المسلم لاعبو الكرة، أو الممثلون والممثلات، أو المغنيون والمغنيات، نسأل الله أن يعافي المسلمين وشباب المسلمين.
فالشباب هم كانوا أتباع النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكذلك كانت الذرية أتباع موسى -صلى الله عليه وسلم-؛ كما قال -تعالى-: (فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ) (يونس: 83) أي: الشباب. وهكذا فليكن كل شباب المسلمين دعاة إلى الله، وطُلَّاب علم عاملين بالحق، نافعين لأمتهم؛ يقومون بالحق، ويجهرون به، ويدعون إلى الله، ويضحون في سبيل الله.
الفائدة الثالثة عشرة:
قوله -تعالى-: (قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ): أي على مشهد من الناس؛ عقدوا له محاكمة، هي في الحقيقة محاكمة ظالمة جائرة، لكنهم يزعمون التثبت بقولهم: (قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ
فهم يظهرون العدالة الوهمية التي ليست إلا صورة من صور الظلم العدوان!
ما التهمة الحقيقية لإبراهيم -صلى الله عليه وسلم-؛ إلا أنه أراد أن يخرج عن جهالات هذا المجتمع، وضلالات هؤلاء الكبراء؛ الذين أرادوا أن يظل الناس كلهم في ظلمات الجهل والشرك -والعياذ بالله-؟!
وإبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لم يقر أنه فعل ما يتهمونه به، وإنما عَرَّض في الكلام (قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ)، وهذا -على أصح الأقوال- معناه: إن كانوا ينطقون فقد فعله كبيرهم؛ وإلا فإنهم لا ينطقون، فلا يلزم أن يكون إبراهيم قد نَسَب إلى الكبير فعل ذلك؛ لأنه معلق على شرط لم يوجد، هو شرط النطق؛ فإذا فقد شرط النطق لم يكن كبيرهم قد فعله، ولم يكن إبراهيم قد أقر على نفسه بارتكاب تحطيم الأصنام، فحصل المقصود من إثبات عجز الآلهة حتى أن تدفع عن نفسها، وهذا ينفي ربوبيتها وألوهيتها، ولم يُثبِت إبراهيم على نفسه ما اتهموه به.
قال -سبحانه-: (فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ)؛ إذ تركتم الأوثان دون حراسة، وهي تحتاج إلى حراسة، وهي تحتاج إلى حراسة وعناية!
فتبًّا لهذه العقول الظالمة الجائرة التي تكون خَدَمًا وتابعة لهذه الأصنام في نفس الوقت الذي تعبدها؛ فهي تعظمها وتعبدها من دون الله، وفي نفس الوقت ترى وجوب حمايتها عليهم؛ كما قال -تعالى- في ذَمِّ قريش: (وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) (يس: 75)، أي: هم لأصنامهم جنود محضرون عندها؛ للدفاع عنها، كيف زالت العقول إلى هذا الحد؟! إلى الله المشتكى.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 07-09-2025, 05:05 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,870
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (214) تحطيم إبراهيم صلى الله عليه وسلم للأصنام وإنجاء الله له من النار (10)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال -تعالى-: (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ . قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ . قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ . قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ . قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ . وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ . فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ . قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ . قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ . قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ . قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ . قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ . فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ . ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ . قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ . أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ . قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ . قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ . وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ . وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ . وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ. وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) (الأنبياء: 51-73).
في قوله -تعالى-: (قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى) دليل على دور الشباب العظيم في الدعوة إلى الله، وكان الشباب هم أتباع النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وكذلك كان الذرية أتباع موسى -عليه السلام- كما قال -تعالى-: (فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ) (يونس: 83)، أي: الشباب، وهكذا فليكن كل شباب المسلمين دُعاة إلى الله -عز وجل-، وطُلاب علم عاملين بالحق، نافعين لأُمتهم، يقومون بالحق، ويجهرون به، ويدعون إلى الله -عز وجل-، ويُضَحُّون في سبيل الله -عز وجل-.
(قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ): أي: على مشهدٍ مِن الناس.
عقدوا له محاكمة هي في الحقيقة مُحاكمة ظالمة جائرة، لكنهم يزعمون التثبت، (قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ . قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ): وهذا تعريض فإن كانوا ينطقون فقد فعله كبيرهم، وإلا فإنهم لا ينطقون، قال -عز وجل-: (فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ)؛ إذ تركتم الأوثان دون حراسة، وهي تحتاج إلى حراسة وحماية.
(ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ) أي: أطرقوا وقد انقلبت عقولهم، وقد فهموا ما أراد إبراهيم -عليه السلام-، ووعوا الدرس جيدًا، وعلموا أنه أراد أن يُرشدهم إلى عجزهم عن النطق؛ فضلًا عن غيره، ومع ذلك انتكسوا ولم يقبلوا الحق الذي ظهر من أنها لا تصلح أن تُعبد، ولا تصلح أن تكون آلهة، قال -عز وجل-: (ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ): أنت تفهم ونحن نفهم أنها أصنام، ولا تستطيع شيئًا، (قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ . أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ): تأمل غضبه لله -عز وجل- تلك الغضبة التي ظهرت في هذه الكلمات في التأفف منهم في بيان باطلهم، والغضب لما يعبدون من دون الله، والبغضاء والكراهية لهذه العبادة الباطلة.
(أَفَلَا تَعْقِلُونَ): إبراهيم -عليه السلام- الأسوة الحسنة في الصبر على البلاء، وصدر الحكم الجائر، فقد ثبت أن إبراهيم -عليه السلام- يكره عبادة الأصنام، ولا يُقرها فيصدر الحكم الجائر.
(قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ): أَوْقَدُوا نارًا عظيمة نَذَرُوا لها النذور، وجمعوا لها الحطب حتى أَوْقَدُوها بما لا يستطيعون الاقتراب منها، وجعلوه في المنجنيق؛ ليرموه مِنْ بعيد، (قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ) (الصافات: 97)، أي: في النار، وكان الأمر من الله -عز وجل- أسبق مِنْ أمرهم، وأعظم مِنْ أمرهم، وأعلى مِنْ أمرهم.
وأراد الله -عز وجل- أن يجعل إبراهيم -عليه السلام- الأُسوة الحسنة والمثل والقدوة لكل الدعاة إلى الله، على ما يُصيبهم في سبيل الله في توكله على الله -عز وجل-: فإبراهيم عليه السلام حين أُلقي في النار قال: "حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ"، ولم يتوكل على غير الله، ولم يُفوِّض أمره إلى غير الله، ولم يأته الفرج مِنْ أول الابتلاء، بل ظل الابتلاء مدة، وحُبِسَ إبراهيم -عليه السلام- مدة، وأُلقي مُقيدًا بالمنجنيق، وضُرب المنجنيق لينطلق إبراهيم -عليه السلام- في الهواء فيقول: "حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ"، وفي آخر لحظة يأتي الفرج: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ).
فإذا حُبِسْتَ فتذكر حبس إبراهيم -عليه السلام-، وإذا قُيدت فتذكر قيد إبراهيم -عليه السلام-، وإذا هُددت فتذكر ما هَدد به القومُ إبراهيمَ -عليه السلام-، وتذكر توكل إبراهيم -عليه السلام-، وحُسن تفويضه إلى الله -عز وجل-، وتوكل على الله مِن قلبك مع لسانك: "حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ".
تحولت النار -بإذن الله وفضله ونعمته- بردًا وسلامًا على إبراهيم؛ فأحرقت وثاقه، وما ضره شيء من ذلك، وتعجبوا حتى قال له أبوه -فيما يذكرون-: "نِعم الرب ربك يا إبراهيم! ذلك أنه فعل به ذلك"؛ نَجَّاهُ من النار، وكانت أيامًا من أحسن الأيام قضاها في وسط الجحيم -كما زعموا-، وهكذا المؤمن يظن الناسُ أنه مُعَذَّبٌ وهو في الحقيقة مُنَعَّمٌ، بفضل الله ونعمته ورحمته، رغم ما يراه الناس حوله من ألوان الجحيم والعذاب.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 07-09-2025, 05:06 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,870
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (215) تحطيم إبراهيم صلى الله عليه وسلم للأصنام وإنجاء الله له من النار (11)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال -تعالى-: (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ . قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ . قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ . قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ . قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ . وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ . فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ . قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ . قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ . قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ . قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ . قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ . فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ . ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ . قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ . أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ . قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ . قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ . وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ . وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ . وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ. وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) (الأنبياء: 51-73).
الفائدة الرابعة عشرة:
قوله -تعالى-: (وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ) يدل على أن مَن كاد أهل الإيمان؛ فإن الله -عز وجل- يرد كيدَه في نحره، ويجعله الخاسر في الدنيا والآخرة إن لم يتب إلى الله -عز وجل-، وهذه سنة أهل الباطل دائمًا، وسنة الله -عز وجل- فيهم؛ فهم يكيدون بالمؤمنين يريدون إيذاءهم، وصدهم عن دين الله -سبحانه وتعالى-، ولكن الله -عز وجل- يكيد كيدًا، وهو -عز وجل- خير الماكرين؛ فهو يكيد للمؤمنين ويمكر لهم -سبحانه وتعالى-، ويرد كيد المجرمين المكذِّبين للرسل، ويجعلهم الخاسرين، بل الأخسرين؛ فهم أشد الناس خسرانًا؛ وذلك لأن مَن حارب دعوة الحق لا بد وأن تكون عاقبته إلى أشدِّ الخسران.
فعلى أهل الإيمان أن يتوكلوا على الله -عز وجل-، وأن يستعينوا به في ردِّ كيد الكائدين الذين يريدون الشر بهم وبدعوتهم، وبطاعتهم وعابدتهم لله -عز وجل-.
وكذلك عليهم أن يدعوا بما دعا به النبي -صلى الله عليه وسلم-: (رَبِّ أَعِنِّي وَلَا تُعِنْ عَلَيَّ، وَانْصُرْنِي وَلَا تَنْصُرْ عَلَيَّ، ‌وَامْكُرْ ‌لِي ‌وَلَا ‌تَمْكُرْ ‌عَلَيَّ، وَاهْدِنِي وَيَسِّرِ الْهُدَى لِي، وَانْصُرْنِي عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيَّ) الحديث. (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني)، وهو من جوامع كَلِم النبي -صلى الله عليه وسلم- في الدعاء، ومن أنفع الأدعية في مواجهة أهل الباطل؛ ندعو الله أن يمكر لنا ولا يمكر علينا، وهو -عز وجل- ينجِّي المؤمنين بما يكيد لهم؛ كما قال -سبحانه وتعالى-: (كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ) (يوسف: 76)؛ فهو -سبحانه وتعالى- الذي يدبِّر الأمر، وينجي عبادة المؤمنين
الفائدة الخامسة عشرة:
قوله -تعالى-: (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ): ذكر الله -عز وجل- في مواطن عديدة في القرآن إيمان لوط -عليه الصلاة والسلام- بإبراهيم، فقال -سبحانه وتعالى-: (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) (العنكبوت: 26)، ونجَّاه الله -عز وجل- إلى أرض بيت المقدس، وسارة كانت مع إبراهيم ولم تذكر؛ لأنها أمرأته؛ فهي كأنها جزء منه، وإنما ذُكِر لوط؛ لأنه هو الذي آمن به وحده دون قومه، فلم يؤمن به أحدٌ من الرجال إلا لوط -عليه الصلاة والسلام-، وأما سارة فهي امرأة إبراهيم، زوجته وبضعة منه؛ فلذلك لم تذكر -والله أعلى وأعلم-، بل هي كانت معه في كل رحلاته وهجرته، وقد كانت معه في رحلته وهجرته إلى أرض مصر والقصة معروفة في إنجاء الله لها من الجبار، وأطلقها الجبار وأعطاها هاجر هبة لها، خادمة لها.
وقال -سبحانه وتعالى-: (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ) أي: أرض بيت المقدس، فهي خير من بلده التي خرج منها، ورغم أن قومه قد رأوا آية النجاة من النار، وأن النار كانت بردًا وسلامًا على إبراهيم، لكن العجب أنهم لم يؤمنوا، مع أن أباه قال له: "نعم الرب ربك يا إبراهيم"، لكنه أيضًا لم يؤمن -نسأل الله العافية-؛ فإن الطبع على القلوب بعدل الله -سبحانه وتعالى- يمنع هذه القلوب من أن ترى الحقيقة التي هي مِن أوضح الأمور؛ أوضح من شمس النهار، ومع ذلك أبى القوم الإيمان فنجاه الله -عز وجل- منهم ونجَّى لوطًا وسارة كذلك إلى الأرض المباركة.
ثم إن الله -عز وجل- بعد ذلك أرسل لوطًا إلى قرى سدوم التي هي قريبة من بيت المقدس يدعوهم إلى الله -عز وجل-، وأما إبراهيم فعاش الحياة الطيبة التي وعدها الله -عز وجل- كل مؤمن: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل: 97).
وجعله الله -عز وجل- من الأغنياء بالله -سبحانه وتعالى-، وبما أعطاه الله من رزق واسع وفير، ويعلم ذلك من كرم الضيافة عندما جاءه الرسل؛ الذين أرسلوا ببشارته بإسحاق وبإهلاك قوم لوط، فكانوا بضعة نفر ذبح لهم عجلًا ثمينًا؛ فهكذا عاقبة الإيمان والخير والطاعة، دائمًا إلى النجاة وإلى الفلاح، وإلى الغنى بالله -سبحانه وتعالى- وبرزقة -عز وجل-.
فاللهم لك الحمد على ما قضيت، وعلى ما أنعمت به وأوليت.
وللحديث -بقية إن شاء الله-.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 13-09-2025, 07:57 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,870
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (217) تحطيم إبراهيم صلى الله عليه وسلم للأصنام وإنجاء الله له من النار (13)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال -تعالى-: (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ . قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ . قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ . قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ . قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ . وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ . فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ . قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ . قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ . قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ . قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ . قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ . فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ . ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ . قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ . أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ . قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ . قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ . وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ . وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ . وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ. وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) (الأنبياء: 51-73).
الفائدة السابعة عشرة:
قوله -تعالى-: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ): دلَّ ذلك على خلق أفعال العباد، فالله الذي جعلهم أئمة ودعوة المؤمنين بأن يجعلهم وذرياتهم أئمة للمتقين؛ قال الله -عز وجل-: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) (الفرقان: 74).
فقرة العين بالأبناء والبنات العابدين لله -سبحانه وتعالى- الداعين إلى الله -عز وجل-؛ الذين يُقتدَى بهم في الخير، هي من صفات عباد الرحمن -سبحانه وتعالى-، وأخص عباد الرحمن رفعة في المنزلة عند الله: الأنبياء، وأخصهم بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-، فكان من حسن عاقبته التي قدَّرها الله -عز وجل- له في الدنيا غير ما أعدَّ له من حُسْن العاقبة في الآخرة أن أقر عينه بذريته وذريتهم، فكان إسحاق وإسماعيل كلاهما نبي في موضعه الذي هو فيه يدعو إلى الله -عز وجل-، ثم يعقوب -عليه الصلاة والسلام-، وكل ذلك في حياة إبراهيم -عليه السلام-؛ رأى ما تقر به عينه من اجتباء الله -سبحانه وتعالى- لذريته، وجعلهم أنبياء، وجعلهم أئمة يدعون إلى الخير.
وهذا يدل على قدرة الله وإرادته في أفعال العباد الاختيارية؛ لأن الإمامة في الدِّين بالدعوة إلى الله -عز وجل- والهداية بأمر الله -سبحانه وتعالى-، وبفعل الخيرات وحسن عبادة الله -سبحانه وحده- لا شريك له؛ كل هذا من أفعال العباد الاختيارية التي امتن الله -سبحانه وتعالى- بها على إبراهيم وذريته كما قال إبراهيم في دعائه: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) (إبراهيم: 40)، فاستجاب الله دعاءه وجعلهم كذلك، أئمة يدعون إلى الله، يهدون بأمره ويفعلون الخيرات في أنفسهم؛ فهم يفعلون الخير ويعلِّمونه للناس ويدعونهم إليه، وهم في ذلك كله عابدون لله.
وكل ذلك من جَعْل الله -عز وجل- وتقديره وخلقه لأفعال العباد، وهي تقع بمشيئتهم التي خلقها الله -عز وجل- لهم، وهذا إيمان بالقضاء والقدر، وقد جعل الله -عز وجل- فرعون وملأه أئمة يدعون إلى النار، وقد وضع -سبحانه وتعالى- كل شيء في موضعه؛ فوضع العمل الصالح والقول الصالح عند مَن هو أهل له (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) (الأنعام: 53)، ووضع الظلم والكفر والفساد عند مَن هو أهل له؛ قال الله -عز وجل-: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) (الأنعام: 58).
ولذلك كانت أفعال العباد مقسَّمة كتقسيم الأرزاق؛ بجعله ورزقه -سبحانه وتعالى-، وهو -عز وجل- يضع البذر الطيب في الأرض الطيبة، والبذر الخبيث في الأرض الخبيثة: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ) (النور: 26)، فالخبيثات من الأعمال والأقوال للخبيثين من الناس، والخبيثون من الناس للخبيثات من الأعمال والأقوال، والطيبات من الأعمال والأقوال للطيبين من الناس والطيبون من الناس للأعمال والأقوال الطيبة، وكل ذلك بحكمته، وهو -عز وجل- لا يظلم الناس شيئًا، ولكن الناس أنفسهم يظلمون.
وحين مَنَّ الله -عز وجل- على عباده المؤمنين بالتوفيق والهداية، والاجتباء والإمامة في الدِّين، لم يظلم مَن لم يجعل فيهم ذلك؛ لأنه -عز وجل- يضع الأشياء في مواضعها، والعدل هو وضع الشيء في موضعه، ولا يلزم من ذلك المساواة؛ فلو أن صاحب أرض خبيثة بور لامه أحد، وقال له: "كيف لا تضع فيه البذر الطيب؟! فيقول: أنا أعلم أنها لا تنبت، وأن البذر الطيب إذا وُضِع فيها سيموت"، لم يكن ظالمًا؛ (وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) (الأنفال: 23).
فلذلك يجب على الإنسان أن يؤمن بأن أفعاله وإرادته ومشيئته مخلوقة بأمر الله -سبحانه وتعالى-، وأن الله -سبحانه وتعالى- وحده هو الذي يقدِّر المقادير: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) (النحل: 53)، وهو -عز وجل- لا يظلم مثقال ذرة: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) (النساء: 40).
فبذلك ظهر اجتباء الله -عز وجل- لإبراهيم -عليه الصلاة والسلام- ولذريته، فهم أئمة كما أن إبراهيم إمام، وأما مَن كان بعد ذلك من ذرياتهم ولم يكن على طريقتهم فليس بمجتبى؛ ولذا قال -سبحانه وتعالى-: (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة: 124).
نسأل الله -عز وجل- أن يلحقنا بالصالحين، وأن يغفر لنا ذنوبنا أجمعين، وأن يوفقنا لذكره وشكره وحسن عبادته.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 13-09-2025, 07:58 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,870
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال



الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (218) بناء إبراهيم صلى الله عليه وسلم البيت وتأذينه في الناس بالحج (1)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ . وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ . وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ . لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ . ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (الحج: 25-29).
إن ارتباط إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- بمكة المكرمة والكعبة المشرفة، وشرع الله -عز وجل- الحج على لسانه، وبعثه النبي صلى الله عليه وسلم من ذريته من جهة ابنه إسماعيل -صلى الله عليه وسلم-، من أعظم مسائل الفرقان بين المسلمين وبين أهل الكتاب "واليهود خصوصًا"؛ ولذلك حسدوا النبي -صلى الله عليه وسلم- والعرب كلهم على ما آتاهم الله من فضله، وودوا لو رجع العرب إلى الجاهلية والشرك بعد الإسلام؛ قال الله -تعالى-: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) (البقرة: 109)، وقال الله -عز وجل-: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (آل عمران: 97).
وارتباط الكعبة بأنها قبلة المسلمين أمر لا يحتمله أهل الكتاب، وأبوا أن يحجوا، مع أن كتابهم يتضمَّن الرسالة التي تنزل على النبي من جبال فاران، وأنها أعظم الرسائل بيانًا ووضوحًا في تعريف الناس بربهم (سفر التثنية: 2 / 33): "جاء الرب من سيناء وأشرق لهم من سعير، وتلألأ من جبل فاران"، وهذا فيه الإشارة إلى الرسالات السماوية الثلاثة، فمجيء الرب من سيناء هو شريعة موسى والتوراة التي أوحاه الله إليه، وأشرق لهم من سعير، وهو جبل بيت المقدس إشارة إلى رسالة عيسى -صلى الله وسلم- وما أوحاه الله إليه من الإنجيل، وتلألأ من جبال فاران هي رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- المتلألئة "النور المبين": (قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ) (المائدة: 15)، وقال -عز وجل-: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الأعراف: 156، 157).
فنصُّ التوراة -كما هو نص القرآن- صريح في أن أعظم نور سماوي في تعريف الخلق بربهم سيكون من جبال فاران، وعندهم النص أن إسماعيل سكن في بَرِّيَّة فاران، فجبال فاران، وبرية فاران وهي مكان الوحي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، نصٌّ في التوراة يدل على البشارة بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد حاول تحريفه إلا أن المقصود برية بئر سبع، وهو خلاف ما يعرفه الناس تاريخًا عن جبال فاران، وخلاف ما قد وقع؛ فإنه قد غاب عنهم أنه لم يرسل الله -عز وجل- وحيًا من بئر سبع التي حرفوا جبال فاران إلى أنها برية بئر سبع؛ فلم يبعث الله فيها رسولًا ولا من بريتها، ولا سكنها إسماعيل!
فالحج هو نقطة فارقة بين المسلمين وأهل الكتاب في فرضيته ومشروعيته التي أعلنها إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-، ونفَّذها هو وسارة وإسحاق، ثم الأنبياء بعد ذلك؛ موسى وأسباط بني إسرائيل من الأنبياء من بعده.
وسيحج عيسى -صلى الله عليه سلم- إذا نزل إلى الأرض في آخر الزمان؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لما بمر بوادي الأزرق: (أَيُّ وَادٍ هَذَا؟) فَقَالُوا: وَادِي الْأَزْرَقِ، فَقَالَ: (كَأَنِّي ‌أَنْظُرُ ‌إِلَى ‌مُوسَى صلى الله عليه وسلم، وَاضِعًا إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ، لَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللهِ بِالتَّلْبِيَةِ ‌مَارًّا بِهَذَا الْوَادِي)، قَالَ: ثُمَّ سِرْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى ثَنِيَّةٍ، فَقَالَ: (أَيُّ ثَنِيَّةٍ هَذِهِ؟) قَالُوا: هَرْشَى، أَوْ لِفْتٌ، فَقَالَ: (كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى يُونُسَ عَلَى نَاقَةٍ حَمْرَاءَ عَلَيْهِ جُبَّةُ صُوفٍ، خِطَامُ نَاقَتِهِ لِيفٌ خُلْبَةٌ ‌مَارًّا بِهَذَا الْوَادِي مُلَبِّيًا) (رواه مسلم). وقال -صلى الله عليه وسلم-: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيُهِلَّنَّ ابْنُ مَرْيَمَ ‌بِفَجِّ ‌الرَّوْحَاءِ، حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا، أَوْ لَيَثْنِيَنَّهُمَا) (رواه مسلم).
وسورة الحج فيها بيان بناء إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- للبيت بأمر الله في الموضع الذي بوأه الله له، وأذانه في الناس بالحج إليه ليكون هذا بيانًا واضحًا جليًّا لصدق نبوة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وصدق القرآن فيما شرعه من الحج الذي هو شريعة إبراهيم والأنبياء من بعده، والركن الخامس من أركان الإسلام؛ فلنشرع في بيان تفسير الآيات من سورة الحج.
قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير قوله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ): "يقول -تعالى- منكِرًا على الكفار في صَدِّهم المؤمنين عن إتيان المسجد الحرام، ‌وقضاء ‌مناسكهم ‌فيه، ‌ودعواهم ‌أنهم ‌أولياؤه: (وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (الأنفال: 34). وفي هذه الآية دليل على أنها مدنية، كما قال في سورة البقرة: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ) (البقرة: 217)، وقال هاهنا: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) أي: ومِن صفتهم مع كفرهم أنهم يصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام، أي: ويصدون عن المسجد الحرام مَن أراده مِن المؤمنين الذين هم أحق الناس به في نفس الأمر، وهذا الترتيب في هذه الآية كقوله -تعالى-: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد: 28)، أي: ومن صفتهم أنهم تطمئن قلوبهم بذكر الله.
وقوله: (الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ) أي: يمنعون الناس عن الوصول إلى المسجد الحرام، وقد جعله الله شرعًا سواء، لا فرق فيه بين المقيم فيه والنائي عنه البعيد الدار منه، (سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ) ومن ذلك استواء الناس في رباع مكة وسكناها، كما قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: (سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ) قال: ينزل أهل مكة وغيرهم في المسجد الحرام.
وقال مجاهد في قوله: (سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ): أهل مكة وغيرهم فيه سواء في المنازل. وكذا قال أبو صالح، وعبد الرحمن بن سابط، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم" (تفسير ابن كثير).
وللحديث بقية -إن شاء الله-.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 13-09-2025, 07:59 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,870
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (219) بناء إبراهيم صلى الله عليه وسلم البيت وتأذينه في الناس بالحج (2)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ . وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ . وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ . ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (الحج: 25-29).
قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير قوله -تعالى-: (سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ): "وقال مجاهد في قوله: (سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ) أهل مكة وغيرهم فيه سواء في المنازل. وكذا قال أبو صالح، وعبد الرحمن بن سابط، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم. وذكر مثل ذلك عن قتادة: سواء فيه أهله وغير أهله.
وهذه المسألة اختلف فيها الشافعي، وإسحاق ابن راهويه بمسجد الخيف، وأحمد بن حنبل حاضر أيضًا؛ فذهب الشافعي -رحمه الله- إلى أن رِبَاع مكة تُملك وتورث وتؤجر، واحتج بحديث الزهري عن علي بن الحسن عن عمرو بن عثمان، عن أسامة بن زيد قال: قلتُ: يا رسول الله، أتنزل غدًا في دارك بمكة؟ فقال: (وهل تَرَكَ لنا عقيلٌ مِن دَار؟). ثم قال: (لَا يَرِثُ الكافرُ المسلمَ، ولا المسلمُ الكافرَ)، وهذا الحديث مخرج في الصحيحين. وبما ثبت أن عمر بن الخطاب اشترى من صفوان بن أمية دارًا بمكة، فجعلها سجنًا بأربعة آلاف درهم. وبه قال طاوس، وعمرو بن دينار.
وذهب إسحاق ابن راهويه إلى أنها تورث ولا تؤجر. وهو مذهب طائفة من السلف، ونص عليه مجاهد وعطاء، واحتج إسحاق ابن راهويه بما رواه ابن ماجه بسنده عن علقمة بن نضلة قال: توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر وعمر، وما تدعى رباع مكة إلا السوائب -(قلتُ: الرباع: البيوت)- مَن احتاج سَكَن، ومَن استغنى أسْكَن. وقال عبد الرزاق عن ابن مجاهد، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو أنه قال: لا يحل بيع دور مكة ولا كراؤها -(قلتُ: أي: إجارتها)-.
وقال أيضًا عن ابن جريج: كان عطاء ينهى عن الكراء في الحرم، وأخبرني أن عمر بن الخطاب كان ينهى عن تبويب دور مكة؛ لأنه ينزل الحاج في عرصاتها، فكان أول من بوب داره سهيل بن عمرو، فأرسل إليه عمر بن الخطاب في ذلك، فقال: أنظرني يا أمير المؤمنين، إني كنت امرأً تاجرًا، فأردت أن أتخذ بابين يحبسان لي ظهري. قال: فلك ذلك إذًا. (قلتُ: وهذا يدل على جواز أن يتخذ بابًا لحاجته؛ سواء كان لسكنى أهله وستر ما في البيت، أو لحفظ المتاع، وأن الآثار الأخرى عن الصحابة بعدم اتخاذ أبواب في رِبَاع مكة، هي في البيوت غير المسكونة).
وقال عبد الرزاق، عن معمر، عن منصور، عن مجاهد: أن عمر بن الخطاب قال: يا أهل مكة، لا تتخذوا لدوركم أبوابًا، لينزل البادي حيث يشاء. قال: وأخبرنا معمر عمَّن سمع عطاء يقول في قوله: (سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ)، قال: ينزلون حيث شاءوا. وروى الدارقطني من حديث ابن أبي نجيح، عن عبد الله بن عمرو موقوفًا: مَن أكل كراء بيوت مكة أكل نارًا.
وتوسط الإمام أحمد فقال: تملك وتورث، ولا تؤجَّر، جمعا بين الأدلة، والله أعلم. (قلتُ: وهذه مسألة اجتهادية، والناس اليوم كلهم يعملون بقول الشافعي).
وقوله -تعالى-: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ): قال بعض المفسِّرين من أهل العربية: الباءُ ها هنا زائدة؛ كقوله: (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) (المؤمنون: 20)؛ أي: تنبت الدهن، وكذا قوله: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ) تقديره: مَن يرد إلحادًا، وكما قال الأعشى:
ضَـمنَـتْ بـرزق عـيـالنا أرْماحُنا بين المَرَاجِل، والصّريحَ الأجرد
وقال الآخر:
بوَاد يَمانِ يُنْبتُ الشَّثَّ صَدْرُهُ وَأسْـفـَلـه بالـمَرْخ والشَّبَهَان
والأجود أنه ضمَّن الفعل ها هنا معنى يهم؛ ولهذا عدَّاه بالباء، فقال: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ) أي: يهم فيه بأمر فظيع من المعاصي الكبار. وقوله: (بِظُلْمٍ) أي: عامدًا قاصدًا أنه ظلم؛ ليس بمتأول، كما قال ابن جريج، عن ابن عباس: هو التعمد. وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: (بِظُلْمٍ) بشرك.
وقال مجاهد: أن يعبد فيه غير الله. وكذا قال قتادة، وغير واحد.
وقال العوفي عن ابن عباس: (بِظُلْمٍ) هو: أن تستحل من الحرم ما حرَّم الله عليك من إساءة أو قتل؛ فتظلم من لا يظلمك، وتقتل من لا يقتلك؛ فإذا فعل ذلك فقد وجب له العذاب الأليم. وقال مجاهد: (بِظُلْمٍ): يعمل فيه عملًا سيئًا.
وهذا من خصوصية الحرم أنه يعاقب البادي فيه الشر، إذا كان عازمًا عليه وإن لم يوقعه، (قلتُ: البادي فيه الشر: أي: الذي يبدأ فيه الشر).
كما قال ابن أبي حاتم في تفسيره بسنده عن عبد الله -يعني ابن مسعود- في قوله: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ) قال: لو أن رجلًا أراد فيه بإلحاد بظلم، وهو بعَدَن أبينَ، لأذاقه الله من العذاب الأليم.
قال شعبة: ورفعه لنا، وأنا لا أرفعه لكم. قال يزيد: هو قد رفعه (قلتُ: يعني يصححه موقوفًا)، ورواه أحمد، عن يزيد بن هارون، به.
قلت: هذا الإسناد صحيح على شرط البخاري، ووقفه أشبه من رفعه؛ ولهذا صمم شعبة على وقفه من كلام ابن مسعود. وكذلك رواه أسباط، وسفيان الثوري، عن السدي، عن مرة، عن ابن مسعود موقوفًا. والله أعلم" (تفسير ابن كثير).
وللحديث بقية -إن شاء الله-.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 27-09-2025, 05:31 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,870
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (221) بناء إبراهيم صلى الله عليه وسلم البيت وتأذينه في الناس بالحج (4)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ . وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ . وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ . ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (الحج: 25-29).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "وقال -تعالى- هاهنا: (أَنْ لا تُشْرِكْ بِي) أي: ابْنه على اسمي وحدي، (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ) قال مجاهد وقتادة: من الشرك، (لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) أي: اجعله خالصًا لهؤلاء الذين يعبدون الله وحده لا شريك له؛ فالطائف به معروف، وهو أخص العبادات عند البيت، فإنه لا يُفعل ‌ببقعة ‌من ‌الأرض ‌سواها. (وَالْقَائِمِينَ) أي: في الصلاة؛ ولهذا قال: (وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) فقَرَن الطواف بالصلاة؛ لأنهما لا يشرعان إلا مختصين بالبيت، فالطواف عنده، والصلاة إليه في غالب الأحوال، إلا ما استثني من الصلاة عند اشتباه القبلة وفي الحرب، وفي النافلة في السفر، والله أعلم.
وقوله: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ) أي: نادِ في الناس داعيًا لهم إلى الحج إلى هذا البيت الذي أمرناك ببنائه؛ فَذُكِر أنه قال: يا رب، وكيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم؟ فقيل: نادِ وعلينا البلاغ؛ فقام على مقامه. وقيل: على الحجر. وقيل: على الصفا. وقيل: على أبي قُبَيس، وقال: يا أيها الناس، إن ربكم قد اتخذ بيتًا فحجوه، فيقال: إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمَعَ مَن في الأرحام والأصلاب، وأجابه كلُّ شيء سمعه مِن حَجَر ومَدَر وشجر، ومَن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة: "لبيك اللهم لبيك".
هذا مضمون ما روي عن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جُبَير، وغير واحد من السلف، والله أعلم. أوردها ابن جَرير، وابن أبي حاتم مُطَوّلة.
وقوله: (يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ): قد يَستدلُّ بهذه الآية مَن ذهب مِن العلماء إلى أن الحج ماشيًا لمَن قدر عليه أفضلُ من الحج راكبًا؛ لأنه قدَّمهم في الذِّكر؛ فدل على الاهتمام بهم وقوة هممهم، وشدة عزمهم، وقال وكيع: عن أبي العُميس، عن أبي حلحلة، عن محمد بن كعب، عن ابن عباس قال: ما آسى (قلتُ: أي: ما أحزن) على شيء إلا أني وددتُ أني كنتُ حججتُ ماشيًا؛ لأن الله يقول: (يَأْتُوكَ رِجَالًا). والذي عليه الأكثرون أن الحج راكبًا أفضل؛ اقتداءً برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإنه حج راكبًا مع كمال قوته -عليه السلام-.
وقوله: (يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ) يعني: طريق، كما قال: (وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا) (الأنبياء: 31). وقوله: (عَمِيقٍ) أي: بعيد؛ قاله مجاهد، وعطاء، والسدي، وقتادة، ومقاتل بن حيان، والثوري، وغير واحد. وهذه الآية كقوله تعالى إخبارًا عن إبراهيم، حيث قال في دعائه: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) (إبراهيم: 37)؛ فليس أحدٌ من أهل الإسلام إلا وهو يحن إلى رؤية الكعبة والطواف، فالناس يقصدونها من سائر الجهات والأقطار (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ . ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ).
قال ابن عباس: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ) قال: منافع الدنيا والآخرة؛ أما منافع الآخرة فرضوان الله، وأما منافع الدنيا فما يصيبون من منافع البُدْن والربح والتجارات. وكذا قال مجاهد، وغير واحد: إنها منافع الدنيا والآخرة، كقوله: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ) (البقرة: 198).
وقوله: (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ) قال شعبة وهُشَيْم عن أبي بشر، عن سعيد عن ابن عباس: الأيام المعلومات: أيام العشر، وعلَّقه البخاري عنه بصيغة الجزم به. ويُروَى مثله عن أبي موسى الأشعري، ومجاهد، وعطاء، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، والضحاك، وعطاء الخراساني، وإبراهيم النَّخعي. وهو مذهب الشافعي، والمشهور عن أحمد بن حنبل.
وقال البخاري: حدثنا محمد بن عَرْعَرَة، حدثنا شعبة، عن سليمان، عن مسلم البَطِين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (‌مَا ‌الْعَمَلُ ‌فِي ‌أَيَّامٍ ‌أَفْضَلَ ‌مِنْهَا ‌فِي ‌هَذِهِ)، ‌قَالَوا: ‌وَلَا ‌الْجِهَادُ ‌فِي ‌سَبِيلِ ‌اللهِ؟ قَالَ: (وَلَا الْجِهَادُ، إِلَا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ)، ورواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه. وقال الترمذي: حديث حسن غريب صحيح. وفي الباب عن ابن عمر، وأبي هريرة، وعبد الله بن عمرو، وجابر.
قلتُ: وقد تقصيتُ هذه الطرق، وأفردت لها جزءًا على حدته، فمن ذلك ما قال الإمام أحمد: حدثنا عَفَّان، أنبأنا أبو عَوَانة، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (‌مَا ‌مِنْ ‌أَيَّامٍ ‌أَعْظَمُ ‌عِنْدَ ‌اللهِ ‌وَلَا ‌أَحَبُّ ‌إِلَيْهِ ‌الْعَمَلُ ‌فِيهِنَّ ‌مِنْ ‌هَذِهِ ‌الْأَيَّامِ ‌الْعَشْرِ، فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ) وروي من وجه آخر، عن مجاهد، عن ابن عمر، بنحوه. وقال البخاري: وكان ابن عمر، وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر، فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما. وقد روى أحمد عن جابر مرفوعًا: أن هذا هو العشر الذي أقسم الله به في قوله: (وَالْفَجْرِ . وَلَيَالٍ عَشْرٍ) (الفجر: 1، 2). وقال بعض السلف: إنه المراد بقوله: (وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ) (الأعراف: 142) (قلتُ: أي: في حقِّ موسى -صلى الله عليه وسلم-، فكان يوم النحر هو يوم التكريم).
وفي سنن أبي داود: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يصوم هذا العشر. (قلتُ: أي: معظمه؛ العشر إلا يوم النحر؛ فإن العاشر حرام صومه بالإجماع).
وهذا العشر مشتمل على يوم عرفة الذي ثبت في صحيح مسلم عن أبي قتادة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم عرفة، فقال: (‌أَحْتَسِبُ ‌عَلَى ‌اللهِ ‌أَنْ ‌يُكَفِّرَ ‌السَّنَةَ ‌الْمَاضِيَةَ ‌وَالْآتِيَةَ)، ويشتمل على يوم النحر الذي هو يوم الحج الأكبر، وقد ورد في حديث أنه أفضل الأيام عند الله" (تفسير ابن كثير).
وللحديث بقية -إن شاء الله-.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 04-10-2025, 04:37 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,870
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (226) بناء إبراهيم صلى الله عليه وسلم البيت وتأذينه في الناس بالحج (9)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ . وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ . وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ . لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ . ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (الحج: 25-29).
قال القرطبي -رحمه الله- في قوله -تعالى-: (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ): "المسألة الثامنة: (فَكُلُوا مِنْهَا): أمر معناه الندب عند الجمهور. ويستحب للرجل أن يأكل من هديه وأضحيته وأن يتصدق بالأكثر، مع تجويزهم الصدقة بالكل، وأكل الكل، وشذَّت طائفة فأوجبت الأكل والإطعام بظاهر الآية. ولقوله عليه السلام: (‌فَكُلُوا ‌وَادَّخِرُوا ‌وَتَصَدَّقُوا) (رواه مسلم). قال الكيا: قوله -تعالى-: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا) يدل على أنه لا يجوز بيع جميعه ولا التصدق بجميعه. (قلتُ: أما بيع الجميع؛ فلا يجوز بيع الجميع، ولا بيع جزء منها، ولا حتى الجلد؛ فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ ‌بَاعَ ‌جِلْدَ ‌أُضْحِيَّتِهِ ‌فَلَا ‌أُضْحِيَّةَ ‌لَهُ) (رواه البيهقي والحكم، وحسنه الألباني)، وبالاتفاق لا يجوز بيع اللحم. وأما التصدق بجميعه فلا حرج فيه عند الجمهور).
التاسعة: دماء الكفارات لا يأكل منها أصحابها. ومشهور مذهب مالك -رضي الله عنه- أنه لا يأكل من ثلاث: جزاء الصيد، ونذر المساكين، وفدية الأذى، ويأكل مما سوى ذلك إذا بلغ محله؛ واجبًا كان أو تطوعا، ووافقه على ذلك جماعة من السلف، وفقهاء الأمصار.
العاشرة: فإن أكل مما مُنِع منه فهل يغرم قدر ما أكل أو يغرم هديًا كاملًا؛ قولان في مذهبنا، وبالأول قال ابن الماجشون. قال ابن العربي: وهو الحق، لا شيء عليه غيره. (قلتُ: وهذا هو الصحيح في هذه المسألة؛ أنه قد ذبح الهدي وتم نسكه والدم الذي عليه، فأما الأكل منها فقد تعدَّى على حقِّ المساكين؛ فعليه أن يغرم مثل ما أكل لهم، ويخرج من اللحم مثل ما أكل لهم)، وكذلك لو نذر هديًا للمساكين فيأكل منه بعد أن بلغ محله لا يغرم إلا ما أكل -خلافًا للمدونة-؛ لأن النحر قد وقع، والتعدي إنما هو على اللحم، فيغرم قدر ما تعدى فيه.
قوله -تعالى-: (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) يدل على وجوب إخراج النذر إن كان دمًا أو هديًا أو غيره، ويدل ذلك على أن النذر لا يجوز أن يأكل منه وفاء بالنذر، وكذلك جزاء الصيد وفدية الأذى؛ لأن المطلوب أن يأتي به كاملًا من غير نقص لحم ولا غيره، فإن أكل من ذلك كان عليه هدي كامل. والله أعلم. (قلتُ: الصحيح أن عليه بدل اللحم فقط؛ كما ذكره في المسألة السابقة).
الحادية عشرة: هل يغرم قيمة اللحم أو يغرم طعامًا؛ ففي كتاب محمد عن عبد الملك أنه يغرم طعامًا. والأول أصح؛ لأن الطعام إنما هو في مقابلة الهدي كله عند تعذره عبادة، وليس حكم التعدي حكم العبادة. (قلتُ: فالصحيح أنه يخرج لحمًا بقدر ما أكل).
وقال الشافعي، وأبو ثور: ما كان من الهدي أصله واجبًا فلا يأكل منه، وما كان تطوعًا ونسكًا أكل منه، وأهدى، وادخر، وتصدق. والمتعة والقران عنده نسك. ونحوه مذهب الأوزاعي (قلتُ: هو الصحيح). وقال أبو حنيفة وأصحابه: يأكل من هدي المتعة والتطوع، ولا يأكل مما سوى ذلك مما وجب بحكم الإحرام. وحكي عن مالك: لا يأكل من دم الفساد. وعلى قياس هذا لا يأكل من دم الجبر؛ كقول الشافعي، والأوزاعي (قلتُ: هذا هو الصحيح أن دم جبران النقص إذا ترك نسكًا؛ فعليه دم أنه لا يأكل منه، وإذا أفسد الحج فلا يأكل من الهدي الذي وجب عليه في ذلك).
تمسك مالك بأن جزاء الصيد جعله الله للمساكين بقوله -تعالى-: (أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ) (المائدة: 95)، وقال في فدية الأذى: (مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) (البقرة: 196)، وقال -صلى الله عليه وسلم- لكعب بن عجرة: (صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ مُدَّيْنِ مُدَّيْنِ، ‌أَوِ ‌انْسُكْ ‌شَاةً) (رواه أبو داود والنسائي، وصححه الألباني). ونذر المساكين مصرَّح به، وأما غير ذلك من الهدايا فهو باقٍ على أصل قوله: (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) إلى قوله: (فَكُلُوا مِنْهَا) (الحج: 36). وقد أكل النبي -صلى الله عليه وسلم- وعلي -رضي الله عنه- من الهدي الذي جاء به وشربا من مرقه، وكان -عليه السلام- قارنًا في أصحِّ الأقوال والروايات؛ فكان هديه على هذا واجبًا، فما تعلق به أبو حنيفة غير صحيح. والله أعلم.
وإنما أَذِن الله -سبحانه- من الأكل من الهدايا لأجل أن العرب كانت لا ترى أن تأكل مِن نُسُكها، فأمر الله -سبحانه وتعالى- نبيه -صلى الله عليه وسلم- بمخالفتهم؛ فلا جرم كذلك شرع وبلَّغ، وكذلك فعل حين أهدى وأحرم -صلى الله عليه وسلم-.
الثالثة عشرة: (فَكُلُوا مِنْهَا) قال بعض العلماء: قوله -تعالى-: (فَكُلُوا مِنْهَا) ناسخ لفعلهم؛ لأنهم كانوا يحرمون لحوم الضحايا على أنفسهم ولا يأكلون منها -كما قلناه في الهدايا- فنسخ الله ذلك بقوله: (فَكُلُوا مِنْهَا)، وبقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: من ضحى فليأكل من أضحيته، ولأنه -عليه السلام- أكل من أضحيته وهديه. وقال الزهري: من السُّنة أن تأكل أولًا من الكبد. (قلتُ: لا دليل على هذا، وهذا أقصاه أن يكون في حكم المرسل، ومراسيل الزهري ضعيفة).
الرابعة عشرة: ذهب أكثر العلماء إلى أنه يستحب أن يتصدق بالثلث، ويطعم الثلث، ويأكل هو وأهله الثلث. وقال ابن القاسم عن مالك: ليس عندنا في الضحايا قسم معلوم موصوف. قال مالك في حديثه: وبلغني عن ابن مسعود، وليس عليه العمل. روى الصحيح وأبو داود قال: ضحى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشاة ثم قال: (يَا ثَوْبَانُ، أَصْلِحْ لَحْمَ هَذِهِ)، فَلَمْ أَزَلْ أُطْعِمُهُ مِنْهَا حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ. (رواه مسلم). وهذا نص في الفرض. واختلف قول الشافعي؛ فمرة قال: يأكل النصف ويتصدق بالنصف؛ لقوله -تعالى-: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ)، فذكر شخصين (قلتُ: يعني نفسه، والبائس الفقير). وقال مرة: يأكل ثُلُثًا، ويهدي ثلثًا، ويطعم ثلثًا؛ لقوله -تعالى-: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) (الحج: 36)، فذكر ثلاثة" (انتهى من تفسير القرطبي).
وللحديث بقية -إن شاء الله-.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 13-09-2025, 08:00 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,870
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (220) بناء إبراهيم صلى الله عليه وسلم البيت وتأذينه في الناس بالحج (3)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ . وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ . وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ . ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (الحج: 25-29).
قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير الآيات في قوله -تعالى-: "(وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ): وقال الثوري عن السدي عن مُرَّة، عن عبد الله قال: ‌ما ‌من ‌رجل ‌يهم ‌بسيئة ‌فتكتب ‌عليه، ‌ولو ‌أن ‌رجلًا ‌بعَدَن ‌أبينَ ‌هَمّ ‌أن ‌يقتل ‌رجلا بهذا البيت، لأذاقه الله من العذاب الأليم. وكذا قال الضحاك بن مُزاحم. وقال سفيان الثوري، عن منصور، عن مجاهد "إلحاد فيه": لا والله، وبلى والله. (قلتُ: يعني اليمين اللغو إن لم تكن صادقة)، وروي عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو، مثله. وقال سعيد بن جُبَير: شتم الخادم ظلم فما فوقَه.
وقال سفيان الثوري، عن عبد الله بن عطاء، عن ميمون بن مِهْرَان، عن ابن عباس في قوله: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ) قال: تجارة الأمير فيه. (قلتُ: أي لأن الأمير سوف يُجَامَل من أجل إمارته فيظلم الناس)، وعن ابن عمر: بيع الطعام بمكة إلحاد (قلتُ: الظاهر أنها منع الطعام بمكة إلحاد؛ كما في الأثر الآتي). وقال حبيب بن أبي ثابت: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ) قال: المحتكِر بمكة. وكذا قال غير واحد.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن إسحاق الجوهري، أنبأنا أبو عاصم، عن جعفر بن يحيى، عن عمه عمارة بن ثوبان، حدثني موسى بن باذان، عن يعلى بن أمية؛ أن رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "احتكار الطعام بمكة إلحاد" (قلتُ: حديث ضعيف مرفوعًا، وروي موقوفًا من وجوه متعددة).
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بُكَيْر، حدثنا ابن لَهِيعة، حدثني عطاء بن دينار، حدثني سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس في قول الله: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ) قال: نزلت في عبد الله بن أنيس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه مع رجلين، أحدهما مهاجر والآخر من الأنصار، فافتخروا في الأنساب، فغضب عبد الله بن أنيس، فقتل الأنصاريّ، ثم ارتد عن الإسلام، وهَرَب إلى مكة، فنزلت فيه: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ) يعني: من لجأ إلى الحرم بإلحاد، يعني: بميل عن الإسلام.
وهذه الآثار، وإن دلت على أن هذه الأشياء من الإلحاد، ولكنْ هُو أعم من ذلك، بل فيها تنبيه على ما هو أغلظ منها؛ ولهذا لما همَّ أصحاب الفيل على تخريب البيت، أرسل الله عليهم طيرًا أبابيل: (تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ . فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) (الفيل: 4، 5)، أي: دمَّرهم وجعلهم عبرة ونكالًا لكلِّ مَن أراده بسوء؛ ولذلك ثَبَت في الحديث أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (يَغْزُو ‌هَذَا ‌الْبَيْتَ ‌جَيْشٌ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْبَيْدَاءِ، أَوْ بَيْدَاءَ مِنَ الْأَرْضِ، ‌خُسِفَ ‌بِأَوَّلِهِمْ ‌وَآخِرِهِمْ) الحديث.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن كُنَاسة، حدثنا إسحاق بن سعيد، عن أبيه قال: أتى عبدُ الله بن عمر عبدَ الله بن الزبير، فقال: يا ابن الزبير، إياك والإلحاد في حَرَم الله، فإني سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنه سيلحدُ فيه رجل من قريش، لو تُوزَن ذنوبه بذنوب الثقلين لرجحت"، فانظر لا تكن هو. (قلتُ: صححه الألباني على شرط الشيخين).
وقال أيضا في مسند عبد الله بن عمرو بن العاص: حدثنا هاشم، حدثنا إسحاق بن سعيد، حدثنا سعيد بن عمرو قال: أتى عبدُ الله بن عمرو ابنَ الزبير، وهو جالس في الحِجْر، فقال: يا ابن الزبير، إياك والإلحادَ في الحرم، فإني أشهد لسَمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يُحلُّها ويحلُّ به رجل من قريش، لو وُزنت ذنوبه بذنوب الثقلين لوزنتها"؛ قال: فانظر لا تكن هو. ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب من هذين الوجهين. (قلتُ: كان عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- مظلومًا عند جماهير أهل السُّنة، كان أمير المؤمنين إذ ثبتت بيعته قبل بيعة مروان؛ فضلًا عن بيعة عبد الملك بن مروان، وقتل مظلومًا -رضي الله تعالى عنه-).
قوله -تعالى-: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ . وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ).
هذا فيه تقريع وتوبيخ لمن عبد غير الله، وأشرك به من قريش، في البقعة التي أسسّتْ من أول يوم على توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، فذكر تعالى أنه بَوأ إبراهيم مكانَ البيت، أي: أرشده إليه، وسلمه له، وأذن له في بنائه.
واستدل به كثيرٌ ممَّن قال: إن إبراهيم، عليه السلام، هو أول من بنى البيت العتيق، وأنه لم يُبنَ قبله؛ كما ثبت في الصحيح عن أبي ذر قلت: يا رسول الله، أي مسجد وُضعَ أول؟ قال: "المسجد الحرام". قلت: ثم أي؟ قال: "بيت المقدس". قلت كم بينهما؟ قال: "أربعون سنة".
وقد قال الله -تعالى-: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ . فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ) الآية (آل عمران: 96، 97)، وقال -تعالى-: (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (البقرة: 125). وقد قدَّمنا ذِكْرَ ما ورد في بناء البيت من الصحاح والآثار، بما أغنى عن إعادته هاهنا" (تفسير ابن كثير).
وللحديث بقية -إن شاء الله-.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 27-09-2025, 05:32 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,870
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (222) بناء إبراهيم صلى الله عليه وسلم البيت وتأذينه في الناس بالحج (5)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ. وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ. وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ. ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (الحج: 25-29).
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله -تعالى-: (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ): "وبالجملة فهذا العشر قد قيل: إنه أفضل أيام السَّنة كما نطق به الحديث، ففضله كثير على عشر رمضان الأخير؛ لأن هذا يشرع فيه ما يشرع في ذلك، من صيام وصلاة وصدقة وغيره، ويمتاز هذا باختصاصه بأداء فرض الحج فيه. وقيل: ذلك (قلتُ: أي: العشر الأواخر من رمضان) أفضل؛ لاشتماله على ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر. وتوسط آخرون فقالوا: أيام هذا أفضل، وليالي هذا أفضل. وبهذا يجتمع شمل الأدلة. والله أعلم. (قلتُ: رجَّح ابن القيم هذا الجمع الأخير).
قول ثان في الأيام المعلومات: قال الحكم عن مقسم عن ابن عباس: الأيام المعلومات: يوم النحر وثلاثة أيام بعده. ويروى هذا عن ابن عمر، وإبراهيم النخعي، وإليه ذهب أحمد بن حنبل في رواية عنه. (قلتُ: هذا القول هو أصح الأقوال؛ لأن الله جعل هذه الأيام المعلومات في ذكر اسم الله على ما رزقنا من بهيمة الأنعام، وهي: يوم النحر وثلاثة أيام بعده، وأما مَن جعلها العشر؛ فكيف يصح ذلك في هذه الآية، مع أن الذبح لا يكون في الأيام العشر وإنما يكون في يوم النحر وثلاثة أيام بعده؟!).
قول ثالث: قال ابن أبي حاتم: بسنده عن ابن عمر كان يقول: الأيام المعلومات والمعدودات هن جميعهن أربعة أيام، فالأيام المعلومات يوم النحر ويومان بعده، والأيام المعدودات ثلاثة أيام بعد يوم النحر. هذا إسناد صحيح إليه، وقال السدي: وهو مذهب الإمام مالك بن أنس، ويعضد هذا القول والذي قبله، قوله -تعالى-: (عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ) يعني به: ذكر الله عند ذبحها. (قلتُ: هذا القول هو نفس الذي قبله؛ إلا أنه زاد عليه الجمع بين الأيام المعلومات والأيام المعدودات، وذلك أن الأيام المعدودات هي أيام رمي الجمار مع كونها أيام ذبح أيضًا؛ ولذا قال ابن عمر: الأيام المعلومات يوم النحر ويومان بعده، والصحيح: ثلاثة أيام بعده. والأيام المعدودات ثلاثة أيام بعد يوم النحر، فلم يدخل فيها يوم النحر؛ لأن المقصود بالمعدودات: أيام مِنَى، ويوم النحر رغم وجود رمي الجمار فيه؛ إلا أنه لا يُحسَب في التعجل والتأخر. والله أعلى وأعلم).
قول رابع: إنها يوم عرفة، ويوم النحر، ويوم آخر بعده. وهو مذهب أبي حنيفة. وقال ابن وهب: حدثني ابن زيد بن أسلم، عن أبيه أنه قال: المعلومات: يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق. (قلتُ: يعكِّر على هذا القول: أن يوم عرفة ليس يُذبح فيه الهدي، وإنما الذبح في يوم النحر وثلاثة أيام بعده، وكذا مذهب أبي حنيفة لم يجعل يوم الثاني عشر والثالث عشر من الأيام المعلومات، وهي أيام ذبح).
وقوله: (عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ) يعني: الإبل والبقر والغنم، كما فصَّلها -تعالى- في سورة الأنعام: (ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ . وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (الأنعام: 143-144).
وقوله -تعالى-: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) استدل بهذه الآية مَن ذهب إلى وجوب الأكل من الأضاحي، وهو قول غريب، والذي عليه الأكثرون أنه من باب الرخصة أو الاستحباب، كما ثبت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما نحر هديه؛ أَمَر من كل بدنة ببضعة فتطبخ، فأكل من لحمها، وحسا من مرقها.
وقال عبد الله بن وهب: قال لي مالك: أحب أن يأكل من أضحيته؛ لأن الله يقول: (فَكُلُوا مِنْهَا)، قال ابن وهب: وسألت الليث، فقال لي مثل ذلك.
وقال سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم: (فَكُلُوا مِنْهَا) قال: كان المشركون لا يأكلون من ذبائحهم فرخص للمسلمين، فمَن شاء أكل، ومن شاء لم يأكل. وروي عن مجاهد، وعطاء نحو ذلك.
قال هشيم، عن حصين، عن مجاهد في قوله: (فَكُلُوا مِنْهَا) هي كقوله: (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا) (المائدة: 2)، وقوله: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) (الجمعة: 10).
وهذا اختيار ابن جرير في تفسيره. (قلتُ: الراجح الاستحباب لتكلُّف النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تؤخذ قطعة من كلِّ ناقة من المائة التي ذبحها وأشرك معه فيها عليًّا، وكلاهما أكل من لحمها وشرب من مرقها؛ ليحصل الأجر من جميعها، وهذا لا شك أقل أحواله الاستحباب).
وللحديث بقية -إن شاء الله-.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 6 ( الأعضاء 0 والزوار 6)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 189.66 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 183.77 كيلو بايت... تم توفير 5.88 كيلو بايت...بمعدل (3.10%)]