خطبة أحوال النبي مع أمته في الدنيا - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 13133 - عددالزوار : 348047 )           »          الحياة الإيمانية والحياة المادية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 59 )           »          وَتِلْكَ عَادٌ... (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 181 )           »          معركة شذونة.. وادي لكة.. وادي برباط (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 117 )           »          أخــــــــــلاق إسلامية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 555 )           »          إضاءات سلفية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 9 - عددالزوار : 2514 )           »          من أساليب التربية في القرآن الكريم ، أسلوب الحكيم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 149 )           »          موقظة في تعريف عقد البيع في الفقه الإسلامي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 101 )           »          الوجيز في أحكام التداولات المالية المعاصرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 128 )           »          حكم التورق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 106 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 30-07-2023, 06:28 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,257
الدولة : Egypt
افتراضي خطبة أحوال النبي مع أمته في الدنيا

خطبة أحوال النبي مع أمته في الدنيا (1)
الشيخ إسماعيل بن عبدالرحمن الرسيني

إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأوَّلين والآخرين وقيُّوم السماوات والأرَضين، أرسل رسله حجةً على العالمين ليَحْيَ مَن حَيَّ عن بيِّنة، ويهلك من هلك عن بيِّنة، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، البشير النذير، والسراج المنير، ترك أمته على المحجَّة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلوات ربي وسلامه عليه ما تعاقب الليل والنهار، وصلوات ربي وسلامه عليه ما ذكره الذاكرون الأبرار، وصلوات ربي وسلامه عليه ما غفل عن ذكره الغافلون، وعلى آله وصحبه، ومن اقتفى أثره واستَنَّ بسُنَّتِه إلى يوم الدين، أما بعد:
عباد الله، اتقوا الله وأطيعوه، وابتدروا أمره ولا تعصوه، واعلموا أن خير دنياكم وأخراكم بتقوى الله تبارك وتعالى ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطلاق: 2، 3]، ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا [الطلاق: 5] ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال: 29] ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70، 71].


عباد الله، شخص عظيم أحبَّه القاسي والداني، رفع شأنه وذكره في الدنيا والآخرة ربُّه فاصطفاه وصلَّى عليه، وبالرسالة والنبوَّة ناداه، أوجب على عباده حُبَّه وطاعته، والاقتداء به، لا سبيل لرِضا الله جل جلاله إلا من طريقه، ولا سبيل للاهتداء لمرضاة ربِّه إلا بهديه وسنته، لقد قال الله جل وعلا في كتابه: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [الممتحنة: 6].


قال ابن كثير رحمه الله: "وهذه الآية الكريمة أصلٌ كبيرٌ في التأسِّي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله.


واليوم عباد الله نتكلَّم عن حال النبي صلى الله عليه وسلم مع أمته في الدنيا، اليوم نتكلَّم عن حال حبيبنا معنا في الدنيا، وحرصه علينا، وشفقته علينا حتى نتعرف على ذلك النبي الكريم الذي أرسله الله للثقلين، ومن شفقته على أمته وعظيم نصحه لهم أن أشفق عليه ربُّه الذي أرسله فأنزل في القرآن آيات كثيرة تُسلِّيه، قال سبحانه وبحمده: ﴿ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [فاطر: 8]، وأنزل جل جلاله: ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القصص: 56]، وقال جل جلاله: ﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [الكهف: 6] يرسله الله ثم يعذره ويسليه أي بلاغ بلغه نبينا لنا.


من حال النبي عليه الصلاة والسلام مع أمته في الدنيا حرصه عليهم ودفع المشقة عن أمته، ومن ذلك تقديمه لصلاة العشاء في أول وقتها رفقًا بأمته عن إقامتها في وقت الأفضلية؛ وهو ثلث الليل الأول، فعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شغل عنها ليلة فأخَّرها حتى رقدنا في المسجد، ثم استيقظنا ثم رقدنا ثم استيقظنا، ثم خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "ليس أحد من أهل الأرض ينتظر الصلاة غيركم"، ثم قال: "لولا أن أشقَّ على أمتي لأمرتهم أن يصلوها كذا".


وكذا في السواك عن الوضوء والصلاة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشقَّ على أُمَّتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء"، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لولا أن أشَقَّ على أُمَّتي لأمرتهم بالسِّواك عند كل صلاة".


وقد غضب عليه الصلاة والسلام من كثرة الأسئلة حتى لا يُفرَض على أُمَّته ما لا يطيقون، وراجع ربَّه سبحانه في فرض الصلاة خمسين حتى أصبحت خمس صلوات في اليوم والليلة حتى تمت الفريضة وترك الخروج للتراويح بعد أيام من صلاتها؛ خشية أن تُفرَض على أُمَّتِه.


ومن حال النبي صلى الله عليه وسلم مع أمته: كثرة استغفاره لهم، فكم استغفر لأهل البقيع، ففي حديث في صحيح مسلم أن جبريل عليه الصلاة والسلام قال للنبي عليه السلام: "إن ربَّك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم".


ومن حال النبي صلى الله عليه وسلم مع أمته: حرصه على الضعفاء المعوزين، فلما أتاه فقراء مضر وقد بلغ الجوع مبلغًا عظيمًا تمعَّر وجهه عليه الصلاة والسلام؛ لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج فأمر بلالًا فأذَّن وأقام ثم صلَّى وخطب، فأمر الناس بالتقوى، ثم قال: "تصدَّق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره" حتى قال: "ولو بشق تمرة" فتتابع الصحابة طلاب الجنة لنجدة المحتاج حتى رأيت كومين من طعام وثياب حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلَّل كأنه مذهبة.. إلى آخر الحديث.


ومن حاله مع أمته أنه تمنَّى أن يرى إخوانه، ولقد جرت عادة المحبِّين أن المحب يشتاق لرؤية من طال فراقه، أما أن يحدوه الشوق والحب إلى رؤية من لم يره، فهذا حب اقتصر على رسولنا صلى الله عليه وسلم لأمته واقتصر على أمته لحبيبه صلى الله عليه وسلم.


فأنس بن مالك رضي الله عنه يروي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وددت أن لقيت إخواني" قال: فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "أو ليس نحن إخوانك" قال: "أنتم أصحابي ولكن إخواني الذين آمنوا بي ولم يروني".


اللهم اجعلنا إخوان رسولك، وثبتنا على هديه وسنته حتى نلقاه، ألم تسمع بقول ربِّك جل وعلا عن رسولك صلى الله عليه وسلم: ﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ [الأحزاب: 6].


ومن حال النبي صلى الله عليه وسلم مع أمته في الدنيا دعوته لأمته في كل صلاة، فعن أمك عائشة رضي الله عنها وعمَّن ترضى عنها قالت: لما رأيت من النبي صلى الله عليه وسلم طيب نفس، قلت: يا رسول الله، ادعُ الله لي، فقال: "اللهُمَّ اغفر لعائشة ما تقدَّم من ذنبها وما تأخَّر وما أسرَّت وما أعلنت" فضحكت عائشة حتى سقط رأسها من الضحك في حجرها، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيسرُّك دعائي؟" فقالت: "وما لي لا يسرني دعاؤك"، فقال صلى الله عليه وسلم: "والله إنها دعوتي لأمتي في كل صلاة"؛ رواه ابن حبان وحسَّنه الألباني.


ومن حال النبي صلى الله عليه وسلم مع أمته في الدنيا أنه كان دائم الشفقة عليهم، فعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم: ﴿ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [إبراهيم: 36]، وقال عيسى عليه السلام: ﴿ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة: 118]، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه وقال: "اللهم أُمَّتي أُمَّتي وبكى" فقال الله عز وجل: "يا جبريل، اذهب إلى محمد وربك أعلم فاسأله ما يبكيك، فأتاه جبريل عليه السلام فسأله، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال، فقال الله: يا جبريل، اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسؤوك"؛ رواه مسلم.


ومن حال حبيبنا صلى الله عليه وسلم معنا في الدنيا كمال شفقته على أمته أن يصيبها العذاب طمعًا في إسلام من تأخَّر إسلامه، فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَا رَسولَ اللهِ، هلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كانَ أَشَدَّ مِن يَومِ أُحُدٍ؟ فَقالَ: لقَدْ لَقِيتُ مِن قَوْمِكِ وَكانَ أَشَدَّ ما لَقِيتُ منهمْ يَومَ العَقَبَةِ، إذْ عَرَضْتُ نَفْسِي علَى ابْنِ عبدِ يَالِيلَ بنِ عبدِ كُلَالٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إلى ما أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ علَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إلَّا بقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بسَحَابَةٍ قدْ أَظَلَّتْنِي فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي، فَقالَ: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَما ردُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إلَيْكَ مَلَكَ الجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بما شِئْتَ فيهم، قالَ: فَنَادَانِي مَلَكُ الجِبَالِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قالَ: يا مُحَمَّدُ، إنَّ اللَّهَ قدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَأَنَا مَلَكُ الجِبَالِ وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بأَمْرِكَ، فَما شِئْتَ، إنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عليهمُ الأخْشَبَيْنِ -هما جبلان حول مكة لو أطبقتا لم يبق في مكة حي- وأولئك القوم هم أعداء النبي صلى الله عليه وسلم الذين أخرجوه وضايقوه ووصفوه بما ليس فيه من السحر والكهانة والشعر؛ ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يملك قلبًا رحيمًا محبًّا للخير ألم يقل ربُّه عنه: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 107]، فيا ليتنا نكون رحمة على أهلينا وإخواننا.


فبمَ ردَّ عليه الصلاة والسلام؟ إنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عليهمُ الأخْشَبَيْنِ، فَقالَ له رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: "بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِن أَصْلَابِهِمْ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لا يُشْرِكُ به شيئًا"، فكان من بركة ذلك الدعاء أن خرج من أبي جهل عكرمة رضي الله عنه.


ومن حال النبي صلى الله عليه وسلم مع أمته أنه ضحَّى عمن لم يضحِّ من أمته، فلقد ضحَّى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين، والثابت من سنة النبي صلى الله عليه وسلم أنه ضحَّى لمن شهد له بالتوحيد، وشهد له بالبلاغ، وعن نفسه وعن أهل بيته.


ومن حرص النبي على أمته أنه كان دائم النصح لهم حتى في أواخر لحظات حياته، ففي مرضه الذي مات فيه وكان المسجد بجوار بيته عليه الصلاة والسلام ولكن لم يستطع الخروج إذ أطل على صحابته وهم صفوف يصلون فتبسَّم لهم ابتسامة الرضا عنهم حيث إنهم أقاموا الصلاة كما كان يقيمها عليه الصلاة والسلام، ولما اشتدَّ به المرض كان من أواخر ما قال نصحًا لهذه الأمة "الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم".


تقول أم سلمة في وصف عجيب لقول النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحال: "يلجلج بها صدره وما يفيض بها لسانه"؛ أي: نصح نصحه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته.


وهذا غيض من فيض ونكمل شيئًا من أحوال النبي صلى الله عليه وسلم مع أمته في الدنيا في الخطبة القادمة إن شاء الله.


هذا الرسول الكريم الذي أوجب الله حبَّه حبًّا أعظم من النفس والوالد والولد والناس أجمعين "لا يؤمن أحدُكم حتى يكونَ اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه من سواهما" هو أمر الله لعباده في القرآن ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران: 31].


فالمحبة الصادقة يا أحباب رسول الله صلى الله عليه وسلم برهانها الاتباع، فيا مُحِبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد صلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد جميع صلواته ولم يتخلَّف فصَلِّ كما صلَّى.


يا مُحِبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، اقتفِ هديه، وعظِّم ما عظَّم حبيبك صلى الله عليه وسلم: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128].


اللهم ارزقنا حُبَّه وشفاعته يا رب العالمين، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبدالله ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلَّ الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره إلى يوم الدين، أما بعد:
عباد الله، يا أحباب رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد أحبكم رسولكم حبًّا عظيمًا فأحِبُّوه كما أحبَّكم، وانشروا سيرته بين أولادكم، وفي مجالسكم، وفي دواوينكم، وعظِّمُوا سُنَّته وعظِّمُوا ما عظَّم، عظموا الله جل وعلا كما أمركم الله ورسوله، عظموا أمر صلاتكم، فأدُّوها حيث ينادى لها، اذكروا الله كثيرًا، وصلُّوا على رسولكم كثيرًا، فاليوم يوم جمعة، ومن أعظم ما يتقرَّب به إلى الله جل وعلا في مثل هذا اليوم كثرة صلاتكم وسلامكم على حبيبكم صلى الله عليه وسلم، فمَنْ أحَبَّ شيئًا أحبَّ ذكره، وبحبك لله ورسوله تبلغ جنَّة رب العالمين التي هي أعظم المُنى للمسلمين.


اللهُمَّ اجعلنا مُعظِّمين لأمرك مؤتمرين به، واجعلنا معظمين لما نهيت عنه منتهين عنه، اللهم أعِنَّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم أعِنَّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم أعِنَّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.


وصلى الله وسلم على نبينا محمد.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 07-08-2023, 10:09 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,257
الدولة : Egypt
افتراضي رد: خطبة أحوال النبي مع أمته في الدنيا

خطبة أحوال النبي مع أمته في الدنيا (2)
الشيخ إسماعيل بن عبدالرحمن الرسيني


إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأوَّلين والآخرين، وقيوم السماوات والأرَضين، أرسل رسله حجةً على العالمين ليحي مَنْ حَيَّ عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله البشير النذير، والسراج المنير، ترك أمته على المحجَّة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلوات ربي وسلامه عليه ما تعاقب الليل والنهار، وصلوات ربي وسلامه عليه ما ذكره الذاكرون الأبرار، وصلوات ربي وسلامه عليه ما غفل عن ذكره الغافلون، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره واستنَّ بسنته إلى يوم الدين، أما بعد:
عباد الله؛ اتقوا الله وأطيعوه وابتدروا أمره ولا تعصوه، واعلموا أن خير دنياكم وأُخْراكم بتقوى الله تبارك وتعالى ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطلاق: 2، 3] ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا [الطلاق: 5] ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال: 29] ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70، 71].


عباد الله؛ نادى الله رسوله وأمره، وأمر الله لرسوله أمر لأمته، فقال جل جلاله: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا * وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا * وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا [الأحزاب: 45 - 48].


أمره ربُّه جل جلاله فامتثل فبشَّر وأنذر، ودعا وهدى، وتوكَّل على ربه فكفاه ربُّه، فكان البركة والرحمة المهداة، حجة الله على عباده، نصح لأمته وجاهد في الله حق جهاده، فأحواله مع أمته في دنياه وآخرته مشهودة، وأخباره في الصحاح والسنن والمسانيد منثورة، واستمع لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن نبينا عليه الصلاة والسلام يقول: "إنما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد نارًا فجعلت الدواب والفراش يقعن فيها، فأنا آخذ بحجزكم وأنتم تقحمون فيها"؛ البخاري ومسلم، واللفظ لمسلم.


يا الله! صدق رسول الله، تصوير لحال النبي صلى الله عليه وسلم مع أمته وحرصه على هدايتهم، وبيان الخير ليسلكوه، وبيان الشر ليبتعدوا عنه؛ ولكن أهل الغفلة والعصيان يتنكبون طريقه.


يقول الإمام ابن حجر رحمه الله: "وفي الحديث ما كان فيه صلى الله عليه وسلم من الرأفة والرحمة والحرص على نجاة الأمة".


ونكمل ما قد بدأنا في الأسبوع الماضي.


ومن أحوال النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا: أنْ قدَّم أمته على نفسِه وعلى زوجِه وعلى ولده، فحين جعل له الله دعوةً مجابةً لم يصرفها لنفسه ولا لزوجه ولا لولده بل ولا لأمته في الدنيا بل ادَّخرها لهم يوم الحاجة إليها يوم القيامة؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لكلِّ نبي دعوةٌ مستجابة فتعجَّل كلُّ نبي دعوته"، كل الأنبياء تعجلوا دعوتهم إلا هو عليه الصلاة والسلام: "لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئًا".


اللهم أحينا على الإسلام، وأمِتْنا على التوحيد، وجنِّبنا الشرك وطرقه يا رب العالمين.


ومن أحوال حبيبنا وقدوتنا وقرة عيوننا صلى الله عليه وسلم مع أمته أنه لم يكن يحرص على أمور آخرتهم فحسب؛ بل حتى على أمور دنياهم؛ فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مَرَّ بغلام يسلخ شاة، فقال له: "تنحَّ حتى أريك فإني لا أراك تحسن تسلخ"، قال: فأدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يده بين الجلد واللحم فدحس بها حتى توارت إلى الإبط، وقال: "يا غلام هكذا فاسلخ" ثم مضى وصلى للناس ولم يتوضأ.


فيا كل مربٍّ، لا تغفل عما يصلح دنيا الناس، فالناس حريصون على دنياهم، ثم انطلق إلى أمور آخرتهم، والدنيا ليست ضرةً للآخرة؛ بل الدنيا مزرعة الآخرة، وما نزرعه اليوم نجنيه غدًا.


ومن أحوال قدوتنا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم معنا أنه كان يأمر أمته بالمعروف وينهاهم عن المنكر فيا أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحبابه، قوموا كما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قوموا فيه بأنفسكم ومع أهليكم وإخوانكم وفي دواوينكم، فمرة يعظ الناس عليه الصلاة والسلام إذا رأى خطأ، ويقول: "ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا".


وربما وجه الرجل وحده، فقدم بين يديه خطابًا رفيقًا كي يقبل الموجه توجيه حبيبك صلى الله عليه وسلم، فمرة قال لابن عمر: "نعم الرجل عبدالله" وما أعظمَها من كلمة حين تخرج من في النبي صلى الله عليه وسلم أن يصفه بأنه نعم الرجل! فقال: "نعم الرجل عبدالله لو كان يقوم من الليل"، فكان الحال من ابن عمر أنه لم يترك قيام الليل بعد هذه الكلمة.


فأين الرِّفْق في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع أولادنا وإخواننا ومن تحت أيدينا.


أيها الأحِبَّة، وربما أمر بالمعروف وحثَّ على الذكر، فقدَّم ما يوجب قبول الكلام، فمرة -ويا ليتك تكون محل معاذ بن جبل وتتنفَّس هذه الكلمة التي قالها النبي صلى الله عليه وسلم- أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيد معاذ رضي الله عنه، فقال له: "يا معاذ، والله إني لأحبك"، فقال: "أوصيك يا معاذ، لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعِنِّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك"، ما أثر هذه الكلمة والتصريح بالحب حين تقوله لولدك ومن تحت يدك.


فيا كل أب ومربٍّ، اقترب ممن تريد توجيهه وأشعره بحبك له، وابذل نصحك له، وتذكَّر قول سفيان الثوري رحمه الله: "ينبغي للآمر والناهي أن يكون رفيقًا فيما يأمر به، رفيقًا فيما ينهى عنه، عدلًا فيما يأمر به، عدلًا فيما ينهى عنه، عالمًا لما يأمر به، عالمًا بما ينهى عنه".


وربما غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتمعَّر وجهه حين تنتهك حُرُمات ربِّ العالمين.


ومن أحوال حبيبنا معنا أنه كان نذيرًا لأمته ليس نذيرًا لأهل زمانه فحسب؛ بل كان النبي صلى الله عليه وسلم ينذر الناس في الفتن التي ستأتيهم بعد حياته، وكيف السبيل للتخلُّص منها، فيا له من نذير كما أمره الله جل وعلا.


فكان نذيرًا لأمته عما سيهلكها ومنبِّهًا لها من الفتن في حياته وبعد وفاته، فمن فجر الإسلام وبعد أن أمره الله جل جلاله ببلاغ الدين وأنزل عليه قوله: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214] صعد على الصفا -بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام- فجعل ينادي: "يَا بَنِي فِهْرٍ، يَا بَنِي عَدِيٍّ، لِبُطُونِ قُرَيْشٍ" حتى اجتمعوا ثم قال: "أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيلًا بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟" قَالُوا: نَعَمْ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقًا، قَالَ: "فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ».


تلك البداية واستمر النصح إلى نهاية حياته، فأدى ما أوجب الله عليه من البلاغ وحذر، ومن تحذيره أنه أخبر عن القلب قلبي وقلبك، وأوصى الناس وحقيق بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقدر لها قدرها، وأوصى بتعاهد قلوبهم وعدم الغفلة عنها والحذر من السيئة مهما صغرت فإنها تؤثر في القلب، فاسمع بنصح حبيبك.


عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا، فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَت السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ".


فالحديث يدل على وجوب مراقبة القلب وتصفيته من فتن الشبهات والشهوات ومجاهدة النفس تطلبًا لرضا الله تبارك وتعالى؛ بل بلغ من حال حب الحبيب صلى الله عليه وسلم لأمته والنصح لهم أنه يخبر أمته بخواص نفسه ومشكلاتها، وكيف يعالجها، فيا له من رسول رحيم، وأي الناس يذكر معايبه لتنهض أمته، فعن الأغر المزني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله مائة مرة" فذكر الداء والدواء، فيا كل مريض قلب، دونك الدواء.


استغفر الله كما استغفر رسولك صلى الله عليه وسلم، فمن لزم الاستغفار جعل الله له من كل هَمٍّ فرجًا، ومن كل غَمٍّ مخرجًا، ومن كل بلاء عافية.


وبلغ من حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته بعد وفاته أن نبَّهم بما يجب عليهم وقت الفتن، وذكر العديد من الفتن التي رأتها أعيننا وتعايشنا معها، فعن عوف بن مالك الأشجعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن بين يدي الساعة سنين خدَّاعة يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة"، قيل: وما الرويبضة؟ قيل: "المرء التافه يتكلَّم في أمر العامة" وما تركنا -بأبي هو وأمي عليه الصلاة السلام- إلا وأخبرنا بما ينجي قلوبنا، فقال عليه الصلاة والسلام يبين طريقة النجاة في حديث آخر: "وإنه من يعش منكم فيسيرى اختلافًا كثيرًا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسَّكُوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة".


ومن حرصه على أمته أن حذَّرهم فتنة من يُسمون اليوم بالقرآنيين وهم أولئك القوم الذين لا يأخذون إلا بكتاب الله، ويطرحون سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كذبوا وكذبوا القرآن، فاسمع تحذير النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الفئة، وكأنه عاش بيننا، فعن المقدام قال: "حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر أشياء، ثم قال: يوشكُ أحدُكم أن يُكذِّبَني وهو متكئٌ يحدثُ بحديثي فيقولُ: بيننا وبينَكم كتابُ اللهِ، فما وجدنا فيه من حلالٍ استحللناه، وما وجدنا فيه من حرامٍ حرَّمناه، ألا إنَّ ما حرمَ رسولُ اللهِ مثلُ ما حرم اللهُ".


ونسمع اليوم من يطعن في سنة نبينا عليه الصلاة والسلام وما يزيدنا هذا إلا تصديقًا لنبينا صلى الله عليه وسلم.


يا سبحان الله! وكأن رسولنا عليه السلام يعيش زماننا ويحضر مجالسنا، فجازاه الله خير ما جزى نبيًّا عن أمته.


حذر النبي عليه الصلاة والسلام أمته من الغلو والتطرف، فقد جاء ثلاثة نفر للنبي عليه الصلاة والسلام يسألون عن عبادة النبي عليه السلام فكأنهم تقالُّوها، فقال أحدهم: أما أنا فأصوم ولا أفطر، وأقوم ولا أنام، ولا أتزوَّج النساء، فلما علم النبي عليه الصلاة والسلام بقولهم قال: "أما أنا فأصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوَّج النساء، فمَن رغب عن سنتي فليس مني".


ولقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من فتن عظيمة كفتن الدجَّال، ودلَّهم على ما يعصم منها؛ كحفظ عشر آيات من سورة الكهف، قيل: من أولها، وقيل: من آخرها.


وحذر فتنة النساء، وحذر فتنة المال، وأرشدنا -وحقيق بوصية رسولنا أن يُعمل بها وقت الهرج؛ وهو القتل- أن نكثر من العبادة؛ لأن العبادة تثبت الإنسان، قال عليه الصلاة والسلام: "العبادة في الهرج كهجرة إليَّ".


أيها الأخوة، ونحن نعيش في زمن الفتن، نسأل الله الثبات على الدين حتى نلقاه.


يقول حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: "فمَنْ أحَبَّ منكم أنْ يعلمَ أصابتْهُ فتنةٌ أم لا؛ فليَنظُر؛ فإن كان يَرى حرامًا ما كان يراهُ حلالًا أو يرى حلالًا ما كان يراهُ حرامًا فقد أصابَتْهُ الفتنةُ".


تلك وصية صاحب سِرِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي سأل في يوم النبي صلى الله عليه وسلم وكان يقول "كان الناس يسألون النبي عليه الصلاة والسلام عن الخير وأسأله عن الشر".


ثم انظر يا أخي إلى عملك وعبادتك إن كنت بعد تغير رأيك إلى الله أقرب ومن أوامر الشياطين أبعد، فاحفظ وسل الله الثبات، وإن كنت إلى الشيطان وما يريد أقرب فاعلم أنك قد فتنت.


ومن حرص النبي عليه الصلاة والسلام على أمته أنه لا يدَّخر مناسبة إلا وعظ فيها أصحابه، ووعظه لأصحابه وعظٌ لأمته، فعن البراء بن عازب: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة، فجلس على شفير القبر، فبكى حتى بلَّ الثرى، ثم قال: "يا إخواني، لمثل هذا فأعِدُّوا، يا إخواني، لمثل هذا فأعِدُّوا، يا إخواني لمثل هذا فأعِدُّوا".


ألا يكفيك أن ربك تبارك وتعالى حين أرسل رسوله عليه الصلاة والسلام عذره وقال: لا تذهب نفسُك عليهم حسرات، واسمع لثناء الله على نبيِّك في إبلاغه ﴿ مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا * الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا * مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [الأحزاب: 38 - 40].


لقد حرص النبي عليه الصلاة والسلام علينا حتى وكأنه أب لنا بل أعظم، فصلَّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، اللهم اغفر لنا أجمعين يا أرحم الراحمين.

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره إلى يوم الدين، أما بعد:
عباد الله، لقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على اجتماع كلمتنا فقال: "عليكم بجماعة المسلمين؛ فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار".


وفي الأسبوع القادم بإذن الله نتكلم عن بشارات رسولنا عليه الصلاة والسلام لصحابته ولأزواجه ولأمته، لقد بعثه الله بشيرًا.


اللهم بشرنا بروح وريحان ورب راضٍ غير غضبان، اللهم اجعلنا معظمين لأمرك مؤتمرين به، واجعلنا معظمين لما نهيت عنه منتهين عنه، اللهم أعِنَّا على ذكرك وشكرك وحُسْن عبادتك، اللهم أعِنَّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم أعِنَّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.


اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأن تذل الشرك والمشركين، وأن تُدمِّر أعداء الدين، وأن تنصر من نصر الدين، وأن تخذل من خذله، وأن توالي مَنْ والاه بقوَّتك يا جبَّار السماوات والأرض.


اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفق ولاة أمرنا لما تحب وترضى، وخذ بنواصيهم للبِرِّ والتقوى.


﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات: 180 - 182]، وصَلِّ الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 07-08-2023, 10:27 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,257
الدولة : Egypt
افتراضي رد: خطبة أحوال النبي مع أمته في الدنيا

خطبة أحوال النبي مع أمته في الدنيا (3)
الشيخ إسماعيل بن عبدالرحمن الرسيني



إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وقيوم السماوات والأرَضين، أرسل رُسَلَه حجةً على العالمين ليحي مَن حيَّ عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، البشير النذير، والسراج المنير، ترك أُمَّته على المحجَّة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلوات ربِّي وسلامه عليه ما تعاقب الليل والنهار، وصلوات ربي وسلامه عليه ما ذكره الذاكرون الأبرار، وصلوات ربي وسلامه عليه ما غفل عن ذكره الغافلون، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره واستنَّ بسنته إلى يوم الدين، أما بعد:
عباد الله، اتقوا الله وأطيعوه، وابتدروا أمره ولا تعصوه، واعلموا أن خير دنياكم وآخراكم بتقوى الله تبارك وتعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطلاق: 2، 3]، ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا [الطلاق: 5] ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال: 29] ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70، 71].


عباد الله، يا أمة محمد بن عبدالله، يا من أكرمكم الله بالانضمام تحت لواء حبيبكم صلى الله عليه وسلم، هو البشارة من رب العالمين للمؤمنين ﴿ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا [الأحزاب: 47].


هو البشير النذير، والسراج المنير، رؤيته بشرى، وينطق بالبشرى، وسماع خبره نعم البشرى، القلوب تهتزُّ فرحًا بسماع خبره، وتقف معظِّمةً لأمره ونهيه، هو دعوة أبينا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فعن العرباض بن سارية رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إني عند الله مكتوب: خاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأخبركم بأول أمري: دعوة إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني، وقد خرج لها نورٌ أضاءت له منه قصور الشام"، قال الله تبارك وتعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف: 6].


لقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم حب البشارة، وهي من أحواله مع أمته في الدنيا أنه كان مبشرًا محبًّا للبشارة وإدخال السرور على الأمة، فيحب -بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام- الكلمة الطيبة، ويعجبه الفأل الحسن، إذا بعث عاملًا سأل عن اسمه، فإذا أعجبه اسمه فرح به، ورُؤي البشر في وجهه، ويكره الأسماء الدالة على المعاني الرديئة المتشائمة، فيُغيِّر أسماءها إلى معانٍ محمودة، فقد غيَّر عليه الصلاة والسلام حزنًا إلى سهل، وبني مغوية إلى بني رشيدة، ويثرب إلى طيبة، وعاصية إلى جميلة، وشعب الضلالة إلى شعب الهدى.


نبيكم صلى الله عليه وسلم كان مبشرًا، موصيًا بالبشارة، فإذا بعث دعاته أوصاهم بالبشارة والتبشير، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه ومعاذ بن جبل إلى اليمن، فقال لهما: "بشِّرا ويسِّرا وعلِّما ولا تنفِّرا وتطاوعا".


ومن هدي النبي عليه الصلاة والسلام البشارة الخاصة لأصحابها، فبشروا أولادكم ومن تحبون، فلقد بشَّر أمنا خديجة -رضي الله عنها وعمَّن ترضى عنها- بسلام الله عليها، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعنده خديجة، وقال: "إن الله يُقرئ خديجة السلام"، فقالت: إن الله هو السلام، وعلى جبريل السلام، وعليك السلام ورحمة الله.


وكذا بشَّر أمنا عائشة -رضي الله عنها وعمَّن ترضى عنها- فيما روت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: "يا عائش، هذا جبريل يقرئك السلام"، قلت: وعليه السلام ورحمة الله، قالت: وهو يرى ما لا نرى؛ أخرجه البخاري.


وهذه بشارته لأصحابه بالجنة، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه توضَّأ في بيته، ثم خرج، فقال: لألزمَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأكونَنَّ معه يومي هذا، قال: فجاء المسجد، فسأل عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: خرج ووجه ها هنا، فخرجت على إثره أسأل عنه حتى دخل بئر أريس، فجلست عند الباب، وبابها من جريد، حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجته فتوضَّأ، فقمت إليه، فإذا هو جالس على بئر أريس وتوسَّط قُفَّها وكشف عن ساقيه ودلَّاهما في البئر، فسلمت عليه ثم انصرفت، فجلست عند الباب فقلت: لأكونن بوَّاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم، فجاء أبو بكر فدفع الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: أبو بكر، فقلت: على رِسْلك، ثم ذهبت فقلت: يا رسول الله، هذا أبو بكر يستأذن، فقال: "ائذن له وبشِّره بالجنة"، فأقبلت حتى قلت لأبي بكر: ادخل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يُبشِّرك بالجنة، فدخل أبو بكر، فجلس عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم معه في القُفِّ، ودلَّى رجليه في البئر كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم وكشف عن ساقيه، ثم رجعت فجلست وقد تركت أخي يتوضأ ويلحقني، فقلت: إن يرد الله بفلان خيرًا -يريد أخاه- يأتِ به، فإذا إنسان يحرك الباب، فقلت: مَن هذا؟ فقال: عمر بن الخطاب، فقلت: على رِسْلك، ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمتُ عليه فقلت: هذا عمر بن الخطاب يستأذن، فقال: "ائذن له وبشِّره بالجنة"، فجئت فقلت: ادخل ويبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، فدخل فجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في القُفِّ عن يساره ودلَّى رجليه في البئر، ثم رجعت فجلست فقلت: إن يرد الله بفلان خيرًا يأتِ به، فجاء إنسان يحرك الباب فقلت: من هذا؟ فقال: عثمان بن عفان، فقلت: على رِسْلك، فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: "ائذن له وبشِّره بالجنة على بلوى تصيبه".


وسؤاله لبلال المتضمن البشارة بالجنة حين قال له عندما صلى الفجر: "يَا بِلالُ، حَدِّثْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِي الإِسْلامِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ بَيْنَ يَدَي فِي الجَنَّةِ" قَالَ: "مَا عَمِلْتُ عَمَلًا أَرْجَى عِنْدِي: أَنِّي لَمْ أَتَطَهَّرْ طُهُورًا، فِي سَاعَةِ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، إِلَّا صَلَّيْتُ بِذَلِكَ الطُّهُورِ مَا كُتِبَ لِي أَنْ أُصَلِّيَ".


وكذا بشارته لعائشة حين نزلت آيات البراءة، وبشارته لكعب بن مالك وصاحبيه حين نزل قول الله: ﴿ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [التوبة: 118].


عباد الله، رسولنا عليه الصلاة والسلام وقدوتنا كان مبشرًا، وكان يبثُّ البشارة بين الناس في أصعب الظروف والمواقف ويثبتهم، فحين كان مطاردًا مع صاحبه يوم الهجرة ولحق بهم سراقة بن مالك في القصة المعروفة، قال لسراقة: "كيف بك يا سراقة وأنت تلبس سواري كسرى" يا الله رسول الله مطارد ومن يأتي به حيًّا أو ميتًا له مائة من الإبل، والرسول يُبشِّر سراقة بلبس سواري كسرى! فما أثر هذه البشارة على صاحبه وهو يرى أنه مطارد؟!


ولما كان مع صاحبه في الغار اسمع ماذا قال الله بقلبك عن هذه الحادثة والثقة بالله؟ ﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة: 40].


ويوم الخندق والحال كما وصف الله جل جلاله: ﴿ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا [الأحزاب: 10، 11].


واستعصت على أصحابه صخرة لم يستطيعوا حفر الخندق معها، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فضرب بالمعول ثلاث ضربات، فقال في الأولى: "أضاءت قصور اليمن ولتفتحن بإذن الله"، ثم ذكر كسرى وقيصر.


والمنافقون الذين يظنون بالله ظن السوء يقولون: محمد يعد بهذه الفتوحات، والواحد مِنَّا لا يأمن أن يذهب إلى الخلاء، ولكن أهل الإيمان المصدقين كما حكى الله خبرهم ﴿ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب: 22].


فكان يُبشِّر ويثبت الناس في أصعب الظروف، وهذا ما يجب أن نكون عليه حسن الظن بالله تبارك وتعالى موقنين بنصره.


كان رسولكم صلى الله عليه وسلم مُبشِّرًا ويُبشِّر بانتشار الإسلام بعد وفاته وظهوره، فلقد بشَّرَكم في حديث تميم الداري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ليَبْلُغن هذا الأمر ما بلغ اللَّيل والنَّهار، ولا يترك الله بيت مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلَّا أدخله اللهُ هذا الدِّين، بِعِزِّ عَزِيزٍ أو بِذُلِّ ذَليلٍ، عِزًّا يُعِزُّ الله به الإسلام وأهله، وذُلًّا يُذِلُّ الله به الكفر".


بشَّر النبي عليه الصلاة والسلام بقوله، يا من يخاف اندثار الإسلام كلَّا، فلقد بشَّرنا حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يُجدِّد لها دينها"، نبي كريم، حريص على أمته حتى بعد وفاته؛ بل حتى بعد قرون من وفاته، ويطمئن الأمة ويقول: يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يُجدِّد لها دينها.


فالمهم أن تستمسك يا أخي بدينك، وتقيمه في نفسك ومن حولك، فالإسلام عزيز قائم، ولكن هل نتشرَّف بخدمته فنكون من جنده؟ أجب عن هذا السؤال وتأمَّل واعرض أوامر الله على قلبك ونفسك تعرف الإجابة.


كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مُبشِّرًا، ومن ذلك أن بشَّر أمته وشوَّقهم لمعرفة مصيرهم، فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في قبة فقال: "أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟" فكبَّر الصحابة، قال: "أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟" قلنا: نعم، فكبَّر الصحابة في رواية، قال: "أترضون أن تكونوا شطر أهل الجنة؟"، قلنا: نعم، قال ابن حجر: ذكره بلفظ الاستفهام لإرادة تقريب البشارة بذلك وذكره بالتدريج ليكون أعظم السرور لهم.


ما أعظمه من مبشر! فهل نحن مبشرون كما يبشر عليه الصلاة والسلام أم نظن بالله الظنون، تلك حال حبيبكم صلى الله عليه وسلم، والظن السيئ ظنُّ المنافقين، فاختاروا لأنفسكم.


عباد الله، كان رسولنا مبشرًا محذرًا الناس من المنكرات وتناقلها، فلا بد أن يكون المنكر في مجتمعات أهل الإسلام منكرًا تنكره النفوس والطباع، فلقد قال عليه الصلاة والسلام: "إِذَا قَالَ الرَّجُلُ: هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ"، وفي رواية: "فَهُوَ أَهْلَكَهُمْ".


وكان عليه الصلاة والسلام يحب أن يلقى صحابته بالبشر، فلم يكن يسمح لأحد أن يتكلم عن أحد من صحابته ويقول: "أريد أن أخرج لأصحابي سليم الصدر"، فهي رسالة لمن يتتبع أخبار الناس وكلامهم عنه، ناقل الكلام على وجه الإفساد نمَّام، فهل تستجيب لنمَّام؟ وهل تقبل كلام النمَّام وهو فاسق بفعله؟!


رسولكم صلى الله عليه وسلم كان مبشرًا، فإذا زار المريض بشَّره ودعا له، وأدخل السرور عليه، ويقول له: "طهور إن شاء الله"؛ بل لم تقتصر بشارة النبي عليه الصلاة والسلام على أهل الطاعات فحسب؛ بل كان النبي صلى الله عليه وسلم مبشِّرًا لأهل المعاصي، فاتحًا باب الأمل لهم حتى لا يتمكَّن الشيطان منهم في لحظة ضعفه، فعن عمر رضي الله عنه أن رجلًا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبدالله وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأوتي به يومًا، فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه ما أكثر ما يؤتى به! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تلعنوه، فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله"، ما أجمل ذكر الفضائل وقت المعايب! ودفع المخطأ لتصحيح الوضع لا التعييب والتعيير الذي لا يفيد إلا الانتكاس، فما الفائدة إذا لُعن أهل المعاصي وعُيِّروا بمعاصيهم؛ بل افتح باب الأمل كما فتحه النبي عليه الصلاة والسلام، وذكر بحبه لله ورسوله وكفى بها فضيلة.


والخطأ يُعالج ويستغفر منه، والله غفور رحيم، أليس الله الذي نادى عباده ليغفر لهم؟ كان نبيكم صلى الله عليه وسلم مبشرًا قاطعًا لحبائل التشاؤم، فلقد نهى وقال: "لا عدوى ولا طيرة"، ولو كان أهل الإسلام يتشاءمون بشيء من المواقع، لكان التشاؤم في جبل أُحُد، ولو كان الناس يحق لهم أن يتشاءموا بشيء لتشاءم المسلمون من جبل أُحُد، فهي المعركة والغزوة الوحيدة التي هُزم فيها المصطفى عليه الصلاة والسلام، استشهد فيها سبعون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستشهد فيها حمزة، ومُثِّل به، وحزن عليه النبي صلى الله عليه وسلم حزنًا كبيرًا؛ بل أُشِيع مقتل النبي عليه الصلاة والسلام بعد أن شُجَّ رأسه عليه الصلاة والسلام وكُسرت رباعيته، وسال الدم على وجهه الشريف، فلو كان أحد يتشاءم من مكان لكان أُحُدًا، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام المتفائل الذي يريد قطع كل التشاؤم في الأمة أخبر بكل صراحة: "أُحُدٌ جبل يحبُّنا ونُحِبُّه".


فتعليق الأخطاء على الأماكن ليس من الهدي النبوي ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم وقبل ذلك القرآن مجاملًا لصحابة رسول الله، فلما أخطأوا ﴿ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران: 165].


"أُحُدٌ جبل يُحِبُّنا ونُحِبُّه" ويقول مخاطبًا أُحُدًا: "اثبت أُحُد؛ فإنما عليك نبي وصِدِّيق وشهيدان" يثبت ثواب أجور بعض الأعمال لأُحُد كي تتعلَّق القلوب به حبًا "فمن صلى على جنازة فله قيراط، ومن حضرها حتى تدفن فله قيراطان، والقيراط مثل جبل أُحُد"، قال الله تبارك وتعالى: ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ [البقرة: 119].


اللهُمَّ اغفر لنا أجمعين يا أرحم الراحمين.

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبدالله ورسوله، الداعي إلى رضوانه، صلَّ الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره إلى يوم الدين، أما بعد:
كان رسول الله يُبشِّرنا وحين عجز الكلام عن النطق بالبشارة كانت البشارة في آخر حياته أن أطَلَّ على أصحابه وهم وقوف يصلون فتبسَّم لهم ابتسامةَ الرِّضا عنهم رِضًا بما يصنعون، فهل نحن مبشرون كما كان عليه الصلاة والسلام مبشِّرًا؟ هل نحن نظن بالله ظنًّا حسنًا؟ هل صدقنا مع الله حتى يصدق الله معنا؟ ﴿ إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ [محمد: 7]، فليقم كل واحد بواجبه هذا كما كان يفعل حبيبكم عليه الصلاة والسلام في أحواله معكم في حياته إلى وفاته، وهذا غيض من فيض وقطرة في بحر لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم مفارقًا لأمته في الدنيا إلا وقد بين لهم كل ما يحتاجون إليه، وما ترك النبي أمته في الآخرة، وهذا ما سنتكلم عنه في الأسبوع القادم بإذن الله.


اللهم اجعلنا مُعظِّمين لأمرك، مؤتمرين به، واجعلنا مُعظِّمين لما نهيت عنه، منتهين عنه، اللهم أعِنَّا على ذكرك وشكرك وحُسْن عبادتك، اللهم أعِنَّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم أعِنَّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات: 180 - 182] وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع



مجموعة الشفاء على واتساب


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 106.37 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 103.77 كيلو بايت... تم توفير 2.59 كيلو بايت...بمعدل (2.44%)]